حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

مفهوم الولاء والبراء في القرآن والسنة /الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

 

مفهوم الولاء  والبراء في القرآن والسنة /الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود

 

الطبعة الأولى/1433هـ 2012 م حقوق الطبع لكل مسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيد المرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإنَّ الإيمان عصمة ومنعة وقوة،والمؤمنون أجدر الناس بأن يتحصنوا بحصن الاعتزاز بإيمانهم،والاعتماد على ربهم،والبعد عن ذوبان الشخصية،والاختلاط بالمنافقين والانهزاميين لأن في ذلك تضييعا لوجودهم واهتزازا لكيانهم،وصهرا لقيمهم وعقائدهم وأخلاقهم.

وجاءت التحذيرات القرآنية الكثيرة من موالاة المنافقين والكافرين ومناصرتهم من أجل الحفاظ على كرامة المؤمنين وتوفير العزة والقوة لهم[1]،قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء:144]

أي لا تتخذوهم نصراء وأعوانا تصادقونهم وتصاحبونهم،وتصافونهم،وتسرون إليهم بالمودة،وتفشون إليهم بأسراركم وأموركم الذاتية،تبغون من ذلك الاعتزاز بهم،ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين،وهذا ليس من أخلاق المؤمنين،وإنما هو من أخلاق المنافقين.[2]

وقد تكلم العلماء قديما وحديثاً عن الولاء والبراء، الذي هو جزء من عقيدة المسلم..

وفي هذا الكتاب جمعت ما يتعلق بهذا الموضوع الجلل مما ورد في القرآن والسنة

وقد قسمته للمباحث التالية:

المبحث الأول = تعريف الموالاة لغة واصطلاحا

المبحث الثاني = وجوب موالاة الله ورسوله والمؤمنين

المبحث الثالث = البراءة من عبادة الكفار

المبحث الرابع = البراءة من المشركين والكافرين

المبحث الخامس = تحريم موالاة الآباء والأقرباء إذا استحبوا الكفر على الإيمان

المبحث السادس = النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء

المبحث السابع = تحريم موالاة من اتخذ ديننا هزوا

المبحث الثامن =النهي عن اتخاذ الكفار أولياء

المبحث التاسع = تحريم موالاة المغضوب عليهم

المبحث العاشر = تحريم اتخاذ بطانة من دون المؤمنين

المبحث الحادي عشر = البراءة ممن يتولى غير الله ورسوله

المبحث الثاني عشر = تولي الكفار بعضهم بعضا

المبحث الثالث عشر = الشيطان لا سلطان له إلا على من يتولاه

المبحث الرابع عشر= حكم ولاية من لم يهاجر وبقي في بلاد الكفر والحرب

المبحث الخامس عشر = تحريم موالاة المنافقين

المبحث السادس عشر = المنافقون هم الذين يتولون الكفار والفجار

المبحث السابع عشر = النهي عن اتخاذ أولياء من دون اللّه

المبحث الثامن عشر = الظالمون بعضهم أولياء بعض

المبحث التاسع عشر = لا ولاية بين المؤمنين والكافرين

المبحث العشرون =الأحاديث الواردة في (الولاء والبراء)

المبحث الحادي والعشرون =الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الولاء والبراء)

المبحث الحادي والعشرون =الأحاديث الواردة في ذمّ (موالاة الكفار)

المبحث الثاني والعشرون = من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (موالاة الكفار)

المبحث الثالث والعشرون = صور من الانحراف عن عقيدة الولاء والبراء

المبحث الرابع والعشرون = ثواب أولياء الله

المبحث الخامس والعشرون = فتاوى حول الولاء والبراء

المبحث السادس والعشرون =ما ترشد إليه الآيات والأحاديث الشريفة

الخلاصة في فوائد (الولاء والبراء)

الخلاصة في مضار (موالاة الكفار)

هذا وقد قمت بتفسير الآيات بشكل متخصر من كتب التفسير المعتبرة،وتخريج الأحاديث من مصادرها الأصلية مع الحكم عليها وشرح الغريب،وذكرت بعضاً من أقوال أهل العلم المعتبرين ....

أسأل الله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم،وأن ينفع بها كاتبها وقارئها وناشرها.

قال تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 55، 56]

الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود

في 16ربيع الأول 1433 هـ الموافق ل 8/2/2012 م

 

!!!!!!!!!!!!!


المبحث الأول

تعريف الموالاة لغة واصطلاحا

 

الموالاة لغة:

ضدّ المعاداة،يقال:ولي الشّيء وولي عليه ولاية بالكسر- وولاية- بالفتح.فبالكسر السّلطان وهو الاسم،وبالفتح النّصرة وهي المصدر.وزعم الفرّاء أنّ الكسر والفتح يطلق على المعنيين جميعا،فكلّ من ولي أمرك فهو وليّ.

ويقال:هو وليّ بيّن الولاية ووال بيّن الولاية،قال ابن الأعرابيّ:المعنى الّذي يوضّحه:أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصّلح،ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه.والموالاة ضدّ المعاداة.

وتقول:والى فلان فلانا:إذا أحبّه وناصره.

وروى ابن سلّام عن يونس أنّ المولى له مواضع في كلام العرب،فيطلق على المولى في الدّين،والمولى في العصبة،وعلى الحليف الّذي انضمّ إليك فعزّ بعزّك وامتنع بمنعتك،ويطلق على المعتق الّذي ينتسب بنسبك،وكذا العتيق،وعلى ابن العمّ،والعمّ،والأخ،والابن،ويطلق على النّاصر،وعلى المحبّ،وعلى التّابع والملازم[3].

وقال الرّاغب:الولاء والتّوالي أن يحصل شيئان فصاعدا ليس بينهما ما ليس منهما،ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان،ومن حيث النّسبة،ومن حيث الدّين ومن حيث الصّداقة والنّصرة والاعتقاد،والولاية (بالكسر) النّصرة،والولاية (بالفتح) تولّي الأمر،وقيل هما لغتان مثل الدّلالة والدّلالة،والوليّ والمولى يستعملان معا في معنى الفاعل،أي الموالي وفي معنى المفعول،أي الموالى يقال للمؤمن:هو وليّ اللّه ولا يقال في ذلك مولى،ولكن يقال:اللّه تعالى وليّ المؤمنين ومولاهم،فمن الأوّل قوله سبحانه اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (البقرة/ 257) ومن الثّاني قوله عزّ وجلّ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (الحج/ 78) والوالي في قوله سبحانه:وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (الرعد/ 11) معناه الوليّ،وقوله تعالى:فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (مريم/ 5) أي ابنا يكون من أوليائك[4]

وقال ابن منظور:والولاية على الإيمان واجبة،والمؤمنون بعضهم أولياء بعض،والمولى:الحليف وهو من انضمّ إليك فعزّ بعزّك وامتنع بمنعتك.

والمولى:المعتق انتسب بنسبك،ولهذا قيل للمعتقين الموالي[5].

الكفار:

الكفّار:جمع كافر،وهو في الأصل اسم فاعل من قولهم كفر باللّه يكفر إذا لم يكن به مؤمنا،يقول ابن قتيبة:الكفر في اللّغة من قولك:كفرت الشّيء إذا غطّيته،يقال:اللّيل كافر لأنّه يستر بظلمته كلّ شىء،ومن هذا المعنى أيضا قوله تعالى:كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ (الحديد/ 20) يريد بالكفّار الزّرّاع،سمّاهم كفّارا لأنّهم إذا ألقوا البذر في الأرض كفروه أى:غطّوه وستروه.فكأنّ الكافر باللّه ساتر للحقّ ولنعم اللّه عزّ وجلّ[6].

وقال الفرّاء في قوله تعالى:إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ (الممتحنة/ 9) أي تنصروهم،يعني أهل مكّة،جعل التّولّي هنا بمعنى النّصر من الوليّ وهو النّاصر،وروي أنّ النّبيّ r قال:من تولّاني فليتولّ عليّا[7]،معناه من نصرني فلينصره،والموالاة (في كلام العرب) على وجوه:

الأوّل:أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصّلح،ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه.

الثّاني:الموالاة:المحبّة،يقال:والى فلان فلانا إذا أحبّه.

الثّالث:التّميّز.قال الأزهريّ:سمعت العرب تقول:والوا حواشي نعمكم عن جلّتها أي:اعزلوا صغارها عن كبارها،يقال:واليناها فتوالت إذا تميّزت.

والوليّ:الصّديق والنّصير،وقيل التّابع المحبّ،وقال أبو العبّاس في قوله r «من كنت مولاه فعليّ مولاه،أي من أحبّني وتولّاني فليتولّه،وقال الشّافعيّ:

رضي اللّه عنه- يعني بذلك ولاء الإسلام،كقوله تعالى:ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (محمد/ 11).

والموالاة ضدّ المعاداة،والوليّ ضدّ العدوّ،قال تعالى:يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (مريم:45).

قال ثعلب:كلّ من عبد شيئا من دون اللّه فقد اتّخذه وليّا.وقوله تعالى:اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا (البقرة/ 257).وليّهم في نصرهم على عدوّهم،وإظهار دينهم على دين مخالفيهم،وقيل:وليّهم أي يتولّى ثوابهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم[8].

الموالاة اصطلاحا:

هي التّقرّب وإظهار الودّ بالأقوال والأفعال والنّوايا،لمن يتّخذه الإنسان وليّا،فإن كان هذا التّقرّب والودّ مقصودا به اللّه ورسوله والمؤمنون،فهي الموالاة الشّرعيّة الواجبة على كلّ مسلم،وإن كان المقصودهم الكفّار والمنافقين،على اختلاف أجناسهم،فهي موالاة كفر وردّة عن الإسلام[9].

أمّا الوليّ:فله معان اصطلاحيّة عديدة منها:

الوليّ:هو الّذي يتولّاه اللّه بالطّاعة ويتولّاه اللّه بالكرامة.ذكر ذلك أبو حيّان[10].

وقال الجرجانيّ:هو من توالت طاعاته من غير أن يتخلّلها عصيان[11].

وقال ابن حجر:والمراد بوليّ اللّه العالم باللّه تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته.[12]

وقيل إنّ لفظ الموالاة مشتقّ من الولاء،وهو الدّنوّ والتّقرّب،والولاية ضدّ العداوة،والوليّ عكس العدوّ،والمؤمنون أولياء الرّحمن،والكافرون أولياء الطّاغوت والشّيطان،لقرب الفريق الأوّل من اللّه بطاعته وعبادته.وقرب الفريق الثّاني من الشّيطان بطاعة أمره وبعدهم عن اللّه بعصيانه ومخالفته[13].

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة:الولاية:ضدّ العداوة.وأصل الولاية:المحبّة والتّقرّب،وأصل العداوة:البغض والبعد.فإذا كان وليّ اللّه هو الموافق المتابع له فيما يحبّه ويرضاه،ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه،كان المعادي لوليّه معاديا له.كما قال تعالى:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ (الممتحنة:1).فمن عادى أولياء اللّه فقد عاداه،ومن عاداه فقد حاربه[14].

ومسمّى الموالاة لأعداء اللّه:يقع على شعب متفاوته،منها ما يوجب الرّدّة وذهاب الإسلام بالكلّيّة ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرّمات[15].

معنى الولي من أسماء اللّه الحسنى:

والوليّ في أسماء اللّه الحسنى وهو النّاصر،وقيل:

المتولّي لأمور العالم والخلائق،القائم بها.

وقال الإمام الغزاليّ- رحمه اللّه-:هو المحبّ النّاصر،ومعنى محبّته قد جاء في صفة المحبّة ومعنى نصرته ظاهر فإنّه يقمع أعداء الدّين وينصر أولياءه.

قال تعالى:اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا،وقال:ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ[16].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:وأمّا الجمهور فيقولون:الولاية والعداوة وإن تضمّنتا محبّة اللّه ورضاه وبغضه وسخطه،فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبّه،بعد أن يؤمن ويعمل صالحا،وإنّما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر[17].

قال القحطانيّ:والولاء والولاية:هي النّصرة والمحبّة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهرا وباطنا.قال تعالى:اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (البقرة/ 257).فموالاة الكفّار تعني التّقرّب إليهم وإظهار الودّ لهم بالأقوال والأفعال والنّوايا[18].

من معاني الموالاة في القرآن الكريم:

وردت للفظ الولاية وما اشتقّ منها الوجوه الآتية:

1- المولى:بمعنى الولد،وذلك قول زكريّا في (سورة مريم/ 5):فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يعني الولد.

2- الوليّ:يعني الصّاحب من غير قرابة،وذلك قوله فى (سورة بني إسرائيل/ 111):وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ يعني لم يكن له صاحب يتعزّز به من ذلّ،وكقوله في (سورة الكهف/ 17):وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً يعني صاحبا مرشدا.

3- الوليّ:يعني القرابة،وذلك قوله تعالى في (سورة فصلت/ 34) كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ يعني:قريبا وقال في (سورة العنكبوت/ 22):وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ* يعني من قريب يمنعكم،يعني الكفّار.

4- الوليّ:يعني الرّبّ وذلك قوله في (سورة الأنعام/ 14):قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا يعني ربّا.فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.وقال في (سورة يونس/ 30):وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ يعني ربّهم.

5- الوليّ:يعني العون،وذلك في الّذين كفروا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا محمد/ 11) يعني وليّهم في العون لهم.

6- الوليّ:يعني الآلهة وذلك قوله في (سورة العنكبوت/ 41) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني آلهة وكقوله في (سورة الشّورى/ 6) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني آلهة اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.

7- الوليّ:يعني العصبة.وذلك قوله في (سورة مريم/ 5):وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يعني العصبة من بعدي.وكقوله في (سورة النّساء/ 33) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ يعني العصبة.

8- الوليّ:يعني الولاية في دين الكفر وذلك قوله في (سورة المجادلة/ 14) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني المنافقين تولّوا اليهود في الدّين.

9- الوليّ:يعني الولاية في دين الإسلام وذلك قوله في (سورة المائدة/ 55) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وقال في (سورة براءة/ 71) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني في الدّين.

10- الوليّ:يعني المولى الّذي تعتقه،وذلك قوله في (سورة الأحزاب/ 5) فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ يعني المولى الّذي تعتقه.

11- الوليّ:يعني الوليّ في النّصح وذلك قوله في (سورة الممتحنة/ 1) لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ يعني في النّصيحة.وقال في (آل عمران/ 28) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ يعني في النّصيحة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ .[19]

الموالاة بين المدح والذم:

الموالاة إذا كانت بين المؤمن وربّه أو بين المؤمنين بعضهم وبعض فهي الموالاة المحمودة المأمور بها شرعا،وهي الّتي تورث العزّ في الدّنيا وتكسب الفوز والنّجاة في الآخرة،أمّا إذا كانت الموالاة بين الكفّار والمنافقين بعضهم وبعض أو بينهم وبين الشّيطان،أو تلك الّتي يكون الكافر أو الشّيطان طرفا فيها فهي الموالاة المذمومة المنهيّ عنها،وهي الّتي تورث ذلّ الدّنيا وغضب اللّه وعقابه في الآخرة،وهذه الأخيرة يتبرّأ منها أطرافها ولا يغني بعضهم عن بعض شيئا في الآخرة.

يقول الرّاغب:نفى اللّه تعالى الولاية بين المؤمنين والكافرين في غير آية،من ذلك قوله تعالى:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ (المائدة/ 51)،وقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ (الممتحنة/ 1) وجعل سبحانه بين الكافرين والشّياطين موالاة في الدّنيا،ونفى بينهم الموالاة في الآخرة قال سبحانه في الموالاة بينهم في الدّنيا والْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (التوبة/ 67) وقال سبحانه إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (الأعراف/ 30) ولمّا جعل بينهم وبين الشّيطان موالاة،جعل للشّيطان في الدّنيا عليهم سلطانا،ومن نفي الموالاة بينهم في الآخرة قوله سبحانه يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً (الدخان/ 41).

البراء لغة:

مصدر قولهم:برئت منك،وهو مأخوذ من مادّة (ب ر أ) الّتي تدلّ على التّباعد من الشّيء ومزايلته،ومن ذلك:البرء وهو السّلامة من السّقم،والوصف من ذلك:براء على لغة أهل الحجاز وأنا بريء منك على لغة غيرهم وقد جاءت اللّغتان في القرآن الكريم:

قال تعالى:إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (الزخرف/ 26)،وقال تعالى:إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ (الحشر/ 16) ومن قال إنّي براء لم يثنّ ولم يؤنّث،ومن قال:بريء قال (في المؤنّث بريئة) وفي المثنّى بريئان وفي الجمع:بريئون وبرآء وبراء،والبراءة تكون من العيب والمكروه ونحوهما،فقول:برئت منك ومن الدّيون والعيوب براءة وبرئت من المرض برءا،وأهل الحجاز يفتحون الرّاء في الفعل والباء في المصدر فيقولون برأت برءا،وبارأت شريكي إذا فارقته.

وقال الرّاغب:أصل البرء والبراء والتّبرّؤ التّفصّي (التّباعد) ممّا يكره مجاورته،ولذلك قيل:برأت من المرض،ومن فلان وتبرّأت وأبرأته من كذا،وبرأته.

ويقال:برىء إذا تخلّص،وبرىء إذا تنزّه وتباعد،وبرأ:إذا أعذر وأنذر،ومنه قوله تعالى:بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (التوبة/ 1) أي إعذار وإنذار،والبراء والبريء سواء.

وليلة البراء:ليلة يتبرّأ القمر من الشّمس وهي أوّل ليلة من الشّهر[20].

البراءة اصطلاحا:

البراءة هي انقطاع العصمة،يقول أبو حيّان في تفسير قوله تعالى:بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...(التوبة/ 1) يقال:برئت من فلان إذا انقطعت بيننا العصمة.[21]

وقال الآلوسيّ في تفسير الآية الكريمة السّابقة:

هي عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتّب على العهد السّابق[22].

وقيل:البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار.

قال الشّيخ عبد الرّحمن بن سعديّ:وحيث إنّ الولاء والبراء تابعان للحبّ والبغض فإنّ أصل الإيمان أن تحبّ في اللّه أنبياءه وأتباعهم،وتبغض في اللّه أعداءه وأعداء رسله[23].

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة:على المؤمن أن يعادي في اللّه،ويوالي في اللّه،فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه- وإن ظلمه- فإنّ الظّلم لا يقطع الموالاة الإيمانيّة.وإذا اجتمع في الرّجل الواحد:خير وشرّ وفجور وطاعة،ومعصية وسنّة،وبدعة استحقّ من الموالاة والثّواب بقدر ما فيه من الخير.واستحقّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشّرّ[24].

 

 

الكافر اصطلاحا:

اسم لمن لا إيمان له،فإن أظهر الإيمان فهو منافق،وإن طرأ كفره بعد الإيمان فهو المرتدّ،وإن قال بإلهين أو أكثر فهو المشرك،وإن كان متديّنا ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابيّ،وإن قال بقدم الدّهر،وإسناد الحوادث إليه فهو الدّهريّ،وإن كان لا يثبت صفات الباري فهو المعطّل،وإن كان مع اعترافه بالنّبوّة يبطن عقائد هي كفر بالاتّفاق فهو زنديق[25].

-----------

موالاة الكفار اصطلاحا:

هي التّقرّب إلى أيّ نوع منهم أو جميعهم بإظهار المودّة لهم أو الثّقة فيهم أو التّصادق معهم أو الوقوف في صفّهم على أيّ نحو كان.

وقال بعض المحدثين:موالاة الكفّار:هي التّقرّب إليهم وإظهار الودّ لهم بالأقوال والأفعال والنّوايا[26].

معنى الولي في القرآن الكريم:

ورد لفظ الوليّ في القرآن على أوجه عديدة منها:

أحدها:الرّبّ،ومنه قوله تعالى:قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا (الأنعام/ 14)،وفي «الأعراف»:وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ،وفي «حم عسق»:أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ.

والثّاني:النّاصر.ومنه قوله تعالى في «بني إسرائيل»:{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } [الإسراء:111]

والثّالث:الولد.ومنه قوله تعالى:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم:5]

والرّابع:الوثن.ومنه قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:41].

والخامس:المانع.ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وفي «المائدة» { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55].

قال الفيروزابادي- رحمه اللّه تعالى-:نفى اللّه الولاية بين المؤمنين والكافرين في غير آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (المائدة/ 51).وجعل بين الكافرين والشّياطين موالاة في الدّنيا ونفى عنهم الموالاة في الآخرة،قال تعالى في الموالاة بينهم في الدّنيا:إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (الأعراف/ 27)،وكما جعل بينهم وبين الشّيطان موالاة جعل للشّيطان في الدّنيا سلطانا فقال:إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ (النحل/ 100)[27].

معنى الولي في أسماء اللّه- عز وجل-:

الوليّ:هو النّاصر المحبّ،وقيل:المتولّي لأمور العالم والخلائق القائم بها وهو النّاصر الّذي يقمع أعداء الدّين وينصر أولياءه.

وأمّا اسم الوالي:فهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها.قال ابن الأثير:فكأنّ الولاية تشعر بالتّدبير والقدرة والفعل،وما لم يجتمع ذلك فيها لا يطلق عليه اسم الوليّ[28]

 

____________


المبحث الثاني

1- الموالاة تكون للّه وحده

 

قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) } [البقرة]

يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيءِ ،لِمَا يَعْلَمُهُ فِيهِ مِنَ المَصْلَحَةِ ،ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَرَى فِي ذلِكَ مِنَ الخَيْرِ حِينئِذٍ ،فَهُوَ لاَ يُبَدِّلُ حُكْماً مِنَ الأَحْكَامِ المُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ يَمْحُوهُ إِلا جَاءَ بِحُكْمٍ أَرْفقَ مِنَ الحُكْمِ المَنْسُوخِ بِالمُكَلَّفِينَ ،وَخَيْرٍ لَهُمْ فِي المَنْفِعَةِ أَوْ مِثْلِهِ .وَيُنَبِّه اللهُ نَبِيَّهُ r إِلَى أَنَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ،وَهُوَ المُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ فِي الكَوْنِ وَمَا فِيهِ ،فَيُحِلُّ مَا يَشَاءُ ،وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ ،وَهُوَ الذِي يَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ وَلاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ ،وَعَلَى المُؤْمِنِينَ إِطاعَةُ أَمْرِ رَبِّهِم ،وَاتِّبَاعُ رَسُولِهِ r فِي تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ .

يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى نَبِيّه r إِلَى أنَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ،وَلَيْسَ لِلْنَاسِ مِنْ دُونِهِ مِنْ نَاصِرٍ ،وَعَلَى الخَلْقِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لأَمْرِهِ وَنَهْيهِ ،لَهُ أَنْ يَنْسَخَ مَا يَشَاءُ مِنَ الأَحْكَامِ ،وَيَبْطِلُهَا ،لأَنَّ الأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ ،وَالأَحْكَامَ الخُلُقِيَّةَ قَدْ تَكُونُ فِيها مَصْلَحَةٌ فِي وَقْتٍ ،وَتَكُونُ مَفْسَدَةٌ فِي وَقْتٍ آخَرَ .[29]

النسخ:هو النقل،فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع،إلى حكم آخر،أو إلى إسقاطه،وكان اليهود ينكرون النسخ،ويزعمون أنه لا يجوز،وهو مذكور عندهم في التوراة،فإنكارهم له كفر وهوى محض.

فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ،وأنه ما ينسخ من آية {أَوْ نُنْسِهَا} أي:ننسها العباد،فنزيلها من قلوبهم،{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} وأنفع لكم {أَوْ مِثْلِهَا} .

فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول،لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة،التي سهل عليها دينها غاية التسهيل.

وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} .

فإذا كان مالكا لكم،متصرفا فيكم،تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه،فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير،كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام.فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية،فما له والاعتراض؟

وهو أيضا،ولي عباده،ونصيرهم،فيتولاهم في تحصيل منافعهم،وينصرهم في دفع مضارهم،فمن ولايته لهم،أن يشرع لهم من الأحكام،ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم.

ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ،عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده،وإيصالهم إلى مصالحهم،من حيث لا يشعرون بلطفه.[30]

-------------

وقال تعالى :{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة]

يَقُولُ اللهَ تَعَالَى لِنَبيِّه r :إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالشَّيءِ الثَّابِتِ الحَقِّ لِتُبَشِّرَ بِهِ مَنْ أَطَاعَ ،وَتُنْذِرَ بِهِ مَنْ عَصَى وَاسْتَكْبَرَ ،لاَ لِتُجْبِرَ النَّاسَ عَلَى الإِيمَانِ ،فَلاَ عَلَيكَ إَذَا أَصَرُّوا عَلَى الكُفْرِ وَالعِنَادِ ،فَلاَ يَضُرَّنَّكَ تَكْذِيبُ المُكَذِّبِينَ ،فَأَنْتَ لَمْ تُبْعَثْ مُلْزِماً وُمُجْبِراً ،فَتَكُونَ مُقَصِّراً إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا لَكَ .

كَانَ النَّبِيُّ r يَرْجُو أَنْ يُبَادِرَ أَهْلُ الكِتَابِ إِلَى الإِيْمَانِ بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ ،لِذلِكَ كَبُرَ عَلَيهِ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَّتِهِ ،وَإِلحَافُهُمْ فِي مُجَاحَدَتِهِ ،فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى فِي هذِهِ الآيَةِ أَنْ يُيْئِسَهُ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِسْلاَمِهِمْ ،إِذْ عَلَّقَ رِضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ أَنُ يَكُونَ ،فَقَالَ لَهُ :إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصارَى لَنْ يَرْضَوْا عَنْكَ أَبداً مَا لَمْ تَتْبَعُ مِلَّتَهُمْ وَشَرِيعَتَهُمْ ،لِذلِكَ عَلَيكَ تَرْكُ طَلَبِ مَرْضَاتِهِمْ ،وَالاتِّجَاهُ إِلى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللهِ في دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلى مَا بَعَثَكَ اللهُ بِهِ مِنَ الحَقِّ .وَقُلْ لَهُمْ :إِنَّ الدِّينَ الذِي جِئْتُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ،وَالذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ( هُدَى اللهُ ) هُوَ الدِّينُ الصَّحِيح .وَيَتَوَعَّدَ اللهُ المُؤْمِنينَ الذِينَ يَتَّبِعُونَ طَرائِقَ اليَهُودِ والنَّصَارَى وَيَقْبلُونَ مَا أَضَافُوهُ إِلى دِينِهِمْ مِنْ عِنْدِ أنفُسِهِمْ ،بِحَسَبِ أَهْوَائِِهِمْ وَغَايَاتِهِمْ ،وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُمْ لَنْ يَكُونَ لَهُمْ نَاصِرٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ ،لأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الحَقِّ بَعْدَ مَا عَلِمُوهُ مِنَ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ ،( وَالخِطَابُ هُنَا لِلرَّسُولِ وَالتحذيرُ لأُمَّتِهِ ،لأَنَّ الرَّسُولَ r مَعْصُومٌ )[31] .

ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه r وصحة ما جاء به فقال:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها،وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:

الأول:في نفس إرساله،والثاني:في سيرته وهديه ودله،والثالث:في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة.

فالأول والثاني،قد دخلا في قوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} والثالث دخل في قوله:{بِالْحَقِّ} .

وبيان الأمر الأول وهو - نفس إرساله - أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته r وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران،والصلبان،وتبديلهم للأديان،حتى كانوا في ظلمة من الكفر،قد عمتهم وشملتهم،إلا بقايا من أهل الكتاب،قد انقرضوا قبيل البعثة.

وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى،ولم يتركهم هملا لأنه حكيم عليم،قدير رحيم،فمن حكمته ورحمته بعباده،أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم،يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له،فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه،وهو آية كبيرة على أنه رسول الله،وأما الثاني:فمن عرف النبي r معرفة تامة،وعرف سيرته وهديه قبل البعثة،ونشوءه على أكمل الخصال،ثم من بعد ذلك،

قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين،فمن عرفها،وسبر أحواله،عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين،لأن الله تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.

وأما الثالث:فهو معرفة ما جاء به r من الشرع العظيم،والقرآن الكريم،المشتمل على الإخبارات الصادقة،والأوامر الحسنة،والنهي عن كل قبيح،والمعجزات الباهرة،فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة.قوله:{بَشِيرًا} أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية،{نَذِيرًا} لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي.{وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي:لست مسئولا عنهم،إنما عليك البلاغ،وعلينا الحساب.

يخبر تعالى رسوله،أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى،إلا باتباعه دينهم،لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه،ويزعمون أنه الهدى،فقل لهم:{إِنَّ هُدَى اللَّهِ} الذي أرسلت به {هُوَ الْهُدَى} .

وأما ما أنتم عليه،فهو الهوى بدليل قوله {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} .

فهذا فيه النهي العظيم،عن اتباع أهواء اليهود والنصارى،والتشبه بهم فيما يختص به دينهم،والخطاب وإن كان لرسول الله r فإن أمته داخلة في ذلك،لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب،كما أن العبرة بعموم اللفظ،لا بخصوص السبب.[32]

«إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ» ..وهي كلمة فيها من التثبيت ما يقضي على شبهات المضللين،ومحاولات الكائدين،وتلبيس الملفقين.وفي جرسها صرامة توحي بالجزم واليقين.

«بَشِيراً وَنَذِيراً» ..وظيفتك البلاغ والأداء،تبشر الطائعين وتنذر العصاة،فينتهي دورك.

«وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» ..الذين يدخلون الجحيم بمعصيتهم،وتبعتهم على أنفسهم.

وسيظل اليهود والنصارى يحاربونك،ويكيدون لك،ولا يسالمونك ولا يرضون عنك،إلا أن تحيد عن هذا الأمر،وإلا أن تترك هذا الحق،وإلا أن تتخلى عن هذا اليقين،تتخلى عنه إلى ما هم فيه من ضلال وشرك وسوء تصور كالذي سبق بيانه منذ قليل:«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..فتلك هي العلة الأصيلة.ليس الذي ينقصهم هو البرهان وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق،وأن الذي جاءك من ربك الحق.ولو قدمت إليهم ما قدمت،ولو توددت إليهم ما توددت ..لن يرضيهم من هذا كله شيء،إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق.

إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان ..إنها هي العقيدة.هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة ..إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها،ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!

إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها.ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى،ويرفعان عليها أعلاما شتى،في خبث ومكر وتورية.إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة.ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة ..لم يعلنوها حربا باسم العقيدة - على حقيقتها - خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها.إنما أعلنوها باسم الأرض،والاقتصاد،والسياسة،والمراكز العسكرية ..وما إليها.وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها!

ولا يجوز رفع رايتها،وخوض المعركة باسمها.فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها ..بينما هم في قرارة نفوسهم:الصهيونية العالمية والصليبية العالمية - بإضافة الشيوعية العالمية - جميعا يخوضون المعركة أولا وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا،فأدمتهم جميعا!!!

إنها معركة العقيدة.إنها ليست معركة الأرض.ولا الغلة.ولا المراكز العسكرية.ولا هذه الرايات المزيفة كلها.إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين.ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها،فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا.ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه - r - ولأمته،وهو - سبحانه - أصدق القائلين:«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..

فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه.وما سواه فمرفوض ومردود! ولكن الأمر الحازم،والتوجيه الصادق:«قُلْ:إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» ..

على سبيل القصر والحصر.هدى الله هو الهدى.وما عداه ليس بهدى.فلا براح منه،ولا فكاك عنه،ولا محاولة فيه،ولا ترضية على حسابه،ولا مساومة في شيء منه قليل أو كثير،ومن شاء فليؤمن،ومن شاء فليكفر.وحذار أن تميل بك الرغبة في هدايتهم وإيمانهم،أو صداقتهم ومودتهم عن هذا الصراط الدقيق.

«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..

بهذا التهديد المفزع،وبهذا القطع الجازم،وبهذا الوعيد الرعيب ..ولمن؟ لنبي الله ورسوله وحبيبه الكريم! إنها الأهواء ..إن أنت ملت عن الهدى ..هدى الله الذي لا هدى سواه ..وهي الأهواء التي تقفهم منك هذا الموقف وليس نقص الحجة ولا ضعف الدليل.

والذين يتجردون منهم من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته،ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون،لا أنت ولا المؤمنون! «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ.أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..وأي خسارة بعد خسارة الإيمان،أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود؟[33]

-------------

وقال تعالى :{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:257]

اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَهُ ،فَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ والشَّكِّ وَالرَّيبِ إلى نُورِ الحَقِّ الوَاضِحِ .وَالمُؤْمِنُ لاَ وَليَّ لَهُ ،وَلاَ سُلْطَانَ لأَحَدٍ عَلَى اعْتِقَادِهِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى .أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا فَوَلِيُّهُمُ الشَّيْطَانُ ،يُزَيِّنُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالجَهَالَةِ ،وَيُخْرِجَهُمْ عَنْ طُرِيقِ الحَقِّ وَنُورِهِ ،إِلى الكُفْرِ وَظُلُمَاتِهِ ،وَيُؤدِّي بِهِمْ إلى نَارِ جَهَنَّمَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أَبدَاً .وَالنُّورُ هُوَ الحَقُّ ،وَالحَقُّ وَاحِدٌ ،أمَّا الظُّلُمَاتُ وَهِيَ الكُفْرُ فَهِيَ أجْنَاسٌ .[34]

وقال ابن كثير :" يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَهْدِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُل السَّلَامِ فَيُخْرِجُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشَّكِّ وَالرَّيْبِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْمُبِينِ السَّهْلِ الْمُنِيرِ،وَأَنَّ الْكَافِرِينَ إِنَّمَا وَلِيُّهُمُ الشَّيَاطِينُ تُزَيِّنُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ،وَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَحِيدُونَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْكُفْرِ وَالْإِفْكِ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَلِهَذَا وَحَّدَ تَعَالَى لَفْظَ النُّورِ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ،لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْكُفْرَ أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا قَالَ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْأَنْعَامِ:153] وَقَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} [الْأَنْعَامِ:1] وَقَالَ تَعَالَى:{عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النَّحْلِ:48] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي لَفْظِهَا إِشْعَارٌ بِتَفَرُّدِ الْحَقِّ،وَانْتِشَارِ الْبَاطِلِ وَتَفَرُّدِهِ وَتَشَعُّبِهِ."[35]

إن الإيمان نور ..نور واحد في طبيعته وحقيقته ..وإن الكفر ظلمات ..ظلمات متعددة متنوعة.ولكنها كلها ظلمات.

وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور،والتعبير عن الكفر بالظلمة.

إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره.تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورا ووضاءة ووضوحا ..نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات،فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش،بينة بغير لبس،مستقرة في مواضعها بغير أرجحة فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه ..نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ويمضي في طريقه إلى الله هينا لينا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات،ولا يخبط هنا وهناك.فالطريق في فطرته مكشوف معروف.

وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد.فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة ..ظلمة الهوى والشهوة.

وظلمة الشرود والتيه.وظلمة الكبر والطغيان.وظلمة الضعف والذلة.وظلمة الرياء والنفاق.وظلمة الطمع والسعر.وظلمة الشك والقلق ...وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله،والتلقي من غير الله،والاحتكام لغير منهج الله ..وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد.نور الحق الواحد الذي لا يتلبس.حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف ..وكلها ظلمات ..!

والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات:«أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..وإذ لم يهتدوا بالنور،فليخلدوا إذن في النار! إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط ..فماذا بعد الحق إلا الضلال"[36]

وقال السعدي :"  وهذا يشمل ولايتهم لربهم،بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا،قد اتخذوه حبيبا ووليا،ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه،فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه،فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم،وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} فتولوا الشيطان وحزبه،واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم،فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا،ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا،فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي،فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات،وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات،وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة،فلهذا قال تعالى:{أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ."[37]

---------------

وقال تعالى :{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة:286]

لاَ يُكَلِّفُ اللهُ أحَداً فَوْقَ طَاقَتِهِ ،وَهذا مِنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ .وَللنَّفْسِ مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ .وَعَلَيهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ ،مِنْ قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ .وَأرْشَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلى دُعَائِهِ وَاسْتِرْحَامِهِ ،وَالضَّرَاعَةِ إليهِ ،وَذَلِكَ بِأنْ يَقُولُوا :رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ تَرَكْنا فَرْضَنَا وَنَحْنُ نَاسُونَ أوِ ارْتَكَبْنَا مُحَرَّماً وَنَحْنُ نَاسُونَ أوْ مُخْطِئُونَ ،أوْ عَنْ جَهْلٍ بِوَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ ،رَبَّنا وَلا تُكَلِّفْنا مِنَ الأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ وَإنْ أَطَقْنَاهَا ،كَمَا شَرَّعْتَهُ لِلأمَمِ السَّالِفَةِ مِنَ الأغْلاَلِ وَالآصَارِ ،رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالمَصَائِبِ وَالبَلاَءِ ،وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنا وَبَيْنَكَ وَاغْفِرْ لَنَا فِيمَا بَيْنَنا وَبَيْنَ العِبَادِ ،فَلاَ تُظْهِرْهُمْ عَلَى أَعْمَالِنا القَبِيحَةِ وَمَسَاوئِنا ،وَارْحَمْنَا لِكَيْلاَ نَقَعَ مُسْتَقْبَلاً فِي ذَنبِ ،أنْتَ وَلِيُّنا وَمَوْلاَنا ،فَانْصُرْنا عَلَى القَوْمِ الذِينَ كَفَرُوا بِكَ ،وَجَحَدُوا دِينك .[38]

لما نزل قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به،فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي:أمرا تسعه طاقتها،ولا يكلفها ويشق عليها،كما قال تعالى {ما جعل عليكم في الدين من حرج} فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس،بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان،وحمية عن الضرر،فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا،ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل،إما بإسقاطه عن المكلف،أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم،ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير،وعليها ما اكتسبت من الشر،فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره،وفي الإتيان بـ "كسب "في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ "اكتسب "في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه،ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله،وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان،وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا،أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك،وقد أخبر النبي r [ص:121] أن الله قال:قد فعلت.إجابة لهذا الدعاء،فقال {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} والفرق بينهما:أن النسيان:ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا،والخطأ:أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله:فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا،فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب،أو نجس،أو قد نسي نجاسة على بدنه،أو تكلم في الصلاة ناسيا،أو فعل مفطرا ناسيا،أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا،فإنه معفو عنه،وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا،وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم،وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف،وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر.{ربنا ولا تحمل علينا إصرا} أي:تكاليف مشقة {كما حملته على الذين من قبلنا} وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} وقد فعل وله الحمد {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور،والرحمة يحصل بها صلاح الأمور {أنت مولانا} أي:ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات،ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة،وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها،فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين،الذين كفروا بك وبرسلك،وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك،فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان،بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر،والحمد لله رب العالمين.[39]

---------------

وقال تعالى:{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران:68]

إنَّ أحَقَّ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ وَنُصْرَتِهِ وَوِلاَيتِهِ ،هُمُ الذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى دِينِهِ ،وَسَلَكُوا طَرِيقَهُ وَمِنْهَاجَهُ في عَصْرِهِ ،فَوَحَّدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ،وَكَانظثوا حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ،ثُمَّ هذا النَّبِيُّ ( يَعْنِي مُحَمَّداً r ) ،وَالذِينَ آمَنُوا مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأنْصَارِ ،وَمَنِ تَبِعَهُمْ بَعْدَهُمْ ،فَهؤُلاءِ هُمْ أهْلُ التَّوْحِيدِ الخَالِصِ ،وَهُمْ المُخْلِصُونَ للهِ فِي أعْمَالِهِمْ وعِبَادَتِهِمْ ،دُونَ شِرْكٍ وَلاَ رِيَاءٍ ،وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنينَ .[40]

فالذين اتبعوا إبراهيم - في حياته - وساروا على منهجه،واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه.ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين.ثم الذين آمنوا بهذا النبي - r - - فالتقوا مع إبراهيم - عليه السلام - في المنهج والطريق.

«وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ..فهم حزبه الذين ينتمون إليه،ويستظلون برايته،ويتولونه ولا يتولون أحدا غيره.وهم أسرة واحدة.وأمة واحدة.من وراء الأجيال والقرون،ومن وراء المكان والأوطان ومن وراء القوميات والأجناس،ومن وراء الأرومات والبيوت! وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني.وتميزه من القطيع! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود.لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية.فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر ..على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه - إن كانت رابطة التجمع هي الجنس - ولا يملك أن يغير قومه - إن كانت رابطة التجمع هي القوم - ولا يملك أن يغير لونه - إن كانت رابطة التجمع هي اللون - ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة - ولا يملك بيسر أن يغير طبقته - إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة - بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلا.ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبدا دون التجمع الإنساني،ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور ..الأمر المتروك للاقتناع الفردي،والذي يملك الفرد بذاته،بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره،وأن ينضم إلى الصف على أساسه.

وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان،بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره،المميزة له من القطيع! والبشرية إما أن تعيش - كما يريدها الإسلام - أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور ..وإما أن تعيش قطعانا خلف سياج الحدود الأرضية،أو حدود الجنس واللون ..وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع!!![41]

-------------

وقال تعالى :{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران]

هُنَا يَتَحَدَّثُ اللهُ تَعَالَى عَنْ مَعْرَكَةِ أحُدٍ حِينَما خَرَجَ الرَّسُولُ r مُبَكِّراً مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ لِحَرْبِ قُرَيشٍ ،وَإنْزَالِهِ الصَّحَابَةَ فِي مَرَاكِزِ القِتَالِ .فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ r إلى مَكَانِ المَعْرَكَةِ نَزَلَ بِأَصْحَابِهِ فِي الشِّعْبِ مِنْ أحُدٍ ،فِي عُدْوَةِ الوَادِي ،وَجَعَلَ ظَهْرَ عَسْكَرِهِ إلى أحُدٍ ،وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ لاَ يُقَاتِلَنَّ أحَدٌ حَتَّى نَأمُرَهُ .وَأقَامَ خِمْسِينَ رَامياً ،عَلَيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبِيْرٍ ،عَلَى تَلٍّ ،وَأمَرَهُمْ بِأنْ يَنْضَحُوا الخَيْلَ عَنِ المُسْلِمِينَ ،وَأنْ لاَ يَتْرُكُوا مَكَانَهُمْ أَبَداً ،حَتَّى وَلَوْ دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ .

وَكَانَتْ فِي الأنْصَارِ طَائِفَتَانِ ( هُمَا بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلمَةَ ) قَدْ أَثَّرَتْ فِيهِمَا حَرَكَةُ انْسِحَابِ ابْنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ ،وَعَوْدَتِهِ إلَى المَدِينَةِ ،فَكَادَتَا أنْ تَفْشَلا ،وَتَرْجِعَا إلى المَدِينَةِ ،وَلَكِنَّ عِنَايَةَ اللهِ تَدَارَكَتْهُمَا وَثَبَّتَتْهُمَا ،وَأَيَّدَتْهُمَا بِوِلاَيَتِهِ .وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوكَّلِ المُؤْمِنُونَ ،فَلَيْسَ لَهُمْ سَنَدٌ غَيْرُهُ .[42]

هذه الآيات نزلت في وقعة "أُحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ،ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع،وأدخل في أثنائها وقعة "بدر" لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم،ورد كيد الأعداء عنهم،وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه،فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين،وأن الله نصر المؤمنين في "بدر" لما صبروا واتقوا،وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر،ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون،فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم،كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا،وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من "بدر" إلى مكة،وذلك في سنة اثنتين من الهجرة،استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد،حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم،ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل،حتى نزلوا قرب المدينة،فخرج النبي r إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج،وخرج في ألف،فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته،وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله،فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي r في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد،ورتب النبي r خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل "أحد" وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم،فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم،واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون،فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي r في الجبل،قال بعضهم لبعض:الغنيمة الغنيمة،ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا،ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه،فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير،منهم أميرهم عبد الله بن جبير،جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم،فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم،وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة،فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم،ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم،ودخل رسول الله r وأصحابه المدينة قال الله تعالى {وإذ غدوت من أهلك} والغدو هاهنا مطلق الخروج،ليس المراد به الخروج في أول النهار،لأن النبي r وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة {تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} أي:تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به،وفيها أعظم مدح للنبي r حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال،وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه،وسداد نظره وعلو همته،حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه {والله سميع} لجميع المسموعات،ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه {عليم} بنيات العبيد،فيجازيهم عليها أتم الجزاء،وأيضا فالله سميع عليم بكم،يكلؤكم،ويتولى تدبير أموركم،ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون {إنني معكما أسمع وأرى} .

ومن لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه،لما {همت طائفتان} من المؤمنين بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما وعلى سائر المؤمنين،فلهذا قال {والله وليهما} أي:بولايته الخاصة،التي هي لطفه بأوليائه،وتوفيقهم لما فيه صلاحهم وعصمتهم عما فيه مضرتهم،فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما،لما معهما من الإيمان كما قال تعالى:{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} ثم قال {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} ففيها الأمر بالتوكل الذي هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار،مع الثقة بالله،وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله،وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من غيرهم،وخصوصا في مواطن الشدة والقتال،فإنهم مضطرون إلى التوكل والاستعانة بربهم والاستنصار له،والتبري من حولهم وقوتهم،والاعتماد على حول الله وقوته،فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن"[43]

هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم.ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو،واستحضار المشهد الأول بهذا النص،من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور.وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم،وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم.وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي.وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة،التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي.والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي،بكل تكاليفه،إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها،وبكل حيويتها كذلك:«وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ..وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ..» ..والإشارة هنا إلى غدو النبي - r - من بيت عائشة - رضي الله عنها - وقد لبس لأمته ودرعه بعد التشاور في الأمر،وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها ..وما أعقب هذا من تنظيم الرسول - r - للصفوف،ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل ..

وهو مشهد يعرفونه،وموقف يتذكرونه ..ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه:«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ويا له من مشهد،الله حاضره! ويا له من موقف،الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به،وتخالط كل ما دار فيه من تشاور.والسرائر مكشوفة فيه لله.وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر.

واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول،هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق «عبد الله بن أبي بن سلول» حين انفصل بثلث الجيش،مغضبا أن الرسول - r - لم يأخذ برأيه،واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال:«لو نعلم قتالا لاتبعناكم! » فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه،ويطغى في ذلك القلب على العقيدة ..العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها،ولا تطيق لها فيه شريكا! فإما أن يخلص لها وحدها،وإما أن تجانبه هي وتجتويه! «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا،وَاللَّهُ وَلِيُّهُما،وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..

وهاتان الطائفتان - كما ورد في الصحيح - من حديث سفيان بن عيينة - هما بنو حارثة وبنو سلمة.أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ،وما أحدثته من رجة في الصف المسلم،من أول خطوة في المعركة.فكادتا تفشلان وتضعفان.لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته،كما أخبر هذا النص القرآني:«وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» ..

قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - يَقُولُ فِينَا نَزَلَتْ (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) قَالَ نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ،وَمَا نُحِبُّ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً وَمَا يَسُرُّنِى - أَنَّهَا لَمْ تُنْزَلْ لِقَوْلِ اللَّهِ (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) (رواه البخاري)..[44]

وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر والذي لم يعلمه إلا أهله،حين حاك في صدورهم لحظة ثم وقاهم الله إياه،وصرفه عنهم،وأيدهم بولايته،فمضوا في الصف ..يكشفه لاستعادة أحداث المعركة،واستحياء وقائعها ومشاهدها.ثم ..لتصوير خلجات النفوس،وإشعار أهلها حضور الله معهم،وعلمه بمكنونات ضمائرهم - كما قال لهم:«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» - لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم.ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف،ويدب فيهم الفشل،ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون.ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين:«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..

على وجه القصر والحصر ..على الله وحده فليتوكل المؤمنون.فليس لهم - إن كانوا مؤمنين - إلا هذا السند المتين.وهكذا نجد في الآيتين الأوليين،اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها،هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي،وفي التربية الإسلامية:«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..

«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..نجدهما في أوانهما المناسب،وفي جوهما المناسب حيث يلقيان كل إيقاعاتهما،وكل إيحاءاتهما،في الموعد المناسب وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع ..ويتبين - من هذين النصين التمهيديين - كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها بالتعقيب على الأحداث،وهي ساخنة! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها،وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ولكنها لا تستهدف القلب البشري،والحياة البشرية،بالإحياء والاستجاشة،وبالتربية والتوجيه.كما يستهدفها القرآن الكريم،بمنهجه القويم.[45]

---------------

وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)} [آل عمران:149،150]

يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ إِطَاعَةِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ ،الذِينَ حَاوَلُوا إِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ ضِعَافِ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ :لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيّاً حَقّاً لانْتَصَرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمٌ وَعَلِيهِ يَوْمٌ .( وَهَؤُلاَءِ هُمْ أبُو سُفْيَانُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ) لأَنَّ إِطَاعَتَهُمْ تُورِثُ البَوَارَ فِي الدُّنْيا ،بِخُضُوعِهِمْ لِسُلْطَانِهِمْ ،وَذِلَّتِهِمْ بَيْنَهُمْ ،وَفِي الآخِرَةِ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ العَذَابِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ،وَجَهَنَّمُ بِئْسَ المَصِيرُ وَالمُسْتَقَرُّ .

يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ ،وَمُوَالاَتِهِ ،وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ ،وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ وَحْدَهُ ،لأَنَّهُ خَيْرُ نَاصِرٍ لِعِبَادِهِ المُخْلِصِينَ .أمَّا رُؤُوسُ الكُفْرِ وَالضّلاَلَةِ وَالنِّفَاقِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ،وَلاَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ .[46]

"وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين،فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر،وهم [قصدهم] ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران.

ثم أخبر أنه مولاهم وناصرهم،ففيه إخبار لهم بذلك،وبشارة بأنه سيتولى أمورهم بلطفه،ويعصمهم من أنواع الشرور.

وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد،فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب،وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم،وقد فعل تعالى.

وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" - تشاوروا بينهم،وقالوا:كيف ننصرف،بعد أن قتلنا منهم من قتلنا،وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بذلك،فألقى الله الرعب في قلوبهم،فانصرفوا خائبين،ولا شك أن هذا من أعظم النصر،لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين:إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا،أو يكبتهم فينقلبوا خائبين،وهذا من الثاني.

ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين،فقال:{بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} أي:ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام،التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة،من غير حجة ولا برهان،وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن،فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين،لا يعتمد على ركن وثيق،وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق،هذا حاله في الدنيا،وأما في الآخرة فأشد وأعظم،ولهذا قال:{ومأواهم النار} أي:مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج،{وبئس مثوى الظالمين} بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم."[47]

لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح،ليثبطوا عزائمهم،ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد،ويصوروا لهم مخاوف القتال،وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم ..وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب،وخلخلة الصفوف،وإشاعة عدم الثقة في القيادة والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء وتزيين الانسحاب منها،ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والآلام الفردية وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة،ثم لهدم كيان العقيدة،ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين! ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا.فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة،وليس فيها ربح ولا منفعة.فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر.فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار،ويكافح الباطل والمبطلين،وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين،محافظا على موقفه،ومحتفظا بدينه ..إنه قد يخيل إليه هذا ..يخيل إليه في أعقاب الهزيمة،وتحت وطأة الجرح والقرح،أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم،وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه! وهو وهم كبير.فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء،والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان،لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين،والاستماع إليهم،والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى ..

إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته،وأن يستمع إلى وسوستهم،وأن يطيع توجيهاتهم ..

الهزيمة بادئ ذي بدء.فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية،والارتداد على عقبيه إلى الكفر،ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس ..إن المؤمن يجد في عقيدته،وفي قيادته،غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته.فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب ..حقيقة فطرية وحقيقة واقعية،ينبه الله المؤمنين لها،ويحذرهم إياها،وهو يناديهم باسم الإيمان:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» ..

وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب،من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟

وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم،فهو وهم،يضرب السياق صفحا عنه،ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية:«بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ،وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ».

فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية،ويطلبون عندها النصرة.ومن كان الله مولاه،فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟

ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين،ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم،بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا،ولم يجعل له قوة وقدرة.وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين:«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً.وَمَأْواهُمُ النَّارُ،وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» ..

والوعد من الله الجليل القادر القاهر،بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا،كفيل بنهاية المعركة،وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه ..

وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان.فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم،ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم.ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين.حقيقة الشعور بولاية الله وحده،والثقة المطلقة بهذه الولاية،والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون،وأن الله غالب على أمره،وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه!

والتعامل مع وعد الله هذا،مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه،فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم! إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح.لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة.إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها،لأن الله لم يمنحها سلطانا.

والتعبير:«ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» ذو معنى عميق،وهو يصادفنا في القرآن كثيرا.مرة توصف به الآلهة المدعاة،ومرة توصف به العقائد الزائفة ..وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:

إن أية فكرة،أو عقيدة،أو شخصية،أو منظمة ..إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر.هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من «الحق» أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون،ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون.وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود.وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية،مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش! والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها.وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم ..ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه،وواحدة منها! فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد ..فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل،فهو زائف باطل،مناقض للحق الكامن في بنية الكون.ومن ثم فهو واه هزيل،لا يحمل قوة ولا سلطانا،ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة! وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء،وهم أبدا خوارون ضعفاء وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان ..

وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل ..وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل.ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب،ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ولو كانت له الحشود،وكان للحق القلة،تصديقا لوعد الله الصادق:«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» ..

ذلك في الدنيا.فأما في الآخرة ..فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين.

«وَمَأْواهُمُ النَّارُ.وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ! » ..

وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها.فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها.

ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار،وتركوا وراءهم الغنائم،وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة! ..ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم،وتنازعوا فيما بينهم،وخالفوا عن أمر رسول الله - r - نبيهم وقائدهم ..[48]

--------------

وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)} [النساء]

ألا تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أمْرِ هَؤُلاءِ الذِينَ أُعْطُوا حَظّاً مِنَ الكُتُبِ السَّابِقَةِ كَيْفَ حُرِمُوا هِدَايَتَهَا ،وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا ضِدَّهَا ،فَهُمْ يَخْتَارُونَ الضَّلاَلَةَ لأَنْفُسِهِمْ ،وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا بِهَا طَرِيقَ الحَقِّ القَوِيمِ ،كَمَا ضَلُّوا هُمْ ،وَهُمْ دَائِبُو الكَيْدِ لِيَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا .

وَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلاءِ اليَهُودَ أَعْدَاؤُكُمْ ،وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِهِمْ ،وَهُوَ يُحَذِّرُكُمْ مِنْهُمْ ،وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً لِمَنْ لَجَأَ إلَيْهِ ،وَكَفَى بِهِ نَصِيراً لِمَنِ اسْتَنْصَرَهُ .[49]

هذا ذم لمن {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم،والوقوع في أشراكهم،فأخبر أنهم في أنفسهم {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} أي:يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه.فيؤثرون الضلال على الهدى،والكفر على الإيمان،والشقاء على السعادة،ومع هذا {يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} .

فهم حريصون على إضلالكم غاية الحرص،باذلون جهدهم في ذلك.ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم،بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال،ولهذا قال:{وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} أي:يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم،وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم.{وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم.فولايته تعالى فيها حصول الخير،ونصره فيه زوال الشر.[50]

لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيبا من الكتاب ..الهداية ..فقد آتاهم الله التوراة،على يدي موسى عليه السلام،لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى ..ولكنهم يدعون هذا النصيب.يدعون الهداية.ويشترون الضلالة! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة.فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد.لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر،يستحق التعجيب منه والاستنكار.

ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر.بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين.يريدون أن يضلوا المسلمين ..بشتى الوسائل وشتى الطرق.التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك ..فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون! وفي هذه اللمسة:الأولى،والثانية،تنبيه للمسلمين وتحذير من ألاعيب اليهود وتدبيرهم ..ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى.وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام.فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير ..وكان القرآن يخاطبهم هكذا،عن علم من الله،بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير.ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود،بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين.وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره،إزاء تلك المحاولة:«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ.وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا.وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» ..وهكذا يصرح العداء ويستعلن،بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة ..وتتحدد الخطوط ..[51]

--------------

وقال تعالى:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) } [النساء]

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الحَيَاةَ الدُّنْيا ،وَيَبْذُلَهَا ،وَيَجْعَلَهَا ثَمَناً للآخِرَةِ ،لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَعَزَّ دِينَ اللهِ ،وَجَعَلَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيا .وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَظْفَرْ بِهِ عَدُوُّهُ وَيَقْتُلُهُ ،أَوْ يَظْفَرْ هُوَ بِعَدُوِّهِ ،فَإنَّ اللهَ سَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً مِنْ عِنْدِهِ .

يُحَرِّضُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ ،وَفِي سَبِيلِ إِنْقَاذِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ المَوْجُودِينَ فِي مَكَّةَ ،مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ،المُتَبَرِّمِينَ بِالمَقَامِ فِيهَا ،وَيَقُولُ لَهُمْ :أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِتُقِيمُوا التَّوْحِيدَ ،وَتَنْصُرُوا العَدْلَ وَالحَقَّ ،وَفِي سَبِيلِ إنْقَاذِ إِخْوَانِكُمُ المُسْتَضْعَفِينَ الذِينَ يَسْتَذِلُّهُمُ الطُّغَاةُ الكَفَرَةُ فِي مَكَّةَ ،وَهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ تِلْكَ البَلْدةِ ( القَرْيَةِ ) الظَّالِمِ أّهْلُها ،وَأنْ يُسَخِّرَ لَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ ،وَيُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ .

الذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ،وَنَشْرِ دِينِهِ ،لاَ يَبْتَغُونَ غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ .أمَّا الذِينَ كَفَرُوا ،فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ،الذِينَ يُزَيِّنُ لَهُمُ الكُفْرَ ،وَيُمَنِّيهِمُ النَّصْرَ .وَكَيْدُ الشَّيْطَانِ ضَعيفٌ ،وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَوْلِيَائِهِ .أمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَهُمُ الأَعِزَّةُ ،لأنَّ اللهَ حَامِيهِمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُعِزُّهُمْ ،وَلِذَلِكَ فَعَلَى المُؤْمِنِينَ ،أَوْلِيَاءِ اللهِ ،أنْ لاَ يَخَافُوا أَعْدَاءَهُمُ الكُفَّارَ ،لأنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ .[52]

من لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته،ولا يغلق عنهم أبوابها.بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه،[ص:187] فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها.

وقيل:إن معناه:فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان،الصادقون في إيمانهم {الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي:يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها.

فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء،لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك.

وأما أولئك المتثاقلون،فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا،فيكون هذا نظير قوله تعالى:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا} إلى آخر الآيات.وقوله:{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} وقيل:إن معنى الآية:فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة،فيكون على هذا الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية.

{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله،ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله.{فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} زيادة في إيمانه ودينه،وغنيمة،وثناء حسنا،وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت،ولا أذن سمعت،ولا خطر على قلب بشر.

وهذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله،وأن ذلك قد تعين عليهم،وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه،فقال:{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم،فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك،وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله،ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة.

ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها،فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم،لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار،فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم،فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة،بحيث يكون من باب دفع الأعداء.

وهذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} الذي هو الشيطان.في ضمن ذلك عدة فوائد:

منها:أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله،وإخلاصه ومتابعته.فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه،كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته.

ومنها:أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره،فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل،فأهل الحق أولى بذلك،كما قال تعالى في هذا المعنى:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} الآية.

ومنها:أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق،وهو الحق،والتوكل على الله.فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل،الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة.فلهذا قال تعالى:{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} .

والكيد:سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو،فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف،الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.[53]

فليقاتل في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل.لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة.ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي! إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ولا للاستيلاء على السكان ..لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات،والأسواق للمنتجات أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات! إنه لا يقاتل لمجد شخص.ولا لمجد بيت.ولا لمجد طبقة.ولا لمجد دولة،ولا لمجد أمة،ولا لمجد جنس.إنما يقاتل في سبيل الله.لإعلاء كلمة الله في الأرض.ولتمكين منهجه من تصريف الحياة.ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج،وعدله المطلق «بين الناس» مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها ..في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام ..

وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله،بقصد إعلاء كلمة الله،وتمكين منهجه في الحياة.ثم يقتل ..

يكون شهيدا.وينال مقام الشهداء عند الله ..وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى «شهيدا» ولا ينتظر أجره عند الله،بل عند صاحب الهدف الآخر الذي خرج له ..والذين يصفونه حينئذ بأنه «شهيد» يفترون على الله الكذب ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس.افتراء على الله! فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد ..من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة.ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم في كلتا الحالتين:سواء من يقتل في سبيل الله ومن يغلب في سبيل الله أيضا:«وَمَنْ يُقاتِلْ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ - فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ،فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..

بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم،في كلتا الحالتين.وأن يهوّن عليها ما تخشاه من القتل،وما ترجوه من الغنيمة كذلك! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله.كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا (ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع) فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض.وأين الدنيا من الآخرة؟ وأين غنيمة المال من فضل الله؟ وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه؟!

ثم يلتفت السياق إلى المسلمين.يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها.يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس،وحساسية القلوب تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم وهم يتطلعون إلى الخلاص،ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجا من دار الظلم والعدوان ..يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد،وشرف الغاية،ونبل الهدف،في هذا القتال،الذي يدعوهم أن ينفروا إليه،غير متثاقلين ولا مبطئين.وذلك في أسلوب تحضيضي يستنكر البطء والقعود:«وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ.الَّذِينَ يَقُولُونَ:رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها،وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا،وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً؟ » ..

وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم،وكرامة المؤمن،ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق؟

هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم،والفتنة في دينهم.والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض،لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني،الذي تتبعه كرامة النفس والعرض،وحق المال والأرض! ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف،مشهد مؤثر مثير.لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا - وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة - وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد.وهو وحده يكفي.لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات ..وهو أسلوب عميق الوقع،بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس.

ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن:إن «هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها» التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب،يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها،هي «مكة» وطن المهاجرين،الذين يدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها.ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه!

إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم،وعذبوا في عقيدتهم ..بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم «دار حرب» ..دار حرب،هم لا يدافعون عنها،وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها ..إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته.ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه وأرضه التي يدفع عنها هي «دار الإسلام» التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجا للحياة ..وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي،تنضح به الجاهليات،ولا يعرفه الإسلام.

ثم لمسة نفسية أخرى،لاستنهاض الهمم،واستجاشة العزائم،وإنارة الطريق،وتحديد القيم والغايات والأهداف،التي يعمل لها كل فريق:«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ.فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ.إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» ..

وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق.وفي لحظة ترتسم الأهداف،وتتضح الخطوط.وينقسم الناس إلى فريقين اثنين تحت رايتين متميزتين:«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» ..الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله لتحقيق منهجه،وإقرار شريعته،وإقامة العدل «بين الناس» باسم الله.لا تحت أي عنوان آخر.اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:

والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت،لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله! ويقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته.

ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم،وشتى مناهجهم،وشتى شرائعهم،وشتى طرائقهم،وشتى قيمهم،وشتى موازينهم ...فكلهم أولياء الشيطان.

ويأمر الله الذين آمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:«فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ،إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً».وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة،مسندين ظهورهم إلى ركن شديد.مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله،ليس لأنفسهم منها نصيب،ولا لذواتهم منها حظ.وليست لقومهم،ولا لجنسهم،ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء ..إنما هي لله وحده،ولمنهجه وشريعته.وأنهم يواجهون قوما أهل باطل يقاتلون لتغليب الباطل على الحق.لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله،الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس ..

كذلك يخوضون المعركة،وهم يوقنون أن الله وليهم فيها.وأنهم يواجهون قوما،الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف ..إن كيد الشيطان كان ضعيفا ..

ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين،وتتحدد نهايتها.قبل أن يدخلوها.وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب،ورأى بعينيه النصر فهو واثق من الأجر العظيم.

من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه،انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة.وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال فهي كثيرة مشهورة ..ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب،في أقصر فترة عرفت في التاريخ فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة،على المعسكرات المعادية ..ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء (1).وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين،وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين فأمسوا مهزومين! وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته.فلم يكن الأمر هينا.ولم يكن مجرد كلمة تقال.ولكنه كان جهدا موصولا،لمعالجة شح النفس،وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة ..وفي الدرس بقية من هذا العلاج،وذلك الجهد الموصول.[54]

--------------

وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) } [النساء]

بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ ،ثَنَى بَبَيَانِ حَالِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ ،الذِينَ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ ،وَلاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ ،وَمَا لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ التَّامَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ،فَقَالَ تَعَالَى :إنَّ الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ ،وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ ،وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ المُنْكَرَاتِ ،سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيها الأَنْهَارُ ،وَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ،وَهُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ ،وَاللهُ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مَا وَعَدَ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ ،وَلَيْسَ أحَدٌ أصْدَقَ قَوْلاً مِنَ اللهِ .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :تَخَاصَمَ أَهْلُ الأَدْيَانِ فَقَالَ أَهْلُ التَّورَاةِ :كِتَابُنَا خَيْرُ الكُتُبِ ،وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الأَنْبِيَاءِ .

وَقَالَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ مِثْلَ ذَلِكَ .

وَقَالَ أَهْلُ الإِسْلاَمِ :لاَ دِينَ إلاّ الإِسْلاَمُ ،وَكِتَابُنا نَسَخَ كُلَّ الكُتُبِ ،وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ،وَأُمِرْتُمْ وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بِكِتَابِنَا .فَقَضَى اللهَ تَعَالَى بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ .وَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ فَضْلُ الدِّينِ وَشَرَفُهُ ،وَلاَ نَجَاةُ أَهْلِهِ تَكُونُ بِأنْ يَقُولَ القَائِلُ مِنْهُمْ إنَّ دِينِي أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ ،بَلْ عَلَيهِ أَنْ يَعْمَل بِمَا يَهْدِيهِ إليهِ دِينُهُ ،فَإنَّ الجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى العَمَلِ ،لاَ عَلَى التَّمَنِّي وَالغُرُورِ ،فَلَيْسَ أَمْرُ نَجَاتِكُمْ ،وَلاَ نَجَاةِ أَهْلِ الكِتَابِ ،مَنُوطاً بِالأَمَانِي فِي الدِّينِ ،فَالأَدْيَانُ لَمْ تُشَرَّعْ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي ،وَلاَ تَحْصَلُ فَائِدَتُهَا بِالانْتِسَابِ إِلَيهَا ،دُونَ العَمَلِ بِهَا .فَالعِبْرَةُ بِطَاعَةِ اللهِ ،وَاتِّبَاعِ شَرْعِهِ الذِي جَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الكِرَامِ ،فَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ،مِنْ أَيِّ دِينٍ كَانَ يَجِدْ جَزَاءَهُ ،وَلَنْ يَنْصرَهُ أَحَدٌ مِنْ بَأْسِ اللهِ ،وَلَنْ يُجِيرَهُ أَحَدٌ مِنْ سُوءِ العَذَابِ ،فَعَلَى الصَّادِقِ فِي دِينِهِ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى العَمَلِ بِمَا هَدَاهُ إليهِ كِتَابُه وَرُسُلُهُ .

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَمَلاً صَالِحاً ،وَهُوَ مُطْمَئِنُ القَلْبِ بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ،فَإِنَّ اللهَ يُكَافِئُهُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِإِدْخَالِهِ الجَنَّةَ ،وَلاَ يُنْقِصُهُ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ وَلَوْ كَانَ شَيْئاً بَسِيطاً جِدّاً ( نَقِيراً ) .[55]

أي:{آمَنُوا} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا.{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الناشئة عن الإيمان؟

وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب،الذي على القلب،والذي على اللسان،والذي على بقية الجوارح.كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه،وتكميله للإيمان والعمل الصالح.

ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل،وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته،وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله.

ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله:{سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} فيها ما لا عين رأت،ولا أذن سمعت،ولا خطر على قلب بشر،من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة،والمناظر العجيبة،والأزواج الحسنة،والقصور،والغرف المزخرفة،والأشجار المتدلية،والفواكه المستغربة،والأصوات الشجية،والنعم السابغة،وتزاور الإخوان،وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان،وأعلى من ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه،والعيون برؤيته،والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور،ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور،فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم،وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون،وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات،ولهذا قال:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} .

فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون،ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا،كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه،وكذلك كلام رسوله r لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه.

أي:{لَيْسَ} الأمر والنجاة والتزكية {بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} والأماني:أحاديث النفس المجردة عن العمل،المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها.وهذا عامّ في كل أمر،فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؟!

فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى.

وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف،فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان،لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه،فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وهذا شامل لجميع العاملين،لأن السوء شامل لأي ذنب كان (1) من صغائر الذنوب وكبائرها،وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير،دنيوي أو أخروي.

والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله،فمستقل ومستكثر،فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا.فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم.

ومن كان عمله صالحا،وهو مستقيم في غالب أحواله،وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [بعض] (2) الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب،وهي مما يجزى به على عمله،قيضها الله لطفا بعباده،وبين هذين الحالين مراتب كثيرة.

وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين،فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له،كما دلت على ذلك النصوص.

وقوله:{وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه،فأخبر تعالى بانتفاء ذلك،فليس له ولي يحصل له المطلوب،ولا نصير يدفع عنه المرهوب،إلا ربه ومليكه.

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية،ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن،صغير أو كبير،ذكر أو أنثى.ولهذا قال:{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهذا شرط لجميع الأعمال،لا تكون صالحة ولا تقبل ولا يترتب عليها الثواب ولا يندفع بها العقاب إلا بالإيمان.

فالأعمال بدون الإيمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء بني على موج الماء،فالإيمان هو الأصل والأساس والقاعدة التي يبنى عليه كل شيء،وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل أطلق،فإنه مقيد به.

{فَأُولَئِكَ} أي:الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [ص:206] المشتملة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي:لا قليلا ولا كثيرا مما عملوه من الخير،بل يجدونه كاملا موفرا،مضاعفا أضعافا كثيرة.[56]

-------------

وقال تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) } [النساء]

لاَ يَسْتَكْبِرُ المَسِيحُ ،وَلاَ يَسْتَكْبِرُ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ ،أنْ يَكُونُوا مِنْ عِبَادِ اللهِ ،لأنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ ،وَالذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ ،وَيَرَوْنَ أنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ ،فَإِنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِقَاباً شَدِيداً ،وَيَحْشُرُهُمْ جَميعاً فِي جَهَنَّمَ .

أمَّا الذِينَ آمَنُوا ،وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ ،فَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ ،وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ .وَأمَّا الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ ،وَامْتَنَعُوا عَنْ عِبَادَتِهِ ،فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ،فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ ،وَيُجازِي المُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالعَدْلِ .وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ وَليّاً يَلِي أُمُورَهُمْ وَيُدَبِّرُها ،وَلاَ نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأسِهِ .[57]

لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام،وذكر أنه عبده ورسوله،ذكر هنا أنه لا يستنكف عن عبادة ربه،أي:لا يمتنع عنها رغبة عنها،لا هو {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى،ونفي الشيء فيه إثبات ضده.

أي:فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم،وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم،فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم،[ص:217] فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته،بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار.

ولا يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة كمالا بل هو النقص بعينه،وهو محل الذم والعقاب،ولهذا قال:{وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} أي:فسيحشر الخلق كلهم إليه،المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين،فيحكم بينهم بحكمه العدل،وجزائه الفصل.

ثم فصل حكمه فيهم فقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي:جمعوا بين الإيمان المأمور به،وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات،من حقوق الله وحقوق عباده.

{فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي:الأجور التي رتبها على الأعمال،كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله.

{وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ} من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم،ولم يخطر على قلوبهم.ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب،والمناكح،والمناظر والسرور،ونعيم القلب والروح،ونعيم البدن،بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على الإيمان والعمل الصالح.

{وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} أي:عن عبادة الله تعالى {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو سخط الله وغضبه،والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.

{وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي:لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب،ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب،بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين،وتركهم في عذابهم خالدين،وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.[58]

---------------

وقال تعالى :{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) } [الأنعام]

قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ ،الذِينَ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْكَ الآيَاتِ تَعْجِيزاً لِجَهْلِهْم بِحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ ،وَلِظَنِّهِمْ أنَّ النَّبِيَّ لاَ يَكُونُ نَبِيّاً إلاّ إذَا أَصْبَحَ قَادِراً عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ عَلَيْهِ :إنِّي لاَ أَقُولُ لَكُمْ إنِّي أَمْلِكُ خَزَائِنَ اللهِ ،وَلاَ أَتَصَرَّفُ بِهَا ،وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنَّي أَعْلَمُ غَيْبَ اللهِ ،فَعِلْمُ الغَيْبِ عِنْدَ اللهِ وَحْدَهُ وَلا أَطَّلِعُ مِنْهُ إلاَّ عَلَى مَا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ رَبِّي ،سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،وَلاَ أَدَّعِي أنِّي مَلَكٌ ،إنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوحِي إِليهِ اللهُ ،وَقَدْ شَرَّفَنِي سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ ،وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيَّ ،وَإِنَّنِي أَتَّبِعُ مَا يُوحِيهِ اللهُ إلَيَّ ،وَلاَ أَخْرُجُ عَنْهُ مُطْلَقاً .قُلْ لَهُمْ :هَلْ يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ وَهُدِيَ إلَيهِ ،مَعَ مَنْ ضَلَّ عَنْهُ ،فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ ،وَلَمْ يَنْقَدْ إِلَيهِ؟ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ فِي أنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ؟

وَأَنْذِر بِهذا القُرْآنِ المُؤْمِنِينَ ،الذِينَ يَخَافُونَ أَهْوَالَ الحَشْرِ ،وَشِدَّةَ الحِسَابِ ،لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيُحْشَرونَ إِلَى رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ،وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لاَ شَفِيعَ لَهُمْ عِنْدَهُ ،وَلاَ وَلِيَّ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ ،وَذكِّرْهُمْ بِذلِكَ اليَوْمِ الذِي لاَ حَاكِمَ فِيهِ إِلاّ اللهُ ،لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اللهَ ،وَيَعْلَمُونَ فِي هذِهِ الدَّارِ عَمَلاً يُنْجِيهِمْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ.[59]

قول تعالى لنبيه r،المقترحين (1) عليه الآيات،أو القائلين له:إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله.{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أي:مفاتيح رزقه ورحمته.{وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وإنما ذلك كله عند الله فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده،وهو وحده عالم الغيب والشهادة.فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول.

{وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فأكون نافذ التصرف قويا،فلست أدعي فوق منزلتي،التي أنزلني الله بها.{إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي:هذا غايتي ومنتهى أمري وأعلاه،إن أتبع إلا ما يوحى إلي،فأعمل به في نفسي،وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك.فإذا عرفت منزلتي،فلأي شيء يبحث الباحث معي،أو يطلب مني أمرا لست أدعيه،وهل يلزم الإنسان،بغير ما هو بصدده؟.

ولأي شيء إذا دعوتكم،بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير مرتبتي.وهل هذا إلا ظلم منكم،وعناد،وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق،بين من قبل دعوتي،وانقاد لما أوحي إلي،وبين من لم يكن كذلك {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} فتنزلون الأشياء منازلها،وتختارون ما هو أولى بالاختيار والإيثار؟

هذا القرآن نذارة للخلق كلهم،ولكن إنما ينتفع به {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} فهم متيقنون للانتقال،من هذه الدار،إلى دار القرار،فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدَعُون ما يضرهم.{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} أي:لا من دون الله {وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي:من يتولى أمرهم فيحصّل لهم المطلوب،ويدفع عنهم المحذور،ولا من يشفع لهم،لأن الخلق كلهم،ليس لهم من الأمر شيء.{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الله،بامتثال أوامره،واجتناب نواهيه،فإن الإنذار موجب لذلك،وسبب من أسبابه.[60]

----------------

وقال تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } [الأنعام:]

وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الغَالِبُ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ،وَيُرْسِلُ حَفَظَةً مِنَ المَلائِكَةِ عَلَى العِبَادِ ،يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِمْ لَيْلاً وَنَهَاراً ،يَحْفَظُونَ أَعْمَالَهُمْ ،وَيُحْصُونَهَا ،مَا دَامُوا عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ ،وَلاَ يُفَرِّطُونَ فِي شَيءٍ مِنْهَا ،حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ أَجَلُهُ ،تَوَفَّتْهُ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ المُوكَلُونَ بِذَلِكَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ،وَهُمْ لاَ يُقَصِّرُونَ فِيمَا يُوَكَّلُ إِلَيْهِمْ .

ثُمَّ يُرَدُّ العِبَادُ ،الذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ،إلى اللهِ جَمِيعاً ،يَوْمَ القِيَامَةِ ،وَهُوَ تَعَالَى مَوْلاَهُمُ الحَقُّ ،فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ ،وَهُوَ يَومْئَذٍ صَاحِبُ الحُكْمِ وَالقَوْلِ الفَصْلِ ،وَهُوَ تَعَالَى أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ .[61]

{وَهُوَ} تعالى {الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ينفذ فيهم إرادته الشاملة،ومشيئته العامة،فليسوا يملكون من الأمر شيئا،ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإذنه،ومع ذلك،فقد وكل بالعباد حفظةً من الملائكة،يحفظون العبد ويحفظون عليه ما عمل،كما قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فهذا حفظه لهم في حال الحياة

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي الملائكة الموكلون بقبض الأرواح {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} في ذلك فلا يزيدون ساعة مما قدره الله وقضاه ولا ينقصون ولا ينفذون من ذلك إلا بحسب المراسيم الإلهية والتقادير الربانية {ثُمَّ} بعد الموت والحياة البرزخية وما فيها من الخير والشر {رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أي الذي تولاهم بحكمه القدري فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير ثم تولاهم بأمره ونهيه وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات ويعاقبهم على الشرور والسيئات وَلهذا قال {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} وحده لا شريك له {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} لكمال علمه وحفظه لأعمالهم بما أثبتته في اللوح المحفوظ ثم أثبته ملائكته في الكتاب الذي بأيديهم فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير وهو القاهر فوق عباده وقد اعتنى بهم كل الاعتناء في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري والحكم الشرعي والحكم الجزائي فأين للمشركين العدولُ عن من هذا وصفه ونعته إلى عبادة من ليس له من الأمر شيء ولا عنده مثقال ذرة من النفع ولا له قدرة وإرادة؟

أما والله لو علموا حلم الله عليهم وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه بالشرك والكفران ويتجرءون على عظمته بالإفك والبهتان وهو يعافيهم [ص:260] ويرزقهم لانجذبت دواعيهم إلى معرفته وذهلت عقولهم في حبه ولمقتوا أنفسهم أشد المقت حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب للخزي والخسران ولكنهم قوم لا يعقلون.[62]

------------

وقال تعالى :{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام:126 - 129]

وَدِينُ الإِسْلاَمِ الذِي شَرَعْنَاهُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ ،بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ ،هُوَ صِرَاطُ اللهِ المُسْتَقِيمُ ،وَقَدْ وَضَّحْنَا الآيَاتِ وَبَيَّنَّاهَا ،لِقَوْمٍ يَفْهَمُونَ وَيَعْقِلُونَ وَيَعُونَ .

وَلِهَؤُلاَءِ المُتَّبَعِينَ صِرَاطَ رَبِّهِم المُسْتَقِيمَ الجَنَّةُ ،عِنْدَ رَبِّهِمْ ،يَوْمَ القِيَامَةِ ،وَاللهُ حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ ،فَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ،تَوَلاَّهُمُ اللهُ ،وَأَثَابَهُمُ الجَنَّةَ بِمِنَّهِ وَكَرَمِهِ .

وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ ،فِيمَا تَقُصُّهُ عَلى هَؤُلاَءِ ،وَتُنْذِرُهُمْ بِهِ ،مَا يَجْرِي يَوْمَ القِيَامَةِ ،يَوْمَ يَحْشُرُ اللهُ الجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الإِنْسِ الذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيا ،وَيَعُوذُونَ بِهِمْ ،إذْ يَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ :يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِغْوَاءِ الإِنْسِ وَإِضْلاَلِهِمْ ،فَأَوْرَدْتُمُوهُمُ النَّارَ .وَقَالَ أَوْلِيَاءُ الجِنِّ مِنَ الإِنْسِ يُجِيبُونَ اللهَ تَعَالَى :رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ،بِمَا كَانَ لِلْجِنِّ مِنَ اللذَّةِ فِي إِغْوَائِنا بِالأَبَاطِيلِ ،وَأَهْوَاءِ الأَنْفُسِ وَشَهَوَاتِهَا ،وَبِمَا كَانَ لَنَا فِي طَاعَتِهِمْ وَوَسْوَسَتِهِمْ مِنَ المُتْعَةِ ،وَاتِّبَاعِ الهَوَى ،وَالانْغَمَاسِ فِي اللَّذَّاتِ ،وَبَلَغْنَا ،بَعْدَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِنَا بِبَعْضٍ ،إلَى الأَجَلِ الذِي قَدَّرْتَهُ لَنَا وَهُوَ المَوْتُ ( أَوْ هُوَ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ ) .

فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً :النَّارُ مَثْوَاكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ ،أَنْتُمْ وَأَوْلِيَاؤُكُمْ ،مَاكِثِينَ فِيهَا سَرْمَداً ،إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُنْقِذَهُ ،وَاللهُ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَحُكْمِهِ ،عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ .

وَكَمَا جَعَلْنَا هَؤُلاَءِ الخَاسِرِينَ مِنَ الإِنْسِ أَنْصَاراً وَأَوْلِياءَ لِتِلْكَ الطَّائِفَةِ التِي أَغْوَتْهُمْ مِنَ الجِنِّ ،كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالظَّالِمِينَ ،نُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ،وَنُهْلِكُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ،وَنَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ،جَزَاءً لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ .[63]

-------------

وقال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) } [الأعراف:154،155]

وَلَمَّا سَكَنَ غَضَبُ مُوسَى باعتِذارِ أخيهِ إِليهِ ،وَبَعْدَ أَنْ لَجأَ إِلَى اللهِ بالدُّعَاءِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ وَلأخِيهِ خَطَايَاهُمَا ،عَادَ إِلى الألوَاحِ فَأَخَذَهَا ،بَعْدَ أَنْ كَانَ أَلْقَاهَا مِنْ شِدَّةِ الغَضَبِ ،فَوَجَدَ فِيهَا أَحْكَاماً وأوامِرَ وَنَوَاهِيَ ،إِذا أَخَذَ بِهَا الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ،رَحِمَهُمُ اللهُ .( أَوْ أَنَّها هُدًى وَرَحْمَةٌ لِمَنْ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) .

أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى ،عَلَيهِ السَّلاَمُ ،بِأَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ،يَعْتَذِرُونَ إِليهِ عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ ،وَوَاعَدَهُمْ مَوْعِداً .فَاخْتَارَ مُوسَى سَبْعِينَ رَجُلاً مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدُوا العِجْلَ ،وَذَهَبَ مَعَهُمْ .فَلَمَّا أَتَوُا المَكَانَ المَوْعُودَ ،قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى :يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ عِيَاناً وَجَهْرَةً ،فَأَنْتَ كَلَّمَتُهُ فَاجْعَلْنَا نَرَاهُ .فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فَمَاتُوا ،كَمَا جَاءَ فِي آيةِ أُخْرَى ،فَقَامَ مُوسَى يَبْكِي وَيَدْعُو اللهَ تَعَالى وَيَقُولُ :يَا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إِلى المِيقَاتِ وَأَهْلَكْتَنِي مَعَهُمْ ،لِيَرَى ذلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلاَ يَتَّهِمُونِي بِقَتْلِهِمْ ،فَلاَ تُهْلِكُنَا يَا رَبِّ بِمَا فَعَلَهُ الجُهَّالُ مِنَّا ،فَمَا مِحْنَةُ عِبَادَةِ العِجْلِ إِلاَّ ابْتِلاءٌ مِنْكَ وَفِتْنَةٌ أَضْلَلْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ إِضْلاَلَهُ مِمَّنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الغوَايةِ ،وَهَدَيْتَ بِهَا مَنْ شِئْتَ هِدَايَتَهُ ،وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ ،فَاغْفِرْ لَنَا وَلاَ تُؤَاخِذْنَا بِذُنُوبِنَا ،وَارْحَمْنَا لِكَيلاَ نَقَعَ فِي مِثْلِ ذلِكَ فِي المُسْتَقْبَلِ ،وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ الغَافِرِينَ .[64]

--------------

وقال تعالى:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) } [الأعراف]

إِنَّ اللهَ حَسْبِي ،وَهُوَ مُتَوَلِّي أَمْرِي وَنَاصِرِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ،وَهُوَ يَتَولَّى نَصْرَ كُلِّ صَالِحٍ مِنْ عِبَادِهِ ،وَهُوَ الذِي نَزَّل القُرْآنَ بِالحَقِّ عَلَيَّ ( الكِتَابَ ) .

وَالأَصْنَامُ التِي تَدْعُونَها مِنْ دُونِ اللهِ لاَ تَسْتَطِيعُ نَصْرَكُم إِذا سَألْتُمُوها النَّصْرَ وَالنَّجْدَةَ ،وَلاَ تَسْتَطِيعُ نَصْرَ نَفْسِها إذَا اعْتَدَى عَلَيهَا أَحَدٌ .

وَإِنْ تَدْعُوا الأَصْنَامَ ،التِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ ،إِلَى أَنْ يَهْدُوكُمْ إلَى مَا تُحَصِّلُونَ بِهِ مَقَاصِدَكُمْ وَتَنْتَصِرُونَ بِهِ ،لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ،لأَنَّهُمْ حِجَارَةٌ لَهُمْ عُيُونٌ تَنْظُرُ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُ ،وَلِذَلِكَ فَإنَّهمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَدِّ يَدِ العَوْنِ لأحَدٍ .[65]

{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} الذي يتولاني فيجلب لي المنافع ويدفع عني المضار.

{الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ} الذي فيه الهدى والشفاء والنور،وهو من توليته وتربيته لعباده الخاصة الدينية.{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم،كما قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالمؤمنون الصالحون - لما تولوا ربهم بالإيمان والتقوى،ولم يتولوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر - تولاهم الله ولطف بهم وأعانهم على ما فيه الخير والمصلحة لهم،في دينهم ودنياهم،ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه،كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} .

وهذا أيضا في بيان عدم استحقاق هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله لشيء من العبادة،لأنها ليس لها استطاعة ولا اقتدار في نصر أنفسهم،ولا في نصر عابديها،وليس لها قوة العقل والاستجابة.

فلو دعوتها إلى الهدى لم تهتد،وهي صور لا حياة فيها،فتراهم ينظرون إليك،وهم لا يبصرون حقيقة،لأنهم صوروها على صور الحيوانات من الآدميين أو غيرهم،وجعلوا لها أبصارا وأعضاء،فإذا رأيتها قلت:هذه حية،فإذا تأملتها عرفت أنها جمادات لا حراك بها،ولا حياة،فبأي رأي اتخذها المشركون آلهة مع الله؟ ولأي مصلحة أو نفع عكفوا عندها وتقربوا لها بأنواع العبادات؟

فإذا عرف هذا،عرف أن المشركين وآلهتهم التي عبدوها،لو اجتمعوا،وأرادوا أن يكيدوا من تولاه فاطر الأرض والسماوات،متولي أحوال عباده الصالحين،لم يقدروا على كيده بمثقال ذرة من الشر،لكمال عجزهم وعجزها،وكمال قوة الله واقتداره،وقوة من احتمى بجلاله وتوكل عليه.

وقيل:إن معنى قوله {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أن الضمير يعود إلى المشركين المكذبين لرسول الله r،فتحسبهم ينظرون إليك يا رسول الله نظر اعتبار يتبين به الصادق من الكاذب،ولكنهم لا يبصرون حقيقتك وما يتوسمه المتوسمون فيك من الجمال والكمال والصدق.[66]

إنها كلمة صاحب الدعوة،في وجه الجاهلية ..ولقد قالها رسول الله - r - كما أمره ربه وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة:«قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» ..لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي ..وقال لهم:ألا يألوا جهدا في جمع كيدهم وكيد آلهتهم بلا إمهال ولا إنظار! وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه.ويحتمي به من كيدهم جميعا:«إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ،الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ،وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..فأعلن بها عمن إليه يرتكن.إنه يرتكن إلى الله ..الذي نزل الكتاب ..فدل بتنزيله على إرادته - سبحانه - في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين ..وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه.

وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله - بعد رسول الله - r - في كل مكان وفي كل زمان:«قُلِ:ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» ..«إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ».

إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض ..

إنها في ذاتها واهية واهنة،مهما بدت قوية قادرة:«يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ:إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ،وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ! » ..«مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً،وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ! » ..

وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله.فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن؟ وماذا تساوي في حسه حتى لو قدرت على أذاه؟! إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاه.لا عجزا من ربه عن حمايته من أذاها - سبحانه وتعالى! - ولا تخليا منه سبحانه عن نصرة أوليائه ..ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب.واستدراجا لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين!

في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:1900)

ان ما يعرفه التاريخ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله.وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون.وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين،الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع،وبعزمة في الله لا تلين! إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئا إلا بمثل هذه الثقة،وإلا بمثل هذه العزمة،وإلا بمثل ذلك اليقين:«إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..

لقد أمر رسول الله - r - أن يتحدى المشركين.فتحداهم.وأمر أن يبين لهم عجز آلهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم:«وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» ..«وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا،وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»

وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة ..فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة ..

إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرض! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون.حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم.

وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع،وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر ..الوطن.والقوم.والإنتاج.والآلة.وحتمية التاريخ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة! والذي يبصر منها ويسمع - وهي الآلهة المدعاة من البشر،التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم - هي كذلك لا تسمع ولا تبصر ..هي من الذين يقول الله فيهم:«وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ،لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها،وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها،وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ..أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ،أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ»! إن صاحب الدعوة إلى الله،إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة ..وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه - r - أن يقول:«قُلِ:ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ.إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ.وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ..فإنما هم هم ..في كل أرض وفي كل حين!!![67]

----------------

2-وجوب موالاة الله ورسوله والمؤمنين

 

قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  ( 54)  إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ  ( 55)  وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ  ( 56)}  المائدة

يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَيَقُولُ إنَّ الذِينَ يَرْتَدَّونَ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الإيِمَانِ إلى الكُفْرِ ،وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ ،وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ ،فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِمْ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ،وَأَشَدُّ مَنَعَةً ،وَأَقْوَمُ سَبِيلاً ،يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ،يَتَّصِفُونَ بِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ وَهِيَ :العِزَّةُ عَلَى الكَافِرِينَ ،وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاضُعُ مَعَ المُؤْمِنِينَ ،يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ،وَلاَ يَرُدُّهُمْ رَادٌّ عَنْ إذاعَةِ أَمْرِ اللهِ ،وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ ،وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ ،يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ،وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ .وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاِت كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ كَبِيراً ،وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ ،عَلِيمٌ بِمَنْ يِسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَيُعْطِيهِ ،مِمَّنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ فَيَحْرِمُهُ إيَّاهُ .

يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ،الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ،وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ،وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ .

وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ،وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ،لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ،وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ،وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَالاَّهُمُ اللهُ .[68]

وقال الطبري:" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] أَيْ " صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ , وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ r {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54] يَقُولُ:" مَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ , فَيُبَدِّلُهُ وَيُغَيِّرُهُ بِدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ , إِمَّا فِي الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ , فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا , وَسَيَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،يَقُولُ:فَسَوْفَ يَجِيءُ اللَّهُ بَدَلًا مِنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا وَلَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يَرْتَدُّوا , بِقَوْمٍ خَيْرٍ مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ , يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَ اللَّهَ.وَكَانَ هَذَا الْوَعِيدُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ r , وَكَذَلِكَ وَعْدُهُ مَنْ وَعَدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا وَعَدَهُ فِي هَذهِ الْآيَةِ , لِمَنْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُبَدُّلُ وَلَا يُغَيِّرُ دِينَهُ وَلَا يَرْتَدُّ.فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ r ارْتَدَّ أَقْوَامٌ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدَرِ , فَأَبْدَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ , وَوَفَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَعْدِهِ , وَأَنْفَذَ فِيمَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ وَعِيدَهُ.

ثم قال بعد ذكر روايات عديدة حول المقصود بالقوم :"وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ , مَا رُوِيَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.وَلَوْلَا الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ مَا كَانَ الْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ إِلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ:هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ،وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ قَوْمًا كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r ثُمَّ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ كُفَّارًا , غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهَ مِمَّنْ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ مَعَهَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ r , وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r , أَنْ كَانَ r مَعْدِنَ الْبَيَانِ عَنْ تَأْوِيلِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ وَآيِ كِتَابِهِ.فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ:فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِهِمْ عِنْدَ ارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r , هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ , فَهَلْ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ أَيَّامَ قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ أَعْوَانَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِهِمْ , حَتَّى تَسْتَجِيزَ أَنْ تُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى مَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ؟ أَمْ لَمْ يَكُونُوا أَعْوَانًا لَهُ عَلَيْهِمْ , فَكَيْفَ اسْتَجَزْتَ أَنْ تُوَجِّهَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ إِلَى ذَلِكَ , وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا خُلْفَ لِوَعْدِ اللَّهِ؟ قِيلَ لَهُ:إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَعِدِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُبْدِلَهُمْ بِالْمُرْتَدِّينَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ خَيْرًا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ لِقِتَالِ الْمُرْتَدِّينَ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَأْتِيهِمْ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ , يَعِدُ فِعْلَ ذَلِكَ بِهِمْ قَرِيبًا غَيْرَ بَعِيدٍ , فَجَاءَ بِهِمْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ , فَكَانَ مَوْقِعُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ , وَكَانُوا أَعْوَانَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنْفَعَ لَهُمْ مِمَّنْ كَانَ ارْتَدَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ r مِنْ طِغَامِ الْأَعْرَابِ وَجُفَاةِ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ كَانُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَلَا لَا نَفْعًا."[69]

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ:إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَيْسَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ نَاصِرٌ إِلَّا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنُونَ , الَّذِينَ صِفَتُهُمْ مَا ذَكَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ.فَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَبَرَّءُوا مِنْ وَلَايَتِهِمْ وَنَهَاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ , فَلَيْسُوا لَكُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَا نُصَرَاءَ , بَلْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ , وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.وَقِيلَ:إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي تَبَرُّئِهِ مِنْ وَلَايَةِ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَحِلْفِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَالْمُؤْمِنِينَ ،فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ , قَالَ:لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعٍ رَسُولَ اللَّهِ r , مَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r , وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ , فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ , وَتَبْرَأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ , وَقَالَ:أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ الْكُفَّارِ وَوَلَايَتِهِمْ.فَفِيهِ نَزَلَتْ:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] لِقَوْلِ عُبَادَةَ:أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا , وَتَبَرُّئِهِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَوَلَايَتِهِمْ.الَى قَوْلِهِ:{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] "  "[70]

وقال أيضاً :" الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ [ص:532] الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ جَمِيعًا , الَّذِينَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْيَهُودِ وَحِلْفِهِمْ رِضًا بِوَلَايَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَالَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِهِمْ , وَخَافُوا دَوَائِرَ السُّوءِ تَدُورُ عَلَيْهِمْ , فَسَارَعُوا إِلَى مُوَالَاتِهِمْ , بِأَنَّ مَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ وَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ , لَهُمُ الْغَلَبَةُ وَالدَّوَائِرُ وَالدَّوْلَةُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ وَحَادَّهُمْ , لِأَنَّهُمْ حِزْبُ اللَّهِ , وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ دُونَ حِزْبِ الشَّيْطَانِ.فعَنِ السُّدِّيِّ , قَالَ:أَخْبَرَهُمْ يَعْنِي الرَّبَّ , تَعَالَى ذِكْرُهُ مَنِ الْغَالِبُ , فَقَالَ:لَا تَخَافُوا الدَّوْلَةَ وَلَا الدَّائِرَةَ , فَقَالَ:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] وَالْحِزْبُ:هُمُ الْأَنْصَارُ " وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ:{فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} [المائدة:56] فَإِنَّ أَنْصَارَ اللَّهِ.."[71]

وقال الطاهر بن عاشور :"جُمْلَةُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَى آخِرِهَا مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْمَائِدَة:51] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ- إِلَى قَوْلِهِ- فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ [الْمَائِدَة:52،53] .وَقَعَتْ جُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [الْمَائِدَة:54] بَيْنَ الْآيَاتِ مُعْتَرِضَةً،ثُمَّ اتَّصَلَ الْكَلَامُ بِجُمْلَةِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ،لِأَنَّ وَلَايَتَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَهُمْ فَمَنْ كَانَ اللَّهُ وَلَيَّهُ لَا تَكُونُ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَوْلِيَاءَهُ.وَتُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنْ وَلَايَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.وَفِيهِ تَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِطَرِيقَةِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ أَوِ النَّهْيِ بِالْأَمْرِ بِضِدِّهِ،لِأَنَّ قَوْلَهُ:إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْوَلَايَةِ وَدَوَامِهَا،فَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ،وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرُ صِفَةٍ عَلَى مَوْصُوفٍ قَصْرًا حَقِيقِيًّا.

وَمَعْنَى كَوْنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ،كَقَوْلِهِ تَعَالَى:وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَة:71] .وَإِجْرَاءُ صِفَتَيْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ،وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ راكِعُونَ.وَقَوْلُهُ:وَهُمْ راكِعُونَ مَعْطُوف على الصّفة.وَظَاهِرُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا عَيْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ:يُقِيمُونَ الصَّلاةَ،إِذِ الْمُرَادُ بِ راكِعُونَ مُصَلُّونَ لَا آتُونَ بِالْجُزْءِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّى بِالرُّكُوعِ.فَوُجِّهَ هَذَا الْعَطْفُ:إِمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ النَّوَافِلِ،أَيِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الْمَفْرُوضَةَ وَيَتَقَرَّبُونَ بِالنَّوَافِلِ وَإِمَّا الْمُرَادُ بِهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ،أَيِ الَّذِينَ يُدِيمُونَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ.وَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ مُبَادَرَةً بِالتَّنْوِيهِ بِالزَّكَاةِ،كَمَا هُوَ دَأْبُ الْقُرْآنِ.وَهُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذْ قَالَ:«لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ» .ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ،وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْجُمْلَةُ حَالًا.وَيُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُشُوعُ."[72]

قوله تعالى:«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» ..هو دعوة للمؤمنين جميعا،من دخل فى الإسلام،ومن لم يدخل بعد،أن تكون ولايتهم ونصحهم لله ولرسوله وللمؤمنين..

وفى قوله تعالى:«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» هو صفة للمؤمنين الذين يطمئن إليهم المؤمن،ويعطيهم ولاءه ونصحه،ومحبته.

وفى هذا تحذير للمؤمنين أن ينخدعوا لمن آمن بلسانه،ولم يدخل الإيمان قلبه..

ومن آثار الإيمان بالقلب أن يقيم المؤمن الصلاة،وأن يؤتى الزكاة..

يقيم الصلاة خاشعا،ويؤدى الزكاة راضيا،وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَهُمْ راكِعُونَ» أي خاشعون،فى غير رياء،أو استعلاء..لأنهم فى صلاتهم وزكاتهم على عبادة لله،وفى حضور بين يديه،فينبغى أن يعطوا هذا المقام حقّه من الخشوع لله،والخضوع بين يديه،حتى يكونوا فى معرض القبول من الله،لصلاتهم وزكاتهم.

قوله تعالى:«وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» بيان لما تثمره الموالاة لله ورسوله والمؤمنين،فإن من يوالى الله يكون من حزب الله،ومن كان فى حزب الله فهو من الفائزين،لأنه فى ضمان الله،وفى جنده الذين لا يغلب أبدا..«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21:المجادلة) .[73]

وقال السعدي :" يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين،وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا،وإنما يضر نفسه.وأن لله عبادا مخلصين،ورجالا صادقين،قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم،ووعد بالإتيان بهم،وأنهم أكمل الخلق أوصافا،وأقواهم نفوسا،وأحسنهم أخلاقا،أجلُّ صفاتهم أن الله {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه،وأفضل فضيلة،تفضل الله بها عليه،وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب،وهون عليه كل عسير،ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات،وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.

ومن لوازم محبة العبد لربه،أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول r ظاهرا وباطنا،في أقواله وأعماله وجميع أحواله،كما قال تعالى:{قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .

كما أن من لازم محبة الله للعبد،أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل،كما قال النبي r في الحديث الصحيح عن الله:"وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه،ولا يزال [عبدي] يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه،فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به،وبصره الذي يبصر به،ويده التي يبطش بها،ورجله التي يمشي بها،ولئن سألني لأعطينه،ولئن استعاذني لأعيذنه".

ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى،والإكثار من ذكره،فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا،بل غير موجودة وإن وجدت دعواها،ومن أحب الله أكثر من ذكره،وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل،وغفر له الكثير من الزلل.

ومن صفاتهم أنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم،ونصحهم لهم،ولينهم ورفقهم ورأفتهم،ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم،وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله،المعاندين لآياته،المكذبين لرسله - أعزة،قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم،وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم،قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وقال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله،ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم،ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن.فتجتمع الغلظة عليهم،واللين في دعوتهم،وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.

{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأموالهم وأنفسهم،بأقوالهم وأفعالهم.{وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين،وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم،فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة،تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين،وتفتر قوته عند عذل العاذلين.وفي قلوبهم تعبد لغير الله،بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله،فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله،حتى لا يخاف في الله لومة لائم.

ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة والمناقب العالية،المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير -أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم،وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله،وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب،فقال:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي:واسع الفضل والإحسان،جزيل المنن،قد عمت رحمته كل شيء،ويوسع على أوليائه من فضله،ما لا يكون لغيرهم،ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه،فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.

لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم،وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين،أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه،وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى.فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا،ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله،ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه،وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا،وأخلصوا للمعبود،بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها،وأحسنوا للخلق،وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم.

وقوله:{وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي:خاضعون لله ذليلون.فأداة الحصر في قوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين،والتبري من ولاية غيرهم.ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال:{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} أي:فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية،وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة،كما قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} .وهذه بشارة عظيمة،لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده،أن له الغلبة،وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى،فآخر أمره الغلبة والانتصار،ومن أصدق من الله قيلا."[74]

وقال الشعراوي :" وحين نهانا الحق عن أن نتخذ اليهود والنصارى أولياء فعلينا أن نأخذ بالقياس أن النهي إنما يشمل كل خصوم ديننا،فلا نتخذ أيّاً من أعداء الدين وليّاً لنا،لأنه سبحانه وتعالى لم يتركنا بغير ولاية،وهو وليّنا وكذلك الرسول r َ والذين آمنوا.

إذا أردنا المقارنة بين ولاية الله،وولاية أعداء الله فلنعرف أن كل عدو لله له قدرة محدودة لأنه من البشر،أما ولاية الله لنا فلها مطلق القدرة.وأي عدو له قد يتظاهر لنا بالولاية نفاقا.أما ولاية الله لنا فلا نفاق فيها لأنه لا قوة أعلى منه.وإن كان الحق قد منعنا أن نتخذ من أعدائه أولياء فذلك ليحررنا من الولاية المحدودة ليعطينا الولاية التي لا تتغير وهي ولايته سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وهكذا يكون التعويض في الولاية أكبر من كل تصور.وساعة نرى «إنما» فلنعرف أن هناك ما نسميه «القصر» أو «الحصر» .

مثال ذلك نقول:«إنما الكريم زيد» :كأن القائل قد استقرأ آراء الناس ولم يجد كريماً إلا زيداً،وكأنه يقول:«زيد كريم وغير زيد ليس بكريم» واختصر الجملتين في جملة واحده بقوله:«إنما الكريم زيد» وأثبت بهذا القول الكرم لزيد ونفاه عن غيره.أما إن قال القائل:«زيد كريم» فهذا القول لا يمنع أن يكون غيره من الكرماء.

إن الحق سبحانه يحصر الولاية في قوله:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وهو قد نهانا من قبل عن ولاية أهل الكتاب،وعن ولاية كل من لا توجد عنده مودة أو محبة تعين المؤمن على مهمته الإيمانية.فلو كان عند أحد من أهل الكتاب أو الملاحدة محبّة ومودّة تُعين المؤمن على أداء مهمته لما بقي هذا الإنسان على منهجه المحرّف أو على إلحاده،بل إن ذلك سيجعله يذهب إلى الإيمان برسالة الإسلام.

إننا نجد بقاء الكافر على كفره أو إلحاده أو عدم إيمانه برسالة محمد r َ دليلا على أنه لم يستطع الوصول إلى الهداية أو أنه - إن كان من أهل الكتاب - لم يستطع أن يكون مأموناً على الكتاب الذي نزل إلى نبيّه وفيه البشارة بمحمد r َ فكيف - إذن - يعين إنسان مثل هذا إنساناً مسلماً؟ .إنه لا يستطيع أن يعين ولا أن يوالي ولا أن يكون على هداية،لأنه لم يستطع أن يهدي نفسه.ولذلك قال r َ:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم،قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم» .

لأن الذي لا يستطيع أن يهدي نفسه لن يستطيع هداية غيره.

وحين نهانا النبي r َ عن سؤال أهل الكتاب كان يعلم أنهم في ريب من أنفسهم،وفي ضلال وخلط،فهم إما يخلطون الحق بالباطل،وإما في غيظ من الذين آمنوا،لذلك نهانا رسول الله r َ أن نسألهم،وهذا هو الاحتياط للدين،فقد يسألهم المؤمن سؤالاً،فيجيبون بصدق،فيكذبهم المسلم،وقد يجيبون بكذب فيصدقهم المسلم،لذلك لا يصح ولا يستقيم أن يسألهم المسلم أبداً عن شيء،لأنه عرضة لأمر من اثنين:إما أن يصدق بباطل،وإما أن يكذب بحق.وأهل الكتاب أنفسهم قد تضاربوا،ألم يقل الحق على ألسنتهم:{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} [البقرة:113] .

وكذلك قالت النصارى:{لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة:113] .

إذن فأي الموقفين نصدق؟ أنصدق رأي اليهود في النصارى؟ أم نصدق رأي النصارى في اليهود؟ ولا نستطيع أن نكذب رأي اليهود في النصارى،ولا نستطيع أن نكذب رأي النصارى في اليهود،إذن فحين يقول الحق سبحانه:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} فعلينا أن نفهم أنه سبحانه وتعالى ما دام قد نهاكم عن أن تتخذوا أولياء من دون الله فلن يترككم أيها المؤمنون دون ولي.بل متعكم فقط من ولاية من لا يمكن صادقاً في معونتكم ولا في نصرتكم.

لقد أراد سبحانه أن يكون هو بطلاقة قدرته وليكم،ورسول الله أيضاً وليكم،وكذلك الذين آمنوا.ونجد من يقول:الحق هنا قد عدد الولاية فيه سبحانه وتعالى وفي الرسول r َ وفي المؤمنين،لماذا لم يقل - إذن -:أولياؤكم هم الله والرسول والذين آمنوا؟

ونقول:هل كانت للرسول ولاية منفصلة عن ولاية الله والمؤمنين؟ وهل كانت للمؤمنين ولاية منفصلة عن ولاية الله والرسول؟ لا،لأن الولاية كلها منصبة لله،فلم يعزل الحق الرسول عن ربه،ولا عزل المؤمنين عن الرسول r َ،ولم يقسم الولاية إلى أجزاء،بل كلها ولاية واحدة وأمر واحد،ونلحظ أن الخطاب في «كاف الخطاب» هو للجمع:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} ،و «كاف» الخطاب هنا تضم المؤمنين ومعهم رسول الله r َ،فالله سبحانه وتعالى ولي الرسول وولي المؤمنين،والرسول ولي المؤمنين،وجاء في المؤمنين قول الحق:{والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] .

كم درجة من الولاية هنا إذن؟ الله ولي الرسول وولي المؤمنين.ذلك أن سبحانه شاء بفضله ألا يعزل الولاية أو يقسمها بل جعلها ولاية واحدة،والرسول r َ ولي المؤمنين،والمؤمنون بعضهم أولياء بعض،لذلك نجد أن كل مؤمن مطلوب منه معونة ونصرة أخيه المؤمن.

إن الإنسان - كما نعلم - ابن أغيار،وما دام الإنسان ابناً للأغيار فعلينا أن نعرف أن المؤمنين لن يظلوا كلهم في حالة توجيه النصيحة.ولن يظلوا جميعهم في حالة تلقٍ للنصيحة.وكل واحد منهم يكون مرة ناصحاً ومرة يكون منصوحاً،فساعة يصيب الضعف مؤمناً في جزء من المنهج يجد أخاه المؤمن قد هبّ لنصحه ليعتدل.وساعة يصيب الضعف الناصح في جزء من منهجه فالمنصوح السابق يهب لنصح أخيه ليعتدل.والذي خلق الخلق وهو أعلم بهم،ويعلم كيف تستوعب الأغيار الخلق،وكيف أن كل إنسان له خواطره وله ظنونه وله مواقف ضعف وله مواقف قوة.إنه - سبحانه - لم يطلب من الناس أن يوصوا بالخير فحسب ولكنه قال:{وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر:3] .

لماذا إذن التواصي بالحق؟،لأن سبل الحق شاقة،ولأن أصحاب الحق يلاقون المتاعب من أصحاب الباطل،لذلك لا بد أن يؤازر أصحاب الحق بعضهم بعضاً فيقول الإنسان من أهل الحق لأخيه ما يساعده على التمسك بما هو أعز من الراحة والصحة والمال.ولا بد أن نجعل الحق واضحاً في حياتنا وسلوكنا،وأن يتذاكر أهل الحق بما حدث لغيرهم وكيف صبروا،هكذا يكون التواصي بين المؤمنين.

وتلك هي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض:{والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} .

إذن فقوله الحق:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} هو ما يسمونه في اللغة «أسلوب الحصر» ،أي لا ولي لكم غير الله.وحين يُرَدّ الإنسان من الولاية المحدودة القدرة ويجعل العوض له في غير محدود القدرة فذلك كسب كبير للعبد،ولذلك يقول r َ:«من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة،ومَن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة،والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .

كيف تكون أنت أيها العبد في عون أخيك؟ يتحقق لك ذلك عن طريق أن تقدم لأخيك المؤمن المعونة والنصرة والمؤازرة والتواصى.وتقدم لأخيك من وقتك وطاقتك وقدرتك ومالك ما يعينه.وإياك أن تحسب المسألة بأنك كنت تستطيع أن تفعل كذا وكذا في الوقت الذي أعطيته لأخيك المؤمن،بل يجب أن تحسبها بأن الله هو الذي أعطاك الوقت والمال والجهد وأنت لا تفعل شيئاً بقدرتك أنت،وأن قدرتك المحدودة عندما تعطي بعضها منها لأخيك فأنت تصل قوتك المحدودة بصاحب القوة غير المحدودة وهو الله.وبذلك يكون الله في عونك وتكون أنت الأكثر كسباً.فمن يرد الله بجانبه فلا بد أن يكون مع الخلق دائماً بالمعونة،وبهذا السلوك يرتقي المؤمن إلى أعلى درجات الذكاء.

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} وسبحانه يريد أن يبين لنا مميزات أصحاب الإيمان،لأننا حين نتعرف على شعب الإيمان وصفاته الجميلة إنما نميز بهذه الصفات المؤمنين من غيرهم.

وإقامة الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله،لأن الصلاة هي الصلة المتجددة بإعلان الولاء لله خمس مرات في كل يوم.والنبي r َ قال:«بُني الإسلام على خمس،شهادة أن لا إله إلا الله،وأن محمداً رسول الله،وإقام الصلاة،وإيتاء الزكاة،وصوم رمضان،وحج البيت» .

وهذه الأركان الخمسة هي الدعائم والأسس التي تقام عليها عمارة الإسلام.وأي بيت لا يقوم بالأسس وحدها،ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة وعشرات الفضائل والمطلوبات غير الأسس،وإذا ما راجع كل واحد منا علاقته بأسس الإسلام فلسوف يجد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر،ومن بعد ذلك يقيم الصلاة.ثم يؤتي الزكاة،لكن إن كان فقيراً فهو معفىً من أداء الزكاة.وحتى الذي يؤدي الزكاة فيؤديها في وقت واحد في السنة.ومن بعد ذلك يصوم رمضان.لكن المريض أو المسافر أو الذي له عذر فهو يفطر ويقضي الصوم،ويفدي عن الصيام المريض الذي لا يرجى شفاؤه والعجوز الذي تصيبه بالصوم مشقة شديدة.ومن يحج البيت يفعل ذلك مرة واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

هذه هي أركان الإسلام،وفيها إعفاءات كثيرة للمسلم.اللهم إلا الصلاة فهي أساس يتكرر ولذلك يقول r َ:«رأس الأمر كله الإسلام وعموده الصلاة» .

ويقول r َ:«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» .

ويقول r َ:«إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة،فمن تركها فقد كفر» .

لذلك لا تسقط أبداً،فنحن نصلي ونحن قيام،ونصلي ونحن قعود،ونصلي على جنوبنا.ونصلي ونحن غير قادرين على أية حركة،نصلي بالإيماء.ومن لا يقدر على هز رأسه بحركات الصلاة في أثناء المرض الشديد فهو يصلي بعينيه.ومن أصابه - والعياذ بالله - شلل جعله لا يقدر على تحريك جفنيه بحركات الصلاة فهو يصلي بالخواطر وبالوعي أي يجري أركان الصلاة على قلبه.أما من ذهب عنه الوعي فقد سقطت عنه الصلاة.

ولذلك يقول الحق:{والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة} ويقول بعد ذلك:{وَيُؤْتُونَ الزكاة} ،لإن إيتاء الزكاة معناه تقوية أثر حركتك لغيرك وتعدية أثر هذه الحركة للضعيف عنك،وحينما تزكي إنما تعطي مالاً،والمال هو ناتج من أثر حركتك في الوجود،وعطاؤك من مالك بالزكاة يدل أيضاً على الإيمان.ثم يذيل الحق الآية بقوله:{وَهُمْ رَاكِعُونَ} .وهل الركوع هنا بمعنى الركوع في الصلاة؟ أو بمعنى الخضوع لكل تكاليف منهج الله؟ أو أنها نزلت هنا في مناسبة خاصة لحالة خاصة؟

هنالك رواية تقول:إن عبد الله بن سلام جاء إلى رسول الله r َ وقال:إن قوماً من قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل.

وشكا عبد الله مما يلقاه من اليهود،فنزلت تلك الآية:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] .فقال ابن سلام:رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء....

ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{وَمَن يَتَوَلَّ الله ...} ونلحظ أن الحق أوضح في الآية السابقة:إن الله هو المولى،وهنا تكون أنت أيها العبد المؤمن من الذين يتولاهم الله،تماماً مثل قوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .

وحين يكون الله في معونتك فهو يعطيك من قدرته غير المحدودة فكيف تتولى أنت الله؟ ويكون القول الحاسم في هذا الأمر هو قول الحق:{إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] .

والحق في الآية التي نحن بصددها جاء بالمقابل لما جاء في الآية السابقة عليها فهو القائل من قبل:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} .

وفي هذه الآية يأتي بالمقابل.فيقول سبحانه:{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة:56] .

هذه المقابلة توضح لنا كيف ينصر الله العبد،وكيف ينتصر العبدلله.ولم يقل سبحانه في وصف من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا:إنهم الغالبون فقط،ولكنه أورد هذه الغلبة في معنى عام فقال:{فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} .

وكلمة «حزب» معناها:جماعة التف بعضهم مع بعض على منهج يرون فيه الخير.ولا يمكن أن يجتمع قوم بقوة كل فرد فيهم بفكر كل فرد منهم إلا إذا كان هذا الأمر هو خير اجتمعوا عليه،إذن فحزب الله في أي وضع وفي أي تكوين ولأيَّةِ غايةٍ هو الحزب الغالب.وعلى المستوى الفردي نجد في سنة رسول الله r َ:«كان النبي r َ إذا حزّبه أمر قام إلى الصلاة» .

فما معنى حَزّبه هنا؟ معناه أمر أتعبه وأرهقه وفكر فيه كثيراً.وبذلك يعلمنا رسول الله ألا نقصر رؤيتنا على رأينا وحده،ولكن لنلجأ إلى الله.فنهزم الأمر الذي يحزبنا ولا نقدر عليه بأن نقيم مع الله حزباً بالصلاة.

إننا عندما نأخذ من سنة رسول الله المثل والقدوة نعرف أن رسول الله r َ لم يكن يحزبُه أمر يتعلق بدنياه وإنما أمر يتعلق بمنهج الله وبالدين،لذلك يذهب رسول الله إلى من يعطيه ويعطي أهل الإيمان كل الطاقة.إنّه يذهب إلى الصلاة.ويعلن أن أسبابه قد انتهت ولم يعد يقوى على تحمل هذا الأمر الذي حَزَبَهُ،ولأن الله لا يغلبه شيء،لذلك فسبحانه يرفع الهمَّ عن رسول الله r َ،ويغلب كل أمر صعب.وإن حَزَبَنا هذا الأمر في نفوسنا فسنجد العجب.

إذن فحين تعز الأسباب على المؤمن في أمر ما ويكون قد أعطى كل جهده وما زال هذا الأمر يحزب المؤمن ويشتد عليه ويرهقه فعلى المؤمن أن يقوم إلى الصلاة،وييسر الحق هذا الأمر للمؤمن بالخير.والمؤمن عندما يحزبه أمر ما إنما يذهب بالصلاة إلى المسبب وهو الله،لكن على المسلم ألا يذهب إلى الله إلا بعد أن يستنفد كل الأسباب،فالأسباب إنما هي يد الله الممدودة،ولا يمكن للمؤمن أن يرفض يد الله ويطلب ذات الله،فإن انتهى الأخذ بالأسباب فليذهب إلى المسبب:

{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] .

وسبحانه الذي يجيب المضطر وهو الذي يكشف السوء وهو الذي جعل البشر خلفاء في الأرض،وسبحانه لا شريك له في ملكه،وهو القائل:{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] .

وإذا قال قائل:ولكني أدعو الله ولا يستجيب لي.ونقول:أنت لم تدع دعوة المضطر،لأنك لم تستنفد الأسباب.وعليك أن تستنفد الأسباب كلها.فإن استنفدت الأسباب فالحق يجيبك ما دمت مضطراً.

إذن فحزب الله عندما يَغلِب إنما يعطينا قضية مكونة من «إن المؤكِّدة واسمها وخبرها» وهذه قضية قرآنية وهي تختلف عن القضية الكونية التي تصف واقع الحياة:ويقول الحق:{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} [المائدة:56] .

وسبحانه يعلم ما يكون في كونه،ولن تختلف قضية القرآن عن قضية واقع الكون.وساعة تجد قوماً تجمعوا وفي صورتهم الرسمية الشكلية أنهم رجال الله،ولا يَغْلِبُون فعلينا أن نعرف أنهم خدعوا أنفسهم وخدعوا الناس بأنهم حزب الله وواقع الحال أنهم ليسوا كذلك،لأنه سبحانه قال:{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات:173] .

وهذه قضية قرآنية.ونأخذ الأمر دائماً بسؤال:هل غلبت أم لم تغلب؟ فإن كنت قد غلبت فإن جنديتك لله صدقة.وإن لم تكن فأنت تخدع نفسك بأنها جنديّة لله وهي ليست كذلك.«ولنا المثل الواضح من حياة رسول الله r َ عندما كان بين صحابته في موقعة أُحُد وأمر الرُّماة أن يقفوا موقفاً خاصاً،فلما وجد الرّمَاة استهلال نصر المؤمنين على الكافرين،وأن الذين يحاربون أسفلهم يأخذون الغنائم،ذهبوا هم أيضاً إلى الغنائم وخالفوا أمر الرسول حينما قال لهم:إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم،وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» .

فلما خالفوا أمر رسول الله أَكانوا جُنوداً لله بحق؟ لا،بل اختلت جُنديتهم لله.ولم يمنع وجود رسول الله فيهم سُنَّة الله الإيمانية في كونه ألا تقع،ولو ظلوا مُنتصرين على الرغم من أنهم خالفوا الرسول لهان أمر رسول الله في نظرهم،لذلك أراد الحق أن يُوقع بهم ألم الهزيمة المؤقتة من أجل أن يتأدبوا،وحتى يَعضُّوا على أمر سيدهم وسيدنا رسول الله r َ بالنّواجذ.وقد أورد الحق ذلك الأمر ورسول الله فيهم من أجل مصلحة الإسلام،فلو نصرهم على الرغم من مخالفتهم لرسول الله لجرأهم ذلك على أن يخالفوا.[75]

وفي الظلال :" إن اختيار الله للعصبة المؤمنة،لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض،وتمكين سلطانه في حياة البشر،وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم،وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم،وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة ..إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته.فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة ..فهو وذاك.والله غني عنه - وعن العالمين.والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم.

والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا،صورة واضحة السمات قوية الملامح،وضيئة جذابة حبيبة للقلوب:«فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» ..

فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم ..الحب ..هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق لرائق البشوش ..هو الذي يربط القوم بربهم الودود.

وحب الله لعبد من عبيده،أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه،وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها ..أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي ..الذي يعرف من هو الله ..من هو صانع هذا الكون الهائل،وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير! من هو في عظمته.ومن هو في قدرته.ومن هو في تفرده.ومن هو في ملكوته ..من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب ..والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم،الحي الدائم،الأزلي الأبدي،الأول والآخر والظاهر والباطن.وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها ..وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما،وفضلا غامرا جزيلا،فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد،الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه ..هو إنعام هائل عظيم ..وفضل غامر جزيل.

وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه،فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين ..وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد،وهي تقول :

فليتك تحلو والحياة مريرة ...وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر ...وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين ...وكل الذي فوق التراب تراب

وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد،والحب من العبد للمنعم المتفضل،يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض،وينطبع في كل حي وفي كل شيء،فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود،ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب ..

والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب ..وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة ..إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» ..«إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» ..«وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ» ..«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» ..«وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» ..«قُلْ:إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» ..وغيرها كثير ...

وعجبا لقوم يمرون على هذا كله،ليقولوا:إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف،يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر،وعذاب وعقاب،وجفوة وانقطاع ...لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله،فيربط بين الله والناس،في هذا الازدواج! إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية،لا تجفف ذلك الندى الحبيب،بين الله والعبيد،فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل،وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد،وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزيه ..إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين.

وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب:«يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» ويطلق شحنته كلها في هذا الجو،الذي يحتاج إليه القلب المؤمن،وهو يضطلع بهذا العبء الشاق.شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل ..

ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات:«أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» ..

وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين ..فالمؤمن ذلول للمؤمن ..غير عصيّ عليه ولا صعب.

هين لين ..ميسر مستجيب ..سمح ودود ..وهذه هي الذلة للمؤمنين.

وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة.إنما هي الأخوة،ترفع الحواجز،وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس،فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين.

إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه.فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه،فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به ..وماذا يبقى له في نفسه دونهم،وقد اجتمعوا في الله إخوانا يحبهم ويحبونه،ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه؟!

«أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» ..فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء ..ولهذه الخصائص هنا موضع ..إنها ليست العزة للذات،ولا الاستعلاء للنفس.إنما هي العزة للعقيدة،والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين.إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير،وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين! ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى وبغلبة قوة الله على تلك القوى وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية ..فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك،في أثناء الطريق الطويل ..

«يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» ..فالجهاد في سبيل الله،لإقرار منهج الله في الأرض،وإعلان سلطانه على البشر،وتحكيم شريعته في الحياة،لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس ..هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد ..

وهم يجاهدون في سبيل الله لا في سبيل أنفسهم ولا في سبيل قومهم ولا في سبيل وطنهم ولا في سبيل جنسهم ..في سبيل الله.لتحقيق منهج الله،وتقرير سلطانه،وتنفيذ شريعته،وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق ..وليس لهم في هذا الأمر شيء،وليس لأنفسهم من هذا حظ،إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك ..

وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ..وفيم الخوف من لوم الناس،وهم قد ضمنوا حب رب الناس؟ وفيم الوقوف عند مألوف الناس،وعرف الجيل،ومتعارف الجاهلية،وهم يتبعون سنة الله،ويعرضون منهج الله للحياة؟ إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ومن يستمد عونه ومدده من عند الناس أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته،فما يبالي ما يقول  الناس وما يفعلون.كائنا هؤلاء الناس ما كانوا وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان،وكائنة «حضارة» هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون!

إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ولما يفعل الناس ولما يملك الناس ولما يصطلح عليه الناس ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبار ات وموازين ..لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم ..إنه منهج الله وشريعته وحكمه ..فهو وحده الحق وكل ما خالفه فهو باطل ولو كان عرف ملايين الملايين،ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون! إنه ليست قيمة أي وضع،أو أي عرف،أو أي تقليد،أو أية قيمة ..أنه موجود وأنه واقع وأن ملايين البشر يعتنقونه،ويعيشون به،ويتخذونه قاعدة حياتهم ..فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي.

إنما قيمة أي وضع،وأي عرف،وأي تقليد،وأية قيمة،أن يكون لها أصل في منهج الله،الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين ..

ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم ..فهذه سمة المؤمنين المختارين ..

ثم إن ذلك الاختيار من الله،وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين،وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم،وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم،والسير على هداه في جهادهم ..ذلك كله من فضل الله:«ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».يعطي عن سعة،ويعطي عن علم ..وما أوسع هذا العطاء الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير.

يحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ويبين لهم من يتولون:«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا،الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» ..

هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور ..

ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة.ومسألة الحركة بهذه العقيدة.وليكون الولاء لله خالصا،والثقة به مطلقة،وليكون الإسلام هو «الدين».وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا،ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة.

ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة.ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة ..

ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان،أو مجرد راية وشعار،أو مجرد كلمة تقال باللسان،أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة،أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا:«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ،وَهُمْ راكِعُونَ» ..فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا،تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى:«إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» ..والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر،لم يقم الصلاة فلو أقامها لنهته كما يقول الله! ومن صفتهم إيتاء الزكاة ..أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة،فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية،إنما هي كذلك عبادة.أو هي عبادة مالية.وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي.الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة.وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف ..

إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة (مدنية! ) أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة،أو باسم الشعب،أو باسم جهة أرضية ما ..فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا وهو إيصال المال للمحتاجين ..

فأما الزكاة ..فتعني اسمها ومدلولها ..إنها قبل كل شيء طهارة ونماء ..إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله.وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء،بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة،كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك.ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء (مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال) ..وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب ..جو الزكاة والطهارة والنماء ..

وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله ..وهذا هو الإسلام ..

«وَهُمْ راكِعُونَ» ..ذلك شأنهم،كأنه الحالة الأصلية لهم ..ومن ثم لم يقف عند قوله:«يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» ..فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل.إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم.فأبرز سمة لهم هي هذه السمة،وبها يعرفون ..وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات! والله يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به،والالتجاء إليه،والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية ..

ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله.يعدهم النصر والغلبة:

«وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» ..وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها ..وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى،وارتدادا عن الدين ..

وهنا لفتة قرآنية مطردة ..فالله - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير! لا لأنه سيغلب،أو سيمكن له في الأرض فهذه ثمرات تأتي في حينها وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين ..والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم.لا شيء لذواتهم وأشخاصهم.وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم،ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم! فيكون لهم ثواب الجهد فيه وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض،وصلاح الأرض بهذا التمكين ..

كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة وتخطي العقبة،والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة،فيكون لهم ثواب الجهاد،وثواب التمكين لدين الله،وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين.

وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف.فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون ..ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق! وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق![76]

ــــــــ

وقال تعالى:{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22) سورة المجادلة

لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ،وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ،لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ،وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ،وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ،وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ،وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ،هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ،وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ،وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ،وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ،وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ،وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ،رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ،وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ،فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ،وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ،وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ،فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ،وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ،وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ .وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ،وَجُنْدُهُ ،وَحِزْبُهُ ،وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ،وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .[77]

قال الطبري:" يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] لَا تَجِدُ يَا مُحَمَّدُ قَوْمًا يُصَدِّقُونَ اللَّهَ،وَيُقِرُّونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَشَاقَّهُمَا وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22] يَقُولُ:وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ حَادُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14] لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ،فَلِذَلِكَ تَوَلَّوُا الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ مِنَ الْيَهُودِ.

وهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ،أَوْ أَبْنَاءَهُمْ،أَوْ إِخْوَانَهُمْ،أَوْ عَشِيرَتَهُمْ،كَتَبَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ،وَإِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ:قَضَى لِقُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ.فَـ «فِي» بِمَعْنَى اللَّامِ،وَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ لَهُمْ،وَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ،وَكَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنِ الْقُلُوبِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُهَا،اجْتَزَى بِذِكْرِهَا مِنْ ذِكْرِ أَهْلِهَا.

وَقَوْلُهُ:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] يَقُولُ:وَقَوَّاهُمْ بِبُرْهَانٍ مِنْهُ وَنُورٍ وَهُدًى.يَقُولُ:{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} [المجادلة:22] يَقُولُ:وَيُدْخِلُهُمْ بَسَاتِينَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ.{خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة:162] يَقُولُ:مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا.{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119] بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا {وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] فِي الْآخِرَةِ بِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُمُ الْجَنَّةَ.{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة:22] يَقُولُ:أُولَئِكَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ جُنْدُ اللَّهِ [ص:495] وَأَوْلِيَاؤُهُ.{أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} [المجادلة:22] يَقُولُ:أَلَا إِنَّ جُنْدَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَهُ.{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] يَقُولُ:هُمُ الْبَاقُونَ الْمُنْجَحُونَ بِإِدْرَاكِهِمْ مَا طَلَبُوا،وَالْتَمَسُوا بِبَيْعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا،وَطَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ."[78]

وقال ابن كثير :" قَالَ تَعَالَى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أَيْ:لَا يُوَادُّونَ الْمُحَادِّينَ وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَقْرَبِينَ،كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آلِ عِمْرَانَ:28] الْآيَةَ،وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التَّوْبَةِ:24]

وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ:أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} إِلَى آخِرِهَا فِي أَبِي عُبَيْدَةَ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ،حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ،وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،حِينَ جُعِلَ الْأَمْرُ شُورَى بَعْدَهُ فِي أُولَئِكَ السِّتَّةِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:"وَلَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ".

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ:{وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} فِي الصِّدِّيقِ،هَمَّ يَوْمَئِذٍ بِقَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،{أَوْ إِخْوَانَهُمْ} فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ،قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَوْمَئِذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فِي عُمَرَ،قَتَلَ قَرِيبًا لَهُ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا،وَفِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ،قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَئِذٍ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ:وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حِينَ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمُسْلِمِينَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ،فَأَشَارَ الصِّدِّيقُ بِأَنْ يُفَادُوا،فَيَكُونُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ،وَهُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ،وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ.وَقَالَ عُمَرُ:لَا أَرَى مَا رَأَى يَا رَسُولَ اللَّهِ،هَلْ تُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ-قَرِيبٍ لِعُمَرَ-فَأَقْتُلَهُ،وَتُمَكِّنُ عَلَيًّا مِنْ عَقِيلٍ،وَتُمَكِّنُ فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ،لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ ...الْقِصَّةَ بِكَامِلِهَا.

وَقَوْلُهُ:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أَيْ:مَنِ اتَّصَفَ بِأَنَّهُ لَا يُوَادُّ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَبَاهُ أَوْ أَخَاهُ،فَهَذَا مِمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ،أَيْ:كَتَبَ لَهُ السَّعَادَةَ وَقَرَّرَهَا فِي قلبه وزين الإيمان في بصيرته.

وَقَالَ السُّدِّيُّ:{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أَيْ:قَوَّاهُمْ.

وَقَوْلُهُ:{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} كُلُّ هَذَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.وَفِي قَوْلِهِ:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} سِرٌّ بَدِيعٌ،وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَخِطُوا عَلَى الْقَرَائِبِ وَالْعَشَائِرِ فِي اللَّهِ عَوَّضَهُمُ اللَّهُ بِالرِّضَا عَنْهُمْ،وَأَرْضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ،وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ،وَالْفَضْلِ الْعَمِيمِ.وَقَوْلُهُ:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ:هَؤُلَاءِ حزبُ اللَّهِ،أَيْ:عِبَادُ اللَّهِ وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ.وَقَوْلُهُ:{أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تَنْوِيهٌ بِفَلَاحِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،فِي مُقَابَلَةِ مَا أَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ بِأَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ.ثُمَّ قَالَ:{أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ عَبَّادٍ،قَالَ:كَتَبَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ إِلَى الزُّهْرِيِّ:" عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَبَا بَكْرٍ مِنَ الْفِتَنِ وَرَحِمَكَ مِنَ النَّارِ،فَقَدْ أَصْبَحْتَ بِحَالٍ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَكَ بِهَا أَنْ يَرْحَمَكَ مِنْهَا،أَصْبَحْتَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْكَ:بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ،وَأَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ،وَعَلِمْتَ حُجَجَ اللهِ تَعَالَى:مِمَّا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ،وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ،وَفَهَّمَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكَ r،فَرَمَى بِكَ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا عَلَيْكَ،وَكُلِّ حُجَّةٍ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ الْغَرَضَ الْأَقْصَى،ابْتَلَى فِي ذَلِكَ شُكْرَكَ،وَأَبْدَى فِيهِ فَضْلَهُ عَلَيْكَ،وَقَدْ قَالَ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] انْظُرْ أَيَّ رَجُلٍ تَكُونُ إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،فَسَأَلَكَ عَنْ نِعَمِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ رَعَيْتَهَا،وَعَنْ حُجَجِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا،وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ رَاضِيًا مِنْكَ بِالتَّغْرِيرِ،وَلَا قَابِلًا مِنْكَ التَّقْصِيرَ،هَيْهَاتَ،لَيْسَ كَذَلِكَ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي كِتَابِهِ،إِذْ قَالَ تَعَالَى {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187] الْآيَةَ إِنَّكَ تَقُولُ:إِنَّكَ جَدِلٌ مَاهِرٌ عَالِمٌ قَدْ جَادَلْتَ النَّاسَ فَجَدَلْتَهُمْ وَخَاصَمْتَهُمْ فَخَصَمْتَهُمْ إِدْلَالًا مِنْكَ بِفَهْمِكَ،وَاقْتِدَارًا مِنْكَ بِرَأْيِكَ،فَأَيْنَ تَذْهَبُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؟ الْآيَةَ اعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا ارْتَكَبْتَ،وَأَعْظَمَ مَا احْتَقَبْتَ أَنْ آنَسْتَ الظَّالِمَ،وَسَهَّلْتَ لَهُ طَرِيقَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ حِينَ أُدْنِيتَ،وَإِجَابَتِكَ حِينَ دُعِيتَ فَمَا أَخْلَقَكَ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِكَ غَدًا مَعَ الْجُرْمَةِ،وَأَنْ تُسْأَلَ عَمَّا أَرَدْتَ بِإِغْضَائِكَ عَنْ ظُلْمِ الظَّلَمَةِ إِنَّكَ أَخَذْتَ مَا لَيْسَ لِمَنْ أَعْطَاكَ،وَدَنَوْتَ مِمَّنْ لَا يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ حَقًّا،وَلَا تَرَكَ بَاطِلًا حِينَ أَدْنَاكَ،وَأَجَبْتَ مَنْ أَرَادَ التَّدْلِيسَ بِدُعَائِهِ إِيَّاكَ حِينَ دَعَاكَ،جَعَلُوكَ قُطْبًا تَدُورُ رَحَى بَاطِلِهِمْ عَلَيْكَ،وَجِسْرًا يَعْبُرُونَ بِكَ إِلَى بَلَائِهِمْ،وَسُلَّمًا إِلَى ضَلَالَتِهِمْ،وَدَاعِيًا إِلَى غَيِّهِمْ،سَالِكًا سَبِيلَهُمْ،يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ،وَيَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَ الْجُهَّالِ إِلَيْهِمْ،فَلَمْ تَبْلُغْ أَخَصَّ وُزَرَائِهِمْ،وَلَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ لَهُمْ،إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ،وَاخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ،فَمَا أَيْسَرَ مَا عَمَّرُوا لَكَ فِي جَنْبِ مَا خَرَّبُوا عَلَيْكَ وَمَا أَقَلَّ مَا أَعْطَوْكَ فِي كَثِيرِ مَا أَخَذُوا مِنْكَ فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ،فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ لَهَا غَيْرُكَ،وَحَاسِبْهَا حِسَابَ رَجُلٍ مَسْئُولٍ،وَانْظُرْ:كَيْفَ شُكْرُكَ لِمَنْ غَذَّاكَ بِنِعَمِهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا؟ وَانْظُرْ:كَيْفَ إِعْظَامُكَ أَمْرَ مَنْ جَعَلَكَ بِدَيْنِهِ فِي النَّاسِ بَخِيلًا؟ وَكَيْفَ صِيَانَتُكَ لِكِسْوَةِ مَنْ جَعَلَكَ لَكِسْوَتِهِ سَتِيرًا؟ وَكَيْفَ قَرُبُكَ وَبُعْدُكَ مِمَّنْ أَمَرَكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ قَرِيبًا؟ مَا لَكَ لَا تَنْتَبِهُ مِنْ نَعْسَتِكَ وَتَسْتَقِيلُ مِنْ عَثْرَتِكَ فَتَقُولَ:وَاللهِ مَا قُمْتُ لِلَّهِ مَقَامًا وَاحِدًا أُحْيِي لَهُ فِيهِ دِينًا،وَلَا أُمْيتُ لَهُ فِيهِ بَاطِلًا إِنَّمَا شُكْرُكَ لِمَنِ اسْتَحْمَلَكَ كِتَابَهُ وَاسْتَوْدَعَكَ عِلْمَهُ،مَا يُؤَمِّنُكِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف:169] الْآيَةَ،إِنَّكَ لَسْتَ فِي دَارِ مُقَامٍ،قَدْ أُوذِنْتَ بِالرَّحِيلِ،مَا بَقَاءُ الْمَرْءِ بَعْدَ أَقْرَانِهِ؟ طُوبَى لِمَنْ كَانَ مَعَ الدُّنْيَا فِي وَجَلٍ،يَا بُؤْسَ مَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِنْ بَعْدِهِ،إِنَّكَ لَمْ تُؤْمَرْ بِالنَّظَرِ لِوَارِثِكَ عَلَى نَفْسِكَ،لَيْسَ أَحَدٌ أَهْلًا أَنْ تُرْدِفَهُ عَلَى ظَهْرِكَ،ذَهَبَتِ اللَّذَّةُ،وَبَقِيَتِ التَّبِعَةُ،مَا أَشْقَى مَنْ سَعِدَ بِكَسْبِهِ غَيْرُهُ،احْذَرْ فَقَدْ أُتِيتَ،وَتَخَلَّصْ فَقَدْ أُدْهِيتَ،إِنَّكَ تُعَامِلُ مَنْ لَا يَجْهَلُ،وَالَّذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ لَا يَغْفُلُ،تَجَهَّزْ فَقَدْ دَنَا مِنْكَ سَفَرٌ،وَدَاوِ دِينَكَ فَقَدْ دَخَلَهُ سَقَمٌ شَدِيدٌ،وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي أَرَدْتُ تَوْبِيخَكَ أَوْ تَعْيِيرَكَ وَتَعْنِيفَكَ،وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تُنْعِشَ مَا فَاتَ مِنْ رَأْيِكَ،وَتَرُدَّ عَلَيْكَ مَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ حِلْمِكَ،وَذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] أَغَفَلْتَ ذِكْرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَسْنَانِكَ وَأَقْرَانِكَ،وَبَقِيتَ بَعْدَهُمْ كَقَرْنٍ أَعْضَبَ،فَانْظُرْ هَلِ ابْتُلُوا بِمِثْلِ مَا ابْتُلِيتَ بِهِ،أَوْ دَخَلُوا فِي مِثْلِ مَا دَخَلْتَ فِيهِ؟ وَهَلْ تَرَاهُ ادَّخَرَ لَكَ خَيْرًا مُنِعُوهُ،أَوْ عَلَّمَكَ شَيْئًا جَهِلُوهُ،بَلْ جَهِلْتَ مَا ابْتُلِيتَ بِهِ مِنْ حَالِكِ فِي صُدُورِ الْعَامَّةِ،وَكَلِفِهِمْ بِكَ أَنْ صَارُوا يَقْتَدُونَ بِرَأْيِكَ وَيَعْمَلُونَ بِأَمْرِكَ إِنْ أَحْلَلْتَ أَحَلُّوا وَإِنْ حَرَّمْتَ حَرَّمُوا،وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَكَ،وَلَكِنَّهُمْ إِكْبَابَهُمْ عَلَيْكَ،وَرَغْبَتَهُمْ فِيمَا فِي يَدَيْكَ ذَهَابُ عَمَلِهِمْ،وَغَلَبَةُ الْجَهْلِ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ،وَطَلَبُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبُ الدُّنْيَا مِنْكَ وَمِنْهُمْ،أَمَا تَرَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْغِرَّةِ،وَمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ؟ ابْتَلَيْتَهُمْ بِالشُّغُلِ عَنْ مَكَاسِبِهِمْ وَفَتَنْتَهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ أَثَرِ الْعِلْمِ عَلَيْكَ،وَتَاقَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى أَنْ يُدْرِكُوا بِالْعِلْمِ مَا أَدْرَكْتَ،وَيَبْلُغُوا مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي بَلَغْتَ فَوَقَعُوا بِكَ فِي بَحْرٍ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَفِي بَلَاءٍ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ،فَاللهُ لَنَا وَلَكَ وَلَهُمُ الْمُسْتَعَانُ،وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَاهَ جَاهَانِ:جَاهٌ يُجْرِيهِ اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ أَوْلِيَائِهِ لِأَوْلِيَائِهِ،الْخَامِلِ ذِكْرُهُمْ،الْخَافِيَةِ شُخُوصُهُمْ،وَلَقَدْ جَاءَ نَعْتُهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ r:«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ،الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا،وَإِذَا شُهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوا،قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى،يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ» فَهَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] وِجَاهٌ يُجْرِيهِ اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ أَعْدَائِهِ لِأَوْلِيَائِهِ وَمِقَةٌ يَقْذِفُهَا اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ لَهُمْ،فَيُعَظِّمُهُمُ النَّاسُ بِتَعْظِيمِ أُولَئِكَ لَهُمْ،وَيَرْغَبُ النَّاسُ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ لِرَغْبَةِ أُولَئِكَ فِيهِ إِلَيْهِمْ،{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] وَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَنْظُرُ لِمَنْ عَاشَ مَسْتُورًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ،مَقْتُورًا عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ،مَعْزُولَةً عَنْهُ الْبَلَايَا،مَصْرُوفَةً عَنْهُ الْفِتَنُ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ،وَظُهُورِ جَلَدِهِ،وَكَمَالِ شَهْوَتِهِ،فَعَنَّى بِذَلِكَ دَهْرَهُ حَتَّى إِذَا كَبُرَ سِنُّهُ،وَرَقَّ عَظْمُهُ،وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ،وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ وَلَذَّتُهُ فُتِحَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا شَرَّ فُتُوحٍ،فَلَزِمَتْهُ تَبِعَتُهَا،وَعَلِقَتْهُ فِتْنَتُهَا،وَأَغْشَتْ عَيْنَيْهِ زَهْرَتُهَا،وَصَفَتْ لِغَيْرِهِ مَنْفَعَتُهَا فَسُبْحَانَ اللهِ،مَا أَبْيَنَ هَذَا الْغَبْنَ،وَأَخْسَرَ هَذَا الْأَمْرَ فَهَلَّا إِذْ عُرِضَتْ لَكَ فِتْنَتُهَا ذَكَرْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ إِلَى سَعْدٍ حِينَ خَافَ عَلَيْهِ مِثْلَ الَّذِي وَقَعْتَ فِيهِ عِنْدَمَا فَتْحَ اللهُ عَلَى سَعْدٍ:أَمَّا بَعْدُ فَأَعْرِضْ عَنْ زَهْرَةِ مَا أَنْتَ فِيهِ حَتَّى تَلْقَى الْمَاضِينَ الَّذِينَ دُفِنُوا فِي أَسْمَالِهِمْ،لَاصِقَةً بُطُونُهُمْ بِظُهُورِهِمْ،لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ،لَمْ تَفْتِنْهُمُ الدُّنْيَا،وَلَمْ يُفْتَنُوا بِهَا،رَغِبُوا فَطَلَبُوا فَمَا لَبِثُوا أَنْ لَحِقُوا،فَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا تَبْلُغُ مِنْ مِثْلِكَ هَذَا فِي كِبَرِ سِنِّكَ وَرُسُوخِ عِلْمِكَ وَحُضُورِ أَجَلِكَ،فَمَنْ يَلُومُ الْحَدَثَ فِي سِنِّهِ،وَالْجَاهِلَ فِي عِلْمِهِ،الْمَأْفُونَ فِي رَأْيِهِ،الْمَدْخُولَ فِي عَقْلِهِ،إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،عَلَى مَنِ الْمُعَوِّلُ وَعِنْدَ مَنِ الْمُسْتَعْتَبُ،نَحْتَسِبُ عِنْدَ اللهِ مُصِيبَتَنَا،وَنَشْكُو إِلَيْهِ بَثَّنَا،وَمَا نَرَى مِنْكَ،وَنَحْمَدُ اللهَ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ،وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ "[79]

وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"اللَّهُمَّ،لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلَا لِفَاسِقٍ عِنْدِي يَدًا وَلَا نِعْمَةً،فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أَوْحَيْتَهُ إِلَيَّ:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ سُفْيَانُ:يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ."[80]

وقال السعدي :" يقول تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي:لا يجتمع هذا وهذا،فلا يكون العبد مؤمنا بالله واليوم الآخر حقيقة،إلا كان عاملا على مقتضى الإيمان ولوازمه،من محبة من قام بالإيمان وموالاته،وبغض من لم يقم به ومعاداته،ولو كان أقرب الناس إليه.وهذا هو الإيمان على الحقيقة،الذي وجدت ثمرته والمقصود منه،وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي:رسمه وثبته وغرسه غرسا،لا يتزلزل،ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك.

وهم الذين قواهم الله بروح منه أي:بوحيه،ومعونته،ومدده الإلهي وإحسانه الرباني.

وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار،ولهم جنات النعيم في دار القرار،التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس،وتلذ الأعين،وتختار،ولهم أكبر النعيم وأفضله،وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا،ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات،ووافر المثوبات،وجزيل الهبات،ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية،ولا فوقه نهاية .

وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر،وهو مع ذلك مواد لأعداء الله،محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره،فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له،فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه،فمجرد الدعوى،لا تفيد شيئا ولا يصدق صاحبها."[81]

--------------

وقال تعالى :{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الفتح

إِن مُحمداً r رَسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً ،بِلاَ شَكٍّ وَلاَ رَيبٍ ،وَإِنَّ أصْحَابَهُ يَتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ الحَسَنةِ ،فَهُمْ أشِدَّاءٌ غِلاَظُ القُلُوبِ عَلَى الكُفارِ ،وَهُمْ رُحَماءُ مُتَوَادُّونَ فيما بَيْنَهم يَرَاهُم النَّاظِرُ إليهِمْ دَائِبينَ عَلَى أدَاءِ الصَّلاةِ ،مُخْلِصِينَ فيها للهِ ،مُحْتَسِبينَ أجْرَهَا عِنْدَ اللهِ ،يَبْتَغُونَ بِصَلاتِهِمْ رِضَا اللهِ وَرِضْوَانَهُ ،تَتْرُكُ نُفُوسُهُمُ المُطْمَئِنَّةُ أَثَراً عَلَى وُجُوهِهِمْ ،فَهِي هَادِئَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ مَسْتَبْشِرَةٌ ،وَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ المُؤمِنينَ المُخْلِصِينَ في التورَاةِ .وَجَاءَ وَصْفُهُمْ في الإِنجيلِ أَنَّ أتْبَاعَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَليلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَلِيلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ فُروعَهُ ( شَطْأهُ ) التي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ عَلَى جَوَانِبِهِ ،فَيَقْوى وَيَتَحَوَّلُ من الدِّقَّةِ إِلى الغِلْظَةِ ،وَيَسْتَقيمُ عَلَى أصُولِهِ فَيُعْجَبُ بِهِ الزَّراعِ لِخِصْبِهِ ،وَقُوَّتِهِ ،وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ ،وَقَدْ نَمَّاهُمُ اللهُ وأكْثَرَ عَدَدَهُم لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ ،وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ،العَامِلِينَ للصَّالِحَاتِ ،بأن يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهمْ ،وَأنْ يُجْزِلَ لَهُمُ الأجْرَ والعَطَاءَ ،وبِأنْ يُدْخِلَهُمْ جَنَّاتِهِ ،وَاللهُ لاَ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أبَداً .[82]

قال الطبري:" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هُمْ مَعَهُ عَلَى دِينِهِ،أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ،غَلِيظَةٌ عَلَيْهِمْ قُلُوبُهُمْ،قَلِيلَةٌ بِهِمْ رَحْمَتُهُمْ {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] يَقُولُ:رَقِيقَةٌ قُلُوبُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،لِينَةٌ أَنْفُسُهُمْ لَهُمْ،هَيِّنَةٌ عَلَيْهِمْ لَهُمْ ،عَنْ قَتَادَةَ،{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] «أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةَ،بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ» {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] يَقُولُ:تَرَاهُمْ رُكَّعًا أَحْيَانًا لِلَّهِ فِي صَلَاتِهِمْ سُجَّدًا أَحْيَانًا {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} [الفتح:29] يَقُولُ:يَلْتَمِسُونَ بِرُكُوعِهِمْ وَسُجُودِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ وَرَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا،فَضْلًا مِنَ اللَّهِ،وَذَلِكَ رَحْمَتُهُ إِيَّاهُمْ،بِأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ،فَيُدْخِلَهُمْ جَنَّتَهُ {وَرِضْوَانًا} [المائدة:2] يَقُولُ:وَأَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ رَبُّهُمْ

وعَلَامَتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فِي صَلَاتِهِمْ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السِّيمَا الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ:ذَلِكَ عَلَامَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،يُعْرَفُونَ بِهَا لِمَا كَانَ مِنْ سُجُودِهِمْ لَهُ فِي الدُّنْيَا..

إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّ سِيَّمَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ،وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ عَلَى وَقْتِ دُونَ وَقْتٍ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ،فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ الْأَوْقَاتِ،فَكَانَ سِيمَاهُمُ الَّذِي كَانُوا يُعْرَفُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَثَرُ الْإِسْلَامِ،وَذَلِكَ خُشُوعُهُ وَهَدْيُهُ وَزُهْدُهُ وَسَمْتُهُ،وَآثَارُ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَتَطَوُّعِهِ،وَفِي الْآخِرَةِ مَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِهِ،وَذَلِكَ الْغُرَّةُ فِي الْوَجْهِ وَالتَّحْجِيلُ فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ أَثَرِ الْوضُوءِ،وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ

وهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ مِنْ صِفَةِ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ r الَّذِينَ مَعَهُ صِفَتُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ

وَصِفَتُهُمْ فِي إِنْجِيلِ عِيسَى صِفَةُ زَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ،وَهُوَ فِرَاخُهُ،يُقَالُ مِنْهُ:قَدْ أَشْطَأَ الزَّرْعُ:إِذَا فَرَّخَ فَهُوَ يُشْطِئُ إِشْطَاءً،وَإِنَّمَا مَثَّلَهُمْ بِالزَّرْعِ الْمُشْطِئِ،لِأَنَّهُمُ ابْتَدَأُوا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ،وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلُونَ،ثُمَّ جَعَلُوا يَتَزَايَدُونَ،وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ بَعْدَهُمْ،ثُمَّ الْجَمَاعَةُ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ،حَتَّى كَثُرَ عَدَدُهُمْ،كَمَا يَحْدُثُ فِي أَصْلِ الزَّرْعِ الْفَرْخُ مِنْهُ،ثُمَّ الْفَرْخُ بَعْدَهُ حَتَّى يَكْثُرَ وَيَنْمِي ،وَقَوْلُهُ:{فَآزَرَهُ} [الفتح:29] يَقُولُ:فَقَوَّاهُ:أَيْ قَوَّى الزَّرْعَ شَطْأَهُ وَأَعَانَهُ،وَهُوَ مِنَ الْمُؤَازَرَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْمُعَاوَنَةِ {فَاسْتَغْلَظَ} [الفتح:29] يَقُولُ:فَغَلُظَ الزَّرْعُ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] وَالسُّوقُ:جَمْعُ سَاقٍ،وَسَاقُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ:حَامِلَتُهُ ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،{فَآزَرَهُ} [الفتح:29] يَقُولُ:" نَبَاتُهُ مَعَ الْتِفَافِهِ حِينَ يُسَنْبِلُ {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح:29] فَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا خَرَجَ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ فَيَبْلُغُ فِيهِمْ رِجَالٌ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ،وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ،ثُمَّ يَغْلُظُونَ،فَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ r يَقُولُ:بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ r وَحْدَهُ،ثُمَّ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ قَلِيلٌ يُؤْمِنُونَ بِهِ،ثُمَّ يَكُونُ الْقَلِيلُ كَثِيرًا،وَيَسْتَغْلِظُونَ،وَيَغِيظُ اللَّهُ بِهِمُ الْكُفَّارَ "

وَقَوْلُهُ:{عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] قَالَ:أُصُولِهِ،قَالَ ابْنُ زَيْدٍ،فِي قَوْلِهِ:{فَآزَرَهُ} [الفتح:29] " اجْتَمَعَ ذَلِكَ فَالْتَفَّ،قَالَ:وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ خَرَجُوا وَهُمْ قَلِيلٌ ضُعَفَاءُ،فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ يَزِيدُ فِيهِمْ،وَيُؤَيِّدُهُمْ بِالْإِسْلَامِ،كَمَا أَيَّدَ هَذَا الزَّرْعَ بِأَوْلَادِهِ،فَآزَرَهُ،فَكَانَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِينَ "

ويُعْجِبُ هَذَا الزَّرْعُ الَّذِي اسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ فِي تَمَامِهِ وَحُسْنِ نَبَاتِهِ،وَبُلُوغِهِ وَانْتِهَائِهِ الَّذِينَ زَرَعُوهُ {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يَقُولُ:فَكَذَلِكَ مَثَلُ مُحَمَّدٍ r وَأَصْحَابِهِ،وَاجْتِمَاعِ عَدَدِهِمْ حَتَّى كَثُرُوا وَنَمَوْا،وَغَلُظَ أَمْرُهُمْ كَهَذَا [ص:333] الزَّرْعِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ،ثُمَّ قَالَ:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَتْرُوكٍ مِنَ الْكَلَامِ،وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ r وَأَصْحَابِهِ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] يَقُولُ:وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ:{مِنْهُمْ} [البقرة:75] يَعْنِي:مِنَ الشَّطْءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّرْعُ،وَهُمُ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الزَّرْعِ الَّذِي وَصَفَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى صِفَتَهُ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ {مِنْهُمْ} [البقرة:75] عَائِدَةٌ عَلَى مَعْنَى الشَّطْءِ لَا عَلَى لَفْظِهِ،وَلِذَلِكَ جُمِعَ فَقِيلَ:«مِنْهُمْ» ،وَلَمْ يَقُلْ «مِنْهُ» وَإِنَّمَا جُمِعَ الشَّطْءُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَنْ يَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ r إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ بِقَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] وَقَوْلُهُ {مَغْفِرَةً} [البقرة:268] يَعْنِي:عَفْوًا عَمَّا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِمْ،وَسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ بِحُسْنِهَا وَقَوْلُهُ:{وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] يَعْنِي:وَثَوَابًا جَزِيلًا،وَذَلِكَ الْجَنَّةُ "[83]

وقال ابن كثير :"يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ،أَنَّهُ رَسُولُهُ حَقًّا بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ،فَقَالَ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ،وَهَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ،وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ جَمِيلٍ،ثُمَّ ثَنَّى بِالثَّنَاءِ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ،كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْمَائِدَةِ:54] وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ شَدِيدًا عَنِيفًا عَلَى الْكَفَّارِ،رَحِيمًا بَرًّا بِالْأَخْيَارِ،غَضُوبًا عَبُوسًا فِي وَجْهِ الْكَافِرِ،ضَحُوكًا بَشُوشًا فِي وَجْهِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ،كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التَّوْبَةِ:123] ،عَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»[84]

وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ،وَتَرَاحُمِهِمْ،وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"[85]

وَقَوْلُهُ:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} :وَصَفَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ (3) الصَّلَاةِ،وَهِيَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ،وَوَصَفَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا لِلَّهِ،عَزَّ وَجَلَّ،وَالِاحْتِسَابِ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ الثَّوَابِ،وَهُوَ الْجَنَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ،وَهُوَ سَعَةُ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ،وَرِضَاهُ،تَعَالَى،عَنْهُمْ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ،كَمَا قَالَ:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التَّوْبَةِ:72] .

وَقَوْلُهُ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} :قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} يَعْنِي:السَّمْتَ الْحَسَنَ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:يَعْنِي:الْخُشُوعَ وَالتَّوَاضُعَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ:إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ،وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ،وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ،وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ.

وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ:مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَات وَجْهِهِ،وفَلتَات لِسَانِهِ.

وَالْغَرَضُ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَامِنَ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوَجْهِ،فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ سَرِيرَتُهُ صَحِيحَةً مَعَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ ظَاهِرَهُ لِلنَّاسِ،كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،أَنَّهُ قَالَ:مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعْهُ اللَّهُ دَرَجَةً،حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ،وَمَنْ يَتَكَبَّرْ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً يَضَعْهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ،وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ،لَخَرَجَ مَا غَيَّبَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ»[86]

فَالصَّحَابَةُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ]خَلُصَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ،فَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُوهُ فِي سَمْتِهِمْ وَهَدْيِهِمْ.

وَقَالَ مَالِكٌ،رَحِمَهُ اللَّهُ:بَلَغَنِي أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا رَأَوُا الصَّحَابَةَ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ يَقُولُونَ:"وَاللَّهِ لَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِيمَا بَلَغَنَا".وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ،فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُعَظَّمَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ،وَأَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ رسول الله r،وقد نَوَّهَ اللَّهُ بِذِكْرِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَدَاوَلَةِ ،وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا:{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ،ثُمَّ قَالَ:{وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} :{أَخْرَجَ شَطْأَهُ] } أَيْ:فِرَاخَهُ،{فَآزَرَهُ} أَيْ:شَدَّهُ {فَاسْتَغْلَظَ} أَيْ:شَبَّ وَطَالَ،{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أَيْ:فَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ r آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْعِ،{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} .

وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انْتَزَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ،فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-بِتَكْفِيرِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ،قَالَ:لِأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ،وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَةُ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ.وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ.وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِمَسَاءَةٍ كَثِيرَةٌ،ويكفيهم ثناء الله عليهم،ورضاه عنهم.

ثُمَّ قَالَ:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} مِنْ" هَذِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ،{مَغْفِرَةً} أَيْ:لِذُنُوبِهِمْ.{وَأَجْرًا عَظِيمًا} أَيْ:ثَوَابًا جَزِيلًا وَرِزْقًا كَرِيمًا،وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ،لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ،وَكُلُّ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ،وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ،وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ،وَقَدْ فَعَلَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي،لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي،فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا،مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ،وَلَا نَصِيفَهُ»[87]

قال الكلاباذي:" فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي فَضِيلَةِ السَّبْقِ،كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] ،فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ لَهُمُ السَّبْقُ بِالْإِنْفَاقِ وَالْإِيمَانِ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ غَيْرِهِمْ،وَالسَّبْقُ سَبْقَانِ:سَبْقٌ فِي الْعَمَلِ،وَسَبْقٌ فِي الدَّهْرِ،فَمَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ r لَهُمْ سَبْقُ الدَّهْرِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ،وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ،وَلَيْسَ  ذَلِكَ فِي الِاكْتِسَابِ،وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ آتَاهُ مَنْ شَاءَ،وَسَبْقُ الْعَمَلِ هُوَ بِاكْتِسَابٍ،فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا كَانُوا أَفْضَلَ مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا مِنْ وَجْهَيْنِ:فَمَنْ كَانَ سَبْقُهُ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ،وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ زَمَانُ إِنْفَاقِهِ وَقِتَالِهِ،فَلَهُ فَضِيلَةُ سَبْقِ الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُلَامُ مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ عَلَى تَأَخُّرِهِ،وَمَنْ كَانَ قِتَالُهُ وَإِنْفَاقُهُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْفَتْحِ مِنْ قِبَلِ فِعْلِهِ،فَإِنَّهُ مَلُومٌ مِنْ نَفْسِهِ،لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ إِمْكَانُ الْإِنْفَاقِ وَالْقِتَالِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَمْ يَفْعَلْ.فَأَمَّا تَأَخُّرُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَمِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الْفِعْلِ فَمَنْ أَنْفَقَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ r،وَقَاتَلَ مَعَهُ فَازَ بِفَضِيلَةِ السَّبْقِ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِهِ لَا اكْتِسَابِهِ،فَأَمَّا الْإِنْفَاقُ وَالْقِتَالُ اللَّذَانِ هُمَا مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ فَيَجُوزُ اسْتِوَاءُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَوَّلِهَا غَيْرِ الْمَخْصُوصِينَ مِنْهُمْ،فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:«لَمْ يُدْرِكْ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَوْ نَصِيفَهُ» مِنْ جِهَةِ السَّبْقِ الَّذِي هُوَ سَبْقُ الزَّمَانِ،وَيَكُونُ تَسَاوِيهِ بِالْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ الِاكْتِسَابِ،فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ r:«مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» :مِنْ جِهَةِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَبَذْلِهِمْ وَإِنْفَاقِهِمْ وَمَا هُوَ مِمَّا يَكْتَسِبُونَهُ،فَإِنْ أَخْبَرَهُمْ بِفِعْلِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ فَتَسَاوَوْا فِيهِ.وَقَوْلُهُ:«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ فِعْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأُولَئِكَ،فَأُولَئِكَ لَهُمْ فَضِيلَةُ السَّبْقِ فَهُمْ خَيْرُ النَّاسِ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ،وَالْمَعْدُودُونَ خَيْرَ النَّاسِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ،فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ r:«لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» فِي الْمَعْدُودِينَ وَمَنْ سِوَاهُمْ،يَجُوزُ فِيهِ تَسَاوِي أُولَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ تَفْضِيلًا وَاكْتِسَابًا،وَمَنْ سِوَاهُمْ فَأَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ سَوَاءٌ فِي الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ أَفْعَالُهُمْ وَاكْتِسَابُهُمْ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ"[88]

وقال السعدي :"يخبر تعالى عن رسوله r وأصحابه من المهاجرين والأنصار،أنهم بأكمل الصفات،وأجل الأحوال،وأنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} أي:جادون ومجتهدون في عداوتهم،وساعون في ذلك بغاية جهدهم،فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة،فلذلك ذل أعداؤهم لهم،وانكسروا،وقهرهم المسلمون،{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي:متحابون متراحمون متعاطفون،كالجسد الواحد،يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه،هذه معاملتهم مع الخلق،وأما معاملتهم مع الخالق فإنك {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أي:وصفهم كثرة الصلاة،التي أجل أركانها الركوع والسجود.{يَبْتَغُونَ} بتلك العبادة {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي:هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم،والوصول إلى ثوابه.{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي:قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم،حتى استنارت،لما استنارت بالصلاة بواطنهم،استنارت [بالجلال] ظواهرهم.{ذَلِكَ} المذكور {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أي:هذا وصفهم الذي وصفهم الله به،مذكور بالتوراة هكذا.وأما مثلهم في الإنجيل،فإنهم موصوفون بوصف آخر،وأنهم في كمالهم وتعاونهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} أي:أخرج فراخه،فوازرته فراخه في الشباب والاستواء.

{فَاسْتَغْلَظَ} ذلك الزرع أي:قوي وغلظ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمع ساق،{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} من كماله واستوائه،وحسنه واعتداله،كذلك الصحابة رضي الله عنهم،هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم،فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه،وكون الصغير والمتأخر إسلامه،قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه،من إقامة دين الله والدعوة إليه،كالزرع الذي أخرج شطأه،فآزره فاستغلظ،ولهذا قال:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم،وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال،ومعامع القتال.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فالصحابة رضي الله عنهم،الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح،قد جمع الله لهم بين المغفرة،التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة،والأجر العظيم في الدنيا والآخرة.[89]

وفي الظلال:"إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع.صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة،حالاتها الظاهرة والمضمرة.فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم:«أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم:«تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» ..ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها:«يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» ..ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم:«سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» ..«ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» ..وهذه صفتهم فيها ..ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل ..«كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» «فَآزَرَهُ» ..«فَاسْتَغْلَظَ» «فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ».«يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» ..:«لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ..

وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد - r - صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين:«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ..ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع.والمؤمنون لهم حالات شتى.ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم،ونقط الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة.وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة ..وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات،وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها.التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة.إرادة التكريم واضحة،وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم:«أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» ..أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم،ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا.رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين.فهي الشدة لله والرحمة لله.وهي الحمية للعقيدة،والسماحة للعقيدة.فليس لهم في أنفسهم شيء،ولا لأنفسهم فيهم شيء.وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم،كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها.يشتدون على أعدائهم فيها،ويلينون لإخوتهم فيها.قد تجردوا من الأنانية ومن الهوى،ومن الانفعال لغير الله،والوشيجة التي تربطهم بالله.

وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم،هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة:«تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً» ..والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم.ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة،وهي الحالة الأصلية لهم في حقيقة نفوسهم فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم،حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا.

واللقطة الثالثة مثلها.ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم:«يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» ..فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة.كل ما يشغل بالهم،وكل ما تتطلع إليه أشواقهم،هو فضل الله ورضوانه.ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به.

واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم،ونضحها على سماتهم:«سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» ..سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية،ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف.وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله:«مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» ..فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة.واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها.فهو أثر هذا الخشوع.أثره في ملامح الوجه،حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة.ويحل مكانها التواضع النبيل،والشفافية الصافية،والوضاءة الهادئة،والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا.

وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة.إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة:«ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» ..وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى،وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها.

«وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ» ..وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه،أنهم:«كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ» ..فهو زرع نام قوي،يخرج فرخه من قوته وخصوبته.ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده.«فَآزَرَهُ».أو أن العود آزر فرخه فشده.«فَاسْتَغْلَظَ» الزرع وضخمت ساقة وامتلأت.«فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ» لا معوجا ومحنيا.ولكن مستقيما قويا سويا ..

هذه صورته في ذاته.فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع،العارفين بالنامي منه والذابل.المثمر منه والبائر.فهو وقع البهجة والإعجاب:«يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ».وفي قراءة يعجب «الزارع» ..وهو رسول الله - r - صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج ..وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس.فهو وقع الغيظ والكمد:«لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» ..وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله.أو زرعة رسوله،وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله! وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا،فهو ثابت في صفحة القدر.ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض.ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون.وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة ..صحابة رسول الله - r - ..فتثبت في صلب الوجود كله،وتتجاوب بها أرجاؤه،وهو يتسمع إليها من بارئ الوجود.وتبقى نموذجا للأجيال،تحاول أن تحققها،لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات.

وفوق هذا التكريم كله،وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم:«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» ..وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعد ما تقدم من صفتهم،التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة.مغفرة وأجر عظيم ..وذلك التكريم وحده حسبهم.وذلك الرضى وحده أجر عظيم.ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود،والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ.

ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم.وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم.وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله،وفي ميزان الله،وفي كتاب الله.وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية،وقد نزلت هذه السورة،وقد قرئت عليهم.وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم.وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه.

وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه ..ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه.إلا من بعيد؟! اللهم إلا من يكرمه الله إكرامهم:فيقرب له البعيد؟! فاللهم إنك تعلم أنني أتطلع لهذا الزاد الفريد!!![90]

-----------

وقال تعالى :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:71]

المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ ،وَمَوَدَّةٌ ،وَتَعَاوُنٌ ،وَتَرَاحُمٌ ،وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ :فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ ،وَيَأْمُرُونَ بِهِ ،وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ ،وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ،وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ ،وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ .وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ،وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ،يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ،وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ ،فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ،وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ[91] .

إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض.إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة ..فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.إن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض.فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف.وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم.إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل،وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة،على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك.والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء ..

«الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» ..«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..

إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة.طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل،وطبيعة التضامن،ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر.

«يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» ..وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون.ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفا واحدا.لا تدخل بينها عوامل الفرقة.وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها،وعن عقيدتها،هو الذي يدخل بالفرقة.ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها.السمة التي يقررها العليم الخبير! «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وإعلاء كلمة الله،وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض.

«وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» ..الصلة التي تربطهم بالله.

«وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» ..الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة،وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن.

«وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله،ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله.ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله،ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله ..وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم،فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم.

«أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» ..والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها،إنما تكون في هذه الأرض أولا ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح.رحمة الله في اطمئنان القلب،وفي الاتصال بالله،وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث.

ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله.

إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين:الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر،وإقامة الصلاة،وإيتاء الزكاة،لتقابل من صفات المنافقين:الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي ..وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار ..وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية:«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف،حكيم في تقدير النصر والعزة لها،لتصلح في الأرض،وتحرس كلمة الله بين العباد.وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين،وكانت لعنته لهم بالمرصاد،وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضئالة والحرمان.فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين:«جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» ..للإقامة المطمئنة.ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم:«وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» ..وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم ..

«وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» ..إن لحظة اتصال بالله.لحظة شهود لجلاله.لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج،ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة.لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار.لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله ..إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء،ليتضاءل إلى جوارها كل متاع،وكل رجاء ..فكيف برضوان من الله يغمر هذه الأرواح،وتستشعره بدون انقطاع؟

«ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..[92]

 

____________

 


المبحث الثالث

البراءة من عبادة الكفار

 

قال تعالى :{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون:1 - 6]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ قُرَيْشًا دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا فَيَكُونُ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ وَيُزَوِّجُونَهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ وَيَطَأُونَ عَقِبَهُ , فَقَالُوا:هَذَا لَكَ عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ , وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا , وَلَا تَذْكُرْهَا بِشَرٍّ،فَإِنْ بَغَضْتَ فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً , وَلَكَ فِيهَا صَلَاحٌ قَالَ:«وَمَا هِيَ؟» قَالَ:تَعْبُدُ إِلَهَنَا سَنَةً اللَّاتَ وَالْعُزَّى , وَنَعْبُدُ إِلَهِكَ سَنَةً قَالَ:«حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِينِي مِنْ رَبِّي» , فَجَاءَ الْوَحْي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ:قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ السُّورَةَ , وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونُ} [الزمر:64] , {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66][93]

كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَدْ عَرَضُوا عَلَى رَُسولِ اللهِ r أَنْ يَعْبُدَ مَعَهُمْ آلِهَتَهُمْ مِنَ الأوْثَانِ سَنَةً ،ويَعْبُدُونَ مَعَهُ رَبَّهُ سَنَةً ،فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ الكَرِيمَةَ .وَفِيهَا يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ :قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ .

إِنَّنِي لاَ أَعْبُدُ الأَصْنَامَ التِي تَعْبُدُونَهَا أَنْتُمْ لأَنَّهَا حِجَارَةٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ،وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً .

وَلاَ أَنْتُمْ تَعْبُدُونَ إِلهِي الذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَهُوَ الإِلهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ ،خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ ،وَمُدَبِّرُ الأَمْرِ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .

وَلاَ أَنَا أَعْبُدُ مِثْلَ عِبَادَتِكُمْ فَلاَ أَسْلُكُهَا ،وَلا أَقْتَدِي بِهَا ،وَإِنَّمَا أَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ عَلَى الوَجْهِ الذِي يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ .وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مِثْلَ عِبَادَتِي ،فَعِبَادَتِي خَالِصَةٌ للهِ ،وَعِبَادَتُكُمْ يَشُوبُهَا الشِّرْكُ .

لَكُمْ دِينُكُم الذِي اعْتَقَدْتُمُوهُ .وَلَكُمْ جَزَاؤُكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَلِي إِسْلاَمِي ،وَلِي جَزَائِي عَلَى أَعْمَالِي .[94]

حسم الإسلام بآيات القرآن العظيم قضية الإيمان والشرك،بعد أن أوضح الله تعالى الأدلة الدالة على صحة الاعتقاد،من توحيد الله تعالى،والتصديق بأنبيائه ورسله،وبكتبه وملائكته واليوم الآخر،فلم يبق بعدئذ مجال للوثنية أو الشرك،وجاءت سورة «الكافرون» المكية بالإجماع مبرئة من الشرك والنفاق،ومن عمل المشركين،وآمرة بإخلاص العبادة لله تعالى،...

قل أيها الرسول لقومك القرشيين:يا أيها الكافرون،لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان،فلست أعبد آلهتكم بأية حال.والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض،والبدء بكلمة (قل) لرفع الحرج عن النبي،وبيان أنه مأمور بهذا الكلام،لا من عند نفسه.

لن أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم،ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.

لا أعبد أنا عبادتكم،أي لا أسلكها ولا أقتدي بها،وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه،وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته،بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم،لأن عبادة الرسول r وأتباعه المؤمنين برسالته خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن الله الإله المعبود بحق.وهم يعبدون الله بما شرعه.

والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها،فكلها شرك وإشراك،ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.

قيل:في الآيات تكرار،والغرض التأكيد،لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله r إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.

والقرار الفصل والقول الحسم الذي يجعل الاستقلال لكل فئة أو جماعة بدينها:

هو أن لكم إشراككم أو كفركم،ولي ديني ومذهبي وهو التوحيد والإخلاص لله أو الإسلام،فدينكم الذي هو الإشراك،لكم لا يتجاوزكم إلي،وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني،فيحصل لكم.

وليست هذه السورة على التحقيق منسوخة بآية القتال:وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [التوبة:9/ 36] فإن المحققين من العلماء قالوا:لا نسخ لهذه السورة،بل المراد التهديد،كقوله تعالى:اعملوا ما شئتم [فصلت:41/ 40] .

ونظير هذه الآية كثير في القرآن،منها قوله تعالى:وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [يونس:10/ 14] .

وهذا الفصل بين أتباع الأديان يريح كل فريق،ويجعل كل إنسان مسئولا عما يحب ويختار،ويعتقد ويعمل،إذ لا إكراه في الدين،والدين يقوم على أساس القناعة والحرية والاختيار،وهذا أساس توجيه المسؤولية لكل إنسان عما عمل،وسيرى كل واحد عاقبة فعله واعتقاده وقوله.وإذا لم يجد الإقناع وإعمال العقل الحر الطليق من غير تعصب ولا أحقاد ولا موروثات،فإن كل إنسان مطالب بترك غيره فيما اختاره أو اعتقده.[95]

«قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ.لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ،وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ،وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ،وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ.لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ».نفي بعد نفي.وجزم بعد جزم.وتوكيد بعد توكيد.بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد ..

«قُلْ» ..فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر اللّه وحده.ليس لمحمد فيه شيء.إنما هو اللّه الآمر الذي لا مرد لأمره،الحاكم الذي لا راد لحكمه.

«قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ..ناداهم بحقيقتهم،ووصفهم بصفتهم ..إنهم ليسوا على دين،وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون.فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق ..

وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب،بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال! «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» ..فعبادتي غير عبادتكم،ومعبودي غير معبودكم ..

«وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» فعبادتكم غير عبادتي،ومعبودكم غير معبودي.

«وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» ..توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الاسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها.

«وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» ..تكرار لتوكيد الفقرة الثانية.كي لا تبقي مظنة ولا شبهة،ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد!

ثم إجمال لحقيقة الافتراق  الذي لا التقاء فيه،والاختلاف   الذي لا تشابه فيه،والانفصال الذي لا اتصال فيه،والتمييز الذي لا اختلاط فيه :«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..أنا هنا وأنتم هناك،ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!! مفاصلة كاملة شاملة،وتميز واضح دقيق ..

لقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل،الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق.الاختلاف في جوهر الاعتقاد،وأصل التصور،وحقيقة المنهج،وطبيعة الطريق.

إن التوحيد منهج،والشرك منهج آخر ..ولا يلتقيان ..التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى اللّه وحده لا شريك له.ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان،عقيدته وشريعته،وقيمه وموازينه،وآدابه وأخلاقه،وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود.هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي اللّه،اللّه وحده بلا شريك.ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس.غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية ..وهي تسير ..

وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية.وضرورية للمدعوين ..

إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان،وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها.وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف.أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا.ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها،قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد ..وهذا الإغراء في منتهى الخطورة! إن الجاهلية جاهلية،والإسلام إسلام.والفارق بينهما بعيد.والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته.هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.

وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية :تصورا ومنهجا وعملا.الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق.والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.

لا ترقيع.ولا أنصاف حلول.ولا التقاء في منتصف الطريق ..مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام،أو ادعت هذا العنوان! وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس.شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء.لهم دينهم وله دينه،لهم طريقهم وله طريقه.لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم.ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو،بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير! وإلا فهي البراءة الكاملة،والمفاصلة التامة،والحسم الصريح ..«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..

وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم ..ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة،وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة،ثم طال عليهم الأمد «فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» ..وأنه ليس هناك أنصاف حلول،ولا التقاء في منتصف الطريق،ولا إصلاح عيوب،ولا ترقيع مناهج ..إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان،الدعوة بين الجاهلية.والتميز الكامل عن الجاهلية ..«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..وهذا هو ديني :التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه،وعقيدته وشريعته ..كلها من اللّه ..دون شريك ..كلها ..في كل نواحي الحياة والسلوك.

وبغير هذه المفاصلة.سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع ..والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة.إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح ..وهذا هو طريق الدعوة الأول :«لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» ..

وعن عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ،عَنْ أَبِيهَا،قَالَ :سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ :" مَنْ قَرَأَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ كَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ،وَمَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ "[96]

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- قَرَأَ فِى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[97]

وعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ :دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ r فَقُلْتُ :يَا نَبِيَّ اللهِ،عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي،قَالَ :اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.[98]

وعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ r،قَالَ :هَلْ لَكَ فِي رَبِيبَةٍ يَكْفُلُهَا رَبِيبٌ ؟ قَالَ :ثُمَّ جَاءَ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ r،فَقَالَ :تَرَكْتُهَا عِنْدَ أُمِّهَا،قَالَ :فَمَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ ؟ قَالَ :جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي،قَالَ :اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون :]،ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا،فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ.[99]

هناك حقيقة أولية ،ينبغي أن تكون واضحة في نفوسنا تماماً ونحن نقدم الإسلام للناس :الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء ..هذه الحقيقة تنبثق من طبيعة الإٍسلام ذاته ،وتنبع من تاريخه

إن الإسلام تصور مستقل للوجود والحياة ،تصور كامل ذو خصائص متميزة ،ومن ثَمَّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها ،بكل مقوماتها وارتباطاتها ،ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة .

هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً .وقد يلتقي مع هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية ،ولكن الأصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة عن سائر ما عرفته البشرية من نظائرها .

ووظيفة الإسلام الأولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور ،وتمثله في صورة واقعية ،وأن يقيم في الأرض نظاماً يتبع المنهج الرباني الذي اختاره الله ،وهو يخرج هذه الأمة المسلمة لتمثله وتقوم عليه ،وهو - سبحانه - يقول :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ...[ آل عمران :110 ]

ويقول في صفة هذه الأمة :{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } ...[ الحج :41 ]

وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض ،ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان ..لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ،ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل ..فالجاهلية هي الجاهلية ،الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده وعن المنهج الإلهي في الحياة ،واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي ..الإسلام وهو الإسلام ،ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام !

الجاهلية هي عبودية الناس للناس :بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله ،كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع ..!

والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم والتحرر من عبودية العبيد !

هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة الإسلام ،وطبيعة دوره في الأرض ،هي التي يجب أن نقدم بها الإسلام للناس :الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء !

إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية .لا من ناحية التصور ،ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور ..فإما إسلام وإما جاهلية .وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية ،يقبله الإسلام ويرضاه ..فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدد ،وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال .وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج .وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية ،وإما شريعة الله ،وإما الهوى ..والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة :{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ..[ المائدة :49 ]

{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } ..[ الشورى :15 ]

{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ..[ القصص :50 ]

{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ،إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } ..[ الجاثية :18-19 ] { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ..[ المائدة :50 ]

فهما أمران لا ثالث لهما .إما الاستجابة لله والرسول ،وإما اتباع الهوى .إما حكم الجاهلية .إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله ..وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو للمحال ..

وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية ،وتولي هذه القيادة على منهجه الخاص ،المستقل الملامح ،الأَصيل الخصائص ..يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية واليسر .الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها ،واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة البشرية ،وتولي هذه القيادة منهجه الخاص ،المستقل ،ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها،وتخلص من حكم الهوى .

فلننظر ماذا فعل ربعي بن عامر رضي الله عنه مع رستم ،قال ابن كثير :" قَالُوا:ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ،وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ،فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ،وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ،وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ،وَعَلَيْهِ تَاجُهُ،وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ،وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ،وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ،وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ،ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ،وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ،فَقَالُوا لَهُ:ضَعْ سِلَاحَكَ.فَقَالَ:إِنِّي لَمْ آتِكُمْ،وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي،فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ.فَقَالَ رُسْتُمُ:ائْذَنُوا لَهُ.فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا،فَقَالُوا لَهُ:مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ فَقَالَ:اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ،وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا،وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ،فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ،فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ،وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ.قَالُوا:وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ ؟ قَالَ:الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى،وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ.فَقَالَ رُسْتُمُ:قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ،فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا ؟ قَالَ:نَعَمْ،كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ؟ قَالَ:لَا،بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا.فَقَالَ:مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ   r  أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ،فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ،وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ.فَقَالَ:أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ ؟ قَالَ:لَا،وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ.فَاجْتَمَعَ رُسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ،فَقَالَ:هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَالُوا:مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ ؟ ! فَقَالَ:وَيْلَكُمْ لَا تَنْظُرُوا إِلَى الثِّيَابِ،وَانْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ،إِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ،وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ.

ثُمَّ بَعَثُوا يَطْلُبُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي رَجُلًا،فَبُعِثَ إِلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ،فَتَكَلَّمَ نَحْوَ مَا قَالَ رِبْعِيٌّ.وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ،فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ طَوِيلٍ،قَالَ فِيهِ رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ:إِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي دُخُولِكُمْ أَرْضَنَا كَمَثَلِ الذُّبَابِ رَأَى الْعَسَلَ فَقَالَ:مَنْ يُوصِلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ ؟ فَلَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِ غَرِقَ فِيهِ،فَجَعَلَ يَطْلُبَ الْخَلَاصَ فَلَا يَجِدُهُ،وَجَعَلَ يَقُولُ:مَنْ يُخَلِّصُنِي وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ ؟ وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ ثَعْلَبٍ ضَعِيفٍ دَخَلَ جُحْرًا فِي كَرْمٍ،فَلَمَّا رَآهُ صَاحِبُ الْكَرْمِ ضَعِيفًا رَحِمَهُ فَتَرَكَهُ،فَلَمَّا سَمِنَ أَفْسَدَ شَيْئًا كَثِيرًا فَجَاءَ بِجَيْشِهِ،وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِغِلْمَانِهِ،فَذَهَبَ لِيَخْرُجَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسِمَنِهِ،فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ،فَهَكَذَا تَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِنَا.ثُمَّ اسْتَشَاطَ غَضَبًا،وَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ لَأَقْتُلَنَّكُمْ غَدًا.فَقَالَ الْمُغِيرَةُ:سَتَعْلَمُ.ثُمَّ قَالَ رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ:قَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ،وَلِأَمِيرِكُمْ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَكِسْوَةٍ وَمَرْكُوبٍ وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا.فَقَالَ الْمُغِيرَةُ:أَبْعَدَ أَنْ أَوْهَنَّا مُلْكَكُمْ وَضَعَّفْنَا عِزَّكُمْ ؟ ! وَلَنَا مُدَّةٌ نَحْوَ بِلَادِكُمْ،وَنَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْكُمْ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ،وَسَتَصِيرُونَ لَنَا عَبِيدًا عَلَى رَغْمِكُمْ.فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَشَاطَ غَضَبًا.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ،ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ،ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،قَالَ:قَالَ أَبُو وَائِلٍ:جَاءَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَمَعَهُ النَّاسُ.قَالَ:لَا أَدْرِي لَعَلَّنَا لَا نَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ،بَيْنَ ذَلِكَ،وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا وَنَحْوَ ذَلِكَ،فَقَالُوا:لَا يَدَ لَكُمْ وَلَا قُوَّةَ وَلَا سِلَاحَ،مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ ارْجِعُوا.قَالَ:قُلْنَا:مَا نَحْنُ بِرَاجِعِينَ.فَكَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ نَبْلِنَا،وَيَقُولُونَ:دُوكْ دُوكْ.وَشَبَّهُونَا بِالْمَغَازِلِ.فَلَمَّا أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ نَرْجِعَ.قَالُوا:ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْكُمْ عَاقِلًا يُبَيِّنُ لَنَا مَا جَاءَ بِكُمْ.فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ:أَنَا.فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ فَقَعَدَ مَعَ رُسْتُمَ عَلَى السَّرِيرِ فَنَخَرُوا وَصَاحُوا،فَقَالَ:إِنَّ هَذَا لَمْ يَزِدْنِي رِفْعَةً وَلَمْ يُنْقِصْ صَاحِبَكُمْ.فَقَالَ رُسْتُمُ:صَدَقَ،مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ فَقَالَ:إِنَّا كُنَّا قَوْمًا فِي شَرٍّ وَضَلَالَةٍ،فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا،فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ وَرَزَقَنَا عَلَى يَدَيْهِ،فَكَانَ فِيمَا رَزَقَنَا حَبَّةٌ تَنْبُتُ بِهَذَا الْبَلَدِ،فَلَمَّا أَكَلْنَاهَا وَأَطْعَمْنَاهَا أَهْلِينَا،قَالُوا:لَا صَبْرَ لَنَا عَنْهَا،أَنْزِلُونَا هَذِهِ الْأَرْضَ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْحَبَّةِ.فَقَالَ رُسْتُمُ:إِذَنْ نَقْتُلُكُمْ.قَالَ:إِنْ قَتَلْتُمُونَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ،وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ،أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ.قَالَ:فَلَمَّا قَالَ:أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ.نَخَرُوا وَصَاحُوا وَقَالُوا:لَا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.فَقَالَ الْمُغِيرَةُ:تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ ؟ فَقَالَ رُسْتُمُ:بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ.فَاسْتَأْخَرَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى عَبَرُوا،فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ.

وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ سَعْدًا كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا يَوْمَئِذٍ،وَأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَتَلَى قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (105) سورة الأنبياء.وَصَلَّى بِالنَّاسِ الظَّهْرَ،ثُمَّ كَبَّرَ أَرْبَعًا،وَحَمَلُوا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا:لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي طَرْدِهِمْ إِيَّاهُمْ،وَقَتْلِهِمْ لَهُمْ،وَقُعُودِهِمْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ،وَحَصْرِهِمْ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ،وَمَا رُدَّ شَارِدُهُمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى نَهَاوَنْدَ،وَلَجَأَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَبْوَابِهَا،وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ بَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى كِسْرَى يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ،فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى كِسْرَى،فَأَذِنَ لَهُمْ،وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَشْكَالِهِمْ،وَأَرْدَيَتِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ،وَسِيَاطِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ،وَالنِّعَالِ فِي أَرْجُلِهِمْ،وَخُيُولِهِمُ الضَّعِيفَةِ،وَخَبْطِهَا الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهَا،وَجَعَلُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُمْ غَايَةَ الْعَجَبِ،كَيْفَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ يَقْهَرُونَ جُيُوشَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهَا وَعُدَدِهَا.وَلَمَّا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْمَلِكِ يَزْدَجِرْدَ أَذِنَ لَهُمْ وَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ،وَكَانَ مُتَكَبِّرًا قَلِيلَ الْأَدَبِ،ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ مَلَابِسِهِمْ هَذِهِ مَا اسْمُهَا،عَنِ الْأَرْدِيَةِ،وَالنِّعَالِ،وَالسِّيَاطِ،ثُمَّ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَفَاءَلَ،فَرَدَّ اللَّهُ فَأْلَهَ عَلَى رَأْسِهِ.ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:مَا الَّذِي أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ ؟ أَظْنَنْتُمْ أَنَّا لَمَّا تَشَاغَلْنَا بِأَنْفُسِنَا اجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا ؟ ! فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ:إِنَّ اللَّهَ رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُنَا بِهِ،وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ،وَوَعَدَنَا عَلَى إِجَابَتِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،فَلَمْ يَدْعُ إِلَى ذَلِكَ قَبِيلَةً إِلَّا صَارُوا فِرْقَتَيْنِ،فِرْقَةً تُقَارِبُهُ وَفِرْقَةً تُبَاعِدُهُ،وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي دِينِهِ إِلَّا الْخَوَاصُّ،فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ،ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيَبْدَأَ بِهِمْ،فَفَعَلَ،فَدَخَلُوا مَعَهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهَيْنِ،مَكْرُوهٍ عَلَيْهِ فَاغْتَبَطَ،وَطَائِعٍ أَتَاهُ فَازْدَادَ،فَعَرَفْنَا جَمِيعًا فَضْلَ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالضِّيقِ،وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يَلِينَا مِنَ الْأُمَمِ فَنَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ،فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى دِينِنَا،وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ وَقَبَّحَ الْقَبِيحَ كُلَّهُ،فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَمْرٌ مِنَ الشَّرِّ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ آخَرَ شَرٍّ مِنْهُ،الْجِزَاءُ،فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْمُنَاجَزَةُ،وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى دِينِنَا خَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ،وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ تَحْكُمُوا بِأَحْكَامِهِ وَنَرْجِعَ عَنْكُمْ،وَشَأْنَكُمْ وَبِلَادَكُمْ،وَإِنِ اتَّقَيْتُمُونَا بِالْجِزَيِ قَبِلْنَا وَمَنَعْنَاكُمْ،وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ.قَالَ:فَتَكَلَّمَ يَزْدَجِرْدُ فَقَالَ:إِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمَّةً كَانَتْ أَشْقَى وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا وَلَا أَسْوَأَ ذَاتِ بَيْنٍ مِنْكُمْ،قَدْ كُنَّا نُوَكِّلُ بِكُمْ قُرَى الضَّوَاحِي فَيَكْفُونَاكُمْ،لَا تَغْزُوكُمْ فَارِسُ وَلَا تَطْمَعُونَ أَنْ تَقُومُوا لَهُمْ،فَإِنْ كَانَ عَدَدُكُمْ كَثُرَ فَلَا يُغْرُنَّكُمْ مِنَّا،وَإِنْ كَانَ الْجَهْدُ دَعَاكُمْ فَرَضْنَا لَكُمْ قُوتًا إِلَى خِصْبِكُمْ،وَأَكْرَمْنَا وُجُوهَكُمْ وَكَسَوْنَاكُمْ،وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلِكًا يَرْفُقُ بِكُمْ.فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ،فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ فَقَالَ:أَيُّهَا الْمَلِكُ،إِنَّ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْعَرَبِ وَوُجُوهُهُمْ،وَهُمْ أَشْرَافٌ يَسْتَحْيُونَ مِنَ الْأَشْرَافِ،وَإِنَّمَا يُكْرِمُ الْأَشْرَافَ الْأَشْرَافُ،وَيُعَظِّمُ حُقُوقَ الْأَشْرَافِ الْأَشْرَافُ،وَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرْسِلُوا لَهُ جَمَعُوهُ لَكَ،وَلَا كُلُّ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ أَجَابُوكَ عَنْهُ،وَقَدْ أَحْسَنُوا،وَلَا يَحْسُنُ بِمِثِلِهِمْ إِلَّا ذَلِكَ،فَجَاوِبْنِي فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي أُبَلِّغُكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ،إِنَّكَ قَدْ وَصَفْتَنَا صِفَةً لَمْ تَكُنْ بِهَا عَالِمًا،فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ،فَمَا كَانَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَّا،وَأَمَّا جُوعُنَا فَلَمْ يَكُنْ يُشْبِهُ الْجُوعَ،كُنَّا نَأْكُلُ الْخَنَافِسَ وَالْجِعْلَانَ وَالْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ وَنَرَى ذَلِكَ طَعَامَنَا،وَأَمَّا الْمَنَازِلُ فَإِنَّمَا هِيَ ظَهْرُ الْأَرْضِ،وَلَا نَلْبَسُ إِلَّا مَا غَزَلْنَا مِنْ أَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْغَنَمِ،دِينُنَا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا،وَأَنْ يُغِيرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ،وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَدْفِنُ ابْنَتَهُ وَهَى حَيَّةٌ،كَرَاهِيَةَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ،فَكَانَتْ حَالُنَا قَبْلَ الْيَوْمِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ،فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَجُلًا مَعْرُوفًا،نَعْرِفُ نَسَبَهُ،وَنَعْرِفُ وَجْهَهُ وَمَوْلِدَهُ،فَأَرْضُهُ خَيْرُ أَرْضِنَا،وَحَسَبُهُ خَيْرُ أَحْسَابِنَا،وَبَيْتُهُ خَيْرُ بُيُوتِنَا،وَقَبِيلَتُهُ خَيْرُ قَبَائِلِنَا،وَهُوَ نَفْسُهُ كَانَ خَيْرُنَا فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَصْدَقَنَا وَأَحْلَمَنَا،فَدَعَانَا إِلَى أَمْرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْ تِرْبٍ كَانَ لَهُ وَكَانَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ،فَقَالَ وَقُلْنَا،وَصَدَقَ وَكَذَبْنَا،وَزَادَ وَنَقَصْنَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا كَانَ،فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا التَّصْدِيقَ لَهُ وَاتِّبَاعَهُ،فَصَارَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ،فَمَا قَالَ لَنَا فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ،وَمَا أَمَرَنَا فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ،فَقَالَ لَنَا:إِنَّ رَبَّكُمْ يَقُولُ:أَنَا اللَّهُ وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي،كُنْتُ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ،وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهِي،وَأَنَا خَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَإِلَيَّ يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ،وَإِنَّ رَحْمَتِي أَدْرَكَتْكُمْ،فَبَعَثْتُ إِلَيْكُمْ هَذَا الرَّجُلَ لِأَدُلَّكُمْ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي أُنْجِيكُمْ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ عَذَابِي،وَلِأُحِلَّكُمْ دَارِي دَارَ السَّلَامِ.فَنَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ.وَقَالَ:مَنْ تَابَعَكُمْ عَلَى هَذَا فَلَهُ مَا لَكَمَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْكُمْ،وَمَنْ أَبَى فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ،ثُمَّ امْنَعُوهُ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ،وَمَنْ أَبَى فَقَاتِلُوهُ،فَأَنَا الْحَكَمُ بَيْنَكُمْ،فَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَدْخَلْتُهُ جَنَّتِي،وَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَعْقَبْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ.فَاخْتَرْ إِنْ شِئْتَ الْجِزْيَةَ،وَأَنْتَ صَاغِرٌ،وَإِنْ شِئْتَ فَالسَّيْفَ،أَوْ تُسْلِمُ فَتُنَجِّيَ نَفْسَكَ.فَقَالَ يَزْدَجِرْدُ:اسْتَقْبَلْتَنِي بِمِثْلِ هَذَا ؟ ! فَقَالَ:مَا اسْتَقْبَلْتُ إِلَّا مَنْ كَلَّمَنِي،وَلَوْ كَلَّمَنِي غَيْرُكَ لَمْ أَسْتَقْبِلْكَ بِهِ.فَقَالَ:لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ،لَا شَيْءَ لَكُمْ عِنْدِي.وَقَالَ:ائْتُونِي بِوَقْرٍ مِنْ تُرَابٍ،فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلَاءِ،ثُمَّ سُوقُوهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْيَاتِ الْمَدَائِنِ،ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَعْلِمُوهُ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ رُسْتُمَ حَتَّى يَدْفِنَهُ وَجُنْدَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ وَيُنَكِّلَ بِهِ وَبِكُمْ مِنْ بَعْدُ،ثُمَّ أُورِدُهُ بِلَادَكُمْ حَتَّى أَشْغَلَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بِأَشَدَّ مِمَّا نَالَكُمْ مِنْ سَابُورَ.ثُمَّ قَالَ:مَنْ أَشْرَفُكُمْ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ،فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو،وَافْتَاتَ لِيَأْخُذَ التُّرَابَ:أَنَا أَشْرَفُهُمْ،أَنَا سَيِّدُ هَؤُلَاءِ،فَحَمِّلْنِيهِ.فَقَالَ:أَكَذَاكَ ؟ قَالُوا:نَعَمْ.فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْإِيوَانِ وَالدَّارِ حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ،فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ انْجَذَبَ فِي السَّيْرِ فَأَتَوْا بِهِ سَعْدًا،وَسَبَقَهُمْ عَاصِمٌ،فَمَرَّ بِبَابِ قُدَيْسٍ فَطَوَاهُ فَقَالَ:بَشِّرُوا الْأَمِيرَ بِالظَّفَرِ،ظَفِرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.ثُمَّ مَضَى حَتَّى جَعَلَ التُّرَابَ فِي الْحِجْرِ،ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ عَلَى سَعْدٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ.فَقَالَ:أَبْشِرُوا فَقَدْ وَاللَّهِ أَعْطَانَا اللَّهُ أَقَالِيدَ مُلْكِهِمْ.وَتَفَاءَلُوا بِذَلِكَ أَخْذَ بِلَادِهِمْ،ثُمَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُ الصَّحَابَةِ يَزْدَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُلُوًّا وَشَرَفًا وَرِفْعَةً،وَيَنْحَطُّ أَمْرَ الْفُرْسِ سُفْلًا وَذُلًّا وَوَهَنًا.."[100]

لم يجيء الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم ..سواء منها ما عاصر مجيء الإسلام ،أو ما تخوض البشرية فيه الآن ،في الشرق أو في الغرب سواء ..إنما جاء هذا كله إلغاءً ،وينسخه نسخاً ،ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة .جاء لينشئ الحياة إنشاءً .لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً ،وترتبط بمحوره ارتباطاً .وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية .ولكنها ليست هي ،وليست منها .إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع .أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً .تلك شجرة تطلعها حكمة الله ،وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر :{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْـرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً } ..[ الأعراف :58 ]

وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً ..يختلف خبثها في مظهره وشكله ،ولكنه واحد في مغرسه وأصله ..إنه هوى البشر الجهال المغرضين ،الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم ،ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير .حتى تجيء شريعة الله فتنسخ هذا كله ،وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر ،ولا يلوِّثه هواهم ،ولا تميل به مصلحة فريق منهم .

ولأن هذا هو الفارق الأَصيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس ،فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد ،ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد .ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك .وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به .فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه ..هذه كتلك سواء بسواء .لأن هذه هي تلك على وجه اليقين .

هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم ،ولا ندع الناس في شك منها ،ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدِّل حياتهم تبديلاً ..سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها .كما سيبدل أوضاعهم كذلك .سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس .سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم ،ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان .ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها ،اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه .وحتى هذه لن تكون هي بعينها ،لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيِّناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه الآن :أصل الجاهلية النكد الخبيث ! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة " العلمية البحتة " بل سيدفعها قوية إلى الأمام ..

يجب ألاَّ ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية ،كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية ..بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جميعاً ..وإنما هو الإسلام فقط !

الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل ،وأوضاعه المستقلة .الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع .الإٍسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير .

وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو ،فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام ،في ثقة وقوة ،وفي عطف كذلك ورحمة ..ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل .وعطف الذي يرى شقوة البشر ،وهو يعرف كيف يسعدهم .ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى !

لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً [101].ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة ..سنكـون صرحاء معهم غاية الصراحة ..هـذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم ..هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث ،والله يريد أن يطيِّبكم ..هذه الحياة التي تحيونها دون ،والله يريد أن يرفعكم ..هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد ،والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم ..والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم ،وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها ،وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها ،وإلى قيم أخرى تشمئزون معها مـن قيمكم السائدة فـي الأرض جميعاً ..وإذا كنتم أنتم - لشقوتكم - لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية ،لأن أعداءكم - أعداء هذا الدين - يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة ،ودون تجسد هذه الصورة ،فنحن قد رأيناها - والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه !

هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام .لأن هذه هي الحقيقة ،ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة .سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم .أم في أي مكان خاطب الناس فيه .

نظر إليهم من عل ،لأن هذه هي الحقيقة .وخاطبهم بلغة الحب والعطف لأنها حقيقة كذلك في طبيعته .وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد لأن هذه هي طريقته ..ولم يقل لهم أبداً :إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة ! أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها ..كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام ..مرة تحت عنوان :" ديمقراطية الإسلام " ! ومرة تحت عنوان " اشتراكية الإسلام " ! ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة !!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات !

كلا .إن الأمر مختلف جداً .والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض إلى الإسلام نقلة واسعة بعيدة ،وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماماً لصور الحياة الجاهلية قديماً وحديثاً .وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع .ولن ينجي البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة .النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق ،ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر ،ومن أحكام العبيد إلى حكم رب العبيد .هذه حقيقة .وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع ،وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس .

وقد يكره الناس هذا في أول الأمر ،وقد يجفلون منه ويشفقون .ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام .أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد -  r - تصوراتهم ،ويعيب آلهتهم ،وينكر أوضاعهم ،ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم ،ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها .ثم ماذا ؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة ،والذي أجفلوا منه :{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ،فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } ..[ المدثر :50 – 51 ]

والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة ،والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة ،ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة ..ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن ..كانت مجهولة مستنكرة من الجاهلية ،وكانت محصورة في شعاب مكة ،مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها ،وكانت غريبة في زمانها في العالم كله .وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها .ولكنها مع هـذا كله كانت قوية ،كما هـي اليوم قوية ،وكما هي غداً قوية ..إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها ،ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً .إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي تقوم عليه .وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً ،وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم ،في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي ..كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها ،ولا تربت على شهوات الجاهلية ،ولا تتدسس إليها تدسساً .إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة ..

والله الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع بالحق صدعاً .في صراحة وقوة .بلا تلعثم ولا وصوصة [102]!

إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة .وذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة ..والانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه وأكمل وأنظف ،انتقال له ما يبرره في منطق النفس ..ولكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام ،إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييراً طفيفاً هنا ،وتعديلاً طفيفاً هناك ؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلـى المنطق .لأنه على الأقل نظام قائم ،قابل للإصلاح والتعديل ،فلا ضرورة لطرحه ،والانتقال إلى نظام غير قائم ولا مطبق ،مادام أنه شبيه به في معظم خصائصه !

كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع التهمة عنه ! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله ،وأن الإسلام لم يصنع شيئاً - في هذه الأمور - إلا ما تصنعه " الحضارات " الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام !  وهان ذلك دفاعاً ! وساء ذلك دفاعاً !

إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعت منها .وهذه " الحضارات " التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها .وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام ..ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو " العالم الإسلامي " ! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون ..وحجة الإسلام التي يدلي بها للناس :إنه خير منها بما لا يقاس ،وإنه جاء ليغيّرها لا ليقرّها ،وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب " الحضارة " ..

فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة ،وفي بعض المذاهب القائمة ،وفي بعض الأفكار القائمة .فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء ..إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريـد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه .وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة ،ونقدم لهم القاعدة العقدية للتصور الإسلامي الشامل ،يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر الانتقال من تصور إلى تصور ،ومن وضع إلى وضع .ولكننا لا نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم :تعالوا من نظام قائم فعلاً إلى نظام آخر غير مطبق ،لا يغير في نظامكم القائم إلا قليلاً .وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا الأمر وذاك مثلما يفعل هو ،ولا يكلفكم إلا تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم ،وسيبقى لكم كل ما تحرصون عليه منها ولا يمسه مساً خفيفاً !!

هذا الذي يبدو سهلاً فـي ظاهره ،ليس مغرياً فـي طبيعته ،فضلاً على أنه ليس هو الحقيقة ..فالحقيقة أن الإسلام يبدل التصورات والمشاعر ،كما يبدل النظم والأوضاع ،كما يبدل الشرائع والقوانين تبديلاً أساسياً لا يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية ،التي تحياها البشرية ..ويكفي أنه ينقلهم جملة وتفصيلاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ..{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ..{ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ..

والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان ،مسألة شرك وتوحيد ،مسألة جاهلية وإسلام .وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً ..إن الناس ليسوا مسلمين - كما يدّعون - وهم يحيون حياة الجاهلية .وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين ،فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك .ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً ..ليس هذا إسلاماً ،وليس هؤلاء مسلمين .والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام ،ولتجعل منهم مسلمين من جديد .

ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً .ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً .ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً ،وحسابنا وأجرنا ليس على الناس .إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير ..مهما آذونا ..لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام ،وهذه هي دوافعه ..ومن ثَمَّ يجب أن يعلموا منا حقيقة الإسلام ،وحقيقة التكاليف التي سيطلبها إليهم ،في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم .كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه من الجاهلية ..إنها الجاهلية وليست في شيء من الإسلام ،إنها " الهوى " ما دام أنها ليست هي " الشريعة " .إنها " الضلال " ما دام أنها ليست هي الحق ..فماذا بعد الحق إلا الضلال !

وليس في إسلامنا ما نخجل منه ،وما نضطر للدفاع عنه ،وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً ،أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته ..إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس .." المسلمين " ..يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية ،أو يتلمس من أعمال " الحضارة " الجاهلية ما يسند به أعمال الإسلام وقضاءه في بعض الأمور ..إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس .وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب ،ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية .وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه ،كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام !

بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا - نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام - في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك - وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير ..وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية ..سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة .أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية ..هذه التصورات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء ،وهي لا تستقيم في عقل ولا ضمير ..وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فيها من بشاعة كالحة ..وهذه الفردية الأثرة التي ينعدم معها التكافل إلا تحت مطارق القانون ..وهذا التصور المادي التافه الجاف للحياة ..وحرية البهائم التي يسمونها " حرية الاختلاط " ..وسوق الرقيق التي يسمونها " حرية المرأة " ..والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم الزواج والطلاق ،والتفريق العنصري الحادّ الخبيث ..ثم ..ما في الإسلام من منطق وسمو وإنسانية وبشاشة ،وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ولا تبلغها .ومن مواجهة الواقع في الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة الإنسانية السليمة .وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية ..وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام ..ولكن ناساً - يدّعون الإسلام - ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية ،حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب .وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق أيضاً !

ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول :إننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس ،ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها ،ولا في شيء من أوضاعها ،ولا في شيء من تقاليدها .مهما يشتد ضغطها علينا .

إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية .ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق ،كما قد يخيل إلى البعض منا ..إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق ..

إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة ،والتقاليد الاجتماعية الشائعة ،ضغط ساحق عنيف ،وبخاصة في دنيا المرأة .ولكن لا بد مما ليس منه بد .لا بد أن نثبت أولاً ،ولا بد أن نستعلي ثانياً ،ولا بد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرفة للحياة الإسلامية التي نريدها .ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات ،كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل ..كلا ،إنما هي المخالطة مع التميز ،والأخذ والعطاء مع الترفع ،والصدع بالحق في مودة ،والاستعلاء بالإيمان في تواضع .والامتلاء بعد هذا كله بالحقيقة الواقعة .وهي أننا نعيش في وسط جاهلية ،وأننا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية ،وإنها نقلة بعيدة واسعة ،هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام ،وإنها هوة فاصلة لا يقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق ،ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام ،سواء كانوا ممن يعيشون فيما يسمى الوطن الإسلامي ،ويزعمون أنهم مسلمون ،أو كانوا يعيشون فـي غير الوطن " الإسلامي " ،وليخرجوا من الظلمات إلى النور ،ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها ،وينعموا بالخير الذي ذقناه نحن الذين عرفنا الإسلام وحاولنا أن نعيش به ..وإلا فلنقل ما أمر الله سبحانه الرسول  r أن يقوله :{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ...[ الكافرون :6 ][103]

------------

وقال تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:14]

قُلْ لَهُمْ :إنَّنِي لاَ أَطْلُبُ مِنْ غَيْرِ اللهِ نَفْعاً وَلاَ ضَراً ،وَلاَ فِعْلاً وَلاَ مَنْعاً ،وَلاَ أتَّخَذَ غَيْرَهُ تَعَالَى وَلَيّاً لِي ،فَهُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ،وَخَالِقُهُما وَمُبْدِعُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ .وَهُوَ الذِي يَرْزُقُ العِبَادَ الطَّعَامَ ،وَلَيْسَ هُوَ بِحَاجَةٍ إلَى مَنْ يَرْزُقُهُ وَيُطْعِمُهُ ،لأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الحَاجَةِ إلى كُلِّ مَا سِوَاهُ ،وَقُلْ لَهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُمُ الأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ :لَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي ،جَلَّ شَأْنُهُ وَعَلاَ ،أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ ،وَانْقَادَ لأَمْرِهِ ،مِنْ تِلْكَ الأُمَّةِ التِي بُعِثْتُ فِيهَا ،فَلاَ أَدْعُو إلَى شَيءٍ إلاَّ كُنْتُ أَنَا أَوْلَ مَنْ آمَنَ بِهِ ،وَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي بِألاَّ أَكُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى .[104]

قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ،وَالْمُنْكِرِينَ عَلَيْكَ إِخْلَاصَ التَّوْحِيدِ لِرَبِّكَ،الدَّاعِينَ إِلَى عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ:أَشْيَاءَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَتَّخِذُ وَلِيًّا وَأَسْتَنْصِرُهُ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى النَّوَائِبِ وَالْحَوَادِثِ؟

وقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلَّذِينَ يَدْعُونَكَ إِلَى اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحُثُّونَكَ عَلَى عِبَادَتِهَا:أَغَيْرَ اللَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ،وَهُوَ يَرْزُقُنِي وَغَيْرِي،وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ،أَتَّخِذُ وَلِيًّا هُوَ لَهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَخَلْقٌ مَخْلُوقٌ؟ وَقُلْ لَهُمْ أَيْضًا:إِنِّي أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ،يَقُولُ:أَوَّلُ مَنْ خَضَعَ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَذَلَّلَ لَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَانْقَادَ لَهُ مِنْ أَهْلِ دَهْرِي وَزَمَانِي.{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14] يَقُولُ:وَقُلْ:وَقِيلَ لِي لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ شُرَكَاءَ[105]

إن هذه القضية ..قضية اتخاذ الله وحده وليا.بكل معاني كلمة (الولي).أي اتخاذه وحده ربا ومولى معبودا يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده ويدين له بالعبادة فيقدم له شعائرها وحده.واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ويعتمد عليه،ويتوجه إليه في الملمات ..إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها.فإما إخلاص الولاء لله - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام.وإما إشراك غيره معه في أي منها،فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام! وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع:«قُلْ:أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا،فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ:إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ،وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..

إنه منطق الفطرة القوي العميق ..لمن يكون الولاء ولمن يتمحض؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاما؟

«قُلْ:أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» ..وهذه صفاته سبحانه ..أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله وليا؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه،فالله هو فاطر السماوات والأرض،فله السلطان في السماوات والأرض.وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه،فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض.ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق؟

ثم ..«قُلْ:إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله وليا.فاتخاذ غير الله وليا - بأي معنى - هو الشرك.ولن يكون الشرك إسلاما ..قضية واحدة محددة،لا تقبل لينا ولا تميعا ..إما إفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها وولاء القلب والعمل،في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك ..إما هذا كله فهو الإسلام ..وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك.الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام.

لقد أمر رسول الله - r - أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة ليجعل لآلهتهم مكانا في دينه،مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين.وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم،..وأولها تقاليد التحريم والتحليل ..في مقابل أن يكفوا عن معارضته،وأن يجعلوه رئيسا فيهم ويجمعوا له من مالهم،ويزوجوه أجمل بناتهم! لقد كانوا يرفعون يدا للإيذاء والحرب والتنكيل،ويمدون يدا بالإغراء والمصالحة واللين ..

وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر رسول الله - r - أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف،وبهذا الحسم الصريح،وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالا للتمييع.[106]

وقال تعالى:{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام:70،71]

وَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ ،أَنْتَ وَمَنْ تَبِعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ،هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ ،الذِينَ اتَّخَذُوا دِيْنَهُمْ لَعِباً وَسُخْرِيَةً وُهُزُواً ،وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا ،وَلاَ تُبَالُوا بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ ،وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ،وَأَمْهِلُوهُمْ قَليلاً ،فَإِنَّهُمْ صَائِرُونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ .وَذَكِّرُوا النَّاسَ دَائِماً بِهَذَا القُرْآنِ ،وَحَذِّرُوهُمْ نِقَمَ اللهُ وَعَذَابَهُ الأَلِيمُ ،لِكَيْلاَ تَفْتَضِحَ نَفْسٌ يَوْمَ القِيَامَةِ فَتَصِيرَ إلَى التَّهْلُكَةِ ،وَتَكُونَ رَهْنَ العَذَابِ ( أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ ) ،بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفَتْهُ مِنَ الأَعْمَالِ السَيِئَةِ ،وَمَا اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الذَّنُوبِ وَالخَطَايَا .

وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَكُونُ لِهَذِهِ النَّفْسُ المُذْنِبَةِ شَفِيعٌ وَلاَ وَلِيٌّ يَشْفَعُ لَهَا أَوْ يَنْصُرُهَا مِنْ دُونِ اللهِ ،وَإِنَّها إذَا بَذَلَتْ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الفِدَاءِ ( العَدْلِ ) ،لِتَنْجُوَ مِنَ العَذَابِ ،فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا ذَلِكَ .

وَهَؤُلاَءِ الذِينَ افْتَضَحُوا ،وَصَارُوا رَهْنَ العَذَابِ ( أُبْسِلُوا ) بِسَبَبِ مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ سَيَكُونُ شَرَابُهُمْ ،يَوْمَ القِيَامَةِ ،مِنْ مَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةٍ ( حَمِيمٍ ) ،وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ .

- قَالَ المُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ اتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ وَاتَّبِعُوا سَبِيلَنَا ،فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ .وَفِيهَا يَقُولُ لِرَسُولِهِ r وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَى هَؤُلاءِ الدَّاعِينَ مُوَبِّخِينَ :هَلْ يَصِحُّ أنْ نَعْبُدَ غَيْرِ اللهِ ،مِمَّا لاَ يَمْلِكُ جَلْبَ نَفْعٍ ،وَلاَ دَفْعَ ضُرٍّ ،وَنَنْتِكسَ فِي الشِّرْكِ ،بَعْدَ أَنْ هَدَانَا اللهُ إلَى الإِيمَانِ ،فَيَكُونَ مِثْلَنَا مِثْلَ رَجُلٍ خَرَجَ مَعْ قَوْمٍ عَلَى طَرِيقٍ ،فَضَلَّ الطَّرِيقَ ،فَحَيَّرَتْهُ الشَّيَاطِينَ وَاسْتَهْوَتْهُ فِي الأَرْضِ ،وَأَصْحَابِهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَعَلُوا يَدْعُونَهُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُ :ائْتِنا ،فَإِنَّا عَلَى الطَّرِيقِ ،فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ .فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ يَتَّبِعُ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ ،بَعْدَ أَنْ عَرَفَ دِينَ مُحَمَّدٍ r .وَمُحَمَّدُ هُوَ الذِي يَدْعُو إلَى الطَّرِيقِ،وَالطَّرِيقُ هُوَ الإِسْلاَمُ .وَقُلْ لَهُمْ :إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى ،وَمَنْ يَهْدِ اللهَ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ،وَإنَّنَا أُمِرْنَا بِإِخْلاصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ[107].

المقصود من العباد،أن يخلصوا لله الدين،بأن يعبدوه وحده لا شريك له،ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه.وذلك متضمن لإقبال القلب على الله وتوجهه إليه،وكون سعي العبد نافعا،وجدًّا،لا هزلا وإخلاصا لوجه الله،لا رياء وسمعة،هذا هو الدين الحقيقي،الذي يقال له دين،فأما من زعم أنه على الحق،وأنه صاحب دين وتقوى،وقد اتخذ دينَه لعبا ولهوا.بأن لَهَا قلبُه عن محبة الله ومعرفته،وأقبل على كل ما يضره،ولَهَا في باطله،ولعب فيه ببدنه،لأن العمل والسعي إذا كان لغير الله،فهو لعب،فهذا أَمَر الله تعالى أن يترك ويحذر،ولا يغتر به،وتنظر حاله،ويحذر من أفعاله،ولا يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله.

{وَذَكِّرْ بِهِ} أي:ذكر بالقرآن،ما ينفع العباد،أمرا،وتفصيلا وتحسينا له،بذكر ما فيه من أوصاف الحسن،وما يضر العباد نهيا عنه،وتفصيلا لأنواعه،وبيان ما فيه،من الأوصاف القبيحة الشنيعة،الداعية لتركه،وكل هذا لئلا تبسل نفس بما كسبت،أي:قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب،واستمرارها على ذلك المرهوب،فذكرها،وعظها،لترتدع وتنزجر،وتكف عن فعلها.

وقوله {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} أي:قبل [أن] تحيط بها ذنوبها،ثم لا ينفعها أحد من الخلق،لا قريب ولا صديق،ولا يتولاها من دون الله أحد،ولا يشفع لها شافع {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} أي:تفتدي بكل فداء،ولو بملء الأرض ذهبا {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} أي:لا يقبل ولا يفيد.

{أُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {الَّذِينَ أُبْسِلُوا} أي:أهلكوا وأيسوا من الخير،وذلك {بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي:ماء حار قد انتهى حره،يشوي وجوههم،ويقطع أمعاءهم {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .قُلْ} يا أيها الرسول للمشركين بالله،الداعين معه غيره،الذين يدعونكم إلى دينهم،مبينا وشارحا لوصف آلهتهم،التي يكتفي العاقل بذكر وصفها،عن النهي عنها،فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه،قبل أن تقام البراهين على ذلك،فقال:{أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} وهذا وصف،يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله،فإنه لا ينفع ولا يضر،وليس له من الأمر شيء،إن الأمر إلا لله.{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} أي:وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال،ومن الرشد إلى الغي،ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم،إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم.فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد،وصاحبها {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ} أي:أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده.فبقي {حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} والشياطين يدعونه إلى الردى،فبقي بين الداعين حائرا وهذه حال الناس كلهم،إلا من عصمه الله تعالى،فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي متعارضة،دواعي الرسالة والعقل الصحيح،والفطرة المستقيمة {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} والصعود إلى أعلى عليين.ودواعي  الشيطان،ومن سلك مسلكه،والنفس الأمارة بالسوء،يدعونه إلى الضلال،والنزول إلى أسفل سافلين،فمن الناس من يكون مع داعي الهدى،في أموره كلها أو أغلبها،ومنهم من بالعكس من ذلك.ومنهم من يتساوى لديه الداعيان،ويتعارض عنده الجاذبان،وفي هذا الموضع،تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.وقوله:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} أي:ليس الهدى إلا الطريق التي شرعها الله على لسان رسوله،وما عداه،فهو ضلال وردى وهلاك.{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بأن ننقاد لتوحيده،ونستسلم لأوامره ونواهيه،وندخل تحت عبوديته،فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد،وأكمل تربية أوصلها إليهم.[108]

نقف من الآية أمام عدة أمور:

أولها:أن الرسول - r - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا ..وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل ..فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة،وخلقا وسلوكا،وشريعة وقانونا،إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا ..والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو.كالذين يتحدثون عن «الغيب» - وهو أصل من أصول العقيدة - حديث الاستهزاء.والذين يتحدثون عن «الزكاة» وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار.والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة - وهي من مبادئ هذا الدين - بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية،أو الإقطاعية،أو «البرجوازية» الزائلة! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار.والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها «أغلال! » ..وقبل كل شيء وبعد كل شيء ..الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية:السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية ..ويقولون:إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله ...أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا.وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى.وبأنهم الظالمون - أي المشركون - والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا،فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ..

وثانيها:أن الرسول - r - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا - أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا،وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم،ولا شفيع لهم كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت.

وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول:«وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ،وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها» ..فكل نفس على حدة تبسل (أي ترتهن وتؤخذ) بما كسبت،حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع،ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة! فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا وحق عليهم ما سبق في الآية وكتب عليهم هذا المصير:«أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا،لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..لقد أخذوا بما فعلوا وهذا جزاؤهم:شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون وعذاب أليم بسبب كفرهم،الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم ..

وثالثها:قول الله تعالى في المشركين:«الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً» ..فهل هو دينهم؟.

إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام،ثم اتخذ دينه هذا لعبا ولهوا ..وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين ..ولكن هذا كان في المدينة ..

فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام؟ إن الإسلام هو الدين ..هو دين البشرية جميعا ..سواء من آمن به ومن لم يؤمن ..فالذي رفضه إنما رفض دينه ..باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله دينا ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين.

ولهذه الإضافة دلالتها في قوله:«وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً» ..فهي - والله أعلم - إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه،من اعتبار الإسلام دينا للبشرية كافة.فمن اتخذه لعبا ولهوا،فإنما يتخذ دينه كذلك ..ولو كان من المشركين ..ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون؟ إنهم الذين يشركون بالله أحدا في خصائص الألوهية.

سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله.أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله.أو بقبول الحاكمية والشريعة من أحد مع الله.ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه،مهما تسمَّوا بأسماء المسلمين! فلنكن من أمر ديننا على يقين!

ورابعها:حدود مجالسة الظالمين - أي المشركين - والذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا ..وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير.فليست لشيء وراء ذلك - متى سمع الخوض في آيات الله أو ظهر اتخاذها لعبا ولهوا بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها[109].

 

____________


المبحث الرابع

البراءة من المشركين والكافرين

 

قال تعالى :{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) } [التوبة:1 - 5]

كَانَتْ هَذِهِ السُورَةُ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ،وَلَمْ يَكْتُبِ الصَحَابَةُ البَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِها ،اقْتِدَاءً بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ،لأنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِسُورَةِ الأَنْفَالِ أَوْ أَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ .

وَأَوَّلُ هَذِهِ السُورَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ r لمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ،وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ الرَّسُولُ r أبَا بَكْرٍ أَمِيراً لِلحَجِّ ،وَأتْبَعَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرأ عَلَى النَّاسِ سُورَةَ التَّوْبَةِ ،وَأَنْ يَطْلُبَ مِنَ المُشْرِكِينَ أَنْ لاَ يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا .

وَيُعلِمُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أَنَّهُ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ وَمُتَحَرِّرانِ مِنَ العُهُودِ ،التِي التَزَمَ بِهَا المُسْلِمُونَ مَعَ المُشْرِكِينَ .

وَالرَّأيُ الرَّاجِحُ أَنَّ هَذِهِ البَرَاءَةَ هِيَ مِنَ العُهُودِ المُطْلَقَةِ غَيْرِ المُوَقَّتَةِ بِمُدَّةٍ مُعَينَةٍ ،وَمِنْ عُهُودِ أَهْلِ العُهُودِ الذِينَ ظَاهَرُوا عَلَى الرَّسُولِ ،وَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ ،لأنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا بَعْدُ ،إِنَّ الذِينَ تَقُومُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ عُهُودٌ مُوَقَّتَةٌ ،ذَاتِ أَجَلٍ مُعَيَّن ،يَجِبُ أَنْ يُتِمَّ المُسْلِمُونَ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ ،إِذَا لَمْ يَكُونُوا قَدْ نَقَضُوا العَهْدَ ،وَظَاهَرُوا عَلَى المُسْلِمِينَ ،وَمَنْ كَانَ عَهْدَهُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .

حَدَّدَ اللهُ تَعَالَى لِلَّذِينَ عَاهَدُوا الرَّسُولَ r ،وَلَمْ تَكُنْ لِعُهُودِهِمْ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ ،مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ خِلاَلَهَا فِي الأَرْضِ ،وَيَتَنَقَلُونَ كَيْفَ شَاؤُوا آمِنِينَ .أمَّا الذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ ،فَجَعَلَ مُدَّتَهُمْ انْسِلاَخَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ ،فَإِذَا انْسَلَخَتْ الأَشْهُرُ الحُرُمُ ،وَلَمْ يُؤْمِنُوا ،وَضَعَ الرَّسُولُ فِيهِمُ السَيْفَ ،حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ .

وَيُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ ،أَيْنَمَا كَانُوا ،فَهُمْ خَاضِعُونَ لِسُلْطَانِهِ ،وَأَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَهُ طَلَباً ،وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ الخِزْيَ عَلَى الذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ .

وَبَلاَغٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ r ،وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ ( أذَانٌ ) يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ ( لأنَّهُ أَكْبَرُ المَنَاسِكِ ،وَمَجْمَعُ النَّاسِ فِي الحَجِّ لِيَصِلَ إِلَيْهِمُ البَلاغُ ) ،أنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ،وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضاً ،فَإِنْ تَابَ المُشْرِكُونَ وَانْتَهُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ ،فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ ،وَإِنْ أَصَرُّوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ ،فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُعْجِزِي اللهِ الذِي هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ ،وَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ ،وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ ،وَأَنَّهُمْ لَنْ يَفُوتُوهُ أَبَداً ،وَلَنْ يَجِدُوا مِنْهُ مَهْرَباً .وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الكَافِرِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذَا اسْتَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ .

وَيَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ تَحْدِيدِ الأَجَلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ،الذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ مُحَدَّدُ المُدَّةِ ،فَيَأمُرُ اللهُ المُسْلِمِينَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَيْهِمْ إِلَى مُدَّتِهِ المُحَدَّدَةِ ،إِذَا كَانُوا لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ ،وَلَمْ يُسَاعِدُوا أَحَداً مِنْ أَعْدَاءِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ ،لأنَّ اللهَ يُحِبُّ المَتَّقِينَ الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ .

( وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ مِنْ فَرَائِضِ الإِسْلاَمِ مَا دَامَ العَهْدُ مَعْقُوداً ،وَمِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ مُحَافَظَةُ العَدُوِّ عَلَى العَهْدِ بِتَمَامِهِ نَصّاً وَرُوحاً ،فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئاً ،أَوْ أَخَلَّ بِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ عُدَّ نَاقِضاً لَهُ ) .

فَإِذَا انْقَضَتْ الأَشْهُرُ المُحَدَّدَةُ أَجَلاً لِلْمُشْرِكِينَ ،وَالتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا قِتَالَهُمْ ،فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ ،حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فِي الأَرْضِ ،وَأسُروهُمْ ( خُذُوهُمْ ) ،فَإِنْ شِئْتُمْ أَسْراً ،وَإِنْ شِئْتُمْ قَتْلاً ،وَلاَ تَكْتَفُوا بِقِتَالِ مَنْ تُصَادِفُونَهُ مِنْهُمْ فِي طَرِيقِكُمْ ،وَلَكِنِ اقْصُدُوهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ ،وَحَاصِرُوهُمْ فِي حُصُونِهِمْ ،وَامْنَعُوا خُرُوجَهُمْ وَانْفِلاَتَهُمْ ،وَارْصُدُوا طُرُقَهُمْ وَمَسَالِكَهُمْ ،حَتَّى تُضَيِّقُوا عَلَيْهِمُ الوَاسِعَ ،وَتَضْطَرُّوهُمْ إِلَى القَتْلِ أَوِ الإِسْلاَمِ .فَإِنْ تَابُوا عَنِ الشِّرْكِ وَأَسْلَمُوا ،وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ ،وَأَدُّوا الزَّكَاةَ ،وَقَامُوا بِوَاجِبَاتِ الإِسْلاَمِ ،فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ،وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  ( وَهَذِهِ الآيَةُ تُسَمَّى آيَة َالسَّيفِ إِذْ جَاءَ الأَمْرُ فِيهَا بِالقِتَالِ ،وَكَانَ مُؤَجْلاً إلَى أَنْ يَقْوَى المُسْلِمُونَ ) .[110]

أي:هذه براءة من الله ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين،أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم،آمنين من المؤمنين،وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم،ولا ميثاق.

وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر،أو مقدر بأربعة أشهر فأقل،أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر،فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة،ولم يبدأ بنقض العهد.

ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم،أنهم وإن كانوا آمنين،فإنهم لن يعجزوا الله ولن يفوتوه،وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه،فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام،إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد الله له.

وهذا ما وعد الله به المؤمنين،من نصر دينه وإعلاء كلمته،وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة،من بيت الله الحرام،وأجلوهم،مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.

نصر الله رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة،وأذل المشركين،وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار.

فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر،وهو يوم النحر،وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم،من جميع جزيرة العرب،أن يؤذن بأن الله بريء ورسوله من المشركين،فليس لهم عنده عهد وميثاق،فأينما وجدوا قتلوا،وقيل لهم:لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا،وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.

وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه،وأذن ببراءة -يوم النحر- ابن عم رسول الله r علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة،ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال:{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} أي:فائتيه،بل أنتم في قبضته،قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين.{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي:مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر،والجلاء،وفي الآخرة،بالنار،وبئس القرار.

أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين.{إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} واستمروا على عهدهم،ولم يجر منهم ما يوجب النقض،فلا نقصوكم شيئا،ولا عاونوا عليكم أحدا،فهؤلاء أتموا لهم  عهدهم إلى مدتهم،قَلَّتْ،أو كثرت،لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين أدوا ما أمروا به،واتقوا الشرك والخيانة،وغير ذلك من المعاصي.

يقول تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ} أي:التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين،وهي أشهر التسيير الأربعة،وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها،فقد برئت منهم الذمة.

{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في أي مكان وزمان،{وَخُذُوهُمْ} أسرى {وَاحْصُرُوهُمْ} أي:ضيقوا عليهم،فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد الله وأرضه،التي جعلها [الله] معبدا لعباده.

فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها،ولا يستحقون منها شبرا،لأن الأرض أرض الله،وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله،المحاربون الذين يريدون أن يخلو الأرض من دينه،ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي:كل ثنية وموضع يمرون عليه،ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك،ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.

ولهذا قال:{فَإِنْ تَابُوا} من شركهم {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي:أدوها بحقوقها {وَآتُوا الزَّكَاةَ} لمستحقيها {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أي:اتركوهم،وليكونوا مثلكم،لهم ما لكم،وعليهم ما عليكم.

{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر الشرك فما دونه،للتائبين،ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة،ثم قبولها منهم.وفي هذه الآية،دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة،فإنه يقاتل حتى يؤديهما،كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه.[111]

وقوله تعالى:«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .هو إعلان بقطع العلائق التي كانت تصل المؤمنين بالمشركين،من عهود ومواثيق..وذلك لما أحدث المشركون من عبث بهذه العهود،واستخفاف بها،إذ أنهم كانوا لا يمسكون بها إلا إذا وجدوا فى ذلك مصلحة محققة لهم،فإذا أمكنتهم الفرصة فى المسلمين أنكروا هذه العهود،وألقوا بها كما تلقى نفايات الطعام بعد الشبع! وإذا كان أحد الطرفين المتعاقدين لا يوقّر ما تعاقد عليه،ولا ينزله من نفسه منزلة الاحترام والرعاية،ولا يستقيم عليه إلا إذا لم يكن له من ذلك مصلحة خاصة- كان ذلك العقد غبنا فاحشا على الطرف الآخر،الملتزم له،الحريص على الوفاء به،حيث تمكنه الفرصة فى عدوّه فلا يهتبلها،على حين لو أمكنت الفرصة خصمه لم يلتزم العقد الذي بينهما..

فكان نقض هذه العهود القائمة بين المسلمين والمشركين وضعا للأمر فى موضعه الصحيح،إذ هو إقرار لحقيقة واقعة،ونقض لعهود منقوضة من قبل أن يجفّ المداد الذي كتبت،ولا ينتظر المشركون لنقضها إلا الوقت المناسب،والفرصة السانحة..

وقد تولّى الله سبحانه وتعالى عن المسلمين نقض هذه العهود،وجعل سبحانه وتعالى ذلك إليه وإلى رسوله الكريم:«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وذلك ليدفع عن المسلمين الحرج الذي ربما وجدوه فى صدورهم لو أمروا بنقض هذه العهود..وفى هذه ما فيه من لطف الله وإحسانه إلى المسلمين،ورعايته لهم،وبرّه بهم.

والبراءة من الشيء،والتبرؤ منه،هو مجافاته،وقطع الصلة به،والله سبحانه وتعالى،إنما يبرأ من المشركين،لأنهم برئوا منه..ومعنى براءته سبحانه وتعالى منهم،طردهم من رحمته،وتركهم للأهواء والضلالات المتسلطة عليهم..أما براءة رسول الله منهم،فهى قطع العلاقة التي كانت قائمة بينه وبينهم،بحكم العهود التي كانت معقودة بين النبىّ وبين المشركين..فإذ قد برىء الله منهم،وطردهم من مواقع رحمته،فقد وجب على النبىّ أن يقطع كل صلة بهم..إذ كانوا حربا على الله،وعلى دين الله،وعلى رسول الله،وعلى المؤمنين.

قوله تعالى:«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» هو إطلاق من الله سبحانه وتعالى للمشركين من تلك العهود التي عقدوها مع المؤمنين،وإرسال لهم فى وجوه الأرض مدة أربعة أشهر،يتنقلون فيها حيث يشاءون،دون أن يعترضهم المسلمون،أو يلقوهم بأذى،إلا إذا بدءوهم ببغى أو عدوان..وهذا هو السرّ فى قوله تعالى:«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ» .:إذ لا تكون السياحة فى الأرض إلا حيث الأمن..

والمشركون فى هذه المدة التي أعطيت لهم،آمنون من كل عدوان.

وفى هذه الأشهر الأربعة فسحة للمشركين،يعدّون فيها أنفسهم للوضع الذي يتخيرونه،بعد انقضاء هذه المدة،فإما أن يدخلوا فى الإسلام،وإما أن يدخلوا مع المسلمين فى حرب وقتال..وهى مدة كافية كلّ الكفاية لكى يقلّب فيها المشركون وجوه النظر،وليتخيّروا لأنفسهم أعدل المواقف التي ينتهى إليها تفكيرهم وتقديرهم..

وهذا وجه من وجوه الإسلام السمحة،وآية من آياته المشرقة فى العدل والإحسان،حتى فى مواقف المواجهة للعدو..وفى ميدان الخصومة معه! وما كان لشريعة الله أن تكون على غير هذا الوجه الذي يقيم موازين العدل بين عباد الله جميعا..مؤمنهم وكافرهم على السواء..فالمشركون خلال هذه الأشهر الأربعة،فى عافية من أمرهم،وفى حراسة من كل قهر أدبى أو مادّىّ،يحملهم على الوجه الذي يأخذونه من الإسلام والمسلمين..

وقوله تعالى:«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» هو تحذير للمشركين،وتنبيه لهم أن يأخذوا حذرهم،وأن يقدّروا موقفهم فى الرأى الذي يرونه لأنفسهم،بعد هذه الأشهر الأربعة..وليضعوا فى حسابهم هاتين الحقيقتين:

أولاهما:أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلبهم،وأن يد الله لا تقصر عنهم فى أي متّجه اتجهوا إليه..«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ» ..

وثانيتهما:أنّهم إذا انتهى بهم رأيهم إلى اختيار الشرك الذي هم عليه،فإنهم قد اختاروا الخزي والهوان،لأنهم حينئذ يكونون حربا على الله..«وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» .

قوله تعالى:«وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» الأذان:الإعلام،والإظهار للأمر بصورة كليّة كاشفة..ويوم الحج الأكبر،هو يوم عرفة،وقيل يوم النحر،وفى كلا اليومين تتم معظم أعمال الحج..ووصف الحجّ بأنه الحج الأكبر،تعظيما له وإلفاتا إلى تلك الظاهرة الإنسانية التي تتجلى فيه،باجتماع هذه الحشود الحاشدة،التي تجمع الناس من كل أمة وقبيل..يأتون من كل فج عميق..فإذا احتوتهم دائرة الحرم كانوا على هيئة واحدة فى ملابس الإحرام..الأمر الذي لا تشهد العين مثله إلا فى هذا الموطن! وقد أعلن هذا الأذان على الحجيج فى موسم الحج،سنة تسع من الهجرة،فى يوم عرفة أو يوم النحر..

وكان أبو بكر رضى الله عنه هو الذي ندبه الرسول،r،أميرا على الناس يومئذ ليقيم لهم حجّهم..

وكان موسم الحج هذا العام،مجتمعا للمسلمين والمشركين،حيث يقيم المؤمنون حجّهم على الوجه الذي بيّنه الإسلام لهم،على حين يقيم المشركون حجّهم على ما كانوا عليه فى الجاهلية،وكان من عادتهم أن يطوفوا بالبيت عراة..وقد آثر رسول الله r ألا يشهد هذا المشهد الكريه من المشركين،فأقام أبا بكر مقامه فى هذا الموسم،وكان ذلك فى السنة التاسعة من الهجرة..فلما كانت السنة العاشرة وطهّر الله المسجد الحرام من الشرك والمشركين،حجّ النبىّ حجة الوداع.

وما كاد أبو بكر ينفصل عن المدينة،فى طريقه إلى البلد الحرام،حتى تلقى رسول الله r من ربّه هذه الآيات الأولى من سورة براءة..فجعل إلى علىّ بن أبى طالب أن يؤدى عنه هذا الأمر،وأن يؤذّن به فى الناس يوم الحجّ الأكبر..فركب ناقة رسول الله r «العضباء» ولحق بأبى بكر فى بعض الطريق قبل أن يدخل مكة،فقال له أبو بكر:أأمير أم مأمور؟ فقال:بل مأمور..!

فأقام أبو بكر للمسلمين حجّتهم..

وأذّن علىّ فى الناس بهذا الإعلان القرآنى من سورة براءة.

والسؤال هنا:لماذا لم يعهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه،إلى أبى بكر وهو أمير الحج،أن يؤدى هذه المهمة؟

والجواب على هذا:أن ما كان بين المسلمين والمشركين من عهود،إنما كانت معقودة باسم الرسول صلوات الله وسلامه عليه،باعتباره ممثلا للمسلمين،وهو بهذا الاعتبار لم يكن عند المشركين أكثر من رئيس قبيلة،وليس لصفة النبوة حساب عندهم فى هذا الأمر،إذ لم يكونوا معترفين بنبوته،وإلّا لآمنوا به..

ومن هنا لم يكن- من وجهة نظر المشركين- من المقبول أن يتولّي نقض هذه العهود ونبذها إلى أصحابها إلا المتعاقد معهم عليها،أو من يمثله من عصبته،وذوى قرابته الأدنين،وذلك أن أهل البيت،أو القبيلة يحملون معا تبعات الالتزامات التي بينهم وبين غيرهم،وأنه إذا جنى أحدهم جناية كانت تبعتها على الجماعة كلّها..

ومن أجل هذا،فإن النبىّ r حين تلقى من ربّه الأمر بنبذ العهود إلى المشركين،قال:«لا يبلّغ عنى إلّا أنا أو رجل من بيتي» ..فجعل ذلك إلى ابن عمّه علىّ بن أبى طالب..وإن كان المسلمون جميعا- على اختلاف بيوتهم وقبائلهم- أهلا لأن يؤدوا هذه المهمة،ولكن عند من يعترف بنبوة النبىّ،ويعترف بالمسلمين كوحدة تدين بدين،وتجتمع على شريعة..ولكن المشركين كانوا يتعاملون مع النبىّ كواحد من بنى هاشم،ولا ينظرون كثيرا إلى من استجاب له وتبعه من المسلمين..ولهذا،فإنه حين يئست قريش من أن تمسك النبىّ عن القيام..برسالته،عمدت إلى مقاطعة بنى هاشم،وفرض الحصار الاقتصادى والاجتماعى عليهم،فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم،ولا يتعاملون معهم،أخذا أو إعطاء،وقد وقع بنو هاشم جميعا- مؤمنهم ومشركهم- تحت هذا الحكم الظالم،ووقفوا له جميعا جبهة واحدة فى وجه قريش.

وفى قوله تعالى:«أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» - الواو فى «ورسوله» للعطف على المصدر المؤول من الجملة السابقة:«أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي ورسوله برىء منهم..فهو عطف جملة على جملة..وذلك لتكون براءة الله من المشركين هى الأصل،ثم تجىء براءة رسول الله منهم تبعا لتلك البراءة،ثم تجىء براءة المؤمنين منهم تبعا لبراءة الله ورسوله.

وفى قوله تعالى:«فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» دعوة مجدّدة من الله- سبحانه- إلى المشركين،أن يستجيبوا لله وللرسول،فذلك هو الذي يحقق لهم الفوز والفلاح،ثم هو تهديد لهم بالخزي فى الدنيا والعذاب فى الآخرة،إذا هم لم يتوبوا إلى الله،ويخلّصوا أنفسهم من الشرك الذي استولى عليهم..

وقوله تعالى:«إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» هو استثناء من الحكم العام الذي أنذر به المشركون،وهو أن العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين لن يكون لها مفعول بعد الأربعة الأشهر التالية ليوم النحر،الذي أعلنوا فيه بنبذ العهود التي عقدوها مع المسلمين..

والمستثنون من هذا الحكم العام من المشركين،هم أولئك الذين عرف منهم المسلمون صدق نواياهم فى الوفاء بالعهود التي عقدوها معهم،حيث لم تظهر منهم بادرة تدلّ على خيانة،أو ممالأة عدوّ،أو تحريضه على المؤمنين- فهؤلاء قد وفوا بالعهود،فينبغى أن يفى معهم المسلمون بعهودهم،إذ المسلمون أولى بهذا منهم،وما نقض المسلمون العهود التي آذنهم الله بنقضها مع المشركين إلّا لما هو ظاهر من حالهم الذي يكشف عن نيات سيئة،تدبّر الشر،وتبيت العدوان،وتتربص بالمسلمين الدوائر..

فهؤلاء المستثنون،يجب على المسلمين الوفاء لهم بالعهود التي عقدوها معهم،إلى الآجال المضروبة لها..فهؤلاء لهم حساب..ولعامة المشركين حساب آخر..

وقوله سبحانه:«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو بيان لموقف المسلمين من المشركين،بعد انقضاء الأربعة الأشهر التي حرّم على المسلمين فيها قتال المشركين،وتبدأ من العاشر من ذى الحجة إلى العشرين من ربيع الآخر..حيث أعطى المشركون فيها أمانا مطلقا،حتى تتاح لهم الفرصة لاختيار الموقف الذي يقفونه من المسلمين بعد انقضاء هذه المدة،التي وقتتها الآية بأربعة أشهر فى قوله تعالى:«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» .

والأشهر الحرم هنا،هى غير الأشهر الحرم المعروفة،وهى ذو القعدة،وذو الحجة،ومحرم،ورجب..والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» ..فهذه الأشهر الحرم يحرم فيها القتال بدءا به،ولا يحرم فيها لدفع العدوان..وهذا الحكم هو لها فى جميع الأزمان..أما الأشهر الحرم التي ذكرت هنا فإن حرمة ما حرّم منها هو خاص بهذا العام،أي السنة التاسعة،وأول العاشرة من الهجرة..

والمشركون الذين أمر المسلمون بقتالهم بعد انسلاخ هذه الأشهر الأربعة هم مطلق المشركين،ما عدا الذين أمهلوا إلى أن تتم المدة المتعاهد معهم عليها.

وقوله تعالى:«وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» دعوة للمسلمين بالجد فى طلب المشركين،وأخذهم بكل قوّة،وملاحقتهم فى كل مكان،حتى لا يكون لهم مهرب..وفى هذا إرهاص بما سيحلّ بالمشركين من بلاء واقع،لا وجه لهم من الإفلات منه..بعد أن ينتهى الأجل المضروب لهم،وذلك من شأنه أن يلقى الرّعب فى قلوب المشركين،وأن يفتح للكثير منهم طريقا إلى الإسلام،حيث يجد العافية،والأمن والسلام..

وفى قوله تعالى:«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تحريض للمشركين على المبادرة بالتوبة،وخلع نير الشرك من رقابهم،وذلك قبل أن يقعوا ليد المسلمين،وتصل إليهم سيوفهم،فإنهم إن وصلوا إلى تلك الحال،فلن تكون لهم نجاة،ولن تقبل منهم توبة،شأنهم فى هذا شأن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا،وفيهم يقول الله سبحانه وتعالى:«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (33- 34:المائدة) وفى قوله تعالى:«أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة للمسلمين إلى التسامح والرفق،وأن يقبلوا هؤلاء الذين جاءوهم مسلمين،وأن يفسحوا لهم فى قلوبهم مكانا مع إخوانهم المسلمين،وأن يغفروا لهم ما كان منهم من إساءات،فيما أصابوهم بهم فى أموالهم وأنفسهم،فإن الله غفور رحيم،ينال المؤمنين برحمته،ومغفرته،فليأخذوا هم المسيئين إليهم برحمتهم ومغفرتهم..ثم هو إغراء للمشركين أن يدخلوا فى دين الله،فهذه رحمة الله ومغفرته مبسوطة لهم،وهؤلاء هم المؤمنون يلقونهم بالرحمة والمغفرة لما كان منهم،فى عدوانهم عليهم،وكيدهم لهم..إنها فرصة مسعدة،والسعيد من أخذ بخطه منها."[112]

لقد كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله،أو تجعل فيه شركاء لله ..هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه:«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» ..(الحج:40) والذي يقول عنه سبحانه كذلك:«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» ..(البقرة:251)

وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:

إحداهما:انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة،وغزوة بعد غزوة،ومرحلة بعد مرحلة لنشر منهج الله في الأرض حوله وإبلاغ كلمة الله إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة - في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان - حتى فتحت مكة،وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي،واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف.وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة - تمهيدا لما وراءها من أرض الله حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية،حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.

وثانيتهما:نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهدا بعد عهد بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها،وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادرا - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين!

فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلا أن ترى الإسلام ما يزال قائما حيالها مناقضا في أصل وجوده لأصل وجودها مخالفا لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها،يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله،ورد الناس جميعا إلى عبادة الله وحده.

وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين:«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ...(البقرة:217)

والتي يقول فيها عن أهل الكتاب:«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ..(البقرة:109)

ويقول فيها كذلك:«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..(البقرة:120)

فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان،وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية،وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه،لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي.ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل،ولا أسرار الفتوحات الإسلامية ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرنا والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين - وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان - في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها:في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا.وفي الهند وكشمير.وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة ..

وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أدق - وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع،ومد يد الصداقة إليها،وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة،وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئا من هذا كله لا يصبح مفهوما بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها ..

وقد تجلى ذلك القانون - كما أسلفنا - قبيل نزول سورة التوبة وبعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما.وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين - وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة - أو تجاه أهل الكتاب،وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده ..

ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة - حينذاك - لم يكن معناه وضوحه - بنفس الدرجة - لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم.وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم،فضلا على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم - من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعا - بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا - ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة،كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال:«وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» ..(الأنفال:58) فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر،ربما بدا لهم مخالفا لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين ..ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمرا أكبر من المألوف وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك - من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة،ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام بعد ما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم.ومن المتوقع أن تفيء رويدا رويدا - في ظل السلم - إلى الإسلام ..ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة،متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف ..ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها،وأن تخلص الجزيرة للإسلام،وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضا! - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها وتأثير ذلك في موسم الحج،وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك،وألا يعمر المشركون مساجد الله.

وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة! ..

ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها - كما تقدم - وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها.سواء من القرابات والصداقات أم من المنافع والمصالح.كما أنه - سبحانه - كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده،وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته.

وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين،وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين الله أفواجا ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال المشركين كافة ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم،وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال.ولا يجد في نفسه دافعا لاحتمال هذا كله،وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر فهي صفقة رابحة بلا عناء كبير ..أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟! ..

وكان الله - سبحانه - يريد أن يمحص الصفوف والقلوب،وهو يقول للمسلمين «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ،وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».

هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط - بعد الفتح - اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع،لمعالجة هذه الرواسب في النفوس،وهذه الخلخلة في الصفوف،وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين ..

اقتضت أن تفتتح السورة بهذا الإعلان العام ببراءة الله ورسوله من المشركين،وأن يتكرر إعلان البراءة من الله ورسوله بعد آية واحدة بنفس القوة ونفس النغمة العالية حتى لا يبقى لقلب مؤمن أن يبقى على صلة مع قوم يبرأ الله منهم ويبرأ رسوله:«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..(1) «وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» ..(3)

واقتضت تطمين المؤمنين وتخويف المشركين بأن الله مخزي الكافرين،وأن الذين يتولون لا يعجزون الله ولا يفلتون من عذابه:«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» ..(2) «فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ،وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ...(3)

واقتضت استنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلا الذين عاهدوا ثم استقاموا فيستقام لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه - مع تذكير المؤمنين بأن المشركين لا يرقبون فيهم عهدا ولا يتذممون من فعلة لو أنهم قدروا عليهم،وتصوير كفرهم،وكذبهم فيما يظهرونه لهم أحيانا من مودة بسبب قوتهم:«كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ - إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ،فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ،إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ - كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً،يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ.اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ،إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ...(7 - 10).

واقتضت استثارة الذكريات المريرة في نفوس المسلمين واستجاشة مشاعر الغيظ والانتقام وشفاء الصدور من أعدائهم وأعداء الله ودين الله:«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ،وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ،وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..(13 - 15).

واقتضت الأمر بالمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة ومقاومة مشاعر القرابة والمصلحة معا والتخيير بينها وبين الله ورسوله والجهاد في سبيله،ووقف المسلمين على مفرق الطريق:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ،وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.قُلْ:إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ،وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها،وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها،وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها،أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ،فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ،وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..(23 - 24).

واقتضت تذكيرهم بنصر الله لهم في مواطن كثيرة،وأقربها يوم حنين الذي هزموا فيه فلم ينصرهم إلا الله بجنده وبتثبيته لرسوله:«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ،وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً،وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ،ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ،وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها،وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا،وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ...«25 - 26».

واقتضت أخيرا تطمينهم من ناحية الرزق الذي يخشون عليه من كساد الموسم وتعطل التجارة وتذكيرهم أن الرزق منوط بمشيئة الله لا بهذه الأسباب الظاهرة التي يظنونها:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ،إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ...(28).

وهذه التوكيدات والتقريرات،وهذه الإيحاءات والاستثارات،وهذه الحملة الطويلة المنوعة الأساليب.تشي بحالة المجتمع المسلم بعد الفتح،ودخول العناصر الجديدة الكثيرة فيه وبعد التوسع الأفقي السريع الذي جاء إلى المجتمع المسلم بهذه الأفواج التي لم تنطبع بعد بطابع الإسلام ..ولولا أن مجتمع المدينة كان قد وصل مع الزمن الطويل،والتربية الطويلة إلى درجة من الاستقرار والصلابة والخلوص والاستنارة،لكانت هذه الظواهر مثار خطر كبير على وجود الإسلام ذاته كما ذكرنا ذلك مرارا من قبل.[113]

إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته،ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله.فلا خصومه على مصلحة،ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب.إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا،ولتكون عقيدته هي المنهج في الحياة.ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ..إلخ» ..

فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة.بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل،ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة.ولكن هذا إنما كان بعد ما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى:«وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» ..وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها - من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود.وهي حالة اعتداء في صميمها.تنطبق عليها حالة الاعتداء.وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره،وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية.فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك.[114]

إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربا من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد،وردهم جميعا إلى عبادة الله وحده وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله،والخضوع لسلطان غير سلطانه،والتحاكم إلى شرع غير شرعه ..

ومن ثم نراهم يقولون مثلا:إن الله سبحانه يقول:«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ..

ويقول:«لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» ..

ويقول:«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ...ويقول عن أهل الكتاب:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [آل عمران:64،] ..

فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج! وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين.وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها! ومعنى ذلك - في تصورهم المهزوم - أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض.ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون الله.ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله في الأرض كلها ما دام هو آمنا داخل حدوده الاقليمية! وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله - سبحانه! - تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم،وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة! وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلا! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين الله القوي المتين! إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا.وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة.وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام.ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين ..إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدما في تحسين ظروفها وفي إزالة العوائق من طريقها،حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة،والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.

إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين:«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ،وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ.وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ،فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ،وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً،وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً،فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ،فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ،ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» ..

وتقول في شأن أهل الكتاب:«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ،وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ،وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ،حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» ..

فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم - اللحظة وموقتا - غير مكلفين بتحقيقها - ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها - ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها ..ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية.وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين.وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلا،ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله،وإدخال البشرية كافة في السلم كافة ..إنه منهج الله هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه،والاستمتاع بخيره وليس منهج عبد من العبيد ولا مذهب مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله لإطلاق الحرية للناس أفرادا في اختياره ..

إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا.فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا،ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين،ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر! فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية،ووضع العبودية فيه لله وحده وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد ..فإن الأمر يختلف من أساسه.ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ويحرر البشر من العبودية للعباد ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة لله وحده.

والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله.ينسون هذه الحقيقة الكبرى ..وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!!

إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين.[115]

--------------

وقال تعالى :{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة:165 - 167]

وَمَعَ قِيَامِ الأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الكُفَّارِ يَتَّخِذُونَ للهِ شُرَكَاءَ وَأَمْثَالاً ( أَنْدَاداً ) يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ ،وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ ،وَهُوَ اللهُ الذِي لاَ مَثِيلَ لَهُ ،وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ .أَمَّا الذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهُ وَحْدَهُ ،مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ،وَيُحِبُّونَهُ وَحْدَهُ ،وَهُمْ أَشَدُّ حُبَاً للهِ مِنْ أَيِّ شَيءٍ آخَرَ .وَحِينَ يَرَى المُشْرِكُونَ العَذَابَ الشَّديدَ الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِالكُفَّارِ ،فَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الأَسْبَابُ ،وَلاَ تُغْنِي عَنْهُم الأَنْدَادُ،يُدْرِكُونَ حِينَئِذٍ أنَّ القُوَّةَ جَميعَهَا للهِ ،وَأَنَّ الحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .

وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ الذِينَ كَانَ المُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونَ اللهِ - المَلائِكَةُ وَالجِنُّ وَالبَشَرُ - كَمَا يَتَبَرَّأُ الرُّؤَسَاءُ المُضِلُّونَ الذِينَ اتَّبَعَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالأَعْوَانُ ،مِنْ أَتْبَاعِهِم الذِينَ أَغْوَوْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ،وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْ إِضْلاَلِهِمْ لأَنَّهُمْ قَدْ تَضَاعَفَ عَذَابُهُمْ ،وَحَمْلُهُمْ أَوْزَاراً فَوْقَ أَوْزَارِهِمْ ،وَتَتَقَطَّعُ الرَّوَابِطُ وَالصِّلاَتُ التِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ،وَيَصِيرُ بَعْضُهُم عَدُوّاً لِبَعْضٍ .

وَيَقُولُ التَّابِعُونَ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي ضَلاَلٍ :لَوْ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلََى الدَّارِ الدُّنيا لِنَتَبَرَأَ مِنْ هؤُلاءِ ،وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ ،فَلاَ نَلْتَفِتَ إِلَيهِمْ ،بَلْ نُوَحِّدُ الله ،وَنَهْتَدِي بِهَدْيِهِ .وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي هذا القَوْلِ ،إِذْ أَنَّهُمْ لوْ عَادُوا إِلى الدُّنيا لَعَادُوا إِلى مَا نُهُوا عَنْهُ .وَكَمَا أَرَاهُمُ الله العَذَابَ ،كَذلِكَ سَيُرِيهِمْ أَعْمَالَهُمْ تَذْهَبُ وَتَضْمَحِلُّ فَيَتَحَسَّرُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ ،وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ،لأَنَّهُمْ لَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ،وَلَنْ يَعُودُوا إِلى الدُّنيا [116].

ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها،فإنه تعالى،لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة،وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين،المزيلة لكل شك،ذكر هنا أن {مِنَ النَّاسِ} مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي:نظراء ومثلاء،يساويهم في الله بالعبادة والمحبة،والتعظيم والطاعة.

ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة،وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله،مشاق له،أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته،فليس له أدنى عذر في ذلك،بل قد حقت عليه كلمة العذاب.

وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد [ص:80] مع الله،لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير،وإنما يسوونهم به في العبادة،فيعبدونهم،ليقربوهم إليه،وفي قوله:{اتخذوا} دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له،تسمية مجردة،ولفظا فارغا من المعنى،كما قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} .

{إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق،وغيره مخلوق،والرب الرازق ومن عداه مرزوق،والله هو الغني وأنتم الفقراء،وهو الكامل من كل الوجوه،والعبيد ناقصون من جميع الوجوه،والله هو النافع الضار،والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء،فعلم علما يقينا،بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا،سواء كان ملكا أو نبيا،أو صالحا،صنما،أو غير ذلك،وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة،والذل التام،فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي:من أهل الأنداد لأندادهم،لأنهم أخلصوا محبتهم له،وهؤلاء أشركوا بها،ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة،الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه،والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا،ومحبته عين شقاء العبد وفساده،وتشتت أمره.

فلهذا توعدهم الله بقوله:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله،وسعيهم فيما يضرهم.

{إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} أي:يوم القيامة عيانا بأبصارهم،{أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} أي:لعلموا علما جازما،أن القوة والقدرة لله كلها،وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء،فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها،لا كما اشتبه عليهم في الدنيا،وظنوا أن لها من الأمر شيئا،وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه،فخاب ظنهم،وبطل سعيهم،وحق عليهم شدة العذاب،ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا،ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع،بل يحصل لهم الضرر منها،من حيث ظنوا نفعها.

وتبرأ المتبوعون من التابعين،وتقطعت بينهم الوصل،التي كانت في الدنيا،لأنها كانت لغير الله،وعلى غير أمر الله،ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له،فاضمحلت أعمالهم،وتلاشت أحوالهم،وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين،وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها،انقلبت عليهم حسرة وندامة،وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبدا،فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل،فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجو،وتعلقوا بغير متعلق،فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها،ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها،فضرتهم غاية الضرر،وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين،وأخلص العمل لوجهه،ورجا نفعه،فهذا قد وضع الحق في موضعه،فكانت أعماله حقا،لتعلقها بالحق،ففاز بنتيجة عمله،ووجد جزاءه عند ربه،غير منقطع كما قال تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} .وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم،بأن يتركوا الشرك بالله،ويقبلوا على إخلاص العمل لله،وهيهات،فات الأمر،وليس الوقت وقت إمهال وإنظار،ومع هذا،فهم كذبة،فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه،وإنما هو قول يقولونه،وأماني يتمنونها،حنقا وغيظا على المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم،فرأس المتبوعين على الشر إبليس،ومع هذا يقول لأتباعه لما قضي الأمر {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} .[117]

من الناس من يتخذ من دون الله أندادا ..كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجارا وأشجارا،أو نجوما وكواكب،أو ملائكة وشياطين ..وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبار ات ..وكلها شرك خفي أو ظاهر،إذا ذكرت إلى جانب اسم الله،وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله.فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله؟

إن المؤمنين لا يحبون شيئا حبهم لله.لا أنفسهم ولا سواهم.لا أشخاصا ولا اعتبار ات ولا شارات ولا قيما من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس:«وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» ..أشد حبا لله،حبا مطلقا من كل موازنة،ومن كل قيد.أشد حبا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه.

والتعبير هنا بالحب تعبير جميل،فوق أنه تعبير صادق.فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب.

صلة الوشيجة القلبية،والتجاذب الروحي.صلة المودة والقربي.صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود.

«وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ - أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً،وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ.إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا،وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ.وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا:لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا! كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ،وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» ..

أولئك الذين اتخذوا من دون الله أندادا.فظلموا الحق،وظلموا أنفسهم ..لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو يرون لرأوا «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» فلا شركاء ولا أنداد ..«وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ».

لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين.ورأوا العذاب.فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب،وانشغل كل بنفسه تابعا كان أم متبوعا.وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها،وعجزت عن وقاية أنفسها فضلا على وقاية تابعيها.وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة،وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب.

«وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» ..وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة.وتمنوا لو يردون لهم الجميل! لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها،التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب!

إنه مشهد مؤثر:مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين.بين المحبين والمحبوبين! وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم:«كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ،وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» ..[118]

-----------

قال تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) } [الأنعام]

يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ r بِأنْ يَسْأَلَ كُفَّارَ قٌرَيشٍ عَنْ أَيِّ شَهَادَةٍ هِيَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ ،وَأَجْدَرُ بِأنْ تَكُونَ أَصَحَّ الشَّهَادَاتِ وَأَصْدَقَها؟ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِأنْ يُجِيبَ عَلَى هَذا السُّؤَالِ :بِأنَّ أَكْبَرَ الأَشْيَاءِ شَهَادَةً هُوَ مِنْ لاَ يَجُوزُ أنْ يَقَعَ فِي شَهَادَتِهِ كَذِبٌ وَلاَ خَطَأٌ وَلاَ زُورٌ ،وَهُوَ اللهُ تَعَالَى ،وَهُوَ الشَّهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُم ،وَهُوَ الذِي أَوْحَى إليَّ هَذا القُرْآنَ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ عِقَابَهُ عَلَى تَكْذِيبِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ ،مُؤَيَّداً بِشَهَادَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ ،وَأُنْذِرَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا القُرْآنُ ،لأنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ فَهُوَ مَدْعُوٌ إلى اتِّبَاعِهِ حَتَّى تَقُومَ القِيَامَةُ .وَشَهَادَتُهُ تَعَالَى هِيَ شَهَادَةُ آيَاتِهِ فِي القُرْآنِ ،وَآيَاتِهِ فِي الأنْفُسِ وَالأَكْوَانِ ،وَآيَاتِهِ فِي العَقْلِ وَالوِجْدَانِ .

ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ :إنْ كُنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى ،فَأَنَا لاَ أَشْهَدُ بِذَلِكَ ،وَإِنَّمَا هُوَ إلهٌ وَاحِدٌ ،خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ ،وَخَضَعَ لَهُ كُلَّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ ،وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ وَالأَوْثَانِ .

إنَّ أَهْلَ الكِتَابِ يَعرِفُونَ أنَّ مُحَمَّداً خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلِ ،كَمَا يَعْرِفُونَ أَبنَاءَهُمْ ،بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ وَالأَنْبَاءِ ،عَنِ الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ ،فَقَدْ بَشَّرَ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ وَنَعْتِهِ ،وَصِفَتِهِ وَمَكَانِ هِجْرَتِهِ ،وَصِفَةِ أُمَّتِهِ ...وَالذِينَ أَنْكَرُوا نُبوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ مِنْ عُلَمَاءِ اليَهُودِ ،عِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ كَعِلَّةِ مَنْ أَنْكَرُوهَا مِنْ زُعَمَاءِ المُشْرِكِينَ ،وَهِيَ الخَوْفَ مِنْ فُقْدَانِ الزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ،لِذَلِكَ فَإنَّ هَؤُلاءِ يُعَدُّونَ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لإيثَارِهِمِ الجَاهَ وَالرِّيَاسَةَ عَلَى الإيمَانِ بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ،الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً فِي كُتُبِهِمْ[119] .

{قُلْ} لهم -لما بينا لهم الهدى،وأوضحنا لهم المسالك-:{أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} على هذا الأصل العظيم.{قُلِ اللَّهُ} أكبر شهادة،فهو {شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فلا أعظم منه شهادة،ولا أكبر،وهو يشهد لي بإقراره وفعله،فيقرني على ما قلت لكم،كما قال تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} فالله حكيم قدير فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه زاعما أن الله أرسله ولم يرسله وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره وأن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم ونساءهم وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله فيؤيده على ما [ص:253] قال بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وينصره ويخذل من خالفه وعاداه فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة؟ "

وقوله {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم لأنذركم به من العقاب الأليم والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب والترهيب وببيان الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة التي مَن قام بها فقد قبل النذارة فهذا القرآنفيه النذارة لكم أيها المخاطبون وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية.

لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده قال قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله والمكذبين لرسله {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} أي إن شهدوا فلا تشهد معهم.

فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده لا شريك له وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم وفسدت آراؤهم وأخلاقهم وأضحكوا على أنفسهم العقلاء.

بل خالفوا بشهادة فطرهم وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى مع أنه لا يقوم على ما قالوه أدنى شبهة فضلا عن الحجج واختر لنفسك أي الشهادتين إن كنت تعقل ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه الذي أمرنا الله بالاقتداء به فقال {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي منفرد لا يستحق العبودية والإلهية سواه كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير.

{وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} به من الأوثان والأنداد وكل ما أشرك به مع الله فهذا حقيقة التوحيد إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه.

لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون صحة التوحيد {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} أي لا شك عندهم فيه بوجهكما أنهم لا يشتبهون بأولادهم خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم.

ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد r وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها لما عندهم من البشارات به ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره والمعنيان متلازمان.قوله {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي فوتوها ما خلقت له من الإيمان والتوحيد وحرموها الفضل من الملك المجيد {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فإذا لم يوجد الإيمان منهم فلا تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم.[120]

إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات ..قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة ..هي قضية هذه العقيدة وهي الحقيقة الكبرى فيها.وإن العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة ..

إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض،نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات،لتحدد على ضوئها موقفها،ولتسير على هذا الضوء في طريقها وتحتاج - من ثم - أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات،لترسم طريقها على هداها.

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله - r - ويوم جاءها الإسلام مبنيا على قاعدته الكبرى:«شهادة أن لا إله إلا الله» ..

قال ابن كثير:" ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ،وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ،فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ،وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ،وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ،وَعَلَيْهِ تَاجُهُ،وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ،وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ،وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ،وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ،ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ،وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ،فَقَالُوا لَهُ:ضَعْ سِلَاحَكَ.فَقَالَ:إِنِّي لَمْ آتِكُمْ،وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي،فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ.فَقَالَ رُسْتُمُ:ائْذَنُوا لَهُ.فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا،فَقَالُوا لَهُ:مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ:اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ،وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا،وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ،فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ،فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ،وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ.قَالُوا:وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ:الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى،وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ.فَقَالَ رُسْتُمُ:قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ،فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا؟ قَالَ:نَعَمْ،كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ:لَا،بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا.فَقَالَ:مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ،فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ،وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ.فَقَالَ:أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ؟ قَالَ:لَا،وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ.[121]

وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلها خالقا للكون ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع،فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد،ويقرون لهم بخصائص الألوهية - وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع - (وهي الأديان) ..إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام.

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله.فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد،وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا الله،وإن ظل فريق منها يردد على المآذن:«لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها،ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها،ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد،أو كتشكيلات تشريعية،أو كشعوب.فالأفراد،كالتشكيلات،كالشعوب،ليست آلهة،فليس لها إذن حق الحاكمية ..إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية،وارتدت عن لا إله إلا الله.فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية.ولم تعد توحد الله،وتخلص له الولاء ..

البشرية بجملتها،بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات:«لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع ..وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة،لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعد ما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله! فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات! ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء:«قُلْ:أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ:إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ،وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا - بكل معاني «الولي» ..وهي الخضوع والطاعة،والاستنصار والاستعانة ..يتعارض مع الإسلام،لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس ..ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة ..الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء.ولتعلم أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله - r - والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات ..[122]

-------------

قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)} [التوبة:114 - 116]

قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ r :يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الجِوَارَ ،وَيَصِلُ الأَرْحَامَ ،وَيَفُكُّ العَانِي ،وَيُوفِي الذِّمَمَ ،أَفَلا نَسْتَغْفِر لَهُمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ :بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ لأَبِي كَمَا اسْتَغْفِرَ إِبراهيمُ لأَبِيهِ " .فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ ،وَالتي قَبْلَها ،وَعَذَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ إِبْرَاهيمَ عَلَيْهَ السَّلاَمُ فِي هَذِهِ الآيَةِ ،عَمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ الاسْتِغْفَارِ لأَبِيهِ المُشْرِكِ .

وَالمُسْلِمُ يَدْعُوا لِقَرِيبِهِ غَيْرِ المُسْلِمِ بِالصَّلاَحِ مَا دَامَ حَيّاً ،فَإِذَا مَاتَ وَكَلَهُ إِلى شَأْنِهِ ،وَتَوَقَّفَ عَنِ الدُّعَاءِ وَالاسْتِغْفَارِ لَهُ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ إِبراهيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ،أَيْ كَثِيرُ الدُّعَاءِ ،كَثِيرُ الدُّعَاءِ ،كَثِيرُ التَّضَرُّعِ .

وَمَا كَانَ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ ،وَلاَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ،أَنْ يَصِفَ قَوْماً بِالضَّلاَلِ ،وَيَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُ بِالذَّمِ وَالعِقَابِ ،بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ إِلَى الإِيمَانِ ،بِقَولٍ يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ،أَوْ عَمَلٍ يَحْدُثُ مِنْهُمْ بِاجْتِهَادٍ خَاطِىءٍ ،وَيَقُولُ ابْنُ جَريرٍ فِي تَفْسِيرِ هذِهِ الآيَةِ :وَمَا كَانَ اللهُ لِيَقْضِيَ عَلَيكُمْ فِي اسْتِغْفَارِكُمْ لِمَوْتَاكُمُ المُشْرِكِينَ بِالضَّلاَلِ ،بَعْدَ إِذْ رَزَقَكُمُ الهِدَايَةَ ،وَوَفَّقَكُمْ إِلى الإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ،حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَتَتْرُكُوا ،فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ كَرَاهَةَ ذَلِكَ ،فَإِنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالضَّلاَلِ ،وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ .

هَذَا تَحْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى قِتَالِ الكَافِرِينَ ،وَدَعْوَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَتَّقُوا اللهَ ،مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ،وَلِكَيلاَ يَرْهَبُوا أَحَداً غَيْرَ اللهِ ،فَهُوَ الذِي يَهَبُ الحَيَاةَ بِقُدْرَتِهِ وَفْقَ سُنَنٍ فِي التَّكْوينِ ،وَهُوَ الذِي يُمِيتُ حِينَمَا تَنْقَضِي آجَالُ النَّاسِ .وَحِينَ يَجِيءُ الأَجَلُ المُحَدَّدُ فَلاَ تَتَقَدَّمُ نَفْسٌ وَلاَ تَتَأَخَّرُ .وَهُوَ تَعَالَى وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ،وَنَصِيرُهُمْ ،وَلاَ وَلِيَّ وَلاَ نَصِيرَ لَهُمْ غَيْرُهُ .[123]

إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية.فإذا انبتّت وشيجة العقيدة انبتّت الأواصر الأخرى من جذورها،فلا لقاء بعد ذلك في نسب،ولا لقاء بعد ذلك في صهر.ولا لقاء بعد ذلك في قوم.ولا لقاء بعد ذلك في أرض ..إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة،والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها.أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان :«وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ،فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ،إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ».فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه.فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه،ذلك إذ قال له:«سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا،وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا» ..فلما أن مات أبوه على الشرك،وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه،«تبرأ منه» وقطع صلته به.

«إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ..كثير التضرع لله،حليم على من آذاه.ولقد آذاه أبوه فكان حليما وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعا.وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر الله في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب،وتقرر القاعدة الإسلامية:أنه لا عقوبة بغير نص ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ.إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..

إن الله لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه.وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل،ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلا ..ذلك أن الإنسان قاصر والله هو العليم بكل شيء.ومنه البيان والتعليم.

ولقد جعل الله هذا الدين يسرا لا عسرا،فبين ما نهى عنه بيانا واضحا،كما بين ما أمر به بيانا واضحا.

وسكت عن أشياء لم يبين فيها بيانا - لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير - ونهى عن السؤال عما سكت عنه،لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد.ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئا من المسكوت عنه،ولا أن ينهى عما لم يبينه الله.تحقيقا لرحمة الله بالعباد ..

وفي نهاية هذه الآيات،وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب،بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو الله وحده.وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة.

«إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ،وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».

فالأموال والأنفس،والسماوات والأرض،والحياة والموت،والولاية والنصرة ..كلها بيد الله دون سواه.وفي الصلة بالله وحده كفاية وغناء.

وهذه التوكيدات المتوالية،وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة،ورابطة العقيدة الجديدة.مما اقتضى هذا الحسم الأخير،في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله ..حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه ..ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.

إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية.فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق.وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضا ..

ولما كانت تلك طبيعة البيعة،كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أيا كانت الأسباب - أمرا مستنكرا عظيما وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها ..[124]

-------------

وقال تعالى:{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)} [القصص:62 - 64]

واذْكُر أَيُّها الرَّسُولُ حِينَ يُوَبِّخُ اللهُ تَعَالى المُشْرِكِينَ المُضْلِّينَ يَومَ القِيَامَةِ ،فَيَسْأَلُهُمْ قَائِلاً :أَيْنَ الآلِهَةُ التِي كُنْتُمْ تَعبُدُونَها فِي الدَّارِ الدُّنيا مِنَ الأَصْنَامِ والأَندَادِ والجِنِّ ..هَلْ يَدْفَعُونَ عَنْكُمُ اليَومَ ،أَوْ يَشْفَعُونَ فِيكُمْ؟

ويَقُولُ رُؤَسَاءُ الضَّلاَلَةِ ،والدُّعَاةُ إلى الكُفرِ ،الذِينَ حَقَّ عَليهْم غَضَبُ اللهِ :رَبَّنا إِنَّ هؤُلاءِ الأَتبَاعَ الذِينَ أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا ضَلَلْنَا ،هُمُ الذِين غَوَوْا بِطَوْعِهِمْ واخْتِيَارِهِمْ ،وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا لَهُمْ إِلاَّ الوَسْوَسَةُ والتَّسْوِيلُ ،ولمْ نُكرِههّمْ على فِعلِ شيءٍ لا يُريدُونَه ،فًَهُم كَانوا مُختَارينَ حِينما تَقَبَّلُوا تلكَ العَقَائِدَ ،وأقدَموا على هذِهِ الأعمالِ .وإِنَّنا نَبرأ إِليكَ مِنْهُمُ اليَومَ ،ومِمّا اختارُوه فِي الدُّنيا مِنَ الكُفرِ ،وهُمْ لمْ يَعْبُدونَا نَحنُ ،بلْ عَبدُوا أَهَواءَهُمْ ،بلْ عَبدُوا أَهَواءَهُمْ ،وأَطَاعُوا شَهَواتِهِمْ .

وَيُقَالُ في ذلكَ اليَومِ - يومِ القِِيامةِ - لِهؤلاءِ المُشرِكِينَ الذِينًَ كَفُروا بالله في الدُّنيا ،وَعَبدُوا مَعَهُ غَيْرَه :ادْعُوا آلِهَتَكُمْ الذِينَ زَعَمْتُم أَنَّهم كَانُوا شُرَكَاءَ للهِ ،لُيخَلِّصُوكُم مِمّا أَنتُمْ فيهِ ،كَمَا كُنتُم تَرْجُونَ مِنْهُمْ ذلِكَ في الدَّارِ الدُّنيا ،فدعوْهُم فَلَم يَرُدُّوا عَلَيهم لِعَجْزِهِمْ عَنِ الإِجابةِ ،وأَيقنَ الدَّاعُونَ والمَدعُوُّونَ أَنَّهم صَائِرُونَ إِلى النَّارِ لا مَحَالةَ ،فَتَمَنَّوْا لوْ أنَّهُمْ كَانُوا مِنَ المُهتَدِينَ في الدَّارِ الدَّنيا ،لِكيلاَ يَصِيرُوا إِلى العَذَابِ الأَليمِ .[125]

------------

وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) } [سبأ]

وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ ذَلِكَ اليومَ الذِي يَحْشُرُ اللهُ فِيهِ المُسْتَكْبِرينَ مِنْهُمْ والمُسْتَضْعَفينَ مَعَ المَلائِكةِ ،الذينَ كَانَ المُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَهُمْ طَمَعاً فِي شَفَاعَتِهِمْ ،وَلِيُقرِّبُوهُمْ إِلى اللهِ زُلْفَى ،ثُمَّ يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المَلاَئِكَةَ قَائلاً :هَلْ أَنْتُمْ أَمَرْتُمْ هُؤلاءِ بِعِبَادَتِكُمْ؟

فَتَرُدُّ المَلاَئِكَةُ عَلَى سُؤَالِ الرَّبِّ العَظِيمِ قَائِلِينَ :تَعَالَيتَ رَبَّنَا ،وَتَقَدَّسْتَ ،وَتَنَزَّهَتْ أَسْمَاؤُكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ إِلهٌ ،نَحْنُ نَعْبُدُكَ ،وَنَبْرأُ إِليكَ مِنْ هَؤْلاءِ ،وَأَنْتَ الذِي نَوَالِيهِ مِنْ دُونِهِمْ ،فَلا مُوَلاَةَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُم ،وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَنا ،بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ الشِّرْكَ ،وِعِبَادَةَ الأَصْنَامِ ،وأَضَلُّوهُمْ فَأَطَاعُوهُمْ فِي ذَلِكَ ،وَأَكْثَرُهُمْ بِهِمْ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ .فَيَقُولُ لَهُمُ اللهُ تَعَالَى :اليَوْمَ لاَ يَنْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْكُم بِشَيءٍ مِنَ الأًَصْنَامِ وَالأًَوْثَانِ التي عَبَدْتُمُوهَا وَأَشْرَكْتُمُوهَا بِالعبادة مع الله ،طمعاً في نَفْعِهَا وَاتِّقَاءً لِضَرِّهَا .ثُمَّ يقولُ لَهُمْ تَعَالى مُقَرِّعاً وَمُوَبِّخاً :ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ التِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهَا فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنيا ،فَهَا أَنْتُمْ قَدْ عَايَنْتُموهَا ،وأَدْرَكْتُمْ أَنَّهُ لا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْهَا ،فَلُومُوا أَنفُسَكُمْ عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيِديكُمْ .[126]

فهؤلاء هم الملائكة الذين كانوا يعبدونهم من دون الله،أو يتخذونهم عنده شفعاء.هؤلاء هم يواجهون بهم،فيسبحون الله تنزيها له من هذا الادعاء،ويتبرأون من عبادة القوم لهم.فكأنما هذه العبادة كانت باطلا أصلا،وكأنما لم تقع ولم تكن لها حقيقة.إنما هم يتولون الشيطان.إما بعبادته والتوجه إليه،وإما بطاعته في اتخاذ شركاء من دون الله.وهم حين عبدوا الملائكة إنما كانوا يعبدون الشيطان! ذلك إلى أن عبادة الجن عرفت بين العرب وكان منهم فريق يتوجه إلى الجن بالعبادة أو الاستعانة:«بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» ..ومن هنا تجيء علاقة قصة سليمان والجن بالقضايا والموضوعات التي تعالجها السورة،على طريقة سياقة القصص في القرآن الكريم.

وبينما المشهد معروض يتغير السياق من الحكاية والوصف إلى الخطاب والمواجهة.ويوجه القول إليهم بالتأنيب والتبكيت:«فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ..لا الملائكة يملكون للناس شيئا.ولا هؤلاء الذين كفروا يملك بعضهم لبعض شيئا.والنار التي كذب بها الظالمون،وكانوا يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين،ها هم أولاء يرونها واقعا لا شك فيه:«وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا:ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ»[127]

-----------------

وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} [الزخرف:26 - 28]

وَاذْكُرَ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ خَبَرَ جَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أَعْلَنَ لأَبِيهِ آزَرَ وَقَوْمِهِ بِأَنَّهُ مُتَبَرّئٌ مِما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ .وَأَنَّهُ لَنْ يَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ الذِي خَلَقَهُ مِنْ عَدَمٍ والذِي سَيَهْدِيهِ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ،وَيُوفِّقُهُ إِلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ .وَجَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ ( وَهِيَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ) كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي ذُرِّيتَهِ يَتَوَارَثُونَهَا ،وَيَقْتَدِي بِهِ فِيهَا مَنْ هَدَاهُ اللهُ مِنْ ذُرِّيتِهِ ،لَعَلَّ ذُرِّيتَهُ يَذْكُرُونَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُمْ إِبْرَاهِيمُ ،فَيَرْجِعُوا إِلَى اللهُ ،وَيُخْلِصُوا العَمَلَ والإِيْمَانَ لَهُ .[128]

يخبر تعالى عن ملة إبراهيم الخليل عليه السلام،الذي ينتسب إليه أهل الكتاب والمشركون،وكلهم يزعم أنه على طريقته،فأخبر عن دينه الذي ورثه في ذريته فقال:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ} الذين اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم ويتقربون إليهم:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} أي:مبغض له،مجتنب معاد لأهله،{إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} فإني أتولاه،وأرجو أن يهديني للعلم بالحق والعمل به،فكما فطرني ودبرني بما يصلح بدني ودنياي،فـ {سَيَهْدِينِ} لما يصلح ديني وآخرتي.{وَجَعَلَهَا} أي:هذه الخصلة الحميدة،التي هي أم الخصال وأساسها،وهي إخلاص العبادة لله وحده،والتبرِّي من عبادة ما سواه.{كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي:ذريته {لَعَلَّهُمْ} إليها {يَرْجِعُونَ} لشهرتها عنه،وتوصيته لذريته،وتوصية بعض بنيه -كإسحاق ويعقوب- لبعض،كما قال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى آخر الآيات.فلم تزل هذه الكلمة موجودة في ذريته عليه السلام حتى دخلهم الترف والطغيان.[129]

إن دعوة التوحيد التي يتنكرون لها هي دعوة أبيهم إبراهيم.الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفا بها عقيدتهم الباطلة،غير منساق وراء عبادتهم الموروثة،ولا مستمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منها في لفظ واضح صريح،يحكيه القرآن الكريم بقوله:

«إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ،إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» ..

ويبدو من حديث إبراهيم - عليه السّلام - وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلا إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه،فتبرأ من كل ما يعبدون،واستثنى الله ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء،وهو أنه فطره وأنشأه،فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد.وقرر يقينه بهداية ربه له،بحكم أنه هو الذي فطره فقد فطره ليهديه وهو أعلم كيف يهديه.قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة.كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود.قالها:«وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ..

ولقد كان لإبراهيم - عليه السّلام - أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض،وإبلاغها إلى الأجيال من بعده،عن طريق ذريته وعقبه.ولقد قام بها من بنيه رسل،كان منهم ثلاثة من أولي العزم:موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - واليوم بعد عشرات القرون

ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم.ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم.عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس،وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة،ويعيش بها،ولها.فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون،حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل،وأشبه أبنائه به:محمد - r - خاتم الرسل،وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة،التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة،وتجعل لها أثرا في كل نشاط للإنسان وكل تصور.[130]

 

____________

 

 

 


المبحث الخامس

تحريم موالاة الآباء والأقرباء إذا استحبوا الكفر على الإيمان

 

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة:23،24]

بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ،وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ،وَآذَنهم بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ،بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ تَعَالَى أنَّهُمْ لاَ عُهُودَ لَهُمْ،عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ المُسْلِمِينَ،وَتَبَرَّمَ مِنْهُ ضُعَفَاءُ الإِيمَانِ،وَكَانَ مَوْضِعَ الضَعْفِ نُصْرَةُ القَرَابَةِ وَالعَصَبِيّةِ،فَقَالَ اللهُ تَعَالَى:إنَّ فَضْلَ الإِيمَانِ وَالهِجْرَةِ وَالجِهَادِ لاَ يَتَحَقَّقُ،وَلاَ يَكْتَمِلُ إلاَّ بِتَرْكِ وَلاَيَةِ الكَافِرِينَ،وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ،عَلَى حُبِّ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَالأخِ وَالعَشِيرَةِ،فَنَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ الذِينَ يَخْتَارُونَ الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ.وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَولاَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالعِقَابِ الشَّدِيدِ،فِي هذِهِ الآيَةِ،وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى،وَعَدَّ مَنْ يَتَولَّى الكُفَّارَ،وَلُوْ كَانُوا آباَءً أَوْ إِخْوَاناً،مِنَ الظَّالِمِينَ .

ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ r بِتَوَعُّدِ مَنْ آثَرَ حُبَّ القَرَابَةِ وَالعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ وَالتِّجَارَةِ وَالأَمْوَالِ وَالمَسَاكِنِ....عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ،بِأَنْ يَتَرَبَّصُوا أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ،وَيَنْتَظِرُوا عِقَابَهُ وَنَكَالَهُ بِهِمْ،وَاللهُ تَعَالَى لا يَهْدِي الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ سَوَاءَ السَّبِيلِ .[131]

وقال ابن كثير :" أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُبَايَنَةِ الْكُفَّارِ بِهِ،وَإِنْ كَانُوا آبَاءً أَوْ أَبْنَاءً،وَنَهَى عَنْ مُوَالَاتِهِمْ إِذَا (اسْتَحَبُّوا) أَيْ:اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ،وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الْآيَةَ [الْمُجَادَلَةِ:22] .

ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَتَوَعَّدَ مَنْ آثَرَ أَهْلَهُ وَقَرَابَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ،فَقَالَ:(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) أَيْ:اكْتَسَبْتُمُوهَا وَحَصَّلْتُمُوهَا (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) أَيْ:تُحِبُّونَهَا لِطِيبِهَا وَحُسْنِهَا،أَيْ:إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) أَيْ:فَانْتَظِرُوا مَاذَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ بِكُمْ،وَلِهَذَا قَالَ:(حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)"[132]

وقال الطبري :"يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ:لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ بِطَانَةً وَأَصْدِقَاءَ تُفْشُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَكُمْ وَتُطْلِعُونَهُمْ عَلَى عَوْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،وَتُؤْثِرُونَ الْمُكْثَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.{إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة:23] يَقُولُ:إِنِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ.{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة:51] يَقُولُ:وَمَنْ يَتَّخِذَهُمْ مِنْكُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،وَيُؤْثِرُ الْمُقَامَ مَعَهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] يَقُولُ:فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْكُمْ هُمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ،فَوَضَعُوا الْوَلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعَهَا وَعَصَوُا اللَّهَ فِي أَمْرِهِ.وَقِيلَ:إِنَّ ذَلِكَ نَزَلَ نَهْيًا مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَقْرِبَائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ"[133]

يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} اعملوا بمقتضى الإيمان،بأن توالوا من قام به،وتعادوا من لم يقم به.

و{لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} الذين هم أقرب الناس إليكم،وغيرهم من باب أولى وأحرى،فلا تتخذوهم {أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا} أي:اختاروا على وجه الرضا والمحبة {الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ}

{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم تجرؤوا على معاصي الله،واتخذوا أعداء الله أولياء،وأصل الولاية:المحبة والنصرة،وذلك أن اتخاذهم أولياء،موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله،ومحبتهم على محبة الله ورسوله.

ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك،وهو أن محبة الله ورسوله،يتعين تقديمهما على محبة كل شيء،وجعل جميع الأشياء تابعة لهما فقال:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} ومثلهم الأمهات {وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} في النسب والعشرة {وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} أي:قراباتكم عموما {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي:اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها،خصها بالذكر،لأنها أرغب عند أهلها،وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ.

{وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي:رخصها ونقصها،وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات،من الأثمان،والأواني،والأسلحة،والأمتعة،والحبوب،والحروث،والأنعام،وغير ذلك.

{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم،فإن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} فأنتم فسقة ظلمة.{فَتَرَبَّصُوا} أي:انتظروا ما يحل بكم من العقاب {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الذي لا مرد له.{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي:الخارجين عن طاعة الله،المقدمين على محبة الله شيئا من المذكورات.وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله،وعلى تقديمها على محبة كل شيء،وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد،على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله،وجهاد في سبيله.وعلامة ذلك،أنه إذا عرض عليه أمران،أحدهما يحبه الله ورسوله،وليس لنفسه فيه هوى،والآخر تحبه نفسه وتشتهيه،ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا لله ورسوله،أو ينقصه،فإنه إن قدم ما تهواه نفسه،على ما يحبه الله،دل ذلك على أنه ظالم،تارك لما يجب عليه.[134]

إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا فإما تجرد لها،وإما انسلاخ منها.وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة ..كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب،ويخلص لها الحب،وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة،وهي المحركة والدافعة.فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة،على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.

ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض.فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب،باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده،وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ - إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ -» ..

وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب،إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة.وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله.فلله الولاية الأولى،وفيها ترتبط البشرية جميعا،فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك،والحبل مقطوع والعروة منقوضة.

«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..و «الظَّالِمُونَ» هنا تعني المشركين.فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان.

ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ،بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى:الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها) ..وفي الكفة الأخرى:حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله.الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته.الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب،وما يتبعه من تضييق وحرمان،وما يتبعه من ألم وتضحية،وما يتبعه من جراح واستشهاد ..وهو - بعد هذا كله - «الجهاد في سبيل الله» مجردا من الصيت والذكر والظهور.مجردا من المباهاة،والفخر والخيلاء.مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه.وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب ..

«قُلْ:إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها،وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها،وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها،أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ ..فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ...»

ألا إنها لشاقة.ألا وإنها لكبيرة.ولكنها هي ذاك ..وإلا:«فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ».

وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..

وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده،إنما تطالب به الجماعة المسلمة،والدولة المسلمة.فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله.وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف،إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها ..لذة الشعور بالاتصال بالله،ولذة الرجاء في رضوان الله،ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط،والخلاص من ثقلة اللحم والدم،والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء.فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك.[135]

 

____________


المبحث السادس

النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء

 

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)} [المائدة:51 - 53]

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،قَالَ:لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَقَامَ دُونَهُمْ وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ،وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَلَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَتَبَرَّأَ مِنْ حِلْفِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ.فَقَالَ:أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ.قَالَ:فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْقِصَّةُ فِي الْمَائِدَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] [136]

وقال الطبري معقباً:" وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ:إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ،وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ،فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ،وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ.وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَحُلَفَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ،وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ،وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا هَمَّ بِاللَّحَاقِ بِدَهْلَكَ الْيَهُودِيِّ وَالْآخَرُ بِنَصْرَانِيٍّ بِالشَّأْمِ،وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ فَيُسَلَّمُ لِصِحَّتِهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَمَا قِيلَ.فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ أَنْ يَحْكُمَ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ بِالْعُمُومِ عَلَى مَا عَمَّ،وَيَجُوزُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدَنَا بِخِلَافِهِ؛غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَانَ يُوَالِي يَهُودَ أَوْ نَصَارَى،خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَوَائِرِ الدَّهْرِ،لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ،وَذَلِكَ قَوْلُهُ:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] الْآيَةُ.وَأَمَّا قَوْلُهُ:{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ أَنْصَارُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،وَيَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ،وَأَنَّ النَّصَارَى كَذَلِكَ بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَهُمْ وَمِلَّتَهُمْ،مُعَرِّفًا بِذَلِكَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ وَلِيًّا فَإِنَّمَا هُوَ وَلِيُّهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَ مِلَّتَهُمْ وَدِينَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،كَمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَهُمْ حَرْبٌ،فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ:فَكُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ،وَلِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ حَرْبًا كَمَا هُمْ لَكُمْ حَرْبٌ،وَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَوْلِيَاءُ؛لِأَنَّ مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ أَظْهَرَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَرْبَ وَمِنْهُمُ الْبَرَاءَةَ،وَأَبَانُ قَطَعَ وَلَايَتَهُمْ"[137]

وقال أيضاً:"يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وَمَنْ يَتَوَلَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ،يَقُولُ:فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ،فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ،وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَا خَالَفَهُ وَسَخِطَهُ،وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ،وَلِذَلِكَ حَكَمْ مَنْ حَكَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ بِأَحْكَامِ نَصَارَى بَنِي إِسْرَائِيلَ،لِمُوَالَاتِهِمْ إِيَّاهُمْ وَرِضَاهُمْ بِمِلَّتِهِمْ وَنُصرَتِهِمْ لَهُمْ عَلَيْهَا،وَإِنْ كَانَتْ أَنْسَابُهُمْ لِأَنْسَابِهِمْ مُخَالِفَةً وَأَصْلُ دِينِهِمْ لِأَصْلِ دِينِهِمْ مُفَارِقًا.وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُ،مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَدِينُ بِدِينٍ فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ كَانَتْ دَيْنُونَتُهُ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ،إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دِينِنَا انْتَقَلَ إِلَى مِلَّةٍ غَيْرِهَا،فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى مَا دَانَ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَيْهِ،وَلَكِنْ يُقْتَلُ لِرِدَّتِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمُفَارَقَتِهِ دِينَ الْحَقِّ،إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْقَتْلِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ،وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ،إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلِيًّا أَوْ مُنْتَقِلًا إِلَى دِينِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ.فَأَمَّا مَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مِمَّنْ خَالَفَ نَسَبُهُ نَسَبَهُمْ وَجِنْسُهُ جِنْسَهُمْ،فَإِنَّهُ حُكْمُهُ لِحُكْمِهِمْ مُخَالِفٌ"[138]

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ،قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ:لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ،يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ،قَالَ:فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51][139]

وقال الشنقطي رحمه الله:" قَوْلُهُ تَعَالَى:وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ،أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ،فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ بِتَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ،وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُوجِبٌ لِسُخْطِ اللَّهِ،وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهِ،وَأَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا تَوَلَّاهُمْ،وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [5 \ 80،81].

وَنَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ مُبَيِّنًا سَبَبَ التَّنْفِيرِ مِنْهُ ; وَهُوَ قَوْلُهُ:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [60 \ 13] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ،فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَالَاةُ بِسَبَبِ خَوْفٍ،وَتَقِيَّةٍ،وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَصَاحِبُهَا مَعْذُورٌ،وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [3 \ 28]،فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِكُلِّ الْآيَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَنْعِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِيضَاحٌ ; لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ،وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ،فَيُرَخَّصُ فِي مُوَالَاتِهِمْ،بِقَدْرِ الْمُدَارَاةِ الَّتِي يَكْتَفِي بِهَا شَرُّهُمْ،وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْبَاطِنِ مِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ:

وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ ...فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا

وَيُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْكُفَّارَ عَمْدًا اخْتِيَارًا،رَغْبَةً فِيهِمْ أَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلَهُمْ."[140]

قال ابن كثير:"يَنْهَى تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى،الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،قَاتَلَهُمُ اللَّهُ،ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ،ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ فَقَالَ:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] }....

وَقَوْلُهُ:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ:شَكٌّ،وَرَيْبٌ،وَنِفَاقٌ {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أَيْ:يُبَادِرُونَ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ،{يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أَيْ:يَتَأَوَّلُونَ فِي مَوَدَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَقَعَ أَمْرٌ مِنْ ظَفْرِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ،فَتَكُونُ لَهُمْ أَيَادٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى،فَيَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ،عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} قَالَ السُّدِّي:يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ.وَقَالَ غَيْرُهُ:يَعْنِي الْقَضَاءَ والفصلِ {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} قَالَ السُّدِّي:يعني ضرب الجزية على الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى {فَيُصْبِحُوا} يَعْنِي:الَّذِينَ وَالَوُا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} مِنَ الْمُوَالَاةِ {نَادِمِينَ} أَيْ:عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ،مِمَّا لَمَّ يُجْد عَنْهُمْ شَيْئًا،وَلَا دَفَعَ عَنْهُمْ مَحْذُورًا،بَلْ كَانَ عَيْنَ الْمُفْسِدَةِ،فَإِنَّهُمْ فُضِحُوا،وَأَظْهَرَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ،بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَسْتُورِينَ لَا يُدْرَى كَيْفَ حَالُهُمْ.فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْأَسْبَابُ الْفَاضِحَةُ لَهُمْ،تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ،فَتَعَجَّبُوا مِنْهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،وَيَحْلِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَأَوَّلُونَ،فَبَانَ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ."[141]

" يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة،أن لا يتخذوهم أولياء.فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم،فأنتم لا تتخذوهم أولياء،فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم،بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم،فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم،ولهذا قال:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم.والتولي القليل يدعو إلى الكثير،ثم يتدرج شيئا فشيئا،حتى يكون العبد منهم.

{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي:الذين وصْفُهم الظلم،وإليه يَرجعون،وعليه يعولون.فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك،ولا انقادوا لك.

ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم،أخبر أن ممن يدعي الإيمان طائفةً تواليهم،فقال:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي:شك ونفاق،وضعف إيمان،يقولون:إن تولينا إياهم للحاجة،فإننا {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي:تكون الدائرة لليهود والنصارى،فإذا كانت الدائرة لهم،فإذا لنا معهم يد يكافؤننا عنها،وهذا سوء ظن منهم بالإسلام،قال تعالى -رادا لظنهم السيئ-:{فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} الذي يعز الله به الإسلام على اليهود والنصارى،ويقهرهم المسلمون {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ} ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود وغيرهم {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا} أي:أضمروا {فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} على ما كان منهم وضرهم بلا نفع حصل لهم،فحصل الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين،وأذل به الكفر والكافرين،فندموا وحصل لهم من الغم ما الله به عليم.{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} متعجبين من حال هؤلاء الذين في قلوبهم مرض:{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي:حلفوا وأكدوا حلفهم،وغلظوه بأنواع التأكيدات:إنهم لمعكم في الإيمان،وما يلزمه من النصرة والمحبة والموالاة،ظهر ما أضمروه،وتبين ما أسروه،وصار كيدهم الذي كادوه،وظنهم الذي ظنوه بالإسلام وأهله -باطلا فبطل كيدهم وبطلت {أَعْمَالُهُمْ} في الدنيا {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} حيث فاتهم مقصودهم،وحضرهم الشقاء والعذاب."[142]

إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة.فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة ..ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء - وهو التناصر - بين المسلم وغير المسلم إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة ..ولا حتى أمام الإلحاد مثلا - كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن! - وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه؟

إن بعض من لا يقرأون القرآن،ولا يعرفون حقيقة الإسلام وبعض المخدوعين أيضا ..يتصورون أن الدين كله دين! كما أن الإلحاد كله إلحاد! وأنه يمكن إذن أن يقف «التدين» بجملته في وجه الإلحاد.لأن الإلحاد ينكر الدين كله،ويحارب التدين على الإطلاق ..ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام.ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة،وحركة بهذه العقيدة،لإقامة النظام الإسلامي.

إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد ..الدين هو الإسلام ..وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام ..لأن الله - سبحانه - يقول هذا.يقول:«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ..ويقول:«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» ..وبعد رسالة محمد - r - لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا «الإسلام» ..في صورته التي جاء بها محمد - r - وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل.كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السّلام،لم يعد يقبل منهم بعد بعثته ..ووجود يهود ونصارى - من أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - r - ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي ..لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير ..أما بعد بعثته فلا دين - في التصور الإسلامي وفي حس المسلم - إلا الإسلام ..وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل ..

إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام ..لأنه «لا إكراه في الدين» ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه «دينا» ويراهم على «دين» ..

ومن ثم فليس هناك جبهة تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد! هناك «دين» هو الإسلام ..وهناك «لا دين» هو غير الإسلام ..ثم يكون هذا اللادين ..عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفة،أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها.أو إلحادا ينكر الأديان ..تختلف فيما بينها كلها.ولكنها تختلف كلها مع الإسلام.ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء ...

والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء وهو مطالب بإحسان معاملتهم - كما سبق - ما لم يؤذوه في الدين ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن - على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته،وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابية تحل أم مشركة تحرم - وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامة ..فإن حسن المعاملة وجواز النكاح،ليس معناها الولاء والتناصر في الدين وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - r - هو دين يقبله الله ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهة واحدة لمقاومة الإلحاد! إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء.

ودعاهم إلى الإسلام جميعا،لأن هذا هو «الدين» الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعا.ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام،وكبر عليهم أن يدعوا إليه،جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام،فإن تولوا عنه فهم كافرون! والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام،كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء.وهو غير مأذون في أن يكره أحدا من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام.لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه.فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه،هو كذلك لا ثمرة له.

ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - r - هو دين يقبله الله ..ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام! ..

إنه لا يكون مكلفا بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين.وأنه يدعوهم إلى الدين.

وإذا تقررت هذه البديهية،فإنه لا يكون منطقيا مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض،مع من لا يدين بالإسلام.

إن هذه القضية في الإسلام قضية اعتقادية إيمانية.كما أنها قضية تنظيمية حركية! من ناحية أنها قضية إيمانية اعتقادية نحسب أن الأمر قد صار واضحا بهذا البيان الذي أسلفناه،وبالرجوع إلى النصوص القرآنية القاطعة بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب.ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك ..فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة - وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد - r - بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج،وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة ..فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى - إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام - إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا - «والَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» ..

والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام ..ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام ..لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي ..ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام،أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه،كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه! ..

إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء ..

ولقد كان اعتذار عبد الله بن أبي بن سلول،وهو من الذين في قلوبهم مرض،عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود،والاستمساك بحلفه معها،هي قوله:إنني رجل أخشى الدوائر! إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة،وأن تنزل بنا الضائقة ..وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان

فالولي هو الله والناصر هو الله والاستنصار بغيره ضلالة،كما أنه عبث لا ثمرة له ..ولكن حجة ابن سلول،هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب،لا يدرك حقيقة الإيمان ..وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا.لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به،حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبد الله بن أبي بن سلول!

إنهما نهجان مختلفان،ناشئان عن تصورين مختلفين،وعن شعورين متباينين،ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان!

ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم،المتألبين عليهم،المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم ..يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف أو يكشف المستور من النفاق:«فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ،فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ».وعندئذ - عند الفتح - سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله - يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض،على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره،وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين،ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران!

«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا:أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ،فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ! » ..

ولقد جاء الله بالفتح يوما،وتكشفت نوايا،وحبطت أعمال،وخسرت فئات.ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح،كلما استمسكنا بعروة الله وحده وكلما أخلصنا الولاء لله وحده.وكلما وعينا منهج الله،وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا.وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه.فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا ..[143]

 

____________

 

 

المبحث السابع

تحريم موالاة من اتخذ ديننا هزوا

 

قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) } [المائدة]

يُنَفِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالاَةِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ،مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَمِنَ المُشْرِكِينَ،الذِينَ يَتَّخِذُونَ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ المُطَهَّرَةَ،هُزْواً يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا،وَيَعدُّونَهَا نَوْعاً مِنَ اللَّعِبِ،وَيَتَمَنَّوْنَ زَوَالَ الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ،وَيَأمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ،وَبِألاَّ يَتَّخِذُوا هَؤُلاءِ الأَعْدَاءِ أَوْلِيَاءَ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِشَرْعِ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً .

وَهَؤُلاَءِ الأَعْدَاءِ يَسْخَرُونَ مِنَ الأذَانِ،وَمِنَ الصَّلاَةِ،وَمِنَ العِبَادَةِ،وَيَتَّخِذُونَهَا هُزُواً وَلَعِباً وَسُخْرِيَةً،لأنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ مَعْنَى العِبَادَةِ،وَلاَ مَعْنَى شَرْعِ اللهِ،وَالصَّلاَةُ أَكْرَمُ شَيءٍ وَأَفْضَلُهُ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ .[144]

قال الطبري:" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ r:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] أَيْ " صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:57] يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ،وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ مِنْ قَبْلِ بَعْثِ نَبِيِّنَا r وَمِنْ قَبْلِ نُزُولِ كِتَابِنَا أَوْلِيَاءَ.يَقُولُ:لَا تَتَّخِذُوهُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْصَارًا وَإِخْوَانًا وَحُلَفَاءَ،فَإِنَّهُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَإِنْ أَظْهَرُوا لَكُمْ مَوَدَّةً وَصَدَاقَةً.وَكَانَ اتِّخَاذُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا الدِّينَ عَلَى مَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ،أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُظْهِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ مُقِيمٌ،ثُمَّ يُرَاجِعُ الْكُفْرَ بَعْدَ يَسِيرٍ مِنَ الْمُدَّةِ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ يُبْدِي بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَهُوَ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنٌ،تَلَعُّبًا بِالدِّينِ وَاسْتِهْزَاءً بِهِ،كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} "[145]

"إَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ مِنَ الْكُفَّارِ نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ،وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ وَلِيًّا.وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْكَلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ وَلِيٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُمُ اتِّخَاذَ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ،وَلَا إِذَا حَرَّمَ اتِّخَاذَ جَمِيعِهِمْ أَوْلِيَاءَ أَنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ إِبَاحَةَ اتِّخَاذِ بَعْضِهِمْ وَلِيًّا " وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] فَإِنَّهُ يَعْنِي:وَخَافُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمِنَ الْكُفَّارِ أَنْ تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَنُصَرَاءَ،وَارْهَبُوا عُقُوبَتَهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ بَعْدَ تَقَدُّمِهِ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَتُصَدِّقُونَهُ عَلَى وَعِيدِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ" [146]

وقال ابن كثير:"هَذَا تَنْفِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،مِنَ الْكِتَابِيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ،الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَفْضَلَ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُونَ،وَهِيَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحْكَمَةُ المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي،يَتَّخِذُونَهَا {هُزُوًا وَلَعِبًا} يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا،{وَلَعِبًا} يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّعِبِ فِي نَظَرِهِمُ الْفَاسِدِ،وَفِكْرِهِمُ الْبَارِدِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا ...وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيمِ ...

وَقَوْلُهُ:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ} "مِنْ" هَهُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ،كَقَوْلِهِ:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ} [الْحَجِّ:30] ،وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ {وَالْكُفَّارَ} بِالْخَفْضِ عَطْفًا،وَقَرَأَ آخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تَقْدِيرُهُ:وَلَا الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ،أَيْ:لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءَ.

وَالْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ هَهُنَا الْمُشْرِكُونَ،وَكَذَا وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ،فِيهَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} .

وَقَوْلُهُ:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيِ:اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءَ لَكُمْ وَلِدِينِكُمْ أَوْلِيَاءَ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بِشَرْعِ اللَّهِ الَّذِي اتَّخَذَهُ هَؤُلَاءِ هُزُوًا وَلَعِبًا،كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آلِ عِمْرَانَ:28] .

وَقَوْلُهُ [تَعَالَى]{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} أَيْ:وَكَذَلِكَ إِذَا أَذَّنْتُمْ دَاعِينَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ {اتَّخَذُوهَا} أَيْضًا {هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} مَعَانِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ،وَهَذِهِ صِفَاتُ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ الَّذِي "إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَدْبَرَ وَلَهُ حُصَاص،أَيْ:ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ.."[147]

وقال السعدي:"ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم،ويبدون لهم أسرار المؤمنين،ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين،وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك موالاتهم،ويحثهم على معاداتهم،وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما تدعوهم إلى معاداتهم.

وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين،من قدحهم في دين المسلمين،واتخاذهم إياه هزوا ولعبا،واحتقاره واستصغاره،خصوصا الصلاة التي هي أظهر شعائر المسلمين،وأجلُّ عباداتهم،إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا،وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم،وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها،ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس.

فإذا علمتم -أيها المؤمنون- حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم،فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص،وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال،وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.فكيف تدعي لنفسك دينا قيما،وأنه الدين الحق وما سواه باطل،وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا،وسخر به وبأهله،من أهل الجهل والحمق؟! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم."[148]

وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه،وأهينت عبادته،وأهينت صلاته،واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب ..فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ويرتكبونها لنقص في عقولهم.فما يستهزئ بدين الله وعبادة المؤمنين به،إنسان سويّ العقل فالعقل - حين يصح ويستقيم - يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله.وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات،لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله.فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم.والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك،فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم.

ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار،كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب،في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله - r - للجماعة المسلمة في ذلك الحين.ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى ..ولكن الله - سبحانه - كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة.وكان الله - سبحانه - يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين.وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا:إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين! فهؤلاء - كهؤلاء - قد ناصبوا الإسلام العداء،وترصدوه القرون تلو القرون،وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حتى كانت الحروب الصليبية ثم كانت «المسألة الشرقية» التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده،ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض ..وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون ..وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة.الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي،كما يبني نظامها الاجتماعي،كما يبني خطتها الحركية ..سواء ..وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين.ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية،ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب.

إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة،وبحسن معاملة أهل الكتاب والذين قالوا:إنهم نصارى منهم خاصة ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا ..لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك.أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم.إن الولاء هو النصرة.هو التناصر بين فريق وفريق ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب - كما هو الشأن في الكفار - لأن التناصر في حياة المسلم هو - كما أسلفنا - تناصر في الدين وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم.وكيف يكون؟!

إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع،ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين ..[149]

 

___________

 


المبحث الثامن

النهي عن اتخاذ الكفار أولياء

 

قال تعالى:{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران:28]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:" كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ،وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ،قَدْ بَطَنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ،فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرٍ،وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ،وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفْرِ:اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَاحْذَرُوا لُزُومَهُمْ وَمُبَاطَنَتَهُمْ،لَا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ،فَأَبَى أُولَئِكَ النَّفْرُ إِلَّا مُبَاطَنَتَهُمْ وَلُزُومَهُمْ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] إِلَى قَوْلِهِ:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] "[150]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،فِي قَوْلِهِ:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] قَالَ:نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ،وَيَتَّخِذُونَهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ،فَيُظْهِرُونَ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ،وَذَلِكَ قَوْلُهُ {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28][151]

وعَنْ مُجَاهِدٍ،فِي قَوْلِهِ:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] «إِلَّا مُصَانَعَةً فِي الدُّنْيَا وَمُخَالَقَةً»[152]

وعَنِ الرَّبِيعِ،فِي قَوْلِهِ:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] إِلَى:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] قَالَ:قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ:«التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ»[153]

وعن عُبَيْدَ،قَالَ:سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ،يَقُولُ فِي قَوْلِهِ:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] قَالَ:«التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ مَنْ حَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ،فَتَكَلَّمَ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ،وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ،فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ،إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ»[154]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،فِي قَوْلِهِ:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] «فَالتَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ مَنْ حَمَلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهُ فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ،فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ،إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ» وَقَالَ آخَرُونَ:مَعْنَى:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]  [155]

وعَنْ قَتَادَةَ،قَوْلُهُ:{لَا يَتَّخِذِ [ص:319] الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [آل عمران:28] مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً «نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَادُّوا الْكُفَّارَ أَوْ يَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ»،وَقَالَ اللَّهُ:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] «الرَّحِمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ فِي دِينِهِمْ إِلَّا أَنْ يَصِلَ رَحِمًا لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ»[156]

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ تَأْوِيلٌ لَهُ وَجْهٌ،وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ:إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنَ الْكَافِرِينَ تُقَاةً.فَالْأَغْلَبُ مِنْ مَعَانِي هَذَا الْكَلَامِ:إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ مَخَافَةً،فَالتَّقِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ تَقِيَّةٌ مِنَ الْكُفَّارِ،لَا مِنْ غَيْرِهِمْ،وَوَجَّهَهُ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ:إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تُقَاةً،فَتَصِلُونَ رَحِمَهَا،وَلَيْسَ ذَلِكَ الْغَالِبَ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ،وَالتَّأْوِيلُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْأَغْلَبِ الظَّاهِرِ مِنْ مَعْرُوفِ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِمْ.[157]

قال ابن كثير :" نَهَى اللَّهُ،تَبَارَكَ وَتَعَالَى،عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَالُوا الْكَافِرِينَ،وَأَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ يُسِرُّون إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أَيْ:مَنْ يَرْتَكِبُ نَهْيَ اللَّهِ فِي هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النِّسَاءِ:144] وَقَالَ [تَعَالَى] (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] } [الْمَائِدَةِ:51] .

[وَقَالَ تَعَالَى] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إِلَى أَنْ قَالَ:{وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الْمُمْتَحِنَةِ:1] وَقَالَ تَعَالَى -بَعْدَ ذِكْرِ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالْأَعْرَابِ-:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الْأَنْفَالِ:73] .

وَقَوْلُهُ:{إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أَيْ:إِلَّا من خاف في بعض البلدان أوالأوقات مِنْ شَرِّهِمْ،فَلَهُ أَنْ يَتَّقِيَهُمْ بِظَاهِرِهِ لَا بِبَاطِنِهِ وَنِيَّتِهِ،كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ:"إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ".

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ:قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:لَيْسَ التَّقِيَّةُ بِالْعَمَلِ إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ،وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ،وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ،وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَالضَّحَّاكُ،وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.وَيُؤَيِّدُ مَا قَالُوهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]} [النحل:106] .

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:قَالَ الْحَسَنُ:التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أَيْ:يُحَذِّرُكُمْ نِقْمَتَهُ،أَيْ مُخَالَفَتَهُ وَسَطْوَتَهُ فِي عَذَابِهِ لِمَنْ وَالَى أَعْدَاءَهُ وَعَادَى أَوْلِيَاءَهُ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أَيْ:إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْقَلَبُ،فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.[158]

قال السعدي :" هذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين،وتوعد على ذلك فقال:{ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} أي:فقد انقطع عن الله،وليس له في دين الله نصيب،لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان،لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه،قال تعالى:{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين،وصار من حزب الكافرين،قال تعالى:{ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم،والميل إليهم [ص:128] والركون إليهم،وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين،ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين.قال الله تعالى:{إلا أن تتقوا منهم تقاة} (1) أي:تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية.ثم قال تعالى:{ويحذركم الله نفسه} أي:فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك {وإلى الله المصير} أي:مرجع العباد ليوم التناد،فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم،فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة،واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة،ثم أخبر عن سعة علمه لما في النفوس خصوصا،ولما في السماء والأرض عموما،وعن كمال قدرته،ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي العبد من ربه أن يرى قلبه محلا لكل فكر رديء،بل يشغل أفكاره فيما يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب،أو سنة من أحاديث رسول الله،أو تصور وبحث في علم ينفعه،أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه،أو نصح لعباد الله."[159]

ليس من الله في شيء.لا في صلة ولا نسبة،ولا دين ولا عقيدة،ولا رابطة ولا ولاية ..فهو بعيد عن الله،منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات.

ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات ..ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل.قال ابن عباس - رضي الله عنهما - «ليس التقاة بالعمل إنما التقاة باللسان» ..فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر - والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق،كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية.فما يجوز هذا الخداع على الله! ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب،فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقا:«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» ..[160]

------------

وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ) (النساء:144)

يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتَخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ ،مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ،يُصَاحِبُونَهُمْ وَيُصَادِقُونَهُمْ ،وَيُنَاصِحُونَهُمْ ،وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ ،وَيُفْشُونَ إلَيْهِمْ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ البَاطِنَةَ .وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَعَلُوا للهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً بَيِّنَةً وَعُذْراً فِي عُقُوبَتِهِ إِيّاهُمْ .( وَالمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرُ المُسْلِمِينَ )[161] .

وقال الطبري: "وَهَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ,فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ،لَا تُوَالُوا الْكُفَّارَ فَتُؤَازِرُوهُمْ مِنْ دُونِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَدِينِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ,فَتَكُونُوا كَمَنْ أَوْجَبَ لَهُ النَّارَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُتَوَعِّدًا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ هُوَ لَمْ يَرْتَدِعْ عَنْ مُوَالَاتِهِ وَيَنْزَجِرْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِأَهْلِ وَلَايَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ r بِتَبْشِيرِهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا:أَتُرِيدُونَ أَيُّهَا الْمُتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ,مِمَّنْ قَدْ آمَنَ بِي وَبِرَسُولِي أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا,يَقُولُ:حُجَّةً بِاتِّخَاذِكُمُ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ,فَتَسْتَوْجِبُوا مِنْهُ مَا اسْتَوْجَبَهُ أَهْلُ النِّفَاقِ الَّذِينَ وَصَفَ لَكُمْ صِفَتَهُمْ وَأَخْبَرَكُمْ بِمَحِلِّهِمْ عِنْدَهُ {مُبِينًا}[النساء: 20] يَعْنِي:عَنْ صِحَّتِهَا وَحَقِّيَتِهَا, قُولُ:لَا تَعَرَّضُوا لِغَضَبِ اللَّهِ بِإِيجَابِكُمُ الْحُجَّةَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَقَدُّمِكُمْ عَلَى مَا نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ.[162]

وقال السعدي :" لما ذكر أن من صفات المنافقين اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين،نهى عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة،وأن يشابهوا المنافقين،فإن ذلك موجب لأن {تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} أي:حجة واضحة على عقوبتكم،فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها،وأخبرنا بما فيها من المفاسد،فسلوكها بعد هذا موجِب للعقاب.وفي هذه الآية دليل على كمال عدل الله،وأن الله لا يُعَذِّب أحدا قبل قيام الحجة عليه،وفيه التحذير من المعاصي،فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطانا مبينا."[163]

لقد أخذ الحق على المنافقين أنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون الله،وكذلك أخذ المؤمنون على المنافقين أنهم اتخذوا من معسكر الكفر ولياً لهم من دون الله ومن دون المؤمنين،ولهذا فأولى بالمؤمنين ألا يصنعوا ذلك،ويوضح سبحانه:لقد أخذنا على المنافقين أنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون الله،فإياكم أن تفعلوا مثلهم.

{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} .

وهذا أمر منطقي يستقيم مع منهج الإيمان،لأنكم إن فعلتم ذلك.فإنما تقدمون الحجة ليعذبكم الله،وتعلمون أن المنافق يعلن الإيمان بلسانه ويخفي الكفر في قلبه،فكيف يكون وضع المؤمن مع الكافر مثل وضع المنافق مع الكافر؟ ذلك أمر لا يستقيم.ومن يفعل ذلك إنما يقدم حجة لله ليعذبه.

الحق سبحانه في إرساله للرسل وفي تأييد الرسل بالمعجزات وفي إرساله المناهج المستوفية لتنظيم حركة الإنسان في الحياة،كل ذلك ليقطع الحجة على الناس حتى لا يقولن واحد:أنت لم تقل لنا يارب كيف نسير على منهج ما،لذلك لم يترك - سبحانه - الإنسان ليفكر بعقله ليصل بفكره إلى وجود الله،ويكتشف أن هناك خالقا للكون.لم يتركنا سبحانه لهذه الظنون،ولكنه أرسل لنا الرسل بمنهج واضح،من أجل ألا يكون للناس على الله حجة من بعد الرسل،فلا يقولن واحد:أنت لم تنبهني يارب،والجهل بالقانون في الشرع البشري لا يعفي الإنسان من العقوبة إن ارتكب جرما،لكن الله لا يفعل ذلك،فهو أكرم على عباده من أنفسهم،لذلك يرسل الرسول ليحمل المنهج الذي يبين الحلال من الحرام:{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]

فلا يقولن واحد:لقد أخذنا الله على غرّة.وأنتم أيها المؤمنون إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتقربتم إليهم ونصرتموهم فأنتم أكثر شرا من المنافقين،لأن المنافق له أسبابه،وفي أعماقه خيط من الكفر وخيط من الإيمان،والحجة واضحة عليكم أيها المؤمنون،فقد أبلغكم الحق المنهج وأعلنتم الإيمان به.

إن صنعتم غير ذلك تعطون الحق الحجة في أن يعذبكم.

{أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} والسلطان المبين هو السلطان الواضح المحيط الذي لا يستطيع أن يدفعه أحد،فإذا ما كانت هناك حجة،قد يستطيع الإنسان أن ينقضها،كالمحامي أمام المحاكم.لكن حجة الله هي سلطان مبين.أي لا تنقض أبداً.[164]

وقال القاسمي :" هذا نهي عن موالاة الكفرة.يعني مصاحبتهم،ومصادقتهم،ومناصحتهم،وإسرار المودة إليهم،وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم.كما قال تعالى:لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] .أي:يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه.ولهذا قال هاهنا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي:حجة عليكم في عقابكم بموالاتكم إياهم.وقد دلت الآية على تحريم موالاة المؤمنين للكافرين.قال الحاكم:وهي الموالاة في الدين والنصرة فيه.لا المخالقة والإحسان.قال الزمخشريّ:وعن صعصعة بن صوحان أنه قال لابن أخ له:خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر.فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن.وأنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.قال أبو السعود:وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال:أتجعلون ...إلخ،للمبالغة في إنكار ذلك،وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر على العاقل إرادته،فضلا عن صدور نفسه كما في قوله عز وجل:أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ [البقرة:108] ."[165]

---------------

وقال تعالى:{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } [الكهف:102]

أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِي،وَاتَّخَذُوا عِبَادِي،الَّذِينَ هُمْ فِي قَبْضَتِي،وَتَحْتَ سُلْطَانِي،كَالمَلاَئِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ...مَعْبُودَاتٍ مِنْ دُونِي أَنَّ هَؤُلاَءَ المَعْبُودِينَ سَيَنْفَعُونَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ إِنَّ ذَلِكَ لَنْ يُجْدِيهِمْ نَفْعاً،وَلَنْ يُنَجِّيهِمْ مِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ وَالوَبَالِ،وَلَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ العَذَابِ،فَقَدْ هَيَّأْنَا جَهَنَّمَ وَأَعْدَدْنَاهَا لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ لِتَكُونَ لَهُمْ مَقَرّاً وَمُسْتَقَرّاً ( نُزُلاً ) .[166]

وقال السعدي :"هذا برهان وبيان،لبطلان دعوى المشركين الكافرين،الذين اتخذوا بعض الأنبياء والأولياء،شركاء لله يعبدونهم،ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء،ينجونهم من عذاب الله،وينيلونهم ثوابه،وهم قد كفروا بالله وبرسله.يقول الله لهم على وجه الاستفهام والإنكار المتقرر بطلانه في العقول:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} أي:لا يكون ذلك ولا يوالي ولي الله معاديا لله أبدا،فإن الأولياء موافقون لله في محبته ورضاه،وسخطه وبغضه،فيكون على هذا المعنى مشابها لقوله تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}

فمن زعم أنه يتخذ ولي الله وليا له وهو معاد لله فهو كاذب ويحتمل -وهو الظاهر- أن المعنى أفحسب الكفار بالله المنابذون لرسله أن يتخذوا من دون الله أولياء ينصرونهم وينفعونهم من دون الله ويدفعون عنهم الأذى؟ هذا حسبان باطل وظن فاسد فإن جميع المخلوقين ليس بيدهم من النفع والضر شيء ويكون هذا كقوله تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ونحو ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه ضال خائب الرجاء غير نائل لبعض مقصوده"[167]

أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له أنصارا لهم من دونه،ينصرونهم منه ويدفعون عنهم سلطانه؟ إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان:«إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» ..ويا له من نزل مهيأ للاستقبال،لا يحتاج إلى جهد ولا انتظار.فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار![168]

المراد بالذين كفروا هنا،هم اليهود والنصارى،ومن كان على شاكلتهم،ممن ألّهوا غير الله،من عباده،كما قالت اليهود عزير ابن الله،وكما قالت النصارى،المسيح ابن الله..فهؤلاء،وإن كانوا أهل كتاب،قد خرجوا على تعاليم كتبهم،وأفسدوا المعتقد الصحيح،الذي جاءهم به رسل الله،فاتخذوا من عباد الله آلهة،وجعلوا ولاءهم لهم،من دون الله..

وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه السّياق،وتقديره:أحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء،ثم لا يلقون جزاء هذا العمل الفاسد الأثيم؟ كلا..«إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» وإذ كانوا يعملهم هذا قد دخلوا مداخل الكفر،وأصبحوا فى زمرة الكافرين،فإن جزاءهم هو جزاء الكافرين،ولا جزاء للكافرين إلّا جهنم التي جعلها الله المنزل الذي ينزلونه يوم الدّين..[169]

 

_____________

 

 

المبحث التاسع

تحريم موالاة المغضوب عليهم

 

قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (13) سورة الممتحنة

بَعْدَ أَنْ نَهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَادَّةِ المُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ،عَادَ تَعَالَى فَكَرَّرَ هَذَا النَّهْيَ فِي آخِرِهَا فَقَالَ :يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لاَ تُوَالُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ مِمَّنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ،وَاسْتَحَقُّوا الطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ ،وَلاَ تَتَّخِذُوهُمْ أَصْدِقَاءَ لَكُمْ تُسِرُّونَ إِليْهِمْ بِمَا يَضُرُّ الإِسْلاَمَ وَالمُسْلِمِينَ ،وَهَؤُلاَءِ الكُفَّارُ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الخَيْرِ والنَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ لِعِنَادِهِمْ ،وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الكُفْرِ ،وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللهِ ..كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ بَعْثِ مَوْتَاهُمْ ،لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ بِبَعْثِ وَلاَ حَشْرٍ وَلاَ حِسَابٍ .[170]

" يَنْهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ فِي آخِرِ "هَذِهِ السُّورَةِ" كَمَا نَهَى عَنْهَا فِي أَوَّلِهَا فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي:الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَسَائِرَ الْكُفَّارِ،مِمَّنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَاسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ،فَكَيْفَ تُوَالُونَهُمْ وَتَتَّخِذُونَهُمْ أَصْدِقَاءَ وَأَخِلَّاءَ وَقَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ،أَيْ:مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.وَقَوْلُهُ:{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} فِيهِ قَوْلَانِ،أَحَدُهُمَا:كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الْأَحْيَاءُ مِنْ قَرَابَاتِهِمُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ،لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ بَعْثًا وَلَا نُشُورًا،فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ.

قَالَ الْعَوْفِيُّ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ،يَعْنِي مَنْ مَاتَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَقَدْ يَئِسَ الْأَحْيَاءُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ أَوْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قَالَ:الْكُفَّارُ الْأَحْيَاءُ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْأَمْوَاتِ.وَقَالَ قَتَادَةُ:كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْقُبُورِ الَّذِينَ مَاتُوا.وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.رَوَاهُنَّ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي:مَعْنَاهُ:كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ هُمْ فِي الْقُبُورِ مَنْ كُلِّ خَيْرٍ.

قَالَ الْأَعْمَشِ،عَنْ أَبِي الضُّحَى،عَنْ مَسْرُوقٍ،عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} قَالَ:كَمَا يَئِسَ هَذَا الْكَافِرُ إِذَا مَاتَ وَعَايَنَ ثَوَابَهُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ.وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ،وَعِكْرِمَةَ،وَمُقَاتِلٍ،وَابْنِ زَيْدٍ،وَالْكَلْبِيِّ،وَمَنْصُورٍ.وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ."[171]

وقال السعدي :" أي:يا أيها المؤمنون،إن كنتم مؤمنين بربكم،ومتبعين لرضاه ومجانبين لسخطه،{لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وإنما غضب عليهم لكفرهم،وهذا شامل لجميع أصناف الكفار.{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} أي:قد حرموا من خير الآخرة،فليس لهم منها نصيب،فاحذروا أن تولوهم فتوافقوهم على شرهم وكفرهم فتحرموا خير الآخرة كما حرموا.

[وقوله] {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} حين أفضوا إلى الدار الآخرة،ووقفوا على حقيقة الأمر وعلموا علم اليقين أنهم لا نصيب لهم منها.ويحتمل أن المعنى:قد يئسوا من الآخرة أي:قد أنكروها وكفروا بها،فلا يستغرب حينئذ منهم الإقدام على مساخط الله وموجبات عذابه وإياسهم من الآخرة،كما يئس الكفار المنكرون للبعث في الدنيا من رجوع أصحاب القبور إلى الله تعالى."[172]

يجيء هتافا للذين آمنوا باسم الإيمان،وبالصفة التي تميزهم عن سائر الأقوام،إذ تصلهم بالله وتفصلهم عن أعداء الله.وقد وردت بعض الروايات بأن المقصود بالقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود،استنادا إلى دمغهم بهذه الصفة في مواضع أخرى من القرآن.ولكن هذا لا يمنع من عموم النص ليشمل اليهود والمشركين الذين ورد ذكرهم في السورة،وكل أعداء الله.وكلهم غضب عليه الله.وكلهم يائس من الآخرة،لا يعلق بها رجاء،ولا يحسب لها حسابا كيأس الكفار من الموتى - أصحاب القبور - لاعتقادهم أن أمرهم انتهى،وما عاد لهم من بعث ولا حساب.وهو هتاف يتجمع من كل إيقاعات السورة واتجاهاتها.فتختم به كما بدأت بمثله.ليكون هو الإيقاع الأخير.الذي تترك السورة أصداءه في القلوب .[173]

---------------

وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} المجادلة

يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ مُوَالاَتَهُمْ لِلْيَهُودِ ،وَمُنَاصَحَتَهُمْ إِيَّاهُمْ ،وَنَقْلَهُمْ أَسْرَارَ المُؤْمِنينَ إِلَيهِمِ .فَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ مَا مَعْنَاهُ :أَلاَ تَرَى إِلَى حَالِ هَؤُلاَءِ المُنَاقِقِينَ ،الذِينَ يَتَوَلَّوْنَ اليَهُودَ ،الذِينَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ،لِكُفْرِهِمْ ،وَلِكِتْمَانِهِمْ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ،وَهِيَ الحَقُّ الذِي يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ،إِنَّهَا لَحَالٌ تُثِيرُ العَجَبَ .فَهُمْ يُنَاصِحُونَ اليَهُودَ ،وَيُبَلِّغُونَهُمْ جَميِعَ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ دَخَائِلِ المُسْلِمِينَ ،اكْتِسَاباً لِوِدِّهِمْ وَصَدَاقَتِهِمْ ،وَهُمْ مَعَ المُؤْمِنينَ ،يَتَظَاهَرُونَ بِالإِيْمَانِ ،وَبِالإِخْلاَصِ لِلإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ .ثُمَّ يُخْبِرُ تَعَالَى :أَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَيْسُوا فِي الحَقِيقَةِ وَالوَاقِعِ مِنَ المُؤْمِنِينَ ،لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنينَ لَطَبَعَ الإِيْمَانُ أَعْمَالَهُمْ .وَلَمَا وَالَوا اليَهُودَ أَعْدَاءَ اللهِ ،وَهُمْ فِي نَفْسِ الوَقْتِ لَيْسُوا مِنَ اليَهُودِ ،لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِي دِينِهِمْ ،وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَفِظُوا بِمَودَّتِهِمْ ،فَقَدْ يَحْتَاجُونَ إِلَيهَا ،إِذَا دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى المُؤْمِنِينَ .وَيُؤْكِّدُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إِيمَانَهُمْ وَإِخْلاَصَهُمْ ،أَمَامَ الرّسُولِ r وَأَمَامَ المُؤْمِنينَ ،بِحَلْفِ الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ فِيمَا يَقُولُونَ ،وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ ،لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ صِدْقَهُ .

وَقَدْ هَيأَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً يَصْلَوْنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ،جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مُعَادَاةِ الرَّسُولِ وَالمُؤْمِنينَ وَغِشِّهمْ ،وَعَلَى مُوَالاَتِهِم الكُفَّارَ وَمُنَاصَحَتِهِمْ ،وَسَاءَ عَمَلُهُمْ هَذَا .

أَظْهَرُوا الإِيْمَانَ ،وَأَبْطَنُوا الكُفْرَ ،وَتَسَتَّرُوا بِالإِيْمَانِ الكَاذِبِ ،فَظَنَّ مَنْ لاَ يَعْرِفُ حَقيقَةَ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ ،فَاغْتَرَّ بِهِمْ ،وَتَمَكَّنُوا بِذَلِكَ مِنْ صَدِّ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ،فَلهُمْ عِنْدَ اللهِ عَذَابٌ مُهِينٌ مُذِلٌّ ،جَزَاءً لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ ،وَعَلَى حَلْفِهِمْ بِاسْمِ اللهِ العَظِيمِ كَذِباً وَرِيَاءً .

وَلَنْ يَنْفَعَ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ عِنْدَ اللهِ شَيءٌ مِمَا ظَنُّوهُ نَافِعاً لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدٍ ،وَلَنْ يَدْفَعَ شَيءٌ عَنْهُمْ عَذَابَ اللهِ وَنَقْمَتَهُ ،فَلاَ المَالُ مَقْبُولٌ مِنْهُمْ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنَ العَذَابِ ،وَلاَ الأَوْلاَدُ قَادِرُونَ عَلَى نَصْرِهِمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ ،وَسَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ نَارِ جَهَنَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهَا ،وَيَبْقَونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً .

وَاذْكُرْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ حَالَهُمْ ،يَوْمَ القِيَامَةِ ،حِينَمَا يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعاً مِنْ قُبُورِهِمْ ،فَلاَ يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَداً ،فَيَحْلِفُونَ لَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الهُدَى ،وَأَنَّهُمْ لَمْ يُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ شَيئاً ،فَيَقُولُونَ { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ اليَوْمَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ،عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ ،وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ حَلْفَهُمْ أَمَامَ اللهِ نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ ،كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ العِبَادِ حَلْفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ .

وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مُنْكِراً تَصَرُّفَهُمْ هَذَا ،فَيَقُولُ :أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ ،وَفِيمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ أَنَّ أَيْمَانَهُمُ الكَاذِبَةَ تَرُوجُ عِنْدَ اللهِ ،وَتُنْقِذُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَعَذَابِهِ .

استَوْلَى الشَّيْطَانُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ،وَسَيْطَرَ عَلَيهَا بِوَسْوَسَتِهِ ،حَتَّى أَنْسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ،وَأَنْ يَتَّبِعُوا أَوَامِرَهُ ،وَأَنْ يَجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ ،بِمَا زَيِّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الشَّهَوَاتِ ،فَهَؤُلاَءِ هُمْ جُنُودُ الشَّيْطَانِ وَحِزْبُهُ وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ هُمْ الخَاسِرُونَ لأَنَّهُمْ فَوَّتُوا عَلَى أَنْفُسِهِم النَّعِيمَ ،وَأَوْصَلُوهَا إِلَى الجَحِيمِ وَعَذَابِهِ .[174]

وقال الطبري:" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ r:أَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِ قَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ،فَتَرَى إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَنَاصَحُوهُمْ.

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:مَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {مِنْكُمْ} [البقرة:65] يَعْنِي:مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ {وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة:14] وَلَا هُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ مِنْكُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ إِذَا لَقُوا الْيَهُودَ،قَالُوا {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] .

وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ،وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ r:نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَهُمْ كَاذِبُونَ غَيْرُ مُصَدِّقِينَ بِهِ،وَلَا مُؤْمِنِينَ بِهِ،كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]

أَعَدَّ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ شَدِيدًا.{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:9] فِي الدُّنْيَا بِغِشِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ.وَنُصْحِهِمْ لِأَعْدَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ.

ويَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:جَعَلُوا حَلِفَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ جُنَّةً يَسْتَجِنُّونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَيَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ،وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا اطُّلِعَ مِنْهُمْ عَلَى النِّفَاقِ،حَلَفُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْهُمْ.{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة:16] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:فَصَدُّوا بِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا جُنَّةً الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِيهِمْ،وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرَةٌ،وَحُكْمُ اللَّهِ وسَبِيلُهُ فِي أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْقَتْلُ،أَوْ أَخْذُ الْجِزْيَةِ،وَفِي عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ الْقَتْلُ،فَالْمُنَافِقُونَ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِيهِمْ بِأَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ،وَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ،فَيَحُولُونَ بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَتْلِهِمْ،وَيَمْتَنِعُونَ بِهِ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.

وَقَوْلُهُ:{فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16] يَقُولُ:فَلَهُمْ عَذَابٌ مُذِلٌّ لَهُمْ فِي النَّارِ.

لَنْ تُغْنِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْوَالُهُمْ،فَيَفْتَدُوا بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْمُهِينِ لَهُمْ،وَلَا أَوْلَادُهُمْ فَيَنْصُرُونَهُمْ وَيَسْتَنْقِذُونَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُمْ.{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة:39] يَقُولُ:هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ {أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة:39] ،يَعْنِي أَهْلَهَا الَّذِينَ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] ،يَقُولُ:هُمْ فِي النَّارِ مَاكِثُونَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ.

هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ،يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا،يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا.فَيَوْمٌ مِنْ صِلَةِ أَصْحَابِ النَّارِ.وَعَنَى بِقَوْلِهِ:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [المجادلة:6] مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَهَيْئَاتِهِمْ قَبْلَ مَمَاتِهِمْ،فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ كَاذِبَيْنَ مُبْطِلِينَ فِيهَا.

عَنْ سمَاك بْنِ حَرْبٍ،حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَير،أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ:أَنَّ النَّبِيَّ r كَانَ فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ مِنْ حُجَره،وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ كَانَ يَقلصُ عَنْهُمُ الظِّلَّ،قَالَ:"إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ،فَإِذَا أَتَاكُمْ فَلَا تُكَلِّمُوهُ".فَجَاءَ رَجُلٌ أَزْرَقُ،فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ r فَكَلَّمَهُ،فَقَالَ،"عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ "-نَفَرٌ دَعَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ-قَالَ:فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَدَعَاهُمْ،فَحَلَفُوا لَهُ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ،قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ،عَزَّ وَجَلَّ:{فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَيُظُنُّونَ أَنَّهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ وَحَلِفِهِمْ بِاللَّهِ كَاذِبَيْنَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ،أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ.

يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة:19] غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [ص:492] فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:19] يَعْنِي جُنْدُهُ وَأَتْبَاعُهُ.{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19] يَقُولُ:أَلَا إِنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ وَأَتْبَاعَهُ هُمُ الْهَالِكُونَ الْمَغْبُونُونَ فِي صَفْقَتِهِمْ."[175]

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي مُوَالَاتِهِمُ الْكُفَّارَ فِي الْبَاطِنِ،وَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مَعَهُمْ وَلَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ،كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النِّسَاءِ:143] وَقَالَ هَا هُنَا:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني:الْيَهُودَ،الَّذِينَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُمَالِئُونَهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ فِي الْبَاطِنِ.ثُمَّ قَالَ:{مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أَيْ:هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ،لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ لَا مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ،وَلَا مِنَ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ.

ثُمَّ قَالَ:{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يَعْنِي:الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا،وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ،وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ حَالِهِمُ اللَّعِينِ،عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُ (1) فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا:آمَنَّا،وَإِذَا جَاءُوا الرَّسُولَ حَلَفُوا بِاللَّهِ [لَهُ] (2) أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ،وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا بِهِ،لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ مَا قَالُوهُ،وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقًا،وَلِهَذَا شَهِدَ اللَّهُ بِكَذِبِهِمْ فِي أَيْمَانِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ لِذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ:أَرْصَدَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ،وَهِيَ مُوَالَاةُ الْكَافِرِينَ وَنُصْحُهُمْ،وَمُعَادَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَغِشُّهُمْ،وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ:أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ،وَاتَّقَوْا بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ،فَظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ صِدْقَهُمْ فَاغْتَرَّ بِهِمْ،فَحَصَلَ بِهَذَا صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِبَعْضِ النَّاسِ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أَيْ:فِي مُقَابَلَةِ مَا امْتَهَنُوا مِنَ الْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ فِي الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ الْحَانِثَةِ.ثُمَّ قَالَ:{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ:لَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بَأْسًا إِذَا جَاءَهُمْ،{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

ثُمَّ قَالَ:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أَيْ:يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ آخِرِهِمْ فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا،{فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ:يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ (4) عَزَّ وَجَلَّ،أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى وَالِاسْتِقَامَةِ،كَمَا كَانُوا يَحْلِفُونَ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا،لِأَنَّ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ وَبُعِثَ عَلَيْهِ،وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ النَّاسِ،فَيُجْرُونَ عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامَ الظَّاهِرَةَ،وَلِهَذَا قَالَ:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ:حَلِفُهُمْ ذَلِكَ لِرَبِّهِمْ،عَزَّ وَجَلَّ.

ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ  {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَأَكَّدَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ بِالْكَذِبِ.

وَحَالُ هَؤُلَاءِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ يَقُولُ:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الْأَنْعَامِ:23،24]

ثُمَّ قَالَ:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أَيِ:اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الشَّيْطَانُ حَتَّى أَنْسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ،عَزَّ وَجَلَّ،وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي:الَّذِينَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[176]

وقال السعدي :" يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين،من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم،ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب،وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين،{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}

فليسوا مؤمنين ظاهرا وباطنا لأن باطنهم مع الكفار،ولا مع الكفار ظاهرا وباطنا،لأن ظاهرهم مع المؤمنين،وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به،والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب،فيحلفون أنهم مؤمنون،وهم يعلمون أنهم ليسوا مؤمنين.

فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة،أن الله أعد لهم عذابا شديدا،لا يقادر قدره،ولا يعلم وصفه،إنهم ساء ما كانوا يعملون،حيث عملوا بما يسخط الله ويوجب عليهم العقوبة واللعنة.

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي:ترسا ووقاية،يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين،فبسبب ذلك صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله،وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى جنات النعيم.ومن صد عنه فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم،{فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} حيث استكبروا عن الإيمان بالله والانقياد لآياته،أهانهم بالعذاب السرمدي،الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا هم ينظرون.

{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} فلا تدفع عنهم شيئا من العذاب،ولا تحصل لهم قسطا من الثواب،{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} الملازمون لها،الذين لا يخرجون عنها،و {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ومن عاش على شيء مات عليه.

فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين،ويحلفون لهم أنهم مؤمنون،فإذا كان يوم القيامة وبعثهم الله جميعا،حلفوا لله كما حلفوا للمؤمنين،ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء،لأن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة،لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئا فشيئا،حتى غرتهم وظنوا أنهم على شيء يعتد به،ويعلق عليه الثواب،وهم كاذبون في ذلك،ومن المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب والشهادة.وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم،وزين لهم أعمالهم،وأنساهم ذكر الله،وهو العدو المبين،الذي لا يريد بهم إلا الشر،{إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الذين خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وأهليهم."[177]

هذه الحملة القوية على المنافقين الذين يتولون قوما غضب الله عليهم - وهم اليهود - تدل على أنهم كانوا يمعنون في الكيد للمسلمين،ويتآمرون مع ألد أعدائهم عليهم كما تدل على أن سلطة الإسلام كانت قد عظمت،بحيث يخافها المنافقون،فيضطرون - عندما يواجههم رسول الله - r - والمؤمنون بما يكشفه الله من تدابيراتهم ومؤمراتهم - إلى الحلف بالكذب لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال وهم يعلمون أنهم كاذبون في هذه الأيمان.إنما هم يتقون بأيمانهم ما يتوقعونه من مؤاخذتهم بما ينكشف من دسائسهم:«اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» أي وقاية.وبذلك يستمرون في دسائسهم للصد عن سبيل الله! والله يتوعدهم مرات في خلال هذه الآيات:«أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..«فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» ..«لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..

ويصور مشهدهم يوم القيامة في وضع مزر مهين،وهم يحلفون لله كما كانوا يحلفون للناس:«يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» ..مما يشير إلى أن النفاق قد تأصل في كيانهم،حتى ليصاحبهم إلى يوم القيامة.وفي حضرة الله ذي الجلال.الذي يعلم خفايا القلوب وذوات الصدور! «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» ..وهم على هواء لا يستندون إلى شيء.أي شيء! ويدمغهم بالكذب الأصيل الثابت:«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» ..

ثم يكشف عن علة حالهم هذه.فقد استولى عليهم الشيطان كلية «فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ» ..والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر:«أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ» ..الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه،ويعمل باسمه،وينفذ غاياته.وهو الشر الخالص الذي ينتهي إلى الخسران الخالص:«أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..وهي حملة شديدة عنيفة تناسب الشر والأذى والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين.وتطمئن قلوب المسلمين.والله - سبحانه وتعالى - يتولى عنهم الحملة على أعدائهم المستورين![178]

 

_____________

 

 


المبحث العاشر

تحريم اتخاذ بطانة من دون المؤمنين

 

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } (آل عمران)

يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الكُفَّارِ وَاليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ بِطَانَةً وَخَوَاصَّ لَهُمْ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ،يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سِرِّهِمْ ،وَمَا يُضْمِرُونَ لأعْدَائِهِمْ .لأنَّ هَؤُلاءِ لاَ يَألُونَ جُهْداً ،وَلاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ عَمَلٍ فِيهِ إِيْذَاءٌ وَإِضْرَارٌ بِالمُؤْمِنِينَ ،فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ،وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ وُقُوعَ المُؤْمِنينَ فِي الضِّيقِ وَالمَشَقَّةِ .وَلَقَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ وَالعَدَاوَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ كَلِمَاتِ الحِقْدِ ،وَصُدُورُهُمْ تُخْفِي حِقْداً أَكْبَرَ ،وَبُغْضاً أَعْظَمَ للإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ ،وَهُوَ أمْرٌ لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ ،وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الدَّلاَلاَتِ الوَاضِحَةَ التِي يُعْرَفُ يِهَا الوَلِيُّ مِنَ العّدُوِّ .

يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ :إِنَّكُمْ تُحِبُّونَ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ الذِينَ هُمْ أشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَكُمْ ،وَلاَ يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أَمْرِكُمْ ،وَتَمَنَّي عَنَتِكُمْ .وَيُظْهِرُونَ لَكُمُ العَدَاوَةَ وَالغِشَّ ،وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ رَيْبَ المَنُونِ ،فَكَيْفَ تُوادُّونَهُمْ وَتُواصِلُونَهُمْ ،وَهُمْ لاَ يُحِبُّونَكُمْ لا ظَاهِراً وَلاَ بَاطِناً ،وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ الذِي أنْزِلَ عَلَيْكُمْ ،وَبِالكُتُبِ التِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُ ،وَلَيْسَ لَدَيْكُمْ شَيءٌ مِنَ الشَّكِّ فِي شَيءٍ مِنْهَا ،وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ ،وَعِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَكٌّ وَحَيرَةٌ ،فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِبُغْضِهِمْ مِنْهُمْ لَكُمْ ،فَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا :آمَنَّا إِرْضَاءً لَكُمْ ،وَحَذَراً مِنْهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ مِنْكُمْ .وَإِذَا فَارَقُوكُمْ ،وَاخْتَلَوا بِأَنْفُسِهِمْ ،عَضُّوا عَلَيْكُمْ أَطْرَافَ أصَابِعِهِمْ مِنْ غَيْظِهِمْ مِنْكُمْ ،فَقُلْ لَهُمْ :مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فَلَنْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ شَيئاً ،وَاللهُ مُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ ،وَاللهُ هُوَ الذِي يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ البَغْضَاءِ وَالحَسَدِ وَالغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ .

وَلِشِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَسُوؤُهُمْ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنينَ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ - نَصْرٌ أَوْ رِبْحٌ أَوْ خَصْبٌ - كَمَا يَسُرُّهُمْ مَا يَنْزِلُ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ بَلاَءٍ وَسُوْءٍ وَهَزِيْمَةٍ .وَيَنْصَحُ اللهُ المؤْمِنِينَ بِالتَّحَلِّي بالصَّبْر والتَّقْوى ،وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ كَيْدِهِمْ وَأَذَاهُمْ ،لأنَّهُ مُحِيطٌ بِما يَعْمَلُونَ ،وَكُلُّ شَيءٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدَرِهِ .[179]

وقال ابن كثير:"يقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً،أَيْ:يُطْلعونهم عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ،وَالْمُنَافِقُونَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ لَا يَأْلُونَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَالا أَيْ:يَسْعَوْنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ،وَبِمَا يَسْتَطِيعُونَهُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ،وَيَوَدُّونَ مَا يُعْنتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخْرِجُهُمْ ويَشُقّ عَلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ:{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أَيْ:مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ،وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ:هُمْ خَاصَّةُ أَهْلِهِ الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى دَاخِلِ أَمْرِهِ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ،وَالنَّسَائِيُّ،وَغَيْرُهُمَا،عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ:"مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ:بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ "  .

وعَنِ ابْنِ أَبِي الدِّهْقانة قَالَ:قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:إِنْ هَاهُنَا غُلاما مِنْ أَهْلِ الحِيرة،حَافِظٌ كَاتِبٌ،فَلَوِ اتَّخَذْتَهُ كَاتِبًا؟ فَقَالَ:قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ  .

فَفِي هَذَا الْأَثَرِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذَّمَّة لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ،الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ واطِّلاع عَلَى دَوَاخل أمُورهم الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشوها إِلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ،وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} .

وعَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ:كَانُوا يَأْتُونَ أنَسًا،فَإِذَا حَدَّثهم بِحَدِيثٍ لَا يَدْرُونَ مَا هُوَ،أتَوا الْحَسَنَ -يَعْنِي الْبَصْرِيَّ-فَيُفَسِّرُهُ لَهُمْ.قَالَ:فحدَّث ذَاتَ يَوْمٍ عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قال:"لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ،وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ،فَأَتَوُا الْحَسَنَ فَقَالُوا لَهُ:إِنَّ أَنَسًا حَدّثنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قال:"لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فَقَالَ الْحَسَنُ:أَمَّا قَوْلُهُ:"وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا :مُحَمَّدٌ r.وأما قوله:"لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ" يَقُولُ:لَا تَسْتَشِيرُوا الْمُشْرِكِينَ فِي أُمُورِكُمْ.ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ:تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} رواه أبو يعلى .

وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِيهِ نَظَرٌ،وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ:"لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا أَيْ:بِخَطٍّ عَرَبِيٍّ،لِئَلَّا يُشَابِهَ نَقْشَ خَاتَمِ النَّبِيِّ r،فَإِنَّهُ كَانَ نَقْشُه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ،وَلِهَذَا جاء في الحديث الصحيح أنه نَهَى أَنْ يَنْقُشَ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ.وَأَمَّا الِاسْتِضَاءَةُ بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ،فَمَعْنَاهُ:لَا تُقَارِبُوهُمْ فِي الْمَنَازِلِ بِحَيْثُ تَكُونُونَ مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ،بَلْ تَبَاعَدُوا مِنْهُمْ وهَاجروا مِنْ بِلَادِهِمْ،وَلِهَذَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ [رَحِمَهُ اللَّهُ] لَا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا" وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:"مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ،فَهُوَ مِثْلُهُ"،فحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ،رَحِمَهُ اللَّهُ،وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أَيْ:قَدْ لَاحَ عَلَى صَفَحات وُجُوهِهِمْ،وَفَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ،مَعَ مَا هُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَيْهِ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْبَغْضَاءِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،مَا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى لَبِيبٍ عَاقِلٍ،وَلِهَذَا قَالَ:{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أَيْ:أَنْتُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ-تُحِبُّونَ الْمُنَافِقِينَ مِمَّا يُظْهِرُونَ لَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ،فَتُحِبُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ لَا يُحِبُّونَكُمْ،لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أَيْ:لَيْسَ عِنْدَكُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا رَيْب،وَهُمْ عِنْدَهُمُ الشَّكُّ والرِّيَب والحِيرة.

وعن ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أَيْ:بِكِتَابِكُمْ وَكِتَابِهِمْ،وَبِمَا مَضَى مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ،وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ،فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ،مِنْهُمْ لَكُمْ.رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وَالْأَنَامِلُ:أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ،قَالَهُ قَتَادَةُ.

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أوَدُّ كَمَا مَا بَلّ حَلْقِيَ ريقَتى ...وَمَا حَمَلَتْ كَفَّايَ أنْمُلي العَشْرا

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ،والسُّدِّي،والرَّبِيع بْنُ أَنَسٍ:{الأنَامِلَ} الْأَصَابِعُ.

وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرون لِلْمُؤْمِنِينَ الإيمانَ وَالْمَوَدَّةَ،وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ،كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وَذَلِكَ أَشَدُّ الْغَيْظِ وَالْحَنَقِ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ:مَهْمَا كُنْتُمْ تَحْسُدُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَغِيظُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ،فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُتمّ نِعْمَتَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ومُكَملٌ دِينَهُ،ومُعْلٍ كلمتَه وَمُظْهِرٌ دينَه،فَمُوتُوا أَنْتُمْ بِغَيْظِكُمْ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ:هُوَ عَلِيمٌ بِمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ ضَمَائِرُكُمْ،وتُكنُّه سَرَائرُكُم مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ لِلْمُؤْمِنِينَ،وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يُرِيَكُمْ خِلَافَ مَا تُؤَمِّلُونَ،وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي النَّارِ الَّتِي أَنْتُمْ خَالِدُونَ فِيهَا،فَلَا خُرُوجَ لَكُمْ مِنْهَا.

ثُمَّ قَالَ:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وَهَذِهِ الْحَالُ دَالَّةٌ عَلَى شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ خِصْبٌ،وَنَصْرٌ وَتَأْيِيدٌ،وَكَثُرُوا وَعَزَّ أَنْصَارُهُمْ،سَاءَ ذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ،وَإِنْ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ سَنَة -أَيْ:جَدْب-أَوْ أُديل عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ،لِمَا لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ،كَمَا جَرَى يَوْمَ أُحُد،فَرح الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ،قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]} يُرْشِدُهُمْ تَعَالَى إِلَى السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ وكَيْدِ الفُجّار،بِاسْتِعْمَالِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى،وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِأَعْدَائِهِمْ،فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ،وَهُوَ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ،وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.وَلَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ،وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.[180]

وعَنْ قَتَادَةَ،قَوْلَهُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] قَالَ:نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَدْخِلُوا الْمُنَافِقِينَ،وَأَنْ يُؤَاخُوهُمْ وَأَنْ يَتَوَلَّوْهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالُوا:الْمُنَافِقُونَ"[181]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] يَقُولُ:لَا تَسْتَشِيرُوا الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ"[182]

وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ:وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ تَخَوُّفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118][183]

وعَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ رَاشِدٍ،قَالَ:كَانَ أَنَسٌ إِذَا حَدَّثَهُمْ بِحَدِيثٍ،لَا يَدْرُونَ مَا هُوَ أَتَوُا الْحَسَنَ فَيُفَسِّرُهُ لَهُمْ.فَحَدَّثَهُمْ يَوْمًا أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ لَهُمْ:«لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الشِّرْكِ،وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» .فَلَمْ يَدْرُوا مَا ذَلِكَ،فَأَتَوُا الْحَسَنَ فَقَالُوا:إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَنَا الْيَوْمَ حَدِيثًا لَا نَدْرِي مَا قَالَ،قَالَ:وَمَا حَدَّثَكُمْ؟ قَالُوا:ثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ:«لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الشِّرْكِ،وَلَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» ،فَقَالَ الْحَسَنُ:نَعَمْ أَمَا قَوْلُهُ «لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيًّا» ،يَقُولُ:لَا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ:مُحَمَّدٌ.وَأَمَّا قَوْلُهُ «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الشِّرْكِ» فَإِنَّهُ يَقُولُ:لَا تَسْتَشِيرُوا الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ.قَالَ:وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118]"[184]

وقال الطبري:" يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ،وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ،{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] يَقُولُ:لَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ وَأَصْدِقَاءَ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ دُونِكُمْ،يَقُولُ:مِنْ دُونِ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ،يَعْنِي مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ،وَإِنَّمَا جَعَلَ الْبِطَانَةَ مَثَلًا لِخَلِيلِ الرَّجُلِ فَشَبَّهَهُ بِمَا وَلِيَ بَطْنَهُ مِنْ ثِيَابِهِ لِحُلُولِهِ مِنْهُ فِي اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِهِ،وَمَا يَطْوِيهِ عَنْ أَبَاعِدِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَقَارِبِهِ،مَحَلَّ مَا وَلِيَ جَسَدَهُ مِنْ ثِيَابَهُ،فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ بِهِ أَخِلَّاءَ وَأَصْفِيَاءَ ثُمَّ عَرَّفَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَهُمْ مُنْطَوُونَ مِنَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ،وَبَغْيَهُمْ إِيَّاهُمُ الْغَوَائِلَ،فَحَذَّرَهُمْ بِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ،فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] يَعْنِي لَا يَسْتَطِيعُونَ شَرًّا،مِنْ أَلَوْتُ آلُو أُلُوًّا،يُقَالُ:مَا أَلَا فُلَانٌ كَذَا،أَيْ مَا اسْتَطَاعَ،كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

جَهْرَاءُ لَا تَأْلُو إِذَا هِيَ أَظْهَرَتْ ...بَصَرًا وَلَا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِينِي

يَعْنِي لَا تَسْتَطِيعُ عِنْدَ الظُّهْرِ إِبْصَارًا.وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] الْبِطَانَةُ الَّتِي نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِهَا مِنْ دُونِهِمْ،فَقَالَ:إِنَّ هَذِهِ الْبِطَانَةَ لَا تَتْرُكُكُمْ طَاقَتُهَا خَبَالًا:أَيْ لَا تَدَعُ جَهَدَهَا فِيمَا أَوْرَثَكُمُ الْخَبَالَ وَأَصْلُ الْخَبَالِ،وَالْخَبَالُ:الْفَسَادُ،ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ r:«مَنْ أُصِيبَ بَخَبَلٍ أَوْ جِرَاحٍ» وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] فَإِنَّهُ يَعْنِي:وَدُّوا عَنَتَكُمْ،يَقُولُ:يَتَمَنَّوْنَ لَكُمُ الْعَنَتَ وَالشَّرَّ فِي دِينِكُمْ وَمَا يَسُوءُكُمْ وَلَا يَسُرُّكُمْ.ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخَالِطُونَ حُلَفَاءَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْهُمْ،وَيُصَافُونَهُمُ الْمَوَدَّةَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ،فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَسْتَنْصِحُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ"[185]

وقال السعدي :"ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض الأعمال الإسلامية وذلك أنهم هم الأعداء الذين امتلأت قلوبهم من العداوة والبغضاء فظهرت على أفواههم {وما تخفي صدورهم أكبر} مما يسمع منهم فلهذا {لا يألونكم خبالا} أي:لا يقصرون في حصول الضرر عليكم والمشقة وعمل الأسباب التي فيها ضرركم ومساعدة الأعداء عليكم قال الله للمؤمنين {قد بينا لكم الآيات} أي:التي فيها مصالحكم الدينية والدنيوية {لعلكم تعقلون} فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو،فليس كل أحد يجعل بطانة،وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه.

قال الله مهيجا للمؤمنين على الحذر من هؤلاء المنافقين من أهل الكتاب،ومبينا شدة عداوتهم {هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله} أي:جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بكتابكم،بل إذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل} وهي أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم {قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا أنفسهم،وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه،بل لا يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.

{إن تمسسكم حسنة} كالنصر على الأعداء وحصول الفتح والغنائم {تسؤهم} أي:تغمهم وتحزنهم {وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر - وهي الصبر والتقوى- لم يضركم مكرهم،بل يجعل الله مكرهم في نحورهم لأنه محيط بهم علمه وقدرته فلا منفذ لهم عن ذلك ولا يخفى عليهم منهم شيء."[186]

إنها صورة كاملة السمات،ناطقة بدخائل النفوس،وشواهد الملامح،تسجل المشاعر الباطنة،والانفعالات الظاهرة،والحركة الذاهبة الآئبة.وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان.

ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء.يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة.فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة.وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة،وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال،ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم،والكيد لهم والدس،ما وأتتهم الفرصة في ليل أو نهار.وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب،كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين،وللشر المبيت،وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء،وما يزال يفضي إليهم بالمودة،وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء،لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار ..فجاء هذا التنوير،وهذا التحذير،يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر،ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين،الذين لا يخلصون لها أبدا،ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة.ولم يجىء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة،فهو حقيقة دائمة،تواجه واقعا دائما ..كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود ..

والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم:ألا يتخذوا بطانة من دونهم.بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة.وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة ..المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر،وكل شأن،وكل وضع،وكل نظام،وكل تصور،وكل منهج،وكل طريق! والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم،يوادون من حاد الله ورسوله ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم.

والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل:«وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» ..

والله سبحانه يقول:«ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ،وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ،وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا:آمَنَّا،وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» ..

والله سبحانه يقول:«إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ،وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» ..

ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة،ولكننا لا نفيق ..ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر.ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون،ولا تغسلها سماحة يعلمها لهم الدين ..ومع ذلك نعود،فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق! ..وتبلغ بنا المجاملة،أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها،وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام،وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله.ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي.ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا،ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا ..وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم،وندفع أذاهم،وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم،ويفلت على ألسنتهم منه شواظ:«وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً.إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..

فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع.الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول ..ثم هو التقوى:الخوف من الله وحده.ومراقبته وحده ..هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله،فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه،ولا تعتصم بحبل إلا حبله ..وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته وستشد هذه الرابطة من عزيمته،فلا يستسلم من قريب،ولا يواد من حاد الله ورسوله،طلبا للنجاة أو كسبا للعزة! هذا هو الطريق:الصبر والتقوى ..التماسك والاعتصام بحبل الله.وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها،وحققوا منهج الله في حياتهم كلها ..إلا عزوا وانتصروا،ووقاهم الله كيد أعدائهم،وكانت كلمتهم هي العليا.وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين،الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا،واستمعوا إلى مشورتهم،واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين ..إلا كتب الله عليهم الهزيمة،ومكن لأعدائهم فيهم،وأذل رقابهم،وأذاقهم وبال أمرهم ..

والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة وأن سنة الله نافذة.فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض،فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والانكسار والهوان ..

إن الله يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء.ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها.إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم،وللكينونة المسلمة ..مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون ..أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا يتقي الكيد ولكنه لا يكيد،ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد.إلا أن يحارب في دينه،وأن يفتن في عقيدته،وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه.

فحينئذ هو مطالب أن يحارب،وأن يمنع الفتنة،وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله،وعن تحقيق منهجه في الحياة.يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته.وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه.وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس.لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال ..وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام.لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية! هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى،وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص.

إن هذا المنهج خير.وما يصد البشرية عند إلا أعدى أعداء البشرية.الذين ينبغي لها أن تطاردهم،حتى تقصيهم عن قيادتها ..وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة،فأدته مرة خير ما يكون الأداء.

وهي مدعوة دائما إلى أدائه،والجهاد ماض إلى يوم القيامة ..تحت هذا اللواء ..[187]

 

_____________

 

 


المبحث الحادي عشر

البراءة ممن يتولى غير الله ورسوله r

 

قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) } [الممتحنة]

هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ،وَكَانَ حَاطِبٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ،هَاجَرَ مِنْ مَِكَّةَ،وَتَرَكَ فِيهَا مَالَهُ وَوَلَدَهُ،وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ قُرَيِشٍ.فَلَمَا أَرَادَ الرَّسُولُ r فَتَحَ مَكَّةَ دَعَا رَبَّهُ اللهَ أَنْ يُعْمِيَ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيشٍ،حَتَّى يَأْخْذَهُمْ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ،فَكَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلَى قُرَيشٍ يُعَرِّفُهُمْ بِعَزْمِ الرَّسُولِ r عَلَى غَزْوِهِمْ،وَأَرْسَلَهُ مَعَ امْرَأَةٍ لِيَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً.وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالكِتَابِ،فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ،وَأَمَرَهُمَا بِالذَّهَابِ إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ لِيَأَتِيَاهُ بِالكِتَابِ مِنَ المَرْأَةِ،فَلَمَّا جَاءَاهَا طَلَبا مِنْهَا الكِتَابَ فأَنْكَرَتْهُ،فَهَدَّدَاهَا بِتَجْرِيدِهَا مِنْ ثِيَابِهَا لِتَفْتِيشِهَا،فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ مِنْ ضَفَائِرِ شَعْرِهَا .

وَسَأَلَ الرَّسُولُ حَاطِباً عَنِ الكِتَابِ فَاعْتَرَفَ وَقَالَ لِلرَّسُولُ إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْراً،وَلاَ ارْتِدَاداً عَنِ الإِسْلاَمِ،وإِنَّمَا لِيَتَّخِذَ بِهِ يَداً عِنْدَ قُرَيشٍ يَحْمِي بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ.فَقَالَ الرَّسُولُ للصَّحَابَةِ إِنَّهُ صَدَقَكُمْ.وَقَالَ عُمْرُ بِنُ الخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنْقَ هَذَا المُنَافِقِ.فَقَالَ الرَّسُولُ:إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً،وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ:اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ .

وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِأَنْ لاَ يَتَّخِذَوا الكُفَّارَ أَعْواناً وَأَنْصَاراً لَهُمْ يُبَلِّغُونَهُمْ أَخْبَارَ الرَّسُولِ التِي لاَ ينْبَغِي لأَعْدَائِهِ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَيهَا،وَقَدْ كَفَرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ،فَكَيْفَ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا تَتَّخِذُونَهُمْ أَنْصَاراً تُسِرُّونَ إِليهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ،وَيُضُرُّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ،وَقَدْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَينِ أَظْهَرِهِمْ كُرْهاً بِالتَّوْحِيدِ،وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ،وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ يُؤَاخَذُونَ عَلَيهِ غَيْرُ ذَلِكَ .

فَإِنْ كُنْتُمْ،يَا أَيَّهُا المُؤْمِنُونَ،قَدْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي،وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي،فَلاَ تُوَلُوا أَعْدَائِي،وَمَنْ يَفْعَلْ هَذِهِ المُوَالاَةَ،وَيُفْشِ سِرَّ الرَّسُول لأَعْدَائِهِ،فَقَدْ حَادَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِلَى الجَنَّةِ .

إِنْ ظَفِرَ بِكُمْ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ،الذِينَ تُلْقَونَ إِليهِم بِالمَوَدَّةِ،يُظْهِرُوا لَكُمْ عَدَاوَتَهُمْ،وَيَمُدُّوا إِليكُمْ أَيدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُمْ بِمَا يَسُوؤُكُمْ:يُقَاتِلُونَكُمْ وَيَشْتَمُونَكُمْ وَيَتَمَنَّونَ لَو تَكْفرُونَ بِرَبِّكُمْ فَتَكُونُوا عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ،فَكَيْفَ تُسِرُّونَ إِلَى هَؤُلاَءِ بِالمَوَدَّةِ وَهَذِهِ هِيَ حَالُهُمْ؟..

وََيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الذِي اعْتَذَرَ بِرَغْبَتِهِ فِي المُحَافَظَةِ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَأَمْوَالِهِ فِي مَكَّةَ،بِأَنَّ الأَقَارِبَ وَالأَوْلاَدَ،الذِينَ تُوَالُونَ الكُفَّارَ مِنْ أَجْلِهِمْ،لَنْ يَنْفَعُوكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَلَنْ يَدْفَعُوا عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ عَذَابِ اللهِ،إِنْ عَصَيْتُمُوهُ فِي الدُّنْيَا،لأَنَّهُ سَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ.وَيَذْهَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمَّنْ سِوَاهُ،وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَأْنٌ يُغَنِيهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ،وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ .

أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ،وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ،حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ:إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ،وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ،وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ،وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ،فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ،وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ،وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ،وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .

وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا،وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ،وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ،فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ:إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ،وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ،إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ.وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ،وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ.فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .

وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ:رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا )،وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا،وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ.فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ،وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ .

رَبَّنَا وَلاَ تُسَلِّطْ قَوْمَنَا الكَافِرِينَ عَلَينَا،وَلاَ تَجْعَلْهُمْ يَظْهَرُونَ عَلَينَا،فَيَعْمَلُوا عَلَى فِتْنَتِنَا عَنْ دِينِنَا بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ.وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا ظَهَرُوا عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ فِيمَا يَقُولُونَ،وَفِيمَا يَعْبُدُونَ،رَبَّنَا واسْتُرْ ذُنُوبَنَا عَنْ غَيرِكَ،وَاعْفُ عَنَّا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَينَكَ،إِنَّكَ يَا رَبِّ أَنْتَ القَوِيُّ العَزِيزُ الذِي لاَ يُضَامُ،الحَكِيمُ فِيمَا تَشْرَعُ،وَفِيمَا تَقْضِي .

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ،قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ،وَأُسْوَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا،لِمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ،وَيَطْمَعُ فِي الأَجْرِ والثَّوَابِ مِنَ اللهِ،وَالنَّجَاةِ مِنَ العَذَابِ وَالنِّكَالِ.وَمَنْ يُعْرِضْ عَمَّا دَعَاهُ اللهُ إِليهِ مِنَ الإِيْمَانِ بِهِ وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبْهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخَرِ،وَيَسْتَكْبِرْ وَيُوَالِ أَعْدَاءَ اللهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ بِذَلِكَ إِلاَّ نَفْسَهُ،فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ إِيمَانِهِ وَعَنْ طَاعَتِهِ،مَحْمُودٌ بأنْعُمِهِ وَأَفْضَالِهِ عَلَى خَلْقِهِ .

ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ تَطْيِباً لِقُلُوبِهِمْ،إِنَّهُ قَدْ يَغْرِسُ فِي قُلُوبِ الكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِهِمْ وَمِنْ أَقْرْبَائِهِمْ مَحَّبَةَ الإِسْلاَمِ،فَيَتِمُّ التَّوادُّ،وَيَتِمُّ التَّصَافِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَؤُلاَءِ الذِينَ كَانُوا يُعَادُونَهُمْ،وَيُقَاطِعُونَهُمْ فِي الدِينِ،وَاللهُ قَدِيرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ،غَفُورٌ لِخَطِيئَةِ الَّذِينَ أَلْقَوا إِلَيهِمْ بِالمَوَدَّةِ إِذَا تَابُوا مِنْهَا،رَحِيمٌ بِهِمْ،فَلاَ يُعَذِّبُهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَنْبِهِمْ .

وعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،وَكَانَتْ لَهَا أُمٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالَ لَهَا قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى،فَأَتَتْهَا بِهَدَايَا وَصِنَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ،فَقَالَتْ:لَا أَقْبَلُ لَكِ هَدِيَّةً،وَلَا تُدْخِلِي عَلَيَّ حَتَّى يَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ r فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ r،فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إِلَى قَوْلِهِ:{الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8][188].

إِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْهَاكُمْ عَنِ الإِحْسَانِ إِلَى الكُفَّارِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ،وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ،وَلَمْ يُعَاوِنُوا فِي إِخْرَاجِكُمْ مِنْهَا،وَلاَ يَمْنَعُكُمْ مِنْ إِكْرَامِهِمْ،وَمَنْحِهِمْ صِلَتَكُمْ،لأَنَّ اللهَ يُحِبُّ أَهْلَ البِرِّ والتَّوَاصُل.إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ مُوَالاَةِ الكُفَّارِ الذِينَ نَاصَبُوكُمُ العِدَاءَ فِي الدِّينِ فَقَاتَلُوكُمْ،وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وَدِيَارِكُمْ،وَأَعَانُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ،فَهَؤُلاَءِ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنْ مُوَالاَتِهِمْ،وَعَنْ اتَّخَاذِهِمْ أَنْصَاراً،وَيَأْمُرُكُمْ بِمُعَادَاتِهِمْ .وَيُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى الوَعِيدَ عَلَى مُوَالاَتِهِمْ فِيُبَيِّنُ:أَنَّ الذِينَ يَتَوَلَّوْنَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارَ المُؤْذِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأَنَّهُمْ خَالُفوا أَمْرَ اللهِ فَوَالَوْا أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَهُمْ .[189]

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ:عُنِيَ بِذَلِكَ:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتَصِلُوهُمْ،وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ،إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ:الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ جَمِيعَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتَهُ،فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ،وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ:ذَلِكَ مَنْسُوخٌ،لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ،أَوْ مِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَلَا نَسَبٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَهُ،أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ،أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ.قَدْ بَيَّنَ صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَأُمِّهَا"[190]

وقال السعدي :"وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم،وإلقاء المودة إليهم،وأن ذلك مناف للإيمان،ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام،ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو،الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا،وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه،فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} اعملوا بمقتضى إيمانكم،من ولاية من قام بالإيمان،ومعاداة من عاداه،فإنه عدو لله،وعدو للمؤمنين.فلا تتخذوا عدو الله {وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي:تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها،فإن المودة إذا حصلت،تبعتها النصرة والموالاة،فخرج العبد من الإيمان،وصار من جملة أهل الكفران،وانفصل عن أهل الإيمان.

وهذا المتخذ للكافر وليا،عادم المروءة أيضا،فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر،ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير،ويأمره به،ويحثه عليه؟! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار،أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق،ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة،فإنهم قد كفروا بأصل دينكم،وزعموا أنكم ضلال على غير هدى.

والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية،ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله،بل مجرد العلم بالحق يدل على بطلان قول من رده وفساده.

ومن عداوتهم البليغة أنهم {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} أيها المؤمنون من دياركم،ويشردونكم من أوطانكم،ولا ذنب لكم في ذلك عندهم،إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته،لأنه رباهم،وأنعم عليهم،بالنعم الظاهرة والباطنة،وهو الله تعالى.

فلما أعرضوا عن هذا الأمر،الذي هو أوجب الواجبات،وقمتم به،عادوكم،وأخرجوكم - من أجله - من دياركم،فأي دين،وأي مروءة وعقل،يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان؟ " ولا يمنعهم منه إلا خوف،أو مانع قوي.

{إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أي:إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله،لإعلاء كلمة الله،وابتغاء مرضاة الله (3) فاعملوا بمقتضى هذا،من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه،فإن هذا هو الجهاد في سبيله (4) وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه.

{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أي:كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها،مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون؟!،فهو وإن خفي على المؤمنين،فلا يخفى على الله تعالى،وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر،{وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} أي:موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية.

ثم بين تعالى شدة عداوتهم،تهييجا للمؤمنين على عداوتهم،{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} أي:يجدوكم،وتسنح لهم الفرصة في أذاكم،{يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} ظاهرين {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل والضرب،ونحو ذلك.

{وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} أي:بالقول الذي يسوء،من شتم وغيره،{وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} فإن هذا غاية ما يريدون منكم.

فإن احتججتم وقلتم:نوالي الكفار لأجل القرابة والأموال،فلن تغني عنكم أموالكم ولا أولادكم من الله شيئا.{والله بما تعملون بصير} فلذلك حذركم من موالاة الكافرين الذين تضركم موالاتهم.

قد كان لكم يا معشر المؤمنين {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي:قدوة صالحة وائتمام ينفعكم،{فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} من المؤمنين،لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا،{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي:إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين،من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله.

ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح،فقالوا:{كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا} أي:ظهر وبان {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} أي:البغض بالقلوب،وزوال مودتها،والعداوة بالأبدان،وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد،بل ذلك {أَبَدًا} ما دمتم مستمرين على كفركم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي:فإذا آمنتم بالله وحده،زالت العداوة والبغضاء،وانقلبت مودة وولاية،فلكم أيها المؤمنون أسوة [حسنة] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد،والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته،وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده،{إِلا} في خصلة واحدة وهي {قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ} آزر المشرك،الكافر،المعاند،حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد،فامتنع،فقال إبراهيم:{لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و} الحال أني لا {أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا،فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك،فليس لكم أن تدعوا للمشركين،وتقولوا:إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم،فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لأواه حليم}ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه،حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه،واعترفوا بالعجز والتقصير،فقالوا:{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} أي:اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا،ووثقنا بك يا ربنا في ذلك.{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي:رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك،فنحن في ذلك ساعون،وبفعل الخيرات مجتهدون،ونعلم أنا إليك نصير،فسنستعد للقدوم عليك،ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك .{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي:لا تسلطهم علينا بذنوبنا،فيفتنونا،ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان،ويفتنون أيضا بأنفسهم،فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة،ظنوا أنهم على الحق وأنا على الباطل،فازدادوا كفرا وطغيانا،{وَاغْفِرْ لَنَا} ما اقترفنا من الذنوب والسيئات،وما قصرنا به من المأمورات،{رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} القاهر لكل شيء،{الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها،فبعزتك  وحكمتك انصرنا على أعدائنا،واغفر لنا ذنوبنا،وأصلح عيوبنا.

ثم كرر الحث [لهم] على الاقتداء بهم،فقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وليس كل أحد تسهل عليه هذه الأسوة،وإنما تسهل على من {كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} فإن الإيمان واحتساب الأجر والثواب،يسهل على العبد كل عسير،ويقلل لديه كل كثير،ويوجب له الإكثار من الاقتداء بعباد الله الصالحين،والأنبياء والمرسلين،فإنه يرى نفسه مفتقرا ومضطرا إلى ذلك غاية الاضطرار.{وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن طاعة الله والتأسي برسل الله،فلن يضر إلا نفسه،ولا يضر الله شيئا،{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} الذي له الغنى التام [المطلق] من جميع الوجوه،فلا يحتاج إلى أحد من خلقه [بوجه] ،{الْحَمِيدُ} في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله،فإنه محمود على ذلك كله.ثم أخبر تعالى أن هذه العداوة التي أمر الله بها المؤمنين للمشركين،ووصفهم بالقيام بها أنهم ما داموا على شركهم وكفرهم،وأنهم إن انتقلوا إلى الإيمان،فإن الحكم يدور مع علته،فإن المودة الإيمانية ترجع،فلا تيأسوا أيها المؤمنون،من رجوعهم إلى الإيمان،فـ {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} سببها رجوعهم إلى الإيمان،{وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على كل شيء،ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال،{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يتعاظمه ذنب أن يغفره،ولا يكبر عليه عيب أن يستره،{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وفي هذه الآية إشارة وبشارة إلى إسلام بعض المشركين،الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين،وقد وقع ذلك،ولله الحمد والمنة.ولما نزلت هذه الآيات الكريمات،المهيجة على عداوة الكافرين،وقعت من المؤمنين كل موقع،وقاموا بها أتم القيام،وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين،وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه.فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي:لا ينهاكم الله عن البر والصلة،والمكافأة بالمعروف،والقسط للمشركين،من أقاربكم وغيرهم،حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم،فليس عليكم جناح أن تصلوهم،فإن صلتهم في هذه الحالة،لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}

[وقوله:] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي:لأجل دينكم،عداوة لدين الله ولمن قام به،{وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} أي:عاونوا غيرهم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} نهاكم الله {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} بالمودة والنصرة،بالقول والفعل،وأما بركم وإحسانكم،الذي ليس بتول للمشركين،فلم ينهكم الله عنه،بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين،وغيرهم.{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وذلك الظلم يكون بحسب التولي،فإن كان توليا تاما،صار ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام،وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ،وما هو دون ذلك."[191]

إن الإسلام دين سلام،وعقيدة حب،ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله،وأن يقيم فيه منهجه،وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين.وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله.فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة،انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع.ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس.فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.

وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين،وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة:«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» ..وهذا الرجاء من الله،معناه القطع بتحققه.والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به،ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة،وأن أسلمت قريش،وأن وقف الجميع تحت لواء واحد،وأن طويت الثارات والمواجد،وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب.

«وَاللَّهُ قَدِيرٌ» ..يفعل ما يريد بلا معقب.«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..يغفر ما سلف من الشرك والذنوب ..وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم.ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم،وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا.ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم.وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون ..ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى:«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ..وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن،ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف! وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية،بل نظرته الكلية لهذا الوجود،الصادر عن إله واحد،المتجه إلى إله واحد،المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي،من وراء كل اختلاف وتنويع.

وهي أساس شريعته الدولية،التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة،لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده،أو خوف الخيانة بعد المعاهدة،وهي تهديد بالاعتداء أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد.وهو كذلك اعتداء.وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين.ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها.فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد،وتحقيق منهج الله في الأرض،وإعلاء كلمة الله.

وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة،وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون.فمن وقف معهم تحتها فهو منهم،ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم.ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم،ولم يصد الناس عنها،ولم يحل بينهم وبين سماعها،ولم يفتن المؤمنين بها،فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.

إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته،ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله.فلا خصومه على مصلحة،ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب.إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا،ولتكون عقيدته هي المنهج في الحياة.ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ..إلخ» ..فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة.بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل،ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة.ولكن هذا إنما كان بعد ما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى:«وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» ..وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها - من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود.وهي حالة اعتداء في صميمها.تنطبق عليها حالة الاعتداء.وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره،وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية.فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك.[192]

 

____________

 

 


المبحث الثاني عشر

تولي الكفار بعضهم بعضا

 

قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة:78 - 81]

لَعَنَ اللهُ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الزَّبُورِ وَالإِنْجِيلِ،فَقَدْ لَعَنَ دَاوُدُ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ،مِنْ اعْتَدَى مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ،أَوْ لَعَنَ العَاصِينَ المُعْتَدِينَ مِنْهُمْ عَامَّةً،وَكَذَلِكَ لَعَنَهُمْ عِيسَى بِنِ مَرْيَمَ،وَسَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ هُوَ تَمَادِيهِمْ فِي العِصْيَانِ،وَتَمَرُّدُهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ،وَتَمَادِيهِمْ فِي الظُّلْمِ وَالفَسَادِ ( بِمَا كَانُوا يَعْتَدُونَ )

فَقَدْ كَانُوا لاَ يَنْهَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَداً عَنِ مُنْكَرٍ يَقْتَرِفُهُ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ القُبْحِ وَالضَّرَرِ.وَالنَّهِيُ عَنِ المُنْكَرِ هُوَ حِفَاظُ الدِّينِ،وَسِيَاجُ الفَضَائِلِ وَالآدَابِ،فَإذَا تَجَرّأ المُسْتَهْتِرُونَ عَلى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ،وَرَآهُمُ الغَوْغَاءَ مِنَ النَّاسِ قَلَّدُوهُمْ فِيهِ،وَزَالَ قُبْحُهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ،وَصَارَ عَادَةً لَهُمْ،وَزَالَ سُلْطَانُ الدِّينِ مِنْ قُلُوبِهِمْ،وَتُرِكَتْ أَحْكَامُهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ،وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إلى فَشْوِ المُنْكَرَاتِ فِيهِمْ.وَيُقَبِّحُ اللهُ تَعَالَى سُوءَ فِعْلِهِمْ،وَيَذُمُّهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ المُنْكَرَاتِ،وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهَا وَسُكُوتِ الآخَرِينَ عَنْهَا،وَرِضَاهُمْ بِهَا .

وَتَرَى يَا مُحَمَّدُ كَثِيراً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ،يَتَوَلَّوْنَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَيْكَ،وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى قِتَالِكَ،وَأَنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ،وَبِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ،وَتَشْهَدُ لَهُمْ بِصِدْقِ الرِّسَالَةِ،وَأُولَئِكَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ وَلاَ رَسُولٍ،وَلاَ يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ،وَلَولا اتِّبَاعُ الهَوَى،وَتَزْيينُ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ،مَا فَعَلُوا ذَلِكَ،فَبِئْسَ مَا قَدَّمُوهُ لأَنْفُسِهِمْ فِي آخِرَتِهِمْ مِنَ الأَعْمَالِ التِي اسْتَوْجَبَتْ سَخَطَ اللهِ،وَعَظِيمَ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ،وَسَيُجْزَوْنَ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الجَزَاءِ،وَسَيُحِيطَ بِهُمُ العَذَابُ،وَلا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفاً،وَيَخْلُدُونَ فِي النَّارِ أَبَداً .

وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ اليَهُودُ،الذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الكَافِرِينَ مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ،يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ الذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ ( وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ )،وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنَ الهُدَى وَالبَيِّنَاتِ،لَمَا اتَّخَذُوا أُولَئِكَ الكَافِرِينَ مِنْ عَابِدِي الأَوْثَانِ،أَوْلِياءً وَأَنْصَاراً،وَلَكَانَتْ عَقِيدَتُهُمْ الدِّينِيَّةُ صَدَّتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ،وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مُتَمَرِّدُونَ فِي النِّفَاقِ،خَارِجُونَ عَنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ،وَلاَ يُرِيدُونَ إلاَّ الجَاهَ وَالرِّيَاسَةَ،وَيَسْعَوْنَ إلى تَحْصِيلِهِمَا بِأيَّةِ طَرِيقَةٍ كَانَتْ،وَبِأيَّةِ وَسِيلَةٍ قَدَرُوا عَلَيْها .[193]

وقال ابن كثير :"يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَعَنَ الْكَافِرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ،فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ نَبِيِّهِ،عَلَيْهِ السَّلَامُ،وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ،بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ لِلَّهِ وَاعْتِدَائِهِمْ عَلَى خَلْقِهِ.

قَالَ العَوْفِيّ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:لُعِنُوا فِي التَّوْرَاةِ وَ[فِي] الْإِنْجِيلِ وَفِي الزَّبُورِ،وَفِي الْفُرْقَانِ.

ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فِيمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِي زَمَانِهِمْ،فَقَالَ:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ:كَانَ لَا يَنْهَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا عَنِ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ،ثُمَّ ذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِيُحَذَرَ أَنْ يُرْكَبَ مِثْلُ الَّذِي ارْتَكَبُوا،فَقَالَ:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}

قَوْلُهُ:{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ مُجَاهِدٌ:يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ.وَقَوْلُهُ:{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يَعْنِي بِذَلِكَ مُوَالَاتِهِمْ لِلْكَافِرِينَ،وَتَرْكَهُمْ مُوَالَاةَ الْمُؤْمِنِينَ،الَّتِي أَعَقَبَتْهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ،وَأَسْخَطَتِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ سُخْطًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ مَعَادِهِمْ،وَلِهَذَا قَالَ:{أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}

فَسَّرَ بِذَلِكَ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ.ثُمَّ أَخِيرًا أَنَّهُمْ {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} أَيْ:لَوْ آمَنُوا حَقَّ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرُّسُلِ وَالْفَرْقَانِ لَمَا ارْتَكَبُوا مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ فِي الْبَاطِنِ،وَمُعَادَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ:خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.[194]

وقال السعدي :" قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي:طردوا وأبعدوا عن رحمة الله {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي:بشهادتهما وإقرارهما،بأن الحجة قد قامت عليهم،وعاندوها.{ذَلِكَ} الكفر واللعن {بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي:بعصيانهم لله،وظلمهم لعباد الله،صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله،فإن للذنوب والظلم عقوبات.

ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات،وأوقعت بهم العقوبات أنهم:{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} أي:كانوا يفعلون المنكر،ولا ينهى بعضهم بعضا،فيشترك بذلك المباشر،وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك.

وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله،وأن معصيته خفيفة عليهم،فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه،ولغضبوا لغضبه،وإنما كان السكوت عن المنكر -مع القدرة- موجبا للعقوبة،لما فيه من المفاسد العظيمة:

منها:أن مجرد السكوت،فعل معصية،وإن لم يباشرها الساكت.فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.

ومنها:ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي،وقلة الاكتراث بها.

ومنها:أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها،فيزداد الشر،وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية،ويكون لهم الشوكة والظهور،ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر،حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا.

ومنها:أن - في ترك الإنكار للمنكر- يندرس العلم،ويكثر الجهل،فإن المعصية- مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص،وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن أنها ليست بمعصية،وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة،وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرَّم الله حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟ "

ومنها:أن السكوت على معصية العاصين،ربما تزينت المعصية في صدور الناس،واقتدى بعضهم ببعض،فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه،ومنها ومنها.

فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة،نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم،وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.

{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالمحبة والموالاة والنصرة.

{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} هذه البضاعةَ الكاسدة،والصفقةَ الخاسرة،وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء،والخلود الدائم في العذاب العظيم،فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير الكريم،وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم.{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} فإن الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه،يوجب على العبد موالاة ربه،وموالاة أوليائه،ومعاداة من كفر به وعاداه،وأوضع في معاصيه،فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به،أن لا يتخذ أعداء الله أولياء،وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط،فدل على انتفاء المشروط.{وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي:خارجون عن طاعة الله والإيمان به وبالنبي.ومن فسقهم موالاةُ أعداء الله.[195]

والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة اللّه - كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها - وهم الذين نقضوا عهد اللّه معهم لينصرنّ كل رسول ويعزرونه ويتبعونه:«ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ..

فهي المعصية والاعتداء يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية  والسلوكية على السواء.وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء ..كما فصل اللّه في كتابه الكريم.

ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالا فردية في مجتمع بني إسرائيل.ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها وأن يسكت عنها المجتمع.ولا يقابلها بالتناهي والنكير:«كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ!» ..

إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين.فالأرض لا تخلو من الشر

والمجتمع لا يخلو من الشذوذ،ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفا مصطلحا عليه وأن يصبحا سهلا يجترئ عليه كل من يهم به ..وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات ويصبح الجزاء على الشر رادعا وجماعيا تقف الجماعة كلها دونه وتوقع العقوبة الرادعة عليه ..عندئذ ينزوي الشر،وتنحسر دوافعه.وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه.وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع،ولا يسمح لها بالسيطرة وعندئذ لا تشيع الفاحشة.

ولا تصبح هي الطابع العام! والمنهج الإسلامي - بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي - في صورة الكراهية والتنديد،يريد للجماعة المسلمة أن يكون لها كيان حي متجمع صلب يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية.قبل أن تصبح ظاهرة عامة ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلبا في الحق،وحساسا تجاه الاعتداء عليه ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها،فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء ..ولا يخافوا لومة لائم.سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم أو الأغنياء المتسلطين بالمال أو الأشرار المتسلطين بالأذي أو الجماهير المتسلطة بالهوى.فمنهج اللّه هو منهج اللّه،والخارجون عليه علوا أم سفلوا سواء.

والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه ويجعل الأمانة في عنق كل فرد،بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة.

روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي،نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ،فَلَمْ يَنْتَهُوا،فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ،قَالَ يَزِيدُ:أَحْسِبُهُ قَالَ:وَأَسْوَاقِهِمْ،وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ،فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ،وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ،وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ،ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ،وَكَانَ رَسُولُ اللهِ rمُتَّكِئًا،فَجَلَسَ،فَقَالَ:لاَ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا."[196]

وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهِ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ».ثُمَّ قَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إِلَى قَوْلِهِ (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ « كَلاَّ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَىِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا »[197].

فليس هو مجرد الأمر والنهي،ثم تنتهي المسألة،إنما هو الإصرار،والمقاطعة،والكف بالقوة عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء.

وروى مسلم عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِى بَكْرٍ - قَالَ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوَانُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ.فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ.فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -r- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ».[198].

وروى الإمام أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ،قَالَ:حَدَّثَنِي مَوْلًى لَنَا،أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ:إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ،حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ،وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلاَ يُنْكِرُوهُ،فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ،عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ."[199].

وعَنْ طَارِقٍ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ rفَقَالَ:أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ.[200]

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ rوَهُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الأُولَى فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:فَسَكَتَ عَنْهُ وَلَمْ يُجِبْهُ .ثُمَّ سَأَلَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ،فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ،فَلَمَّا رَمَى النَّبِيُّ rجَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَوَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ:أَيْنَ السَّائِلُ ؟ قَالَ:كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ."[201]

وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد فيها - وهو يرى المنكر يقع من غيره -:وأنا مالي؟! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع،بحيث لا يقول أحد - وهو يرى الفساد يسري ويشيع - وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى؟! وهذه الغيرة على حرمات اللّه،والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من اللّه ..هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به ..

وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح باللّه ومعرفة تكاليف هذا الإيمان.وإلى الإدراك الصحيح لمنهج اللّه ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة.وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة،والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله ..فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة اللّه ويقيم حياته كلها على منهجه هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث لا يصبح هذا عملا فرديا ضائعا في الخضم أو يجعله غير ممكن أصلا في كثير من الأحيان! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد وتعتبر الفسق والفجور والمعصية «مسائل شخصية»! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها ..كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفا مصلتا من الإرهاب يلجم الأفواه،ويعقد الألسنة،وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان ..

إن الجهد الأصيل،والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولا إلى إقامة المجتمع الخير ..والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج اللّه ..قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية،شخصية وفردية عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله وحين تطغى الجاهلية،وحين يقوم المجتمع على غير منهج اللّه وحين يتخذ له شريعة غير شريعة اللّه.فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس،وأن تنبت من الجذور وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان اللّه في الأرض ..وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئا يرتكن إلى أساس.

وهذا يحتاج إلى إيمان.وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة.فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله ; والثقة كلها بنصرته للخير - مهما طال الطريق - واحتساب الأجر عنده،فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض،ولا تقديرا من المجتمع الضال،ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان !

إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم .مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله،ويتحاكم إلى شريعته،مهما وجد فيه من طغيان الحكم،في بعض الأحيان،ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان ..وهكذا نجد في قول الرسول r:" أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر " ..فهو "إمام" ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله ; وبتحكيم شريعته .فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له:"إمام" إنما يقول عنه الله - سبحانه - (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ..

فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله،فالمنكر الأكبر فيها والأهم،فهو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات ..هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ..وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار،قبل الدخول في المنكرات الجزئية،التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر،وفرع عنه،وعرض له ..

إنه لا جدوى من ضياع الجهد ..جهد الخيرين الصالحين من الناس ..في مقاومة المنكرات الجزئية،الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول ..منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية،ورفض ألوهية الله،برفض شريعته للحياة ..لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال .

على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات ? بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم:إن هذا منكر فاجتنبوه ? أنت تقول:إن هذا منكر ; فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك:كلا ! ليس هذا منكرا .لقد كان منكرا في الزمان الخالي ! والدنيا "تتطور"،والمجتمع "يتقدم" وتختلف الاعتبار ات !

فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال،ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر .فمن أين نستمد هذه القيم ? ومن أين نأتي بهذا الميزان ?

من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم - وهي متقلبة لا تثبت على حال ? إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها،وإلى خضم لا معالم فيه !

فلا بد ابتداء من إقامة الميزان ..ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء

هذا الميزان الثابت هو ميزان الله ..

فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله ? ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله ? بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله ?

ألا يكون جهدا ضائعا،وعبثا هازلا،أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة،تختلف عليها الموازين والقيم،وتتعارض فيها الآراء والأهواء ?!

إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم،وعلى ميزان،وعلى سلطان،وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء ..

لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة .والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ..وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان ! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن،ولتحشد كلها في جبهة واحدة،لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان !

وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين،ينفقون جهدهم في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في الفروع ; بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ; ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،مقطوع !

فما غناء أن تنهي الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا ; فيستحيل ماله كله حراما ; ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال ..لأن نظامه الاجتماعي  والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله .لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ?!

وما غناء أن تنهي الناس عن الفسق مثلا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله ..لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ?!

وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر،ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام .وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله .لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله ?!

وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين ; في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ; ولا يعبد فيه الله .إنما هو يتخذ أربابا من دونه ; ينزلون له شريعته وقانونه ; ونظامه وأوضاعه،وقيمة وموازينه .والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله .إنما هما وأهل مجتمعهما طرا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين ; ويضعون لهم القيم والموازين ?!

ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال ? ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر - والكبيرة الكبرى لا نهي عنها ..كبيرة الكفر بالله ; برفض منهجه للحياة ?!

إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق،مما ينفق فيه هؤلاء "الطيبون" جهدهم وطاقتهم واهتمامهم ..إنه - في هذه المرحلة - ليس أمر تتبع الفرعيات - مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله .فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه .فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة ; تتمثل في اعتبار  شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع ; واعتبار  ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة ..فكل جهد في الفروع ضائع ; وكل محاولة في الفروع عبث ..والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات ..

عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوَانُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ.فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ.فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -r- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ »[202]...

وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم ; ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم ; فيبقى أضعف الإيمان ; وهو تغييره بقلوبهم ; وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه،إن هم كانوا حقا على الإسلام !

وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر - كما يلوح في بادىء الأمر - وتعبير الرسول rبأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته .فإنكار المنكر بالقلب،معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر ..إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له،ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به ..وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر،ولإقامة الوضع "المعروف" في أول فرصة تسنح،وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة ..وهذا كله عمل إيجابي في التغيير ..وهو على كل حال أضعف الإيمان .فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان ! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع،ولأن له ضغطا - قد يكون ساحقا - فهو الخروج من آخر حلقة،والتخلي حتى عن أضعف الإيمان !

, فهم يتولون الذين كفروا،ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة .وعلة ذلك - مع أنهم أهل كتاب - أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير ..فهم غير مؤمنين .ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين:( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة:80،81]) ..

وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود - على عهد رسول الله rينطبق على حالهم اليوم وغدا,وفي كل حين.كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم..مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن,وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن.

لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ; ويؤلبونهم على المسلمين،{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} (51) سورة النساء ..كما حكى عنهم القرآن الكريم .وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب،ومن قبلها ومن بعدها كذلك ; إلى اللحظة الحاضرة ..وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين !

فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب،فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين ! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك،كلما كانت المعركة مع المسلمين ! حتى و"المسلمون" لا يمثلون الإسلام في شيء .إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين ! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ; ومن ينتمون إليه،ولو كانوا في انتمائهم مدعين !

وصدق الله العظيم:{تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (80) سورة المائدة ...

فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم ..إنها سخط الله عليهم .وخلودهم في العذاب .فما أبأسها من حصيلة ! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم ; ويا لها من ثمرة مرة .ثمرة توليهم للكافرين !

فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم ? فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله:في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين ; وأعدائه الذين يتولون الكافرين !

وما الدافع ? ما دافع القوم لتولي الذين كفروا ? إنه عدم الإيمان بالله والنبي:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (81)..هذه هي العلة ..إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي ..إن كثرتهم فاسقة ..إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ; فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين ..

وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة:

الحقيقة الأولى:أن أهل الكتاب جميعا - إلا القلة التي آمنت بمحمد rغير مؤمنين بالله .لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير .ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده .بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك .{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء }  وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل .مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله ..وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .

والحقيقة الثانية:أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله،على لسان محمد rفإن استجابوا فقد أمنوا،وأصبحوا على دين الله .وإن تولوا فهم كما وصفهم الله.

والحقيقة الثالثة:أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين،في شأن من الشئون .لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين .

ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ; وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ; وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ; وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك .والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين ..وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين ..هذا هو الإسلام ..في وضوحه ونصاعته .وفي بره وسماحته ..

والله يقول الحق .وهو يهدي السبيل .[203]

----------

وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73} [الأنفال]

المُؤْمِنُونَ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ،وَبِذَلِكَ قَطَعَ اللهُ المُوَالاَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الكُفَّارِ،وَمَنَعَ بَيْنَهُمُ المِيرَاثَ ( لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلَ مِلَّتَيْنِ ) .

وَالذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فَهُمْ يَتَنَاصَرُونَ عَلَى البَاطِلِ،وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى عَدَاوَةِ المُسْلِمِينَ،فَلا تُوَالُوهُمْ يَا أَيُّها المُسْلِمُونَ وَإِذَا لَمْ تَجْتَنِبُوا المُشْرِكِينَ،وَتُوَالُوا المُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ النَّاسِ،وَالتِبَاسٌ لِلأَمْرِ عَلَى النَّاسِ،وَاخْتِلاَطِ المُؤْمِنِينَ بِالكَافِرِينَ ..[204]

وقال ابن كثير :"لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بعضُهم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ،قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ،عَنْ أُسَامَةَ،عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ:"لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ،وَلَا يَرِثُ مُسْلِمٌ كَافِرًا،وَلَا كَافِرٌ مُسْلِمًا"،ثُمَّ قَرَأَ:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}

وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ،مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى" وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وعَنِ الزُّهْرِيِّ:أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ r أَخَذَ عَلَى رَجُلٍ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ:"تُقِيمُ الصَّلَاةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَحُجُّ الْبَيْتَ،وَتَصُومُ رَمَضَانَ،وَأَنَّكَ لَا تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ إِلَّا وَأَنْتَ لَهُ حَرْبٌ"

وعَنْ سمرة بن جندب:أما بعد،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ"

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أَيْ:إِنْ لَمْ تُجَانِبُوا الْمُشْرِكِينَ وَتُوَالُوا الْمُؤْمِنِينَ،وَإِلَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ فِي النَّاسِ،وَهُوَ الْتِبَاسُ الْأَمْرِ،وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ،فَيَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ فَسَادٌ مُنْتَشِرٌ طَوِيلٌ عَرِيضٌ."[205]

وقال السعدي :" لما عقد الولاية بين المؤمنين،أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض فلا يواليهم إلا كافر مثلهم.وقوله:{إِلا تَفْعَلُوهُ} أي:موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين،بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم،أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين.{تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل،والمؤمن بالكافر،وعدم كثير من العبادات الكبار،كالجهاد والهجرة،وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض."[206]

إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا.إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي،تندفع أعضاؤه،بطبيعة وجوده وتكوينه،للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه.فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما ..ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص،ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى.فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض،فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده.ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى.وهو أفسد الفساد:«إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..

ولا يكون بعد هذا النذير نذير،ولا بعد هذا التحذير تحذير ..والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة،يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض،وتبعة هذا الفساد الكبير.[207]

إن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز «إنسانية الإنسان» وتقويتها وتمكينها،وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني.وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه ..

إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب «الجهالة العلمية! » مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ومرة بأنه مادة كسائر المواد! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه «الصفات» مع الحيوان ومع المادة له «خصائص» تميزه وتفرده وتجعل منه كائنا فريدا - كما اضطر أصحاب «الجهالة العلمية! »

أخيرا أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا،فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة! (1)

والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز «الإنسان» وتفرده بين الخلائق فيبرزها وينميها ويعليها ..وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي،التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة،إنما يمضي على خطته تلك.فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في «الإنسان» من «خصائص» ..

إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب،ولا اللغة،ولا الأرض،ولا الجنس،ولا اللون،ولا المصالح،ولا المصير الأرضي المشترك ..فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان.وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع،وإلى اهتمامات القطيع،وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده،ووجود هذا الكون من حوله تفسيرا كليا كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله،ومصيره ومصير الكون من حوله وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى،فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق،والذي ينفرد به عن سائر الخلائق والذي يقرر «إنسانيته» في أعلى مراتبها حيث يخلف وراءه سائر الخلائق.

ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية.فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضا،لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها ..إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ولا تغيير اللون الذي ولد به.فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد،لم يكن له فيها اختيار،ولا يملك فيها حيلة ..

كذلك مولده في أرض بعينها،ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد،وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ومجال «الإرادة الحرة» فيها محدود ..ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني ..فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج،فهي مفتوحة دائما للاختيار الإنساني،ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه،أو الأرض التي ولد فيها،أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره ...وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي ..

ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها،دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها،دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان ..كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات،بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة.على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.

لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي ...إلى آخر الأقوام والأجناس.وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية.ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية».ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية» ..

ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة،وبآصرة الحب،وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة ..فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم،وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد وتبرز فيها «إنسانيتهم» وحدها بلا عائق ..وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! ..

لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا.فقد ضمت بالفعل أجناسا متعددة ولغات متعددة،وأرضين متعددة ...ولكن هذا كله لم يقم على آصرة «إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة ..لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية،وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى ..ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.

كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى ..تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا ..ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية،واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية ..ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها:الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما،والإمبراطورية الفرنسية ..وكلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر،يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.

ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة.إنما أقامته على القاعدة «الطبقية» ..فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم ..هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني ..فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!!

لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني ..وما يزال مفردا ..والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر،يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة ..إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق ..وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه «البهائم» من الحظيرة والكلأ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه «الناس»! وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصبا وجمودا ورجعية،وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدما ورقيا ونهضة وأن تقلب القيم والاعتبار ات كلها لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة ..خصيصة الإنسان العليا ..

ولكن الله غالب على أمره ..وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء ..

وسيكون ما يريده الله حتما ..وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها.والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق.وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق،تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام ..[208]

 

____________

 

 

 

 


المبحث الثالث عشر

الشيطان لا سلطان له إلا على من يتولاه

 

قال تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 98)  إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ  ( 100)} النحل

" يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ r وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ ،عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ r بِأَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ،إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ القُرْآنِ .

وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى :أَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ سُلْطَةَ لَهُ وَلاَ سُلْطَانَ عَلَى المُؤْمِنِينَ المُتَوَّكِلِينَ عَلَى اللهِ ،وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ ذَنْبٍ لاَ يَتُوبُونَ مِنْهُ .

إِنَّمَا تَسَلُّطُهُ بِالغَوَايَةِ وَالضَّلاَلَةِ يَكُونُ عَلَى الذِينَ يَجْعَلُونَهُ نَصِيراً فَيُحِبُّونَهُ وَيُطِيعُونَهُ ،وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ ،وَالذِينَ هُمْ بِسَبَبِ إِغْوَائِهِ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ ." [209]

"هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ r:إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ،أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.وَهُوَ أمرُ ندبٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ،حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ.وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ،وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَالْمَعْنَى فِي الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ،لِئَلَّا يُلْبَسَ عَلَى الْقَارِئِ قِرَاءَتُهُ وَيُخْلَطَ عَلَيْهِ،وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ،وَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ التِّلَاوَةِ وَحُكِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ:أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ التِّلَاوَةِ،وَاحْتَجَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ.وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذِّبِ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا،وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ،وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي.وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ،لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقَدُّمِهَا عَلَى التِّلَاوَةِ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قَالَ الثَّوْرِيُّ:لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي ذَنْبٍ لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ.

وَقَالَ آخَرُونَ:مَعْنَاهُ لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ.وَقَالَ آخَرُونَ:كَقَوْلِهِ:{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ:يُطِيعُونَهُ.

وَقَالَ آخرون:اتخذوه وليًا من دون الله.{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أَيْ:أَشْرَكُوا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى.وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً،أَيْ:صَارُوا بِسَبَبِ طَاعَتِهِمْ لِلشَّيْطَانِ مُشْرِكِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ آخَرُونَ:مَعْنَاهُ:أَنَّهُ شَرِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ." [210]

وقال السعدي :"أي:فإذا أردت القراءة لكتاب الله الذي هو أشرف الكتب وأجلها وفيه صلاح القلوب والعلوم الكثيرة فإن الشيطان أحرص ما يكون على العبد عند شروعه في الأمور الفاضلة،فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها.

فالطريق إلى السلامة من شره الالتجاء إلى الله،والاستعاذة به من شره،فيقول القارئ:" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " متدبرا لمعناها،معتمدا بقلبه على الله في صرفه عنه،مجتهدا في دفع وساوسه وأفكاره الرديئة مجتهدا،على السبب الأقوى في دفعه،وهو التحلي بحلية الإيمان والتوكل.

فإن الشيطان {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} أي:تسلط {عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ} وحده لا شريك له {يَتَوَكَّلُونَ} فيدفع الله عن المؤمنين المتوكلين عليه شر الشيطان ولا يبق له عليهم سبيل.{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} أي:تسلطه {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أي:يجعلونه لهم وليا،وذلك بتخليهم عن ولاية الله،ودخولهم في طاعة الشيطان،وانضمامهم لحزبه،فهم الذين جعلوا له ولاية على أنفسهم،فأزَّهم إلى المعاصي أزًّا وقادهم إلى النار قَوْدًا."[211]

والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله،وتطهير له من الوسوسة واتجاه بالمشاعر إلى الله خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس والشر الذي يمثله الشيطان.

فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ..«إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» فالذين يتوجهون إلى الله وحده،ويخلصون قلوبهم لله،لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم،مهما وسوس لهم فإن صلتهم بالله تعصمهم أن ينساقوا معه،وينقادا إليه.وقد يخطئون،لكنهم لا يستسلمون،فيطردون الشيطان عنهم ويثوبون إلى ربهم من قريب ..«إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ» أولئك الذين يجعلونه وليهم ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم،ومنهم من يشرك به.فقد عرفت عبادة الشيطان وعبادة إله الشر عند بعض الأقوام.على أن اتباعهم للشيطان نوع من الشرك بالولاء والاتباع.[212]

---------------

وقال تعالى:{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } [آل عمران]

يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ،وَلَكِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ تُرْزَقُ عِنْدَ اللهِ .وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ:عَلَيهِمْ ألاَّ يَنْخَدِعُوا بِمَا يَقُولُهُ المُنَافِقُونَ،وَمَا يَفْعَلُونَهُ،فَهُمْ يُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنيا عَلَى الآخِرَةِ،لارْتِيَابِهِمْ فِي البَعْثِ وَالحِسَابِ فِي الآخِرَةِ،فَالشُّهَدَاءُ أحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ رِزْقاً حَسَناً يَعْلَمُهُ هُوَ .

وَيَكُونُ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَرِحِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ،التِي مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَيهِمْ،مُسْتَبْشِرِينَ بِإِخْوانِهِمْ الذِينَ يُقْتَلُونَ بَعْدَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ،أَنَّهُمْ يَقْدَمُونَ عَلَيْهِمْ حِينَمَا يَسْتَشْهِدُونَ،لاَ يَخَافُونَ مِمَّا أَمَامَهُمْ،وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ فِي الدُّنيا .

وَهُمْ مُسْتَبْشِرُونَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ مَا يُفِيضُهُ اللهُ عَلَيهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ وَالفَضْلِ وَالثَّوَابِ،وَمِنْ يَقِينِهِمْ بِأنَّ اللهَ لاَ يُضَيِّعُ أجْرَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ .

بَعْدَ أنِ انْصَرَفَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ يَوْمَ أحُدٍ مُتَّجِهَةً إلَى مَكَّةَ،نَدِمَتْ عَلَى الانْصِرَافِ قَبْلَ اسْتِئْصَالِ شَأفَةِ المُسْلِمِينَ،وَالقَضَاءِ عَلَيْهِمْ،فَفَكَّرُوا فِي العَوْدَةِ إلى المَدِينَةِ .

وَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ r بِذَلِكَ،فَنَدَبَ المُسْلِمِينَ لِلْخُرُوجِ وَرَاءَ المُشْرِكِينَ لِيَثْنِيَهُمْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي العَوْدَةِ،وَأمَرَ بِألاَّ يَخْرُجَ مَعَهُ إلاَّ مَنْ شَهِدَ أحُداً،فَتَسَارَعَ النَّاسُ إلَى الخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيهِ مِنْ جِرَاحٍ .وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مَنْ أحْسَنَ مِنْ هَؤُلاءِ المُسْتَجِيبِينَ لِلْرَسُولِ r وَاتَّقَى أجْراً عَظِيماً .

وَخَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله r أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ،وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ،فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ،لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ،وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ:إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ،وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ،فَاحْذَرُوهُمْ،وَاخْشَوْهُمْ،فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ r مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ،رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ،وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ،وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ:إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ،وَهُوَ حَسْبُهُمْ.فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ،وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ )،فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ،وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ،وَعَظِيمِ فَضْلِهِ،وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ

يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ،أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ،وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ،وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ،فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ،وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ،وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً،فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ،وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ.وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ،وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ .[213]

لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين.ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنون - بقيام هذا الأمر الجديد،وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة.

ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -:«الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ:إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا:حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ..

هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة.وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة ..

وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع ..إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب،وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة ..ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان،وأن يبطلوا محاولته.فلا يخافوا أولياءه هؤلاء،ولا يخشوهم.بل يخافوا الله وحده.فهو وحده القوي القاهر القادر،الذي ينبغي أن يخاف:«إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».

وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف،فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة.نضجت.وتناسقت.واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها.وانجلى الغبش عن تصورها.وأخذت الأمر جدا كله.وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة،التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف.فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس ..والفارق هائل والمسافة بعيدة ..لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا.أطار الغبش،وأيقظ القلوب،وثبت الأقدام،وملأ النفوس بالعزم والتصميم ..نعم.وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير ..

إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه،ويلبسهم لباس القوة والقدرة،ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول،وأنهم يملكون النفع والضر ..ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه،وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد،وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب،فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم،ودفعهم عن الشر والفساد.

والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل،وأن يتضخم الشر،وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا،لا تقف في وجهه معارضة،ولا يصمد له مدافع،ولا يغلبه من المعارضين غالب ..الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا.فتحت ستار الخوف والرهبة،وفي ظل الإرهاب والبطش،يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكرا،والمنكر معروفا،وينشرون الفساد والباطل والضلال،ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل،ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير ..دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم،ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة.بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له،وجلاء الحق الذي يطمسونه ..

والشيطان ماكر خادع غادر،يختفي وراء أوليائه،وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته ..ومن هنا يكشفه الله،ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره.ويعرف المؤمنين الحقيقة:

حقيقة مكره ووسوسته،ليكونوا منها على حذر.فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم.فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه،ويستند إلى قوته ..إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر.هي قوة الله.وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله،وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء.فلا تقف لهم قوة في الأرض ..لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:«فَلا تَخافُوهُمْ.وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..[214]

------------

وقال تعالى:{ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف:27]

يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجَمَاعَتِهِ ( قَبِيلِهِ )،وَيُذَكِّرُهُمْ بِعَدَاوَتِهِ القَدِيمَةِ لآدَمَ وَزَوْجِهِ،حِينَمَا سَعَى فِي إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الجَنَّةِ،دَارِ السَّعَادَةِ وَالهَنَاءِ،إلَى الأَرْضِ دَارِ الشَّقَاءِ،وَتَسَبَّبَ فِي هَتْكِ سِتْرِهِمَا،وَكَشْفِ عَوْرَاتِهِمَا،بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُمَا،وَلِذَلِكَ فَإنَّ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يُمَكِّنُوا إِبْلِيسَ مِنْ خِدَاعِهِمْ،وَإِيقَاعِهِمْ فِي المَعَاصِي بِوَسْوَسَتِهِ،فَإِبْلِيسُ يَرَى البَشَرَ فِي حِينِ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَهُ هُمْ.وَالشَّيَاطِينُ هُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَخِلاَّءُ وَأَصْحَابٌ لِلْكُفَّارِ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ مِنَ الإِنْسِ،لاسْتِعْدَادِهِمْ لِتَقَبُّلِ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ.أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.[215]

وقال الطبري:" يَا بَنِي آدَمَ لَا يَخْدَعَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فَيُبْدِي سَوْآتِكُمْ لِلنَّاسِ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّاهُ عِنْدَ اخْتِبَارِهِ لَكُمْ،كَمَا فَعَلَ بِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ اخْتِبَارِهِ إِيَّاهُمَا فَأَطَاعَاهُ وَعَصَيَا رَبَّهُمَا،فَأَخْرَجَهُمَا بِمَا سَبَّبَ لَهُمَا مِنْ مَكْرِهِ وَخَدْعِهِ مِنَ الْجَنَّةِ،وَنَزَعَ عَنْهُمَا مَا كَانَ أَلْبَسَهُمَا مِنَ اللِّبَاسِ لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا بِكَشْفِ عَوْرَتِهِمَا وَإِظْهَارِهَا لِأَعْيُنِهِمَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً.

إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَذَّرَ عِبَادَهُ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْهِمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ،وَأَنْ يُجَرِّدَهُمْ مِنْ لِبَاسِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ،كَمَا نَزَعَ عَنْ أَبَوَيْهِمْ لِبَاسَهُمَا.وَاللِّبَاسُ الْمُطْلَقُ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى شَيْءٍ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ،هُوَ مَا اخْتَارَ فِيهِ اللَّابِسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكِسَاءِ،أَوْ غَطَّى بَدَنَهُ أَوْ بَعْضَهُ.وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ،فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ:إِنَّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ لِبَاسِهِمَا الَّذِي نَزَعَهُ عَنْهُمَا الشَّيْطَانُ هُوَ بَعْضُ مَا كَانَا يُوَارِيَانِ بِهِ أَبْدَانَهُمَا وَعَوْرَتَهُمَا،وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ ظُفُرًا،وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُورًا،وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذَلِكَ،وَلَا خَبَرَ عِنْدَنَا بِأَيِّ ذَلِكَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ،فَلَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ أَصَوْبُ مِنْ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف:27] ،وَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى إِبْلِيسَ إِخْرَاجَ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الْجَنَّةِ،وَنَزْعَ مَا كَانَ عَلَيْهِمَا مِنَ اللِّبَاسِ عَنْهُمَا،وَإِنْ كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ الْفَاعِلَ ذَلِكَ بِهِمَا عُقُوبَةً عَلَى مَعْصِيَتِهِمَا إِيَّاهُ،إِذْ كَانَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ عَنْ تَشْبِيهِ ذَلِكَ لَهُمَا بِمَكْرِهِ وَخِدَاعِهِ،فَأُضِيفَ إِلَيْهِ أَحْيَانًا بِذَلِكَ الْمَعْنَى،وَإِلَى اللَّهِ أَحْيَانًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهِمَا..

إِنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاكُمْ هُوَ.وَالْهَاءُ فِي ( {إِنَّهُ} [البقرة:37] ) عَائِدَةٌ عَلَى الشَّيْطَانِ.وَقَبِيلُهُ:يَعْنِي وَصِنْفُهُ وَجِنْسُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُ،وَاحِدٌ جَمْعُهُ (قُبُلُ) وَهُمُ الْجِنُّ"[216]

هذا التحذير لبني آدم عامة وللمشركين الذين يواجههم الإسلام في الطليعة.أن يستسلموا للشيطان،فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد فيسلمهم إلى الفتنة - كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما - فالعري والتكشف الذي يزاولونه - والذي هو طابع كل جاهلية قديما وحديثا - هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية،وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه.فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم وأن ينتصر في هذه المعركة،وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف! «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما».

وزيادة في التحذير،واستثارة للحذر،ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم.

وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط،وإلى مضاعفة اليقظة،وإلى دوام الحذر،كي لا يأخذهم على غرة:«إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» ..ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوقي ..إن الله قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ..ويا ويل من كان عدوه وليه! إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء،بلا عون ولا نصير،ولا ولاية من الله:«إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..وإنها لحقيقة ..أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون كما أن الله هو ولي المؤمنين ..وهي حقيقة رهيبة،ولها نتائجها الخطيرة ..وهي تذكر هكذا مطلقة ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة فنرى كيف تكون ولاية الشيطان وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم "[217]

------------

وقال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } [النحل]

يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ بِأَنَّهُ يَحْلُمُ عَلَى العُصَاةِ مِنَ البَشَرِ،مَعْ ظُلْمِهِمْ،وَأَنَّهُ لاَ يُعْجِّلُ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ،وَبِمَا كَسَبُوا،وَلُوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لأَهْلَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ،وَلَمْ يَتْرُكْ عَلَى ظَهْرِهَا مَخْلُوقاً يَدِبُّ عَلَيْهَا.وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْلُمُ عَلَى العُصَاةِ،وَيَسْتُرُ عَلَيْهِمْ عُيُوبَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ،وَلاَ يُعَاجِلُهُمْ بِالعُقُوبَةِ،وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى اليَوْمِ المُحَدَّدِ لَهُمْ،فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ لاَ يُمْهَلُونَ لَحْظَةً وَاحِدَةً .

وَيَجْعَلُونَ للهِ بَنَاتٍ وَشُرَكَاءَ مِنْ عِبَادِهِ،وَهُمْ يَأْنَفُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لأَحَدِهِمْ بِنْتٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ،وَيَقُولُون،كَذِباً عَلَى أَنْفُسِهِمْ:إِنَّ لَهُمُ العَاقِبَةُ الحُسْنَى عِنْدَ اللهِ،إِذا بُعِثُوا يَوْمَ القِيَامَةِ،فَجَمَعُوا عَمَلَ السُّوءِ ( الكُفْرَ وَنِسْبَةَ البَنَاتِ وَالشُّرَكَاءِ للهِ )،مَعَ تَمَنِّيهِم البَاطِلَ المُحَالَ،بِأَنْ يُجَازِيهِمْ اللهُ عَلَى ذَلِكَ جَزَاءً حَسَناً،وَهَذا مُسْتَحِيلٌ

وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً:لاَ شَكَّ ( لاَ جَرَمَ ) أَنَّ لَهُمْ،عِنْدَ اللهِ،يَوْمَ القِيَامَةِ،النَّارَ،وَأَنَّهُ سَيَجْعَلُ بِهِمْ إِلَيْهَا،وَيُنْسَونَ فِيهَا فَيَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً .

يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الأُمَمِ الخَالِيَّةِ رُسُلاً يَدْعُونَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ r مُعَزِيّاً وَمُسَلِيّاً:لَقَدْ كَذَبَّتْ الأُمَمُ رُسُلَهَا فَلَكَ يَا مُحَمَّدُ بِالمُرْسَلِينَ قَبْلِكَ أُسْوَةٌ،فَلاَ يُهِمَّنَّكَ تَكْذِيبُ قَوْمِكَ لَكَ.وَالذِينَ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْطَانُ الذِي زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ،وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ وَضَلاَلٍ،وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ.وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُجَازِي اللهُ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ جَزَاءً عَادِلاً عَلَى مَا كَذَّبُوا وَكَفَرُوا،وَيُلْقَوْنَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ،وَلاَ يَمْلِكُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ خَلاَصاً،وَلاَ نَصْراً فَيَذُوقُونَ العَذَابَ الأَلِيمَ .[218]

------------

وقال تعالى:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} [مريم:41 - 45]

وَاتْلُ عَلَى قَوْمِكَ،الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ،خَبَرَ أَبْيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ،وَقَدْ كَانَ نَبِيّاً مُرْسَلاً مُصَدِّقاً بِكَلِمَاتِ رَبِّهِ حِينَمَا قَالَ لأَبِيهِ وَهُوَ يَنْهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ،وَيَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى:يَا أَبَتِ لِمَاذَا تَعْبُدُ حِجَارَةً أَصْنَاماً،لاَ تَسْمَعُ وَلاَ تُبْصِرُ،وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ .

يَا أَبَتِ إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَكَ،وَإِنْ كُنْتُ أَصْغَرُ مِنْكَ سِنّاً،إِلاَّ أَنَّنِي قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى شَيءٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ،لَمْ تَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَمْ تَعْلَمْهُ،فَاتَّبِعْنِي فِيمَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ أَوْصِلْكَ إِلَى طَرِيقِ اللهِ المُسْتَقِيمِ،الَّذِي يُوصِلُكَ إِلَى الجَنَّةِ،وَإِلَى النَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ .

يَا أَبَتِ لاَ تُطِعِ الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الأَصْنَامَ،فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى عِبَادَتِهَا،وَقَدْ عَصَى الشَّيْطَانُ اللهَ رَبَّهُ،وَقَدْ خَلَقَهُ وَخَلَقَ لَكَ شّيءٍ،وَاسْتَكْبَرَ عَنْ إِطَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِ فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ،فَلاَ تَتْبَعْهُ يَا أَبَتِ لأَنَّهُ يُوصِلُ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى الهَلاَكِ وَإِلَى نَارِ جَهَنَّمَ .

وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي شِرْكِكَ وَفِي تَعَنُّتِكَ،وَاسْتِكْبَارِكَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ،فَتَكُونَ قَرِيناً وَتَابِعاً لِلشَّيْطَانِ فِي النَّارِ .[219]

بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه،يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه،وعلمه إياه وهو يتحبب إليه فيخاطبه:«يا أَبَتِ» ويسأله:«لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ »

والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى.وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى.فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان،بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان،لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا.إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام.

هذه هي اللمسة الأولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لأبيه.ثم يتبعها بأنه لا يقول هذا من نفسه،إنما هو العلم الذي جاءه من الله فهداه.ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة،ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف الحق فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم،ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه:«يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا» ..فليست هناك غضاضة في أن يتبع الوالد ولده،إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى.فإنما يتبع ذلك المصدر،ويسير في الطريق إلى الهدى.

وبعد هذا الكشف عما في عبادة الأصنام من نكارة،وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه في دعوة أبيه ..يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان،وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن،فهو يخشى أن يغضب الله عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان.

«يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ.إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا.يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا».والشيطان هو الذي يغري بعبادة الأصنام من دون الله،فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص للرحمن.وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب الله عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان وتابعا.فهداية الله لعبده إلى الطاعة نعمة وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة ..نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح يوم يقوم الحساب.[220]

 

_____________

 

 


المبحث الرابع عشر

حكم ولاية من لم يهاجر وبقي في بلاد الكفر والحرب

 

قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (72) سورة الأنفال

إِنَّ المُهَاجِرِينَ الذِينَ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ ،وَجَاهَدُوا مَعَ الرَّسُولِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ،وَالأَنْصَارِ الذِينَ آوَوُا الرَّسُولَ وَنَصَرُوهُ ،هَؤُلاَءِ جَمِيعاً بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ،وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِالآخَرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ .لِذَلِكَ آخَى الرَّسُولُ r بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ،كُلَّ اثْنَيْنِ أَخَوَانِ فِي اللهِ ،فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إِرْثاً مُقَدَّماً عَلَى القَرَابَةِ ،حَتَّى نَسَخَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِآيَةِ المَوَارِيثِ .

أمَّا الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ،بَلْ أَقَامُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ فَهَؤُلاَءِ لاَ يَثْبُتُ لَهُمْ شَيءٌ مِنْ وَلاَيَةِ المُسْلِمِينَ وَنُصْرَتِهِمْ ،إِذْ لاَ سَبِيلَ إِلَى وَلاَيَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا ،وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ المَغَانِمِ نَصِيبٌ وَلاَ فِي خُمْسِهَا إِلاَّ مَا حَضَرُوا فِيهِ القِتَالَ .وَإِذَا اسْتَنْصَرَ هَؤُلاَءِ ،الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ،إِخْوَانَهُمُ المِسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ دِيني عَلَى عَدُوٍ لَهُمْ ،فَعَلَيْهِمْ نَصْرَهُمْ ،لأَنَّهُمْ إِخْوَانٌ فِي الدِّينِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الاسْتِنْصَارُ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ مِيثَاقٌ وَمُهَادَنَةٌ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ،فَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ الاَّ يَخْفِرُوا ذِمَّتَهُمْ وَلاَ أَنْ يَنْقُضُوا أَيْمَانَهُم مَعَ الذِينَ عَاهَدُوهُمْ .[221]

وقال الطبري:" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.{وَهَاجَرُوا} [الأنفال:72] يَعْنِي:هَجَرُوا قَوْمَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ وَدُورَهُمْ،يَعْنِي:تَرَكُوهُمْ وَخَرَجُوا عَنْهُمْ،وَهَجَرَهُمْ قَوْمُهُمْ وَعَشِيرَتُهُمْ.{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:218] يَقُولُ:بَالَغُوا فِي إِتْعَابِ نُفُوسِهِمْ وَإِنْصَابِهَا فِي حَرْبِ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،يَقُولُ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ طَرِيقًا إِلَى رَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ.{وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] يَقُولُ:وَالَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَهُ،يَعْنِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ مَأْوًى يَأْوُونَ إِلَيْهِ،وَهُوَ الْمَثْوَى وَالْمَسْكَنُ،يَقُولُ:أَسْكَنُوهُمْ وَجَعَلُوا لَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مَسَاكِنَ،إِذْ أُخْرَجَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ {وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] يَقُولُ:وَنَصَرُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.{أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] يَقُولُ:هَاتَانِ الْفِرْقَتَانِ،يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ،بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ،وَأَعْوَانٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،وَأَيْدِيهِمْ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ،وَبَعْضُهُمْ إِخْوَانٌ لِبَعْضٍ دُونَ أَقْرِبَائِهِمُ الْكُفَّارِ.وَقَدْ قِيلَ:إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ،وَأَنَّ اللَّهَ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَالْأَرْحَامِ،وَأَنَّ اللَّهَ نَسْخَ ذَلِكَ بَعْدَ بِقَوْلِهِ:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6]"[222]

ذَكَرَ تَعَالَى أَصْنَافَ الْمُؤْمِنِينَ،وَقَسَمَهُمْ إِلَى مُهَاجِرِينَ،خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،وجاؤوا لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،وَإِقَامَةِ دِينِهِ،وَبَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ.وَإِلَى أَنْصَارٍ،وَهُمُ:الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذْ ذَاكَ،آوَوْا إِخْوَانَهُمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ،وَوَاسَوْهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ،وَنَصَرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ،فَهَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ أَيْ:كُلٌّ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِالْآخَرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ،وَلِهَذَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ r بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،كُلُّ اثْنَيْنِ أخَوَان،فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إِرْثًا مُقَدَّمًا عَلَى الْقَرَابَةِ،حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْمَوَارِيثِ،ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ"[223]

وَرَوَاهُ العَوْفي،وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،عَنْهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ،وَعِكْرِمَةُ،وَالْحَسَنُ،وقَتَادَةُ،وَغَيْرُهُمْ.

وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «الْمُهَاجِرُونَ،وَالْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،وَالطُّلَقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ،وَالْعُتَقَاءُ مِنْ ثَقِيفٍ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[224]

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ،وَالطُّلَقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ،وَالْعُتَقَاءُ مِنْ ثَقِيفٍ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[225]

وَقَوْلُهُ:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ} [قَرَأَ حَمْزَةُ:"وِلَايَتِهِمْ" بِالْكَسْرِ،وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ،وَهُمَا وَاحِدٌ كالدِّلالة والدَّلالة]{مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} هَذَا هُوَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا،بَلْ أَقَامُوا فِي بَوَاديهم،فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَغَانِمِ نَصِيبٌ،وَلَا فِي خُمسها إِلَّا مَا حَضَرُوا فِيهِ الْقِتَالَ،عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ r إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ،أَوْ سَرِيَّةٍ،أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ،وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا،ثُمَّ قَالَ:«اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ،قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ،اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا،وَلَا تَغْدِرُوا،وَلَا تَمْثُلُوا،وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا،وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلَالٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ،وَكُفَّ عَنْهُمْ،ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،فَإِنْ أَجَابُوكَ،فَاقْبَلْ مِنْهُمْ،وَكُفَّ عَنْهُمْ،ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ،وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ،وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ،فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا،فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ،يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ،فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ،فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ،وَكُفَّ عَنْهُمْ،فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ،وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ،وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ،فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ،وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ،وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ،فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ،وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ،فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ،وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ،فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا»[226]

وَقَوْلُهُ:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يَقُولُ تَعَالَى:وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ،الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فِي قِتَالٍ دِينِيٍّ،عَلَى عَدُوٍّ لَهُمْ فَانْصُرُوهُمْ،فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ نَصْرُهُمْ،لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ،إِلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أَيْ:مُهَادَنَةٌ إِلَى مُدَّةٍ،فَلَا تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ،وَلَا تَنْقُضُوا أَيْمَانَكُمْ مَعَ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ.وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.[227]

هذا عقد موالاة ومحبة،عقدها الله بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله،وتركوا أوطانهم لله لأجل الجهاد في سبيل الله،وبين الأنصار الذين آووا رسول الله r وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم،فهؤلاء بعضهم أولياء بعض،لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم في وقت شدة الحاجة إلى الرجال،فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولاية المؤمنين شيء.لكنهم {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي:لأجل قتال من قاتلهم لأجل دينهم {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} والقتال معهم،وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم.

وقوله تعالى:{إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي:عهد بترك القتال،فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم،فلا تعينوهم عليهم،لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعلم ما أنتم عليه من الأحوال،فيشرع لكم من الأحكام ما يليق بكم.[228]

والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر،كانت ولاية توارث وتكافل في الديات وولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة ..حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة،ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم،داخل المجتمع المسلم ..

فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطا لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا،استمساكا بمصالح أو قرابات مع المشركين،فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية،كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات،وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة ..وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد،لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية! ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبار ات الأساسية في تركيبه العضوي،وقيمه الأساسية.ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ومنهجه الحركي والتزاماته.[229]

لقد انخلع كل من قال:أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في مكة من الولاء لأسرته،والولاء لعشيرته،والولاء لقبيلته،والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول الله - r - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته.في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.

عندئذ آخى رسول الله - r - بين أعضاء هذا التجمع الوليد ..أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفرادا،إلى «مجتمع» متكافل،تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية،ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.

ثم لما فتح الله للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق،والسمع والطاعة في المنشط والمكره،وحماية رسول الله - r - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول الله - r - عاد رسول الله فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها.بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة ..وكان حكم الله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..

أولياء في النصرة،وأولياء في الإرث،وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.

ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا ..لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك دارا يقيم فيها شريعة الله ويحقق فيها وجوده الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبيا،بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي،مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.

وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة،أو في الأعراب حول المدينة.يعتنقون العقيدة،ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه ..

وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع،لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي.وفي هؤلاء نزل هذا الحكم:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا.وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ،إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..

وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي.فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية ..ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلا عن عقيدتهم.فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا،كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها.على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر.ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود.فهذه لها الرعاية أولا،حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا،ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي ....وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي ..

والتعقيب على هذا الحكم:«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..

فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه،ومقدماته ونتائجه،وبواعثه وآثاره.

وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد،فكذلك المجتمع الجاهلي:«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..

إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا.إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي،تندفع أعضاؤه،بطبيعة وجوده وتكوينه،للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه.فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما ..ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص،ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى.فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض،فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده.ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى.وهو أفسد الفساد:«إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..

ولا يكون بعد هذا النذير نذير،ولا بعد هذا التحذير تحذير ..والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة،يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض،وتبعة هذا الفساد الكبير.[230]

 

____________

 

 


المبحث الخامس عشر

تحريم موالاة المنافقين

 

قال تعالى:{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} [النساء:88 - 90]

فَمَا لَكُمْ أَصْبَحْتُمْ فِئَتَينِ فِي المُنَافِقِينَ،وَاخْتَلَفْتُمْ فِي كُفْرِهِمْ،مَعَ تَظَاهُرِ الأَدِلَّةِ عَلَيهِ،فَلَيْسَ لَكُمْ أنْ تَخْتَلِفُوا فِي شَأنِهِمْ،وَكَيْفَ تَفْتَرِقُونَ فِي شَأنِهِمْ وَقَدْ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنِ الحَقِّ الذِي أَنْتُمْ عَلَيهِ،بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ،وَاجْتَرَحُوا مِنَ المَعَاصِي،وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ،وَجَعَلَهُمْ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ نَاكِسي الرُّؤُوس،بِسَبَبِ إيغَالِهِمْ فِي الضَّلالِ،وَبُعْدِهُمْ عَنِ الحَقِّ؟ وَأَنْتُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَيْسَ بِاسْتِطَاعَتِكُمْ أنْ تُبَدِّلُوا سُنَنَ اللهِ،لأنَّ مَنْ قَضَتْ سُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أنْ يَكُونَ ضَالاً عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ،فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِسُلُوكِهَا إلى الحَقِّ .

وَسَبيلُ الفِطْرَةِ أنْ يَعرضَ الإِنْسَانُ جَميعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سُنَنِ العَقْلِ،وَيَتْبَعَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الحَقِّ الذِي فِيهِ مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنيا.وَأكْثَرُ مَا يَصُدُّ الإِنْسَانَ عَنْ سَبيلِ الفِطْرَةِ هُوَ التَّقْلِيدُ وَالغُرُورُ وَظَنُّ الإِنَْسانِ أنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا هُوَ أكْمَلُ مِمَّا هُوَ فِيهِ،وَبِهَذَا يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَريقَ العَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ،وَالحَقِّ وَالبَاطِلِ .

وَهَؤُلاءِ لاَ يَقْنَعُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالغِوَايةِ،بَلْ يَطْمَعُونَ فِي أنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ،وَهُمْ يَوَدُّونَ لَكُمُ الضَّلاَلَةَ لِتَسْتَوُوا أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ فِيهَا،وَمَا ذَلِكَ إلاَّ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَبُغْضِهِمْ لَكُمْ،فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ وَنُصَرَاءَ وَأَصَدِقاءَ،حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيُهَاجِرُوا إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ،لِيُثْبِتُوا صِدْقَ إِيمَانِهِمْ،فَإِنْ رَفَضُوا الهِجْرَةَ ( تَولَّوا ) وَلَزِمُوا مَوَاضِعَهُمْ،وَأَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلاَ تُوَالُوهُمْ،وَلاَ تَسْتَنْصِرُوا بِهِمْ عَلَى عَدُوّ لَكُمْ مَا دَامُوا كَذَلِكَ .

اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ الذِينَ أَوْجَبَ قَتْلَهُمْ،حَيْثُ وَجَدَهُمُ المُسْلِمُونَ،الذِينَ لَجَؤُوا وَانْحَازُوا إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقُ مُهَادَنَةٍ،أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ يَمْنَعُ قَتْلَ المُنْتَمِينَ لأحَدِ الفَرِيقَيْنِ،فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ هَؤُلاءِ.وَاستَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ القَتْلِ فِئَةً أُخْرَى مِنَ النَّاسِ جَاءَتْ إلى مَيْدَانِ الحَرْبِ وَصُدُورُهُمْ ضَيِّقَةٌ،وَهُمْ كَارِهُونَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ،وَلاَ يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضاً أَنْ يُقَاتِلوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ،بَلْ هُمْ لاَ لَكُمْ وَلاَ عَلَيْكُمْ،وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ،فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ،وَأَرَادُوا مُسَالَمَتَكُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ،مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ .

وَقَالَ الرَّازِي:إنَّ النَّبِيَّ r وَادَعَ وَقْتَ خُرُوجِهِ إلى مَكَّةَ هِلاَلَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الأَسْلَمِيِّ عَلَى ألاَّ يُعِينَهُ وَلاَ يُعِينَ عَلَيهِ،وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلى هِلالٍ وَلَجأ إليهِ فَلَهُ مِنَ الجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلالٍ .

وَهَؤُلاَءِ كَالجَمَاعَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ قُرَيشٍ فَحَضَرُوا القِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ،لِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ قَتْلِ العِبَّاسِ،وَأَمَرَ بِأسْرِهِ .[231]

المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات:المنافقون المظهرون إسلامهم،ولم يهاجروا مع كفرهم،وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه،فبعضهم تحرج عن قتالهم،وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان،وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم.فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا،بل أمرهم واضح غير مشكل،إنهم منافقون قد تكرر كفرهم،وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم.فإذا تحققتم ذلك منهم {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة.

ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده،وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين،كما كان النبي r يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه،وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان.

وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي:في أي وقت وأي محل كان،وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم،كما هو قول جمهور العلماء،والمنازعون يقولون:هذه نصوص مطلقة،محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.

ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق:

فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك،إحداهما :من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم،فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال.

والفرقة الثانية:قوم {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} أي:بقوا،لا تسمح أنفسهم بقتالكم،ولا بقتال قومهم،وأحبوا ترك قتال الفريقين،فهؤلاء أيضا أمر بتركهم،وذكر الحكمة في ذلك في قوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام:

إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم،وهذا متعذر من هؤلاء،فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين،وهو أهون الأمرين عليكم،والله قادر على تسليطهم عليكم،فاقبلوا العافية،واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك.

{فَـ} هؤلاء {إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} .

الفرقة الثالثة:قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم،وهم الذين قال الله فيهم:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} أي:من هؤلاء المنافقين.{يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ} أي:خوفا منكم {وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} أي:لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم،وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم،وازداد كفرهم ونفاقهم،وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية،وفي الحقيقة مخالفة لها.

فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم،وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما،بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين،فإنهم مستعدون (4) لانتهازها،فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم،فإنهم يقاتلون،ولهذا قال:{فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي:المسالمة والموادعة {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي:حجة بينة واضحة،لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة،فلا يلوموا إلا أنفسهم.[232]

وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات،أهمها روايات[233]:

عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ،قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الأَنْصَارِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدٍ يَعْنِي ابْنَ ثَابِتٍ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ rلَمَّا خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ،وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ rفِيهِمْ فِرْقَتَانِ،فِرْقَةٌ تَقُولُ:نَقْتُلُهُمْ،وَفِرْقَةٌ تَقُولُ:لا،فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:" فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا "  الآيَةَ كُلَّهَا".[234]

وَالْوَجْهُ الثَّانِي:عَنِ ابْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ،أُنْزِلَتْ فِينَا:" " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا "  فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ r،وَقَالَ:مَنْ لِي بِمَنْ يُؤْذِينِي وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَنْ يُؤْذِينِي،فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،فَقَالَ:إِنْ كَانَ مِنَّا قَتَلْنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَأَطَعْنَاكَ،فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ،فَقَالَ:مَا بِكَ طَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ يَا ابْنَ مُعَاذٍ،وَلَكِنْ عَرَفْتُ مَا هُوَ مِنْكَ،فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ:يَا ابْنَ عُبَادَةَ إِنَّكَ مُنَافِقٌ تُحِبُّ الْمُنَافِقِينَ،فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ:اسْكُتُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ يَأْمُرُ فَيَنْفُذُ لأَمْرِهِ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ " ".[235]

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ:" " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ "  وَذَلِكَ أَنَّ قَوْماً كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالإِسْلامِ،وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ،فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ،فَقَالُوا:إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَ عَلَيْنَا فِيهِمْ بَأْسٌ،فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ،قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:ارْكَبُوا إِلَى الْخَبْثَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ،فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدَدَهُمْ،وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:سُبْحَانَ اللَّهِ،أَوْ كَمَا قَالُوا:تَقْتُلُونَ قَوْماً قَدْ تَكَلَّمُوا مِثْلَ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَيَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ تُسْتَحَلُّ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَائُهُمْ،فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ وَالرَّسُولُ عِنْدَهُمْ لا يَنْهَى وَاحِداً مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ شَيْءٍ،فَنَزَلَتْ:" فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ " ".[236]

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ:عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ،حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ،أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ"أَنَّ نَفَراً مِنْ طَوَائِفِ الْعَرَبِ هَاجَرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r،فَمَكَثُوا مَعَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا ثُمَّ ارْتَكَسُوا،فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَلَقُوا سَرِيَّةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ rفَعَرَفُوهُمْ فَسَأَلُوهُمْ مَا رَدَّكُمْ ؟ فَاعْتَلُّوا لَهُمْ،فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ لَهُمْ:نَافَقْتُمْ،فَلَمْ يَزَلْ بَعْضُ ذَلِكَ حَتَّى فَشَا فِيهِمُ الْقَوْلُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:" فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ " ".وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ،وَالسُّدِّيِّ نحو ذلك.[237]

وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ:عَنْ عِكْرِمَةَ:" " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ "  قَالَ:أَخَذَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَانْطَلَقُوا بِهَا،فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ،فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:لَوْ لَقِينَاهُمْ قَتَلْنَاهُمْ وَأَخَذْنَا مَا فِي أَيْدِيهِمْ،وَقَالَ بَعْضٌ:لا يَصْلُحُ لَكُمْ ذَلِكَ إِخْوَانِكُمُ انْطَلَقُوا تُجَّاراً،فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ".[238]

وَالْوَجْهُ السَّادِسُ:عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ:" " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فئتين "  قَوْمٌ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَحَتَّى جَاءُوا الْمَدِينَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ،ثُمَّ ارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ،فَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ rإِلَى مَكَّةَلِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ يَتَّجِرُونَ فِيهَا،فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ،فَقَائِلٌ يَقُولُ:مُنَافِقُونَ،وَقَائِلٌ يَقُولُ:هُمْ مُؤْمِنُونَ،فَبَيَّنَ اللَّهُ نِفَاقَهُمْ،فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ فَجَاءُوا بِبَضَائِعَ يُرِيدُونَ هِلالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الأَسْلَمِيَّ،وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ حِلْفٌ،فَدَفَعَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُؤِمُّونَ هِلالٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ عَهْدٌ".[239]

ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الروايات الأخرى،بالاستناد إلى الواقع التاريخي فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم ولم يقاتلهم الرسول - r- أو يقتلهم.إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم.هي خطة الإغضاء عنهم،وترك المجتمع نفسه ينبذهم،وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود - وهم الذين يغرونهم ويملون لهم - من المدينة أولا.ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرا ..أما هنا فنحن نجد أمرا جازما بأخذهم أسرى،وقتلهم حيث وجدوا:مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة ..وقد يقال:إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى:«فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا،فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» ..فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه ..وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول - r- هذا الأمر فيهم ..ولكن كلمة «يهاجروا» تقطع - في هذه الفترة - بأنهم ليسوا من أهل المدينة.وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة فقد كان هذا قبل الفتح.ومعنى الهجرة - قبل الفتح - كان محددا بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والانضمام للجماعة المسلمة والخضوع لنظامها.وإلا فهو الكفر أو النفاق ..وسيجيء في سياق السورة - في الدرس التالي - تنديد شديد بموقف الذين بقوا - بغير عذر من الضعف - من المسلمين في مكة دار الكفر والحرب بالنسبة لهم - ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها! - وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية.وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة - أو ممن حولها - يقولون كلمة الإسلام بأفواههم،ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم.

ونعود إلى النص القرآني:« فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا؟ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً.فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ،وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..

إننا نجد في النصوص استنكارا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين وتعجبا من اتخاذهم هذا الموقف وشدة وحسما في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته،وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك.

وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك - وفي كل موقف مماثل - التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين لأن فيها تميعا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين.ذلك أن قول جماعة من المؤمنين:«سبحان الله! - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم،نستحل دماءهم وأموالهم؟ » ..وتصورهم للأمر على هذا النحو،من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين:«إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس» ..وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم:«يظاهرون عدوكم» ..تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان،في ظروف تستدعي الوضوح الكامل،والحسم القاطع.فإن كلمة تقال باللسان مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين،لا تكون إلا نفاقا.ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء.لأنه تمييع للتصور ذاته ..

وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين.

ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة.فقد كان التصور واضحا ..هؤلاء منافقون ..ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم.هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين.

وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين.لأنهم قالوا كلاما كالذي يقوله المسلمون.

وأدّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين! من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين،ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم،

كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية ..ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين:

«وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا» ..ما لكم فئتين في شأن المنافقين.والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم.بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء.

ثم استنكار آخر:«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ » ..ولعله كان في قول الفريق ..المتسامح!! ..ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا،ويتركوا اللجلجة! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم.

«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..فإنما يضل الله الضالين.أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة.وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية بما بعدوا عنها،وسلكوا غير طريقها ونبذوا العون والهدى،وتنكروا لمعالم الطريق! ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين ..إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب ..إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين:«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..

إنهم قد كفروا ..على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون،ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين ..وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد.فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين.ولا بد له من عمل وسعي،ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر.ليكونوا كلهم سواء.

هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين ..وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين.وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان،وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق:والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم،وهو يقول لهم:«وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..

فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر.وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم،بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية ..ثم في الإسلام.وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم،تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد،نحو القمة السامقة.

ومن ثم يتكىء المنهج القرآني على هذه الحقيقة فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء:«فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..

ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم ..أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها.كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.

كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة،أو روابط الدم والقرابة.أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة،أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة ..إنما تقوم الأمة على العقيدة وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة.

ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام،وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب ..ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول ..لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم لله وفي سبيل الله.من أجل عقيدتهم،لا من أجل أي هدف آخر ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر ..بهذه النصاعة.

وبهذا الحسم.وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى،أو مصالح أخرى،أو أهداف أخرى ..فإن هم فعلوا.فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم ..في دار الحرب ..وهاجروا إلى دار الإسلام،ليعيشوا بالنظام الإسلامي،المنبثق من العقيدة الإسلامية،القائم على الشريعة الإسلامية ..إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم،مواطنون في الأمة المسلمة.وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة،فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال:«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ (أي أسرى) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ،وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».

وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا،أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة.إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.

إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته.ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام.في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين.فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا!

وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته.وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.

إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة ..ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال.لا يتسامح مع من يقولون:إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله.ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية،كالحاكمية والتشريع للناس فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون،لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ..لا لأنهم عبدوهم.ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال،وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون.لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله،وأن محمدا رسول الله.ثم بقوا في دار الكفر،يناصرون أعداء المسلمين!

ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا.إنما هو تميع.والإسلام عقيدة التسامح.ولكنه ليس عقيدة «التميع».إنه تصور جاد.ونظام جاد.والجد لا ينافي التسامح.ولكنه ينافي التميع.وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى،بيان،وبلاغ ..[240]

----------

وقال تعالى:{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) } [النساء:138 - 140]

عَدَّ اللهُ تَعَالَى المُنْافِقِينَ مِنْ هَذَا الصَّنْفِ المُتَرَدِّدِ مِنَ النَّاسِ،آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا،فَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ،وَقَدْ بَشَرَّهُمُ اللهُ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الآخِرَةِ .

ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ بِأنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ المُعَادِينَ للإِيمَانِ وَالمُؤْمِنِينَ،أَوْليَاءَ لَهُمْ يُلْقُونَ إليهِمْ بِالمَوَدَّةِ.وَيُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هَذا المَسْلَكَ فِي مُوَالاَةِ الكَافِرِينَ.وَيَسْأَلُ اللهُ مُسْتَنْكِراً:هَلْ يَبْتَغِي هَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ العِزَّةَ وَالغَلَبَةَ وَالمَنَعَةَ عِنْدَ الكَافِرِينَ؟ ثُمَّ يُنَبِّهُهُمْ إلَى أنَّ العِزَّةَ كُلَّها للهِ وَحْدَهُ،وَلا شَرِيكَ لَهُ فِيها،ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ لِمَنْ جَعَلَهَا اللهُ لَهُ.ثُمَّ يَحُثُّهُمُ اللهُ عَلى الإِقْبَالِ عَلَى إِعْلاَنِ عُبُودِيَّتِهِم للهِ وَحْدَهُ،وَالانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ لَهُمُ النَّصْرُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا،وَلَهُمُ الفَوْزُ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ .

كَانَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ يَجْلِسُونَ مَعَ المُشْرِكِينَ،وَهُمْ يَخُوضُونَ فِي الكُفْرِ وَذَمِّ الإِسْلاَمِ،وَالاسْتِهْزَاءِ بِالقُرْآنِ،وَلا يَسْتَطِيعُونَ الإِنْكَارَ عَلَيهِمْ لِضَعْفِهِمْ،وَلِقُوَّةِ المُشْرِكِينَ،فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ .

وَيَقُولُ تَعَالَى:إِنَّهُ أَنْزَلَ فِي القُرْآنِ أَمْراً إلى جَمِيعِ مَنْ يُظْهِرُونَ الإِيمَانَ،أنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا أنَاسَاً يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ،أَوْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا فَعَلَيهِمْ ألاَّ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ إلى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ هَذَا المُنْكَرِ،وَيَأْخُذُوا فِي حُدِيثٍ آخَرَ،وَأنَّ المُؤْمِنِينَ إذَا قَعَدُوا مَعَ مَنْ يَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِ اللهِ،وَيَكْفُرُونَ بِاللهِ،فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ.وَكَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الكُفْرِ،كَذَلِكَ يُشْرِكُهُمْ اللهُ مَعَهُمْ فِي الخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَداً،وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ العُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ .[241]

وقال الطبري:" أَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:139] فَمِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ.يَقُولُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ:يَا مُحَمَّدُ , بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِي وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِي أَوْلِيَاءَ:يَعْنِي أَنْصَارًا وَأَخِلَّاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , يَعْنِي:مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139] يَقُولُ:" أَيَطْلُبُونَ عِنْدَهُمُ الْمَنْعَةَ وَالْقُوَّةَ بِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِي {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139] يَقُولُ:" فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ابْتِغَاءَ الْعِزَّةِ عِنْدَهُمْ , هُمُ الْأَذِلَّاءُ الْأَقِلَّاءُ , فَهَلَا اتَّخَذُوا الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ , فَيَلْتَمِسُوا الْعِزَّةَ وَالْمَنَعَةُ وَالنُّصْرَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , الَّذِي لَهُ الْعِزَّةُ وَالْمَنْعَةُ , الَّذِي يُعِزُّ مَنْ يَشَاءٍ , وَيُذِلَّ مَنْ يَشَاءُ فَيُعِزَّهُمْ وَيَمْنَعَهُمْ؟ وَأَصْلُ الْعِزَّةِ:الشِّدَّةُ،وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ الصَّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ:عِزَازٌ , وَقِيلَ:قَدِ اسْتُعِزَّ عَلَى الْمَرِيضِ:إِذَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَكَادَ يَشْفَى , وَيُقَالَ:تَعَزَّزَ اللَّحْمُ:إِذَا اشْتَدَّ،وَمِنْهُ قِيلَ:عَزَّ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا , بِمَعْنَى:اشْتَدَّ عَلَيَّ

يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.{وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:140] يَقُولُ:" أُخْبِرَ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْكُفَّارِ أَنْصَارًا وَأَوْلِيَاءَ بَعْدَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] يَعْنِي:بَعْدَمَا عَلِمُوا نَهْيَ اللَّهِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ , وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] يَعْنِي بِقَوْلِهِ:{يَخُوضُوا} [النساء:140] يَتَحَدَّثُوا حَدِيثًا غَيْرَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.وَقَوْلُهُ:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] يَعْنِي:وَقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ إِنْ جَالَسْتُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِآيَاتِ اللَّهِ , وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فَأَنْتُمْ مِثْلُهُ , يَعْنِي:فَأَنْتُمْ إِنْ لَمْ تَقُومُوا عَنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَثَلُهُمْ فِي فِعْلِهِمْ , لِأَنَّكُمْ قَدْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ بِجُلُوسِكُمْ مَعَهُمْ , وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا , كَمَا عَصَوْهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ , فَقَدْ أَتَيْتُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ نَحْوَ الَّذِي أَتَوْهُ مِنْهَا , فَأَنْتُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ فِي رُكُوبِكُمْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَإِتْيَانِكُمْ مَا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْفَسَقَةِ عِنْدَ خَوْضِهِمْ فِي بَاطِلِهِمْ.وبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَاضِيَةِ يَقُولُونَ تَأَوُّلًا مِنْهُمْ هَذِهِ الْآيَةِ , إِنَّهُ مُرَادٌ بِهَا النَّهْي عَنْ مُشَاهَدَةِ كُلِّ بَاطِلٍ عِنْدَ خَوْضِ أَهْلِهِ فِيهِ"[242]

البشارة تستعمل في الخير،وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية.يقول تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} أي:الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر،بأقبح بشارة وأسوئها،وهو العذاب الأليم،وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم،وتركهم لموالاة المؤمنين،فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟

وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين،ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين،ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين،وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك،فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون.

والحال أن العزة لله جميعا،فإن نواصي العباد بيده،ومشيئته نافذة فيهم.وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين،ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين،وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة،فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين،وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين،وترك موالاة المؤمنين،وأن ذلك من صفات المنافقين،وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم،وبغض الكافرين وعداوتهم.

أي:وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي:يستهان بها.وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها،وهذا المقصود بإنزالها،وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله،فضد الإيمان الكفر بها،وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها،ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم.

وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم،فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله لأنها لا تدل إلا على حق،ولا تستلزم إلا صدقا،بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه،وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي:غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها.

{إِنَّكُمْ إِذًا} أي:إن قعدتم معهم في الحال المذكورة {مِثْلُهُمْ} لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم،والراضي بالمعصية كالفاعل لها،والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به،فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة،أو القيام مع عدمها.{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} كما اجتمعوا على الكفر والموالاة ولا ينفع الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} إلى آخر الآيات.

ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال:{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي:ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها،وتنتهون إليها من خير أو شر،قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم.{فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} فيظهرون أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم،وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم.

{وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} ولم يقل فتح،لأنه لا يحصل لهم فتح،يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة،بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر،حكمة من الله.فإذا كان ذلك {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي:نستولي عليكم {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي:يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم مع القدرة،ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في القتال،ومظاهرة الأعداء عليهم،وغير ذلك مما هو معروف منهم.{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة،ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات.

{وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أي:تسلطا واستيلاء عليهم،بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة،لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم،ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين،ودفعٍ لتسلط الكافرين،ما هو مشهود بالعيان.حتى إن [بعض] المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة،قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم،بل لهم العز التام من الله،فله الحمد أوّلا وآخرًا،وظاهرًا وباطنًا.

ويخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه،من قبيح الصفات وشنائع السمات،وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى،أي:بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران،ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه لعباده،والحال أن الله خادعهم،فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها،خداع لأنفسهم.وأي خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟ "

ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه،حيث جمع بين المعصية،ورآها حسنة،وظنها من العقل والمكر،فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه.

ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ......} إلى آخر الآيات.

" وَ " من صفاتهم أنهم {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية {قَامُوا كُسَالَى} متثاقلين لها متبرمين من فعلها،والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم،فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده،عادمة للإيمان،لم يصدر منهم الكسل،{يُرَاءُونَ النَّاسَ} أي:هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم،مراءاة الناس،يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله،فلهذا {لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} لامتلاء قلوبهم من الرياء،فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته.

{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} أي:مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين.فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا،ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا.أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين،وهذا أعظم ضلال يقدر.ولهذا قال:{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} أي:لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك غوايته،لأنه انغلق عنه باب الرحمة،وصار بدله كل نقمة.

فهذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها،من الصدق ظاهرا وباطنا،والإخلاص،وأنهم لا يجهل ما عندهم،ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم،وكثرة ذكرهم لله تعالى.وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم.فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به،وبالله المستعان.[243]

والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود الذين كان المنافقون يأوون إليهم ويتخنسون عندهم،ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.

والله - جل جلاله - يسأل في استنكار:لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع،ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله - عز وجل - بالعزة فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه.

وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين،وصفتهم الأولى،وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين،كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون.وتقرر أن العزة لله وحده فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين! ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة،فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه.وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها ..العبودية لله ..فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى وأشخاص شتى واعتبار ات شتى،ومخاوف شتى.ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار ..وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق.وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال ..ولمن شاء أن يختار ..وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن.وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله.وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين،وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض،أن يتدبروا هذا القرآن ..إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين ..وإلا فإن الله غني عن العالمين! ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين:الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا،وحمية جاهلية ..

عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - r - قَالَ:" مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَشَرَفًا فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ " ..[244]

ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة.وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ.

في كل أرض،وفي كل جيل.وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم،ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.

وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها،فيسكت ويتغاضى ..يسمي ذلك تسامحا،أو يسميه دهاء،أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي!!!

وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله وهو يموه على نفسه في أول الطريق،حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان! إن الحمية لله،ولدين الله،ولآيات الله.هي آية الإيمان.وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد وينزاح بعدها كل حاجز،وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار.وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا.ثم تهمد.ثم تخمد.ثم تموت!

فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس،فإما أن يدفع،وإما أن يقاطع المجلس وأهله.فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة.وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!

وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين - ذوي النفوذ - وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ.وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة ..حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها،هو أولى مراحل الهزيمة.وأراد أن يجنبهم إياها ..ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقا.فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ..وإلا فهو النفاق ..وهو المصير المفزع،مصير المنافقين والكافرين:«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ:أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها،فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ،حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ.إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ...والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب،هو قوله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية - «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» ..

والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن:«إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» ..والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد:«إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ..ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها،وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين،يشي - كما أسلفنا - بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة - إذ ذاك - والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى - كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع ..في عالم الواقع ..مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع![245]

------------

وقال تعالى:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) } [النساء]

يَعْتَقِدُ المُنَافِقُونَ،جَهْلاً مِنْهُمْ وَسَفْهاً،أنَّ أُمُورَهُمْ رَاجَتْ عِنْدَ النَّاسِ لِمَا أَظْهَرُوهُ لَهُمْ مِنَ الإِيمَانِ وَأَبْطَنُوهُ مِنَ الكُفْرِ،وَأنَّ نِفَقاَهُمْ سَيَرُوجُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَيْضاً،كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا،وَقَدَ جَهَلَ هَؤُلاءِ المَخْدُوعُونَ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَسْلَكِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ،وَهُوَ يَخْدَعُهُمْ إذْ يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ،وَضَلاَلِهِمْ،وَيَخْدَعُهُمْ عَنِ الحَقِّ وَالوُصُولِ إلَيْهِ،فِي الدُّنْيَا،وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ .

وَمِنْ صِفَةِ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ حَتَّى فِي الصَّلاَةِ،التِي هِيَ أَعْظَمُ الفَرَائِضِ وَالقُرُبَاتِ إلَى اللهِ،لا يُؤَدُّونَها إلا وَهُمْ كُسَالَى،لاَ حَمَاسَةَ لَهُمْ فِيهَا،لأَنَّهُمْ لا نِيَّةَ لَهُمْ وَلا إِيمَانَ لَهُمْ،وَلاَ يَفْقَهُونَ مَعْنَى الصَّلاَةِ،وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالصَّلاَةِ أَمَامَ النَّاسِ،تَقِيَّةً وَمُصَانَعَةً،وَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ لاَهُونَ لاَ يَخْشَعُونَ،وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً .

المُنَافِقُونَ مُحَيَّرُونَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَبَيْنَ الكُفْرِ،فَلاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ،ظَاهِراً وَبَاطِناً،وَلاَ هُمْ مَعَ الكَافِرِينَ،وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ،فَتَارَةً يَمِيلُ إلَى هَؤُلاَءِ،وَتَارَةً يَمِيلُ إلَى أُوْلَئِكَ.وَمَنْ صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ طَرِيقِ الهُدَى،فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مُنْقِذاً وَلاَ مُرْشِداً،فَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ،وَلاَ يَسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ،وَهُمْ يُسْأَلُونَ .

يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتَخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ،مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ،يُصَاحِبُونَهُمْ وَيُصَادِقُونَهُمْ،وَيُنَاصِحُونَهُمْ،وَيُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ،وَيُفْشُونَ إلَيْهِمْ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ البَاطِنَةَ .

وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَعَلُوا للهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةً بَيِّنَةً وَعُذْراً فِي عُقُوبَتِهِ إِيّاهُمْ.( وَالمُرَادُ هُنَا النُّصْرَةُ بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرُ المُسْلِمِينَ ) .

يَقُولُ تَعَالَى إنَّ المُنَافِقِينَ سَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ فِي أَسْفَلِ طَبَقَاتِ ( دَرَكَاتِ ) نَارِ جَهَنَّمَ،وَلَنْ يَنْصُرَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ .

أمَّا الذِينَ يَتُوبُونَ مِنَ المُنَافِقِينَ،وَيُقْلِعُونَ عَنِ النِّفَاقِ وَالكُفْرِ،وَيُخْلِصُونَ دِينَهُمْ وَعَمَلَهُمْ،فَإِنَّهُمْ يُصْبِحُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ،وَسَيَنَالُهُمُ الأَجْرَ العَظِيمَ الذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ.[246]

وقال الطبري:"الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى خِدَاعِ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَوَجْهِ خِدَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ , بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ , مَعَ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ.فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ:أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِإِحْرَازِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ , وَاللَّهُ خَادِعُهُمْ بِمَا حَكَمَ فِيهِمْ مِنْ مَنْعِ دِمَائِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ , مَعَ عِلْمِهِ بِبَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ , وَاعْتِقَادِهِمُ الْكُفْرَ , اسْتِدْرَاجًا مِنْهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَلْقَوْهُ فِي الْآخِرَةِ , فَيُورِدُهُمْ بِمَا اسْتَبْطَنُوا مِنَ الْكُفْرِ نَارَ جَهَنَّمَ.عَنِ السُّدِّيِّ:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] قَالَ:«يُعْطِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا , ثُمَّ يَسْلُبُهُمْ ذَلِكَ النُّورَ فَيُطْفِئُهُ , فَيَقُومُونَ فِي ظُلْمَتِهِمْ وَيُضْرَبُ بَيْنَهُمْ بِالسُّوَرِ»

وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} فَإِنَّهُ يَعْنِي:أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِهَا إِلَى اللَّهِ , لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوقِنِينَ بِمَعَادٍ وَلَا ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ , وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحَذَرًا [ص:613] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا أَنْ يُقْتُلُوا أَوْ يَسْلُبُوا أَمْوَالَهُمْ , فَهُمْ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْفَرَائِضِ الظَّاهِرَةِ , قَامُوا كُسَالَى إِلَيْهَا , رِيَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ , لِيَحْسَبُوهُمْ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ،لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَقِدِي فَرْضَهَا وَوُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ , فَهُمْ فِي قِيَامِهِمْ إِلَيْهَا كُسَالَى.عَنْ قَتَادَةَ , قَوْلُهُ:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] قَالَ:«وَاللَّهِ لَوْلَا النَّاسُ مَا صَلَّى الْمُنَافِقُ وَلَا يُصَلِّي إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً»

وَأَمَّا قَوْلُهُ:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ:وَهَلْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ؟ قِيلَ لَهُ:إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِلَيْهِ ذَهَبْتَ , إِنَّمَا مَعْنَاهُ:وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا ذِكْرًا رِيَاءً , لِيَدْفَعُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءِ وَسَلْبَ الْأَمْوَالِ , لَا ذِكْرَ مُوقِنٍ مُصَدِّقٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ مُخْلِصٍ لَهُ الرُّبُوبِيَّةَ , فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ قَلِيلًا , لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّهُ وَلَا مُبْتَغًى بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ , وَلَا مُرَادًا بِهِ ثَوَابَ اللَّهِ , وَمَا عِنْدَهُ فَهُوَ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ وَجْهِ نَصْبِ عَامِلِهِ , وَذَاكِرُهُ فِي مَعْنَى السَّرَابِ الَّذِي لَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ حَقِيقَةِ مَاءٍ.

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ:{مُذَبْذَبِينَ} [النساء:143] مُرَدَّدِينَ , وَأَصْلُ التَّذَبْذُبِ:التَّحَرُّكُ وَالِاضْطِرَابِ , كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ...تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ

وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ:أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُتَحَيِّرُونَ فِي دِينِهِمْ , لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اعْتِقَادِ شَيْءٍ عَلَى صِحَّةٍ فَهُمْ لَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَصِيرَةٍ , وَلَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى جَهَالَةٍ , وَلَكِنَّهُمْ حَيَارَى بَيْنَ ذَلِكَ , فَمَثَلُهُمُ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r ,فعَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ r،قَالَ:«مَثَلُ الْمُنَافِقِ،كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً»،[247]

وقال ابن كثير :" قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ:9] وَقَالَ هَاهُنَا:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَادَعُ،فَإِنَّهُ الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ،وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ،يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَمْرَهُمْ كَمَا رَاجَ عِنْدَ النَّاسِ وجَرَت عَلَيْهِمْ أحكامُ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا،فَكَذَلِكَ  يَكُونُ حُكْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ،وَأَنَّ أَمْرَهُمْ يَرُوجُ عِنْدَهُ،كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْلِفُونَ لَهُ:أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ،وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُمْ عِنْدَهُ،فَقَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ]} [الْمُجَادَلَةِ:18] .

وَقَوْلُهُ:{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أَيْ:هُوَ الَّذِي يَسْتَدْرِجُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ وَضَلَالِهِمْ،وَيَخْذُلُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ.يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ] وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .[الْحَدِيدِ:13-15] ..

وَقَوْلُهُ:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إَلا قَلِيلا]  هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِهَا وَخَيْرِهَا،وَهِيَ الصَّلَاةُ.إِذَا قَامُوا إِلَيْهَا قَامُوا وَهُمْ كُسَالَى عَنْهَا،لِأَنَّهُمْ لَا نِيَّةَ لَهُمْ فِيهَا،وَلَا إيمانَ لَهُمْ بِهَا وَلَا خَشْيَةَ،وَلَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا،فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} هَذِهِ صِفَةُ ظَوَاهِرِهِمْ،كَمَا قَالَ:{وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} [التَّوْبَةِ:54] ثُمَّ ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة،فقال:{يُرَاءُونَ النَّاسَ} أَيْ:لَا إِخْلَاصَ لَهُمْ [وَلَا مُعَامَلَةَ مع الله بل إنما يشهدون الناس تَقِيَّةً مِنَ النَّاسِ وَمُصَانَعَةً لَهُمْ] ،وَلِهَذَا يَتَخَلَّفُونَ كَثِيرًا عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُرَون غَالِبًا فِيهَا كَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقْتَ العَتَمَة،وَصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِ الغَلَس،وَقَوْلُهُ:{وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} أَيْ:فِي صَلَاتِهِمْ لَا يخشعُون [فِيهَا] وَلَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ،بَلْ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَاهُونَ،وَعَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ مُعَرِضُونَ.

وَقَوْلُهُ:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} يَعْنِي:الْمُنَافِقِينَ مُحَيَّرِينَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ،فَلَا هُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،وَلَا مَعَ الْكَافِرِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،بَلْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ،وَبَوَاطِنُهُمْ مَعَ الْكَافِرِينَ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ،فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى هَؤُلَاءِ،وَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى أُولَئِكَ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ:20] .

قَالَ مُجَاهِدٌ:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} يَعْنِي:أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ r {وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} يَعْنِي:الْيَهُودَ.

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:بَيْنَمَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُصُّ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ،فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:" مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَشَاةٍ بَيْنِ رَبِيضَيْنِ إِذَا أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحْنَهَا،وَإِذَا أَتَتْ هَؤُلَاءِ نَطَحْنَهَا "  .فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ r،إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ r:" كَشَاةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ " قَالَ:فَاحْتَفَظَ الشَّيْخُ وَغَضِبَ،فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ قَالَ:أَمَا إِنِّي لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ لَمْ أَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ"[248]

وعَنْ يَعْفُرَ بْنِ رُوذِيٍّ،قَالَ:سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ،وَهُوَ يَقُصُّ يَقُولُ:يَقُولُ رَسُولُ اللهِ r:" مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الرَّابِضَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ " فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:وَيْلَكُمْ،لَا تَكْذِبُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ r،إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ r:" مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ "[249]

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ:مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ مَثَلُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى وَادٍ فَوَقَعَ أَحَدُهُمْ فَعَبَرَ , ثُمَّ وَقَعَ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى عَلَى نِصْفِ الْوَادِي نَادَاهُ الَّذِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي:وَيْلَكَ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ إِلَى الْهَلَكَةِ , ارْجِعْ عَوْدَكَ عَلَى بَدْئِكَ , وَنَادَاهُ الَّذِي عَبَرَ:هَلُمَّ النَّجَاةَ , فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى هَذَا مَرَّةً وَإِلَى هَذَا مَرَّةً , قَالَ:فَجَاءَ سَيْلٌ فَأَغْرَقَهُ , وَالَّذِي عَبَرَ الْمُؤْمِنُ وَالَّذِي غَرِقَ الْمُنَافِقُ , {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء:143] وَالَّذِي مَكَثَ الْكَافِرُ"[250]

وعَنْ قَتَادَةَ:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء:143] يَقُولُ:" لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ.قَالَ:وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَضْرِبُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ , كَمَثَلِ رَهْطٍ ثَلَاثَةٍ دَفَعُوا إِلَى نَهْرٍ , فَوَقَعَ الْمُؤْمِنُ فَقَطَعَ , ثُمَّ وَقَعَ الْمُنَافِقُ حَتَّى إِذَا كَادَ يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ , نَادَاهُ الْكَافِرُ:أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ , وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ:أَنْ هَلُمَّ إِلَيَّ فَإِنَّ عِنْدِي وَعِنْدِي , يُحْصِي لَهُ مَا عِنْدَهُ.فمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ فَغَرَّقَهُ , وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ وَشُبْهَةٍ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَهُوَ كَذَلِكَ.قَالَ:وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ r كَانَ يَقُولُ:«مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ ثَاغِيَةٍ بَيْنَ غَنَمَيْنِ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ , فَأَتَتْهَا فَلَمْ تُعْرَفْ , ثُمَّ رَأَتْ غَنَمًا عَلَى نَشَزٍ فَأَتَتْهَا وَشَامَّتْهَا فَلَمْ تُعْرَفْ»[251]

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} أَيْ:وَمَنْ صَرَفَهُ عَنْ طَرِيقِ الهدى {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} فَإِنَّهُ:{مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ النَّجَاةِ فَلَا هَادِيَ لَهُمْ،وَلَا مُنْقِذَ لَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ،فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا مُعَقّب لِحُكْمِهِ،وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ."[252]

يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه،من قبيح الصفات وشنائع السمات،وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى،أي:بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران،ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه لعباده،والحال أن الله خادعهم،فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها،خداع لأنفسهم.وأي خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟ "

ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه،حيث جمع بين المعصية،ورآها حسنة،وظنها من العقل والمكر،فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه.

ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ......} إلى آخر الآيات.

" وَ " من صفاتهم أنهم {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية {قَامُوا كُسَالَى} متثاقلين لها متبرمين من فعلها،والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم،فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده،عادمة للإيمان،لم يصدر منهم الكسل،{يُرَاءُونَ النَّاسَ} أي:هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم،مراءاة الناس،يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله،فلهذا {لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} لامتلاء قلوبهم من الرياء،فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته.

{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} أي:مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين.فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا،ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا.أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين،وهذا أعظم ضلال يقدر.ولهذا قال:{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} أي:لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك غوايته،لأنه انغلق عنه باب الرحمة،وصار بدله كل نقمة.

فهذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها،من الصدق ظاهرا وباطنا،والإخلاص،وأنهم لا يجهل ما عندهم،ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم،وكثرة ذكرهم لله تعالى.وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم.فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به،وبالله المستعان."[253]

وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة.فإن هذه القلوب لا بد أن تشمئز من قوم يخادعون الله.فإن هذه القلوب تعرف أن الله سبحانه - لا يخدع - وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع الله لا بد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير.ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين! ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون الله «وهو خادعهم» ..أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم لا يقرعهم بمصيبة تنبههم ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم ..تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا ..

وذلك هو خداع الله - سبحانه - لهم ..فالقوارع والمحن كثيرا ما تكون رحمة من الله،حين تصيب العباد،فتردهم سريعا عن الخطأ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ..وكثيرا ما تكون العافية والنعمة استدراجا من الله للمذنبين الغاوين لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير حتى ينتهوا إلى شر مصير.

ثم يستمر السياق يرسم لهم صورا زرية شائنة لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار:«وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ.وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله،والوقوف بين يديه،والاتصال به،والاستمداد منه ..إنما هم يقومون يراءون الناس.ومن ثم يقومون كسالى،كالذي يؤدي عملا ثقيلا أو يسخر سخرة شاقة! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا قليلا.فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس! وهم لا يتوجهون إلى الله إنما هم يراءون الناس.وهي صورة كريهة - ولا شك - في حس المؤمنين.تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز،ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية ..وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم للبت بين المؤمنين والمنافقين! ويستمر السياق في رسم الصور الزرية المنفرة:«مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ.لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ.وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..

وموقف الذبذبة،والأرجحة،والاهتزاز،وعدم الاستقرار والثبات في أحد الصفين:الصف المؤمن أو الصف الكافر ..موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز كذلك في نفوس المؤمنين.كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي.هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف حاسم هنا أو هناك ..ولا على المصارحة برأي وعقيدة وموقف ..مع هؤلاء أو هؤلاء ..ويعقب على هذه الصور الزرية،وهذه المواقف المهزوزة،بأنهم قد حقت عليهم كلمة الله واستحقوا ألا يعينهم في الهداية ومن ثم فلن يستطيع أحد أن يهديهم سبيلا.ولا أن يجد لهم طريقا مستقيما:«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» ..

وإلى هنا يكون السياق قد بلغ من إثارة الاشمئزاز والاحتقار والاستضعاف للمنافقين في نفوس المؤمنين مبلغا عظيما ..فيلتفت بالخطاب للمؤمنين محذرا إياهم أن يسلكوا طريق هؤلاء المنافقين ..وطريق المنافقين - كما سبق - هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين.ويحذرهم بطش الله ونقمته،كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة.وهو مصير مفزع رعيب،مهين كذلك ذليل:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً.إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا،وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ،وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ.فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..

إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا،بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم.والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم.والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.

نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين،ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين ..

وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك.حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول «بعض المسلمين» لأن هناك البعض الآخر الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأنباء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم كما علمهم الله.

وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب الله وبطشه ونقمته:«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ » ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش الله ونقمته ..ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام ..ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين! وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب.غير موجهة إليها مباشرة.ولكن عن طريق التلويح ..طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين:«إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً».في الدرك الأسفل ..إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب،فلا ينطلقون ولا يرتفعون.ثقلة المطامع والرغائب،والحرص والحذر،والضعف والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين.والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين:«مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ.لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» ..فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين «فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» ..بلا أعوان هنالك ولا أنصار ..وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا،فأنى ينصرهم الكفار؟

ثم يفتح لهم - بعد هذا المشهد المفزع - باب النجاة ..باب التوبة لمن أراد النجاة:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا،وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ،وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ.فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول:«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» ..فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام بالله،وإخلاص الدين لله.ولكنه هنا ينص على الاعتصام بالله،وإخلاص الدين لله.لأنه يواجه نفوسا تذبذبت،ونافقت،وتولت غير الله.فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح،على التجرد لله،والاعتصام به وحده وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة،وتلك الأخلاق المخلخلة ..ليكون في الاعتصام بالله وحده قوة وتماسك،وفي الإخلاص لله وحده خلوص وتجرد ..

بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض،وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار.وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة الله وحده.المستعلين بالإيمان.المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان ..وجزاء المؤمنين - ومن معهم - معروف:«وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً».

وبهذه اللمسات المنوعة،يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم،ويقلل من شأنهم وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق،ويحذرهم مصيره.ويفتح باب التوبة للمنافقين ليحاول من فيه منهم خير،أن يخلص نفسه،وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص[254].

 

_____________

 

 


المبحث السادس عشر

المنافقون هم الذين يتولون الكفار والفجار

 

وقال تعالى :{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ  ( 11)  لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ  ( 12)  لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ  ( 13)  لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ  ( 14)  كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  ( 15)  كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ  ( 16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ  ( 17)} سورة الحشر

أَرْسَلَ رَئِيسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَعَدَدٌ مِنَ المُنَافِقِينَ مَعَهُ إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ يَعِدُونَهُمُ النُّصْرَةَ إِنْ قَاتَلهُم المُسْلِمُونَ ،والخُرُوجَ مَعَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ إِنْ أُخْرِجُوا ،وَعَدَّ اللهُ المُنَافِقِينَ كَفَرَةً ،وَإِخْوَاناً لِلكَافِرِينَ مِنَ اليَهُودِ ..ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ .

وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ ،وَفِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ مِنَ النُّصْرَةِ ،وَالخُرُوجِ مَعَهُمْ ،لأَنَّهُمْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَ اليَهُودِ إِذَا أَرَادَ المُسْلِمُونَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ ،وَلاَ يَقَاتِلُونَ مَعَهُمْ ،إِنْ قَاتَلَهُمُ المُسْلِمُونَ ،ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا قَاتَلُوا مَعَ اليَهُودِ سَيَنْهَزِمُونَ مُتَخَلِّينَ عَنْ بَنِي النَّضيرِ ،ثُمَّ لاَ يَنْصُرُ اللهُ بَنِي النَّضِيرِ .

وَيُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى السَّبَبَ فِي عَدَمِ جُرْأَةِ المُنَافِقِينَ عَلَى الانْضِمَامِ إِلَى اليَهُودِ ،فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ ،فَيُخْبِرُ تَعَالَى :أَنَّ المُسْلِمِينَ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مِنَ اللهِ ،فَهُمْ يَخَافُونَ بَأْسَ المُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُونَ اللهَ ،لأَنَّهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ مِقْدَارَ عَظَمَةِ اللهِ ،فَهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِمَعَاصِيهِ ،وَلاَ يَرْهَبُونَ عِقَابَهُ ،قَدْرَ رَهْبَتِهِم المُسْلِمِينَ وَسَطْوَتِهِمْ .

وَيُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى جُبْنَ اليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ فَيَقُولُ :إِنَّ اللهَ أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَلاَ يُوَاجِهُونَ المُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ مُجْتَمِعِينَ ،بَلْ يُقَاتِلونَهُمْ فِي قُرًى حَصِينةٍ ،أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدْرَانٍ وَهُمْ مُحَاصَرُونَ ،وَعَدَاوَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ شَدِيدَةٌ .وَإِذَا رَآهُمُ الرَّائِي حَسِبَهُمْ مُتَّفِقِينَ ،وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْتَلِفُونَ إِلَى أَبْعَدِ حُدُودِ الاخْتِلاَفِ لِمَا بَيْنَهُم مِنْ أَحْقَادٍ وَعَدَاوَاتٍ ،فَهُمْ لاَ يَتَعَاضَدُونَ ،وَلاَ يَتَسَانَدُونَ ،وَلاَ يُخْلِصُونَ فِي القِتَالِ ،وَقَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا لأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الوَحْدَةَ وَالتَّسَانُدَ المُخْلِصَ هُمَا سِرُّ النَّصْرِ وَالنَّجَاحِ .

وَمَثَلُ بَنِي النَّضِيرِ ،مَثَلُ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ،الذِينَ كَانُوا حَوْلَ المَدِينَةِ ،فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ،وَأَجْلاَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتِ الشَّامِ ،فَذَاقُوا سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ وَطُغَيَانِهِمْ .

وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ،كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ ،وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ ،إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ ،فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ ،وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ ،تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ ،وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ ،وَقَالَ لَهُ :إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ .فَكَانَ عَاقِبَةَ الأَمْرِ بِالكُفْرِ أَنْ صَارَ الشَّيْطَانُ وَمَنْ أَغْرَاهُ بِالكُفْرِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ ،جَزَاءُ كُلِّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ .[255]

وقال الطبري:" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ r:أَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِ قَلْبِكَ يَا مُحَمَّدُ،فَتَرَى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا , وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ،وَوَدِيعَةُ،وَمَالِكٌ ابْنَا نَوْفَلٍ وَسُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ r لِلْحَرْبِ أَنِ اثْبُتُوا وَتَمَنَّعُوا،فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ،وَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ،وَإِنْ خَرَجْتُمْ،خَرَجْنَا مَعَكُمْ،فَتَرَبَّصُوا لِذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ،فَلَمْ يَفْعَلُوا،وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ،فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ r أَنْ يُجْلِيَهُمُ،وَيَكُفُّ عَنْ دِمَائِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُمُ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحَلْقَةَ .

وَقَوْلُهُ:{يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ.

وَقَوْلُهُ:{لَئِنْ أَخَرَجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر:11] يَقُولُ:لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَمَنَازِلِكُمْ،وَأُجْلِيتُمْ عَنْهَا لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ،فَنُجْلَى عَنْ مَنَازِلِنَا وَدِيَارِنَا مَعَكُمْ.

وَقَوْلُهُ:{وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} [الحشر:11] يَقُولُ:وَلَا نُطِيعُ أَحَدًا سَأَلَنَا خِذْلَانَكُمْ،وَتَرَكَ نُصْرَتَكُمْ،وَلَكِنَّا نَكُونُ مَعَكُمْ.{وَلَئِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} يَقُولُ:وَإِنْ قَاتَلَكُمْ مُحَمَّدٌ r وَمَنْ مَعَهُ لَنَنْصُرَنَّكُمْ مَعْشَرَ النَّضِيرِ عَلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] يَقُولُ:وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَعَدُوا بَنِي النَّضِيرِ النُّصْرَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ r لَكَاذِبُونَ فِي وَعْدِهِمْ إِيَّاهُمْ مَا وَعَدُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ.

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:لَئِنْ أُخْرِجَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ،فَأُجْلُوا عَنْهَا لَا يَخْرُجُ مَعَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوهُمُ الْخُرُوجَ مِنْ دِيَارِهِمْ،وَلَئِنْ قَاتَلَهُمْ مُحَمَّدٌ r لَا يَنْصُرُهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوهُمُ النَّصْرَ،وَلَئِنْ نَصَرَ الْمُنَافِقُونَ بَنِي النَّضِيرِ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ مُنْهَزِمِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ r وَأَصْحَابِهِ هَارِبِينَ مِنْهُمْ،قَدْ خَذَلُوهُمْ.{ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111] يَقُولُ:ثُمَّ لَا يَنْصُرُ اللَّهُ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى مُحَمَّدٍ r وَأَصْحَابِهِ بَلْ يَخْذُلُهُمْ.

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ r:لَأَنْتُمْ أَيُّهَا [ص:537] الْمُؤْمِنُونَ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ اللَّهِ:يَقُولُ:هُمْ يَرْهَبُونَهُمْ أَشَدَّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ.{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:هَذِهِ الرَّهْبَةُ الَّتِي لَكُمْ فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ،قَدْرَ عَظَمَةِ اللَّهِ،فَهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِمَعَاصِيهِ،وَلَا يَرْهَبُونَ عِقَابَهُ قَدْرَ رَهْبَتِهِ مِنْكُمْ.

وَقَوْلُهُ:لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحُصَّنَةٍ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:لَا يُقَاتِلُكُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بَنُو النَّضِيرِ مُجْتَمِعِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ بِالْحُصُونِ،لَا يَبْرُزُونَ لَكُمْ بِالْبَرَازِ،أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ يَقُولُ:أَوْ مِنْ خَلْفِ حِيطَانَ.

وَقَوْلُهُ:{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:عَدَاوَةُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ بَعْضًا شَدِيدَةٌ.{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} [الحشر:14] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ،يَقُولُ:تَظُنُّهُمْ مُؤْتَلِفِينَ مُجْتَمِعَةً كَلِمَتُهُمْ {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] يَقُولُ:وَقُلُوبُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لِمُعَادَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.

وَقَوْلُهُ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:هَذَا الَّذِي وَصَفْتُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ،وَذَلِكَ تَشْتِيتُ أَهْوَائِهِمْ،وَمُعَادَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لَهُمْ مِمَّا فِيهِ عَلَيْهِمُ الْبَخْسُ وَالنَّقْصُ.

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا اللَّهُ صَانِعٌ بِهِمْ مِنْ إِحْلَالِ عُقُوبَتِهِ بِهِمْ مَثَلُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَقُولُ كَشَبَهِهِمْ.وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ عُنِيَ بِذَلِكَ بَنُو قَيْنُقَاعٍ.

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ:إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَثَّلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا هُوَ مُذِيقُهُمْ مِنْ نَكَالِهِ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِي رَسُولِهِ r،الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ بِسَخَطِهِ،وَأَمْرَ بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَوَقْعَةَ بَدْرٍ،كَانَا قَبْلَ جَلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ،وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدْ ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ،وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ بَعْضًا فِي تَمْثِيلِ هَؤُلَاءِ بِهِمْ دُونَ بَعْضٍ،وَكُلٌّ ذَائِقٌ وَبَالَ أَمْرِهِ،فَمَنْ قَرُبَتْ مُدَّتُهُ مِنْهُمْ قَبْلَهُمْ،فَهُمْ مُمَثَّلُونَ بِهِمْ فِيمَا عُنُوا بِهِ مِنَ الْمَثَلِ.

وَقَوْلُهُ:{ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [الحشر:15] يَقُولُ:نَالَهُمْ عِقَابُ اللَّهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ.

وَقَوْلُهُ:{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:10] يَقُولُ:وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا نَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ عَذَابٌ أَلِيمٌ،يَعْنِي:مُوجِعٌ.

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَعَدُوا الْيَهُودَ مِنَ النَّضِيرِ النُّصْرَةَ،إِنْ قُوتِلُوا،أَوِ الْخُرُوجَ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا،وَمَثَلُ النَّضِيرِ فِي غُرُورِهِمْ إِيَّاهُمْ بِإِخْلَافِهِمُ الْوَعْدِ،وَإِسْلَامِهِمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ،وَإِلَى نُصْرَتِهِمْ إِيَّاهُمْ،كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي غَرَّ إِنْسَانًا،وَوَعَدَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَكُفْرِهِ بِاللَّهِ،النُّصْرَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ،فَكَفَرَ بِاللَّهِ وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ،فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى نُصْرَتِهِ أَسْلَمَهُ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ،وَقَالَ لَهُ:إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي نُصْرَتِكَ.وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْإِنْسَانِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} [الحشر:16] هُوَ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ،أَمْ أُرِيدَ بِهِ الْمَثَلُ لِمَنْ فَعَلَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ بِهِ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ:عُنِيَ بِذَلِكَ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ....

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:فَكَانَ عُقْبَى أَمْرِ الشَّيْطَانِ وَالْإِنْسَانِ الَّذِي أَطَاعَهُ،فَكَفَرَ بِاللَّهِ أَنَّهُمَا خَالِدَانِ فِي النَّارِ مَاكِثَانِ فِيهَا أَبَدًا {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:29] يَقُولُ:وَذَلِكَ ثَوَابُ الْيَهُودِ مِنَ النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَعَدُوهُمُ النُّصْرَةَ،وَكُلِّ كَافِرٍ بِاللَّهِ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ مُخَلَّدُونَ.[256]

هذه الآيات فيها حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير،ثم لم يفوا به،وخذلوهم فيه،حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب.ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر حقيقة،وتمس قلبا،وتبعث انفعالا،وتقر مقوما من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق.

وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ».فأهل الكتاب هؤلاء كفروا.والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام! ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم:«لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً،وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» ..

والله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون،ويؤكد غير ما يؤكدون:«وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ،وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ،وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ.ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ».

وكان ما شهد به الله.وكذب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه! ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب:«لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ.ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ».

فهم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله.ولو خافوا الله ما خافوا أحدا من عباده.فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة.ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه.فالعزة لله جميعا،وكل قوى الكون خاضعة لأمره،«ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف الله؟ ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله ..«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..

وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة.ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة.ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب،تنشأ من حقيقتهم السابقة،ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله.

«لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ.بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ.تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..

وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في «تشخيص» حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان.بشكل واضح للعيان.ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة.فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين.فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان.حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء.

وسبحان العليم الخبير! وتبقى الملامح النفسية الأخرى «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» ..«تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم،وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان،والجنس والوطن والعشيرة ..

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم،ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض،كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد.ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم إنما هو مظهر خارجي خادع.وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع.فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور،وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد،قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء،وتصادم الاتجاهات.وما صدق المؤمنون مرة،وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلاف ات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال.وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار،وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة! إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب ..من المسلمين ..عندما تتفرق قلوب المسلمين،فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة.فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز،وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» ..«تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» ..

والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين،ليهون فيها من شأن أعدائهم ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم.فهو إيحاء قائم على حقيقة وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت.ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله،وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد،فلم تقف لهم قوة في الحياة.

والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم.فهذا نصف المعركة.والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع،وفي سياق التعقيب عليه،وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل،شرحا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه،ويتدبره كل من جاء بعدهم،وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة!

ولم يكن حادث بني النضير هو الأول من نوعه،فقد سبقه حادث بني قينقاع الذي تشير إليه الآية بعد ذلك غالبا:«كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..

ووقعة بني قينقاع كانت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد.وكان بينهم وبين رسول الله - r - عهد.فلما انتصر المسلمون على المشركين في بدر كره اليهود ذلك،وحقدوا على المسلمين أن ينالوا هذا الانتصار العظيم،وخافوا أن يؤثر هذا على موقفهم في المدينة فيضعف من مركزهم بقدر ما يقوي من مركز المسلمين.

وبلغ رسول الله - r - ما يتهامسون به وما يفكرون فيه من الشر،فذكرهم العهد وحذرهم مغبة هذا الاتجاه.فردوا ردا غليظا مغيظا فيه تهديد.قالوا:يا محمد.إنك لترى أنا قومك! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة.إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس! ثم أخذوا يتحرشون بالمسلمين قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:وَذَكَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ،عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاع َ أَنّ امْرَأَةً مِنْ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبٍ لَهَا،فَبَاعَتْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ،وَجَلَسَتْ إلَى صَائِغٍ بِهَا،فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا،فَأَبَتْ فَعَمِدَ الصّائِغُ إلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إلَى ظَهْرِهَا،فَلَمّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ سَوْأَتُهَا،فَضَحِكُوا بِهَا،فَصَاحَتْ.فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصّائِغِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ يَهُودِيّا،وَشَدّتْ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ،فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ فَوَقَعَ الشّرّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي قَيْنُقَاعَ.قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،قَالَ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - r - حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَقَامَ إلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ أَمْكَنَهُ اللهُ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَحْسِنْ فِي مَوَالِيّ وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ،قَالَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - r - فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَحْسِنْ فِي مُوَالِيّ قَالَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ.فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللهِ - r -.قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:وَكَانَ يُقَالُ لَهَا:ذَاتَ الْفُضُولِ.قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - r - أَرْسِلْنِي،وَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ - r - حَتّى رَأَوْا لِوَجْهِهِ ظُلَلًا،ثُمّ قَالَ وَيْحَك أَرْسِلْنِي،قَالَ لَا وَاَللهِ لَا أُرْسِلْك حَتّى تُحْسِنَ فِي مُوَالِيّ أَرْبَعَ مِئَةِ حَاسِرٍ وَثَلَاثُ مِئَةِ دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ إنّي وَاَللهِ امْرُؤٌ أَخْشَى الدّوَائِرَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - r - هُمْ لَك.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:وَحَدَّثَنِي أَبِي،عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ،عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ r،تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَقَامَ دُونَهُمْ،وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r،وَكَانَ مِنْ بَنِي عَوْفٍ لَهُ مِنْ حِلْفِهِ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r،وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ،وَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ،وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ.قَالَ:فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْقِصَّةُ مِنَ الْمَائِدَةِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] الْآيَاتِ،حَتَّى قَوْلِهِ:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ إِلَى قَوْلِهِ:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56][257]

ويضرب للمنافقين الذين أغروا إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بالمقاومة،فانتهوا بهم إلى تلك النهاية البائسة.يضرب لهم مثلا بحال دائمة.حال الشيطان مع الإنسان،الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير:«كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ:اكْفُرْ.فَلَمَّا كَفَرَ قالَ:إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها،وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» ..

وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان،تتفقان مع طبيعته ومهمته.فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان.وحاله هو هذا الحال! وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة.فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية،في مجال حي من الواقع ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن.فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر،ولا تستجيش القلوب للاستجابة.وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب،ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين! وبهذا المثل الموحي تنتهي قصة بني النضير.وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات.واتصلت أحداثها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة.وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير،تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته،وتفترق روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر بمقدار ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقاس!! [258]

وقال الخطيب :" قوله تعالى:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ..

مناسبة هذه الآية لما قبلها،هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لإيمان المؤمنين وولاء بعضهم لبعض،وإيثار بعضهم بعضا،فى مشهد ومغيب،وفى حاضر،وماض،وآت..إنهم جميعا أمة واحدة،وكيان واحد،يجمعه الإيمان،ويوحد بينه التوحيد- فجاءت هذه الآية وما بعدها لتكشف عن وجه أهل الضلال والنفاق،وعن الروابط الزائقة الواهية التي تربط بعضهم ببعض..

ففى قوله تعالى:«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» ..فضح لهذا العهد الكاذب الذي قطعه المنافقون،للذين كفروا من أهل الكتاب،وهم اليهود الذين ما زالوا فى المدينة كبنى قريظة،وبنى قينقاع،وبنى النضير الذي أجلاهم النبي عن المدينة،كما أشارت إلى ذلك الآيات فى أول السورة..

والمنافقون،هم جماعة عبد الله بن أبى بن سلول،ومن انضوى إليه من أهل الضلال..

وهؤلاء المنافقون،كانوا قد بعثوا إلى اليهود بعد جلاء بنى النضير ألّا يستسلموا أبدا للنبى،وألا يخرجوا من ديارهم،وأنهم،- أي المنافقين- يد واحدة معهم على النبي والمسلمين،وأنه إذا اضطر هؤلاء اليهود يوما إلى الخروج،خرج هؤلاء المنافقون معهم،وأبوا أن يسمعوا لقومهم إذا دعوهم إلى البقاء معهم..وهذا يعنى أنهم معهم أينما كانوا،فإذا كان خروج من المدينة خرجوا معهم منها،وإن كان قتال قاتلوا معهم.

وقدّم الإخراج على القتال،مع أن القتال هو الذي ينبغى أن يكون أولا،حتى إذا غلبوا على أمرهم أخرجوا- وذلك ليكشف عما فى عهد هؤلاء المنافقين من كذب ونفاق..فهم لو كانوا على ولاء حقا مع إخوانهم هؤلاء،لحرضوهم على القتال،ولقالوا لهم:ها نحن أولاء معكم بأسلحتنا إذا وقع بينكم وبين محمدا قتال..

ولكنهم جاءوا إليهم أولا بالأمر الذي لا يكلفهم شيئا أكثر من مجرد الكلام،وما أكثر الكلام،وما أرخصه فى سوق المنافقين!! فبذلوا لهم القول فى سخاء،وبلا حساب،قائلين:«لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً!!» ..ثم رأوا أن هذا القول الذي ألقوا به إلى أسماع إخوانهم الذين كفروا،هو مجرد كلمة عزاء،إذ ماذا يغنى القوم إن أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يخرج معهم المنافقون أو لا يخرجوا؟ وهنا يتنبه المنافقون حين نظروا فى وجه هذا الكلام الذي ألقوا به إلى القوم،وحين رأوا أن القوم لم يمسكوا بشىء منه،وأنهم قد أخرجوا من ديارهم،أو هم على طريق الإخراج من الديار..

حين رأى المنافقون ذلك ألقوا إليهم بهذه القولة الزائفة المنافقة أيضا:«وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ!» ..ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان،وبعد أن فضح كذبهم ونفاقهم بقولهم أول الأمر:«لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ» ..

ولهذا جاء قوله تعالى:«وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» تعقيبا على هذه الوعود الكاذبة التي يبذلها المنافقون لإخوانهم من بنى النضير..

وهو معطوف على محذوف تقديره إن هذا القول يشهد بكذب المنافقين وينادى عليهم بأنهم كاذبون،والله يصدق هذه الشهادة،ويشهد بأنهم لكاذبون..

وفى قوله تعالى:«يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» - إشارة إلى هذه الأخوة التي يجمعهم عليها هذا النسب،من الكفر،والضلال..

وهذه جملة حالية،تمثل الحال التي عليها هؤلاء المنافقون،وقد دعى النبي إلى النظر إليهم وهم على تلك الحال التي يقولون فيها لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ما يقولون..أي انظر إليهم وهم فى تلك الحال التي يقولون فيها هذا القول الكاذب المنافق..

وقوله تعالى:«لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» ..

هو بيان لما أشار إليه قوله تعالى:«وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ..

ومن كذبهم أنهم لن يكون منهم وفاء بهذا العهد الذي عاهدوا عليه القوم..

فلو أخرج حلفاؤهم ما خرجوا معهم،ولو قوتلوا ما قاتلوا إلى جانبهم ولو قاتلوا إلى جانبهم لما صبروا على القتال،ولما ثبتوا فى ميدان المعركة،لأنهم إنما يقاتلون بأجسامهم،لا بقلوبهم..فإذا اشتد البأس ولوا الأدبار،وكانت الدائرة عليهم وعلى حلفائهم..

وقد جاء هذا الخبر مؤكدا بالقسم من الله سبحانه وتعالى،وما يخبر به الله سبحانه،لا يحتاج فى الدلالة على صدقه،إلى توكيد،ولكن هذا الخبر يواجه المنافقين الذين لا يقدرون الله حق قدره،فكان توكيده إشارة إلى ما فى قلوبهم من مرض،وأن أخبار الله سبحانه تقع من نفوسهم موقع الشك والارتياب.

وهذه الآيات من أنباء الغيب،التي كشفت الأيام فيما بعد عن تأويلها على الوجه الذي أخبرت به،والتي سجل بها التاريخ معجزة ناطقة بأن هذا القرآن من لدن عليم خبير..

فلقد نزلت هذه الآيات عقب إجلاء بنى النضير،ولم يكن هناك ما يشير إلى أن شيئا ما سيحدث بين النبي وبين من بقي من اليهود فى المدينة،وأنه إن حدث شىء فلم يكن أحد يتصور الصورة التي سيكون عليها..

وقد قلنا إن فى قوله تعالى فى أول السورة:«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» - إرهاصا بأن هذا الحشر الذي بدىء به بإخراج بنى النضير،سيتبعه مثله من الحشر،لغيرهم من إخوانهم اليهود..

ولكن ما فى هذه الآيات لم يكن مجرد إرهاص،وإنما كان عرضا لأحداث تجرى،وإخبارا مسبّقه بما ستتمخض عنه هذه الأحداث من وقائع محددة،كأنها قد وقعت فعلا..

ففى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات،كان المنافقون- وعلى رأسهم عبد الله بن أبى بن سلول- قد مشوا إلى بنى قريظة وغيرهم من يهود المدينة،وأنذروهم بما يمكن أن يفعل بهم محمد،كما فعل ببني النضير،وأعطوهم هذا العهد بأنهم لن يقفوا معهم هذا الموقف الذي وقفوه من بنى النضير،والذي أخذوا فيه على غرّة،دون أن تكون هناك فسحة من الوقت،يدبرون فيها أمرهم،ويأخذون له العدة..

أما الآن،فإن فى الوقت متسعا،وإن عليهم جميعا أن يأخذوا حذرهم،وأن يستعدوا لما يمكن أن تأنى به الأيام بينهم وبين محمد..

ولقد جاءت الأيام بما ينطق بصدق آيات الله،وبما يخزى اليهود ويذلّهم ويفضح نفاق المنافقين وكذبهم.فلقد أخرج بنو قريظة وما خرج المنافقون معهم،وما قام أحد من هؤلاء المنافقين لينصرهم،وليدفع يد النبي والمسلمين عنهم،وقد قتل رجالهم،وسبى نساءهم وأطفالهم..

قوله تعالى:«لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» .

أي إنكم أيها المؤمنون أشد رهبة،وخشية فى صدور هؤلاء المنافقين،وإخوانهم اليهود- أشد رهبة وتخويفا لهم من الله..إنهم جميعا يخافونكم ويخشون بأسكم،ولا يخافون الله،ولا يخشون بأسه..وذلك لأنهم قوم لا يفقهون،أي فى غباء وجهل،ولو فقهوا لعلموا أن الله سبحانه هو أولى بأن يخاف منه،ويخشى من الاعتداء على حرماته..

إنهم لا يؤمنون بالله،ولا يعلمون ماله سبحانه من علم وقدرة،فهم لهذا،لا يستحضرون عظمة الله،ولا يشهدون وجوده،وإنما الذي يشهدونه هو الذي يرونه رأى العين،والذي تتمثل لهم شخوصه..فهم لهذا يخشون الناس،ولا يخشون الله!.

قوله تعالى:«لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..

هو بيان لقوله تعالى:«لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» ..أي أن هؤلاء اليهود لما ركبهم من جهل،قد نزلوا إلى مرتبة الحيوان الذي لا يخاف إلا اليد التي تمسك بالسوط يلهب ظهره..فهم لهذا أجين الناس،وأحرصهم على الحياة.لا يواجهون الأخطار،ولا يقدمون على لقاء عدوهم إلا مخالسة،وقد تحصنوا فى أجحارهم،واختفوا وراء الجدران،شأنهم فى هذا شأن الحيات التي تتحصن فى أجحارها،ترصد أعداءها من داخلها،فإذا رأت فرصة سانحة فى عدو لها أطلت برأسها،ثم نفثت فيه سمومها،وعادت سريعا تدفن نفسها فى جحرها..

والصورة تمثل حال اليهود فى كل زمان..

إنهم لا يقاتلون أبدا فى ميدان حرب،إلا إذا كانوا متحصنين فى حصون يضمنون معها ألا ينال العدوّ منهم شيئا..ولهذا قامت قراهم قديما وحديثا على نظام الحصون،بحيث إذا دهمهم عدوّ دخلوا هذه الحصون،واحتموا بها،وعاشوا فيها زمنا،بما جلبوا إليها من سلاح ومتاع..حتى ييئس العدوّ منهم،إذا طال الحصار،أو يجدوا سبيلا إلى إيقاع الفتنة فى صفوفه..فإن لم يكن هذا أو ذاك،كانت أمامهم فرصة لشراأ أنفسهم من عدوهم،بالمال أو بأى ثمن بطلبه منهم..

هكذا اليهود قديما وحديثا..ونحن نشهد اليوم فى حربهم معنا،أنهم لم يخرجوا للقتال إلا وقد اتخذوا من عدد الحرب حصونا تحميهم من القتل،وتدخل فى قلوبهم الطمأنينة إلى أنهم فى مأمن من أن ينال العدوّ منهم! ..

إنهم لا يحاربون،ولكن الأسلحة التي مكناهم الأمريكان منها،هى التي تحارب..

ولهذا جاء قوله تعالى:«لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» جامعا بين اليهود جميعا،فى كل زمان ومكان،على تلك الصفة التي وصفهم الله سبحانه بها،وأنهم لا يقاتلون إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر..كذلك كان سلفهم،وكذلك يكون خلفهم..

قوله تعالى:«بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» - إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم،وأنهم أشد الناس شراسة،وأقساهم قلبا،وأقدرهم على الفتك،حيث يقاتل بعضهم بعضا،ويفتك بعضهم ببعض..إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا،ويفتك بعضها ببعض،فهى أعلم بمواطن الضعف فى أبناء جنسها،وهى لهذا أشد جسارة،وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها..

وقوله تعالى:«تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» ..أي تبدو حال هؤلاء اليهود فى ظاهرها،أنهم جمع واحد،ويد واحدة..

هكذا هم فيما يضمهم من مكان..أما قلوبهم فهى أشتات موزعة،تذهب فى أودية مختلفة،كل قلب منها يذهب فى واد غير الذي يذهب فيه صاحبه..

وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه،وبهم بسلامتها قبل كل شىء..لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا..إنهم فى ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب،فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر..

وقوله تعالى:«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..أي لا عقل لهم،ولو عقلوا لعلموا أن السلامة فى اجتماعهم عند الخطر،وفى لقائهم له كيانا واحدا،وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا..فهم فى هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه،إنما يردون به موارد الهلكة جميعا..ولهذا جاء وصفهم هنا «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» على حين جاء وصفهم فى مقام خوفهم من الناس أشد من خوفهم من الله:«بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..

إذ كان العقل- مجرد العقل- كاف فى تقدير السلامة من الخطر،وأن السلامة رهن بالاجتماع لا بالتفرق،حتى إن بعض الحيوانات لتهتدى إلى هذا بغريزتها،فإذا واجهها خطر واجهته جبهة واحدة،لم يفر منها أحد..أما فى مقام الخشية لله،فإنها لا تكون عن عقل- مجرد عقل- بل لا بد من عقل،معه فقه وعلم..

قوله تعالى:«كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..

أي سيكون مثل هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وهم بنو قريظة- سيكون مثلهم مثل الذين من قبلهم قريبا،وهم بنو النضير الذين لم يمض زمن بعيد على ما وقع لهم،وأن بنى قريظة سيذوقون مثل ما ذاق بنو النضير من خزى وهوان،بل ولهم فوق هذا «عَذابٌ أَلِيمٌ» وهو القتل والسبي،اللذان نجا منهما بنو النضير الذين كان حكم الله فيهم هو الجلاء،كما يقول سبحانه.«وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» .

وفى قوله تعالى:«قريبا» إشارة إلى قرب الزمن بين إجلاء بنى النضير وبين ما سينزل ببني قريظة..وذلك أن ما حل ببني قريظة من قتل وسبى كان بعد غزوة الأحزاب،حيث إنه ما كاد الحصار الذي ضربه المشركون على المدينة حول الخندق- ما كاد هذا الحصار ينتهى،وينقلب المشركون مدحورين خائبين- حتى دعا النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أصحابه إلى حرب بنى قريظة،قائلا:«من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا ببني قريظة» ،الذين ما إن علموا بهذا حتى دخلوا فى حصونهم،وأغلقوها دون المسلمين،فحاصرهم النبي وأصحابه أياما،حتى رهقهم الحصار،وبعثوا إلى النبي يطلبون إليه أن يرضوه بما شاء منهم،فلم يقبل منهم إلا أن ينزلوا على حكمه أو حكم أحد أصحابه،فرضوا بأن ينزلوا على حكم «سعد بن معاذ الأنصاري» الذي كان حكمه فيهم أن يقتل كل قادر على حمل السلاح من ذكورهم،وأن يسبى النساء والأطفال..وأن تقسم الأموال..فأمضى الرسول هذا الحكم فيهم..

قوله تعالى:«كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» .

أي أن مثل المنافقين مع إخوانهم هؤلاء من اليهود،كمثل الشيطان،الذي يدعو الإنسان إلى الكفر،فيستجيب له،ويتقبل دعوته،ويأخذ بنصيحته،حتى إذا كفر هذا الإنسان،ولبس الكفر ظاهرا وباطنا،وأحاطت به خطيئته،وحلّت به النقمة- تركه الشيطان لمصيره،ونفض يديه منه،وتبرأ من الجناية التي جناها عليه،وتنكر له،بل ورماه بالجهل والغفلة،ليزيد فى آلامه وحسرته،وقال له:«إنى أخاف الله رب العالمين» ..وبهذا يريه أنه قد أضله،وخدعه،وصرفه عن الله،وعن الخوف منه،على حين أنه هو لم يصرف عن الله،وعن خشيته والخوف منه..!!

والسؤال هنا:ماذا يريد الشيطان بقوله:«إنى أخاف الله رب العالمين» ؟

وهل هو صادق فيما يقول؟ وإذا كان صادقا فكيف يتفق هذا مع دعوة غيره إلى الكفر بالله والمحادة لله؟

والجواب على هذا- والله أعلم- أن الشيطان يعلم ما لله سبحانه وتعالى من جلال وقدرة،وأنه على خوف من جلال الله وقدرته،ولكنه- وقد غلبت عليه شقوته،وأعماه حسده لأبناء آدم وعداوته لهم- ذهل عن هذا،فى سبيل الانتقام لنفسه،وما يحمل للإنسان من عداوة وحسد،لما كان من تكريم الله لآدم،وأمر الملائكة بالسجود له،واستعلاء إبليس واستكباره عن أن يكون من الساجدين،فلعنه الله وطرده من عالم الملائكة..فخرج بهذه اللعنة،وهو على عزيمة بأن ينتقم من آدم ومن ذريته،ولو كان فى ذلك هلاكه!! وكم من الناس من يعلم الحق ويأخذ نفسه بخلافه،ويعرف الطريق القويم،ويسلك المعوج؟.وهل كان موقف المشركين من النبي إلا عن حسد وكبر واستعلاء؟ إنهم كانوا يعرفون صدق النبي،ومع هذا فقد بهتوه،وكذبوه،وأبوا أن يقبلوا هذا النور الذي بين يديه،وآثروا أن يعيشوا بما هم فيه من عمى وضلال..وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .(33:الأنعام) وفى هذا التشبيه،يمثل المنافقون دور الشيطان،فهم يعرفون طريق الحق ويتجنبونه،وهم يزينون الشر لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب،ويدعونهم إلى المحادة لله ولرسوله،ويشدون ظهرهم فى كيدهم للنبى وخلافهم له..

حتى إذا وقعت الواقعة بهم،نظر إليهم هؤلاء المنافقون نظر الشيطان إلى صاحبه الذي استجاب له،وأروهم أنهم لا يستطيعون أن يخفّوا إلى نجدتهم،وأنهم يخافون النبي والمسلمين،كما يخاف الشيطان الله رب العالمين..وهنا نذكر قول الله للمؤمنين عن المنافقين:«لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» .

ففى هذا التشبيه ثلاثة أطراف..الشيطان،والإنسان الذي أضله الشيطان،والله،الذي يخافه الشيطان..

وفى مقابل هذه الأطراف:المنافقون،وإخوانهم اليهود،والنبي وأصحابه الذين يخافهم المنافقون..قوله تعالى:«فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» ..تلك هى عاقبة الشيطان وصاحبه..لقد هلك الشيطان،وهلك معه من استجاب له..وتلك هى عاقبة المنافقين،وإخوانهم من اليهود..إنهم جميعا إلى النار خالدين فيها..وذلك جزاء الظالمين..لا جزاء لهم إلا جهنم وبئس المصير.."[259]

وقال دروزة :" في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية:

1- فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا وبالخروج معهم إذا أخرجوا.فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به،وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولّوا الأدبار ولما انتصروا،وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثمّ يتخلّى عنه قائلا له إني بريء منك إني أخاف الله.وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.

2- ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب،وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قرارهم المحصنة أو من وراء جدرها وأسوارها.وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون.وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.

والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين.بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة،وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة،وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد.ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.

ولقد قلنا قبل إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم.ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي r في موقفه من اليهود فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبي ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود.وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشدّ مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.

أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [15] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر  .والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير قَبْلِهِمْ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود ولأن المشركين عادوا فكرّوا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد.ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.

وقد قال بعض المفسرين إن جملة لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى إنها في صدد اليهود والمنافقين معا .وقال بعضهم هي في صدد اليهود فقط .وهذا هو الأوجه فيما نرى ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط،فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.

وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [84- 85] من سورة البقرة وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض.ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم.ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.

والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخزوا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف.وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة.لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول."[260]

وأسلوب المنافقين واليهود في قتال المؤمنين أنهم لا يواجهون جيش الإسلام مواجهة،ولا يقاتلونهم مجتمعين،وإنما يقاتلونهم من وراء الحصون والقلاع،أو من خلف الأسوار التي يتسترون بها،لجبنهم ورهبتهم،وحربهم الدائرة بينهم شديدة،تظنهم جميعا متوحدين،وهم متفرقون،لما بينهم من أحقاد وعداوات،ولأنهم قوم لا يعقلون الحق وأمر الله.وبأسهم:أحقادهم وأضغانهم.

ولهم أشباه ونظائر،فهؤلاء اليهود والمنافقون أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر،في السنة الثانية من الهجرة،ومثل ما أصاب من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النبي r من المدينة إلى أذرعات بالشام،بعد سنة ونصف من الهجرة،إنهم ذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا،ولهم عذاب مؤلم جدا في الآخرة.ولهم مثل آخر،فإنهم مثل الشيطان الذي سول للإنسان الشر،وأغراه بالكفر وزينه له،وحمله عليه،فلما كفر مطاوعة للشيطان،تبرأ الشيطان منه،وقال على وجه التبري من الإنسان:إني أخاف عذاب الله رب العالمين إذا ناصرتك،أي ان مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير كمثل الشيطان والإنسان،فالمنافقون مثلهم الشيطان،وبنو النضير مثلهم الإنسان.

فكان عاقبة الفريقين:فريق المنافقين واليهود،وعاقبة الشيطان الآمر بالكفر والإنسان المستجيب لوسوسة الشيطان:أنهما صائران إلى نار جهنم،خالدان فيها على الدوام،وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا.[261]

 

_____________

 


المبحث السابع عشر

النهي عن اتخاذ أولياء من دون اللّه

 

قال تعالى:{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]

قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ الذِينَ تُنْذِرُهُمْ:اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ،فَهُوَ وَحْدَهُ الذِي لَهُ الحَقُّ فِي شَرْعِ الدِّينِ لَكُمْ،وَفَرْضِ العِبَادَاتِ عَلَيْكُمْ وَتَحْلِيلِ مَا يَنْفَعُكُمْ،وَتَحْرِيمِ مَا يَضُرُّكُمْ،لأَنَّهُ العَلِيمُ بِمَا فِيهِ الفَائِدَةُ أَوِ الضَّرَرُ لَكُمْ،وَلا تَتَّخِذُوا مِنَ النَّاسِ،أَوْ مِنَ الشَّيَاطِينِ الذِينَ يُوَسْوِسُونَ إِلَيْكُمْ،أَوْلِيَاءَ تُوَلُّونَهُمْ أُمُورَكُمْ،وَتُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَرُومُونَ مِنْكُمْ مِنْ ضَلاَلِ التَّقَالِيدِ،وَالابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ .وَقَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ هُمُ الذِينَ يَتَذَكَّرُونَ وَيَتَّعِظُونَ ( أَوْ قَلِيلاً مَا تَتَّعِظُونَ بِمَا تُوعَظُونَ بِهِ )[262].

وقال الطبري":قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ:اتَّبِعُوا أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى،وَاعْمَلُوا بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ،{وَلَا تَتَّبِعُوا} [البقرة:168] شَيْئًا {مِنْ دُونِهِ} [النساء:117] يَعْنِي:شَيْئًا غَيْرَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ رَبُّكُمْ،يَقُولُ:لَا تَتَّبِعُوا أَمْرَ أَوْلِيَائِكُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَكُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ،فَإِنَّهُمْ يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَهْدُونَكُمْ"[263]

خاطب الله العباد،وألفتهم إلى الكتاب فقال:{اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي:الكتاب الذي أريد إنزاله لأجلكم،وهو:{مِنْ رَبِّكُمْ} الذي يريد أن يتم تربيته لكم،فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي،إن اتبعتموه،كملت تربيتكم،وتمت عليكم النعمة،وهديتم لأحسن الأعمال والأخلاق ومعاليها {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي:تتولونهم،وتتبعون أهواءهم،وتتركون لأجلها الحق.{قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة،لما آثرتم الضار على النافع،والعدو على الوليِّ.[264]

هذه هي قضية هذا الدين الأساسية ..إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله،والاعتراف له بالربوبية،وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع،ويتبع أمرها ونهيها دون سواه ..وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك،وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة ..وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟! وفي الخطاب للرسول - r - كان الكتاب منزلا إليه بشخصه:«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» ..

وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلا إليهم من ربهم:«اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» ..فأما الرسول - r - فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر.وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه،ولا يتبعوا أمر أحد غيره ..والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة.فالذي ينزل له ربه كتابا،ويختاره لهذا الأمر،ويتفضل عليه بهذا الخير،جدير بأن يتذكر وأن يشكر وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر ..

ولأن المحاولة ضخمة ..وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية:تصوراتها وأفكارها،وقيمها وأخلاقها،وعاداتها وتقاليدها،ونظمها،وأوضاعها،واجتماعها واقتصادها،وروابطها بالله،وبالكون،وبالناس ..[265]

-------------

وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) } [العنكبوت]

ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِلْمُشرِكِينَ الذينَ اتَخَذُوا آلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللهِ،يَرْجُونَ نَفْعَهُمْ وَنَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ فَقَالَ:إِنَّ مَثَلَ عَمَلِ هؤُلاءِ المُشرِكِينَ،مَثَلُ العَنْكَبُوتِ التِي اتَّخَذَتْ بَيتاً تَحْتمي بهِ،مَعَ أَنَّ بيتَها هُوَ أَوْهَى البُيُوتِ،وأَضْعَفُها،وأَبْعَدُها عَن الصَّلاحِ لِتَأْمِين الحِمَايَةِ،وَلَوْ علِمَ المُشْرِكُونَ حَقيقَةَ حَالِهِمْ لَمَا اتَّخَذَوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْلِياءَ لا يُغْنُونُ عنهُمْ شَيئاً،لكِنَّ الجَهْلَ بَلَغَ مِنْ هؤُلاءِ حَداً لا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ التَّميِيزَ بينَ الخَيرِ والشَّرِّ .

واللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَالَ مَا يَعْبُدُهُ هؤُلاءِ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ والأَوثَانِ والأًَندَادِ،وَيَعلَمُ أَنَّ عِبَادَتَها لا تَنْفَعُهُمْ شَيئاً وَلا تَضُرُّهُمْ إِنْ أَرادَ اللهُ بهِمْ نَفْعاً أَوْ ضَرّاً،وَمَثَلُها في قِلَّةِ نَفْعِها كَمَثَلِ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ في ضَعْفِهِ،وَقِلَّةِ نَفْعِهِ.واللهُ تَعالى هُوَ العَزيزُ في انتِقَامِهِ ممَّنْ كَفَرَ،وَهُوَ الحَكِيمُ في شَرعِهِ،وَتَدِبيرِهِ أُمُورَ خَلْقِهِ .[266]

" مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ يَرْجُونَ نَصْرَهَا وَنَفْعَهَا عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا فِي ضَعْفِ احْتِيَالِهِمْ،وَقُبْحِ رِوَايَاتِهِمْ،وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ،كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهَا،وَقِلَّةِ احْتِيَالِهَا لِنَفْسِهَا،اتَّخَذَتْ بَيْتًا لِنَفْسِهَا،كَيْمَا يُكِنَّهَا،فَلَمْ يُغْنِ عَنْهَا شَيْئًا عِنْدَ حَاجَتِهَا إِلَيْهِ،فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ أَمْرُ اللَّهِ،وَحَلَّ بِهِمْ سَخَطُهُ أَوْلِيَاؤُهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا،وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ سَخَطِهِ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ."[267]

هذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره،يقصد به التعزز والتَّقَوِّي والنفع،وأن الأمر بخلاف مقصوده،فإن مثله كمثل العنكبوت،اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد والآفات،{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} أضعفها وأوهاها {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة،وبيتها من أضعف البيوت،فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا،كذلك هؤلاء الذين يتخذون من دونه أولياء،فقراء عاجزون من جميع الوجوه،وحين اتخذوا الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم،ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم،ووهنا إلى وهنهم.

فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم،وألقوها عليهم،وتخلوا هم عنها،على أن أولئك سيقومون بها،فخذلوهم،فلم يحصلوا منهم على طائل،ولا أنالوهم من معونتهم أقل نائل.

فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم،حالهم وحال من اتخذوهم،لم يتخذوهم،ولتبرأوا منهم،ولتولوا الرب القادر الرحيم،الذي إذا تولاه عبده وتوكل عليه،كفاه مئونة دينه ودنياه،وازداد قوة إلى قوته،في قلبه وفي بدنه وحاله وأعماله.

ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين،ارتقى من هذا إلى ما هو أبلغ منه،وأنها ليست بشيء،بل هي مجرد أسماء سموها،وظنون اعتقدوها،وعند التحقيق،يتبين للعاقل بطلانها وعدمها،ولهذا قال:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي:إنه تعالى يعلم -وهو عالم الغيب والشهادة- أنهم ما يدعون من دون الله شيئا موجودا،ولا إلها له حقيقة،كقوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وقوله:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وإن هم إلا يخرصون}

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم} الذي له القوة جميعا،التي قهر بها جميع المخلوقات،{الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها،الذي أحسن كل شيء خلقه،وأتقن ما أمره.

{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي:لأجلهم ولانتفاعهم وتعليمهم،لكونها من الطرق الموضحة للعلوم،ولأنها تقرب الأمور المعقولة بالأمور المحسوسة،فيتضح المعنى المطلوب بسببها،فهي مصلحة لعموم الناس.

{و} لكن {مَا يَعْقِلُهَا} بفهمها وتدبرها،وتطبيقها على ما ضربت له،وعقلها في القلب {إِلا الْعَالِمُونَ} أي:أهل العلم الحقيقي،الذين وصل العلم إلى قلوبهم.وهذا مدح للأمثال التي يضربها،وحثٌّ على تدبرها وتعقلها،ومدح لمن يعقلها،وأنه عنوان على أنه من أهل العلم،فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين.

والسبب في ذلك،أن الأمثال التي يضربها الله في القرآن،إنما هي للأمور الكبار،والمطالب العالية،والمسائل الجليلة،فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها،لاعتناء الله بها،وحثه عباده على تعقلها وتدبرها،فيبذلون جهدهم في معرفتها.وأما من لم يعقلها،مع أهميتها،فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم،لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة،فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى.ولهذا،أكثر ما يضرب الله الأمثال في أصول الدين ونحوها.[268]

إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود.الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا،فيسوء تقديرهم لجميع القيم،ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات،وتختل في أيديهم جميع الموازين.ولا يعرفون إلى أين يتوجهون.ماذا يأخذون وماذا يدعون؟

وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض،فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم،ويخشونها ويفزعون منها،ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها،أو يضمنوا لأنفسهم حماها! وتخدعهم قوة المال،يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة.ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون! وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال،وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول،ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب! وتخدعهم هذه القوى الظاهرة.تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول،فيدورون حولها،ويتهافتون عليها،كما يدور الفراش على المصباح،وكما يتهافت الفراش على النار! وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة،وتملكها،وتمنحها،وتوجهها،وتسخرها كما تريد،حيثما تريد.

وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد،أو الجماعات،أو الدول ..كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت ..حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من من تكوينها الرخو،ولا وقاية لها من بيتها الواهن.وليس هنالك إلا حماية الله،وإلا حماه،وإلا ركنه القوي الركين.

هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة،فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون.

لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس،وعمرت كل قلب،واختلطت بالدم،وجرت معه في العروق،ولم تعد كلمة تقال باللسان،ولا قضية تحتاج إلى جدل.بل بديهة مستقرة في النفس،لا يجول غيرها في حس ولا خيال.قوة الله وحدها هي القوة.وولاية الله وحدها هي الولاية.وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال،ومهما تجبر وطغى،ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل.إنها العنكبوت:وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت:«وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».

وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى،وللإغراء والإغواء.لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة،وهم يواجهون القوى المختلفة.هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم.وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم ..وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله،وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة،وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير.

«إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» ..إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء.وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق ..عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت! «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود.[269]

-------------

وقال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) } [الزمر]

هَذَا الكِتَابُ العَظِيمُ ( أَيْ القُرْآنُ ) مَنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ،المَنِيعِ الجَانِبِ ( العَزِيزِ )،الحَكِيمِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَأَفْعَالِهِ،فَهُوَ الحَقُّ الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ مِرْيَةَ .

إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي أَنْزَلَ إِلَيْكَ القُرْآنَ ( الكِتَابَ ) آمِراً بِالحَقِّ وَالعَدْلِ الوَاجِبِ اتِّبَاعُهُمَا،والعَمَلُ بِهِمَا،فَاعْبُدْهُ يَا مُحَمَّدُ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ والعِبَادَةَ،وَادْعُ الخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ .

أَلاَ للهِ وَحْدَهُ العِبَادَةُ والطَّاعَةُ،وَلاَ شَرِكَةَ لأَحَدٍ مَعَهُ فِيهِمَا،لأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ هُوَ مُلْكٌ لَهُ،وَعَلَى المَمْلُوكِ طَاعَةُ مَالِكِهِ،وَعَلَى العَبْدِ أَنْ يُخْلِصَ العِبَادَةَ للهِ،والذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ مِنَ المُشرِكِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا هُوَ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَصْنَامِ المَلاَئِكَةَ،فَعَبَدُوا تِلْكَ الصُّورَ تُنْزِيلاً لَهَا مَنْزِلَةَ المَلاَئِكَةِ،لِيَشْفُعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي حَاجَاتِهِمْ .

وَكَانَ المُشْرِكُونَ يُبَرِّرُونَ عِبَادَتَهُمْ لِمَنْ هُمْ دُونَ اللهِ بِأَنَّ الإِلَهَ الأَعْظَمَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ البَشَرُ مُبَاشَرَةً،فَهُمْ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الآلِهَةَ،وَهِيَ تَعْبُدُ الإِلَهَ الأَعْظَمَ.واللهُ تَعَالَى يَحْكُمُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ،مُتَّبِعِي الحَقِّ وَسُبُلِ الهُدَى،فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ،وَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ .

وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُرْشِدُ إِلَى الحَقِّ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ،فَيْزْعُمُ أَنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ صَاحِبَةً.تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً .

لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَكَانَ الأَمْرُ عَلَى خِلاَفِ مَا يَزْعُمُونَ،وَلَمَا رَضِيَ إِلاَ بِأَكْمَلِ الأَبْنَاءِ،فَكَيْفَ نَسَبَ هَؤُلاَءِ الجَهَلَةُ المُشْرِكُونَ إِلَيْهِ البَنَاتِ؟ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً،وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ،سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوّاً كَبِيراً عَمَّا يَقُولُونَ وَيَأْفِكُونَ،وَعَمَّا يَنْسُبُونَ إِلَيهِ فَهُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ،الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ،فَدَانَتْ لَهُ الخَلاَئِقُ وَذَلَّتْ .[270]

يخبر تعالى عن عظمة القرآن،وجلالة من تكلم به ونزل منه،وأنه نزل من الله العزيز الحكيم،أي:الذي وصفه الألوهية للخلق،وذلك لعظمته وكماله،والعزة التي قهر بها كل مخلوق،وذل له كل شيء،والحكمة في خلقه وأمره.

فالقرآن نازل ممن هذا وصفه،والكلام وصف للمتكلم،والوصف يتبع الموصوف،فكما أن الله تعالى هو الكامل من كل وجه،الذي لا مثيل له،فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له،فهذا وحده كاف في وصف القرآن،دال على مرتبته.

ولكنه - مع هذا - زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه،وهو محمد r،الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب،وبما نزل به،وهو الحق،فنزل بالحق الذي لا مرية فيه،لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور،ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة،وأحكامه العادلة،فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق،من جميع المطالب العلمية،وما بعد الحق إلا الضلال.

ولما كان نازلا من الحق،مشتملا على الحق لهداية الخلق،على أشرف الخلق،عظمت فيه النعمة،وجلَّت،ووجب القيام بشكرها،وذلك بإخلاص الدين لله،فلهذا قال:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي:أخلص لله تعالى جميع دينك،من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة:الإسلام والإيمان والإحسان،بأن تفرد الله وحده بها،وتقصد به وجهه،لا غير ذلك من المقاصد.

{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} هذا تقرير للأمر بالإخلاص،وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله،وله التفضل على عباده من جميع الوجوه،فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب،فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه،وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به،لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه،وللإنابة إليه في عبوديته،والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.

وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها،دون الشرك به في شيء من العبادة.فإن الله بريء منه،وليس لله فيه شيء،فهو أغنى الشركاء عن الشرك،وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة،مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء،فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص،نهى عن الشرك به،وأخبر بذم من أشرك به فقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي:يتولونهم بعبادتهم ودعائهم،[معتذرين] عن أنفسهم وقائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي:لترفع حوائجنا لله،وتشفع لنا عنده،وإلا فنحن نعلم أنها،لا تخلق،ولا ترزق،ولا تملك من الأمر شيئا.أي:فهؤلاء،قد تركوا ما أمر الله به من الإخلاص،وتجرأوا على أعظم المحرمات،وهو الشرك،وقاسوا الذي ليس كمثله شيء،الملك العظيم،بالملوك،وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم،أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء،وشفعاء،ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم،ويستعطفونهم عليهم،ويمهدون لهم الأمر في ذلك،أن الله تعالى كذلك.

وهذا القياس من أفسد الأقيسة،وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق،مع ثبوت الفرق العظيم،عقلا ونقلا وفطرة،فإن الملوك،إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم،لأنهم لا يعلمون أحوالهم.فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم،وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة،فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء،ويخافون منهم،فيقضون حوائج من توسطوا لهم،مراعاة لهم،ومداراة لخواطرهم،وهم أيضا فقراء،قد يمنعون لما يخشون من الفقر.

وأما الرب تعالى،فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها،الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده،وهو تعالى أرحم الراحمين،وأجود الأجودين،لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده،بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم،وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته،وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم،وهو الغني،الذي له الغنى التام المطلق،الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه،فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى،لم ينقصوا من غناه شيئا،ولم ينقصوا مما عنده،إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط.

وجميع الشفعاء يخافونه،فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه،وله الشفاعة كلها.

فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به،وسفههم العظيم،وشدة جراءتهم عليه.

ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك لا يغفره الله تعالى،لأنه يتضمن القدح في الله تعالى،ولهذا قال حاكما بين الفريقين،المخلصين والمشركين،وفي ضمنه التهديد للمشركين-:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم،ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة،ومأواه النار.{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي} أي:لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي:وصفه الكذب أو الكفر،بحيث تأتيه المواعظ والآيات،ولا يزول عنه ما اتصف به،ويريه الله الآيات،فيجحدها ويكفر بها ويكذب،فهذا أنَّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب،وعوقب بأن طبع الله على قلبه،فهو لا يؤمن؟ "[271]

إن أساس الحق الذي أنزل به الكتاب،هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود.وفي الآية الخامسة من السورة يجيء:«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ».فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض،وأنزل به هذا الكتاب.الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض والذي ينطق به هذا الكتاب.الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود ..«فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ».

والخطاب لرسول الله - r - الذي أنزل إليه الكتاب بالحق.وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة ..عبادة الله وحده،وإخلاص الدين له،وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.وتوحيد الله وإخلاص الدين له،ليس كلمة تقال باللسان إنما هو منهاج حياة كامل.يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة.

والقلب الذي يوحد الله،يدين لله وحده،ولا يحني هامته لأحد سواه،ولا يطلب شيئا من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه.فالله وحده هو القوي عنده،وهو القاهر فوق عباده.والعباد كلهم ضعاف مهازيل،لا يملكون له نفعا ولا ضرا فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم.وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.والله وحده هو المانح المانع،فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء.

والقلب الذي يوحد الله،يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد،لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه.ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم،ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة.

والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ويحس يد الله في كل ما حوله،فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه.ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد،أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله.خالق كل شيء،ومحيي كل حي.ربه ورب كل شيء وكل حي ..

وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر،كما تبدو في السلوك والتصرفات.وترسم للحياة كلها منهاجا كاملا واضحا متميزا.ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان.ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله:وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد،في كل عصر،وفي كل بيئة.فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك.

«أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» ..يعلنها هكذا ملوية عالية في ذلك التعبير المجلجل.بأداة الافتتاح «أَلا» وفي أسلوب القصر «لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ».فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة ..فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها.بل التي يقوم عليها الوجود كله.ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الجازم الحاسم:«أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» ..

ثم يعالج الأسطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد.«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ» ..فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض ..ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة،وفي إخلاص الدين لله بلا شريك.إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه.ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها.ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة - وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة - ليست عبادة لها في ذاتها إنما هي زلفى وقربى لله.كي تشفع لهم عنده،وتقربهم منه!

وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها،إلى هذا التعقيد والتخريف.فلا الملائكة بنات الله.ولا الأصنام تماثيل للملائكة.ولا الله - سبحانه - يرضى بهذا الانحراف.ولا هو يقبل فيهم شفاعة.ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق! وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول.وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة - أو تماثيل الملائكة - تقربا إلى الله - بزعمهم - وطلبا لشفاعتهم عنده.وهو سبحانه يحدد الطريق إليه.طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب!

«إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ» ..فهم يكذبون على الله.يكذبون عليه بنسبة بنوة الملائكة إليه ويكذبون عليه بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده! وهم يكفرون بهذه العبادة ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح.والله لا يهدي من يكذب عليه،ويكفر به.فالهداية جزاء على التوجه والإخلاص والتحرج،والرغبة في الهدى،وتحري الطريق.فأما الذين يكذبون ويكفرون فهم لا يستحقون هداية الله ورعايته.وهم يختارون لأنفسهم البعد عن طريقه.

ثم يكشف عن سخف ذلك التصور وتهافته:«لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.سُبْحانَهُ! هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ».وهو فرض جدلي لتصحيح التصور.فالله لو أراد أن يتخذ ولدا لاختار ما يشاء من بين خلقه فإرادته مطلقة غير مفيده.ولكنه - سبحانه - نزه نفسه عن اتخاذ الولد.فليس لأحد أن ينسب إليه ولدا،وهذه إرادته،وهذه مشيئته،وهذا تقديره وهذا تنزيهه لذاته عن الولد والشريك:«سُبْحانَهُ! هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ..وما اتخاذه الولد؟ وهو مبدع كل شيء وخالق كل شيء،ومدبر كل شيء؟[272]

--------------

وقال تعالى:{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)} [الشورى:1 - 9]

يُوحِي إِلَيكَ اللهُ تَعَالَى،العَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ،القَاهِرُ فوْقَ عِبَادِهِ،الحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ،بِمِثْلِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الصَّالِحِ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى،كَمَا أَوْحَى اللهُ إِلَى مَنْ قَبْلكَ مِنَ الرُّسُلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ .

اللهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ،وَجِمِيعُ مَنْ فِيهِنَّ عَبِيدٌ لَهُ،وَهُمْ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ،وَهُوَ المُتَعَالِي فَوْقَ كُلِّ مَا فِي الوُجُودِ،العَظِيمُ الذِي لاَ يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ .

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَشَقَّقْنَ ( يَتَفْطَّرْنَ ) مِنْ هَيْبَةِ اللهِ الذِي هُوَ فَوْقَهُنَّ بِالأُلُوهِيَّةِ والخَلْقِ والعَظَمَةِ،وَالمَلاَئِكَةُ يُنَزِّهُونَ رَبَّهُمْ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ ( يُسْبِّحُونَ )،وَيَصِفُونَهُ بِصِفَاتِ الكَمَالِ والجَلاَلِ،وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى نِعَمِهِ.وَأَفْضَالِهِ،وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ المَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الأَرْضِ.وَهُوَ تَعَالَى كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِعِبَادِهِ المُذْنِبِينَ،عَظيمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ .

وَالْمُشْرِكُونَ الذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَصْنَاماً آلِهَةً،يَتَوَلَّوْنَهَا وَيَعْبُدُونَهَا،اللهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَعْمَالِهِمْ،وَشَاهِدٌ عَلَيْهَا يُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ،وَيَعُدُّهَا عَدّاً،وَسَيجْزِيهِم الجَزَاءَ الأَوْفَى عَلَى أَعْمَالِهِمْ،وَلَسْتَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مَسْؤُولاً عَنْهُمْ،وَلاَ وَكِيلاً عَلَيْهِمْ،فَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ .

وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ،وَأَرْسَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْتَطِيعَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى اللهِ بِلُغَتِهِمْ وَلِسَانِهِمْ،وَلِيَفْهَمُوا مِنْهُ مَعَانِي مَا يُرِيدُ إِبْلاَغَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ،كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً وَاضِحاً جَلِيّاً مُنَزَّلاً بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ،لُغَةِ قَوْمِكَ لِتُنْذِرَ أَهْلَ مَكَةَ ( أُمَّ القُرَى )،وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ،وَتُحَذِّرَهُمْ عِقَابَ اللهِ،يَوْمَ القِيَامَةِ،يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ،وَهُوَ يَوْمٌ وَاقِعٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ رَيْبَ،فَيجْزِي الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الإِثْمِ والسَّيِّئَاتِ،وَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ،فَيُقْذَفُونَ فِيهَا قَذْفاً،وَيَجْزِي المُحْسِنِينَ بِالجَنَّةِ .

وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجََعَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أُمَّةً وَاحِدَةً،لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ،وَلَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى أَوْ عَلَى الضَّلاَلَةِ،وَلَكِنَّهُ تَعَالَى فَاوَتَ بَيْنَهُمْ فَهَدَى مَنْ يَشَاءُ إِلَى الحَقِّ،وَأَضَلَّ مَنْ شَاءَ عَنْهُ،وَلَهُ الحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ.فَقَدْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ الإِيْمَانُ مَبْنياً عَلَى التَّكْلِيفِ وَالاخْتِيَارِ،يَدْخُلُ فِيهِ المَرْءُ بِطَوْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ،وَنَتِيجَةِ تَأَمُّلِهِ فِي الأَدِلَّةِ المُوصِلَةِ إِلَى الهُدَى،وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِلْكَافِرِينَ،الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ،عَذَاباً أَلِيماً،وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ،أَوْ يُجِيرُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ،فَلاَ تُهْلِكْ نَفْسَكَ يَا مُحَمَّدُ أَسًى وَحُزْناً عَلَى أَنْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ .

يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ سُبْحَانَهُ،فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ:إِنَّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ اتَّخَذُو لَهُمْ أَصْنَاماً آلِهَةً يَسْتَنْصِرُونَ بِهَا،وَيَسْتَعِزُّونَ وَيَتَوَلّونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ،وَلَكِنَّ هَذِهِ الأَصْنَام لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا،وَلاَ لِعَابِدِيهَا،نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً،فَإِذَا كَانُوا يرِيدُونَ وَلِيّاً يَنْفَعُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عِنْدَ الخُطُوبِ والشَّدَائِدِ،فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الوَلِيُّ الحَقُّ الذِي لاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ وَحْدَهُ،فَإِنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ المَوْتَى،وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ .[273]

يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم،كما أوحى إلى من قبله من الأنبياء والمرسلين،ففيه بيان فضله،بإنزال الكتب،وإرسال الرسل،سابقا ولاحقا،وأن محمدا r ليس ببدع من الرسل،وأن طريقته طريقة من قبله،وأحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين.وما جاء به يشابه ما جاءوا به،لأن الجميع حق وصدق،وهو تنزيل من اتصف بالألوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة،وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي.وأنه {الْعَلِيُّ} بذاته وقدره وقهره.{الْعَظِيمُ} الذي من عظمته {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} على عظمها وكونها جمادا،{وَالْمَلائِكَةُ} الكرام المقربون خاضعون لعظمته،مستكينون لعزته،مذعنون بربوبيته.{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} ويعظمونه عن كل نقص،ويصفونه بكل كمال،{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ} عما يصدر منهم،مما لا يليق بعظمة ربهم وكبريائه،مع أنه تعالى هو {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي لولا مغفرته ورحمته،لعاجل الخلق بالعقوبة المستأصلة.

وفي وصفه تعالى بهذه الأوصاف،بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموما،وإلى محمد - صلى الله عليهم أجمعين- خصوصا،إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم،فيه من الأدلة والبراهين،والآيات الدالة على كمال الباري تعالى،ووصفه بهذه الأسماء العظيمة الموجبة لامتلاء القلوب من معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلاله وإكرامه،وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له تعالى،وأن من أكبر الظلم وأفحش القول،اتخاذ أنداد لله من دونه،ليس بيدهم نفع ولا ضرر،بل هم مخلوقون مفتقرون إلى الله في جميع أحوالهم،ولهذا عقبه بقوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}يتولونهم بالعبادة والطاعة،كما يعبدون الله ويطيعونه،فإنما اتخذوا الباطل،وليسوا بأولياء على الحقيقة.{اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} يحفظ عليهم أعمالهم،فيجازيهم بخيرها وشرها.{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} فتسأل عن أعمالهم،وإنما أنت مبلغ أديت وظيفتك.

ثم ذكر منته على رسوله وعلى الناس،حيث أنزل الله {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بين الألفاظ والمعاني {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وهي مكة المكرمة {وَمَنْ حَوْلَهَا} من قرى العرب،ثم يسري هذا الإنذار إلى سائر الخلق.{وَتُنْذِرَ} الناس {يَوْمَ الْجَمْعِ} الذي يجمع الله به الأولين والآخرين،وتخبرهم أنه {لا رَيْبَ فِيهِ} وأن الخلق ينقسمون فيه فريقين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} وهم الذين آمنوا بالله،وصدقوا المرسلين،{وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وهم أصناف الكفرة المكذبين.{و} مع هذا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} لجعل الناس،أي:جعل الناس {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الهدى،لأنه القادر الذي لا يمتنع عليه شيء،ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من شاء من خواص خلقه.

وأما الظالمون الذين لا يصلحون لصالح،فإنهم محرومون من الرحمة،فـ {مَا لَهُمْ} من دون الله {مِنْ وَلِيٍّ} يتولاهم،فيحصل لهم المحبوب {وَلا نَصِيرٍ} يدفع عنهم المكروه.

والذين {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يتولونهم بعبادتهم إياهم،فقد غلطوا أقبح غلط.فالله هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته،والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات،ويتولى عباده عموما بتدبيره،ونفوذ القدر فيهم،ويتولى عباده المؤمنين خصوصا،بإخراجهم من الظلمات إلى النور،وتربيتهم بلطفه،وإعانتهم في جميع أمورهم.{وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي:هو المتصرف بالإحياء والإماتة،ونفوذ المشيئة والقدرة،فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له.[274]

وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها،ومن وراء الظروف ومقتضياتها،وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه،وأنتجت فيه نتاجها ..حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفا من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض،في ذلك الوقت من الزمان،لتكون مقر الرسالة الأخيرة،التي جاءت للبشرية جميعا.والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى.

كانت الأرض المعمورة - عند مولد هذه الرسالة الأخيرة - تكاد تتقسمها امبراطوريات أربع:الامبراطورية الرومانية في أوربا وطرف من آسيا وإفريقية.والامبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية.والامبراطورية الهندية.ثم الامبراطورية الصينية.وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرها وهذه العزلة كانت تجعل الامبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها.

وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام - اليهودية والنصرانية - قد انتهتا إلى أن تقعا - في صورة من الصور - تحت نفوذ هاتين الامبراطوريتين،حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة،ولا تسيطران على الدولة! فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد.

ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة،ولاضطهاد الفرس تارة،ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال وانتهت - بسبب عوامل شتى - إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل،لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى.

وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية.التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا وهي تتخفى من مطاردة الامبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهادا فظيعا،تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة.فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني،ودخل الامبراطور الروماني في المسيحية،دخلت معه أساطير الرومان الوثنية،ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى.

كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيرا بالديانة وظلت هي المهيمنة،ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا.وذلك كله فضلا على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل - فيما بينها - مزق الكنيسة،وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقا.وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة.وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء! وفي هذا الوقت جاء الإسلام.جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور.وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور.

ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر.فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لامبراطورية من تلك الامبراطوريات وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله.وكانت الجزيرة العربية،وأم القرى وما حولها بالذات،هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ،وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى.لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة.تقف للعقيدة الجديدة.بسلطانها المنظم،وتخضع لها الجماهير خضوعا دقيقا،كما هو الحال في الامبراطوريات الأربع.

ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة،ومعتقداتها وعباداتها شتى.وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام.ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة،فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد.ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام.فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب.

وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني،أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد،متحررا من كل سلطان عليه في نشأته،خارج عن طبيعته.وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة.

كان النظام القبلي هو السائد.وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام.فلما قام محمد - r - بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له ووجد من التوازن القبلي فرصة،لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد - r - وهم على غير دينه.بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة،وتدع تأديبه - أو تعذيبه - لأهله أنفسهم.

والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم.ومن ثم كان أبو بكر - رضي الله عنه - يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم،فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء،وتمتنع فتنتهم عن دينهم ..ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد.

ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة.وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها.

وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف امبراطوريتي كسرى وقيصر.وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال.المذكورتان في القرآن في قوله تعالى:«لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ.فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ،الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» ..

وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة.فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله،ووجه هذه الطاقة المختزنة،التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح ففتحها الله بمفتاح الإسلام.وجعلها رصيدا له وذخرا.ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول - r - من أمثال:أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.وحمزة والعباس وأبي عبيدة.وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ،وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام فتفتحت له،وحملته،وكبرت به من غير شك وصلحت ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام.

وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة،وصيانة نشأتها،وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها،مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة،التي جاءت للبشرية جميعها.وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة - r - فذلك أمر يطول.ومكانه رسالة خاصة مستقلة.وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة،التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة.وهكذا جاء هذا القرآن عربيا لينذر أم القرى ومن حولها.فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام،وخلصت كلها للإسلام،حملت الراية وشرقت بها وغربت وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها،للبشرية جميعها - كما هي طبيعة هذه الرسالة - وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها.

وليس من المصادفات أن يعيش الرسول - r - حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم.كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا.فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها،وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض.

ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولا،وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانيا ..وقد كانت اللغة،كأصحابها،كبيئتها،أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم.

وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة،حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله:«اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» ..

«لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها،وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ،فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ..

وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكرارا في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع.يوم الحشر.يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة،ليفرقهم من جديد:«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ».بحسب عملهم في دار العمل،في هذه الأرض،في فترة الحياة الدنيا.

«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً.وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ،وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم،فتوحد مصيرهم،إما إلى جنة وإما إلى نار.ولكنه - سبحانه - خلق هذا الإنسان لوظيفة.خلقه للخلافة في هذه الأرض.وجعل من مقتضيات هذه الخلافة،على النحو الذي أرادها،أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه،تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين،وعن غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه.استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السيّء كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك:«فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ..وهكذا:«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك،واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال.

ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء.فهو يقرر هنا أن الظالمين:«ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود.ثم يعود فيسأل في استنكار:«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ؟ » ..ليقرر بعد هذا الاستنكار أن الله وحده هو الولي،وأنه هو القادر تتجلى قدرته في إحياء الموتى.العمل الذي تظهر فيه القدرة المفردة بأجلى مظاهرها:«فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ،وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى» ..

ثم يعمم مجال القدرة ويبرز حقيقتها الشاملة لكل شيء والتي لا تنحصر في حدود:«وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..[275]

------------

وقال تعالى:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)} [الشورى]

يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَلاَ رَادَّ لأَمْرِهِ،وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ مِنْ دُونِهِ.ثُمَّ يُخْبِرُ الله تَعَالَى الكَافِرِينَ،الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ،أَنَّهُمْ حِينَمَا يَرونَ العَذَابَ يَومَ القِيَامَةِ،يَتَمَنَّونَ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا صَالِحاً غَيْرَ الذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ،وَلِيُؤْمِنُوا وَيُطِيعُوا الرَّسُولَ،وَيَقُولُونَ:هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى الرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا لِنَعْمَلَ صَالِحاً غَيرَ الذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟

وَيُعْرَضُ هَؤُلاَءِ الكَفَرَةُ المُشْرِكُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى النَّارِ وَهُمْ خَاشِعُونَ مِنَ الذُّلِّ الذِي اعْتَرَاهُمْ لِمَا عَرَفُوهُ مِنْ عِظَمِ ذُنُوبِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا،وَيَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ مِنْ طَرفٍ خَفِيٍّ وَهُمْ يَدْرِكُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيهَا لاَ مَحَالَةَ.وَيَقُولُ المُؤْمِنُونَ فِي ذَلِكَ اليَومِ العَصِيبِ:إِنَّ الخَاسِرِينَ أَعْظَمَ الخَسَارَةِ هُمْ الذِينَ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ فَيُنْسِيهِمُ العَذَابُ فِيهَا لَذَائِذَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا،وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ فَيَخْسَرُونَهُمْ.أَلاَ إِنَّ الكَافِرِينَ لَفِي عَذَابٍ دَائِمٍ لاَ يَفْتُرُ وَلاَ يَتَوَّقَفُ وَلاَ يَنْقَطِعُ .

وَلاَ يَجْدُ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ،الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهمْ،مَنْ يَنْصُرُهُمْ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الذِي نَزَلَ بِهِمْ.وَمَنْ يُضْلِلْهُ اللهُ فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إِلَى الوُصُولِ إِلَى الحَقِّ والهُدَى فِي الدُّنْيَا،وَلاَ فِي الوُصُولِ إِلَى الجَنَّةِ فِي الآخِرَةِ .[276]

يخبر تعالى أنه المنفرد بالهداية والإضلال،وأنه {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} بسبب ظلمه {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} يتولى أمره ويهديه.{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} مرأى ومنظرا فظيعا،صعبا شنيعا،يظهرون الندم العظيم،والحزن على ما سلف منهم،و {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} أي:هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا،لنعمل غير الذي كنا نعمل،وهذا طلب للأمر المحال الذي لا يمكن.

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي:على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أي:ترى أجسامهم خاشعة للذل الذي في قلوبهم،{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي:ينظرون إلى النار مسارقة وشزرا،من هيبتها وخوفها.

{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا} حيث ظهرت عواقب الخلق،وتبين أهل الصدق من غيرهم:{إِنَّ الْخَاسِرِينَ} على الحقيقة {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} حيث فوتوا أنفسهم جزيل الثواب،وحصلوا على أليم العقاب وفرق بينهم وبين أهليهم،فلم يجتمعوا بهم،آخر ما عليهم.{أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ} أنفسهم بالكفر والمعاصي {فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي:في سوائه ووسطه،منغمرين لا يخرجون منه أبدا،ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما كانوا في الدنيا يمنون بذلك أنفسهم،ففي القيامة يتبين لهم ولغيرهم أن أسبابهم التي أملوها تقطعت،وأنه حين جاءهم عذاب الله لم يدفع عنهم.{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} تحصل به هدايته،فهؤلاء ضلوا حيث زعموا في شركائهم النفع ودفع الضر،فتبين حينئذ ضلالهم.[277]

إن قضاء الله لا يرد،ومشيئته لا معقب عليها «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ» ..فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال،فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال،لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله،أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله ..والذي يعرض منه مشهدا في بقية الآية:«وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ:هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ،وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ،يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» ..

والظالمون كانوا طغاة بغاة،فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء.إنهم يرون العذاب،فتتهاوى كبرياؤهم.ويتساءلون في انكسار:«هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟ » في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة،والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص.وهم يعرضون على النار «خاشِعِينَ» لا من التقوى ولا من الحياء،ولكن من الذل والهوان! وهم يعرضون منكسي الأبصار،لا يرفعون أعينهم من الذل والعار:«يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» ..وهي صورة شاخصة ذليلة.

وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف فهم ينطقون ويقررون:«وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا:إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» ..وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء،والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون:هل إلى مرد من سبيل؟

ويجيء التعليق العام على المشهد بيانا لمآل هؤلاء المعروضين على النار:«أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ.وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» ..فقد عدم النصير،وقد أغلق السبيل.[278]

------------

وقال تعالى:{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) } [الجاثية]

الوَيْلُ وَالهَلاَكُ لِكُلِّ كَذَّابٍ فِي قَوْلِهِ،أَثِيمٍ في فِعْلِهِ وَقَلْبِهِ،كَافرٍ بِآياتِ اللهِ تَعَالى .

يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُقرأُ عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى كُفرِهِ،وَجُحُودِهِ،عِنَاداً واسْتِكْباراً،كَأَنَّهُ لَم يَسْمَعْها.فَأَخْبِرْهُ يَا أَيَّهُا الرَّسُولُ،بِأَنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ،يَومَ القِيَامَةِ عَذَاباً مُوجِعاً أَلِيماً .

وَإِذا وَصَلَ إِلى هذا الجَاحِدِ العَنيدِ المُسْتكْبِر،خَبَرُ شيءٍ من آياتنا،جَعَلَها هُزواً وسُخْرِيةً.وهؤلاءِ الأَفّاكُونَ الآثِمُونَ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ التي وَرَدَتْ في الآيتينِ السَّابِقَتينِ لَهُمْ عَذَابٌ في نَارِ جَهَنَّمَ مُذِل مهِينٌ،جَزاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهم وَاسْتِهزائِهِمْ بِالْقرآنِ،واستِكبَارِهِمْ فِي الأَرضِ.وَسَيَصِيرُون فِي الآخِرةِ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ التي تَنْتَظِرُهُمْ،وَلَنْ تُغنَي عَنْهُمْ أَوْلاَدُهُم وَلاَ أَمْوالُهُمْ التي كَسبُوها في الحَياةِ الدُّنيا،ولنْ تُفِيدَهُم الآلهةُ التِي عَبَدُوها،مِنْ دُونِ اللهِ شيئاً،وَسَيُعَذَّبُونَ عَذَاباً أليماً لا يُقدَّرُ قَدرُهُ .[279]

-------------

وقال تعالى:{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) } [الأحقاف]

لَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ تَعَالى القُرَى مِنْ حَوْلِ مَكَّةَ ( مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَدْينَ وَقَوْمِ لُوطٍ )،وَأَهْلُ مَكَّةَ يَعْرِفُونَ مَنَازِلَ تِلْكَ الأقوامِ،وَكَانُوا يَمُرُّونَ بِها وَهُمْ غَادُونَ رَائِحُونَ في أَسْفَارِهِمْ،وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ هذهِ القُرى بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ،وَحَذَّرَهُمْ،وَضَرَبَ لَهُمُ الأَمثَالَ،وَبَيَّنَ لَهُمْ دَلاَئِلَ قُدْرَتِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ غَيِّهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ،فَلَم يَرْجِعُوا،وَلَمْ يَتَّعِظُوا،فَأَخَذَهُمُ اللهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

فَهَلاَّ نَصَرَهُمُ الأَرْبابُ الذِينَ اتَّخَذُوا عِبَادَتَهُمْ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِها إِلى اللهِ فِيما زَعَمُوا،حِينَما نَزَلَ بِهِمْ بَأسُ اللهِ وَأَمْرُهُ فَأَنْقَذُوهُمْ ممَّا نَزَلَ بِهِمْ؟ لَكِنَّ هَؤُلاَءِ الأَرْبَابَ أَصْنَامٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَقَدْ غَابُوا عَنْهُم،وَهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِليهِمْ.وَعَجْزُ هؤُلاءِ الأَرْبَابِ عَنْ نُصْرَتِهِمْ أَثْبَتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ في اتَّخَاذِهِمْ آلهَةً،وَأَنَّهُم يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ في زَعْمِهِمْ أَنَّهُم يُقَرِّبُونَهُم إِلى اللهِ زُلْفَى،وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالى .

يَقُصُّ اللهُ تَعَالى عَلى رَسُولِهِ الكَرِيمِ قِصَّةَ نَفْرٍ مِنَ الجِنِّ وَجَّهَهُمُ اللهُ تَعَلى إِلى النَّبِيِّ r وَهُوَ يَقرَأُ القُرآنَ،فَاسْتَمَعُوا إِليهِ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:أَنصِتُوا واستَمِعُوا لهذا القُرآنِ .

فَلَمَّا فَرَغَ الرَّسُولُ مِنْ تِلاَوتِهِ انْصَرَفُوا إِلى جَمَاعَتِهم يُخْبرِونَهم بما سَمِعُوا،وَيُحَذِّرُونَهم مِنَ الكُفْرِ،وَيَدْعُونَهم إِلى الإِيمانِ بِاللهِ،وَبِما أَنْزَلَ عَلَى رُسُلهِ .

وَقَالَ النَّفَرُ مِنَ الجِنِّ،الذِينَ اسْتَمَعُوا إِلى تَلاوَة الرَّسُولِ r القُرآنَ لِقَومِهِمْ:يَا قُومَنَا إِنَّنا سَمِعْنَا كِتاباً أَنزَلَهُ اللهُ بَعْدَ التَّوراةِ،الذِي أَنزَلَه عَلَى مُوسى،يُصَدِّقُ مَا أَنْزَلَه اللهُ قَبلَه مِنَ الكُتُبِ عَلَى رُسُلِه،وَيُرْشِدُ إِلى سَبيلِ الحَقِّ والهُدى،وَإِلى الطَّريقِ القَوِيمِ الذِي يُوصِلُ إِلى رِضْوانِ اللهِ وَجَنَّتِه .

( وَقَدْ خَصَّ اللهُ التَّوْرَاةَ بالذِّكْرِ لأَنَّهُ الكِتَابُ الإِمامُ لِبَنِي إِسْرائِيلَ،وَلأَنَّ الإِنْجِيلَ مُتَمَّمٌ لِشَرِيعَةِ التَّورَاةِ ) .

وَتَابَعَ النَّفْرُ مِنَ الجِنِّ نُصْحَهُمْ لِقَومِهِمْ فَقَالُوا:يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا رَسُولَ اللهِ مُحَمَّداً الذِي يَدْعُوكُم إِلى الإِيمَانِ بِرَبِّكُمْ،والإِخْلاَصِ في طَاعَتِهِ،وَصَدِّقُوه فِيما جَاءَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ،يَغْفِرْ لَكُمْ رَبًُّكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيَقِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الأَلِيمِ .

وَمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ إِلى مَا يَدْعُو إِليهِ رَسُولُ اللهِ مِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَحْدَه لا شرِيكَ لَهُ،وَالإِخلاصِ في العَمَلِ،فَإِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ الإِفلاتَ مِنْ عِقَابِ رَبِّهِ إِذا أَرَادَ عُقُوبَتَهُ،وَلاَ يَجدُ لهُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَأسِ اللهِ،وَلاَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ سُوءَ العَذَابِ .والذِينَ لا يَسْتَجِيبُونَ للهِ وَللرَّسُولِ يَكُونُونَ في ضَلالٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ،وَيَسْتَحِقُّونَ العِقَابَ الشَّديدَ مِنَ اللهِ تَعَالى.[280]

يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهلاك الأمم المكذبين الذين هم حول ديارهم،بل كثير منهم في جزيرة العرب كعاد وثمود ونحوهم وأن الله تعالى صرف لهم الآيات أي:نوعها من كل وجه،{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عماهم عليه من الكفر والتكذيب.

فلما لم يؤمنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ولهذا قال هنا:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} أي:يتقربون إليهم ويتألهونهم لرجاء نفعهم.

{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} فلم يجيبوهم ولا دفعوا عنهم،{وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من الكذب الذي يمنون به أنفسهم حيث يزعمون أنهم على الحق وأن أعمالهم ستنفعهم فضلت وبطلت.

كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا r إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.

فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم،وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه {نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} أي:وصى بعضهم بعضا بذلك،{فَلَمَّا قُضِي} وقد وعوه وأثر ذلك فيهم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله r في نشر دعوته في الجن.

{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} لأن كتاب موسى أصل للإنجيل وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع،وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.

{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي} هذا الكتاب الذي سمعناه {إِلَى الْحَقِّ} وهو الصواب في كل مطلوب وخبر {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} موصل إلى الله وإلى جنته من العلم بالله وبأحكامه الدينية وأحكام الجزاء.

فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته دعوهم إلى الإيمان به،فقالوا:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أي:الذي لا يدعو إلا إلى ربه لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ولا هوى وإنما يدعوكم إلى ربكم ليثيبكم ويزيل عنكم كل شر ومكروه،ولهذا قالوا:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وإذا أجارهم من العذاب الأليم فما ثم بعد ذلك إلا النعيم فهذا جزاء من أجاب داعي الله.

{وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ} فإن الله على كل شيء قدير فلا يفوته هارب ولا يغالبه مغالب.{وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وأي ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل ووصلت إليه النذر بالآيات البينات،والحجج المتواترات فأعرض واستكبر؟ "[281]

 

_____________


المبحث الثامن عشر

الظالمون بعضهم أولياء بعض

 

قال تعالى:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية:18،19]

لَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ يَا مُحمَّدُ،بَعْدَ اختِلافِ أَهلِ الكِتَابِ،عَلَى مِنهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّين شَرَعَهُ لَكَ،ولمنْ قَبلَكَ مِنَ الرُّسُلِ،فاتَّبعْ مَا أَوْحى إِليكَ رَبُّكَ،وَلا تَتَّبعْ مَا دَعَاكَ المُشرِكُونَ الجَاهِلُونَ إِليهِ مِن عِبَادةِ آلهتِهم،فَهؤلاءِ لا يَعلَمُونَ طَرِيقَ الحقِّ .

وهؤُلاءِ الجَاهِلُونَ لاَ يَدْفَعُونَ عَنْكَ شَيئاً ممّا أَرادَهُ اللهُ بِك إِنِ اتَّبعْتَ أَهْوَاءَهُمْ،وَتَرَكْتَ شَرْعَ رَبِّكَ.والكَافِرونَ يَتَولَّى بَعْضُهُمْ بَعْضاً في الدُّنيا،وَيُظَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،أَمَّا في الآخِرةِ فلا يُغني أَحَدٌ عنْ أَحَدٍ شَيئاً.أَمَّا المُتَّقُون المهتَدُون فإِنَّ اللهَ وَليُّهُم يَنْصُرُهُم وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ .[282]

قال الطبري:" ثُمَّ جَعَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَعْدِ الَّذِي آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ،الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية:18] يَقُولُ:عَلَى طَرِيقَةٍ وَسُنَّةٍ وَمِنْهَاجٍ مِنْ أَمْرِنَا الَّذِي أَمَرْنَا بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا {فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] يَقُولُ:فَاتَّبِعْ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا لَكَ {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] يَقُولُ:وَلَا تَتَّبِعْ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ،الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ،فَتَعْمَلَ بِهِ،فَتَهْلِكَ إِنْ عَمِلْتَ بِهِ،إِنَّ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ بِرَبِّهِمْ،الَّذِينَ يَدْعُونَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ،لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ إِنْ أَنْتَ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ،وَخَالَفْتَ شَرِيعَةَ رَبِّكَ الَّتِي شَرَعَهَا لَكَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ شَيْئًا،فَيَدْفَعُوهُ عَنْكَ إِنْ هُوَ عَاقَبَكَ،وَيُنْقِذُوكَ مِنْهُ،وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَنْصَارُ بَعْضٍ،وَأَعْوَانُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:وَاللَّهُ يَلِي مَنِ اتَّقَاهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ،وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ بِكِفَايَتِهِ،وَدِفَاعِ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ،يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ،يَكْفِكَ اللَّهُ مَا بَغَاكَ وَكَادَكَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونِ،فَإِنَّهُ وَلِيُّ مَنِ اتَّقَاهُ،وَلَا يَعْظُمُ عَلَيْكَ خِلَافُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ،لِأَنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوكَ مَا كَانَ اللَّهُ وَلِيُّكَ وَنَاصِرُكَ""[283]

أي:ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي {فَاتَّبِعْهَا} فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح،{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي:الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه،وهم كل من خالف شريعة الرسول r هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون.{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي:لا ينفعونك عند الله فيحصلوا لك الخير ويدفعوا عنك الشر إن اتبعتهم على أهوائهم،ولا تصلح أن توافقهم وتواليهم فإنك وإياهم متباينون،وبعضهم ولي لبعض {واللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته.[284]

إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف،وما عداها أهواء منبعها الجهل.وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها،ويدع الأهواء كلها.وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء.فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة.وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض.وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحا عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه.ولكنهم أضعف من أن يؤذوه.والله ولي المتقين.وأين ولاية من ولاية؟ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضا من صاحب شريعة يتولاه الله.ولي المتقين؟

وتعقيبا على هذا البيان الحاسم الجازم،يتحدث عن اليقين،وعما في هذا القول وأمثاله في القرآن من تبصرة وهدى ورحمة لأهل اليقين:«هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» ..

ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة.فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور.وهو بذاته هدى.وهو بذاته رحمة ..ولكن هذا كله يتوقف على اليقين.يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك،ولا يخالطها قلق،ولا تتسرب إليها ريبة.وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه،فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد.وعندئذ يبدو له الطريق واضحا،والأفق منيرا،والغاية محددة،والنهج مستقيما.وعندئذ يصبح هذا القرآن له نورا وهدى ورحمة بهذا اليقين.[285]

 

_____________

 


المبحث التاسع عشر

لا ولاية بين المؤمنين والكافرين

 

إننا نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله! إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا ..وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق ..

«وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ،فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ.وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا،وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ...»

«حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا:احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ - إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ - وَمَنْ آمَنَ،وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ...»

«وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ -:يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا،وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ.قالَ:سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ،قالَ:لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ،وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ..»

«وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ،فَقالَ:رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي،وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ،وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ.قالَ:يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ،إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ،فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ،إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.قالَ:رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ،وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..

إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين،وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.

إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والوطن،وليست وشيجة القوم والعشيرة،وليست وشيجة اللون واللغة،وليست وشيجة الجنس والعنصر،وليست وشيجة الحرفة والطبقة ..

إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول:«رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» ..«يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ثم بين له لماذا يكون ابنه ..ليس من أهله ..«إنه عمل غير صالح» ..إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح:«فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» فأنت تحسب أنه من أهلك،ولكن هذا الحسبان خاطئ.أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك،ولو كان هو ابنك من صلبك!

وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط،وبين نظرات الجاهلية المتفرقة ..إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب وآنا هي الأرض والوطن،وآنا هي القوم والعشيرة،وآنا هي اللون واللغة،وآنا هي الجنس والعنصر،وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة،أو التاريخ المشترك.أو المصير المشترك ..وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول - r - وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير ..والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق ..

وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد،ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى،ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها ..

ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك:«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ،إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا.إِذْ قالَ لِأَبِيهِ:يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ،فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا.يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ،إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا.يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ..قالَ:أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ! وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.قالَ:سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي،إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا،وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي،عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا.فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا،وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ...(مريم:41 - 50).

وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه،وهو يعطيه عهده وميثاقه.

ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه:«وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ،فَأَتَمَّهُنَّ،قالَ:إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً،قالَ:وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ:لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ..»

«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ:رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ - مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.قالَ:وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..(البقرة:124 - 126) وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه،وذلك فيما كان بين نوح وامرأته،ولوط وامرأته.

وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون:«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ،كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ،فَخانَتاهُما،فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً،وَقِيلَ:ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ...

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ،إِذْ قالَتْ:رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ،وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ،وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ...(التحريم:10 - 11) وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم،ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم.وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم.وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...

«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ،إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ:إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ،كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ...» ..(الممتحنة:4).

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا:رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً،فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً.ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً.نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ،إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً،وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا:رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ - إِلَّا اللَّهَ - فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ،وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» ...(الكهف:9 - 16).

وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين.الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان،وضحت معالم الطريق لهذه الأمة وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم،ولا يقوم على سواها.وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة،وفي توجيهات من القرآن كثيرة ..

هذه نماذج منها ..

«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ - أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ،وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ،أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ،أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ...(المجادلة:22) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ،وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ،يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ،إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي،تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ،وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» ...(الممتحنة:1) «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ،يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ،وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...إلخ» ..(الممتحنة:3 - 4) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ،وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ...(التوبة:23).«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ،بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ،وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ،إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ...(المائدة:51).

وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان.ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة.والذين يدعون صفة الإسلام،ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة،إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه.والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها،بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا! وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة ..

إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية،قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان .

ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع.لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم.ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة،وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة ..فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة.وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!

كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم ..هو عنصر الاختيار والإرادة،فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش ..ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه.كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها،ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها ..إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! ..إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض،ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية،والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية.وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية،التي لا يدله فيها،ولا يملك كذلك تغييرها باختياره،هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.

ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشىء مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي لا يصدهم عنه صاد،ولا يقوم في وجوههم حاجز،ولا تقف دونه حدود مصطنعة،خارجة عن خصائص الإنسان العليا.وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية،وتجتمع في صعيد واحد،لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ولا تغلق دون كفاية واحدة،بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض ..

«ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها،دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة،والحدود الإقليمية السخيفة!

ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها،دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان ..كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات،بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها،وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت،وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة.وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة،تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة،على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.«لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ...إلى آخر الأقوام والأجناس ..وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية.ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية».

«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة،وبآصرة الحب.وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة.فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم،وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم،وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة،وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد،وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق.وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا.فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة،ولغات متعددة،وألوانا متعددة،وأمزجة متعددة.ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة ..لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى.ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.

«كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى ..تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا ..ولكنه كان كالتجمع الروماني،الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا،يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية،واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية ..ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها ..الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما،والإمبراطورية الفرنسية ..كلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر،يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.

ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة،إنما أقامته على القاعدة «الطبقية».فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم ..هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني ..فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها.باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!

«لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني ..وما يزال متفردا ..والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر،يقوم على أية قاعدة أخرى،من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة ..إلى آخر هذا النتن السخيف،هم أعداء «الإنسان» حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق»..

ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين،الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته وهم الذين يقول الله تعالى فيهم:«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» ..لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين،وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس ..

ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم ..لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد،أصناما تعبد من دون الله،اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس».وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى،تحملها جبهات شتى،تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة،المنظم بأحكام الشريعة ...إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية،وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!! وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ ..كان هو المعسكر اليهودي الخبيث،الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي،وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية ..وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود! وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي ..ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله.كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي.وما يزالون.

حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ليقوم التجمع الإسلامي من جديد،على أساسه المتين الفريد ..وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم.ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم.يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد،وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب أن يكون هناك شعار واحد،وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات ..

إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيا كانت أسماؤها.وأيا كانت مراسمها.

وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية،ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان ..وما إليها ..يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها.وهو يدعوهم إلى الله وحده،وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!

لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري ..أمة المسلمين من أتباع الرسل - كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون ..

وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون،عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة:«إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» ..ولم يقل للعرب:إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود:إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي:إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي:إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي:إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش:إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون،وإبراهيم،ولوط،ونوح،وداود وسليمان،وأيوب،وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون،وزكريا ويحيى،ومريم ..كما جاء في سورة الأنبياء:(آيات:48 - 91).

هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف الله سبحانه ..فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه.ولكن ليقل:إنه ليس من المسلمين!

أما نحن الذين أسلمنا لله،فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله.والله يقص الحق وهو خير الفاصلين ..وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين.[286]

 

____________


المبحث العشرون

الأحاديث الواردة في (الولاء والبراء)

 

عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r،قَالَ:«هَلْ لَكَ فِي رَبِيبَةٍ فَيَكْفُلُهَا* [قَالَ:أَرَاهَا] * رَبِيبٌ [قَالَ عَلَى هَذَا مِن زُهَير]» *؟،قَالَ:ثُمَّ جَاءَ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ r،فَقَالَ:تَرَكْتُهَا عِنْدَ أُمِّهَا،قَالَ:«فَمَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ؟ »،قَالَ:جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي،قَالَ: «اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]،ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا،فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ».[287]

وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ،أَنَّ عَمْرَو بْنَ العَاصِ،قَالَ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ r جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ:" إِنَّ آلَ أَبِي - قَالَ عَمْرٌو:فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ - لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي،إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ " زَادَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ،عَنْ بَيَانٍ،وعَنْ قَيْسٍ،عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ،قَالَ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ r:«وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَهَا» يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:«بِبَلاَهَا كَذَا وَقَعَ،وَبِبَلاَلِهَا أَجْوَدُ وَأَصَحُّ،وَبِبَلاَهَا لاَ أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا»[288]

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ:" أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ , ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ , وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ , عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ وَقَلَّ تُرَاثُهُ وَقَلَّ بَوَاكِيهِ "[289]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:" إِنَّ اللَّهَ قَالَ:مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ،وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ،وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ،فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ:كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ،وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ،وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا،وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا،وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ،وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ،وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ،يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ "[290]

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ»[291]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي:أَنَّ زِنْبَاعًا أَبَا رَوْحٍ وَجَدَ غُلَامًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ لَهُ،فَجَدَعَ أَنْفَهُ وَجَبَّهُ،فَأَتَى النَّبِيَّ r،فَقَالَ:" مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ؟ " قَالَ:زِنْبَاعٌ،فَدَعَاهُ النَّبِيُّ r،فَقَالَ:" مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ " فَقَالَ:كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا،فَقَالَ النَّبِيُّ r لِلْعَبْدِ:" اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ "،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،فَمَوْلَى مَنْ أَنَا؟ قَالَ:" مَوْلَى اللهِ وَرَسُولِهِ "،فَأَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللهِ r الْمُسْلِمِينَ،قَالَ:فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ r؟ جَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ،فَقَالَ:وَصِيَّةُ رَسُولِ اللهِ r،قَالَ:نَعَمْ،نُجْرِي عَلَيْكَ النَّفَقَةَ وَعَلَى عِيَالِكَ،فَأَجْرَاهَا عَلَيْهِ،حَتَّى قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ،فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ جَاءَهُ،فَقَالَ:وَصِيَّةُ رَسُولِ اللهِ r،قَالَ:نَعَمْ،أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ:مِصْرَ،فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَرْضًا يَأْكُلُهَا "[292]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ r،قَالَ:«إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ قَسَمَ مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ أَهْلِ الدُّنْيَا فَوَسِعَتْهُمْ إِلَى آجَالِهِمْ،وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لِأَوْلِيَائِهِ،وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَابِضٌ تِلْكَ الرَّحْمَةَ الَّتِي قَسَمَهَا بَيْنَ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى تِسْعٍ وَتِسْعِينَ فَكَمَّلَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ لِأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [293].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَبِي ذَرٍّ:" أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ - أَظُنُّهُ قَالَ:- أَوْثَقُ؟ " قَالَ:اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:«الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ،وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ،وَالْحُبُّ فِي اللهِ،وَالْبُغْضُ فِي اللهِ»[294]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللهِ r جَيْشًا،وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ:" إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ،أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَقُوا الْعَدُوَّ فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ فَأَتَى خَبَرُهُمُ النَّبِيَّ r،فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ،فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ،فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ،ثُمَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ،ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ:«لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ» ثُمَّ قَالَ:«ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ» فَقَالَ:«ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا» ثُمَّ قَالَ:«أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ،وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي،ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي» فَشَالَهَا فَقَالَ:«اللهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ ثَلَاثًا»[295]

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:بَعَثَ النَّبِيُّ r أَبَا بَكْرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ،ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا،فَبَيْنَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إِذْ سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ r القَصْوَاءِ،فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَزِعًا فَظَنَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ r فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ،فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ r وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الكَلِمَاتِ فَانْطَلَقَا فَحَجَّا،فَقَامَ عَلِيٌّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ،فَنَادَى:«ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ،فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ  أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ،وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ،وَلَا يَطُوفَنَّ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ،وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ».وَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي،فَإِذَا عَيِيَ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى بِهَا »[296]

وعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r إِذَ سَمِعَ الْقَوْمَ وَهُمْ يَقُولُونَ:أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ،وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ،وَحَجٌّ مَبْرُورٌ»،ثُمَّ سَمِعَ نِدَاءً فِي الْوَادِي يَقُولُ:أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ r،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«وَأَنَا أَشْهَدُ،وَأَشْهَدُ لَا يَشْهَدُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ»[297]

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ:" ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ وَالرَّابِعُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهِ لَرَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ:لَا يَجْعَلُ اللَّهُ عَبْدًا لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ،وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهَ عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيَهُ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا كَانَ مَعَهُمْ أَوْ مِنْهُمْ،وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا لَرَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ،لَا يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ "[298]

وعَنْ الْمُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:" جِئْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ،قَالَ:مَا كُنْتُمْ تُنَادُونَ؟ قَالَ:«كُنَّا نُنَادِي إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ،إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ،وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ،وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ r عَهْدٌ،فَأَجَلُهُ أَوْ أَمَدُهُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ،فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ،فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،وَرَسُولُهُ،وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ،فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي»[299]

وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللهِ r يَوْمًا،فَقَالُوا:يَا أَبَا الْقَاسِمِ،حَدِّثْنَا عَنْ خِلالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ،قَالَ:" سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ،وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللهِ،وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ،عَلَى بَنِيهِ:لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ،لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ " قَالُوا:فَذَلِكَ لَكَ،قَالَ:" فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " قَالُوا:أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ:أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ،وَمَاءُ الرَّجُلِ؟ كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ فِي النَّوْمِ؟ وَمَنْ وَلِيُّهُ مِنَ المَلائِكَةِ؟ قَالَ:" فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ لَتُتَابِعُنِّي؟ " قَالَ:فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ،قَالَ:" فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى r هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ،مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا،وَطَالَ سَقَمُهُ،فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ سَقَمِهِ،لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ،وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ،وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الْإِبِلِ،وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا؟ " قَالُوا:اللهُمَّ نَعَمْ،قَالَ:" اللهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ،فَأَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ،الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى،هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ،وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ،فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللهِ؟ إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللهِ،وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَاءِ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللهِ؟ ".قَالُوا:اللهُمَّ نَعَمْ،قَالَ:" اللهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ،فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى،هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ؟ " قَالُوا:اللهُمَّ نَعَمْ.قَالَ:" اللهُمَّ اشْهَدْ " قَالُوا:وَأَنْتَ الْآنَ فَحَدِّثْنَا:مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ المَلائِكَةِ؟ فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ؟ قَالَ:" فَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ،وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ " قَالُوا:فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ،لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ المَلائِكَةِ لَتَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ،قَالَ:" فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ؟ " قَالُوا:إِنَّهُ عَدُوُّنَا،قَالَ:فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة:97] إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101] فَعِنْدَ ذَلِكَ:{بَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90] الْآيَةَ[300]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«قُرَيْشٌ،وَالأَنْصَارُ،وَجُهَيْنَةُ،وَمُزَيْنَةُ،وَأَسْلَمُ،وَأَشْجَعُ،وَغِفَارُ مَوَالِيَّ،لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»[301]

وعن أبي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قَالَ:سَأَلْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ:سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ:وَجَدْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ،فَأَلْقَيْتُهَا فِي فِيَّ،فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ فِيَّ بِلُعَابِهَا،فَأَلْقَاهَا فِي التَّمْرِ،فَقِيلَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،لِمَ أَخَذْتَهَا؟ قَالَ:«لَأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ» ،وَكَانَ يَقُولُ:«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ،فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ،وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» قَالَ:وَكَانَ يُعَلِّمُنَا هَذَا الدُّعَاءَ:«اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ،وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ،وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ،وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ،وَاكْفِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ،فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ،وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ،تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ»[302]

وعَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ الْعَنْسِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ،يَقُولُ:كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ،فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ،فَقَالَ قَائِلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ:" هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ،ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ،دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي،وَلَيْسَ مِنِّي،وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ،ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ،ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ،لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً،فَإِذَا قِيلَ:انْقَضَتْ،تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا،وَيُمْسِي كَافِرًا،حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ،فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ،وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ،فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ،مِنْ يَوْمِهِ،أَوْ مِنْ غَدِهِ "[303]

وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،قَالَ:لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى الْيَمَنِ،خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ r يُوصِيهِ مُعَاذٌ رَاكِبٌ،وَرَسُولُ اللَّهِ r تَحْتَ رَاحِلَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ،قَالَ:«يَا مُعَاذُ،إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا،لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي» فَبَكَى مُعَاذٌ خَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ r،ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ r نَحْوَ الْمَدِينَةِ،فقَالَ:«إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي،وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ،مَنْ كَانُوا حَيْثُ كَانُوا،اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتَ،وَايْمُ اللَّهِ لَيَكْفَؤُونَ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاءِ».[304]

وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ،حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ،أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ جَمَعَ قَوْمَهُ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَشْعَرِيِّينَ اجْتَمِعُوا وَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ،وَأَبْنَاءَكُمْ أُعَلِّمْكُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ r الَّتِي صَلَّى لَنَا بِالْمَدِينَةِ فَاجْتَمَعُوا،وَجَمَعُوا نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ،فَتَوَضَّأَ وَأَرَاهُمْ كَيْفَ يَتَوَضَّأُ،فَأَحْصَى الْوُضُوءَ إِلَى أَمَاكِنِهِ حَتَّى لَمَّا أَنْ فَاءَ الْفَيْءُ،وَانْكَسَرَ الظِّلُّ قَامَ،فَأَذَّنَ فَصَفَّ الرِّجَالَ فِي أَدْنَى الصَّفِّ،وَصَفَّ الْوِلْدَانَ خَلْفَهُمْ،وَصَفَّ النِّسَاءَ خَلْفَ الْوِلْدَانِ،ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ،فَتَقَدَّمَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ،فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ يُسِرُّهُمَا،ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ فَقَالَ:سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ،ثُمَّ قَالَ:سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،وَاسْتَوَى قَائِمًا،ثُمَّ كَبَّرَ،وَخَرَّ سَاجِدًا،ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ،ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ،ثُمَّ كَبَّرَ فَانْتَهَضَ قَائِمًا،فَكَانَ تَكْبِيرُهُ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ سِتَّ تَكْبِيرَاتٍ،وَكَبَّرَ حِينَ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ،فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ إِلَى قَوْمِهِ بِوَجْهِهِ،فَقَالَ:احْفَظُوا تَكْبِيرِي،وَتَعَلَّمُوا رُكُوعِي وَسُجُودِي،فَإِنَّهَا صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ r الَّتِي كَانَ يُصَلِّي لَنَا كَذَي السَّاعَةِ مِنَ النَّهَارِ "ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ r لَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا،وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ،النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ ".فَجَثَى رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ،وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللهِ r فَقَالَ:يَا نَبِيَّ اللهِ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ انْعَتْهُمْ لَنَا حَلِّمْهُمْ لَنَا ،يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا،شَكِّلْهُمْ لَنَا  فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ r،لِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r:" هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ تَحَابُّوا فِي اللهِ وَتَصَافَوْا،يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا،وَثِيَابَهُمْ نُورًا،يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ،وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ "[305]

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ،فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا،فَالنَّاسُ رَجُلَانِ:بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ،وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ،وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ،وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ "،قَالَ اللَّهُ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].[306]

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»[307]

وعَنْ أَبِي مَالِكٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r،يَقُولُ " مَنْ قَالَ:لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ،حَرُمَ مَالُهُ،وَدَمُهُ،وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ "[308]

وعَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ:«لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ،وَلَا تُجَامِعُوهُمْ،فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَلَيْسَ مِنَّا»[309]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ r:«لاَ يَجِدُ أَحَدٌ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ،وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ،وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»[310]

وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ:«لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ»[311]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى،عَلَيْهِ الدَّيْنُ،فَيَسْأَلُ:«هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟»،فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى،وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»،فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ،قَالَ:«أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا،فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ،وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ»[312]

وعَنْ عَائِشَةَ،زَوْجِ النَّبِيِّ r أَنَّهَا قَالَتْ:خَرَجَ رَسُولُ اللهِ r قِبَلَ بَدْرٍ،فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ،فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ r حِينَ رَأَوْهُ،فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ r:جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ،وَأُصِيبَ مَعَكَ،قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ r:«تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ:لَا،قَالَ:«فَارْجِعْ،فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»،قَالَتْ:ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ،فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ،قَالَ:«فَارْجِعْ،فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»،قَالَ:ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ،فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ:«تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ:نَعَمْ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ r:«فَانْطَلِقْ»[313]

وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ r سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ،فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ:فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ r فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ:«أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ».قَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ:«لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»[314]

وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ،قَالَ:لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ r يَقُولُ:كَانَ يَقُولُ:«اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ،وَالْكَسَلِ،وَالْجُبْنِ،وَالْبُخْلِ،وَالْهَرَمِ،وَعَذَابِ،الْقَبْرِ اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا،وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا،أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا،اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ،وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ،وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ،وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»[315]

 

_____________

 


المبحث الحادي والعشرون

الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الولاء والبراء)

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،قَالَ:لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ دَعَانِي،فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ:" يَا بُنَيِّ،إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ اليَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ،وَإِنِّي لاَ أُرَانِي إِلَّا سَأُقْتَلُ اليَوْمَ مَظْلُومًا،وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي،أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ فَقَالَ:يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا،فَاقْضِ دَيْنِي،وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ،وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَقُولُ:ثُلُثُ الثُّلُثِ،فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ،فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ "،- قَالَ هِشَامٌ:وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ،قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ،خُبَيْبٌ،وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ،وَتِسْعُ بَنَاتٍ -،قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ،وَيَقُولُ:«يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ،فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ»،قَالَ:فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ:يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ:«اللَّهُ»،قَالَ:فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ،إِلَّا قُلْتُ:يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ،فَيَقْضِيهِ،فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ،مِنْهَا الغَابَةُ،وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ،وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ،وَدَارًا بِالكُوفَةِ،وَدَارًا بِمِصْرَ،قَالَ:وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ،أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ،فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ،فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ:«لاَ وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ،فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ»،وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلاَ جِبَايَةَ خَرَاجٍ،وَلاَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ r،أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ،وَعُمَرَ،وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ ،فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ،قَالَ:فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ،فَقَالَ:يَا ابْنَ أَخِي،كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ فَكَتَمَهُ؟ فَقَالَ:مِائَةُ أَلْفٍ،فَقَالَ حَكِيمٌ:وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ،فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ:أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ:مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا،فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي،قَالَ:وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ،فَبَاعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ،ثُمَّ قَامَ:فَقَالَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ،فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ،فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ،وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ،فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ:إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ،قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:لاَ،قَالَ:فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:لاَ،قَالَ:قَالَ:فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً،فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا،قَالَ:فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ،وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ،فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ،وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ،وَالمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ،وَابْنُ زَمْعَةَ،فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:كَمْ قُوِّمَتِ الغَابَةُ؟ قَالَ:كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ،قَالَ:كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ:أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ،قَالَ المُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ:قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ،قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ:قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ،وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ:قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ،فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:كَمْ بَقِيَ؟ فَقَالَ:سَهْمٌ وَنِصْفٌ،قَالَ:قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ،قَالَ:وَبَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ،فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ،قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ:اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا،قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ لاَ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ:أَلاَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ،قَالَ:فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ،فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ،قَالَ:فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ،وَرَفَعَ الثُّلُثَ،فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ،فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ،وَمِائَتَا أَلْفٍ"[316]

وعَنْ أَبِي رَافِعٍ،قَالَ:وَجَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ،وَفِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ r،فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ،فَقَالُوا:إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ،فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ:هَلْ لَكَ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَأُشِرِكُكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ:" لَوْ أَعْطَيْتَنِي جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ،وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ الْعَرَبُ - وَفِي رِوَايَةِ الْقَطَّانِ:وَجَمِيعَ مَمْلَكَةِ الْعَرَبِ - عَلَى أَنْ أرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ r طَرْفَةَ عَيْنٍ،مَا فَعَلْتُ "،قَالَ:إِذًا أَقَتُلُكَ،قَالَ:" أَنْتَ وَذَاكَ "،قَالَ:فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ،وَقَالَ لِلرُّمَاةِ:ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ،وَهُوَ يَأْبَى،ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ،ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ وَصَبَّ فِيهَا مَاءً حَتَّى احْتَرَقَتْ،ثُمَّ دَعَا بِأَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ وَهُوَ يَأْبَى،ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا،فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ بَكَى،فَقِيلَ لَهُ:إِنَّهُ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ رَجَعَ،فَقَالَ:رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ فَأَبَى،قَالَ:فَمَا أَبْكَاكَ؟ قَالَ:" أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ هي نَفْسٌ وَاحِدَةٌ تُلْقَى هَذِهِ السَّاعَةَ فِي هَذَا الْقِدْرِ فَتَذْهَبُ،فَكُنْتُ أشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعَرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تَلْقَى هَذَا فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "،قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ:هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبِّلَ رَأْسِي وَأُخَلِّيَ عَنْكَ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ:" وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ؟ " قَالَ:وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ،قَالَ عَبْدُ اللهِ:" فَقُلْتُ فِي نَفْسِي عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ أُقَبِّلُ رَأْسَهُ ويُخَلِّي عَنِّي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ لَا أُبَالِي قال فَدَنَا مِنْهُ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ "،فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأُسَارَى،فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى عُمَرَ فَأُخْبِرَ عُمَرُ بِخَبَرِهِ،فَقَالَ:حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ،وَأَنَا أَبْدَأُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ  "[317]

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:أَتَيْنَا حُذَيْفَةَ فَقُلْنَا:دُلَّنَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ r هَدْيًا وَسَمْتًا وَدَلًّا نَأْخُذْ عَنْهُ وَنَسْمَعْ مِنْهُ؟ فَقَالَ:" كَانَ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ r هَدْيًا وَسَمْتًا وَدَلًّا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ "،حَتَّى يَتَوَارَى عَنِّي فِي بَيْتِهِ،وَلَقَدْ عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ r،أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ أَقْرَبِهِمْ إِلَى اللهِ زُلْفَةً"[318]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو،قَالَ:" مَنْ بَنَى فِي بِلَادِ الْأَعَاجِمِ فَصَنَعَ نَوْرُوزَهُمْ وَمِهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".[319]

وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،قَالَ:سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ،أَنَّ أَبَا مُوسَى،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا , وَمَعَهُ كَاتَبٌ نَصْرَانِيُّ , فَأَعْجَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا رَأَى مِنْ حِفْظِهِ , فَقَالَ:" قُلْ لِكَاتِبِكَ يَقْرَأْ لَنَا كِتَابًا " , قَالَ:إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ , لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ , فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , وَهَمَّ بِهِ , وَقَالَ:" لَا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللهُ , وَلَا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللهُ , وَلَا تَأْتَمِنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ "[320]

وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:كَانَ مَوَالِي بِلاَلٍ يُضْجِعُوْنَهُ عَلَى بَطْنِهِ وَيَعْصِرُوْنَهُ وَيَقُوْلُوْنَ:دِيْنُكَ اللاَّتُ وَالعُزَّى فَيَقُوْلُ:رَبِّيَ اللهُ أَحَدٌ أَحَدٌ وَلَوْ أَعْلَمُ كَلِمَةً أَحْفَظُ لَكُم مِنْهَا لَقُلْتُهَا! فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ بِهِم فَقَالُوا:اشْتَرِ أَخَاكَ فِي دِيْنِكَ فَاشْتَرَاهُ بِأَرْبَعِيْنَ أُوْقِيَّةً فَأَعْتَقَهُ فَقَالُوا:لَوْ أَبَى إلَّا أُوْقِيَّةً لَبِعْنَاهُ فَقَالَ:وَأُقْسِمُ بِاللهِ لَوْ أَبَيْتُم إلَّا بِكَذَا وَكَذَا -لِشَيْءٍ كَثِيْرٍ- لاَشْتَرَيْتُهُ.[321]

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ:رَسُولُ اللَّهِ r وَأَبُو بَكْرٍ،وَعَمَّارٌ،وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ،وَصُهَيْبٌ،وَبِلَالٌ،وَالْمِقْدَادُ،فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ r فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ،وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ،وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ،وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ،فَمَا مِنْهُمْ إِنْسَانٌ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا،إِلَّا بِلَالٌ،فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ،وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ،فَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ.[322]

وعَنْ عُروة،قَالَ:كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نوْفل يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبَ بِذَلِكَ،وَهُوَ يَقُولُ:أحَد أحَد،فَيَقُولُ:أحَد أحَد وَاَللَّهِ يَا بِلَالُ،ثُمَّ يُقْبِل عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ،وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَح،فَيَقُولُ:أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لأتخذنَّه حَنَانًا،حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمًا،وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ،وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَح،فَقَالَ لِأُمَيَّةِ بْنِ خَلَفٍ:أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟ حَتَّى مَتَى؟! قَالَ:أَنْتَ الَّذِي أفسدتَه فأنقذْه مِمَّا تَرَى،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:أَفْعَلُ،عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى،عَلَى دِينِكَ،أعْطِيكه بِهِ،قَالَ:قَدْ قبلتُ فَقَالَ:هُوَ لَكَ.فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- غلامَه ذَلِكَ،وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ.[323]

وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،فِي تَسْمِيَةِ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ:نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ وَهِيَ أُمُّ عُمَارَةَ وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ وَابْنَاهَا حَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ،وَعَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ،وَابْنُهَا حَبِيبٌ الَّذِي أَخَذَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ:أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ؟ فَيَقُولُ:نَعَمْ،ثُمَّ يَقُولُ لَهُ:أَتَشْهَدُ أَنَّى رَسُولُ اللهِ،فَيَقُولُ:لَا أَسْمَعُ،فَقَطَعَهُ مُسَيْلِمَةُ فَخَرَجَتْ نُسَيْبَةُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَبَاشَرَتِ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا حَتَّى قَتَلَ اللهُ مُسَيْلِمَةَ وَرَجَعَتْ وَبِهَا عَشْرُ جِرَاحَاتٍ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ "[324]

وعَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ:وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ،فَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ اتَّقُوا الْفِتْنَةَ بِالتَّقْوَى،فَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:" أَجْمِلْ لَنَا التَّقْوَى فِي يَسِيرٍ،فَقَالَ:التَّقْوَى الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ،وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعَاصِي اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ "[325]

وعَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ:لَقِيَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ طَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ , فَقَالَ:صِفْ لَنَا شَيْئًا مِنَ التَّقْوَى يَسِيرًا نَحْفَظُهُ قَالَ :«اعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ،فَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعَاصِي اللَّهِ عَلَى نُورِ اللَّهِ مَخَافَةَ عِقَابَ اللَّهِ»[326]

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ لِي:«أَحِبَّ فِي اللهِ وَأَبْغِضْ فِي اللهِ وَوَالِ فِي اللهِ , وَعَادِ فِي اللهِ،فَإِنَّهُ لَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللهِ إِلَّا بِذَلِكَ،وَلَا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ - وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ - حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ،وَصَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا،وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْزِي عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا»[327]

وعَنْ مُجَاهِدٍ،قَالَ:قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ:" يَا مُجَاهِدُ،أَحِبَّ فِي اللَّهِ،وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ،وَوَالِ فِي اللَّهِ،وَعَادِ فِي اللَّهِ،فَإِنَّمَا تَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِذَلِكَ،وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَثَّرَ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ،وَقَدْ صَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ الْيَوْمَ أَوْ عَامَّتِهِمْ فِي الدُّنْيَا،وَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا،ثُمَّ قَرَأَ {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وَقَرَأَ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] "[328]

وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ،فَقَالَ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ،لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ»،فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ،وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ،قَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ،- يَعْنِي المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ»،فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ،فَقَالَ:«يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ،الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ»،قَالَ سَعْدٌ:فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ،قَالَ أَنَسٌ:فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ،أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ،فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ:" كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ:{مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ "[329]

وعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ،قَالَ:كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ،فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ - أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا:لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ r،فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ،فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ،فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ،وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ،فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ،فَقُلْتُ :أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ،وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ،وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ،وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ،وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ،قَالَ:«فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ،وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي»،وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا،فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ»[330]

وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ:أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ r،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ،فَإِنْ كُنْتُ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ،فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْك رَأسه،فو الله لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي،وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ،فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ،فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ (رَجُلًا ) مُؤْمِنًا بِكَافِرِ،فَأَدْخُلَ النَّارَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ،وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا.

وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الَّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنِّفُونَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ،حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ:كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ،أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ قُلْتَ لِي اُقْتُلْهُ،لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ،لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُ،قَالَ:قَالَ عُمَرُ:قَدْ وَاَللَّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ r أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي.[331]

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ:لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ , يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ , قَالَ:فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51][332]

وقال البغوي :" قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} أَيْ:بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا،مَعْنَاهُ:وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ بِوَالِدَيْهِ مَا يَحْسُنُ.نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،وَالَّتِي فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (الْآيَةُ 15) ،وَالْأَحْقَافِ (الْآيَةُ 15) فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ أَبُو إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ،وَأُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ -لَمَّا أَسْلَمَ،وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ،وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ،قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ:مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَحْدَثْتَ؟ وَاللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ،أَوْ أَمُوتَ فَتُعَيَّرَ بِذَلِكَ أَبَدَ الدَّهْرِ،وَيُقَالُ:يَا قَاتِلَ أُمِّهِ.ثُمَّ إِنَّهَا مَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ [وَلَمْ تَسْتَظِلَّ] (1) ،فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهَدَتْ،ثُمَّ مَكَثَتْ يَوْمًا آخَرَ لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ،فَجَاءَ سَعْدٌ إِلَيْهَا وَقَالَ:يَا أُمَّاهُ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا مَا تَرَكْتُ دِينِي فَكُلِي،وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي،فَلَمَّا أَيِسَتْ مِنْهُ أَكَلَتْ وَشَرِبَتْ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،وَأَمَرَهُ بِالْبِرِّ بِوَالِدَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَأَنْ لَا يُطِيعُهُمَا فِي الشِّرْكِ،فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}[333]

وقال ابن تيمية :" وَلَيْسَ لِلْقُلُوبِ سُرُورٌ وَلَا لَذَّةٌ تَامَّةٌ إلَّا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَلَا تُمْكِنُ مَحَبَّتُهُ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَكَانَ النَّبِيُّ r يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ:{قُولُوا:أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ r وَمِلَّةِ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} ." وَالْحَنِيفُ " لِلسَّلَفِ فِيهِ ثَلَاثُ عِبَارَاتٍ.قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:مُسْتَقِيمًا.وَقَالَ عَطَاءٌ:مُخْلِصًا.وَقَالَ آخَرُونَ:مُتَّبِعًا.فَهُوَ مُسْتَقِيمُ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى:{إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:فَلَمْ يَلْتَفِتُوا عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.فَلَمْ يَلْتَفِتُوا بِقُلُوبِهِمْ إلَى مَا سِوَاهُ لَا بِالْحُبِّ وَلَا بِالْخَوْفِ وَلَا بِالرَّجَاءِ،وَلَا بِالسُّؤَالِ،وَلَا بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ،بَلْ لَا يُحِبُّونَ إلَّا اللَّهَ وَلَا يُحِبُّونَ مَعَهُ أَنْدَادًا وَلَا يُحِبُّونَ إلَّا إيَّاهُ،لَا لِطَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَلَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَلَا يَسْأَلُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَتَشَرَّفُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَى غَيْرِهِ."[334]

وقال البغويّ:وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد عَامَّة أهل الْعلم من الصَّحَابَة،فَمن بعدهمْ،أنَّ الْكَافِر لَا يَرث الْمُسلم،والمسلمَ لَا يرثُ الْكَافِر،لقطع الْولَايَة بنيهما،إِلا مَا رُوِيَ عَنْ مُعاذ،وَمُعَاوِيَة،أَنَّهُمَا قَالا:الْمُسلم يرثُ الْكَافِر،وَلَا يَرِثهُ الْكَافِر.[335]

يقول الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب:"واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله،إلا بالكفر بالطاغوت،والدليل قوله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة:256] ،الرشد:دين محمد،والغي:دين أبي جهل،والعروة الوثقى:شهادة أن لا إله إلا الله،وهي متضمنة للنفي والإثبات.تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى،وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له."[336]

وقال الشّوكانيّ رحمه اللّه:"وأولياء اللّه سبحانه متفاوتون في الولاية بقوّة ما رزقهم اللّه سبحانه من الإيمان،فمن كان أقوى إيمانا كان في باب الولاية أعظم شأنا وأكبر قدرا وأعظم قربا من اللّه وكرامة لديه)".[337]

وفي فتح المجيد :" " الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده ".قلت:فتبين أن معنى "لا إله إلا الله " توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه.قال المصنف - رحمه الله - "وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة،هي شهادة أن لا إله إلا الله".وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في الكافية الشافية:

وإذا تولاه امرؤ دون الورى ...طرا تولاه العظيم الشان"[338]

 

_____________

 

 

 


المبحث الحادي والعشرون

الأحاديث الواردة في ذمّ (موالاة الكفار)

 

عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،قَالَ:أَخْبَرَنِي الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ،أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ،يَقُولُ:سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،يَقُولُ:بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ r أَنَا وَالزُّبَيْرَ،وَالمِقْدَادَ،فَقَالَ:«انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ،فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ،فَخُذُوا مِنْهَا» قَالَ:فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ،فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ،قُلْنَا لَهَا:أَخْرِجِي الكِتَابَ،قَالَتْ:مَا مَعِي كِتَابٌ،فَقُلْنَا:لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ،أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ،قَالَ:فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا،فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ r،فَإِذَا فِيهِ:مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ،إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ،يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ r.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«يَا حَاطِبُ،مَا هَذَا؟» قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ،إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ،يَقُولُ:كُنْتُ حَلِيفًا،وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا،وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ،فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ،أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي،وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي،وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ»،فَقَالَ عُمَرُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ،فَقَالَ:" إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا،وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ:اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ".فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ} [الممتحنة:1]- إِلَى قَوْلِهِ - {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108][339].

وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ r سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ،فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ قَالَ:فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ r فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ:«أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ».قَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ:«لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»[340].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r لِأَبِي ذَرٍّ:" أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ - أَظُنُّهُ قَالَ:- أَوْثَقُ؟ " قَالَ:اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:«الْمُوَالَاةُ فِي اللهِ،وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ،وَالْحُبُّ فِي اللهِ،وَالْبُغْضُ فِي اللهِ»[341]

وعن بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ،يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ قَالَ:قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ،مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتُ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهِنَّ لِأَصَابِعِ يَدَيْهِ أَنْ لَا آتِيَكَ وَلَا آتِيَ دِينَكَ،وَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً لَا أَعْقِلُ شَيْئًا إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللهُ وَرَسُولُهُ،وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللهِ بِمَا بَعَثَكَ رَبُّكَ إِلَيْنَا؟ قَالَ:«بِالْإِسْلَامِ» قُلْتُ:وَمَا آيَاتُ الْإِسْلَامِ؟ قَالَ:«أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَى اللهِ وَتَخَلَّيْتُ،وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ أَخَوَانِ نَصِيرَانِ،لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ مُشْرِكٍ بَعْدَ مَا يُسْلِمُ عَمَلًا أَوْ يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ»[342].

وعن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ،قَالَ:كُنَّا بِالْمِرْبَدِ جُلُوسًا،فَأَتَى عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ،لَمَّا رَأَيْنَاهُ قُلْنَا:كَأَنَّ هَذَا رَجُلٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ،قَالَ:أَجَلْ،فَإِذَا مَعَهُ كِتَابٌ فِي قِطْعَةِ أَدِيمٍ،قَالَ:وَرُبَّمَا قَالَ:فِي قِطْعَةِ جِرَابٍ،فَقَالَ:هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ لِي رَسُولُ اللهِ r،فَإِذَا فِيهِ:" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ لِبَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ،وَهُمْ حَيٌّ مِنْ عُكْلٍ،إِنَّكُمْ إِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ،وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ،وَفَارَقْتُمُ الْمُشْرِكِينَ،وَأَعْطَيْتُمُ الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ،ثُمَّ سَهْمَ النَّبِيِّ،وَالصَّفِيَّ،وَرُبَّمَا قَالَ:وَصَفِيَّهُ،فَأَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللهِ،وَأَمَانِ رَسُولِهِ ".[343]

وعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الشِّخِّيرِ،قَالَ:" كُنَّا مَعَ مُطَرِّفٍ فِي سُوقِ الْإِبِلِ بِأَعْلَى الْمِرْبَدِ،فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ،فَقَالَ:أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ ؟ فَقُلْتُ:أَنَا أَقْرَأُ،فَقَالَ:اقْرَأْ هَذِهِ،فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ r كَتَبَهَا لِي،فَأَخَذْتُهَا فَإِذَا فِيهَا:" مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ r إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ حَيٍّ مِنْ عُكْلٍ إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،وَفَارَقْتُمُ الْمُشْرِكِينَ،وَأَعْطَيْتُمْ خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ،وَأَقْرَرْتُمْ بِسَهْمِ النَّبِيِّ r وَصَفِيِّهِ،فَإِنَّكُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "،فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ:هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ r شَيْئًا تُحَدِّثُنَا ؟ فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ:" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ وَحَرِ صَدْرِهِ،فَلْيَصُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ رَمَضَانَ،وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ "،فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ r ؟ فَقَالَ:أَلَا أَرَاكُمْ تَخَافُونَ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ r فَأَخَذَ الصَّحِيفَةَ،ثُمَّ ذَهَبَ ".[344]

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r:" بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي،وَجُعِلَ الذِّلَّةُ،وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي،وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ "[345].

وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،اشْتَرِطْ عَلَيَّ.فَقَالَ:" تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَتُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ،وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ،وَتَنْصَحُ لِلْمُسْلِمِ،وَتَبْرَأُ مِنَ الْكَافِرِ "[346].

وعَنْ جَرِيرٍ:«أَنَّهُ حِينَ بَايَعَ النَّبِيَّ r أَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا،وَيُقِيمَ الصَّلَاةَ،وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،وَيَنْصَحَ الْمُسْلِمَ،وَيُفَارِقَ الْمُشْرِكَ»[347]

 

____________

 


المبحث الثاني والعشرون

من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (موالاة الكفار)

 

عَنْ عِيَاضٍ،أَنَّ عُمَرَ،أَمَرَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ،إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ،فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَعَجِبَ عُمَرُ وَقَالَ:إِنَّ هَذَا لَحَفِيظٌ هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَابًا فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ مِنَ الشَّامِ؟ فَقَالَ إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ،قَالَ عُمَرُ:أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ:لَا بَلْ نَصْرَانِيٌّ،قَالَ:فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي قَالَ:أَخْرِجُوهُ،ثُمَّ قَرَأَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51][348]

وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،قَالَ:سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ،أَنَّ أَبَا مُوسَى،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا،وَمَعَهُ كَاتَبٌ نَصْرَانِيُّ،فَأَعْجَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا رَأَى مِنْ حِفْظِهِ،فَقَالَ:" قُلْ لِكَاتِبِكَ يَقْرَأْ لَنَا كِتَابًا "،قَالَ:إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ،لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ،فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،وَهَمَّ بِهِ،وَقَالَ:" لَا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللهُ،وَلَا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللهُ،وَلَا تَأْتَمِنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ "[349]

وعَنْ مُحَمَّدٍ،قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ:«لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ».قَالَ مُحَمَّدٌ:فَظَنَنْتُهُ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51][350].

وقال الطبري:" وَهَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَظُهُورًا،وَلِذَلِكَ كَسَرَ «يَتَّخِذِ» لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ،وَلَكِنَّهُ كَسَرَ الذَّالَ مِنْهُ لِلسَّاكِنِ الَّذِي لَقِيَهُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ،وَمَعْنَى ذَلِكَ:لَا تَتَّخِذُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارَ ظَهْرًا وَأَنْصَارًا،تُوَالُونَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ،وَتُظَاهِرُونَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ،وَتَدُلُّونَهُمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ،فَإِنَّهُ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ؛يَعْنِي بِذَلِكَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ،وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ بِارْتِدَادِهِ عَنْ دِينِهِ،وَدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً،إِلَّا أَنْ تَكُونُوا فِي سُلْطَانِهِمْ،فَتَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ،فَتُظْهِرُوا لَهُمُ الْوَلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُمْ،وَتُضْمِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ،وَلَا تُشَايِعُوهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ،وَلَا تُعِينُوهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ"[351]

وقال القاضي ابن عطيّة- رحمه اللّه تعالى في معنى قوله تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ...(المائدة/ 51) الآية:" نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة.وحكم هذه الآية باق.وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى:فَإِنَّهُ مِنْهُمْ،وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي،وقد عامل رسول الله r يهوديا ورهنه درعه"[352]

وقال ابن قدامة المقدسيّ- رحمه اللّه تعالى:"وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ،فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَلَا يَقُولَهَا،وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ؛عَنْ خَبَّابٍ،قَالَ:أَتَيْتُ النَّبِيَّ r وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً،وَهُوَ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ،فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ،فَقَالَ:«لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الحَدِيدِ،مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ،مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،وَيُوضَعُ المِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ،فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ،وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ،مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ»،زَادَ بَيَانٌ:«وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ»[353].

وَجَاءَ تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى:{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ - النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ - إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:4 - 6] {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ،أَخَذَ قَوْمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ،فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ،وَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا،ثُمَّ قَالَ:مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَلْقُوهُ فِي النَّارِ.فَجَعَلُوا يُلْقُونَهُمْ فِيهَا،حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ عَلَى كَتِفِهَا صَبِيٌّ لَهَا،فَتَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِ الصَّبِيِّ،فَقَالَ الصَّبِيُّ:يَا أُمَّهْ اصْبِرِي،فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ.فَذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَرَوَى الْأَثْرَمُ،عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ،أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ،فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ،وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ،أَلَهُ أَنْ يَرْتَدَّ؟ فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً،وَقَالَ مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - r - أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَعْمَلُونَ مَا شَاءُوا،وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ،وَتَرْكِ دِينِهِمْ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى،لَا ضَرَرَ فِيهَا،وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ،يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ،وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ،وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ،وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ،وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا،وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلَادًا كُفَّارًا،وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ،وَظَاهِرُ حَالِهِمْ الْمَصِيرُ إلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ،وَالِانْسِلَاخُ مِنْ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ.[354]

وقال ابن تيميّة- رحمه اللّه تعالى-:إِنَّ تَحْقِيقَ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا لِلَّهِ وَلَا يُبْغِضَ إلَّا لِلَّهِ،وَلَا يُوَالِيَ إلَّا لِلَّهِ،وَلَا يُعَادِيَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ وَيَأْمُرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ،وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّك لَا تَرْجُو إلَّا اللَّهَ وَلَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُ إلَّا اللَّهَ وَهَذَا مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ وَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ.[355].

وقال ابن كثير عند قوله تعالى:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ...(المائدة/ 57):وَهَذَا تَنْفِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،مِنَ الْكِتَابِيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ،الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَفْضَلَ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُونَ،وَهِيَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحْكَمَةُ المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي،يَتَّخِذُونَهَا {هُزُوًا وَلَعِبًا} يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا،{وَلَعِبًا} يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّعِبِ فِي نَظَرِهِمُ الْفَاسِدِ،وَفِكْرِهِمُ الْبَارِدِ[356].

وقال الشّيخ عبد اللّطيف بن عبد الرّحمن بن حسن- رحمه اللّه- إن الموالاة تنقسم إلى قسمين.

أولا:موالاة مطلقة عامة،وهذه كفر صريح،وهي بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي،وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار،وأن من والاهم فقد كفر.

ثانيا:موالاة خاصة،وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد،وعدم إضمار نية الكفر والردة كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة في إفشاء سر رسول الله - r - في غزو مكة كما هو مذكور في سبب نزول سورة الممتحنة اهـ.[357].

 

____________

 


المبحث الثالث والعشرون

صور من الانحراف عن عقيدة الولاء والبراء

 

1- الحكام جمعوا بين الحكم بغير ما أنزل الله وموالاة اليهود والنصارى :

من أكثر الفئات انحرافاً عن منهج الإسلام في الولاء والبراء في هذا الزمان - رغم ادعائهم الانتساب للإسلام - فئة الحكام الخارجين على الشريعة المسيطرين على بلاد الإسلام.

وقد اتسع خطر هذه الفئة على الأمة المسلمة حتى أصبحت أشد خطر يحرف الأمة عن عقيدتها،ويمنعها بالقوة من اتباع دينها،وذلك لأنها فئة شديدة الانحراف عن منهج الإسلام شديدة السيطرة على أمور المسلمين وأرواحهم وأموالهم،وفي نفس الوقت شديدة الانتشار فلا يكاد يفلت من شرها بلد من بلاد الإسلام.

وانحراف هذه الفئة انحراف مركب،فهي فئة لا تحكم بالشريعة بالإضافة لموالاتها واستسلامها لأعداء الإسلام الخارجيين وخاصة اليهود والنصارى.

فإذا نظرنا إلى موالاتهم لليهود والنصارى لوجدنا أنهم قد حولوا بلاد الإسلام وخاصة في العالم العربي إلى قواعد لتموين وحشد قوات اليهود والنصارى،..زد على ذلك أن هذه الحكومات قد سخرت جيوشها لخدمة أهداف الحملة الصليبية الجديدة على الأمة الإسلامية.

والناظر إلى ظاهرة الحكام الخارجين عن الشريعة المسيطرين على بلاد الإسلام يجدها تمتد إلى عقود سابقة من الزمان في تاريخنا المعاصر،فقد استطاع أعداء الإسلام وخاصة الأمريكيين واليهود والفرنسيين والإنجليز - عبر سلسلة من المؤمرات والعلاقات الخفية والدعم المباشر وشراء الذمم والرواتب والحسابات السرية والإفساد والتجنيد - تمكين هذه الفئة من مصائر المسلمين،وهذا تاريخ ليس مجال شرحه هنا،ولكننا نشير إلى أن القوى المعادية للإسلام استطاعت بعد الحرب العالمية الثانية أن تحتوي وتصب هذه الحكومات في قالب النظام العالمي الممثل للحلفاء المنتصرين في الحرب وهو قالب الأمم المتحدة.

والأمم المتحدة – باختصار - في ميزان الإسلام هي هيئة كفرية عالمية مسيطرة لا يجوز الدخول فيها ولا التحاكم إليها تقوم على نبذ التحاكم لشريعة الإسلام،والرضوخ لإرادة خمسة من أكابر المجرمين في هذه الدنيا،يسيطرون على قيادة الأمم المتحدة المعروفة بمجلس الأمن.

ونشير أيضاً إلى أن أعداء الإسلام جعلوا هذه الحكومات تقبل بالوجود القانوني للكيان اليهودي في فلسطين عبر العديد من الاتفاقيات الرسمية والمواقف العملية،بدءاً من اتفاقية الهدنة عام 1949 إلى اتفاقيات أوسلو عام 1993.ثم جاءت قمة بيروت الأخيرة عام 2002 لتؤكد على إجماع الدول العربية على قبول الوجود الإسرائيلي قبولاً تاماً.

وجدير بالذكر أن الصلح مع إسرائيل والاعتراف باستيلائها على فلسطين يتضمن إنكاراً لأحكام شرعية واجبة ومعلومة من الدين بالضرورة.

فهو يتضمن إنكار الجهاد العيني المفروض على المسلمين لطرد الكفار الغزاة من ديار الإسلام كما بينا آنفاً،كما أنه يتضمن إنكار وجوب نصرة المسلمين في فلسطين وهو واجب عيني معلوم من الدين بالضرورة،قال الله تعالى :{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [النساء:75] .

قال القرطبي رحمه الله:"قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ.وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَخْلِيصَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسُومُونَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ،وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنِ الدِّينِ،فَأَوْجَبَ تَعَالَى الْجِهَادَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَاسْتِنْقَاذِ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِهِ،وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَلَفُ النُّفُوسِ.وَتَخْلِيصُ الْأُسَارَى وَاجِبٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إِمَّا بِالْقِتَالِ وَإِمَّا بِالْأَمْوَالِ،وَذَلِكَ أَوْجَبُ لِكَوْنِهَا دُونَ النُّفُوسِ إِذْ هِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا.قَالَ مَالِكٌ:وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْدُوا الْأُسَارَى بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ.وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ،لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فُكُّوا الْعَانِيَ)"[358]

ولم يقتصر الأمر على التخلف عن الفروض العينية بل إن معظم الدول العربية قد شاركت في مؤتمر شرم الشيخ 1996 مع إسرائيل وأمريكا وروسيا ومعظم الدول الغربية حيث اتفق الجميع وتعاهدوا على حماية إسرائيل من هجمات المجاهدين.

وفي هذا الإطار من الانصياع لإرادة أكابر المجرمين استطاعت القوى المعادية للإسلام وعلى رأسها الصليبيون الجدد أن يسخروا حكومات بلادنا لخدمة أهدافهم العسكرية والاقتصادية.

حتى وصلنا إلى ما نراه اليوم من حالة التبعية الكاملة للصليبيين الجدد،ففلسطين تمزق وتدمر ويذبح أبناؤها كل يوم وجاراتها العربيات صامتات أو متواطئات،والعراق تشن عليه الحملة تلو الحملة لقتل شعبه المسلم وتقسيم أرضه ونهب بتروله وجيرانه العرب يقدمون كل أشكال المساعدة والدعم لقوات الصليبيين الجدد،وأفغانستان تعبث بها القوات الصليبية وجيرانها يتواطئون مع الأمريكان لتمكينهم من السيطرة على أفغانستان وشعبها.

وسورية يقوم النصيريون ( العلويون) بذبح السنة فيها ويستخدمون كل أنواع البطش والإرهاب ،والكل يتفرج علينا ،بل يتآمر علينا مع النظام الفرعوني في سورية .

هذه الفئة وهي فئة الحكام الخارجين على الشريعة لا يخفى فسادها وإفسادها وجرائمها على عامة المسلمين ناهيك عن خاصتهم،وموالاتهم لليهود والنصارى أظهر من أن تخفى.

ولذلك فإنهم خوفاً من انتفاض الأمة المسلمة وشبابها المجاهد ضدهم - وخاصة في غمرة تصاعد العدوان الصهيوأمريكي على فلسطين والعراق والشيشان وكشمير - استعانوا بعدد من الفئات لتخدير الأمة وضمان استمرار عجزها وسلبيتها واستسلامها،وأخطر هذه الفئات هي التي تتزي بزي الإسلام والدعوة إليه،لتنفذ من خلاله إلى عقيدة الأمة وعقلها وقلبها،تماماً مثلما تحاول الجراثيم الفتاكة أن تتخطى جهاز مناعة الإنسان أو تدمره لتعيث فساداً في خلايا الجسم البشري.

2- أعوان الحكام :

من العلماء الرسمييين والصحافيين والإعلاميين والكتاب والمفكرين وغيرهم من الموظفين الرسميين الذين يتلقون رواتبهم في مقابل نصرة الباطل وتزيينه ومعاداة أهل الباطل وتشويههم :

وهذه الفئة هي أعلى الفئات صوتاً في الموالاة للحكام العملاء والقوات الصليبية الغازية لديار الإسلام،أو أهل الذمة كما يفترون.

لكنهم – للأسف - هربوا من سؤال في غاية الخطورة والحرج:من يدفع الجزية لمن؟

وهذه الفئة بأخلاطها المختلفة اتبعت أسلوباً من التلفيق العقائدي بين العقائد المنحرفة التي نبذها أئمة الإسلام سلفاً وخلفاً،أهل السنة والجماعة.

فهذه الفئة جمعت بين:

1.عقيدة الإرجاء في أفضح صورها – بلا حياء - في إسباغ الشرعية على أسوأ صور الانحلال والتبعية والفساد والنهب الذي تمثله الأنظمة الحاكمة المرتدة الخارجة على الشريعة.

2.بالإضافة إلى تبنيها لمنهج الخوارج في تكفير وتفسيق وتبديع واستباحة دماء وحرمات المجاهدين العاملين للإسلام.

وأشهر هذه الاتفاقات هي اتفاقية السلام مع إسرائيل في عام 1979 التي نصت على إنهاء الحرب بين مصر وإسرائيل إلى الأبد،ومنعت مصر من مساعدة أية دولة تتعرض لعدوان إسرائيل،بل ودعت إلى التطبيع مع إسرائيل في كل المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية،ثم أصدر الأزهر فتوى يبارك فيها هذه الاتفاقية،ويقرر فيها أنها تتفق مع الشريعة !! .

ونوع آخر من المفتين يدعون إلى طاعة أولياء الأمور،وفي نفس الوقت يعتبرون المجاهدين دعاة فتنة،وهم قد أجازوا الاستعانة بالأمريكان وباعتبار جيوشهم الجرارة التي سدت الأفق وأساطيلهم الجبارة التي ضاق عنها البحر والتي بلغت مئات الألوف من الجنود الغزاة من المستأمنين !

ولا ندري من الذي يؤمن من ؟ وصدرت منهم فتاوى جماعية بجواز الاستعانة بالقوات الأمريكية لمواجهة النظام البعثي العراقي بدعوى الضرورة،،بل وأسبغوا الشرعية على وجود جحافل الكفار الغازية لأقدس بقاع المسلمين،وقد مر على وجود هذه القوات حتى الآن أكثر من عشرين عاماً بعد انسحاب العراق واستسلامه،قتلت فيها تلك القوات – بالحصار- قرابة مليون ونصف مليون طفل في العراق دون أن ينطق هؤلاء الموظفون بكلمة واحدة في هذا الشأن.

والأمر ليس أمر استعانة بقوات الكفار ضد قوات صدام البعثية،بل الأمر أمر احتلال لمنابع النفط في جزيرة العرب.فلم يكن هناك ضرورة لإحضار الأمريكان،فإن جيوش الدول العربية والإسلامية كان فيها الكفاية والغنى لحماية الكويت أو تحريرها.

ولكن هؤلاء الحكام لا إرادة لهم،بل هم صنيعة المخططات البريطانية التي رسمت لهم حدودهم،ونصبتهم على عروشهم،ثم ورث الأمريكان النفوذ البريطاني،وأصبح لهم الأمر والنهي على كل حكام الجزيرة العربية وسائر العالم العربي.

إذن فقد جاء السادة ليدافعوا عن ممتلكاتهم،وليس لهؤلاء الشيوخ والملوك شأن بأمن الجزيرة العربية أو الدفاع عنها.

وكل هؤلاء - الذين يقطعون الطريق إلى الله - يأمرون الناس بطاعة أولئك الخارجين على الشريعة في ترك الجهاد الواجب،فارتكبوا بذلك عدة مصائب :

أ‌-أعانوا على استمرار استيلاء الكفار على بلاد الإسلام.

ب‌-ثبطوا الناس عن الجهاد العيني المفروض عليهم.

ت‌-أضفوا الشرعية على الحكومات الباطلة الخارجة على الشريعة.

ث‌-سبوا المجاهدين وافتروا عليهم.

ومن الحيل التي يسوقها هؤلاء دعواهم أن الجهاد حق وواجب وأنه طريق الخلاص ولكن ليس الآن وقته،فالمرحلة الآن مرحلة الإعداد،والمرحلة الآن مرحلة التفرغ للدعوة،إلى آخر هذه الدعاوى.

ويجادلون عن هذه الشبهة جدالاً شديداً،ولكنهم يتهربون من السؤال المحرج الخطير:لماذا بعد كل هذه العقود من المذلة لم تعدوا شيئاً ؟ ومتى سينتهى هذا الإعداد ؟ ولا جواب عندهم لأن الإعداد عندهم لا نهاية لمدته.قال الله تعالى:{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].

وليتهم حتى أصلحوا عقائد الناس ،وبينوا لهم عقيدة التوحيد الصافية كما أنزلت على النبي r،وكما نقلها السلف الصالح،ولكنهم – وللأسف - يبدون بعضها ويخفون كثيراً منها.

فجل كلامهم في التوحيد ينصب على العامة والضعفاء،أما خروج الحكام الطواغيت عن الإسلام وموالاتهم لليهود والنصارى فلا يتطرقون إليه.

ومن العجب أن بلاد الإسلام واقعة تحت النفوذ الأجنبي منذ عقود،وليس الوجود العسكري الاحتلالي الصليبي الحالي نتيجة مفاجأة أو انقلاب طارئ في السياسة الدولية،بل هو ثمرة سياسة مستمرة من التبعية للغرب تمتد لما يزيد عن مائة عام،ومع ذلك لم نسمع من هؤلاء عن هذه المصيبة شيئاً إلا نادراً وبإشارات عابرة وبعيدة.

وتارة يشغبون بقولهم إن المجاهدين لا يقدرون المصالح والمفاسد،وأن ما جلبوه من المفاسد أكثر مما حققوه من المصالح،ولكنهم لا يجيبون على السؤال المحرج:حسناً،وما هو الأسلوب الجهادي الذي تقترحونه والذي يحقق المصالح ويتجنب المفاسد ؟

والجواب عندهم هو:ترك الجهاد.

وإذا سألتهم :لو فرضنا أن المجاهدين لم يقوموا بواجبهم،وانضموا إلى صفكم،صف القاعدين التاركين للجهاد تحت شتى المبررات،فهل كان أعداء الأمة سيتوقفون عن عدوانهم ؟

وهل كان الفساد والإفساد سينحسر؟

وهل كان اليهود سيرحلون عن فلسطين ؟

وهل كانت إسرائيل ستكف عن مخططها لتهويد فلسطين وهدم المسجد الأقصى والسعى لإقامة إسرائيل الكبرى ؟

وهل كان العلمانيون سيكفون عن زيغهم وتضليلهم ؟

وهل كان مروجو الفاحشة سيتوبون ويتعففون ؟

وهل كان الطواغيت الحاكمون سيتركون كراسيهم ويفتحون أبواب السجون ويكفون جلاديهم عن تعذيب شعوبهم؟

وهل وهل وهل ؟

ثم يضيفون إلى هذه الشبهات مزيداً من السحب والحجب،فيخاطبون الشباب بقولهم:لماذا لا تنشغلون بطلب العلم ؟

لماذا لا تنشغلون بمحاورة الكفار ومجادلتهم ؟

لماذا لا تنشغلون بإنشاء المدارس ورعاية الأيتام ومداواة المرضى ؟

لماذا لا تنشغلون بالدعوة إلى العقيدة الصحيحة ؟

وليتهم صدقوا في دعوتهم لتصحيح العقيدة.

وحقيقة دعوتهم هي:لماذا لاتنشغلون عن الجهاد ؟

إنه مرض فقدان المناعة العقائدي الفكري،فلنحذره أشد الحذر،فإن عاقبته الضياع والخسران والذل والاستسلام.وحاصل دعوتهم تثبيط المجاهدين عن الجهاد،وإخلاء الميدان من الشباب المجاهد حتى يأمن الغزاة المعتدين من أية مقاومة أو تدافع،ولذلك فإن أعداء الإسلام ينظرون إليهم في رضا ويشيرون على حكوماتهم بإفساح المجال لهم.

3- دعاة التصالح الموهوم:

والفئة الثالثة من الفئات المنحرفة عن منهج الولاء والبراء هي الفئة التي تدعو إلى التصالح مع الحكومات الخارجة على الشريعة لمقاومة أعداء الأمة.

وملخص منطقهم :نتعاون مع اللص من أجل استعادة ما سرقه منا،ونتصالح مع الفاجر من أجل الحفاظ على الأعراض التي انتهكها،ولو طردوا قاعدتهم لقالوا:نتصالح مع اليهود والنصارى حتى نقنعهم بالخروج من بلادنا ويرحلوا في سلام عنا؟؟ ويطالبوننا بأن نكذب الواقع المشاهد ونصدق هذه الأوهام.

وحاصل دعوة هؤلاء – أيضاً - هو كف المقاومة عن العدو الأساسي للأمة،وتسليم قياد المجاهدين إلى الخونة الذين يطفح تاريخهم بالجرائم ضد الإسلام،والذين لم يدافعوا عن فلسطين يوماً،ولم يألوا جهداً في الاعتراف بإسرائيل،وفتح بلادنا للقوات الصليبية.

4- مجاهدو أمريكا:

والفئة الرابعة من الفئات المنحرفة عن عقيدة الولاء والبراء في هذا الزمان هم بعض الجماعات والقيادات المنتسبين للجهاد في أفغانستان،الذين والوا الأمريكان ومنهم من كان يشار إليه بالبنان،تحرسهم قوات حفظ السلام الدولية تحت علم الأمم المتحدة،وتحيط بهم القوات الأمريكية،وتظلهم القاذفات الأمريكية،وهم مسرورون على ما نالوه من فتات السلطة على أشلاء شعبهم ودماء المجاهدين !

قال الله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) } [محمد].

 

____________


المبحث الرابع والعشرون

ثواب أولياء الله

 

قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32} [فصلت:30 - 32]

إِنَّ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ،وََأَخْلَصُوا لَهُ العِبَادَةَ ،وَثَبَتُوا عَلَى الإِيمَانِ ( اسْتَقَامُوا ) تَتَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالبُشْرَى التِي يُرِيدُونَهَا ،وَبِأَنَّهُمْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِمّا يَقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ ،وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَزَوْجٍ وَوَلَدٍ ،وَيَبَشِّرُونَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ اللهُ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ .

وَتَقُولُ المَلاَئِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ ،وَهُمْ يُبَشِّرُونَهُمْ :نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ فِي الحِيَاةَ الدُّنْيَا نُسَدِّدُ خُطَاكُمْ ،وَنُلْهِمُكُمْ الحَقَّ ،وَنُرْشِدُكُمْ إِلَى مَا فِيهِ الخَيْرُ وَرِضا اللهِ تَعَالَى وَكَذِلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الآخِرَةِ ،نُؤْمِّنُكُمْ عِنْدَ المَوْتِ مِنْ وَحْشَةِ القَبْرِ ،وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ ،وَيَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ ،وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ الخُلْدِ ،وَإِنَّكُمْ وَاجِدُونَ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ مِنَ المَلَذَّاتِ والنَّعِيمِ ،وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَتَمَنونَ وَتَطْلُبُونَ .

وَالذِي أَنْزَلَكُمْ دَارَ الكَرَامَةِ هَذِهِ هُوَ اللهُ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .[359]

يخبر تعالى عن أوليائه،وفي ضمن ذلك،تنشيطهم،والحث على الاقتداء بهم،فقال:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي:اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى،واستسلموا لأمره،ثم استقاموا على الصراط المستقيم،علمًا وعملا فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

{تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} الكرام،أي:يتكرر نزولهم عليهم،مبشرين لهم عند الاحتضار.{أَلا تَخَافُوا} على ما يستقبل من أمركم،{وَلا تَحْزَنُوا} على ما مضى،فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل،{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فإنها قد وجبت لكم وثبتت،وكان وعد الله مفعولا ويقولون لهم أيضا - مثبتين لهم،ومبشرين:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} يحثونهم في الدنيا على الخير،ويزينونه لهم،ويرهبونهم عن الشر،ويقبحونه في قلوبهم،ويدعون الله لهم،ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف،وخصوصًا عند الموت وشدته،والقبر وظلمته،وفي القيامة وأهوالها،وعلى الصراط،وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم،ويدخلون [ص:749] عليهم من كل باب {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ويقولون لهم أيضا:{وَلَكُمْ فِيهَا} أي:في الجنة {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} قد أعد وهيئ.{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي:تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات،مما لا عين رأت،ولا أذن سمعت،ولا خطر على قلب بشر.

{نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أي:هذا الثواب الجزيل،والنعيم المقيم،نزلٌ وضيافة {مِنْ غَفُورٍ} غفر لكم السيئات،{رَحِيمٍ} حيث وفقكم لفعل الحسنات،ثم قبلها منكم.فبمغفرته أزال عنكم المحذور،وبرحمته،أنالكم المطلوب.[360]

والاستقامة على قولة:«رَبُّنَا اللَّهُ».الاستقامة عليها يحقها وحقيقتها.الاستقامة عليها شعورا في الضمير،وسلوكا في الحياة.الاستقامة عليها والصبر على تكاليفها.أمر ولا شك كبير.وعسير.ومن ثم يستحق عند الله هذا الإنعام الكبير.صحبة الملائكة،وولاءهم،ومودتهم.هذه التي تبدو فيما حكاه الله عنهم.وهم يقولون لأوليائهم المؤمنين:لا تخافوا.لا تحزنوا.أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.ثم يصورون لهم الجنة التي يوعدون تصوير الصديق لصديقه ما يعلم أنه يسره علمه ورؤيته من حظه المرتقب:لكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون.ويزيدونها لهم جمالا وكرامة:نزلا من غفور رحيم.فهي من عند الله أنزلكم إياها بمغفرته ورحمته.فأي نعيم بعد هذا النعيم؟[361]

------------

وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) } [الأحقاف:13،14]

إِنَّ الذِينَ قَالُوا :رَبُّنَا اللهُ لا إِلَهَ غَيرُهُ ،وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ ،ثُمَّ ثَبَتُوا عَلَى تَصْدِيقِهِم بِذَلِكَ ،وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهم بِشِرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ ،وَلَمْ يُخالِفُوا أَمْرَ اللهِ ،أُولئِكَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ يَومَ القيامةا وَلا يَحزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُم في الدُّنيا .وََهَؤُلاءِ الذِينَ آمَنُوا بالله واستَقَامُوا عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ ،هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخلُدُونَ فِيها أبداً ،ثَواباً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللها وَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ فِي الدُّنيا .[362]

قال الطبري:" {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] عَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِذَلِكَ فَلَمْ يَخْلِطُوهُ بِشِرْكٍ،وَلَمْ يُخَالِفُوا اللَّهَ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:38] مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهِ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ

وهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ،وَاسْتَقَامُوا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَسُكَّانُهَا {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة:162] يَقُولُ:مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] يَقُولُ:ثَوَابًا مِنَّا لَهُمْ آتَيْنَاهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الَّتِي كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَعْمَلُونَهَا"[363]

وقولة:«رَبُّنَا اللَّهُ» ..ليست كلمة تقال.بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير.إنما هي منهج كامل للحياة،يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه،وكل حركة وكل خالجة ويقيم ميزانا للتفكير والشعور،وللناس والأشياء،وللأعمال والأحداث،وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود.

«رَبُّنَا اللَّهُ» فله العبادة،وإليه الاتجاه.ومنه الخشية وعليه الاعتماد.

«رَبُّنَا اللَّهُ» فلا حساب لأحد ولا لشيء سواه،ولا خوف ولا تطلع لمن عداه.

«رَبُّنَا اللَّهُ» فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه،منظور فيه إلى رضاه.

«رَبُّنَا اللَّهُ» فلا احتكام إلا إليه،ولا سلطان إلا لشريعته،ولا اهتداء إلا بهداه.

«رَبُّنَا اللَّهُ» فكل من في الوجود وكل ما في الوجود مرتبط بنا ونحن نلتقي به في صلتنا بالله.

«رَبُّنَا اللَّهُ» ..منهج كامل على هذا النحو،لا كلمة تلفظها الشفاه،ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة.

«ثُمَّ اسْتَقامُوا» ..وهذه أخرى.فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج:

استقامة النفس وطمأنينة القلب.استقامة المشاعر والخوالج،فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات.وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة.واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار.وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك!

«رَبُّنَا اللَّهُ» ..منهج ..والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره.والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة.وهؤلاء «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..وفيم الخوف وفيم الحزن ..والمنهج واصل.والاستقامة عليه ضمان الوصول؟

«أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..وتوضح كلمة «يَعْمَلُونَ» معنى «رَبُّنَا اللَّهُ»،ومعنى الاستقامة على هذا المنهج في الحياة.فهي تشير إلى أن هناك عملا كان الخلود في الجنة جزاءه.عملا منبعثا من ذلك المنهج:«رَبُّنَا اللَّهُ» ومن الاستقامة عليه والاطراد والثبات.

ومن ثم ندرك أن الكلمات الاعتقادية في هذا الدين ليست مجرد ألفاظ تقال باللسان.فشهادة أن لا إله إلا الله ليست عبارة ولكنها منهج.فإذا ظلت مجرد عبارة فليست هي «ركن» الإسلام المطلوب المعدود في أركان الإسلام!

ومن ثم ندرك القيمة الحقيقية لمثل هذه الشهادة التي ينطق بها اليوم ملايين ولكنها لا تتعدى شفاههم،ولا يترتب عليها أثر في حياتهم.وهم يحيون على منهج جاهلي شبه وثني،بينما شفاههم تنطق بمثل هذه العبارة.شفاههم الجوفاء! إن «لا إله إلا الله» ..أو «رَبُّنَا اللَّهُ» ..منهج حياة ..هذا ما ينبغي أن يستقر في الضمائر والأخلاد،كيما تبحث عن المنهج الكامل الذي تشير إليه مثل هذه العبارة وتتحراه ..[364]

 

____________

 

 

 


المبحث الخامس والعشرون

فتاوى حول الولاء والبراء

 

وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحا لبعض الناس قال فيه ما نصه:(إننا لا نكن العداء لليهود واليهودية وإننا نحترم جميع الأديان السماوية) ،وذلك في معرض حديثه عن الوضع في الشرق الأوسط بعد العداون اليهودي على العرب.

ولما كان هذا الكلام في شأن اليهود واليهودية يخالف صريح الكتاب العزيز والسنة المطهرة،ويخالف العقيدة الإسلامية وهو تصريح يخشى أن يغتر به بعض الناس،رأيت التنبيه على ما جاء فيه من الخطأ نصحا لله ولعباده..فأقول:

قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين،وأن يحذروا مودتهم واتخاذهم أولياء،كما أخبر الله سبحانه في كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد،أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين.

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}إلى قوله سبحانه:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}

ونظرا إلى ما في هذا الكلام من مصادمة الأدلة الشرعية الدالة على أنه لا أخوة ولا محبة بين المسلمين والكافرين ،وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم ،وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني ،لأن الدين الإسلامي هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعه ،أما النصرانية فكفر وضلال بنص القرآن الكريم ،ومن الأدلة على ما ذكرنا قول الله سبحانه في سورة الحجرات :إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ الآية ،وقول الله عز وجل في سورة الممتحنة :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآية ،وقوله سبحانه في سورة المجادلة :لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله تعالى في سورة التوبة :وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الآية وقوله سبحانه في سورة المائدة :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقوله عز وجل في سورة آل عمران :إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ الآية ،وقوله تعالى في السورة المذكورة :وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقوله عز وجل في سورة المائدة :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية ،وقوله سبحانه في سورة المائدة أيضا :لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ الآية ،وقوله تعالى في سورة الكهف :قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وقول النبي r :المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولا يكذبه الحديث رواه مسلم ،ففي هذه الآيات الكريمات والحديث الشريف وما جاء في معنى ذلك من الآيات والأحاديث ما يدل دلالة ظاهرة على أن الأخوة والمحبة إنما تكون بين المؤمنين أنفسهم .

أما الكفار فيجب بغضهم في الله ومعاداتهم فيه سبحانه ،وتحرم موالاتهم وتوليهم حتى يؤمنوا بالله وحده ويدعوا ما هم عليه من الكفر والضلال .

كما دلت الآيات الأخيرة على أن الدين الحق هو دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا r وسائر المرسلين ،وهذا هو معنى قول النبي r :نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد رواه البخاري في صحيحه ،أما ما سواه من الأديان الأخرى سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرهما فكلها باطلة ،وما فيها من حق فقد جاءت شريعة نبينا محمد r به أو ما هو أكمل منه ،لأنها شريعة كاملة عامة لجميع أهل الأرض ،أما ما سواها فشرائع خاصة نسخت بشريعة محمد r التي هي أكمل الشرائع وأعمها وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد كما قال الله سبحانه يخاطب نبيه محمدا r :وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الآية ،وقد أوجب الله على جميع المكلفين من أهل الأرض اتباعه والتمسك بشرعه ،كما قال تعالى في سورة الأعراف بعد ذكر صفة محمد عليه الصلاة والسلام :فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثم قال عز وجل بعدها :قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ونفى الإيمان عن جميع من لم يحكمه ،فقال سبحانه في سورة النساء :فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وحكم على اليهود والنصارى بالكفر والشرك من أجل نسبتهم الولد لله سبحانه ،واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عز وجل بقوله تعالى في سورة التوبة :وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ

ولو قيل أن هذا الاحتفال يعتبر تأكيدا لعلاقات التعاون بين أبناء الديانتين فيما ينفع الجميع ،لكان ذلك وجيها ولا محذور فيه ،ولواجب النصح لله ولعباده رأيت التنبيه على ذلك،لكونه من الأمور العظيمة التي قد تلتبس على بعض الناس .واسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للأخوة الصادقة في الله والمحبة فيه ومن أجله ،وأن يهدي أبناء البشرية جميعا للدخول في دين الله الذي بعث به نبيه محمدا r ،والتمسك به وتحكيمه ونبذ ما خالفه ،لأن في ذلك السعادة الأبدية والنجاة في الدنيا والآخرة ،كما أن فيه حل جميع المشاكل في الحاضر والمستقبل أنه جواد كريم ،وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .

نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ،العدد الرابع ،السنة السابعة في ربيع الآخر سنة 1395 هـ[365]

------------

وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .

أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحا لبعض الناس قال فيه ما نصه :( إننا لا نكن العداء لليهود واليهودية وإننا نحترم جميع الأديان السماوية ) ،وذلك في معرض حديثه عن الوضع في الشرق الأوسط بعد العدوان اليهودي على العرب .

ولما كان هذا الكلام في شأن اليهود واليهودية يخالف صريح الكتاب العزيز والسنة المطهرة ،ويخالف العقيدة الإسلامية وهو تصريح يخشى أن يغتر به بعض الناس ،رأيت التنبيه على ما جاء فيه من الخطأ نصحا لله ولعباده ..فأقول:

قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين ،وأن يحذروا مودتهم واتخاذهم أولياء ،كما أخبر الله سبحانه في كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ،أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين .قال تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله سبحانه :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقال عز وجل في شأن اليهود :تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الآية .وقال تعالى :لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية .

والآيات في هذا المعنى كثيرة ،وهي تدل دلالة صريحة على وجوب بغض الكفار من اليهود والنصارى وسائر المشركين وعلى وجوب معاداتهم حتى يؤمنوا بالله وحده ،وتدل أيضا على تحريم مودتهم وموالاتهم وذلك يعني بغضهم والحذر من مكائدهم وما ذاك إلا لكفرهم بالله وعدائهم لدينه ومعاداتهم لأوليائه وكيدهم للإسلام وأهله ،كما قال تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ ففي هذه الآيات الكريمات حث المؤمنين على بغض الكافرين ،ومعاداتهم في الله سبحانه من وجوه كثيرة ،والتحذير من اتخاذهم بطانة ،والتصريح بأنهم لا يقصرون في إيصال الشر إلينا ،وهذا هو معنى قوله تعالى :لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا والخبال هو :الفساد والتخريب .وصرح سبحانه أنهم يودون عنتنا ،والعنت :المشقة ،وأوضح سبحانه أن البغضاء قد بدت من أفواههم وذلك فيما ينطقون به من الكلام لمن تأمله وتعقله وما تخفي صدورهم أكبر من الحقد والبغضاء ونية السوء لنا أكبر مما يظهرونه ،ثم ذكر سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار قد يتظاهرون بالإسلام نفاقا ليدركوا مقاصدهم الخبيثة وإذا خلوا إلى شياطينهم عضوا على المسلمين الأنامل من الغيظ ،ثم ذكر عز وجل أن الحسنات التي تحصل لنا من العز والتمكين والنصر على الأعداء ونحو ذلك تسوءهم وأن ما يحصل لنا من السوء كالهزيمة والأمراض ونحو ذلك يسرهم وما ذلك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لنا ولديننا .

ومواقف اليهود من الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام كلها تشهد لما دلت عليه الآيات الكريمات من شدة عداوتهم للمسلمين ،والواقع من اليهود في عصرنا هذا وفي عصر النبوة وفيما بينهما من أكبر الشواهد على ذلك ،وهكذا ما وقع من النصارى وغيرهم من سائر الكفرة من الكيد للإسلام ومحاربة أهله ،وبذل الجهود المتواصلة في التشكيك فيه والتنفير منه والتلبيس على متبعيه وإنفاق الأموال الضخمة على المبشرين بالنصرانية والدعاة إليها ،كل ذلك يدل على ما دلت عليه الآيات الكريمات من وجوب بغض الكفار جميعا والحذر منهم ومن مكائدهم ومن اتخاذهم بطانة .

فالواجب على أهل الإسلام أن ينتبهوا لهذه الأمور العظيمة وأن يعادوا ويبغضوا من أمرهم الله بمعاداته وبغضه من اليهود والنصارى وسائر المشركين حتى يؤمنوا بالله وحده ،ويلتزموا بدينه الذي بعث به نبيه محمدا r .وبذلك يحققون اتباعهم ملة أبيهم إبراهيم ودين نبيهم محمد r الذي أوضحه الله في الآية السابقة ،وهي قوله عز وجل :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقوله تعالى :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ وقوله عز وجل :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة .

وفي قوله تعالى :لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا دلالة ظاهرة على أن جميع الكفار كلهم أعداء للمؤمنين بالله سبحانه وبرسوله محمد r ،ولكن اليهود والمشركين عباد الأوثان أشدهم عداوة للمؤمنين ،وفي ذلك إغراء من الله سبحانه للمؤمنين على معاداة الكفار والمشركين عموما وعلى تخصيص اليهود والمشركين بمزيد من العداوة في مقابل شدة عداوتهم لنا ،وذلك يوجب مزيد الحذر من كيدهم وعداوتهم .ثم إن الله سبحانه مع أمره للمؤمنين بمعاداة الكافرين أوجب على المسلمين العدل في أعدائهم فقال تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فأمر سبحانه المؤمنين أن يقوموا بالعدل مع جميع خصومهم ،ونهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم وأخبر عز وجل أن العدل مع العدو والصديق هو أقرب للتقوى .والمعنى :أن العدل في جميع الناس من الأولياء والأعداء هو أقرب إلى اتقاء غضب الله وعذابه .

وقال عز وجل :إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهذه الآية الكريمة من أجمع الآيات في الأمر بكل خير والنهي عن كل شر ،ولهذا روي أن النبي r لما بعث عبد الله بن رواحة الأنصاري إلى خيبر ليخرص على اليهود ثمرة النخل ،وكان النبي r قد عاملهم على نخيلها وأرضها بنصف ثمرة النخل والزرع ،فخرص عليهم عبد الله ثمرة النخل ،فقالوا له إن هذا الخرص فيه ظلم ،فقال لهم عبد الله رضي الله عنه :( والذي نفسي بيده إنكم لأبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ،وإنه لن يحملني بغضي لكم وحبي لرسول الله r على أن أظلمكم ) فقال اليهود :بهذا قامت السموات والأرض .فالعدل واجب في حق القريب والبعيد والصديق والبغيض ،ولكن ذلك لا يمنع من بغض أعداء الله ومعاداتهم ومحبة أولياء الله المؤمنين وموالاتهم ،عملا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ،والله المستعان .[366]

------------

إطلاق كلِمَةَ "أخي" على غير المسلمين:

إنَّ الواجبَ على المسلم المستقيم العقيدة الحَذَرُ من إطلاقِ كَلِمَةِ أَخِي على غَيْرِ المسلمين،من الكُفَّار والمُشْرِكينَ والمُلْحِدينَ،لغير حاجةٍ من تأليفٍ لِقُلوبِهم على الإسلام،أو اتقاءٍ لِشَرِّهم،فإنَّ كثرةَ إطلاقِ كَلِمَةِ "أخ" عليْهِم قد تُؤَدِّي إلى مَيْلِ قَلْبِ المؤمن لهم ومودتهم وعدم بغضهم،ومودةُ الكفار تَقْدَحُ في إيمان العبد،قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}

وقال تعالى حاكيًا عن نبيّه نوح - عليه السلام -:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45].

قال العلامة ابْنُ بازٍ في "مجموع فتاوى ومقالات ابن باز":الكافِرُ ليس أخًا لِلْمُسْلِمِ،والله سبحانه يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ويقول النبي - r -:«المسلم أخو المسلم» فَلَيْسَ الكافرُ:يهوديًّا أو نصرانيًّا أو وثنيًّا أو مجوسيًّا أو شيوعيًّا أو غيرهم - أخًا لِلمسلم،ولا يجوز اتِّخاذُه صاحبًا وصديقًا،لكن إذا أكل معه بَعْضَ الأحيان - من غير أن يتخذه صاحبًا أو صديقًا إنما قد يقع ذلك في وليمة عامة أو وليمة عارضة - فلا حرج في ذلك،أما اتِّخاذه صاحبًا وجليسًا وأكيلا فلا يجوز،لأن الله قَطَعَ بين المسلمين وبين الكفَّارِ الموالاةَ والمحبَّةَ،قال سبحانه في كتابه العظيم:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] وقال سبحانه:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] الآية.فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله،ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم،ولا يتعدَّى عليهم بغير حقٍّ إذا لم يكونوا حربًا لنا،لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا إخوانًا،ومتى صادف أنه أكل معهم في وليمة عامَّة أو طعام عارضٍ مِنْ غير صحبة ولا موالاة ولا مودَّةٍ فلا بأس،ويجب على المسلم أن يُعَامِلَ الكفار إذا لم يكونوا حربا للمسلمين معاملة إسلامية بأداء الأمانة،وعدم الغِشِّ والخيانة والكذب،وإذا جرى بَيْنَهُ وبينهم نزاع جادَلَهُم بالتي هي أحسن وأنصفهم في الخصومة،عملا بقوله تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] ويشرع للمسلم دعوتُهم إلى الخير ونصيحتُهم،والصبر على ذلك،مع حسن الجوار وطيب الكلام لقول الله عز وجل :{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقوله سبحانه:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] وقول النبي - r -:«مَنْ دَلَّ على خير فله مِثْلُ أجر فاعله» والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة".اهـ.

وأمَّا إن كان الكافر أخاه في النسب ولو النَّسَبَ البعيدَ فلا بأس بذلك،أو كان المقصد تأليفَ الكفَّار على الإسلام وما شابه .

قال القُرْطُبِيّ في تفسير قوله تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} {الأعراف:65} قال ابن عباس:أي ابْن أبيهم،وقيل:أخاهم من القبيلة،وقيل أي بشرًا من بني أبيهم آدم.وقال أيضًا:وقيل له أخوهم لأنه منهم وكانت القبيلة تجمعهم،كما تقول يا أخا تميم.وقيل إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنَّهم من بني آدم،وقال أيضا في تفسير قوله تعالى:{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} {الشعراء:106} أي ابْن أبيهم وهي أخوَّة نسب لا أخوة دِين،وقيل هي أخوَّة المجانسة.اهـ.والله أعلم.[367]

----------------

حكم مصاحبة الكافر:

فضيلة الشيخ،سائل يقول:يسكن معي شخص مسيحي،وهو يقول لي:يا أخي،ونحن إخوة،ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟

الجواب:الكافر ليس أخا للمسلم،والله يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10] ،ويقول r:«المسلم أخو المسلم»[368] فليس الكافر -يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو مجوسيا أو شيوعيا أو غيرهم- ليس أخا للمسلم،ولا يجوز اتخاذه صاحبا وصديقا،لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبا وصديقا،وإنما يصادف أن يأكل معكم،أو في وليمة عامة فلا بأس.

أما اتخاذه صاحبا وصديقا وجليسا وأكيلا فلا يجوز ; لأن الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة،فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ،وقال سبحانه:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني يحبون {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22] .

فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله،ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق،لكن لا يتخذهم أصحابا ولا أخدانا،ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس.[369]

---------------

علاقة المسلم بغير المسلمين والمشاركة في حفلات توديعهم:

كيف يحدد المسلم علاقته بالآخرين من غير المسلمين من حيث المعاملة،ومن حيث الاشتراك في حفلات التوديع لبعض الزملاء غير المسلمين؟

الجواب:هذا أمر فيه تفصيل; فإن الكافر له حالات مع المسلم،غير حالته مع الكفار،وغير حالة المسلم مع إخوانه المسلمين،والمقصود أن المسلم لا يبدأ الكافر بالسلام،ولا مانع بل يجب أن يرد عليه إذا سلم،يقول:وعليكم.

ولا مانع أن يسأله عن أولاده وعن حاله،فلا بأس في ذلك،ولا بأس أن يأكل معه إذا دعت الحاجة إلى ذلك،ولا بأس أن يجيب دعوته كما أجاب النبي عليه الصلاة والسلام دعوة اليهود وأكل من طعامهم إذا رأى المصلحة الشرعية في ذلك.[370]

---------------

الواجب على المسلم تجاه غير المسلم:

يسأل السائل فيقول:ما هو الواجب على المسلم تجاه غير المسلم سواء كان ذميا في بلاد المسلمين أو كان في بلاده والمسلم يسكن في بلاد ذلك الشخص غير المسلم.

والواجب الذي أريد توضيحه هو المعاملات بكل أنواعها ابتداء من إلقاء السلام وانتهاء بالاحتفال مع غير المسلم في أعياده؟ وهل يجوز اتخاذه صديق عمل فقط،أفيدونا أفادكم الله؟

الجواب:إن واجب المسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمور متعددة:

أولا:الدعوة إلى الله عز وجل أن يدعوه إلى الله ويبين له حقيقة الإسلام حيث أمكنه ذلك،وحيث كانت لديه البصيرة،لأن هذا أعظم إحسان وأكبر إحسان يهديه إلى مواطنه وإلى من اجتمع به من اليهود أو النصارى أو غيرهم من المشركين،عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r،فَقَالَ:إِنِّي أُبْدِعَ بِي فَاحْمِلْنِي،فَقَالَ:«مَا عِنْدِي»،فَقَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r:«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»[371]

وعَنْ أَبِي حَازِمٍ،قَالَ:أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ:«لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ،يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»،قَالَ:فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا،فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا،فَقَالَ:«أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ».فَقِيلَ:هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ،قَالَ:«فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ».فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ،فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ،فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ،فَقَالَ عَلِيٌّ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ:«انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ،ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ،وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ،فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا،خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»[372]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ r،قَالَ:«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى،كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ،لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا،وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ،كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ،لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»[373]

فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك،هذا من أهم المهمات ومن أفضل القربات.

ثانيا:لا يظلمه،لا في نفس،ولا في مال،ولا في عرض،إذا كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدا فإنه يؤدي إليه حقه،فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش،ولا يظلمه في بدنه بالضرب ولا بالقتل،لأن كونه معاهدا أو ذميا في البلد أو مستأمنا هذا كله يعصمه.

ثالثا:لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك،فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه اشترى من الكفار عباد الأوثان واشترى من اليهود وهذه معاملة وتوفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله عليه الصلاة والسلام.

رابعا:في السلام لا يبدؤه بالسلام،ولكن يرد،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ:«لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ،فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ،فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ»[374]

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ:«إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ»[375]

فالمسلم لا يبدأ الكافر ولكن متى بدأ فسلم عليك اليهودي أو النصراني أو غيرهما تقول:وعليكم،كما قاله النبي عليه الصلاة والسلام.

هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر،ومن ذلك أيضا حسن الجوار إذا كان جارا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره وتتصدق عليه إذا كان فقيرا،وتهدي إليه،وتنصح له فيما ينفعه لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام،ودخوله في الإسلام.

ولأن الجار له حق; فعن عَمْرَةَ،أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ،تَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r،يَقُولُ:«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ،حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَيُوَرِّثَنَّهُ»[376]

وإذا كان الجار كافرا كان له حق الجوار،وإذا كان قريبا وهو كافر صار له حقان:حق الجوار،وحق القرابة.

ومن حق الجار أن يتصدق عليه إن كان فقيرا من غير الزكاة لقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4) [الممتحنة:8] ،وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَتْ:قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r،فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r،قُلْتُ:وَهِيَ رَاغِبَةٌ،أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ:«نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ»[377]

أما بالنسبة لاحتفالاتهم بأعيادهم فالمسلم لا يشاركهم في احتفالاتهم بأعيادهم،لكن لا بأس أن يعزيهم في ميتهم ويقول لهم:جبر الله مصيبتكم،أو أحسن لك الخلف في خير،أو ما أشبه ذلك من الكلام الطيب،ولا يقول:غفر الله له،ولا رحمه الله إذا كان الميت كافرا،فلا يدعو للميت إذا كان كافرا،ولكن يدعو للحي بالهداية والعوض الصالح ونحو ذلك.[378]

-----------------

حكم إلقاء السلام على المسيحي والرد عليه:

هذه رسالة من سائل يقول فيها:هل يجوز إلقاء السلام على المسيحي أفيدونا أفادكم الله؟

الجواب:المسيحي لا يبدأ بالسلام،وهكذا بقية الكفرة ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ:«لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ،فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ،فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ»[379]

وعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،يَقُولُ:مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ:السَّامُ عَلَيْكَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:«وَعَلَيْكَ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:" أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ:السَّامُ عَلَيْكَ " قَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَلاَ نَقْتُلُهُ؟ قَالَ:" لاَ،إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ،فَقُولُوا:وَعَلَيْكُمْ "[380]

فإذا كان اليهود والنصارى لا يبدءون بالسلام ; فالكفار الآخرون كذلك من باب أولى،فالوثني أكفر من اليهود والنصارى،فلا يبدأ اليهودي ولا النصراني ولا البوذي ولا الوثني ولا غيرهم،لكن إذا بدءوا يقال:وعليكم.[381]

----------------

هل يجوز إطلاق اسم "العرَّاب" على منتدى إسلامي ؟ والتنبيه على لفظ "إخواننا المسيحيين"

[هل يجوز تسمية منتدى إسلامي باسم " العرّاب " ؟ ،مع العلم أن " العرّاب " هو الأب الروحي للأخوة المسيحيين ،أو الأشبين الذي يحضر مراسيم الزفاف ،كذلك للأخوة المسيحيين .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً :هناك ملاحظتان على ما ورد في السؤال ،يحسن التنبيه عليهما أولا ،ثم نثني بالجواب على أصل السؤال :

1.قولك " مسيحيين " الأولى الالتزام بتسميتهم بما سماهم الله ورسوله به ،فنقول عنهم :نصارى ،وهو اللقب الذي لا يدل على تزكية أولئك الكفار،أو نسبتهم للمسيح الذي كفروا به في واقع أمرهم ،وادعوا أنه إله ،أو ابن إله ؟!

وقد سماهم الله تعالى في كتابه الكريم " أهل الكتاب " ،و" النصارى " نسبة لقرية " الناصرة " في فلسطين ،أو لأنهم نصر بعضهم بعضاً .

قال الإمام الطبري - رحمه الله - :" سمُّوا " نصارى " لنصرة بعضهم بعضاً ،وتناصرهم بينهم ،وقد قيل :إنهم سمُّوا " نصارى " مِن أجل أنَّهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة " انتهى .[382]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :" وكان المسيح من ساعير أرض الخليل ،بقرية تدعى " ناصرة " ،وباسمها يسمَّى من اتبعه نصارى " انتهى .[383]

وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - :شاع منذ زمن استخدام كلمة " مسيحي " ،فهل الصحيح أن يقال :" مسيحي " ،أو " نصراني " ؟ .

فأجاب :" معنى " مسيحي " نسبة إلى المسيح بن مريم عليه السلام ،وهم يزعمون أنهم ينتسبون إليه ،وهو بريء منهم ،وقد كذبوا ،فإنه لم يقل لهم إنه ابن الله ،ولكن قال :عبد الله ورسوله ،فالأولى أن يقال لهم :" نصارى " ،كما سماهم الله سبحانه وتعالى ،قال تعالى :(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) البقرة/ 113 " انتهى .[384]

2.قولك عنهم " إخوة " ،فهذا لا يجوز .

قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - :" الكافر ليس أخاً للمسلم ،والله سبحانه يقول :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات/10 ،ويقول النبي r :(المسلم أخو المسلم) .فليس الكافر - يهوديّاً ،أو نصرانيّاً ،أو وثنيّاً ،أو مجوسيّاً ،أو شيوعيّاً ،أو غيرهم - أخاً للمسلم ،ولا يجوز اتخاذه صاحباً ،وصديقاً " انتهى[385] .

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :عن وصف الكافر بأنه " أخ " ؟

فأجاب :" لا يحل للمسلم أن يصف الكافر- أيا كان نوع كفره ،سواء كان نصرانيّاً ،أم يهوديّاً ،أم مجوسيّاً ،أم ملحداً - :لا يجوز له أن يصفه بالأخ أبداً ،فاحذر يا أخي مثل هذا التعبير ،فإنه لا أخوَّة بين المسلمين وبين الكفار أبداً ،الأخوة هي الأخوة الإيمانية ،كما قال الله عز وجل :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .[386]

ثانياً :لا ننصحك أن تسمِّي منتداك الإسلامي باسم " العرَّاب " ،فهو اسم قبيح ،وأنتَ ذكرتَ سبباً كافياً للامتناع عن تلك التسمية ،وهي تسمية دينية عندهم ،وتعني " الأب الروحي " - أب في العِماد " godfather " - وثمة سبب ثانٍ وهو أن هذا الاسم هو لبرنامج فيه فسق ومجون في إحدى قنوات الفساد العربية ،وهو - كذلك - يطلق على زعيم عصابات المخدرات في بعض الدول الغربية ،وبه يسمَّى الفيلم الأجنبي المشهور الذي يتكلم عن أحوال تلك العصابات .

فلهذه الأسباب جميعاً ننصحك بترك هذا الاسم ،واختيار الاسم اللائق بدينك ،ولغة قرآنك .

وقد سئلت اللجنة الدائمة :نحن مجموعة من الشباب ملتزمون والحمد لله ،ونعمل سويّاً في مكان واحد ،ونسكن أيضاً في مكانٍ واحدٍ ،ونقوم في وقت الدعابة بمناداة بعضنا البعض بأسماء غير أسمائنا ،مثل (جرجس ،بطرس ،حنَّا ،ميخائيل ،بنيامين) علماً أنه لا تسبب هذه الأسماء لأحدٍ منَّا شيئا من الغضب أو الزعل ،ولكن هذه الأسماء هي أسماء منتشرة بين المسيحيين ،فهل هذا حرام ؟ علماً بأننا لا ننادي بعضنا بها إلا على سبيل الدعابة .

فأجابت :" هذا العمل لا يجوز ،لأنه من التشبه بالكفار في أسمائهم ،وقد قال النبي r :«مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»[387]،فالواجب :تجنب المناداة بهذه الأسماء الأجنبية ،ولو كان ذلك من قبيل المزاح .

وبالله التوفيق ،وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " انتهى .

الشيخ عبد العزيز آل الشيخ , الشيخ عبد الله بن غديان , الشيخ صالح الفوزان , الشيخ بكر أبو زيد .[388]

-------------

ما حكم الولاية بين المؤمن وغيره من أهل الكتاب ومن المشركين ؟:

يقول اللّه سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر} آل عمران :118 وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} النساء :144 وقال {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} آل عمران :28 وقال {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة :22 وقال {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ...} إلى أن قال {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } الممتحنة :1 .

تدل هذه الآيات على حرمة اتخاذ المسلم بطانة من غير المسلمين ،وحرمة اتخاذهم أولياء ،وحرمة موادتهم ومحبتهم ،وبينت مبررات هذا الحكم ،وتوعدت من يخالف ذلك بأنه ضل سواء السبيل .

وفى الوقت نفسه جاءت آية تجيز التعامل مع غير المسلمين كقوله تعالى{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } الممتحنة :8 ،9 إلى جانب نصوص وحوادث كان المسلمون فيها يتعاملون مع غيرهم .

وللتوفيق بين ذلك قال العلماء :إن المحرم المنهى عنه هو الحب القلبى والمودة للإعجاب بما عندهم من عقائد وتشريعات .وكذلك الموالاة والنصرة والثقة بهم والاطمئنان الكامل للتعامل معهم ،لأن الإعجاب قد يؤدى إلى الكفر،ولأن الموالاة قد تؤدى إلى إفشاء الأسرار لهم أو إطلاعهم على أسرار المسلمين لاستغلالها لمصلحتهم والنهى عن هذين الأمرين يشمل الكفار الحربيين وغير الحربيين ،أما التعامل الظاهرى الخالى من الإعجاب والموالاة فلا مانع منه لغير الحربيين من المعاهدين والذميين ،ويمكن الرجوع إلى توضيح ذلك فى عنوان :العلاقة بين المسلم وغيره .

والواجب على المسلمين هو الحذر والحيطة،وللظروف دخل فى ذلك ،ويحمل على هذا ما ورد من قول الرسول r «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ،فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[389]

عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،قَالَ:سَمِعْتُ عِيَاضًا الْأَشْعَرِيَّ،أَنَّ أَبَا مُوسَى،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا , وَمَعَهُ كَاتَبٌ نَصْرَانِيُّ , فَأَعْجَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا رَأَى مِنْ حِفْظِهِ , فَقَالَ:" قُلْ لِكَاتِبِكَ يَقْرَأْ لَنَا كِتَابًا " , قَالَ:إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ , لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ , فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , وَهَمَّ بِهِ , وَقَالَ:" لَا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللهُ , وَلَا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللهُ , وَلَا تَأْتَمِنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ "[390]

--------------

حول كلمة (الولاء للوطن)

السؤال:

يبالغ البعض بالقول أن كلمة الولاء للوطن من الوثنية - في بلد إسلامي يدين أهله بالولاء لله - فما ترون سماحتكم في ذلك ؟

الجواب:

الواجب الولاء لله ولرسوله،بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله.وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه ؟! أما إن كان وطنه إسلاميًا فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه لكن الولاء لله،لأن من كان من المسلمين مطيعًا لله فهو وليه ومن كان مخالفًا لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك فالموالاة في الله والمعاداة في الله.

أما الوطن فيُحَبُّ إن كان إسلاميًا،وعلى الإنسان أن يشجع على الخير في وطنه وعلى بقائه إسلاميًا وأن يسعى لاستقرار أوضاعه وأهله،وهذا هو الواجب على كل المسلمين.نسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والهداية وصلاح النية والعمل،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.[391]

-----------

حكم التقرب إلى الكفار بالمال

ما رأيُ فضيلتكم فيمن يتقرَّب إلى الكفَّار ويواليهم بحجَّة أنهم يفهمون في أمور المادَّة أكثر منَّا ؟ وكيف يكون التعامل معه ؟

التودُّدُ إلى الكفار لا يجوز،لا تجوز محبَّتُهم في القلوب،لأنهم أعداءُ الله ورسوله،تجبُ عداوتهم،قال تعالى :{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة :22 .] ،فلا يجوز للمسلم أن يحبَّ الكافر .

أما التعامل معه في الأمور المباحة،فلا بأس إذا كان الكافر عنده تجارة تبيع معه وتشتري،لا بأس بالبيع والشِّراء معه،هذا من المعاملات المباحة،النبي r تعامل مع اليهود،اشترى منهم،استدان منهم عليه السلام،كذلك إذا كان عندهم خبرات في بعض الأمور،ولا يوجد عند المسلمين من يقوم بها،فلا بأس أن نستفيد من خبراتهم،لكن لا نحبُّهُم،ولا نواليهم،وإنما نؤاجِرُهم أجرةً،يؤدُّون لنا عملاً بالأجرة،مع بغضهم ومع عداوتهم .[392]

-----------

مجاملة الكفار ببعض الأمور

ما حكم من خاف من اعتداء الكفار والمشركين وجاملهم في بعض أفعالهم المنكرات،خوفًا منهم،وليس إقرارًا أو رضاء بما يفعلون ؟

لا يجوز للمسلم أن يجامل الكفار على حساب دينه،أو أن يوافقهم في أفعالهم،لأن أفعالهم ربما تكون كفرًا وشركًا وكبائر من كبائر الذنوب،فلا يجوز للمسلم أن يوافقهم على ذلك،أو أن يشاركهم في ذلك باختياره،بل الواجب عليه أن يُظهِرَ دينه .

ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه،بأن يأمر بالمعروف،وينهى عن المنكر،ويدعو إلى الله عز وجل،هذا هو إظهار الدين،فإذا كان لا يستطيع ذلك،وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار،ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته .

وحالة الإكراه لها حكم خاص،قال سبحانه وتعالى :{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل :106 .] ،والمسموح به في هذه الحالة إنما هو القول باللسان دون موافقة القلب .[393]

-------------

ما حكم زيارة الكفَّار وقبول هداياهم والقيام لجنائزهم وتهنئتهم في المناسبات ؟

زيارة الكفار من أجل دعوتهم إلى الإسلام لا بأس بها،فقد زار النبيُّ r عمَّه أبا طالب وهو يحتضرُ،ودعاه إلى الإسلام ،وزار اليهوديَّ،ودعاه إلى الإسلام (4)،أما زيارة الكافر للانبساط له والأنس به،فإنها لا تجوزُ،لأنَّ الواجب بغضهم وهجرهم .

ويجوز قبول هداياهم،لأنّ النبيَّ r قبل هدايا بعض الكفَّار،مثل هديَّة المقوقس ملك مصر .

ولا تجوز تهنئتُهم بمناسبة أعيادهم،لأنَّ ذلك موالاة لهم وإقرارًا لباطلهم .[394]

-------------

هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى‏؟‏

لا يُعتبَرُ موالاة،لكن يعتبر تشبُّهًا بهم‏.

والصَّحابة رضي الله عنهم كان التاريخ الميلادي موجودًا،ولم يستعملوه،بل عدلوا عنه إلى التاريخ الهجريِّ،وضعوا التاريخ الهجريَّ،ولم يستعملوا التاريخ الميلادي،مع أنه كان موجودًا في عهدهم،هذا دليل على أنَّ المسلمين يجب أن يستقلُّوا عن عادات الكفَّار وتقاليد الكفَّار،لا سيَّما وأنَّ التَّاريخ الميلاديَّ رمز على دينهم،لأنه يرمز إلى تعظيم ميلاد المسيح والاحتفال به على رأس السَّنة،وهذه بدعة ابتدعها النصارى،فنحن لا نشاركهم ولا نشجِّعهم على هذا الشيء،وإذا أرَّخنا بتاريخهم،فمعناه أنَّنا نتشبَّه بهم،وعندنا ولله الحمد التاريخ الهجريُّ،الذي وضعه لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الرَّاشد بحضرة المهاجرين والأنصار،هذا يغنينا‏.‏[395]

----------------

ما حكم السَّفر إلى بلاد غير إسلامية بقصد السُّكنى والاستيطان فيها‏؟‏

الأصل أنَّ السفر إلى بلاد الكفَّار لا يجوز لمن لا يقدر على إظهار دينه،ولا يجوز إلا لضرورة،كالعلاج وما أشبه ذلك،مع القدرة على إظهار الدِّين،والقيام بما أوجب الله سبحانه وتعالى،وأن لا يداهن ولا يُماري في دينه،ولا يتكاسل عن أداء ما أوجب الله عليه‏.

أمَّا السُّكنى،فهي أشدُّ،السُّكنى بين أظهر المشركين لا تجوز للمسلم،لأنَّ النبي r نهى المسلم أن يقيم بين أظهر المشركين،إلا إذا كان في إقامته مصلحة شرعيَّة،كأن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى،ويكون لوجوده بين أظهر الكفَّار تأثير بالدَّعوة إلى الله وإظهار دينه ونشر الإسلام،فهذا شيء طيبٌ لهذا الغرض،وهو الدَّعوة على الله سبحانه وتعالى،ونشر دينه،وتقويةُ المسلمين الموجودين هناك،أمَّا إذا كان لمجرَّد الإقامة والبقاء معهم من غير أن يكون هناك مصلحة شرعيَّة،فإنه لا يجوز له الإقامة في بلاد المشركين‏.‏ومن الأغراض المُبيحة للسَّفر إلى بلاد الكفَّار تعلُّمُ العلوم التي يحتاج إليها المسلمون،كالطِّبِّ،والصناعة،مما لا يمكن تعلُّمه في بلاد المسلمين‏.‏[396]

-------------

هل يجوز السفر بللاد الكفار للتجارة ؟

معنى هذا أنه لو كان مثلاً لغرض التجارة فقط،فيجوزُ له ذلك‏؟‏

يجوز السَّفر لبلاد المشركين بشرطين‏:بشرط أن يكون هذا السَّفر لحاجة،وأن يكون يقدر على إظهار دينه،بأن يدعو إلى الله،ويؤدِّي الواجبات،ولا يترُكَ أيَّ شيء ممَّا أوجب الله تعالى عليه،ولا يُخالط الكفَّار في محلاَّت فسقهم ومجونهم،ولا يغشى المجامع الفاسدة التي توجد في بلاد الكفَّار‏.

بهذه الشُّروط لا بأس أن يسافر،أمَّا إذا اختلَّ شرطٌ منها،فلا يجوز له‏.[397]

--------------

حكم موالاة الكفار:

ما حكم موالاة الكفار والمشركين؟ ومتى تكون هذه الموالاة كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة؟ ومتى تكون ذنبًا وكبيرة من كبائر الذنوب؟

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين :

الله جل وعلا يقول:{يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} [المائدة:51]،وقوله سبحانه:{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة:22] فيجب معاداة الكفار وبغضهم وعدم مناصرتهم على المسلمين وقطع المودة لهم،كل هذا يجب على المسلم أن يقاطعهم فيه وأن يبتعد عنهم ولا يحبهم ولا يناصرهم على المسلمين ولا يدافع عنهم ولا يصحح مذهبهم،بل يصرح بكفرهم وينادي بكفرهم وضلالهم ويحذر منهم.ولا أعرف تفصيلاً في ذلك كما جاء في السؤال.[398]

------------

حكم الاستعانة بالخدم من الدول الكافرة:

هل يجوز دخول الخادمات والسَّائقين غير المسلمين الجزيرة العربيَّة؟

الحمد لله

هذا لا يجوز،دخول الكفَّار إلى الجزيرة العربيَّة،بمعنى أنَّنا نستقدمُهم ونولِّيهم أمورنا وسرائرنا،ونُطلِعُهُم على أحوالنا،هذا لا يجوزُ،لأنهم أعداءٌ،فاستقدام الأيدي العاملة من الكفرة هذا أمر لا يجوز،وذلك لأمور:

الأمر الأول:أن هذا إعانة للكفَّار على المسلمين،والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ}،يعني:من غيركم،يعني:من الكفَّار،{لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118.]،ففي إعطائنا أموالنا لهم تقوية لهم على كفرهم وإعانة لهم.

وثانيًا:أن في استقدامهم إلى بلاد المسلمين أثرًا سيِّئًا على المسلمين وعلى أولاد المسلمين،وهو مما يمكِّنُ الكفَّار من بثِّ شرورهم وسمومهم بين المسلمين.

والأمر الثالثُ:أننا نحرُمُ إخواننا المؤمنين من الأيدي العاملة التي هي بحاجة إلى هذه الأموال.

فالواجب على من يريد استقدام عمَّالٍ أن يستقدم من المسلمين،لِمَا في ذلك من المصالح العظيمة،إعانةً لإخواننا المسلمين،وأمنًا لشرِّ أعدائنا.

هذا من مقتضى الموالاة في الله أننا نستقدم من إخواننا المؤمنين،هذا من الموالاة في الله،ومن مقتضى المعاداة في الله ألا نستقدم الكفار.[399]

-------------

ما هي حدود موالاة أعداء الله ؟

ما هي حدود موالاة أعداء الله والمحادين التي إذا وصلها المسلم أو تجاوزها خرج عن الملة؟ وما هي الحدود التي يجب أن يلتزم بها المسلم في تعامله مع غير المسلمين؟

الحمد لله

الموالاة التي حرمها الله ورسوله:موالاة الكفار هي محبتهم في القلوب،لأنه لا يحبهم إلا إذا كان يرى صحة ما هم عليه،أما لو كان يرى بطلان ما هم عليه فإنه يعاديهم في الله عز وجل.

ومن الموالاة المحرمة:مناصرتهم على المسلمين ومظاهرتهم أو الدفاع عنهم بالقول بتبرير ما هم عليه والاعتزاز بما هم عليه،كل هذا من أنواع الموالاة المحرمة والتي تصل إلى الردة عن الإسلام،والعياذ بالله،قال الله تعالى:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة:آية 51.].

أما ما يجوز لنا من التعامل مع الكفار فهو التعامل المباح نتعامل معهم بالتجارة،ونستورد منهم البضائع،ونتبادل منهم المنافع،ونستفيد من خبراتهم،نستقدم منهم من نستأجره على أداء عمل كهندسة أو غير ذلك من الخبرات المباحة،هذا حدود ما يجوز لنا معهم ولابد من أخذ الحذر،وأن لا يكون له سلطة في بلاد المسلمين إلا في حدود عمله،ولا يكون له سلطة على المسلمين،أو على أحد من المسلمين،وإنما تكون السلطة للمسلمين عليهم.[400]

----------------

حكم السفر إلى بلاد المشركين:

نرى لزاما علينا بيان حكم السفر إلى بلاد المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى،وأن ذلك حرام لمن لم يقدر على إظهار دينه،وليس إظهار الدين أنه يستطيع أن يتلفظ بالشهادتين ويصلي الصلوات ولا يُرَد عن المساجد ولا يشرب الخـمر ولا يأكل لحم الخنزير ونحو ذلك،بل إظهار الدين أمر وراء ذلك،وهو تبيين الرجل عقيدته الإسلامية عند كل مناسبة،وتكفير كل من خالفها،وعيبهم والتحفظ من مودتهم والركون إليهم واعتزالهم،والبراءة منهم.

كما قال تعالى عن خليله إبراهيم -عليه السلام-:{إِنَّا بُرَءَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّـهِ وَحْدَهُ} ( ) .

والنصــوص في هذا كثيرة من الكتاب والسنة،وكلام محققي العلماء من أئمة الدعوة،وغيرهم.فمن ذلك ما ورد في آيات الهجرة،وقوله تعالى:{وَمَن يَتَوَلَّـهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ( ) .{لَا تَتَوَلَّـوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ} ( ) ،{وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّـذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} ( ) ،{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ} ( ) ،{لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} ( ) وغيرها من الآيات.وكلام المفسرين في هذه الآيات الكريمات ظاهر لا إشكال فيه.

وكان النبي r يأخذ البيعة على أصحابه:أن لا ترى نارُك نارَ المشركين إلا أن تكون حربا لهم ( ) .وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الباب.

وهنا مسألة مهمة لا يستهان بها،وهي أن سفر الإنسان لبلادهم لأجل العلاج أو للتجارة أو للسياحة أيسر وأخف من سفره ليكون تلميذا لهم،يتلقى عنهم العلوم،ويأتمر بما يأمرونه به،وينتهي عما ينهونه عنه،فإن هذا أعظم جُرما وأشد خطرا.قال اللَّـه تعالى:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّـتَهُمْ} ( ) .وليس المقصود استيفاء ما ورد في هذا الباب،فنكتفي منه بهذه العجالة.واللَّـه الموفق.[401]

--------------

موادة الكافر هل تحرم مطلقاً؟

السؤال:لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم..." فهل تعني هذه الآية أننا يجب ألاَّ نكن أي عاطفة لأقاربنا من غير المسلمين،حتى ولو كان عندهم اهتمام بالإسلام،ولا يعادون إيماننا؟ أم أن هناك فرقاً بين العاطفة الفطرية والعاطفة بسبب الإيمان؟ هل يكون من الجائز للمسلم أن يكره كفر أقاربه،ومع ذلك يبقى لديه نوع من العاطفة الفطرية نحوهم؟ هل مثل هذه العاطفة تخرج المسلم من الملة؟ أرجو توضيح الأمر.

الجواب

الجواب:الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الواجب على من منّ الله عليه بالإسلام والإيمان والتوحيد أن يبغض الشرك وأهله،فإن كانوا محاربين فعليه أن يعاديهم بكل ما يستطيع،وإن كانوا مسالمين للمسلمين فيجب بغضهم على كفرهم ومعاداتهم لكفرهم،ولكن من غير أن ينالوا بأذى،بل لا مانع من الإحسان إليهم وصلتهم إن كانوا أقارب،وبرهم إن كانوا من الوالدين،كما قال تعالى:"أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير،وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً،واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" [لقمان:15]،وبغض الكافرين لا يمنع من أداء الحقوق،حق القرابة،وحق الجوار،كما قال – r- لما أنذر عشيرته وتبرأ منهم قال:"إن لكم رحماً عندي سأبلها ببلالها" مسلم (204)،وقال سبحانه وتعالى:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة:8]،وقوله سبحانه وتعالى:"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..." [المجادلة:22] المراد من يواد الكافرين ولا يبغضهم البغض الإيماني ولا يبرأ منهم ومن دينهم ومعبوداتهم الباطلة فهذا هو الذي لا يكون مسلماً وإن ادعى الإيمان،وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم:"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" المجادلة:22] فالمؤمنون الصادقون يبغضون الكافرين وإن كانوا أقرب الأقارب إليهم،وعلى هذا فيجتمع في قلب المؤمن المحبة الفطرية الطبيعية والبغض الديني،وقد كان النبي –r- يحب أبا طالب لقرابته ولنصرته له وهو يبغضه لكفره،ولهذا كان حريصاً على هدايته ولكن الله سبحانه وتعالى بحكمته لم يوفقه للإيمان،لأنه تعالى أعلم بمن هو أهل لذلك قال تعالى:"إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين" [القصص:56]،فلك أيها السائل أن تصل أقاربك وأن تبر بالوالدين،وأن تحسن إلى جيرانك وإن كانوا كفاراً،ما داموا لا يجاهرون بعداوة الإسلام والمسلمين،وأما من أعلن محاربته للمسلمين فالواجب محاربته وجهاده حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية كما قال تعالى:"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة:29] والله أعلم.[402]

-------------

مفهوم الولاء والبراء:

البراء والولاء لله -سبحانه- أن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه كما قال -سبحانه وتعالى-:(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُؤا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً) (الممتحنة:من الآية4) وهذا مع القوم المشركين كما قال -سبحانه-:(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة:من الآية3) فيجب على كل مؤمن أن يتبرأ من كل مشرك وكافر.فهذا في الأشخاص.

وكذلك يجب على المسلم أن يتبرأ من كل عمل لا يرضي الله ورسوله وإن لم يكن كفراً،كالفسوق والعصيان،كما قال - سبحانه-:(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات:من الآية7) .

وإذا كان مؤمن عنده إيمان وعنده معصية،فنواليه على إيمانه،ونكرهه على معاصيه،وهذا يجري في حياتنا،فقد تأخذ الدواء كريه الطعم وأنت كاره لطعمه،وأنت مع ذلك راغب فيه لأن فيه شفاء من المرض.

وبعض الناس يكره المؤمن العاصي أكثر مما يكره الكافر،وهذا من العجب وهو قلب للحقائق،فالكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين ويجب علينا أن نكرهه من كل قلوبنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51) .

هؤلاء الكفار لن يرضوا منك إلا إتباع ملتهم وبيع دينك (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:من الآية120) (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) (البقرة:من الآية109) وهذا في كل أنواع الكفر:الجحود،والإنكار،والتكذيب،والشرك،الإلحاد.

أما الأعمال فنتبرأ من كل عمل محرم،ولا يجوز لنا أن نألف الأعمال المحرمة ولا أن نأخذ بها،والمؤمن العاصي نتبرأ من عمله بالمعصية،ولكننا نواليه ونحبه على ما معه من الإيمان.[403]

----------------

حكم موالاة الكفار؟

موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم،قال الله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ،وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ،وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} ،وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض،والذين كفروا بعضهم أولياء بعض،ويتميز هؤلاء عن هؤلاء،فإنها تكون فتنة في الأرض،وفساد كبير.

ولا ينبغي أبدا أن يثق المؤمن بغير المؤمن،مهما أظهر من المودة،وأبدى من النصح،فإن الله تعالى يقول عنهم:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} ،ويقول سبحانه لنبيه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ،والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه،وألا تأخذه فيه لومة لائم،وألا يخاف من أعدائه،فقد قال الله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ،وقال تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .

وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ،والله الموفق.[404]

----------------

حكم مودة الكفار،وتفضيلهم على المسلمين؟

لا شك أن الذي يواد الكفار أكثر من المسلمين قد فعل محرما عظيما،فإنه يجب أن يحب المسلمين،وأن يحب لهم ما يحب لنفسه،أما أن يود أعداء الله أكثر من المسلمين،فهذا خطر عظيم،وحرام عليه،بل لا يجوز أن يودهم،ولو أقل من المسلمين لقوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ،وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} وكذلك أيضا من أثنى عليهم ومدحهم وفضلهم على المسلمين في العمل وغيره،فإنه قد فعل إثما،وأساء الظن بإخوانه المسلمين،وأحسن بمن ليسوا أهلا لإحسان الظن،والواجب على المؤمن أن يقدم المسلمين على غيرهم في جميع الشئون في الأعمال وفي غيرها،وإذا حصل من المسلمين تقصير،فالواجب عليه أن ينصحهم،وأن يحذرهم،وأن يبين لهم مغبة الظلم،لعل الله أن يهديهم على يده.[405]

--------------

الموالاة والمعاداة؟ وحكم هجر المسلم؟

إن الموالاة والمعاداة يجب أن تكون لله عز وجل،فإن من أحب في الله وأبغض في الله،ووالى في الله،وعادى في الله،فقد سلك الطريق التي بها تنال ولاية الله عز وجل،أما من كانت ولايته ومعاداته وحبه وبغضه للهوى،أو للتقليد الأعمى،فقد حرم خيرا كثيرا،وربما يقع في أمر كبير،فقد يعادي وليا من أولياء الله عز وجل،فيكون حربا لله تعالى،كما في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -r- قال:«قال الله عز وجل:من عادى لي وليا فقد آذنته في الحرب» ..." الحديث.

وربما يحب ويوالي عدوا من أولياء الله عز وجل،فيقع في أمر كبير وخطر عظيم كما قال الله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .

وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} ،وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} .

وهجر المسلم في الأصل حرام،بل من كبائر الذنوب إذا زاد على ثلاثة أيام،فقد صح عن النبي - أنه قال:«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة،يلتقيان،فيعرض هذا،ويعرض هذا،وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» .متفق عليه،وروى أبو داود والنسائي بإسناده قال المنذري:إنه على شرط البخاري وسلم:«فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» .

ومن المعلوم أن المسلم لا يخرج عن الإسلام بالمعاصي وإن عظمت،ما لم تكن كفرا،وعلى هذا فلا يحل هجر أصحاب المعاصي،إلا أن يكون في هجرهم مصلحة بإقلاعهم عنها،وردع غيرهم عنها،لأن المسلم العاصي ولو كانت معصيته كبيرة أخ لك،فيدخل في قوله -:لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ..." ومن الأدلة على أن العاصي أخ للمطيع،وإن عظمت معصيته قوله تعالى فيمن قتل مؤمنا عمدا:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .فجعل الله القاتل عمدا أخا للمقتول،مع أن القتل -قتل المؤمن عمدا- من أعظم الكبائر،وقوله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} .إلى قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} .فلم يخرج الله الطائفتين المقتتلتين من الإيمان،ولا من الأخوة الإيمانية.

فإن كان في الهجر مصلحة،أو زوال مفسدة،بحيث يكون رادعا لغير العاصي عن المعصية أو موجبا،لإقلاع العاصي عن معصيته كان الهجر حينئذ جائزا،بل مطلوبا طلبا لازما،أو مرغبا فيه،حسب عظم المعصية التي هجر من أجلها،ودليل ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- وهم الثلاثة الذين خلفوا،فقد أمر النبي r بهجرهم،ونهى عن تكليمهم،فاجتنبهم الناس،حتى إن كعبا -رضي الله عنه-دخل على ابن عمه أبي قتادة -رضي الله عنه- وهو أحب الناس إليه،فسلم عليه فلم يرد عليه السلام،فصار بهذا الهجر من المصلحة العظيمة لهؤلاء الثلاثة من الرجوع إلى الله -عز وجل-،والتوبة النصوح والابتلاء العظيم،ولغيرهم من المسلمين ما ترجحت به مصلحة الهجر على مصلحة الوصل.

أما اليوم،فإن كثيرا من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلا مكابرة وتماديا في معصيتهم،ونفورا وتنفيرا عن أهل العلم والإيمان،فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.

وعلى هذا فنقول:إن الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء،وأما إذا لم يكن فيه شفاء أو كان فيه إشفاء،وهو الهلاك فلا يستعمل.

فأحوال الهجر ثلاث:

إما أن تترجح مصلحته فيكون مطلوبا.

وإما أن تترجح مفسدته فينهى عنه بلا شك.

وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا،فالأقرب النهي عنه،لعموم قول النبي،r:«لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة» .

أما الكفار المرتدون فيجب هجرهم والبعد عنهم،وأن لا يجالسوا ولا يواكلوا،إذا قام الإنسان بنصحهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الإسلام فأبوا،وذلك لأن المرتد لا يقر على ردته،بل يدعى إلى الرجوع إلى ما خرج منه،فإن أبى وجب قتله،وإذا قتل على ردته،فإنه لا يغسل،ولا يكفن،ولا يصلى عليه،ولا يدفن مع المسلمين،وإنما يرمى بثيابه،ورجس دمه في حفرة بعيدا عن المقابر الإسلامية في مكان غير مملوك.

وأما الكفار غير المرتدين فلهم حق القرابة إن كانوا من ذوي القربى،كما قال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ،وقال في الأبوين الكافرين المشركين:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}.[406]

------------

ما حكم الأخذ بالمناهج الدعوية المستوردة؟

نص السؤال

الأخذ بمناهج دعويَّة مستوردة وافدة،هل لذلك أثر على العقيدة،إذا علمنا ضعف عقيدة المتبوعين،أو ضعف عقيدة الولاء والبراء،أو عدم التَّفريق بين الفرق الضَّالَّة بمناهجهم عند أولئك؟ وجزاكم الله خيرًا.

نص الجواب

الحمد لله

الفيصل في هذا هو اتِّباع منهج الرُّسل،خصوصًا خاتَمَ الرُّسل محمدًا r،وخاتم الرُّسل كان أوَّل ما يأمر التَّوحيدُ،ويوصي دعاته أن يدعوا أوَّل شيء إلى التَّوحيد،ثم يأمرُ بعد ذلك بأوامر الدِّين من صلاة وزكاة وصيامٍ وحجٍّ.

قال r لمعاذ:"فليَكُن أوَّلَ ما تدعوهُم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله،فإن هُم أطاعوكَ لذلك،فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات..." إلى آخر الحديث [رواه البخاري في "صحيحه" (2/108) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.].

ثم أيضًا منهج الرسول r في الدعوة مأخوذ من سيرته ومن كتابه الله،لأن الله تعالى يقول:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125.]،ويقول تعالى لنبيِّه r:{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108.].

{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}:فيجب على الدَّاعية أن يكون مخلصًا في نيَّته،بأن يكون قصده الدَّعوة إلى الله،ليس قصده الدَّعوة إلى نفسه أو الدَّعوة إلى شخص معيَّن أو منهج معيَّن أو طائفة معيَّنة،وإنما يقصد الدَّعوة إلى الله،وإخراج الناس من الظُّلُمات إلى النُّور،ونفع الناس،هذا قصدُ الدَّاعية المخلص.

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى على هذه الآية:{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}،قال:"فيه وجوبُ الإخلاصِ في الدَّعوةِ،لأنَّ بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه،ولا يدعو إلى الله" [انظر:"كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى (ص45-46) بمعناه.].

فالذي يدعو إلى نفسه،أو يدعو إلى طائفة،أو يدعو إلى منهج،أو يدعو إلى متبوع،لا يدعو إلى الله،وإنما يدعو إلى ما دعا إليه من غير الله.

فالواجب على الدَّاعية أن يكون قصدُه الإخلاص لله عز وجل،ويكون قصده نَفْعَ الناس وإخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور،لا التحزُّب ولا التّجمُّع مع الطَّوائف الأخرى،ولا المنازعات ولا الخصومات،ولا الانتصار لفلان أو علاّن،وإنما ينتصر للحقِّ،ويتَّبعُ منهج الحقِّ،هذا هو الذي يدعو إلى الله على المنهج الصَّحيح.

الدَّعوة إلى الله بالإخلاص،الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسنُ.

هذا منهج الدَّعوة الملخَّصُ من كتاب الله وسنة رسوله r،ومن سار على هذا المنهج،فهو الدَّاعية إلى الله حقًّا،ومن خالف هذا المنهج،فإنه ليس داعيةً إلى الله،وإنما هو داعية لما أراد من الأمور الأخرى،فلا بدَّ من هذا المنهج.

والمنهج في الإسلام واحد،لا مناهج في الإسلام،قال تعالى:{اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ،صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6،7.]،هذا منهج الإسلام،وهذه المناهج الأخرى،وقال سبحانه:{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153.].

ليس في الإسلام إلا منهج واحد،منهج الرسول r،الذي سار عليه السَّلف الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين ومن جاء بعدهم من الدُّعاة والمجدِّدين لدين الله،منهج واحدٌ،لا انقسام فيه ولا اختلاف.

وعلامة هذا المنهج أنَّ الذين عليه لا يختلفون،بل يكونون جماعة واحدة،لا يختلفون فيها،بل يكونون مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين،وعلامة المناهج المنحرفة وجود الاختلافات بين أهلها،والعداوة بين أهلها،والنِّزاع بين أهلها،فهذا هو الفارق.

الواجب أن نكون على منهج واحد،منهج الكتاب والسُّنَّة وسلف هذه الأمة،وهو المنهج الصَّحيح الذي يجب أن نسير عليه في دعوتنا إلى الله،وفي عملنا،وفي علمنا،وفي جميع أمورنا،لو أخذنا بهذا،لم يحصل اختلافٌ،ولم يحصل عداوات،ولم يحصل تفرُّقٌ،إنما يحصل التَّفرُّقُ من مخالفة هذا المنهج،والتماس مناهج أخرى،هذا هو الذي يوجب التفرق واختلاف.[407]

-------------

الرايات الجاهلية:

الحمدلله وبعد،،

في فترة مضت كان هناك سيطرة غالبة لراية الإسلام والإسلامية،وكانت الرايات الجاهلية في ضعف في واقعنا المحلي،وقد لاحظت مؤخراً أن هناك زحفاً للرايات الجاهلية بدأت تزاحم به راية الإسلام والإسلامية،وأكثر ما يؤلم دخول بعض المنتسبين للدعوة في هذا الأمر،وأهم هذه الرايات المزاحمة رايتي:الإنسانية والوطنية.

سأناقش هاهنا بشكل موجز هذه الإشكالية.

ماهي الراية؟

الراية هي التي تنظم المقصد وأولويات العلاقة،وهي ما يكون عليه الولاء والبراء،والموالاة والمعاداة،وما يكون معقد الانتماء الأساس،ويتبين ذلك في آثاره ونتائجه،ولنضرب على ذلك أمثلة:

إذا أثّرت الراية في ترتيب أولويات العلاقة بين المسلم وغير المسلم،أو بين السني والمبتدع،فهي راية جاهلية،فإذا قدّم غير المسلم الذي يشاركه رايته على المسلم الذي لا يشاركه رايته،فهي راية جاهلية.

وإذا قدّم المبتدع الذي يشاركه رايته على السنّي الذي لا يشاركه رايته،فهي راية جاهلية.

وإذا قدّم الرجل الفاسق الذي يشاركه رايته،على التقي الصالح الذي لا يشاركه رايته،فهي راية جاهلية.

فأنت تلاحظ في كل الأمثلة الثلاثة السابقة كيف تدخلت الراية الجاهلية وقلبت الموازين الشرعية.

ولذلك تلاحظ بعض أصحاب الرايات الجاهلية يقدم ويوالي من يستغيث بالحسين على المسلم الموحّد،لأن الأول مواطن معه في بلده،والثاني أجنبي غير مواطن يعيش في أفريقيا! وفي مثل هذه التطبيقات يتضح فعلاً ضلال الرايات الجاهلية ومعارضتها لأصول الإسلام.

الراية ليست مسألة شكلية:

مسألة (الراية) ليست مسألة هامشية أونظرية بحتة،أوشكلية،بل لها بعد موضوعي عميق،فالراية في حقيقة الأمر هي المظهر المعبّر عن المقصد والغاية،والقصد والغاية تدور عليها أحكام الإسلام،ولذلك كان أهل العلم يقولون عن حديث "إنما الأعمال بالنيات" أنه يدور عليه الإسلام،كما قال الشافعي  (هذا الحديث ثلث العلم،ويدخل في سبعين باباً من الفقه)[المجموع،للنووي،1/36،طبعة إحياء التراث].

وكان الإمام أحمد يقول :أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث،وذكر منها "حديث الأعمال بالنيات".

فالنية والقصد والغاية هي مدار الإسلام،والراية هي المظهر الخارجي للغاية والمقصد.

وقد نبّه النبي –r- تنبيهاً خاصاً لمسألة الراية،كما روى مسلم في صحيحه من حديث جندب البجلي وأبي هريرة أن النبي –r- قال:«من قاتل تحت راية عميّة،يغضب لعصبة،أو يدعو إلى عصبة،أو ينصر عصبة،فقتل فقتلة جاهلية»[مسلم،4892]

أجمل مافي هذا الحديث أن النبي –r- نفسه شرح معنى (الراية العميّة) وهي أن تغضب لعصبة،أو تدعوا لعصبة،أو تنصر عصبة،فجمع المشاعر والانتماء العاطفي (الغضب)،والعمل الحركي (يدعو)،والنصرة وهي الدخول طرفاً في الصراعات (ينصر).وجعل كل هذه الأعمال في سبيل العصبة إنما هي (راية جاهلية).

ونبّه الإمام ابن تيمية في شرحه لحديث الراية هذا إلى أن "العصبية" هاهنا قد تكون عصبية لـ(قوم)،أو عصبية لـ(وطن)،كما يقول ابن تيمية (ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه،أو أهل بلده،ونحو ذلك،وسمى الراية عميّة)[ابن تيمية،اقتضاء الصراط،1/222،ت العقل].

وفي هذا الحديث السابق جعل النبي –r- الراية جاهلية،وفي حديث آخر في صحيح مسلم نفسه جعل النبي فاعل هذا العمل خارج أمته،كما يقول النبي –r:«ومن قتل تحت راية عميّة،يغضب للعصبة،ويقاتل للعصبة،فليس من أمتى»[مسلم،4894]

وهاهنا تناسب واضح في العقوبة والفعل،فمن ناضل تحت راية غير إسلامية،فيعاقب بأن يخرج من راية الأمة الإسلامية نفسها.

ولذلك تلاحظ في من يرفع دوماً راية يشترك فيها مع غير المسلمين،ويرضى أن تكون هذه رايته التي يعمل في حياته من أجلها،أن هذا التشابه في الظاهر يورث تشابهاً مع غير المسلم في الباطن،كما نبّه الإمام ابن تيمية في مسألة التشبه،حيث يقول:

(المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين ،يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال ،وهذا أمر محسوس ،فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ،واللابس لثياب الجند المقاتلة يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ،ويصير طبعه متقاضيا لذلك ،إلا أن يمنعه مانع)[ابن تيميةن اقتضاء الصراط المستقيم،1/80،ت العقل]

بل هناك ما هو أخطر من ذلك،وهو تسرب الحب والموالاة لغير المسلمين،كما يقول ابن تيمية(المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن،كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر،وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة)[ابن تيمية،اقتضاء الصراط المستقيم،1/488]

فإذا كانت هذه آثار المشابهة في اللباس والهدي الظاهر،فكيف بالمشابهة في الراية؟!

وقد استخلص الإمام ابن تيمية من مجموع النصوص القرآنية والنبوية الواردة في موضوع (الراية) قاعدة كلية رائعة،حيث يقول:

(وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن:من نسب،أو بلد،أو جنس،أو مذهب،أو طريقة:فهو من عزاء الجاهلية)[ابن تيمية،الفتاوى،28/328]

راية الإنسانية:

أحد هذه الرايات الجاهلية التي بدأت تزحف إلى واقعنا راية "الإنسانية" ،فتجد البعض صار يقول:أنا لست مفكر إسلامي بل مفكر إنساني.والبعض يقول:نحن لسنا حركة إسلامية،بل حركة إنسانية.والبعض يقول لا تسمينا (متطوعين إسلاميين) بل نحن أصحاب أفق أوسع نحن (متطوعون إنسانيون)،والبعض يصف المساعدات التي يقدمها المسلمون لإخوانهم على أنها (مساعدات إنسانية) وليست مساعدات على أساس العقيدة! وآخرون يقولون:يجب أن نقصي اعتقاداتنا الشخصية،ونجتمع مع العالم على أساس الإنسانية!

وعقيب أحداث سبتمبر تسلل إلى المسؤولين السعوديين بعض التغريبيين وصاروا يلحون على أن تتخلى المملكة عن صبغتها الإسلامية السنية المعروفة،وتتبنى الصبغة الإنسانية،حتى لا تحرج بالحرب الأمريكية على الإرهاب،ولذلك انتشرت في تلك المرحلة مصطلحات:مملكة الإنسانية،وملك الإنسانية الخ،بل إن في تلك الفترة صار هناك إمعان في الإعلان عن تبرعات لغير المسلمين،تحت راية:التبرعات الإنسانية،ومملكة الإنسانية،الخ

وهذه كانت خسارة رهيبة لأضخم رصيد رمزي تمتلكه السعودية،وهي كونها الملجأ التقليدي لأهل السنة في العالم،والمدافع التقليدي عن قضايا المسلمين في العالم،وهذا الرصيد يمثل عمقاً استراتيجياً لنا يحفظ استقرارنا السياسي.

على أية حال،أشعر أن هذه النغمة خفت في الصوت الرسمي،ولكنها بقيت في الإعلام الليبرالي.

ومن التنبيهات اللطيفة لراية الإنسانية،التقاط جميل للشيخ ابن عثيمين،يقول فيه:

(أما هؤلاء،أي اليهود والنصارى،فليسوا إخوة لنا،فإذا قال قائل "إنهم إخوة لنا في الإنسانية" قلنا:لكن هؤلاء كفروا بالإنسانية،ولو كان عندهم إنسانية لكان أول من يعظمون خالقهم)[ابن عثيمين،الشرح الممتع،14/415،طبعة ابن الجوزي]

راية الوطنية:

ومن الرايات العميّة الجاهلية (راية الوطنية)،وهي أشد تفشياً،وخصوصاً بعد أحداث العنف،ومن أخطر الدعوات على أساس هذه الراية،قول من يقول:ليتخل كل منا عن الدعوة لعقيدته،ولنجتمع على القضايا المادية للوطن! هذه الدعوة يرددها البعض اليوم بصيغة شبه صريحة!

وقد نبه الشيخ ابن باز –عليه رحمات الله- على هذه الراية الوطنية مبكراً،حين كتب كتابه في مسألة فكرية معاصرة،وهو كتاب (نقد القومية العربية)،وهو كتاب يثير في كوامن النفوس أموراً كثيرة،حين يرى طالب العلم هذا العالم العامل كيف ينزل للساحة الفكرية،ويقارع التيارات الفكرية المنحرفة بعزة المسلم وعمق العالم،يقول الشيخ ابن باز:

(الواجب أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام،والدعوة إلى تحكيمه،بدلا من الدعوة إلى قومية أو وطنية)[ابن باز،نقد القومية العربية على ضوء الإسلام،ص30]

وهذا الكتاب لابن باز في معالجة مذهب فكري معاصر له،وهو (القومية)،يذكرني بكتاب آخر لخاتمة الفقهاء الإمام ابن عثيمين حيث كتب كتاباً في مذهب فكري معاصر له،وهو (الاشتراكية)،وتفنن الشيخ فيه،فذكر فيه سبعين دليلاً على بطلان النظرية الاشتراكية! وأكثرها لم يسبق إليها،وقد كتبه الشيخ في عام 1381هـ،فانظر لهذين الإمامين،زهرتا هذه البلاد،كيف يهتمان بالواقع الفكري المعاصر لهما،ويحاكمانه إلى القرآن والسنة.

حسناً،دعنا نعود لموضوعنا،ففي موضع آخر تحدث الشيخ ابن باز  حول حضور هذه الراية الوطنية في الحروب:

(وعلِّقوا النصر بأسبابه التي علقه الله بها , لا بالعروبة،ولا بالوطنية،ولا بالقومية،ولا بأشباه ذلك من الألفاظ والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان)[ابن باز،مجموع فتاواه]

وقد أشار الشيخ ابن عثيمين إلى الأثر الذي يريده دعاة الوطنية،حيث يقول:

(الواجب يا إخواني ألا نكون وطنيين وقوميين،أي:ألا نتعصب لقومنا ولوطننا،لأن التعصب الوطني قد ينضم تحت لوائه المؤمن والمسلم والفاسق والفاجر والكافر والملحد والعلماني والمبتدع والسني،وطن يشمل كل هؤلاء،فإذا ركزنا على الوطنية فقط فهذا لا شك أنه خطير،لأننا إذا ركزنا على الوطنية جاء إنسان مبتدع إلى إنسان سني وقال له:أنا وإياك مشتركان في الوطنية،ليس لك فضل عليَّ ولا لي فضل عليك،وهذا مبدأ خطير في الواقع،والصحيح هو التركيز على أن نكون مؤمنين)[ابن عثيمين،لقاء الباب المفتوح،ل48]

وتلاحظ أن هذا الأثر الذي يذكره الشيخ ابن عثيمين بدأنا نلمس آثاره اليوم،فلله در هذا الفقيه كيف استطاع أن يكتشف مآلات المفهوم بشكل مسبق.

وأما سيد قطب –عليه شآبيب الرحمة- فقد شحن كتبه بالتحذير من هذه الرايات الجاهلية،حيث يقول مثلاً رحمه الله (وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ،ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة :راية الله ..لا راية الوطنية.ولا راية القومية.ولا راية البيت.ولا راية الجنس.فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام)[سيد قطب،ظلال القرآن، 6/3348]

وله من مثل هذه الإلماحات شواهد لا تنتهي.

وهكذا تحدث عن هذه الرايات المودودي وابوالحسن الندوي وغيرهم،ولا نطيل بذكر الاقتباسات.

ومن المثير للاستغراب أن البعض يقر لك بأن (القومية) راية غير شرعية،ومع ذلك تجده يتغنى بالراية (الوطنية) برغم أنها أضيق منها! فالقومية العربية على الأقل يدخل فيها مسلمون أكثر! لا أدري ما الفرق بين الوطنية والقومية؟! إما أن يكونا كلاهما مشروعان،أوكلاهما باطلان،فكلاهما رايتان على غير أساس العقيدة.

لماذا إذاً نهتم ببلدنا؟

السؤال الذي يمكن أن يدور في ذهن القارئ الآن:دام أن الوطنية راية جاهلية،فلماذا إذا نهتم ببلدنا؟

الحقيقة نحن نهتم ببلدنا في كافة مصالحه لاعتبارات أعظم وأجل من دافع الوطنية،فنحن يدفعنا لنصرة بلدنا والدفاع عن قضاياه:كونه جزيرة الإسلام،ومبعث محمد r،ومحضن الحرمين،ومنطلق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب،وكونه أفضل بلد في العالم الإسلامي من حيث المكتسبات الشرعية في القضاء الشرعي،والتعليم العام،وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والمؤسسات الدعوية والغوثية،ومنزلة العلماء في المجتمع،ونحو ذلك.

فبالله عليك أينا أكثر انتماءً وصدقاً،رجل يتمسك بمصالح بلده عقيدةً،أم رجل يتمسك بها لشعبة جاهلية مادية؟ فلو تغيرت جنسية هذا الوطني لتغير انتماؤه،أما العقدي فمهما تغيرت جنسيته فولاؤه عميق لجزيرة الإسلام.

ومن أراد التوسع في معرفة مبررات الإسلاميين للتعلق بهذا البلد فليراجع رسالة لذيذة للشيخ بكر ابوزيد بعنوان (خصائص جزيرة العرب) طبعت عدة طبعات،وقد ذكر فيها الفضائل الشرعية لجزيرة الإسلام.

وقد نبّه الشيخ ابن عثيمين إلى أننا سنخسر إذا تبنينا هذه الشعارات،وتركنا تميزنا الإسلامي،وأن راية الوطنية راية"فاشلة" ،يقول الشيخ ابن عثيمين:

(كوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن وما أشبه ذلك،دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا وندافع عن وطننا من أجل ديننا! لأن وطننا -والحمد لله- وأعني بذلك المملكة العربية السعودية هو من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله،فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية أي:أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر بالنسبة لإقامة الدين،فأنا أدافع عن وطني لأنه الوطن الإسلامي الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره،وإن كان عندنا خلل كثير،فهذا لا بأس،أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة)[ابن عثيمين،لقاء الباب المفتوح،ل42]

الخطر الأكبر من الرايات الجاهلية:

أكبر ضرر من هذه الرايات الجاهلية هو (ضياع الأجر والثواب) على هذا العامل،فمن كان يعمل لله سبحانه وتعالى،فسيجد الثواب من الله جل وعلا،أما من عمل لهذه الرايات الجاهلية فإن الله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك،كما قال الله في الحديث القدسي (أنا أغنى الشركاء عن الشرك،من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى،تركته وشركه)[صحيح مسلم،7666]

فمن يرى الوطنية والإنسانية ونحوها من الرايات الجاهلية تتفشى في الشباب ثم لا ينصح لهم،فهو أناني لا تعنيه إلا نفسه،فغاية حب الخير للناس أن تسعى لتصحيح أعمالهم وإخلاصهم ومقاصدهم كي ينالوا الأجر من الله.

التمييز بين الوصف والراية:

ومن المهم هاهنا التمييز بين الوصف الشرعي الصحيح والراية الباطلة،ومن أهم أمثلة ذلك وصف (المهاجرين والأنصار) فهي أوصاف شرعية صحيحة،لكن لما استعملت في سياق عصبية لغير الحق،سماها النبي دعوى الجاهلية! كما في صحيح مسلم عن جابر قال:

(كنا مع النبى -r- فى غزاة،فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصارن فقال الأنصارى "يا للأنصار"،وقال المهاجرى "يا للمهاجرين".فقال رسول الله -r- «ما بال دعوى الجاهلية».قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار.فقال r «دعوها فإنها منتنة».)[صحيح مسلم،6748]

فإذا كان هذا في وصف شرعي صحيح سماهم القرآن به كما قال تعالى:[وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ][التوبة،100] وقال تعالى:[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ][التوبة،117].ومع ذلك لما صار راية عصبية لغير الحق سماه النبي (دعوى الجاهلية) ! فكيف بالله عليكم في راية (الإنسانية) وراية (الوطنية) التي يراد تذويب الحواجز العقدية فيها،ومساواة المسلم بالكافر،ومساواة السني بالمبتدع،في كافة الحقوق،ومنها حق الدعوة والنشر،فالمسلم والكافر،والسني المبتدع،كلهم لهم الحق في نشر ما يشاؤون،فأي مساواة بين الحق والباطل أفظع من هذا؟!

ولهذا نبه الشارع على مسألة (الراية) وبين خطورتها،ولهذا تفطن أهل العلم والدعوة لخطر هذه الرايات العميّة الجاهلية!

ومن تطبيقات هذه القاعدة،أعني التمييز بين الوصف والراية،أن استعمال الوطن أو الإنسانية في سياق الوصف الصحيح مشروع،كقولنا:حب الوطن فطري،أو قولنا:الشريعة جاءت بتكميل إنسانية الإنسان،فهذا كله استعمال لها في سياق الوصف الصحيح،ولا غبار عليه،وإنما الخلل في تحويلها إلى (رايات) تجعل هي المقصد والغاية،وتجعل هي أساس الولاء،وتقلب فيها الموازين الشرعية.والله أعلم،،[408]

---------------

إعادة قراءة الولاء والبراء

قرأت للبعض مؤخراً أطروحات متعددة حول ضرورة إعادة قراءة (الولاء والبراء) ،وقضايا بغض الكافر،والزوجة الكتابية،الخ الخ ..ولما تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن (الولاء والبراء) مثقال ذرة،ولم يتغير عندهم أي شئ حول وجود (الولاء والبراء) في تصرفاتهم وسلوكهم،وإنما الذي تحول عندهم هو (أرضية الولاء والبراء) أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط.

فقد كانوا سابقاً يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل من كفر بالله بغضاً دينياً،ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك،لكن لو قلت لهم:إنني أحب من يعادي وطني لشنعو عليك،ولو قلت لهم:إنني أوالي أو أصافح من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفاً وتخلفاً.

فالقضية يا سادة ليست تخلٍ عن الولاء والبراء،وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء،فقد كانوا سابقاً يقولون أن "الله" هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه،وصاروا الآن يقولون "الوطن" هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه.

هذه كل القضية.

فالولاء والبراء لم ينته لحظة واحدة،ولكن تحول أساس الولاء والبراء من (الله) إلى (الأرض) كما أشار تعالى فقال (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف:176] وقال تعالى (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) [التوبة:38]

وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله –r- يتعاملون مع الجهاد على أسس وطنية،لا على أسس عقدية،فهم لم يرفضو القتال،ولكن يرون القتال مبرراً على أساس الوطن لا العقيدة،كما قالوا في تحليلهم الفكري لجهاد الرسول (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) [الأحزاب:13]

إنه مشهد يتكرر،ولكنه يتكرر بألم،حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله،فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الوطن أمراً مقبولاً،بل رقياً فكرياً،لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القرب والبعد من الله،فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص!

الأمر لا يحتاج بتاتاً كل هذه الفذلكة،لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس،وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض،فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذراً لنقل ولائهم وبرائهم من (الله) جل جلاله إلى (الوطن).

القضية باختصار شديد،لو كانوا يريدون الحق،أن كل كافر فهو عدو لله بمجرد كفره كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98] ،وأخبر أنه لايحب الكافرين فقال (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:32] وأخبر أنه يمقت الكافرين فقال  (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا) [فاطر:39].

وعداوة المؤمن تبع لعداوة الله كما قال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101].

فكل مؤمن لابد أن يقوم في نفسه "العداوة القلبية الدينية" لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا،فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليبكِ على إيمانه،ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب خالقه وعدو خالقه في آن واحد.

إلا إن كان المؤمن يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحبابٌ له،فهذا شأن آخر.

أو كان المرء يقول:إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو لله،وإذا حاربنا فهو عدو لله،فصارت كرامته أعظم في نفسه من كرامة الله،فهل يقول هذا عاقل؟!

فأي تحدٍ لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين،وأن الله لايحب جميع الكافرين،ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول:أما نحن فنحب بعض الكافرين؟!

وتأمل معي في قوله تعالى (هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران:119]

فهؤلاء قوم مظهرين للمسالمة،بل يظهرون غاية المسالمة،حتى أنهم إذا لقو الذين آمنوا قال آمنا،ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم،ولم يبح لهم حبهم بحسب ظاهرهم.

ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي –r- فمن ذلك أن اسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري،4230]

فبالله عليك انظر في قول هذه الصحابية الجليلة،فأهل الحبشة مسالمون،بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش،ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء"،لماذا؟ لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً،وأن كل كافرٍ فهو قطعاً عدو لله مبغوض له مهما كان مسالماً عسكرياً.

ولما بعث نبي الله –r- عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافو أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح:(يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي،وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد:14966]

فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين،ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم.

وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً،ومن الطرائف أن بعض الناس لكي يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية،ويدعي أننا أسرى للفكر الوهابي،وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية،الخ وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية.

والواقع أن قاعدة (البغض العقدي للكافر) قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة وليس مسألة ابتكرتها الدرر السنية،فقد قال السرخسي الحنفي (وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود) [المبسوط،للسرخسي،23/11].

وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال (حب المؤمنين،وبغض الكافرين،وتعظيم رب العالمين،..وغير ذلك من المأمورات) [الفروق،للقرافي،1/201]

وقال ابن الحاج المالكي أيضاً (واجب على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به) [المدخل،لابن الحاج،2/47]

وقال الشيخ عليش المالكي (نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين) [منح الجليل،لعليش،3/150 ]

وفي أشهر متون الشافعية (وتحرم مودة الكافر) [الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع،للشربيني]

وقال العز بن عبدالسلام الشافعي (جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته،وأوجبت بغضه) [قواعد الأحكام،للعز بن عبدالسلام،72]

بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح رحمه الله التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكافر فيقول (الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم،وبغض الكافرين وعداوتهم) [تيسير الكريم الرحمن]

والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر،فكيف يقال أن وجوب بغض الكفار فكرة ولدت في الدرعية وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان؟!

أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون المتقدمة حفظوا في صغرهم "كشف الشبهات"؟! أم أرسلت إليهم نسخٌ من الدرر السنية؟!

أما قولهم:(إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه كقوله تعالى (لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء لله)  فهل يقول هذا من قرأ كتاب الله؟! فكل كافر فهو عدو لله أصلاً كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98] ،وقال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101].

وأما قولهم (أننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار،لكن آيات النهي عن موالاة الكفار لايلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم،لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي "النصرة") فالجواب أن "الموالاة" لفظ عام يشمل الحب والنصرة،فالحب موالاة،والنصرة موالاة،والنهي عن العام يشمل جميع أفراده.

ومن ظن أن الموالاة لاتكون إلا لما تركّب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب كقوله (ها أنتم أولاء تحبونهم ولايحبونكم) وهي في المسالمين،وخالف إجماع الفقهاء على منع حب الكافر ومودته،فضلاً عن مخالفته لما حرره الفقهاء المحققين كقول الإمام ابن تيمية (وأصل الموالاة هي المحبة،كما أن أصل المعاداة البغض) [منهاج السنة]

وأما قولهم (إننا نقر أن الله نهى عن موادة من يحاد الله ورسوله،لكن المحاد هو المحارب) فهذا تحريف لكتاب الله،فإن الله تعالى قال (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ  أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [التوبة 62-63]

فهؤلاء الذين حلفوا لرسول الله ليسوا محاربين،ومع ذلك جعلهم الله محادين!

ولما ذكر الله حدود الله في مطلع المجادلة قال (إن الذين يحادون الله) ومعلوم أن انتهاك حدود الله ليس محاربة،ومع ذلك جعله الله محادة لله جل وعلا.

فإن كان هؤلاء يجعلون "المحادة" هي "المحاربة" فهذا باطل بكون الله في كتابه سمى مادون المحاربة محادة،وإن كان هؤلاء يجعلون المحادة كل قول وفعل يسئ إلى الله وكتابه ونبيه وشريعته،فلايكاد يوجد كافر معاصر لايسئ لأحكام الله في التعدد والقوامة والحجاب والقرار في البيوت والقتال الخ.فهؤلاء يقولون لنا إن الموادة المهي عنها مخصوصة بالمحاد،فإذا قلنا لهم هؤلاء الذين الذين ينتقدون أحكام الشرع من مستشرقين وسياسيين ومفكرين وعامة في المجتمعات الكافرة،لكنهم مسالمون غير محاربين،هل يجوز مودتهم،عادوا وتناقضوا وقالوا نعم يجوز لأنهم غير محاربين،وتركوا علتهم الأولى وهي المحادة!

وأما احتجاجهم بترخيص الشارع في الزواج بالكتابية،وأن هذا ينقض كل الآيات والأحاديث والآثار وإطباق المذاهب الأربعة،فقائل هذا الكلام ليست إشكاليته إشكالية مسألة مفردة بعينها،بل لديه إشكالية منهجية،وهي ترك الأصول الظاهرة وتحويل الاستثناء والمحتمل إلى قاعدة!

والجواب عن استدلالهم بـ(أن الله أباح الزواج بالكتابية،والزواج يفضي للمودة) أن يقال:

المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري،وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني،وأوامر الله الشرعية لايعترض عليها بالأمور الكونية.والمحتج بذلك هو نظير من يقول:أن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك،فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف! فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني.

أو كمن يقول أن قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي،وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون،وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي،فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي!

وهكذا،فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار،بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟!

ثم إنه لايمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن:14]

فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة،فلا أدري لماذا يأخذون آية (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21] والتي تتحدث عن المودة القدرية الكونية،ولايضمون معها هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن:14] والتي تثبت احتمال قيام العداوة الدينية.

ثم إن المودة التي ذكرها الله بين الزوجين لايلزم منها أن تكون دوماً هي الحب،بل قد يكون المراد بها الصلة والإحسان كما قال تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالنبي لايطلب أن يتحاب مع كفار قريش وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (إن النبي r لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة،فقال:إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) [البخاري:4818]

ثم إن مايجده الإنسان في نفسه من الولاء والحب لوالده وشقيقه أعظم مما يجده من الولاء لزوجته،ومع ذلك قطع الله موالاة الأب الكافر المسالم،والشقيق الكافر المسالم،كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) [التوبة:23]

ثم إن أهل العلم بينوا أنه مورد الأمرين مختلف أصلاً،فبغض الكافر المسالم وعداوته القلبية هي بغض وعداوة قلبية دينية،أما المودة التي تقع بين الزوج والزوجة فهذه مودة غريزية فطرية،ولايمتنع أن يجتمع الأمران في شخص واحد.

وأما قولهم (إنه يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد محبة وبغض،وبالتالي فما دام يجوز أن يحب زوجته الكتابية فلينتفِ البغض الديني عنها!) فهذا كلام ساقط،فإن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض،فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه،وهذا مثال يكرره أهل العلم كثيراً للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد.

ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس،وحب شرعي لما فيه من الثواب العظيم،كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة:92].

فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً،ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاًَ وديانة!

فمن أنكر الكره الطبيعي للقتال فقد كابر،ومن أنكر الحب الشرعي للقتال فما عرف معنى الإيمان بعد،فإن أثبت اجتماعهما في محل واحد فكيف ينكر اجتماعهما في شخص واحد وهو الزوجة الكافرة؟!

وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية،ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف –عليه السلام- صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً،كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33] .

وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض،فهو يحب ماله طبعاً،ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعاً،كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92] وقال تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقره:177] وقال تعالى يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:8].

وأما قول بعضهم (إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لاحيلة فيه،وبالتالي يعفى عن حب الكفار) فمؤدى كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف،وبالتالي إبطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله،فصار أمر الله بحبه،وحب رسوله،وحب الأنصار،وحب آل البيت،وغيرها من الشرائع،كلها لغو وعبث لاقيمة له لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الانسان ولاحيلة له فيه.

بمعنى أن قول النبي مثلاً في صحيح البخاري (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) لو جاء شخص وقال الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة،ولا أجد في نفسي حب النبي أكثر من والدي وولدي؟! فهل هذا مقبول؟!

ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبي بما في نفسه لم يقبل النبي هذا الكلام،وصحح له هذا الفهم،حتى ارتقى إيمان عمر،كما في البخاري (يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي r :لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر ،فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي r الآن يا عمر).

فعمر حين قال (لأنت الآن أحب إلي من نفسي) إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب،فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة.

ولذلك فإنه لما أبغض بعض الناس بعض التشريعات بغضاً دينياً جعل الله ذلك منهم ردة وخروجاً عن الإسلام ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لاحيلة له فيه! كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:9]

وأما قول بعضهم (بعض الكفار يحسنون إلينا،فكيف نكرههم وهم يحسنون إلينا،ولايوجد إنسان سوي إلا وهو يحب من أحسن إليه،ويجد ذلك في نفسه ضرورة) .فهؤلاء المعترضين بمثل ذلك لم يتفطنوا إلى أن الحب هو حصيلة أفعال المحبوب،والبغض هو حصيلة أفعال المبغوض،فهذا الكافر أحسن إليك بمال أو هدية أو ابتسامة لكنه أساء إلى ربك بالكفر،وربك أغلى عليك من نفسك،ولذلك فإساءته لك أعظم أضعافاً مضاعفة من إحسانه المادي إليك،إلا إن كانت نفسك أغلى عليك من ربك وخالقك،وصرت ترى أن من أساء إليك فهو مستحق للبغض،لكن من أحسن إليك واساء لخالقك فهو مستحق للحب،فقائل هذا قد جعل نفسه أعظم من الله ولاحول ولاقوة إلا بالله،وإلى هذا المعنى أشار السبكي إشارة بديعة للغاية حين قال في فتاواه:

(والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحدا ولا تعاديه إلا بسبب،إما واصل إليها،أو إلى من تحبه أو يحبها, ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا) [انظر فتاوى السبكي،2/476]

فمن اعترض بالقول أنه ليس من المروءة أن أبغض كافراً أحسن إلي؟ فيقال له:بل ليس من المروءة أن تحب كافراً أساء لخالقك لمجرد أنه رشاك بلعاعة من الدنيا،فخالقك قد أحسن إليك أضعاف أضعاف ما يقدمه لك هذا الكافر،بل لانسبة للنعم التي أعطاك إياها خالقك ولعاعة الدنيا التي أعطاك إياها هذا الكافر.

وعلى أية حال فإن من يستحضر أن هذا الكافر يسئ إلى الله بجحد إلهيته أو نبوة محمد ولم يهجم على قلبه بغضه قلبياً فهذا يعني أنه قلبٌ ميت،فليبك على قلبه،فإن القلب الحي لايرضى بأن يساء لخالقه ومولاه،إلا إن كان يعتبر الكفر وجهة نظر شخصية لاتغضب الله!

وأما قولهم:(كيف أكرهه وأحبه وقد يكون في داخل الأمر على خلاف ماهو عليه؟ بمعنى قد أعتقد أنه كافر لكنه في حقيقة الأمر مسلم) فيقال الحب والبغض من الأحكام الشرعية،والأحكام الشرعية تعلق بالظاهر،ولذلك كان تطبيق هذا الحكم على الأعيان مسألة اجتهادية قد يصيب المرء فيها وقد يخطئ خطأً مغفوراً،ولذلك قال ابن تيمية (ثم الناس في الحب والبغض،والموالاة والمعاداة،هم أيضا مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة) [الفتاوى 11/15]

وقبل ذلك نبه الإمام محمد بن الحنفية كما رواه اللالكائي عنه حيث يقول رحمه الله (من أبغض رجلا على جور ظهر منه،وهو في علم الله من أهل الجنة،أجره الله كما لو كان من أهل النار).

وأما قولهم (الكفار متفاوتون فكيف نجعلهم سوياً في البغض والمعاداة القلبية؟!) فهذا غير صحيح،ولم يفتِ أحد من أهل السنة بكون الكفار سواءٌ في البغضاء،فإن الكفر يتفاوت في ذاته،كما يتفاوت الإيمان،ولذلك فإنه كما يكون في أهل الخير أئمة في الإيمان كما قال تعالى (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) فإنه كذلك يكون في الكفار أئمة فيه كما قال تعالى (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة:12].

وكما يتفاوت حب اهل الإيمان بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه،فكذلك تتفاوت معاداة وبغض الكفار بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه.

وأما قولهم (إن تغيير الحكم الشرعي في بغض الكفار سيكون له دور في الترويج للاسلام والدعوة) قائل هذا الكلام عكس النتيجة كلياً،بل تحريف النصوص الشريحة في بغض الكفار أعظم ذريعة إلى الطعن في علماء الإسلام ودعاته أنهم كذابون مخادعون يتلاعبون بنصوص شريعتهم لأجل مصالح حركية! إنه لايخدم صورة الإسلام مثل العلم الصحيح الصادق،قد يتدرج العالم أو الداعية في تنفيذ بعض الأحكام،أما تحريف الأحكام الشرعية فهذا لايقع من عالم صادق لأجل أي مصلحة موهومة! وشتان بين التدرج والتحريف،على أن بعض أهل الأهواء يحتجون بأفعال النبي وعمر بن عبدالعزيز في التدرج على التحريف!

ثم افترض أننا استطعنا عبر عمليات تجميلية تحريف نصوص (بغض الكفار) فماذا سنصنع بقوله تعالى عن الكفار (إن هم إلا كالأنعام) وقوله تعالى (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا) وقوله تعالى (إنما المشركون نجس) وقوله تعالى (وأن الله مخزي الكافرين) وقوله تعالى (يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) وقوله تعالى  (أعزة على الكافرين) وقوله (فإن علمتموهن مؤمنات فلاترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن)  الخ الخ ؟!

هل سنحرف كل هذه الآيات ونظائرها حتى نقوم بترويج الإسلام والدعوة؟! هناك ملفات كثيرة يريد متفقهة التغريب العبث بها،لكن آخر مايمكن أن يحرفوه هو موقف القرآن من الكافر،لقد وضع القرآن الكافر في غاية مايتصوره العقل البشري من دركات المهانة والحقارة والانحطاط واستعمل القرآن كل التعابير المممكنة في بيان رجسية الكافر،فأي تأويل يارحمكم الله يمكنه أن يتلاعب بهذه الآيات القرآنية؟!

على أية حال..هل تدري أين جوهر المشكلة في كلام هؤلاء الذين يريدون تغريب العقيدة؟ إنها في حرمان المسلمين من أوثق عرى الإيمان (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).

الله سبحانه وتعالى ينبهنا ويقول بكل وضوح (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:32] ويقول (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [الروم:45] وأنتم تقولون:فأما نحن فنحب بعض الكافرين،ألا تخشون من الله وأنتم تتحدون محاب الله ومباغضه؟!

وهذه المسألة من أوضح تطبيقات تقديم المتشابه على المحكم،و عاهة (تقعيد الاستثناءات) أي تحويل الاستثناء إلى أصل،والأصل إلى استثناء،فالله أمر ببغض الكفار وأجاز نكاح الكتابية،فأخذوا الاستثناء وهدموا به الأصل! فهل هذا إلا فعل أهل الأهواء؟!

فكفُّو يارحمكم الله عن تشذيب الإسلام وقصقصته لأغراض التبسم في مؤتمرات إنشائية يخدع بها الحاضرون أنفسهم![409]

-------------

خطبة حول الولاء والبراء:

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ،وَنَحنُ في عَالَمِ التَّغَيُّرَاتِ وَالمُتَغَيِّرَاتِ ،عَالَمِ المُتَنَاقِضَاتِ وَالمُختَلِفَاتِ ،عَالَمِ طَاعَةِ الأَهوَاءِ المُتَّبَعَةِ وَالفِتَنِ المُضِلَّةِ ،فَإِنَّ ثَمَّةَ أُصُولاً رَاسِخَةً ،يَجِبُ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَّخِذَ فِيهَا مَوقِفًا ثَابِتًا لا يَحِيدُ عَنهُ ،وَيَكُونَ فِيهَا عَلَى رَأيٍ قَاطِعٍ لا يَتَنَازَلُ عَنهُ ،ذَلِكَ أَنَّهَا أُسُسٌ مَصِيرِيَّةٌ تُبني عَلَيهَا نَجَاتُهُ في آخِرَتِهِ أَو هَلاكُهُ ،وَيَكُونُ بها فَوزُهُ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ أَو خَسَارَتُهُ .إِنَّهَا أُصُولٌ لا تَقبَلُ اللَّعِبَ بها ،وَثَوَابِتُ لا يُمكِنُ زَعزَعَتُهَا ،إِذْ فِعلُهَا إِيمَانٌ وَتَقوَى ،وَتَركُهَا كُفرٌ وَرِدَّةٌ ،وَالشَّكُّ فِيهَا نِفَاقٌ وَفُسُوقٌ ،مِن تِلكَ الأُمُورِ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ ،الوَلاءُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ،وَلِلمُؤمِنِينَ وُلاتِهِم وَعَامَّتِهِم ،وَالبَرَاءُ مِنَ الكُفرِ وَالكَافِرِينَ وَمَن سَارَ بِدَربِهِم ،ذَلِكُمُ الرُّكنُ العَظِيمُ مِن أَركَانِ العَقِيدَةِ ،وَالشَّرطُ المُهِمُّ مِن شُرُوطِ الإِيمَانِ ،الَّذِي تَغَافَلَ عَنهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ جَهلاً أَو تَجَاهُلاً ،وَأَهمَلَهُ بَعضُهُم يَومَ اختَلَطَت عَلَيهِ الأُمُورُ وَاشتَبَهَت لَدِيهِ الأَحوَالُ ،وَإِنَّهُ في هَذَا العَصرِ الَّذِي ذَلَّ فِيهِ المُسلِمُونَ وَضَعُفُوا وَاستَكَانُوا ،وَقَلَّ فِيهِ العِلمُ بِاللهِ وَعَمِيَت عَن طَرِيقِ الحَقِّ البَصَائِرُ ،وَصَارَتِ الشَّوكَةُ فِيهِ وَالغَلَبَةُ لأَعدَاءِ للهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الكَفَرَةِ وَالمُلحِدِينَ وَالمُنَافِقِينَ ،وَأُسكِتَ فِيهِ العُلَمَاءُ وَنَطَقَ الرُّوَيبِضَةُ ،إذْ ذَاكَ ضَعُفَ الوَلاءُ وَالبَرَاءُ في النُّفُوسِ ،وَقَلَّت مَكَانَتُهُ في القُلُوبِ ،وَخَلَت مِنهُ بَعضُ الصُّدُورِ ،وَتَسَاهَلَ بِهِ مَن يُنسَبُونَ لِلثَّقَافَةِ وَالمَعرِفَةِ ،مَعَ أَنَّهُ أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ ،وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المُسلِمَ بِحَاجَةٍ إِلى أَن يَتَعَاهَدَ هَذِهِ العَقِيدَةَ العَظِيمَةَ في قَلبِهِ وَيَقِيسَ مُستَوَاهَا في نَفسِهِ ،وَيَكُونَ مِنهَا عَلَى ذِكرٍ دَائِمٍ وَيَضَعَهَا نُصبَ عَينَيهِ ،فَيَعرِفَ مَن يُحِبُّ وَيُوالي ،وَيَتَبَيَّنَ مَن يَكرَهُ وَيُعَادِي ،لا أَن تَختَلِطَ عَلَيهِ الأُمُورُ وَتَشتَبِهَ ،فَيُعَادِيَ مَن أُمِرَ بِمَوَالاتِهِ وَيُوَاليَ مَن أُمِرَ بِمُعَادَاتِهِ ،فَيَهلِكَ بِذَلِكَ وَيَخسَرَ خُسرَانًا مُبِينًا ،قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ :" لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ يُخرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُم إِن كُنتُم خَرَجتُم جِهَادًا في سَبِيلِي وَابتِغَاءَ مَرضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم وَمَا أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلْهُ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاءً وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَو تَكفُرُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ :" تَرَى كَثِيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئسَ مَا قَدَّمَت لهم أَنفُسُهُم أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيهِم وَفي العَذَابِ هُم خَالِدُونَ .وَلَو كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَولِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنهُم فَاسِقُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ :" مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ " وَقَالَ ـ r ـ :" إِنَّ آلَ أَبي فُلانٍ لَيسُوا لي بِأَولِيَاءَ ،إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ " وَقَالَ ـ r ـ :" مَن أَحَبَّ للهِ وَأَبغَضَ للهِ ،وَأَعطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ ،فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ :" أَوثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ في اللهِ وَالبُغضُ في اللهِ " وَقَد كَانَ ـ r ـ يُبَايِعُ أَصحَابَهُ عَلَى تَحقِيقِ هَذَا الأَصلِ العَظِيمِ ،فَعَن جَرِيرِ بنِ عَبدِاللهِ البَجَلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ :أَتَيتُ النَّبيَّ ـ r ـ وَهَُو يُبَايعُ ،فَقُلتُ :يَا رَسُولَ اللهِ ،اُبسُطْ يَدَكَ حَتى أُبَايِعَكَ ،وَاشتَرِطْ عَلَيَّ فَأَنتَ أَعلَمُ ،قَالَ :" أُبَايِعُكَ عَلَى أَن تَعبُدَ اللهَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤتيَ الزَّكَاةَ ،وَتُنَاصِحَ المُسلِمِينَ وَتُفَارِقَ المُشرِكِينَ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :إِنَّ تَحقِيقَ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَقتَضِي أَن لا يُحِبَّ إِلاَّ للهِ ،وَلا يُبغِضَ إِلاَّ للهِ ،وَلا يُوَادَّ إِلاَّ للهِ ،وَلا يُعَادِيَ إِلاَّ للهِ ،وَأَن يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللهُ ،وَيُبغِضَ مَا أَبغَضَهُ اللهُ .

وَقَالَ أَبُو الوَفَاءِ ابنُ عَقِيلٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ:إِذَا أَرَدتَ أَن تَعلَمَ مَحَلَّ الإِسلامِ مِن أَهلِ الزَّمَانِ ،فَلا تَنظُرْ إِلى زِحَامِهِم في أَبوَابِ الجَوَامِعِ ،وَلا ضَجِيجِهِم في المَوقِفِ بِـ(لَبَّيكَ) ،وَإِنَّمَا انظُرْ إِلى مُوَاطَأَتِهِم أَعدَاءَ الشَّرِيعَةِ ،عَاشَ ابنُ الرَّاوَندِيِّ وَالمَعَرِيُّ ـ عَلَيهِمَا لَعَائِنُ اللهِ ـ يَنظِمُونَ وَيَنثُرُونَ كُفرًا ،وَعَاشُوا سِنِينَ وَعُظِّمَت قُبُورُهُم وَاشتُرِيَت تَصَانِيفُهُم ،وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ في القَلبِ .

وَقَالَ الشَّيخُ سُلَيمَانُ بنُ عَبدِاللهِ بنِ محمدِ بنِ عَبدِالوَهَّابِ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ ـ :فَهَل يَتِمُّ الدِّينُ أَو يُقَامُ عَلَمُ الجِهَادِ أَو عَلَمُ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ إِلاَّ بِالحُبِّ في اللهِ وَالبُغضِ في اللهِ ،وَالمُعَادَاةِ في اللهِ وَالمُوَالاةِ في اللهِ ،وَلَو كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ،وَمَحَبَّةٍ مِن غَيرِ عَدَاوَةٍ وَلا بَغضَاءَ ،لم يَكُنْ فُرقَانٌ بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ،وَلا بَينَ المُؤمِنِينَ وَالكُفَّارِ ،وَلا بَينَ أَولِيَاءِ الرَّحمَنِ وَأَولِيَاءِ الشَّيطَانِ ..

وَقَالَ الشَّيخُ حمدُ بنُ عَتِيقٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :فَأَمَّا مُعَادَاةُ الكُفَّارِ وَالمُشرِكِينَ ،فَاعلَمْ أَنَّ اللهَ ـ سُبحَانَهُ وَتَعَالى ـ قَد أَوجَبَ ذَلِكَ وَأَكَّدَ إِيجَابَهُ ،وَحَرَّمَ مُوَالاتَهُم وَشَدَّدَ فِيهَا ،حَتى إِنَّهُ لَيسَ في كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالى ـ حُكمٌ فِيهِ مِنَ الأَدِلَّةِ أكثَرُ وَلا أَبيَنُ مِن هَذَا الحُكمِ بَعدَ وُجُوبِ التَّوحِيدِ وَتَحرِيمِ ضِدِّهِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ،إِنَّ مِنَ الحَلاوَةِ وَاللَّذَّةِ الَّتي لا يَجِدُهَا إِلاَّ المُؤمِنُونَ ،حَلاوَةَ الحُبِّ في اللهِ وَالبُغضِ في اللهِ ،تِلكَ الحَلاوَةُ الَّتي حَالَ بَينَ كَثِيرٍ مِنَ الجُهَّالِ وَبَينَ تَذَوُّقِهَا ضَعفُ الإِيمَانِ ،وَمَنَعَهُمُ التَّمَتُّعَ بِهَا رِضَاهُم بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمِئنَانُهُم إِلى زَخَارِفِهَا ،وَمَدُّهُم الأَعيُنَ إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ الكَافِرُونَ مِن زَهَرتِهَا ،وَجَعلُهَا مِقيَاسًا لِلرُّقِيِّ وَالسَّعَادَةِ ،وَجَعلُ قِلَّتِهَا أَوِ الإِخفَاقُ في جَوَانِبِهَا دَلِيلاً عَلَى التَّخَلُّفِ وَالشَّقَاءِ ،وَأَمَّا مَن ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ وَوَجَدَ بَردَ اليَقِينِ ،فَإِنَّهُ لا يَجِدُ لَذَّةً هِيَ أَحلَى وَلا مَكسَبًا هُوَ أَغلَى مِن مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ،وَالوَلاءِ لِعِبَادِ اللهِ المُؤمِنِينَ ،وَكُرهِ الكُفرِ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الكَافِرِينَ ،قَالَ ـ r ـ :" ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ :مَن كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ ممَّا سِوَاهُمَا ،وَمَن أَحَبَّ عَبدًا لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ ،وَمَن يَكرَهُ أَن يَعُودَ في الكُفرِ بَعدَ أَن أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ " وَإِنَّ مَا نَرَاهُ اليَومَ وَنَلحَظُهُ ،وَخَاصَّةً عَلَى المُستَوَى الرَّسمِيِّ وَفي وَسَائِلِ إِعلامِنَا نَحنُ المُسلِمِينَ ،مِن مَدحٍ لِلكُفَّارِ وَإِشَادَةٍ بِمَا هُم عَلَيهِ مِنَ المَدَنِيَّةِ وَالحَضَارَةِ ،أَو إِعجَابٍ بِأَخلاقِهِم وَانبِهَارٍ بِمَهَارَاتِهِم ،أَوِ انخدِاعٍ بِخِطَابَاتِهِم وَلِقَاءَاتِهِم الَّتي يَدَّعُونَ فِيهَا حُسنَ النَّوايَا تِجَاهَ المُسلِمِينَ ،دُونَ نَظَرٍ إِلى بُطلانِ عَقَائِدِهِم وَفَسَادِ دِينِهِم ،وَمَا دَبَّرُوهُ وَيُدَبِّرُونَهُ ضِدَّ المُسلِمِينَ مِن مَكَائِدَ ،وَمَا حَاكُوهُ وَيَحِيكُونَهُ ضِدَّ مُقَدَّسَاتِهِم مِن مُؤَامَرَاتٍ ،وَتِلكَ الحُرُوبِ الَّتي أَوقَدُوهَا وَمَا زَالُوا يُوقِدُونَهَا يَمنَةً وَيَسرَةً .أَقُولُ :إِنَّ هَذَا الإِعجَابَ بِالكُفَّارِ وَالتَّغَافُلَ عن عَدَاوَتِهِم الَّتي لا تَخفَى ،إِنَّهُ لَمِن ضَعفِ الإِيمَانِ باِللهِ ،وَاختِلالِ عَقِيدَةِ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ ،بَل هُوَ ممَّا يُغضِبُ اللهَ وَيُسخِطُهُ ،قَالَ ـ r ـ :" لا تَقُولُوا لِلمُنَافِقِ سَيِّدٌ ،فَإِنَّهُ إِن يَكُ سَيِّدًا فَقَد أَسخَطتُم رَبَّكُم ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " هَذَا في مَدحِ المُنَافِقِ المُظهِرِ لِلإِيمَانِ ،فَكَيفَ إِذَا كَانَ المَدحُ لِلكُفَّارِ ،بَل لِرُؤُوسِ الكُفَّارِ وَقُوَّادِ أَعظَمِ الدُّوَلِ عَدَاوَةً لِلإِسلامِ وَحَربًا عَلَى المُسلِمِينَ ؟!

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُم وَعَضُّوا عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ ،وَلا يَغُرَّنَّكُم مَن ضَلَّ عَنهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مَهمَا كَانَت مَكَانَتُهُ وَمَنزِلَتُهُ ،قَالَ ـ r ـ :" قَد تَرَكتُكُم عَلَى البَيضَاءِ لَيلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنهَا بَعدِي إِلاَّ هَالِكٌ ،مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا ،فَعَليكُم بما عَرَفتُم مِن سُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ ،عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخوَانَكُم أَولِيَاءَ إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ "

أَمَّا بَعدُ ،فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ،إِنَّ البَرَاءَةَ مِنَ الكُفَّارِ وَمَن وَالاهُم وَدَاهَنَهُم ،هِيَ العَقِيدَةُ الحَنِيفِيَّةُ السَّمحَةُ ،وَالمِلَّةُ الإِبرَاهِيمِيَّةُ الَّتي لا عِوَجَ فِيهَا ،وَالعُروَةُ الوُثقَى الَّتي لا انفِصَامَ لها ،وَبِذَلِكَ أُمِرنَا وَجُعِلَ إِبرَاهِيمُ لَنَا فِيهِ أُسوَةً ،قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :" قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤمِنُوا بِاللهِ وَحدَهُ " وَإِنَّهُ مَهمَا حَاوَلَ أَعدَاءُ اللهِ المُرَاوَغَةَ وَسَلَكُوا طَرِيقَ المُخَادَعَةِ ،مَهمَا ادَّعُوا حُسنَ النَّوَايَا تِجَاهَ المُسلِمِينَ وَزَعَمُوا مَحَبَّتَهُم لهم وَإِرَادَتَهُمُ الخَيرَ بهم ،فَإِنَّ اللهَ قَد تَولَّى فَضحَهُم في أَصدَقِ كَلامٍ وَأَبيَنِهِ ،قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :" هَا أَنتُم أُولاءِ تُحِبُّونَهُم وَلاَ يُحِبُّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " ثم إِنَّهُ مَهمَا حَاوَلَ كُتَّابُ الجََرائِدِ وَأُغيلِمَةُ الصَّحَافَةِ بَعدَ ذَلِكَ أَن يُثبِتُوا لِلقُرَّاءِ حُسنَ نَوَايَا الكَافِرِينَ وَيُمَيِّعُوا عَقِيدَةَ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ وَيُخرِجُوهَا مِن قُلُوبِهِم ،وَمَهمَا صَدَّقَ بِذَلِكَ مَن صَدَّقَ وَأَخَذَ بِهِ مَن أَخَذَ وَانخَدَعَ بِهِ مَنِ انخَدَعَ ،فَإِنَّ التَّأيِيدَ مِنَ اللهِ وَالنَّصرَ وَالتَّمكِينَ ،يَبقَى لِمَن بَقِيَ عَلَى عَقِيدَةِ الوَلاءِ لِلمُؤمِنِينَ وَالبَرَاءِ مِنَ المُشرِكِينَ ،قَالَ ـ تَعَالى ـ :" وَلاَ تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :" لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ " قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في شَأنِ هَذِهِ الآيَةِ :فَهَذَا التَّأيِيدُ بِرُوحٍ مِنهُ لِكُلِّ مَن لم يُحِبَّ أَعدَاءَ الرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَقَارِبَهُ ،بَلْ يُحِبُّ مَن يُؤمِنُ بِالرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَجَانِبَ ،وَيُبغِضُ مَن لم يُؤمِنْ بِالرُّسُلِ وَإِن كَانُوا أَقَارِبَ ،وَهَذِهِ مِلَّةُ إِبرَاهِيمَ .وَقَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :وَلْيَعتَبِرِ المُعتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ زِنكِي وَصلاحِ الدِّينِ ثُمَّ العَادِلِ ،كَيفَ مَكَّنَهُمُ اللهُ وَأَيَّدَهُم وَفَتَحَ لَهُمُ البِلادَ وَأَذَلَّ لَهُمُ الأَعدَاءَ ،لَمَّا قَامُوا مِن ذَلِكَ بِمَا قَامُوا بِهِ ،وَلْيَعتَبِرْ بِسِيرَةِ مَن وَالى النَّصَارَى كَيفَ أَذَلَّهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ وَكَبَتَهُ ..[410]

----------------

خطاب أوباما في القاهرة ..ما هو الجديد في الظاهرة ؟؟!!

قبل البدء أهمس في آذانكم – أيُّها القرّاءُ الأكارم - أنّني لستُ محلّلاً سياسيّاً ،ولست خبيراً ارتياديّاً ( تعريب استراتيجي ) ..وحاشاي فلله الحمد والفضلُ والمنّة ..

ولكنني رجلٌ يتأمّل الأحداث ،ويتمعّن الأخبار ..ويكتب فيها ما يجُول في خاطره ،ويسطّر ما يعتقدُه ..

فقد طالعنا ليلة الأمس ( الخميس 11 / 6 / 1430 هــ ) كما طالع الجميع – ربَما – ذلك الخطاب الذي ملأ الدُّنيا ،وشغل النّاس ،حيث ارتجله – فيما ظهر – رئيس الولايات المتّحدة ،ومن على  مسرح جامعةِ القاهرة ،في قلب قاهرة مصر ..

ولي مع هذا الخطاب وقفات ،وأدلي حوله بإشارات أُجملها فيما يلي :

الأولى :إنّ بعضاً من المتحدّثين يا سادة ،ينسى أو يتناسى هذا العداء العظيم ،والخصام المتأصّل في نفوس القوم - أعني :الكفرة من أهل الكتاب ،وأخصّ عبّاد الصليب - ،فيذوب في قلبه معتقد الولاء والبراء ،أو يتضاءل أمام قسوة الزمن ،وفتن الحياة ،ومغريات الحاضر وزخارفِه ..

فحينما يُنصت لخطابٍ منمّق ،وكلماتٍ منتقاة بعناية ،لكيلا لا تأنفها أسماع المسلمين ،ويتقبّلونها بطريقةٍ ديناميكية ،ويتناسى هذا الظريف ،أنّ الذي يلقيها هو طاغوتٌ أسود قد ملأت قوّاته الدنيا ،وعاثت جيوشه في الأرض فساداً ،وهو قبل هذا وذاك عدوٌّ بغيض أُمرنا بإظهار العداوة له ،كيف لا ..وربّنا تعالى يقول في محكم آي الكتاب :{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [ البقرة 120 ] ..؟؟!!

وآيُ الكتاب العزيز قد تظافرت في بيان هذا المعنى وتأكيده ،حتى قال الشيخ العلامة حمد بن عتيق – رحمه الله – في كتابه النّفيس ( النجاة والفكاك 15 ) :

\" فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله - سبحانه وتعالی - قد أوجب ذلك،وأكد إيجابه،وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها،حتى إنه ليس في كتاب الله - تعالى - حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده \" ،فتأمّل هذا – بارك الله – وعِهِ جيّداً ،فبهِ تُدرك حقيقة فساد الفكرة في إحسان الظنّ بأعدائنا ،إذ هذا منهج الكتاب الذي أراد الله به هدايتنا وعزّتنا ونصرنا على أعدائنا ..

الثانية :عندما يستفتح الكافر خطابه بالسّلام ،فهذا لا يعدو كونه دغدغةً لمشاعر البسطاء من بني قومنا ،وأعجب كيف تنطلي الحيلة على بعض أهل الفضل ،فيقول قائلهم ( لا نملك عند ذلك إلا أن نقول :وعليكم السّلام ) ....!!

وغريبٌ هذا جداً ،فقد علّمنا حبيبنا – r – حيث قال ( فيما أخرجه الشيخان ) من حديث أنس :\" إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم \" ..ولا أظنّها إلا سبقُ لسان – والله المستعان - ..

المهمّ يا سادة :أن نكون أعقل ممّا يرادُ بنا ،فالسلام ليس تحيةً تُلقى فحسب ..بل هو حياةٌ يجب أن تعمّ دنيا البشر ،وهو ما لا يُمكن أن يكون في هذه البسيطة ،ما دامت العقيدة حيّةً في قلوبنا ،والمبادئ والقيم مستقرّةً في ضمائرنا ،ألم نتأمّل قول الباري – جلّ في علاه – وهو العليم بخلقه:{  وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة 251 ] ،فسنّة المُدافعة بين الحقّ والباطل ،والخير والشرّ ،والإيمان والكُفر ،ماضيةٌ باقية،لا تزول ولا تحول ،ذا قضاءُ ربّ العالمين ..

الثالثة :إن ما يدفع زعيمهم أن يقول :(أن المسألة الأولى التي يجب أن نجابهها هي التطرف العنيف بكافة أشكاله.وقد صرحت بمدينة أنقرة بكل وضوح أن أمريكا ليست ولن تكون أبدا في حالة حرب مع الإسلام وعلى أية حال سوف نتصدى لمتطرفي العنف الذين يشكلون تهديدا جسيما لأمننا.والسبب هو أننا نرفض ما يرفضه أهل كافة المعتقدات قتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال ومن واجباتي كرئيس أن أتولى حماية الشعب الأمريكي ) ،فهو لا يعدو إلا أن يكون استغفالاً لنا ،وتلاعباً بعواطفنا ،وهو في الحقيقة ( وليعذرني القارئ الكريم ) :لا يُلام على ذلك ،فقد صنعنا لأنفسنا صورة نمطيّة ،تعلّم القوم جيداً كيف لهم أن يتعاملوا معها ،فهم يدركون جيّداً أنّنا قومٌ يغرّنا معسُول الكلام إلا من رحم الله وقليلٌ أولئك ،ضعيفة أصواتهم لا تكاد تُسمع ،وإن سُمِعت لم تجد صداها في أسماع كثيرين من بني قومنا ..!!

أو أنّه والحال ليست هذه ،منطقُ القويّ الذي يخاطب الضعيف ،ويُملي عليه أكاذيبه ،وهو يعلم أنّ من يقف أمامه يُدرك كذب قوله ،ولكن لا حيلة له إلا التّظاهر بتصديق قوله ،وقبول منطقه ،إذ لا خيار أمامه سوى ذلك ..!!

وبمنطقٍ أكثر صراحة :صدقت أم كذّبت ،فالحال واحدة ،والوضع لن يتغيّر ،ولسان حالهم (أنتُم أعداؤنا فهل نمدّ لكم يد السلام ...؟؟!! ) ..

فلا يضيره أن يُلقي تحيّة السّلام ،في الوقت الذي تنتشر جيوشه وأجناده في ربوع أرض الإسلام ،وترتع فيها ،وتمرح بمقدّراتها ،بل ولا يضيره أن يُلقي بعبارات التلطّف والتودّد وهو قد تربّع هو وملؤه على خيرات بلادنا ،ونهبوا ثرواتها ..

فإن المعادلة العقليّة تقول :تلطف لهم بالكلام والسلام ،ثم لا تتردّد بعدها في أن تزيد ضخ قوّاتك لتحقّق لك الأحلام ..!!

الرابعة :إن القوم – أيّها الأكارم – وكما لا يخفى على كريم علمكم :يساوموننا على قضيّتنا الكبرى \" قضيّة الأقصى السليب \" وفلسطين بوجهٍ عام ..فحينما نتأمّل فصول المسرحية ،التي أحكم حبكتها أساطين الماسونيّة العالمية ،ندرك يقيناً أنّه لا ينقص من قدر \"نيتنياهو\" المجرم الخبيث والذي يرى أنّ حل الدولتين يستحيل طرحه على أجندة حكومته ،وأنّه ليس ثمّة إلا دولةٌ واحدة يعيش في ظلّها اليهود والمسلمون على حدٍّ سواء ،ينعمون فيها بالحريّة ،والعيش الرغيد...!!!

لا يضير هذا المجرم أن يطلق الرئيس الامريكي في حقّه تلك العبارات التي يمتصّ بها حنق المسلمين ،ويداعب بها مشاعرهم ،ويهدّئ فيها من روعهم ،ويسكب على لظى ضمائرهم الملتهبة ،برد الخيانة ،وثلج الغدر ،وماء المكر ،ليقول بكلّ بجاحةٍ وهدوء :(السبيل الوحيد للتوصل إلى تحقيق طموحات الطرفين يكون من خلال دولتين يستطيع فيهما الإسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في سلام وأمن ) ..وهل كلّ طموحٍ يحقّ لهم السعي وراءه ؟؟!! وأيُّ حقٍّ ليهود في بلاد فلسطين المباركة ؟؟!!

إنّ لنا نقول بملء أفواهنا في هذا الزمان الصاخب ،الممتلئ بالفتن ،متلاطم الإحِن ،الذي اختلط فيه الحابل بالنّابل ،وخلط كثيرٌ من الناس بين المُحقّ والمُبطل :\" إنّ اليهود لا حقّ لهم في فلسطين \" هذه ليست إلا إشارة لأصل القضيّة ،وليس هنا محلّ التحقيق ،وراجعه في مظانّه إن شئت ..وسأكتفي بهذا النّقل الذي يبيّن ما يُخطّط له القوم ،وما يدسّونه في ضمائرهم تجاه بلدنا المُبارك \" فلسطين الأبيّة \" يقول جولدمان موضّحاً سرّ القضيّة  بشكل دقيق عام 1947 في خطاب له ألقاه في مونتريال بكندا :

\" كان بإمكان اليهود أن يحصلوا على أوغندا أو مدغشقر أو غيريهما لينشئوا هناك وطناً قومياً لهم ولكن اليهود لا يريدون على الإطلاق سوى فلسطين لا لاعتبارات دينية أو بسبب إشارة التوراة إلى فلسطين, ولا لأن مياه البحر الميت تستطيع أن تعطي عن طريق التبخر ما قيمته خمسة آلاف دولار من المعادن والأملاح, ولا لأن تربة فلسطين الجوفية كما يقولون تحتوي على كميات من البترول تزيد عن الاحتياطي في الأمريكيتين, بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوروبا وآسيا وإفريقيا, ولأنها المركز الحقيقي للقوة السياسية العليا والمركز العسكري الاستراتيجي للسيطرة على العالم\".

ولكنّنا نقول بثقة المؤمن بالله ،الموقن بنصره :

ليفعلوا ما يشاؤون ،وليقضوا ما يريدون ،فالنصر وإن تأخّر لكنّه - قطعاً - لا يغيب ،قال ربُّنا تعالى في محكم آي الكتاب :{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات :171 – 173 ] ..

وقد جرت سنّته تعالى أنّ محاربه محروب ،ومغالبه مغلوب :

هو بالله وهل يخشى انهزاماً ...من يكون اللهُ في الدّنيا معه ؟؟!!

وأصدقُ منه وعد الباري – جلّ في عُلاه – حينما قال :{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحجّ 40 ] ،وكفى بهِ وكيلاً وكفيلاً ،وأنعِم به ناصراً ومعيناً :

فإن عدّد الناسُ أنصارهم ...فنحنُ لنا النّاصرُ القاهرُ ...!!

الخامسة :إنّني يا سادة أرى أن الظاهرة الجديدة قد تغيّرت معالمها ،واختلفت ملامحها ،ولتسمحوا لي هنا فربَما يُخالفني بعضكم ،ويتّفق معي طرفٌ آخر ،ولكليهما الحقّ فيما يختارون:

أرى أن هذا الخطاب من رأس الهرم في الولايات المتّحدة ،حينما يأتي بهذه الوداعة ،والمشاعر الحالمة ،بأن تعيش  شعوب العالم معا في سلامٍ دائمٍ – على حدّ زعمه - ،لماذا كان في هذا التوقيت ؟؟ ولمَ كانَ من وسَط عاصمة أرض الكنانة – متوسّطاً شعبها الأبيّ ،وليتوجّه إلى المليار مسلم بالخطاب من مسرح جامعة القاهرة ؟؟!!

إنّ هذا يقودنا – يا أكارم – إلى إدراك ما توصّل له القوم من معرفة كُنهِ ردود أفعالنا تجاه العدوان الغاشم على بلداننا وأراضينا وشعوبنا المُسلمة ،فلقد أدركوا جيّداً أنّ لغة القوّة ،وشريعة الغاب ،التي دفعت بزعيمهم الغاشم السابق للتصريح بالحرب الصليبية على الإسلام ،دفعت هذا الأخير إلى منطقِ التقارب السلمي ،والتعايش الذي ينبغي أن يسود بين أبناء الحضارات ،وترويض النفوس الشانئة ،والرغبات الجامحة التي تأجّجت بسبب السياسة العنصرية البغيضة النّكدة على أبناء الإسلام ..

فلقد رأوا بداية تململ العملاق النائم المقيّد ،وكما يُقال في منثور الأمثال الشعبيّة ( كثرة الطرق تفكّ اللحام ) ،فلا سبيل لهم إلى تهدئة هذا الحنق العظيم في قلوب المسلمين ،إلا خطابٌ يدغدغ مشاعرهم ،ويداعب عواطفهم ،وإن استلزم الأمر ما هو فوق ذلك فلا حرج ،ما دام أنّه لن يكون له تأثيرٌ فعليٌّ على أرض الواقع ،في سياسة أمريكا ،وأجندتها الظالمة الغاشمة ،ودعمها اللامحدود لبُنيّتها القابعة في الجوار \" الاحتلال اليهودي \" ..

السادسة :الوصيّة لطلبة العلم والدعاة والموجّهين ،وكلّ من ولاه الله تعالى أمر تعليم النّاس ودعوتهم :

أن يتّقوا الله تعالى ،وألا يعظّموا فوق الله تعالى عظيماً من البشر يحجزهم عن قول الحقّ والصّدع به ،ثمّ إنّني أرى لٍزاماً :إعادة تأصيل النّاس على عقائد الولاء والبراء ،وصدق الديانة والتوجّه لله تعالى ،وإخلاص العبادة والقصد له – سبحانه - ،وإنهاء الفصام النّكد بين التنظير للولاء والبراء وبين تطبيقه على أرض الوقع ،فلابدّ ان يكون له وجودٌ يحسّه الناس ويشعرون به ،لا أن يكون مادّةً هامدة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة ،ملّ الشبيبة من تردادها ولا يرون لها أثراً في دُنيا الناس – والله المستعان - ..وأن يساهموا في توعية النّاس بإدراك حقيقة الصّراع ،واستبانة سبيل المُجرمين ،والحذر من مسالكهم الخبيثة ،امتثالاً لقول الحقّ – تعالى - :{ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام 55 ] ،ثمّ نقد الباطل المعاصر ،وتوجيه النّاس حياله فيما تُمليه العقيدة ،ويحكم بهِ علماء الزمان من أهل العلم بالله تعالى وبكتابه ،من علماء الصدق الناصحين للأمّة ..والحذر من أولئك الذين ابتُلوا بمُسايرة الواقع ،ففتنوا النّاس وفتنوا أنفسهم قبل ذلك ،فالمطلوب أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسنوا لهم الواقع ويسوغوا صنيعهم فيه.ورحم الله الشاطبي إذ لهُ كلامٌ بديعٌ حول هذا المعنى في موافقاته ( 128/2 ) :

( المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عـن داعـيـة هواه حـتـى يكون عـبـدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا ) ،وإلى أولئك الذين فتنوا النّاس وفتنوا أنفسهم أقول :

قُلْ لمن دبّجوا الفتاوي:رويداً! ...رُبّ فتوي تضجّ منها السماءُ

وإلى هُنا انتهى ما في جُعبتي ،وإن كان الحديث ذو شجونٍ وأشجان ،ولكنّ الإطالة قد جُبلت النفوسُ على الملل منها ،ويكفينا من القلادة ما أحاط بالعُنق ،والإشارة تُغني عن العبارة ..فإن أصبت فمن الله وحده ،وإن أخطأتُ فمن نفسي الأمّارة بالسوء ..والله يعفو ويغفر ويرحم ..[411]

---------------

أليس أوباما أخطر على المسلمين من بوش:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه

وبعد :

فإن الدافع إلى كتابة هذه المقالة ما رأيته وسمعته من تفاؤل و استبشار لدى كثير من المسلمين بما في ذلك بعض مثقفيهم ودعاتهم بمجيء رئيس أمريكا الجديد ( أوباما ) والتعويل على مجيئه في رفع المعاناة عن بلدان المسلمين ورفع الظلم عن أهلها .

ولقد أسفتُ لهذه السذاجة في النظرة إلى الأعداء والانسياق وراء العاطفة المخدوعة بمعسول الكلام وبريق الشعارات .

وقد يستغرب بعض القراء بل وقد يستنكر بعضهم عنوان هذه المقالة إذ كيف يكون الشيطان بوش الذي غزا بلدان المسلمين وقتلت طائراته ودباباته أطفال المسلمين ونساءهم وأعلنها حرباً صليبية على المسلمين أقل خطراً من ( أوباما ) ذي الأصول الإسلامية والذي أبدى في خطاباته التعاطف مع المسلمين وأعلن أمام البرلمان التركي أن الولايات المتحدة ليست في حرب مع الإسلام وجسد هذا بانحنائه أمام الملك عبد الله عند لقائهما على هامش قمة العشرين في لندن !!.

وحتى يزول هذا الاستنكار وهذا الاستغراب الذي باعثه العاطفة وليس العقل أسوق بعض الأدلة على صحة عنوان هذه المقالة :

الدليل الأول :

إن الجرائم التي قام بها المجرم بوش في عهده هي من الفظاعة والشهرة بحيث لا تحتاج إلى ذكر وتفصيل ومع مافي هذه الجرائم من آلام ومعاناة على المسلمين إلا أن ماترتب على هذه الحماقات والجرائم من الخير للمسلمين والشرور على الأمريكان تربو على ما أصابهم من الشرور والمفاسد.ولو كان المجرم بوش يعلم ماتؤول إليه حماقاته ومؤامراته ماقدم على فعائله وجرائمه.

ومن أعظم هذه الثمار التي قدمتها سياسة بوش للمسلمين تلك اليقظة المباركة التي سرت في أبناء المسلمين نحو عدوهم الكافر ومعرفته على حقيقته وإحياء عقيدة الولاء والنصرة بين المؤمنين والعداوة والبراءة من الكافرين وارتفاع علم الجهاد في أكثر ميدان وثغر .

ومن هذه الثمار أيضاً افتضاح أمريكا الطاغية في العالم وسقوط أقنعتها الكاذبة التي تروج لحقوق الإنسان ورفع الظلم وحماية الحريات , حيث تهاوت هذه الدعاوى الكاذبة وعرفها القاصي والداني وأصبحت أمريكا في نظر العالم داعية للظلم ومهددة لحقوق الإنسان ومهلكة للحرث والنسل والأخضر واليابس .

ومن هذه الثمار :ماحق عليها من بأس الله عز وجل وظهور تداعيات انهيار نظامها الاقتصادي والسياسي والعسكري .وكل هذه الثمار السابقة ماكانت لتحصل لو لا أن الله عز وجل أغفل بوش وإدارته المجرمة عما يترتب على حماقاتهم من هذه المصالح للمسلمين و المفاسد العظيمة لتي حقت عليهم .

ولما شعر الأمريكان بهذه المخاطر والمصائب التي حلت بهم جراء سياسة بوش الحمقاء ذهبوا لترميم أخطاء هذه السياسة في محاولة يائسة لإعادة الهيبة لدولتهم المتداعية وتحسين صورتها في العالم فجاءوا بالرئيس الجديد ( أوباما ) وجاء بسياسته الماكرة ومحاولاته الخادعة للعالم ولاسيما العالم الإسلامي وأظهر محبته للسلام ونقده الشديد لسياسة سلفه العدوانية , فانخدع بمعسول كلامه كثير من المسلمين وعلقوا على مجيئه الأمل في رفع المعاناة عن المسلمين وإزالة الظلم عنهم!!! وبانطلاء هذه الخدعة والمكر الكُبار على المسلمين يكون إجرام هذا الرئيس الجديد أشد خطراً من إجرام سلفه وذلك لما يترتب على هذه المخادعة من ضعف العداء لأمريكا الطاغية وإحسان الظن بسياستها المستقبلية .وهذا يترتب عليه استنامة المسلمين وخفوت الشعور بكره الكافر وإعلان البراءة منه وترك جهاده ومحاربته , وفي هذا شرٌ كبير وخطر عظيم على عقيدة الولاء والبراء وعلى قيام شعيرة الجهاد مع مافيه من إعطاء الفرصة لدولة الطغيان أمريكا في أن ترمم مافسد من سياستها واقتصادها , وتحسين صورتها المنهارة في العالم , وليس هذا من مصلحة المسلمين , بل من مصلحتهم استمرار الانهيار في الدولة الطاغية وازدياد عوامل السقوط والتدمير في مفاصلها .

والحاصل أن سياسة المكر والنفاق التي تؤدي إلى هبوط مستوى العداوة والبراءة والمدافعة للكفار أخطر من سياسة التحدي والعدوان الذي تقوى فيه عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين وتستنفر فيه الهمم ويقوى فيه روح الجهاد والمدافعة للكفار المعتدين

الدليل الثاني :

يخطأ من يظن أن السياسة الأمريكية العدوانية تقوم على فرد يتربع على عرشها وأنها تتأثر بوجهته ونفسيته ورؤيته الشخصية إنما السياسة الأمريكية سياسة مؤسسية لها أهدافها وأجندتها ولها مراكزها ومخططوها .دور الرئيس تنفيذ هذه السياسة والسير في ضوئها , ولذا فإن تغير شخصية الرئيس الأول في أمريكا لايغير من الأمر شيء يذكر وإنما الذي يتغير سياسة كل رئيس ووسائله في تنفيذ هذه الأهداف فبينما هي عند بوش العجلة والتهور والحماقة وفي هذا مصالح للمسلمين سبق ذكر أهمها , فهي عند ( أوباما ) سياسة المكر والمخادعة ومعسول الكلام لتنفيذ نفس الأهداف التي رسمت لسلفه , فهما وجهان لعملة واحدة .

الدليل الثالث :

ومما يؤيد القول بأن السياسة الأمريكية وأهدافها لاتتغير بتغير الرئيس وإنما الذي يتغير هو الوسائل مانراه بعد تولي ( أوباما ) سدت الرئاسة في أمريكا من استمرار العدوان الأمريكي الصليبي على بلدان المسلمين وتأييد دولة اليهود ودعمهم والسعي لتفتيت البلدان الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات طائفية .هذا مايجري على الأرض في الوقت الذي ينافق فيه أوباما ويخادع المسلمين بمحبته للإسلام ونقده لسياسة سلفه وتعاطفه مع قضايا المسلمين ولكن هذا شيء وما ينفذه في الواقع شيء آخر .

فها هو يخرج في وسائل الإعلام وهو يتخشع أمام حائط المبكى اليهودي .

وهاهو ينحاز مع اليهود في محرقة غزة ويبيح استخدام الأسلحة المحرمة ضد المدنيين هناك بل إنه أعطاها لليهود ليجربوها في أطفال وأهل غزة .

وهاهو يصرح في خطاب له أمام منظمة إيباك المؤيدة لدولة اليهود ويصرح بأن القدس ستبقى عاصمة إسرائيل ويجب أن تبقى موحدة .

وهاهو يصعد الهجمات الصاروخية على المسلمين المدنيين في أفغانستان وباكستان .

وهاهو يأمر بزيادة قواته في أفغانستان ويعلن عزمه على إبقاء قواعد عسكرية في العراق إلى أجل غير مسمى , فماذا أبقى لبوش بعد ذلك ؟

فأي أخوة وأي تعاطف يعلنه هذا المجرم الماكر مع المسلمين وهاهي أفعاله ونواياه ؟

فالحذر الحذر من هذا الشيطان الماكر فإنه أخطر من الشيطان الأحمق وسيفشله الله عز وجل كما أفشل سلفه من قبله – قال سبحانه – {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ...} }  الأنبياء :18 { .

نسأل الله عز وجل أن يرد كيد الكفرة الصليبين في نحورهم وأن يقي المسلمين من شرورهم كما نسأله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته والحمد لله رب العالمين.[412]

----------------

المتوارون عن الولاء:

يهوِّل اللاهثون خلف سراب الإنسانية من مكاسب الحوارات الموبوءة،ويغرقون في تشييد أمانٍ وأمنيات على جرف هارٍ من الأوهام والظنون،ويهيمون في مسارب حب «مصطلم» وعشق مغيّب،ويتعامون عن براهين الشرع المنزَّل،وحقائق التاريخ السابق والحاضر.

إنَّه الهروب من الواقع والنكوص عن ميادين المدافعة والدعوة،والحيدة عن معالي الأمور ومجالدة الأعداء وجهادهم،والاستمتاع بملاينة الطغاة والمستبدين،والركون إلى عاجل الفانية وحطامها.

ولم يقف القوم عند هذه المهانة والخنوع للأعداء،واستملاح الذل والصغار،بل هرعوا إلى العبث بالنصوص الشرعية وليِّها،من أجل أن تتفق مع مسلك الخَوْر ومركب العجز.

وقبل أن نورد نماذج من تلك التحريفات والتأويلات الفاسدة لنصوص الولاء والبراء،نؤكد على استصحاب ما كان معلوماً من الدين بالضرورة،من وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين،حتى قال بعض العلماء:«فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله - سبحانه وتعالی - قد أوجب ذلك،وأكد إيجابه،وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها،حتى إنه ليس في كتاب الله - تعالى - حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده»[413]

كما أن دعوى إلغاء العداء مخالفة لطبيعة الإنسان وفطرته،إذ لا ينفك الإنسان عن حبٍّ وبغض،وموالاة ومعاداة،فأصل كل فعل وحركة في العالم الحب والبغض،كما بسطه ابن تيمية في رسالته:قاعدة في المحبة.

ومعسول السلام،والترنُّم بالوئام مع أعداء الله - تعالى - يخالف سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل،ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

ورحم الله الأستاذ الكبير (محمد محمد حسين) حيث يقول:«وقد جربنا الكلام عن الإنسانية والتسامح والسلام،وحقوق الإنسان في عصرنا،فوجدناه كلاماً يصنعه الأقوياء في وزارات الدعاية والإعلام،ليَنْفَق ويروج عند الضعفاء،فهو بضاعة للتصدير الخارجي،وليست معدَّة للاستهلاك الداخلي،لا يستفيد منها دائماً إلا القوي،لأنها تساعد على تمكينه من استغلال الضعيف الذي يعيش تحت تخدير هذه الدعوات،في ولاء مع مستغلِّه ومستعبده يستنفد طاقاته وقدراته في الأحلام بدل أن يوجهها لعمل نافع،يحرِّره من قيود ضعفه وعجزه..»[الإسلام والحضارة الغربية،ص 192.].

ومن هذا العبث في تفسير نصوص البراءة من المشركين:دعوى بعضهم أن العداء والبراء لمجرد الكفر والشرك لا للكافرين ولا للمشركين..وهذه سفسطة مكشوفة ومكابرة ظاهرة،إذ الكفر والشرك وصف قائم بأشخاص وأنظمة ودول! وقد أمر الله - تعالى - في محكم التنزيل بالبراءة من الشرك وأهله،بل قدَّم البراءة من المشركين على البراءة من معبوداتهم قال - تعالى - على لسان إبراهيم الخليل - عليه السلام -:{إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:٤].

وقال - تعالى - عن الخليل إبراهيم - عليه السلام -:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [مريم:٩٤].

ويفتري بعضهم الكذب على الله عند قوله - تعالى -:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:٤٦] فيزعمون أن كلمة (سواء) هي الإقرار بالربّ،فهو القاسم المشترك بيننا وبينهم! وقد تعاموا عن سائر الآية:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٤٦].

فالكلمة السواء هي عبادة الله - تعالى - وحده لا شريك له،وهذا ما ينقضه النصارى جهاراً نهاراً.

وتحتج طوائف على تبرير ملاينة النصارى واللياذ بأهل الصليب بقوله - عز وجل -:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:٢٨].ويغفلون عن الآية التي بعدها:{وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْـحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:٣٨]،فالمقصود بهم من آمن بنبينا محمد - r - ،فهم شهدوا لله بالوحدانية ولنبينا محمد - r -  بالنبوة والرسالة،فأين هؤلاء من عموم النصارى الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وتنقصوا عظمته وكماله وطعنوا في نبينا محمد - r - .

قال ابن حزم:«ولو أن الله وصف قولهم (طائفة اليعقوبية من النصارى القائلين:إن المسيح هو الله) في كتابه،لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف»[الفصل 1/111،وانظر:2/199.].

وقال ابن تيمية:«ففي الجملة ما قال قوم من أهل الملل قولاً على الله إلا وقول النصارى أقبح منه،ولهذا كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول:لا ترحموهم فقد سبُّوا الله مســبَّة ما سبَّه إياها أحد من البشر»[الجواب الصحيح 3/173.].

وتكايس آخرون فحصروا البغض والعداء في شأن الكافر المحارب دون المسالم،وهذا مردود بصريح القرآن في آيات كثيرة،كقوله - تعالى - على لسان إبراهيم الخليل - عليه السلام -:{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:٤]،فجعل للعداوة والبغضاء غاية وهي دخولهم في الإيمان بالله وحده،وقال - عز وجل - {لا يَتَّخِذِ الْـمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:٨٢]،وقال - سبحانه -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:١٥]،فموجب العداوة لهم وعدم اتخاذهم أولياء لأجل كونهم كفاراً يهوداً ونصارى،فلم يُعلِّق العداء بالمحاربين ولا الصهاينة المعتدين!

ويتحذلق بعضهم في تسويغ الديانات المنسوخة المبدلة،ويستبدل بقوله - تعالى -:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:٦].وهذه الآية الكريمة حجة عليهم كما حرره ابن تيمية قائلاً:«هي كلمة توجب براءاته من عملهم وبراءاتهم من عمله،فإن حرف «اللام» في لغة العرب يدل على الاختصاص..ولهذا قال النبي - r -  - عن هذه السورة -:«هي براءة من الشرك»[ أخرجه أحمد وأبو داود.].

وليس في هذه الآية أنه رضى بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظن بعض الملحدين،ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين..بل فيها براءته من دينهم وبراءاتهم من دينه..وهنا أمر محكم لا يقبل النسخ..فإنه - r -  لم يرضَ قط إلا بدين الله،ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين ولا من أهل الكتاب»[ الجواب الصحيح 2/31-32 باختصار.].

قد يعتل بعضهم على محبة الكافر بقوله - تعالى -:{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْـمُهْتَدِينَ} [القصص:٦٥].إذ نزلت الآية في أبي طالب عم رسول الله - r - ،والذي مات مشركاً على ملة عبد المطلب،كما ثبت في حديث المسيَّب بن حزْن - رضي الله عنهما - والذي أخرجه البخاري ومسلم.

والجواب عن ذلك الاستدلال أن معنى الآية:من أحببتَ هدايته كما هو ظاهر السياق.

كما قال شيخ المفسرين ابن جرير - رحمه الله -:«يقول - تعالى ذكره - لنبيه - r -  (إنَّك) يا محمد! (لا تهدي من أحببت) هدايته (ولكن الله يهدي من يشاء) أن يهديه من خلقه،بتوفيقه للإيمان به وبرسوله،ولو قيل:معناه إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك،ولكن الله يهدي من يشاء،كان مذهباً»[ تفسير ابن جرير 11/91،وانظر:فتح الباري لابن حجر 8/506.].

وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي:«ذكــر - جــل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبيه - r -  لا يهدي من أحبَّ هدايته..»[ أضواء البيان 6/456.].

وتفوَّه آخرون بتوقير الكافر والاحتفاء به،لأن النبي - r -  قام لجنازة يهودي..وقد جاء في الروايات الثابتة ما يبيِّن ذلك،فمن ذلك:«إن الموت فزع»،ومعناه:أن الموت يفزع منه،إشارة إلى استعظامه،وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب،وفي رواية ثانية «إنما قمنا للملائكة»،وفي لفظ ثالث «إنما تقومون إعظاماً للذي يقبض النفوس»،وفي رواية رابعة «إعظاماً لله الذي يقبض الأرواح».ولا تعارض بين ذلك كله،فالقيام للفزع من الموت هو من تعظيم أمر الله تعالى،وتعظيم للقائمين بأمره وهم الملائكة،كما قره الحافظ ابن حجر في الفتح[ 3/180.].

فكيف وقد توافرت النصوص الصريحة الصحيحة عن رسول الله - r -  بمشروعية مجانبة اليهود - وسائر الكفرة - ومخالفتهم حتى قالت يهود:«ما يريد هذا الرجل - يعنون نبينا محمداً - r -  - أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه»[ أخرجه مسلم ح (302).].

والمقصود أن الولاء للمؤمنين والعداوة للكافرين من آكد المحكمات البيّنات والثوابت القطعيات كما جاء واضحاً جلياً في نصوص الوحيين وقواعد الشريعة..وإن تطاول أحدهم على هذا الأصل الكبير،ولوَّح بنص أو دليل يعكر على هذا الأصل،فهذا من المتشابه الذي ينبغي ردُّه إلى المحكم البيِّن،ولا يُعرض عن المحكمات،ويتبع المشتبهات إلا أهل الزيغ من النصارى وأشباههم،كما قال - تعالى- عنهم:{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:٧].

مع يقيننا أن كل دليل يتشبَّث به المخالف لباطله،فإن في هذا الدليل ما ينقض مذهبه ويزهق باطله،إذ النصوص يصدق بعضها بعضاً،والدليل الصحيح لا يدل إلا على حق وصواب.

«إن لرسالات السماء أعداء موغلين في الخصام،لهم بيان حسن،ومقالات مزخرفة،واغترار بالباطل،وتأميل في نجاحة وكسب المعركة به.

وأعداء الإسلام من هذا القبيل لن ينقطعوا،ولن يهادنوا.

ترى أيغني في لقائهم الإحساس البارد والقلب الفارغ والابتسام المبذول؟ هيهات {فَلا تُطِعِ الْـمُكَذِّبِينَ }8{ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:٨ - ٩][ تأملات في الدين والحياة لمحمد الغزالي ص 163.].[414]

--------------

الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق في نازلة غزة المرابطة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – أما بعد:

فالمقصود من عنوان هذه المقالة:التفريق بين من يعلم حقيقة التوحيد ،ومقوماته ،وأنواعه ونواقضه مجرد علم نظري مع ضعف في تطبيقه والتحرك به ،وبين من يجمع مع العلم العمل والتطبيق ،وظهور آثار التوحيد في حاله وأعماله ومواقفه .

يبين الإمام ابن القيم - رحمه الله - المعاني عندما تحدث عن التوكل ،وحقيقته ،والفرق بين مجرد العلم به وبين التحرك به عملاً وحالاً ،فيقول :" (فكثير من الناس يعرف التوكُّل وحقيقته وتفاصيله ،فيظن أنه متوكل ،وليس من أهل التوكل ،فحال التوكل :أمر آخر من وراء العلم به ،وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها ،وحال المحب العاشق وراء ذلك ،وكمعرفة علم الخوف ،وحال الخائف وراء ذلك ،وهو شبيه بمعرفة المريضِ ماهيةَ الصحة وحقيقَتها وحاله بخلافها .فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق ،والعوارض بالمطالب ،والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة ،والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) "] مدارج السالكين 2/125 [.

وحري بهذا الكلام أن تعقد عليه الخناصر،وتعض به النواجذ ،وأن يهتم به المربُّون مع أنفسهم ومن تحت أيديهم ،فلقد كان من مضى من العلماء الصالحين الربانيين يخافون على أنفسهم من الضعف العملي ،أو ضعف الحال مقابل ما عندهم من العلم الكثير ،وكانوا لا يركنون إلى شهرتهم العلمية ،بل كانوا يكرهون أن يتضخم علمهم ويشتهروا به بين الناس وليس في قلوبهم وأحوالهم ما يكافئ ذلك من الأعمال الصالحة ،والأحوال الشريفة ،والتي هي مقتضى الفهم والعلم .

ولنا أن نتساءل ونفكر :أيهما أسعد حالاً ومنـزلة عند الله – عز وجل - رجل أوتي من العلم ما يتمكن به من حشد النصوص الدالة على فضل قيام الليل والأسباب المعينة على ذلك ثم هو لا يقوم الليل ،وآخر لا يعلم من ذلك إلا أن قيام الليل مستحب وأجره عظيم فاجتهد ليله بين يدي ربه – تعالى – ساجداً وقائماً ،يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ؟ فالمرء لا يكون قائماً الليل بمجرد علمه بفضل ذلك وأحكامه ،ولا يكون ورعاً بمجرد علمه بالورع،ولا يكون صابراً بمجرد علمه بالصبر وتعريفاته وأنواعه ،ولا يكون متوكلاً بمجرد علمه بالتوكل وأقسامه.

وبعد هذه المقدمة التوضيحية لمصطلح العلم والحال أدخل في صلب الموضوع الذي بات يؤرق كل مسلم صادق ،ويشغل بال كل موحِّد لله – عز وجل – ،وذلك في هذه الأيام العصيبة التي نزلت فيها بأمة الإسلام ،نازلة عظيمة ،وذالك بما يدور الآن من عدوان و محرقة على إخواننا المسلمين في غزة على يد إخوان القردة و الخنازير, وكل ذنبهم أنهم مسلمون رافضون لمؤامرات الذلة والاستسلام التي تعترف لليهود بالاحتلال و تقرهم على مقدسات المسلمين ويعلنون ولاءهم لله – عز وجل – ولدينه وللمسلمين ،كما يعلنون براءتهم من الكفر والكافرين .

وإن مما يقض المضاجع ويثير الأشجان أن تغيب كلمة الحق عند كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم في هذا الحدث الذي تمتحن فيه العقيدة وبخاصة الأصل الأصيل لكلمة التوحيد ألا وهو "الولاء والبراء ،والذي هو واضح في هذا الصراع غاية الوضوح وجلي أشد الجلاء .

وإن المسلم ليحتار ويتساءل :أين ما كنا نتعلمه من ديننا وعقيدتنا من أن كلمة التوحيد إنما تقوم على الولاء والبراء ،الولاء لله – عز وجل – وعبادته وحده ومحبة ما يحبه ومن يحبه والبراءة من الشرك وأهله ومن كل ما يبغضه - سبحانه - ومن يبغضه ،وإعلان العداوة له وهذه هي وصية الله – تعالى – لهذه الأمة { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة :4].

إي والله إنه لسؤال محير :أين دروس المساجد ؟ وأين محاضرات أهل العلم ،وأشرطتهم المسجلة،وبيانهم للناس فيها عقيدة التوحيد القائمة على الولاء والبراء ؟ أين الاعتزاز بدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة من بعده ،والذين كان جل كلامهم ورسائلهم في شرح هذه العقيدة ولوازمها والتحذير مما يخالفها وينقضها ؟ أين نحن ،وأين علماؤنا من بيان هذا الحق الأصيل للناس ؟! أين هم عن ذلك والأمة تمر في ساعات عصيبة تحتاج مَنْ يبعث فيها عقيدة الولاء والبراء ،وبناء المواقف في ضوئها ؟

وهنا أعود إلى عنوان هذه المقالة بعد أن تبين لنا معناها ،وأقول :إن هناك فرق بين تناول التوحيد كعلم مجرد وبين أخذه علماً وحالاً وسلوكاً .

إن المواقف المتخاذلة اليوم أمام أمريكا الكافرة وربيبتها دولة اليهود ،وعدم الصدع والجهر بعداوتها والبراءة منها ومن يتولاها من المنافقين من بني جلدتنا لهو أكبر دليل على أن التوحيد عند الكثير منا بقي في حدود العلم المجرد ،أما أخذه علماً وحالاً وعملاً فإنه - ويا للأسف - أصبح مغيباً عن الأمة ،ومغيباً عن المواقف والممارسات .

إن هذا الدين يرفض اختزال المعارف الباردة في الأذهان المجردة .

إن العلم في هذا الدين يقتضي العمل ،ويتحول في قلب المسلم إلى حركة وأحوال ومواقف ،إذ لا قيمة للمعرفة المجردة التي لا تتحول لتوِّها إلى حركة ومواقف .نعم ،لا قيمة للدراسات الإسلامية في شتى مناهجها ومعاهدها ،ولا قيمة لاكتظاظ الأدمغة بمضمونات هذه المعارف إن لم يصحبها عمل ومواقف .

إن العلم المجرد حجة على صاحبه إذا لم يقتضِ عنده العمل .

إن العلم بالدين لابد أن يزاول في الحياة ،ويطبق في المجتمع ،ويعيش في الواقع ،وإلا فما قيمة الدروس المكثفة عن الولاء والبراء وأنواعه ،وما يضاده من الشرك وما ينقضه من النواقض ،ثم لما جاءت المواقف التي نحتاج فيها إلى تطبيق ما تعلمناه من مشائخنا فإذا بالسكوت ،بل والتشنيع على من ترجم ما تعلمه إلى سلوك وحال مع أعداء الله – عز وجل – فأعلن براءته وصرَّح بما تعلمه من علمائه ومشائخه من أن تولي الكفار ومناصرتهم على المسلمين رِدَّة وناقض من نواقض الإسلام .

إن شأن التوحيد شأن عظيم من أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ،وقام سوق الجهاد وسوق الجنة والنار ،ومن أجل الولاء والبراء – الذي هو أس التوحيد وركنه الركين – هاجر المسلمون السابقون الأولون من ديارهم ،وضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ،وفاصلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشائرهم الذين ليسوا على دينهم متمثلين في ذلك قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة [ التوبة :23-24].

ولما كانت عقيدة الولاء والبراء هي صلب كلمة التوحيد ،وأنها تستلزم أقوالاً وأعمالاً ومواقف وبذلاً وتضحيات اهتم بها السلف اهتماماً عظيماً ،وعلموها لأولادهم ،وتواصوا بها ،وهاجروا ،وجاهدوا من أجلها ،وعادوا،ووالوا على أساسها .

يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى- :"فاللهَ اللهَ إخواني :تمسّكوا بأصل دينكم أوله وآخره أسّهِ ورأسه،وهو شهادة أن لا إله إلا الله ،واعرفوا معناها وأَحِبّوا أهلها ،واجعلوهم إخوانكم ،ولو كانوا بعيدين ،واكفروا بالطواغيت ،عادوهم ،وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم ،أو قال :ما عليّ منهم ،أو قال ما كلفني الله بهم ،فقد كذب على الله وافترى،بل كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم ،والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه وأولاده ،فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً" ( الدرر السنية  (2/119.

وقال في موطن آخر :"إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله ،والموالاة في الله ،والمعاداة فيه قبل تعليم الوضوء والصلاة ،لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة صلاته ولا صحة لإسلامه – أيضاً – إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله"(الرسائل الشخصية ص 323) .

ولما تواجه المسلمون في تاريخهم الطويل مع أعدائهم الكافرين بشتى مللهم برز دور العلماء في وقتهم ،وهم يحرِّضون على نصرة المسلمين وإعانتهم على الكافرين ويحذرون من تولي الكافرين،ومناصرتهم بأي نوع من أنواع النصرة ،ويفتون بأن من ظَاهَر الكافرين على المسلمين فهو مرتد خارج عن ملة الإسلام .

فهذا الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – قال عن بابك الخرمي عندما خرج على المسلمين وحاربهم وهو بأرض المشركين :" خرج إلينا يحاربنا وهو مقيم بأرض الشرك ،أيّ شيء حكمه ؟ إن كان هكذا فحكمه حكم الارتداد" ( الفروع (6/163))

وعندما هجم التتار على أراضي الإسلام في بلاد الشام وغيرها أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – برِدِّة من قفز إلى معسكر التتار من بعض المنتسبين إلى الإسلام ( الفتاوى 28/530) .

وعندما هجمت جيوش المشركين على أراضي نجد لقتال أهل التوحيد ،وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام ،وذلك بين عامي 1223 – 1226 أفتى علماء نجد بردة من أعانهم ،وألف الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ كتاب (الدلائل) في إثبات كفر هؤلاء .

وفي أوائل القرن الرابع عشر أعانت بعض قبائل الجزائر الفرنسيين ضد المسلمين ،فأفتى فقيه المغرب أبو الحسن التسولي بكفرهم.(أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبد القادر الجزائري ص 210) .

وفي منتصف القرن الرابع عشر اعتدى الفرنسيون والبريطانيون على المسلمين في مصر وغيرها فأفتى الشيخ أحمد شاكر بكفر من أعان هؤلاء بأي إعانة (كلمة حق:ص 126 وما بعدها )

وعندما استولى اليهود على فلسطين في منتصف القرن الرابع عشر الهجري،وأعانهم بعض المنتسبين إلى الإسلام أفتت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الشيخ عبد المجيد سليم عام 1366هـ بكفر من أعانهم .وفي هذه الأيام و في غزة التي تحالف على حربها اليهود والمنافقون .

ما أحوجنا إلى من يعلنها اليوم من أهل العلم في وجه كل من يتعاون من الحكومات العربية مع اليهود في ذبح أهلنا في غزة ليقال لهم إن ذلك من المظاهرة للكافرين والتي أجمع فيها أهل العلم في القديم و الحديث – كما سبق بيانه – على كفر فاعلها و ردته , ونخص منهم الحكومة التي جندت جنودها في غلق معبر رفح ليُخنَقَ المسلمون في غزة ويمنع عنهم ضروريات الحياة من غذاء و دواء ونقل لجرحاهم ويسلموهم لمحرقة اليهود و جحيمهم , فأيّ تولٍّ لليهود أكبر من هذا...؟  قال الله عز و جل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}] المائدة :51 [ .

و إن مما يتعلق بالولاء و البراء في مصاب غزة وجوب نصرة إخواننا هناك والحذر من خذلانهم وإسلامهم لعدوهم في هذه الظروف العصيبة .وإنه لمن المحزن و المؤلم لقلب كل مسلم أن يوجد في هذه الأيام من المنتسبين للعلم والدعوة – ولا أقول من العلمانيين والمنافقين – من يرفع عقيرته أو يسخر قلمه للنيل من المجاهدين في غزة ونقدهم بل و الشماتة أحيانًا بهم عياذا بالله .

ونقول لهؤلاء :اتقوا الله وخافوا ربكم , أفي هذا الوقت الذي تتطاير فيه أشلاء النساء و الأطفال و تهدم البيوت على أهلها و تصب عليهم نار القنابل العنقودية و الفسفورية التي تصهر اللحم والعظم يقال هذا الكلام؟

إنكم بصنيعكم هذا تضعون أنفسكم في خندق المعتدي و تعطونه المبرر لارتكاب محرقته من حيث لا تشعرون .

إن أخطاء المجاهدين لا تُسوِّغ خذلانهم أمام عدوهم فهم بشر وليسوا بمعصومين , قال الله عز وجل :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }] التوبة :71[ , وأخطاء المؤمنين لا ترفع الولاية عنهم .

ويا ليت أن نقد هؤلاء توجه إلى فضح إرهاب الكافرين ونفاق الموالين لهم وخياناتهم وبيان جرائمهم كالذي تمارسه الحكومة المصرية وعصبة عباس العلمانية من تواطؤ مع العدو على أهلنا في غزة .

يا إخواننا " اتقوا الله في أنفسكم و أمتكم , واعلموا أنكم ظلمتم أنفسكم فتوبوا إلى بارئكم واذكروا قوله صلى الله عليه و سلم ( ما من امرئ يخذل امرء مسلما في موطن ينتقص فيه عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته ] رواه احمد و أبو داوود وهو صحيح [ .

ألا يكفي المسلمين من الحزن والحرقة والألم مما يصيب إخوانهم في غزة حتى يأت هؤلاء بما يزيد الألم آلامًا من هذه المواقف المخذلة والشامتة .

إن ما يحصل في غزة إنما هو حرب يهودية صليبية على الإسلام والمسلمين وليس على حماس وحدها،حرب تميز الناس فيها إلى فئتين متقابلتين :فئة مسلمة لا ترضى بغير الإسلام حلاً وبديلاً وترفض الخنوع والاستسلام والتنازل لليهود عن فلسطين،وفئة أخرى كافرة يتحالف فيها اليهود وإخوانهم من المنافقين على الإسلام و أهله ،فمع أي الفئتين يضع المسلم نفسه ،وفي أيِّ الخندقين يجب أن يكون ،أفي خندق الكفر الحاقد على الإسلام وأهله أم في خندق الإسلام وأهله ؟ أفي ذلك غموض واشتباه ؟ إنه والله لا غموض فيه ولا لبس .وإن الأمر جِدُّ خطير ،وامتحان للتوحيد في قلب المؤمن القائم على عبادة الله وحده والكفر بما سواه والموالاة والمعاداة فيه .

نسأل الله عز و جل أن يجعلنا من الموحدين الصادقين سلمًا لأوليائه حربًا على أعدائه كما نسأله سبحانه أن يجعل لإخواننا  في غزة من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ومن كل بلاء عافيةً  والحمد لله رب العالمين .[415]

----------------

المغالطة بمصطلح (الإنسانية) في حوار الأديان:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد:

فمع ما في المصطلحات من فائدة كبيرة في كونها وسائل للتفاهم بأقصر طريق وأوضح دلالة وأقل مجهود مادامت مقيدة بالكتاب والسنة كما رأينا ذلك عند علماء الأصول والأحكام إلا أنها ظُلمت عند قوم تلاعبوا بها ووظفوها اليوم في التلبيس على الناس وإضلالهم فشوهوا بها الحق وزينوا بها الباطل .يصف هذا التلاعب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله فيقول:

(إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم ،كلاهما منكر ،وكلاهما قبيح،وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة ،وتغليط للتاريخ وتظليل للسامعين ،ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة ،ويا ويح تاريخنا إذا بني على هذه المقدمات الكاذبة )]مجلة البيان العدد (140)ص 112[

والمصطلحات إذا لم تحرر ولم تضبط فإنها تؤدي إلى انحراف في الفهم والإفهام (والمصطلحات ) من أشد العناصر الثقافية أثراً وفتكاً في ثقافات الشعوب .ومع أن (المصطلح ) لا يتجاوز كلمة أو كلمتين أو ثلاث ولا تتعدى ذلك إلا نادراً إلا أن هذه الكلمة قادرة على أن تفرغ العقول والقلوب وتملأها .

والمصطلح باختصار هو (حبة) أو (جرعة) سحرية،يتناولها فرد أو جماعة،فتحول اتجاه تفكيره أو تفكيرهم من جهة إلى جهة إن لم تفقده التفكير أصلاً .

ومن هنا تأتي ضرورة إلمام المسلم بميزان الكتاب والسنة المبرّأ من الخلل والشطط لأنه هو الذي يؤهله ليكون أبعد الناس عن الانسياق وراء الشعارات والمصطلحات المضللة مهما كان بريقها ومهما كان مكر الأعداء في التلاعب بها وعرضها في قوالب مزخرفة .

وفي واقعنا المعاصر يظهر لنا خبث أعداء هذا الدين من الكفار والمنافقين وذلك في التلاعب بالمصطلحات والتلبيس على الناس بها واستخدموا في ذلك وسائل الإعلام المختلفة التي يتحكمون بها والتي ما تفتأ تبدئ وتعيد في طرح المصطلحات الغامضة والتلاعب بها في إضلال الناس وغسل أدمغتهم وجعلها مع الوقت والتكرار أمراً مسلماً ومقبولاً لا يحتمل النقاش .

ومن هذه المصطلحات المضللة مصطلح (الإنسانية) والذي يكثر طرحه هذه الأيام والدعوة إليه في حوار الأديان والحضارات !!

فما حقيقة هذه الدعوة المضللة ،وما أهدافها ؟ لقد كتب الأستاذ محمد قطب حفظه الله تعالى ومنذ ما يزيد على العقدين من الزمن عن هذه النحلة وكأنه يتحدث عن واقعنا المعاصر أنقل منها بعض المقتطفات لتتضح حقيقة هذه الدعوة:

يقول وفقه الله تعالى :

(الإنسانية- أو العالمية كما يدعونها أحيانا- دعوى براقة،تظهر بين الحين والحين ،ثم تختفي لتعود من جديد ! يا أخي ! كن إنساني النزعة ..وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء ..دع الدين جانبا فهو أمر شخصي ..علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب ..لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين ..فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين البشر ..بين الإخوة في الإنسانية ! تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو لون أو وطن أو دين !دعوى براقة كما ترى ..يخيل إليك حين تستمع إليها أنها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التي تفرق بين البشر على وجه الأرض .تدعوك لترفرف في عالم النور ..تدعوك لتكون كبير القلب ،واسع الأفق ،كريم المشاعر ..تنظر بعين إنسانية – وتفكر بفكر عالمي ،وتعطي من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء ،بدافع الحب الإنساني الكبير !

إن أناسا قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق ،فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عن الحقيقة التي تنطوي عليها .وقد لا يصدقون أصلاً أنها دعوى إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين في الأرض لأمر يراد .

فلنصدق – مؤقتاً – أنها دعوى مخلصة للارتفاع بالإنسان عن كل عصبية تلون فكره أو سلوكه أو مشاعره ،ليلتقي بالإنسانية كلها لقاء الصديق المخلص الذي يحب الخير للجميع ..

فلنصدق ذلك في عالم الأحلام ..فما رصيد هذه الدعوى في عالم الواقع ؟!

ما رصيدها في العالم الذي تجتاحه القوميات من جانب ،والعصبيات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية من كل جانب ؟

فلنأخذ مثالا واحد من العالم المعاصر ..من المعاملة التي يلقاها المسلمون في كل مكان في الأرض يقعون فيه في حوزة غير المسلمين ،أو في دائرة نفوذهم من قريب أو من بعيد ..

فلننظر إلى " الإنسانية " التي يعاملون بها و "السماحة" التي يقابلون بها ،" وسعة الصدر " و " حب الخير " الذي ينهال عليهم من كل مكان !

هذه فلسطين ظلت أربعة عشر قرنا من الزمان أرضا إسلامية ..ثم جاء اليهود ليقيموا عليه دولة يهودية ..ولم يستنكر أحد من " الإنسانيين " طرد السكان الأصليين وإجلاءهم عن أرضهم بالقنابل والمدافع ،بل بشق بطون الحوامل والتلهي بالتراهن على نوع الجنين كما فعلت العصابات اليهودية التي كان رأس إحداهما مناحم بيجن ..وإنما استنكرت من المسلمين أن يطالبوا بأرضهم ،وألا يخلوها عن طيب خاطر للغاصبين !

ويطول الأمر بنا لو رحنا نستعرض أحوال المسلمين الواقعين في قبضة المسلمين ،أو الذين يتعرضون لعدوان غير المسلمين في كل مكان في الأرض ..في روسيا الشيوعية التي قتلت ما يقرب من أربعة ملايين من المسلمين وفي يوغسلافيا التي قتلت ثلاثة أرباع مليون منهم وفي أفغانستان التي تستخدم فيها الأسلحة المحرمة "دوليا "و "قانونيا " و" إنسانيا!- ومثل ذلك في العراق والصومال- " ووفي أوغندا ،وفي تنزانيا ،وفي ..وفي ..وفي ..وفي ..

فما بال " الإنسانيين " ما بالهم لا يتحركون ؟! ما بالهم لا يصرخون في وجه الظلم الكافر الذي لا قلب له ولا ضمير ؟!

إنما توجه دعوى " الإنسانية " فقط ضد أصحاب الدين !

فمن كان متمسكا بدينه فهو " المتعصب " "ضيق الأفق " الذي يفرق بين البشر على أساس الدين ،ولا يتسع قلبه " للإنسانية " فيتعامل معها بلا حواجز في القلب أو في الفكر أو في السلوك !

أو قل على وجه التحديد إن الذين يحاربون اليوم بدعوى " الإنسانية " هم المسلمون !

يحاربون بها من طريقين ،أو من أجل هدفين

الهدف الأول :هو إزالة استعلاء المسلم الحق بإيمانه الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به في كل الأرض وهدم عقيدة الولاء والبراء ،لكي تنبهم شخصيته وتتميع.

والهدف الثاني :هو إزالة روح الجهاد من قلبه ..ليطمئن الأعداء ويستريحوا !!...

فباسم الإنسانية يقال للمسلم الحق :يا أخي لا تعتزل الناس ! إن الإنسانية كلها أسرة واحدة ،فتعامل مع الأسرة كفرد منها ،ولا تميز نفسك عنها ! وشارك في النشاط " الإنساني" و مظاهر الحضارة الإنسانية ..تلك هي القضية ! إن تمسك المسلم بإسلامه شيء يغيظ الأعداء الإسلام بصورة جنونية ..ولا يهدأ لهم بال حتى يذهبوا عنه ذلك التمسك ويميعوه ومن وسائل ذلك كما أسلفنا دعوى الإنسانية والعالمية  فإذا تميع بالفعل ،ولم تعد له سمته المميزة له ،احتقروه كما احتقرت أوربا الأتراك بعد أن أزال أتاتورك إسلامهم و" فرنجهم "و " غربهم " ! بينما يقول أحد المبشرين في كتاب " الغارة في العالم الإسلامي " إن أوربا كانت تفزع من" الرجل المريض "( وهو مريض ) لأن وراءه ثلاثمائة مليون من البشر مستعدون أن يقاتلوا بإشارة من يده وهذا النص الأخير يدخل بنا إلى النقطة الثانية أو الهدف الثاني من استخدام دعوى " الإنسانية " في محاربة المسلمين .

إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه !...

(ودعوى الإنسانية )من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين .

يا أخي ! لقد تغيرت الدنيا !لا تتكلم عن الجهاد !ّ أو إن كنت لا بد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعي فحسب ! ولا تتكلم عنه إلا في أضيق الحدود ! فهذا الذي يتناسب اليوم مع " الإنسانية المتحضرة" ! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت ! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة ! وهناك قانون دولي وهيئات دولية تنظر في حقك وتحل قضاياك بالطرق " الدبلوماسية" !فإذا فشلت تلك الهيئات في رد حقك المغتصب فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك ولكن لا تسمه جهادا !..فالجهاد قد مضى وقته ! وإنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة !!

أما نشر الدعوة فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد ! هناك اليوم وسائل "إنسانية" لنشر الدعوة فاسلكها إن شئت ..هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضر والدروس ..إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة في أفواه المتحضرين !..

إن الإسلام صريح في توجيه أتباعه إلى التميز عن أحوال الجاهلية ،التميز بنظافة السمت ونظافة الأخلاق ونظافة السلوك ،والاستعلاء بالإيمان على كل مصدر ليس إسلاميا  أو متعارض مع الإسلام ،حتى لو لحقت بهم هزيمة مؤقتة أو ضعف طارئ :{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ] سورة آل عمران:139[

ومصدر التميز هو الإحساس بأنهم على الهدى وغيرهم على الضلال ،وأن المنهج الذي يعيشون به هو المنهج الأعلى لأنه المنهج الرباني ،والذي يعيش عليه غيرهم هو المنهج الأدنى لأنه منهج جاهلي .فهو ليس تميزا مبنيا على الجنس ولا اللون ولا الجاه ولا الغنى ولا القوة ولا أي معنى من المعاني الأرضية التي تعتز بها الجاهلية وتستعلي بها على الناس.إنما التميز المستمد من معرفة المنهج الرباني و اتباعه )أ.هـ  ]مذاهب فكرية معاصرة ص 510-524 باختصار وتصرف يسير[.

ومن شبه الداعين إلى الإنسانية كهدف لحوار والحضارات قولهم:إن حوار المسلمين مع أهل الديانات الأخرى ليس حوار عقائد وإنما هو حوار على القواسم المشتركة المتفق عليها بين الجميع كخلق التسامح والعدل ومحاربة الظلم ونشر السلام والقيم الفاضلة .ولا يخفى ما في هذا الكلام من غباء ومغالطة ومخالفة لبدهيات العقل والشريعة .

أي عدل وأي أخلاق فاضلة يُطمع فيها من الكفار الذين كفروا بربهم فهم بين ملحد دهري أو مشرك مؤمن بعقيدة التثليث وتأليه عيسى عليه السلام.

أي عدل وخلق يطلب من الكفار الصليبيين الذين قتلوا الملايين من المسلمين وشردوهم وسجنوهم وحاصروا بلدانهم حتى مات مليون طفل من حصارهم في العراق وغزة وغيرهما.

إن من كفر بالله عز وجل قد وقع في الظلم الأعظم وعليه فلا يتوقع من هذه حاله،إلا الظلم والأخلاق الرذيلة والاستبداد والطغيان قال الله عز وجل :{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ]سورة الأنفال:17[ والواقع  شاهد بذلك.

إن من يرجوا سلاماً أو عدلاً أو أخلاقاً طيبة من الكفار كمن يستنبت بذوراً في الهواء أو يحرث في البحر .

إنه لا شيء يضبط السلوك الإنساني ويزكي النفوس ويأطرها على محاسن الأخلاق وترك سيئها غير توحيد الله عز وجل والخوف منه سبحانه ورجاء ثوابه ومراقبته في السر والعلن والشعور باطلاعه عز وجل على خفايا القلوب ومنحنيات الدروب ،وهذا كله لا يأتي إلا بالتربية على التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته ومقتضياتها والتعبد له سبحانه بها مما يكون له الأثر في ظهور أثارها على أخلاق الناس وسلوكياتهم وإذا لم يوجد هذا الشعور وهذه التربية على العقيدة فإنه لا تنفع أي محاولة مهما كانت في تهذيب سلوك الناس ،مهما وضع من النظم والقوانين والعقوبات ،فغاية ما فيها ضبط سلوك الفرد أمام الناس والقانون فإذا غاب عن أعينهم ضاعت الأخلاق واضطربت القيم ،وهذا هو الفرق في علاج  انحراف النفس البشرية والمجتمع الإنساني بين منهج الله عز وجل القائم على تربية الناس على العقيدة وبين المناهج الجاهلية البعيدة عن منهج الله عز وجل إن عقيدة التوحيد هي الأصل في إصلاح النفوس والأخلاق وبدونها تفسد الأخلاق والقيم ولو صلحت بعض الأخلاق بدوافع أخرى غير العقيدة كالعادات ورقابة القانون أو المصالح النفعية فإنها لا تدوم بل تزول بزوال المصلحة أو الرقيب .

ويحسن بنا في هذه الوقفة تنبيه المخدوعين من أبناء المسلمين الذين انخدعوا ببعض الأخلاق النفعية التي يجدونها عند الكفار في ديارهم كالصدق في المواعيد والأمانة والوفاء بالعقود ،إلى أن هذه الأخلاق لم يكن دافعها الخوف من الله عز وجل ورجاء ثوابه في الدنيا والآخرة وإنما هي أخلاق نفعية مؤقتة يريدون منها مصالحهم الخاصة والدعاية لهم ولشركاتهم ولذلك فإنها لا تدوم معهم وإنما تدور معهم حسب مصالحهم بدليل أن هذه الأخلاق تنعدم ويحل محلها الأخلاق السيئة من الكذب والخداع والظلم والطغيان إذا كانت مصالحهم تقتضي ذلك ومراجعة سريعة للحروب الصليبية لبلدان المسلمين القديم منها والحديث يشهد على ذلك .

أما المسلم المتربي على العقيدة الربانية فأخلاقه ثابتة معه في ليله ونهاره في سره وعلا نيته في سرائه وضرائه في بلده وخارجه .

والحاصل أن الدعوة إلى ( الإنسانية )التي تلغي البعد العقدي في علاقة الإنسان بالإنسان إنما هي دعوة مضلله مؤداها أهداف خطيرة من أهمها :

1- الخطر على عقيدة التوحيد التي صلبها الولاء لله عز وجل ولرسوله r وللمؤمنين والبراءة والبغض للشرك والمشركين ،ونتيجة هذا الخطر التهوين من الكفر وأهله والكف عن ذكرهم بسوء في عقيدتهم وأفكارهم ،والمساواة بين المسلم الموحد والكافر الملحد .

2- إعادة النظر في مناهج التعليم والإعلام في بلدان المسلمين وحذف كل ما يشير إلى عداوة الكافر ومجاهدته في سبيل الله عز وجل،وقد بدأ هذا بالفعل في كثير من بلدان المسلمين.

3- المطالبة بفتح الكنائس والمعابد الوثنية في بلدان المسلمين ولا سيما في جزيرة العرب .

4- هذه الدعوة طريق يمهد إلى تطبيع العلاقات مع اليهود والاعتراف بدولتهم على تراب فلسطين .

5- فتح المجال للتنصير في بلدان المسلمين أسوة بالمراكز الإسلامية في ديار الكفار.

6- حرية التدين وتغيير الدين وحرية الرأي والتفكير ولو كان بالإلحاد وسب الدين وهذا مما يفرح به الزنادقة من الليبراليين والعلمانيين ويغتنموه في مزيد من الإفساد وبث الشبهات والشهوات .

7- محاصرة التوجه السلفي المستعصي على هذه الأطروحات المضللة والتمسك بأصول السلف وعقيدتهم في التوحيد والموالاة والمعاداة عليها ورميه بشتى التهم والسعي لاحتوائه بالترغيب أو الترهيب وإن لم يجد ذلك فبالتصفية والزج بأهله في غياهب السجون.

8- ومما يزيد الأمر خطورة ويشير إلى قوة المكر في هذه الدعوات تبني بعض الإسلاميين من بعض الدعاة وطلبة العلم لهذه الدعوة ومباركتها ولا ندري هل هذا جهل منهم أو مجاملة ومصانعة لمن يتبناها وينادي بها من وجهاء الناس وكبارهم ؟!

وأيا كان أحد الأمرين فإنه مصيبة وإن كان بعض المصائب أهون من بعض

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة     وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم .

نسأل الله عز وجل أن يهدينا لما أختلف فيه من الحق وأن يثبتنا عليه والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه [416].

---------------

ما معنى لكم دينكم ولي دين؟

قرأت للكاتب:حماد السالمي مقالا في جريدة الجزيرة في العدد الصادر يوم الأحد 11/6/1429هـ بعنوان:( من مكة عبد الله أسمعها ) ساق فيه الكاتب مضامين كلمة خادم الحرمين الشريفين:الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله ومما قاله في آخر ما كتب:أولاً:نحن إذن أمام رؤية حضارية جديدة تبلورت صورتها في مكة ونأت بالدين الإسلامي أن يكون وسيلة للتخاصم والعدوان والاستعداء:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }الكافرون6 والملاحظ على هذه الجملة:

1- قوله نحن إذن أمام رؤية حضارية جديدة تبلورت صورتها من مكة – نقول للكاتب هذه الرؤية ليست جديدة وإنما هي رؤية الإسلام ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.فالملك حفظه الله إنما نادى باسم الإسلام الذي جاء به محمد r منذ أربعة عشر قرنا وزيادة.

2- قوله:ونأت بالدين الإسلامي أن يكون وسيلة للتخاصم والعدوان والاستعداء ونقول للكاتب:التخاصم طبيعة البشر كما قال تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ }هود119 فلا يسلم من التخاصم إلا من رحمه الله بإتباع الأنبياء والتمسك بالدين الصحيح.ولا بد من مخاصمة المخالفين للرسل بدعوتهم إلى الحق ورد شبهاتهم قال تعالى:{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }النحل125 قال تعالى:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً }الفرقان52.أي جادلهم بالحجج القرآنية والبراهين الربانية أعظم الجهاد وأكبره {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }الأنفال42 وليس ذلك من العدوان وإنما هو من الدعوة إلى الله لصالح المخالف ليرجع إلى الحق.

3- قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }الكافرون6 إنما تقال للكفار إذا رفضوا قبول الحق ودعونا إلى اتباعهم فحينئذ نتمسك بديننا ونتبرأ من دينهم.وليس معنى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }الكافرون6 أننا نتركهم على كفرهم دون أن ندعوهم إلى الحق لإخراجهم من الظلمات إلى النور ونجاهدهم إذا تطلب الأمر جهادهم لكف عدوانهم على الإسلام والمسلمين كما قال تعالى:{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ }البقرة217 فهذا الدين قام على الدعوة والجهاد كما قال تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104 فلا يجوز للمسلمين ترك البشرية تعيش في ضلالها وعند المسلمين الهدى والنور قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}آل عمران110 فهذه الأمة مكلفة بدعوة غيرها من الأمم لإخراجها من الظلمات إلى النور قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}إبراهيم1.

ثانياً:ثم قال الكاتب:وإذا أردنا أن نثبت مصداقيتنا في ترجمة شفافة لهذه الصورة الجميلة التي رسمناها بأنفسنا في مواجهة بقية أصحاب الديانات الأخرى فينبغي أن نعمد فوراً إلى تربية أسرية وشعبية خالية من كل شوائب الماضي الذي ينضح بالكراهية ويحرض على العداء ويعمم التخلف ويسوق الطالبانية الظلامية من طرق عدة في بلدنا هذا وفي كثير من بلدان المسلمين والملاحظ على هذا المقطع من كلام الكاتب:

1-  أن الصورة الجميلة لم نرسمها نحن وإنما رسمها لنا ديننا منذ أنزله الله على رسوله r فما علينا إلا إتباع ما جاء به ديننا لأنه دين كامل كما وصفه الله تعالى بقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }المائدة3 وبين لنا ربنا في هذا الدين الكامل كيف نواجه أصحاب الديانات الأخرى وذلك بالدعوة ونشر الخير وكف العدوان.

2-  قوله:نعمد فوراً إلى تربية خالية من كل شوائب الماضي الذي ينضح بالكراهية ويحرض على العداء ..إلخ ما قال.

نقول له:

1- ماضي المسلمين وحاضرهم ( والحمد لله ) ليس فيه شوائب ما دام مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله وما عليه سلف الأمة وأئمتها بل هو طريق مستقيم أمرنا الله بإتباعه والسير عليه فقال سبحانه:{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153 فهو دين خالص من الشوائب.

2- ديننا لا ينضح بالكراهية إلا لمن يكرهه الله ورسوله من الكفار والمنافقين فنحن نكره من يكرههم الله ورسوله ونحب من يحبهم الله ورسوله قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }المجادلة22 والولاء والبراء في الله أصل من أصول عقيدتنا لن نتخلى عنه.

3- قوله عن ماضينا أنه يعمم التخلف ويسوق الظلامية من طرق عدة في بلدنا هذا – نقول له :ماضينا والحمد لله السائر على الكتاب والسنة يعمم التقدم والرقي وبلدنا هذا ولله الحمد بلاد العقيدة السليمة والأمن والاستقرار والحكم بالشريعة التي أنزلها الله.

ثالثاً:قال:ينبغي أن نستبدل ثقافة التسامح بثقافة التصادم.

نقول له:التسامح يكون في حدود ما شرعه الله من الأحكام الشرعية ولا يكون بالتنازل عن شيء من ديننا لإرضاء الآخرين فذلك هو المداهنة المحرمة بالكتاب والسنة وليس من التسامح.

رابعاً:قال:وأن نعيد ترتيب البيت الإسلامي في المجتمع الإسلامي من خلال تعليم محايد.

نقول له:ترتيب البيت الإسلامي يكون بالرجوع إلى الكتاب والسنة والاعتقاد السليم وهذا ما يقوم عليه التعليم عندنا ولله الحمد من خلال ما نَدْرسه ونُدَرِسه من كتب العقيدة المقررة في مدارسنا ومساجدنا وهي عقيدة تحارب الشركيات والمبتدعات وتحث على اجتماع الكلمة على الحق ومنهج الكتاب والسنة ونحن لا ندعو الناس إلى أن يتبعونا أو يتبعوا فلاناً وعلاناً وإنما ندعوهم إلى إتباع الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وهذا هو التعليم المحايد الذي لا انحياز فيه وهو كلمة سواء بيننا وبين المخالف:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64 وأخيراً أسأل الله لي وللكاتب:حماد السالمي التوفيق لما فيه الخير والصلاح.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.[417]

---------------

الولاء والبراء :

لقد قامت دولة الإسلام العظيمة على يد مؤسسها الأول محمد r على أساس متين من العقيدة الراسخة والإيمان المتغلغل في القلوب،ووضع المسلمون في المدينة اللبنة الأولى لصرح تلك الدولة الفتية،التي أخذت في الاتساع شيئاً فشيئاً،وبسرعة عجيبة أذهلت العالم بأسره،حتى وصلت خيول المسلمين أطراف الصين شرقاً وحدود فرنسا الصليبية غرباً،وكان الداخلون في الإسلام - لا سيما في العهود المتقدمة - يشعرون منذ لحظة دخولهم أنهم يبدأون عهدا جديداً،فضلاً عن الانفصال عن حياتهم التي أمضوها في الجاهلية،وكان كل مسلم جديد يدخل في الإسلام ينبذ كل القيم وكل الروابط التي تربطه بالماضي،ويستبدل بها رابطة الدين والعقيدة.

كان المسلم الجديد يقذف بكل ولاءاته التي كان يمنحها لأهله وعشيرته ووطنه،يقذف بها بعيداً ويتبرأ منها ليمنح بعد ذلك ولاءه وتبعيته لخالقه ومولاه سبحانه،وينضم إلى جماعة المسلمين،ويمنحها حبه ومودته وإخلاصه.

وبمثل هذه التربية الإيمانية نشأ أولئك الرجال الذين أقاموا أعظم حضارة وأعظم دولة عرفتها الدنيا،إلا أنّ تلك الدولة العظيمة دولة الإسلام العالمية،ما لبثت أن تراجعت القَهْقَرَى وتنازلت بكل بساطة وسذاجة عن كل انجازاتها وفتوحاتها،كنتيجة طبيعية لتنازلها عن سرّ قوتها وأساس نهضتها،وهو دينها القويم وحبلها المتين.

وأصبحت الأمة التي كانت ترهب أعداءها مسيرة شهر من الزمان،أصبحت أمة تابعة ذليلة،تسلط عليها أعداؤها،يسومونها الخسف والهوان.

دخلت الأمة في طاعة الكفار والمنافقين واطمأنت إليهم،ومنحتهم ولاءها وتبعيتها،من دون الله الواحد القهار.

وقد نتج عن هذه الكارثة والمأساة ضياع كثير من المفاهيم العقدية وانحسار جملة من القيم الأخلاقية كنتيجة بدهية لاحتكاك الأمة بأعدائها وخضوعها واستغلالها لهم.

ومن أبرز تلك المفاهيم العقدية التي غابت عن حياة كثير من المسلمين:مفهوم الولاء والبراء،والذي يحسب بعض البسطاء أنه يندرج تحت جملة القضايا الجزئية أو الثانوية،وهو وهمٌ كبير وخطأ فادح نتج عنه حالة مفزعة من ظلم الناس بعضهم لبعض من جهة،وتعظميهم وحبهم للكفار من جهة أخرى،وذلك انتكاس خطير في المفاهيم وقلب مشين للأصول والقواعد،لذا وجب إيضاح هذا المفهوم الخطير - مفهوم الولاء والبراء - حتى يعلم المسلم من يوالي ومن يعادي،ومن يحب ومن يبغض؟!.

فأما الولاء:فمعناه أن يوالي المسلم إخوانه المسلمين ويحبهم ويرحمهم وينصرهم وينضم إلى جماعتهم ظاهراً وباطناً.

وأما البراء فمعناه:أن يتبرأ المسلم من الكفار ويبغضهم ويعاديهم ويجاهدهم بلسانه ونفسه وماله.

هذا هو حقيقة الولاء والبراء:الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين،وهذا المفهوم هو التطبيق العملي لعقيدة التوحيد العظيمة،وهو مفهوم عظيم في حسّ المسلم وشعوره بمقدار ضخامة وعظمة العقيدة في نفسه.

ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء،وتحقيق البراء ممن يستحق البراء.

لقد تكاثرت نصوص الكتاب في التحذير من الكفار ومكرهم وخبثهم وفضحت دسائسهم وحيلهم وحذرت من اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).

ويقول سبحانه:(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ويقول جل وعلا:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

والآيات في هذا المعنى كثيرة مشهورة.

يقول الشيخ حمد بن عتيق – رحمه الله – وهو إمام جليل من أئمة الدعوة "أنّه ليس في كتاب الله تعالى حكمٌ فيه من الأدلة أكثر ولا أبيَن من هذا الحكم - أي الولاء والبراء - بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده".انتهى كلامه رحمه الله.

وبالرغم من كل ذلك الاهتمام الذي أولاه القرآن الكريم لمفهوم الولاء والبراء فإن النّاظر في حال كثير من النّاس اليوم يجد المسلمين شعوباً وأفراداً،وقد فرطوا بهذا الأصل العظيم،وما ذلك التفريط إلا لغياب الثقافة الإسلامية الصحيحة والتوعية الأصولية السليمة لعقيدة الإسلام وقيمه،فبدلاً من معاداة الكفار وبغضهم،أصبح الكثيرون منَّا يحبّون الكفّار ويوالونهم ويكرمونهم ويقدمونهم ويقلدونهم ويتشبهون بهم،وأخذت موالاة الكفار صوراً ومظاهر شتى.

فمن مظاهر موالاة الكفار،والتي هي ردة عن الإسلام،وناقض من نواقضه:

مظاهرتهم ومناصرتهم ضد المسلمين:كما يحصل من بعض الطواغيت المنتسبين إلى الإسلام،حيث وضعوا أيديهم في أيدي الكفار وأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهِم لضرب المسلمين العزل وسومهم سوء العذاب.

ومن مظاهر موالاة الكفار:استيراد القوانين الوضعية والأنظمة الطاغوتية منهم،حيث أصبحت تلك القوانين والأنظمة مصدراً لصياغة ما يسمى بالدستور،والذي خضع له الناس رغبة أو رهبة،وتحرك ذلك الأمر المهول إلى مظهر أليم،فبشرٌ يشرعون ويحكمون،وآخرون يخضعون،أي تحوّل بعض البشر إلى أرباب والهة وعبدهم الباقون وقد سوهم.

من مظاهر موالاة الكفار كذلك:الإيمان ببعض ما هم عليهم من العقائد الفاسدة أو المذاهب الفكرية المنحرفة،وهو أمر واقع مشاهد،يحصل في صفوف كثير من المثقفين،المنادين سراً وجهاراً بالعلمانية طريقة للحياة،وبالديمقراطية وسيلة للحكم والتشريع،في مقابل إقصاء الإسلام وإبعاده.

ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك:مودتهم ومحبتهم واحترامهم وتقديرهم،وقد نهى القرآن الكريم عن بذل المودة والمحبة لغير المسلم.

ولو كان أقرب قريب:(لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ،) ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

إذاً فالعلاقة الأصلية التي تربط المسلم بغيره من الناس هي رابطة الدين والعقيدة،أما رابطة النسب والسبب فلا قيمة لها تذكر،إلا إذا صحت العقيدة وخلص الإيمان لله رب العالمين.

ومن مظاهر موالاة الكفار:الركون إليهم والاطمئنان لهم،كالسفر إلى بلادهم بدعوى النزهة والسياحة،أو تعلم اللغة الأجنبية لغير حاجة،غير ذلك من الدعاوى التي لا تغني عند الله فتيلاً.

وفي هذا يقول سبحانه:(وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ).

ويقول سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام:(وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً).

ومن مظاهر موالاة الكفار:الإعجاب بهم وبدنياهم الفانية وطرائق حياتهم،وما وصلوا إليه من ترف وبطر وأشر،وفي هذا يقول الله تعالى:(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

ويقول سبحانه:(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

ومن مظاهر موالاة الكفار:تهنئتهم بأعيادهم واحتفالاتهم،كتهنئتهم بعيد المزعوم لميلاد المسيح عليه السلام،فضلاً عن تمكينهم من إقامة احتفالاتهم في بلاد المسلمين،أو مشاركتهم في إقامتها:،(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم،ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون،واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة،فاستغفروه،إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانيّة

الحمد لله الملك الحق المبين مالك الملك رب العالمين أصلي واسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى عباد الله الصالحين أما بعد.

ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك:التشبّه بهم في عقائدهم،أو عباداتهم،أو ما هو من خصائصهم.

والتشبه بالكفار موضوع خطير يحتاج إلى تأصيل وتقعيد وتبيين وتوضيح،وقد أُفرد الحديث عنه في خطبة مستقلة - إن شاء الله تعالى- وإنما أذكر الآن شيئاً يسيراً مما يقع في حياة المسلمين من التشبه بالكفار،فمن ذلك التشبه بهم في تعظيم القبور والغلو في الصالحين،قال عليه الصلاة والسلام:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد،ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك".

ومن ذلك:التشبه بهم في تقديس عظمائهم ورؤسائهم،ونصب التماثيل لهم وتصويرهم تعظيما لهم وإجلالاً.

ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها:"أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة،فيها تصاوير،فذكرتا للنبي r.فقال" إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً،وصوروا فيه تلك الصور،فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".

ومن التشبّه بالكفار مما يُخلّ بالتوحيد،ما يفعله بعض لاعبي الكرة،من الانحناء أمام من يسمونه بالحكم أو غيره تعظيماً واحتراماً.

ومن أنواع التشبه بالكفار:إقامة الأعياد والأيام البدعية والأسابيع المحدثة.

ومن التشبه بالكفار:التحدّث بلغتهم من غير حاجة أو ضرورة،أو الكتابة بها،واعتبار ذلك نوعاً من التحضر والمدنية.

ومن ذلك:ما يحصل في بعض الولائم من التشبّه المستهجن بطرائق الكفار في تناول الطعام،كالذي يسمونه بالبوفيه المفتوح،حيث يقوم المدعوون بخدمة أنفسهم في ملء أوعيتهم بما يشاءون،ثم يتناولون طعامهم واقفين،وما بهم من بأس إلا التقليد الأعمى والاعجاب الفارغ بعادات الكفار وأساليبهم في الحياة.

ومن التشبه بهم كذلك:حمل باقات الزهور للمرضى،فقد أصبح بيع الزهور تجارة رابحة،وانتشرت محلات البيع تلك أمام المستشفيات والمصحات،وذلك لاستغلال أولئك المنهزمين نفسياً،الجهلة بسنة خير الأنام،محمد r،الذي كان يزور المريض ويدعو له بالشفاء،ويصبّره ويذكّره بما ينفعه في دينه ودنياه ولا يزيد على ذلك.

ومن تلك المظاهر الخطرة والمزالق المردية:والتي يُعدُّ بعضها ردة وكفراً وتقويضاً للعقيدة من القواعد:الرضا بكفرهم وعدم الغضب من إلحادهم،ومثال ذلك ما يكتبه البعض في صحفهم ومجلاتهم وكتبهم ودورياتهم من تأنيب وتوبيخ لمن يصم اليهود والنصارى بالكفر،ويدعون من يصمهم بذلك إلى ضرورة التأدب معهم،وتسميتهم بأنهم أهل كتاب وكفى.

وكأني بأولئك المراهقين يشكّون في كفر أولئك الفجرة من اليهود والنصارى ويكذبون بقول الله تعالى:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ) وبقوله أيضاً:(لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ) وبقول سبحانه كذلك:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ).وبقوله عليه الصلاة والسلام:"والذي نفسي بيده،لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار".[أخرجه مسلم].

والأمة في الحديث هي أمة الدعوة.

فما أجرأ القوم على ما لا علم لهم به؟! ولكن مما أدرك الناس من كلام النبوة:"إذا لم تستح فاصنع ما شئت".

ومن مظاهرة موالاة الكفار:مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين والعقيدة،وهو أمر وقع فيه الكثيرون،وتلك نتيجة طبيعية للهزيمة النفسية التي يعاني منها البعض،فقد رأوا أعداء الله متفوقين في قولهم متقدمين في صناعتهم،فأُعجب بذلك عباد الدنيا.

ولأمر ما ترسّب في أذهان أولئك المخدوعين أنّ أولئك الأعداء هم رمز القوة والحضارة،فأخذوا ينسلخون من تعاليم دينهم مجاملة للكفار،ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم متعصبون ورجعيون،يقع في هذا اللون من الانحراف بعض المنتسبين إلى الدعوة،داعين إلى تمييع الإسلام وشرائعه مجاملة لليهود والنصارى!.

ومن مظاهر موالاة الكفار كذلك:اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين يؤتمنون على مصالح الأمة،ويطلعون على عورات المسلمين،والتاريخ قديماً وحديثاً مليْ وبقصص خيانتهم ومكرهم،فلا فرق بين يهودي ولا نصراني ولا نصيري ولا رافضي،فملل الكفر واحدة.

لقد اتخذ الخليفة العباس أبو عبد الله المستعصم وزيراً يقال له:ابن العلقمي،وكان رافضياً خبيثاً،فأسند إليه أمور الدولة وشؤون المسلمين،فأخذ ذلك الرافضي يكاتب التتار،ويحرّضهم على غزو بغداد حاضرة الخلافة العباسية باذلاً جهده في تفريق جيش الخليفة يمنة ويسرة،حتى لم يبق منهم سوى عشرة ألاف فارس،ليصل التتار بعد ذلك ويستبيحون بغداد أربعين يوماً،فريقاً يقتلون ويأسرون فريقاً،فقضوا على الخلافة،وقتلوا الخليفة والعلماء تحت نظر وسمع وزير الدولة ابن العلقمي الرافضي،الكافر الخبيث،وهذه عاقبة من أمن الكفار واتخذهم بطانة من دون المؤمنين.

أيها الإخوة الكرام:

ومن مظاهر موالاة الكفار:مجالستهم والأنس بهم،والله تعالى يقول:

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً).

وهذا الوعيد نسوقه لأولئك الذي اعتادوا زمالة ومرافقة من لا خلاق له في الآخرة ولا نصيب،ممن احترفوا السخرية بشريعة الله،أو المتمسكين بها والداعين إليها من علماء الأمة ودعاتها.

ومن مظاهر موالاة الكفار أخيراً:تعظيمهم،وخلع الألقاب عليهم،وفي الحديث:"لا تقولوا للمنافق يا سيد".

أما مبادأتهم بالسلام فحرام،لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام".[وأنظره في صحيح مسلم].

يقول صاحب تحفة الأخوان،رحمه الله:"ومما يجب النهي عنه:ما يفعله كثير من الجهّال في زماننا إذا لقي احدهم عدوّاً لله سلّم عليه،ووضع يده على صدره،إشارة إلى انه يحبه محبة ثابتة في قلبه،أو يشير بيده إلى رأسه،إشارة إنّ منزلته عنده على الرأس،وهذا الفعل المحرّم يخشى على فاعله أن يكون مرتداً عن الإسلام،لأنّ هذا مبلغ الموالاة والتعظيم لأعداء الله".انتهى كلامه رحمه الله.

كل تلك المظاهر من موالاة الكفار تدل على إفلاس العقيدة،وانحراف الإيمان لدى أولئك الباذلين ولاءهم لمن يستحق لعنة الله وعذابه.

أين هؤلاء جميعاً من تلك القمم السامقة والأمثلة الرفيعة التي عرضها القرآن الكريم نماذج يُحتذى بها؟!

ألم يعلموا كيف كانت تلك القمم تستعلي على الباطل،وتستهين به وتحتقره؟! وكيف كانت تكفر بكل الروابط الأرضية،وكل الأواصر الدنيوية مستبدلة بها رابطة الدين والعقيدة؟!.

ها هو موسى عليه السلام يدعو قومه إلى الجهاد ودخول أرض الميعاد:

(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ).

فكيف كانت إجابة قومه الجبناء،المتشبثون بالحياة الدنيا وزينتها؟!.

(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ).

ولما يئس الكليم عليه السلام من استجابتهم،وعاين قسوة قلوبهم،وشدة عنادهم:(قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).

لقد كانت تجمع بينه وبين قومه رابطة القومية الإسرائيلية،أما وقد كفروا بالله وتمرّدوا على سلطانه وأمره،فلتذهب تلك الرابطة إلى الجحيم،فلا ولاء للقومية،ولا ولاء للوطنية،ولا ولاء للشعوبية،إنما الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

أيها المسلمون:

وهذا نوحٌ عليه السلام،يدعو ابنه الفاسق الكفور،يدعوه إلى الإيمان في أحلك المواقف وأصعب الظروف،فالطوفان الجارف قد أتى على الأخضر واليابس محطماً في طريقة القرى الزروع:

(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

فيخاطب نوح عليه السلام ربّه في شأن ابنه الغريق:

(وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).

تأمل رعاك الله:(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ).

فما دام أنه كافر،فإنه ليس أهلك،فإنّ العلاقة بينك وبين ابنك يا نوح هي علاقة الإيمان والعقيدة،فلا قيمة للنسب ولا وزن لقرابة قريب إن هو كفر برب العالمين.

وها هي امرأة فرعون المسلمة المؤمنة تتمرد على زوجها الطاغية المستبد،وتكفر بسلطانه،وتتبرأ من طغيانه،رافعة أكُفَّ الضراعة إلى السماء:(رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

تأمل ثم تأمل،ثم اعد التأمل تارة أخرى:امرأة ضعيفة،مسكينة،وحيدة،ومع هذا تتمرّد على الملك الطاغية الذي استخف قومه فأطاعوه،وتكفر بميثاق الزوجية الغليظ!.

فأي قيمة للزوج حين يكفر بالله؟!.

وأي كرامة لميثاق الزواج حين يتصدع ميثاق العقيدة،ويندحر واصل الإيمان؟!.

وهكذا كان سادات الأولياء من صحابة رسول الله r،الذين ضربوا أروع الأمثلة في الولاء والبراء،فقتل بعضهم أخاه وأباه،واستخفوا بكل القيم الأرضية،وبكل الدوافع الدنيوية،واستبدلوا بها رابطة الدين والعقيدة،وبمثل هذا فليعمل العاملون.[418]

------------

تطبيق مبدأ الولاء والبراء:

إن من الأمور التي ينبغي الحديث فيها حتى لا يمل الحديث والتنبيه عليها حتى لا يسأم التنبيه أمر الولاء والبراء الولاء لله عز وجل ولكتابه ولرسوله r ولعباده المؤمنين والمعاداة للكفر والضلال والنفاق والشقاق وأهلها { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ{55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ{56}) ولماذا ؟

أولا :لأن هذا في ديننا من أساسياته وفي عقيدتنا من مهماتها وفي إيماننا من أركانه فقد صح في الحديث أن النبي r قال :(أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) رواه ابن أبي شيبة وغيره وروي عن ابن عباس روى ابن جرير ومحمد ابن نصر المروزي عن ابن عباس بسند صحيح قال رضي الله عنه وأرضاه :(من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال بذلك ولاية الله ولن يجد عبد طعم الإيمان ولو كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك).

وثانيا :لأنه كثر الحديث عن هذا في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله r حتى قال الإمام العلامة حمد ابن عتيق رحمه الله :"ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب الإيمان بالله وتحريم ضده وهو الشرك" وقال الشيخ المجدد الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله "إن إسلام المرء لن يستقيم له ولو حقق التوحيد وترك الشرك إلا بمعاداة المشركين والتصريح ببغضهم وعداوتهم والمتأمل في كتاب الله عز وجل يجد آيات كثيرة في التنبيه و التأكيد على هذا المعنى تارة بالأمر به وإيجابه والإلزام به وتارة بالنهي عن تركه والتفريط فيه وتارة بالوعيد الشديد في ذلك وتارة بالتبشير لمن حققه وتارة بمدح من فعله وبيان انه من صفات المؤمنين إلى غير ذلك كما في قوله عز وجل (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{51}) إلى قوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) إلى قوله عز وجل( تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ{80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{81} ) ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ) ثم في قوله عز وجل (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم ) ثم ذكر المؤمنين بقوله سبحانه ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) وقال عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{72} وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{73}) أي إن لم تحققوا هذا الأمر وتطبقوا هذا المعنى وتتواصوا عليه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والآيات كثيرة إلى قوله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) والآيات في هذا كثيرة لمن وفقه الله إلى تدبرها وتأملها "

من أجل هذا ومن أجل ما جاء في هذا الأمر من التأكيد والترغيب والترهيب من ضده طبق السلف الصالح هذا المبدأ تطبيقا أيما تطبيق وفعله أنبياء الله عز وجل كما أمر الله سبحانه وتعالى به وفعله الأولياء من سلف الأمة من الصحابة فمن بعدهم فهذا نبي الله هود يقول الله عز وجل عنه أنه قال لقومه متحديا ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ{55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{56}) وهذا أبو الحنفاء وإمام الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن الذي كان أمة بتحقيق التوحيد ونفي الشرك كان مثلا عليه صلاة الله وسلامه لتحقيق هذا المعنى عاد قومه عاد ملكه قومه وعاد والده وعاد الناس أجمعين في الله وبالله وفى التوحيد وبالتوحيد حتى مدحه الله عز وجل وأثنى عليه وأمر أن يتخذ في ذلك قدوة وأسوة حسنة ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{4} رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{5} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{6}) هكذا إخوتي كان الأنبياء هكذا كان الفضلاء هكذا كان الأولياء هكذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فقد أخرج البزار وغيره (أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل يوما على والده قبل أن يسلم وكان شيخا كبيرا هرما فانيا فنال والده من رسول الله r لأنه شغل أبا بكر عنه فلطمه أبو بكر لطمه سقط على أثرها على الأرض) فنزلت الآية ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ ) نزلت هذه الآية في خير جيل في صحابة رسول الله r الذين طبقوا هذا المعنى أيما تطبيق (وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ )أبو بكر لطم والده وأبو عبيده إن صح الأثر قتل والده يوم بدر (أَوْ أَبْنَاءهُمْ) هم أبو بكر رضي الله عنه بقتل ولده في معركة بدر (أَوْ إِخْوَانَهُمْ) قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه أخاه عبيدة بن عمير وأوصى الأنصاري بأسر أخيه أبي عزيز كل ذلك في الله وبالله (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام في بدر وقتل حمزة وعلي رضي الله عنهما و أرضاهما قتلا عتبة وشيبه ابني ربيعه وهما من عشيرتهم ثم قال تعالى (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ) لأن من أساسيات الإيمان تحقيق هذا المعنى الولاء والبراء( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) لماذا ؟ لماذا رضي الله عنهم ورضوا عنه لأنهم أسخطوا الناس برضى الله وأرضوا الله بسخط الناس ولو كانوا عشيرتهم و الأقربين من قومهم فلقاهم الله عز وجل جزاء وفاقا بأن رضي عنهم ورضوا عنه (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) والأمثلة في سماء المجد والخلود كثيرة وكثيرة جدا فقد روى محمد ابن إسحاق ابن يسار وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في غزوة المريسيع وتكلم عبد الله ابن أبي رأس المنافقين بما تكلم به فقال :لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فنقلت الكلمة للرسول r وغضب الصحابة وهاجوا وماجوا لكن النبي r نهاهم عن قتله وجد في المسير و واصل الليل بالنهار حتى نسي الناس كلهم هذه الكلمة إلا رجلا واحدا ما نسيها إنه ابن قائلها إنه عبد الله ابن عبد الله ابن أبي ابن سلول فقد ذكر الحميدي وغيره ( أنه وقف لأبيه عند ثنية المدينة فلما هم والده بالدخول شهر الولد سيفه وقال والله يا عدو الله لن تدخلها وراءك فقال أبوه :مالك قاتلك الله مالك ويلك قال :بلغني انك قلت في النبي r كذا وكذا والله لا تدخل حتى يأذن لك النبي r وحتى تقول إنك أنت الأذل ورسول الله r هو الأعز وأنتظر حتى جاء النبي r وكان يسير في ساقة القوم فقال :يا رسول الله والله لا يدخل حتى تأذن له فأذن له النبي r ليس هذا فقط بل جاء الولد للنبي r فقال :يا رسول الله بلغني أنك هممت بقتل أبي يا رسول الله مرني فلأحملً والله رأسه لك يا رسول الله والله لقد علمت الخزرج ما أبر مني بأبي ووالله إني لأملا عيني منه إجلالا له فإن أمرت بقتله أكن قاتله لأني لا أتحمل أن أنظر قاتل أبي يسير على الأرض فأخشى أن أقتله فيدخلني الله النار لأني قتلت مسلما بكافر فقال r :((لا ولكن نحسن إليه ما بقي معنا) أو كما قال عليه الصلاة والسلام وأخرج ابن سعد (أن أبا سفيان إبن حرب قبل أن يسلم لما جاء إلى المدينة وكان زعيم قريش وملكهم ليؤكد الهدنة مع رسول r خشي على نفسه أن يقتله أحد المسلمين قبل أن يلقى الرسول r فطرق الباب على بنته أم المؤمنين أم حبيبة رمله بنت أبي سفيان زوج النبي r ففتحت له فهم أن يجلس على رداء رسول الله r الذي أعدته له فطوت الرداء عنه فقال :يا بنية أترغبين به عني قالت :نعم والله إنك كافر نجس فقال:لقد أصابك بعدنا شر) هكذا كان الصحابة إخوة الإيمان يطبقون هذا المبدأ ولماذا ؟ لماذا حرصوا على تطبيقه لما أوصاهم الله عز وجل به ولماذا هذه العداوة والبغضاء التي يجب أن يعلنها للكافر كل الكفار لأن الكافر عدو الله قد أعلن العداوة بينه وبين الله عز وجل فهل يليق يا أيها المسلم يا من تقول لا اله إلا الله يا أيها المسلم هل يليق بك أيها المصلي أن توالي أعداء الله أن تسالم المحاربين لله عز وجل ثم تدعي أنك مؤمن موحد مطبق لعقيدة الإسلام والإيمان ليس هكذا وما هكذا يتم الإيمان ولا هكذا تحقق لا اله إلا الله وتكملها إنه لن يتم إيمانك حتى تعادي من عاد الله ولأضرب مثلا قريبا هب أن شخصا عاداك معاداة شديدة ولك صاحب فما راعك إلا صاحبك قد سار مع عدوك هذا يدخل عليه ويخرج ويسلم عليه ويهش ويبش له أيسرك ذلك أم يضرك هل يسخطك أو يرضيك إنه بالتأكيد لن يسرك ذلك ولن يرضيك فأولى أن تعامل ربك عز وجل بما تعامل به نفسك من هذا الأمر أما إن عكست ذلك فالأمر كما قال القائل

حبيبك إن الود عنك لعاتب  تحب عدوي ثم تزعم أنني

وثانيا لأن الكفار حرب على الإسلام والمسلمين في كل مكان وبكل دياناتهم ومللهم ونحلهم يختلفون إلا على حرب الإسلام وضرب المسلمين منذ فجر الإسلام ومبدأ الرسالة وإلى أن تقوم الساعة والذي أخبرنا بذلك هو الله ومن أصدق من الله قيلا (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) حتى تكون ذيل لهم حتى تكون أسير عندهم حتى تكون تابع لهم حتى تتبع ملتهم (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) هكذا بين الله عز وجل لنا وهكذا أرشدنا وفي التاريخ تصديق ذلك تأمل صفحات التأريخ الغابر والحاضر تجد هذه العداوة الشديدة المعلنة والحرب الشعواء التي لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها كلما خبت أوقدها الكفار حربا طحونا ضروسا لكل من يقول لا إله إلا الله ثم يعتقد بعض الرعاع والسذج أن الكافر يمكن أن ينقلب بين عشية وضحاها صديقا للمسلم يمكن أن ينقلب صديقا للمسلم من أضل ممن يصدق هذا الكلام ومن أحقر وأسفه وأتفه ممن يعتقد بهذا الكلام وهو تكذيب لما أخبرنا به أصدق القائلين ربنا سبحانه وتعالى

من أحقر ممن يصدق بهذا الكلام إن الكافر صديق نفسه فقط صديق مصلحته فقط ويوم أن يظهر على المسلم ويقوى عليه يشهر سيف العداوة ويريق دمه ويمشي بين أوصاله وأشلائه كما قال الله عز وجل {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً } وقال تعالى { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } يرضوننا بأطراف ألسنتهم وبأفواههم وبمعسول الكلام ولذيذ القول

ويروغ عنك كما يروغ الثعلب يعطيك من طرف اللسان حلاوة

وانظروا إخوة الإيمان إلى ما يفعلونه هذه الأيام في إخوانكم المسلمين في كل مكان في الفلبين ماذا يفعل النصارى بالمسلمين في رمضان القريب ضربوا خمسين قرية من قرى المسلمين وشردوا ما يقارب ثلاثمائة ألف ممن يقول لا إله إلا الله وفي الهند لا يخفى عليكم ما يفعلون من المجازر بإخوانكم في آسام وفي مدن الهند وفي كشمير وفي غيرها من بلاد الله وأرضه وفي أرض الإسراء والمعراج أرض الرسالات والنبوات الأرض المباركة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله لا يخفى عليكم ما يفعلون بإخوانكم المسلمين يكسرون أعضاءهم أيديهم وأرجلهم وهم أحياء يخلعون ثياب الرجل وثياب المرأة من المسلمين ويدخلون الواحد على الأخر يبصقون في وجوه الصالحين يهرقون البول أجلكم الله على لحى الملتحين والمصلين ويفعلون أكثر من ذلك وأعظم والله أعلم ماذا يدور داخل السجون والمعتقلات وفي البوسنة والهرسك الأمر واضح وجلي لقد شهر النصارى سيوفهم وهذه الأيام بالذات البارحة وما قبلها شهروا أسلحتهم على مدينة سربنتشه وقبلها مدينة إسرابنك وقبلها واليوم مدينة سراييفو يضربون المسلمين العزل بكل أنواع السلاح الفتاك والمدمر كل هذا وإخوانهم النصارى الكفرة في أوروبا وأمريكا ومن يزعمون أنفسهم رواد السلام العالمي الجديد والنظام العالمي الجديد يتفرجون ويلهون المسلمين بالمؤتمرات تلو المؤتمرات والمحارم تفتضح أكثر من مئة ألف فتاة عذراء تفتضح ويسال دمها بالحرام على أيدي الصرب النصارى العلوج أعداء الله ورسوله ودين الإسلام والمسلمون يتفرجون والكفار يتفرجون تفرج الشامت إلا ما قل من المسلمين

والعجب كل العجب والذي هيج الموضوع في نفسي إضافة إلى ما ذكرت لأتحدث عنه العجب كل العجب أنه في هذه الأيام بالذات ووسط هذه المجازر والأحداث الدامية يستقبل بعض زعماء الكفار الذين عافهم قومهم وعزلوهم يستقبلون في بعض بلاد المسلمين استقبال الأبطال والفاتحين إننا لنسمع في الأخبار أخبار مزعجة أخبار مقلقة أخبار محزنة أخبار مخزية من أحوال المسلمين مع الكافرين يدلكم على مقدار هذا الأمر وميزان الولاء والبراء عند المسلمين اليوم إلا ما شاء الله عز وجل تخرج الآلآف المؤلفة لاستقبال كافر نصراني يقول إن المسيح ولد الله ويقول إن الله ثالث ثلاثة ويحارب المسلمين كلما سنحت له الفرصة وتصف الرجال والنساء في الطريق من المطار إلى مقر إقامته وتزغرد النساء ويقول الإخباريين ولولا رجال الأمن لأنقض الناس وحملوا سيارته وتهدى له الهدايا بمئات ألآلاف بل بالملايين وتعلن الشركات تبرعها بالمرطبات والمشروبات إكراما لهذا الفاجر الله أكبر الله المستعان على حال المسلمين الله المستعان على ما تصفون كل هذا وهم يفعلون بإخواننا المسلمين في كل مكان ما تسمعون قليلا قليلا منه أسئل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه ردا جميلا وأن يهدي ضال المسلمين وأن يجعلنا ممن طبق العقيدة وحقق التوحيد بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفع لي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه يغفر لكم إنه غفور رحيم

عباد الله وحققوا الولاء والبراء كما أمركم الله عز وجل وكما حققه نبيكم عليه الصلاة والسلام الذي فعل كل شيء من أجل دينه ورسالته الذي قطع العلاقة و الوشيده بأقربائه وأحباءه من النسب والقبيلة والعشيرة وأتخذهم أعداء كل ذلك من أجل لا إله إلا الله الذي خرج من أحب البقاع إليه من مكة ودعها بنظرة حائرة بنظرة أخيرة والدمعات تتزاحم خلف جفونه عليه الصلاة والسلام وقال ( والله إنك لمن أحب البقاع إلي ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)

لم يلتفت يوم الوداع وراء      ومهاجر في الله ودع أهله

فيردهن تصبرا وإباء            تتزاحم الدمعات خلف جفونه

يوما ولم يعرف فيها قرناء     ومضى كأن الأرض لم يولد بها

عليه الصلاة والسلام إقتداء بنبي الله الخليل حينما قال (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) وحينما قال {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } فافعلوا كما فعل نبيكم عليه الصلاة والسلام

أم أن حال المسلمين اليوم بما لا يخفى على ذي عين وذي بصيرة لقد تساهل المسلمين في هذا المبدأ بل وخرقوه ولم يقيموا له وزنا ولم يرفعوا بذالك رأسا وذلك باد في تصرفات كثيرة وفي مظاهر عديدة فمن ذلك إكرام الكفار وتحيتهم وبدأتهم بالسلام والهش لهم إذا كانوا خبراء عندهم في الشركات أو المؤسسات أو البيوت أو إذا كانوا أساتذة لهم في الجامعات لقد سمعنا من يدعو الكافر ويعمل الوليمة له ويضيفه ويبدأه بالسلام ويبتسم له وكل ذلك مما يخل بالولاء والبراء كل ذلك مما يوجب سخط الله عز وجل كل ذلك مما يوقع المسلم في عقوبة عظيمة وفي معصية كبيرة ويخل بعقيدته ويأسي على توحيده ومن ذلك ما يتسابق إليه المسلمون اليوم من استقدام الكفار بينهم حتى إنك لتجد أنواع الكفار النصراني والوثني والمجوسي والسيخي والبوذي والهندوسي وأنواع الملل والنحل يعيشون في بيوت المسلمين يعيشون في بيوت الموحدين يخالطون المسلمين يذهبون ببناتهم يربون أولادهم يعيشون بين ظهرانيهم يأكلون معهم فحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون ولقد بلغت الجرأة يا عباد الله بلغت الجرأة ببعض الناس أنهم إذا حاروا بأمر الخادمة النصرانية أو الكافرة لا يدرون أين يذهبون بها إذا سافروا يلفونها بالعباءة ويدخلونها بيت الله العتيق والمسجد الحرام لقد سمعنا أنباء مؤكدة فاتقوا الله يا من تفعلون هذا الفعل واتقوا الله يا من تعملون هذا العمل اتقوا الله إن الله عز وجل يقول ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا) اتقوا الله يا من أتيتم بالكفار بين المسلمين يا من أدخلتموهم بيوتكم يا من أتيتم بهم في الشركات والمؤسسات ادعوهم إلى الإسلام فأن أسلموا

و إلا فسفروهم وأخرجوهم من جزيرة العرب إنكم بذلك تعصون الله في كل لحظة كلما أقاموا بينكم والرسول r يقول ( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وأوصى وهو في مرض موته فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) فأخرجوهم يا أيها المسلمون واتقوا الله ولا تقولوا الأنظمة تسمح فإن الشرع لا يسمح والمرء رهين نفسه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أخرجوهم من جزيرة العرب أخرجوهم من بلاد المسلمين أخرجوهم من بيوتكم بل لقد تسامح المسلمون في أكثر من هذا فلقد ثبت عندي يقينا قاطعا أن بعض المسلمين من هذه البلاد زوج بنته لنصراني أوروبي يعتقد أن الآلة ثلاثة وربما ارتدت بنته معه وأصبحت مقطوعة الصلة بالمسلمين فماذا بقي بعد هذا يا عباد الله والله إن المسلم حينما يتكلم بهذا الكلام إنه كالذي ينقش الشوكة من القلوب وكالذي يتجرع الجمرات ويتقلب على الشوك إنه يغص بهذا الكلام ويتلعثم لسانه ولا يدري كيف ينطق به إنها مصائب المسلمين إنها ماسي المسلمين إنه الإخلال بالعقيدة إنه نسيان التوحيد.

اتقوا الله يا أيها المسلمون وتواصوا بتحقيق هذا الأمر هذا المبدأ مبدأ الولاء والبراء في الله وبالله انظروا كيف يفعل الكفار بإخوانكم في كل مكان يسلخونهم ويجزرونهم يعزمون على إبادتهم واستئصالهم إنهم عازمون بالبوسنة والهرسك وغيرها على حصد جلدتهم واستئصال خضرائهم إنهم عازمون على إنائهم من الوجود إنهم عازمون على إبادة كل من يقول لا إله إلا الله ونحن أيها المسلمون نستقبل الكافرين بالأحضان نؤثرهم بأموالنا نقدمهم على المسلمين نزعم أنهم أكثر إخلاصا وعملا وصدقا وأكثر أمانة من المسلمين إنا لله وإنا إليه راجعون"[419]

--------------

الولاء والبراء والنظر في المناهج:

معنى الولاء هو المحبةُ والودُّ والقُرب،ومعنى البراء هو:البُغض والعداوة والبعد،وإذا كان الولاءُ والبراءُ من أعمال القلوب فإن مقتضياتهما وآثارهما تظهر في المواقف العملية وعلى الألسنة والجوارح.

ومن هنا يمكن القول أن الولاء والبراء ليسا مجرد اعتقادٍ في القلب،بل يظهر منهما وينشأ عنهما من أعمالِ القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنُصرة والأنسِ والمعاونة،وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال (عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ،الدرر السنية 2/157).

والولاءُ الحق لا يكون إلا لله ولرسوله  r وللمؤمنين كما قال تعالى:((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُواْ الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) (سورة المائدة:55).

والبراءةُ إنما تكون من الكافرين وكذلك أُمر المؤمنون ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلقُونَ إِليْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الحَقِّ)) (سورة الممتحنة:1) إلى قوله تعالى مخاطباً المؤمنين ومادحاً لإبراهيم والمؤمنين معه:((قَدْ كَانَتْ لكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ )) (سورة الممتحنة:1 -4).

وهل يخفى أن الولاءَ والبراءَ شرطٌ في الإيمان،والله تعالى يقول:((تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلوْنَ الذِينَ كَفَرُواْ لبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَليْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِل إِليْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (سورة المائدة:80،81).

قال ابن تيمية - رحمه الله-:"فذكر جملةً شرطيةً تقتضي أنه إذا وجد الشرطُ وُجد المشروط،بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاءُ المشروط(الإيمان ص14).

بل يصل الأمرُ في الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين إلى كونه أوثق عُرى الإيمان،بخبر الصادق المصدوق حيث قال عليه الصلاة والسلام:((أَوْثَق عُرَى الإِيمَان الحُبّ فِي الله وَالبُغْض فِي الله)) (أخرجه أحمد 4/286 وغيره،وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1728).

والولاءُ والبراءُ ليس عقيدةً باردةً لا محل لها ولا شأن في الإسلام،بل يرى علماءُ العقيدة أنه لا يتمُّ الدينُ ولا يُقام علمُ الجهاد،والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر،إلا في الحبِّ في الله والبغض في الله،ولو كان الناسُ مسلمهُم وكافرهم متفقين على طريقةٍ واحدة ومحبةٍ من غير عداوةٍ،ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل ولا بين المؤمنين والكفار،ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان(الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب،رسالة أوثق عرى الإيمان/38).

ومن عجبٍ أن تُجهل عقيدةُ الولاءِ والبراء،أو يتهاون المسلمون في تطبيقاتها،وليس في كتاب الله حكمٌ - بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده - أكثر أدلةٍ ولا أبينَ من معاداة الكفار والمشركين،كما قال الشيخُ حمدُ بن عتيق - رحمه الله- وغيره(د.عبد العزيز العبد اللطيف،نواقض الإيمان القولية والعملية/359).

أجل لقد كان رسول الله  r يبايع أصحابه - رضي الله عنهم-  على تحقيق هذا الأصل العظيم .

وهذا جريرُ بن عبد الله البجلي  رضي الله عنه يقول:(( أَتَيْتُ النَّبِيَّ  r وَهُوَ يُبَايِعُ،فَقُلتُ:يَا رَسُول اللهِ ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ وَاشْتَرِطْ عَليَّ فَأَنْتَ أَعْلمُ،قَال:أُبَايِعُكَ عَلى أَنْ تَعْبُدَ اللهَ،وَتُقِيمَ الصَّلاةَ،وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،وَتُنَاصِحَ المُسْلِمِينَ،وَتُفَارِقَ المُشْرِكِينَ )) (أخرجه أحمد 4/365،والنسائي 7/148،والبيهقي 9/13،وصححه الألباني في الصحيحة (936).

أيها المسلمون:ومن خلال ما سبق يتبين أن عقيدة الولاء والبراء منهجُ الأنبياء عليهم السلام،ومما بايع عليه الصحابةُ رضوان الله عليهم،وتكلم علماءُ الأمة فيها سلفاً وخلفاً،وما ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابرٌ أو صاحبُ هوى،وكم تفاجأتُ - وربما تفاجئ غيري- من مقال نُشر في جريرة عكاظ يوم السبت الماضي 21/10/1422هـ لأحد الكتاب - هداه الله وبصَّره بالحنيفية السمحة- وليست هذه بأولى سوآته،والمقال بعنوان:(التطرف) وقد تكلم فيه عن (الولاء والبراء) بكلام تستغرب أن يُنشر أولاً،وتستغرب ثانياً أن يصدر من مسلم يقرأ القرآن الكريم أو يعرفُ سنة محمد  r وأقتطف لكم شيئاً مما قاله:

قال في بداية المقال :لو تأملنا قليلاً في فكر الجماعات المتطرفة الإرهابية ثم ذكر نموذجاً لها وقال:هذه الجماعاتُ تؤمن وتعمل وفق ما يُسمى بعقيدة أو فكرة الولاء والبرء..." .

ثم قال بعد:"ونظريةُ الولاءِ والبراء مبدأ أعلنه الخوارجُ قديماً وجعلوه مُحفِّزاّ لأتباعهم للقتالِ والعُنفِ ضد المجتمع،ثم اندثر هذا المبدأُ ولم يعدْ له ذكرٌ إلى أن أحياه وعاد له المتطرفون الجُدد...".

وفي نهاية المقال قال:وهكذا دخلت (نظريةُ) الولاء والبراء من عدة بوابات في الإعلامِ وفي التعليم وفي الكتب...الخ وأصبحت تُعرف بأنها إحدى ركائز دراسةِ العقيدة،وواضحٌ أنها أضيفت بتعسفٍ إلى ركائز العقيدة السليمة" .

إن هذا الكلام من السقوط والضحالة والجهل بحيثُ لا يحتاج معه إلى وقفة ولا تعليق وفيما مضى من الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم ما يكشفُ بطلانه،ولكنك تستغربُ كيف تصلُ الضحالة الفكرية ببعض الكتاب إلى هذا الحد...وتستغرب كيف يُسمح بنشر هذا التهجم الصريح أو الملفوف على نصوص الكتاب والسنة وسيرة محمد  r وهديه وهدي أصحابه وتراث الأمة كلِّها في بلاد أكرمها الله بالحرمين،ومنها انطلقت وشعَّ نورُ الإسلام معلناً الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين .

تُرى أيجهل الكاتبُ أن من بلده الذي كتب فيه شعَّ نورُ الإسلام وأعلن محمد  r بأمر ربه ولاءه للمؤمنين وبراءته للمشركين حتى وإن كانوا أولي عهد،في قرآن تُلى ويُتلى إلى يوم القيامة :(( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلى الذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ)) (سورة التوبة:1).

وفي الآية الأخرى:(( وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)) (سورة التوبة:3).

وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من مدونات السنة وكتب أهل العلم ما يكشف ويفسر ويوضح ويرشدُ إلى مزيد من آيات وأحاديث البراءة من المشركين،فهل هذه وتلك نَبتت وأعُلنت من قبل الخوارج ؟ وهل هذا فكرُ المتطرفين أم وحيُ رب العالمين؟! إنه الجهل والرميُ والبهتان،وويل للفضيلة من الرذيلة،وللحق من الباطل،إذا تكلم المرءُ بما لا يُحسن،وتطاول المتطاولون ولنا أملٌ في أن يوقف الكاتبُ عند حدِّه وتُساؤل الصحيفة كيف سمحت بمثل هذه الكتابات المفترية على الله الكذب والله يقول:(( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلى اللّهِ الكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ  * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (سورة النحل:116،117).

ومن التنظير -في مسألة الولاء والبراء- إلى التطبيق العملي لنرى ونتبين أنواعاً من الممارسات والسلوكيات المخالفة لعقيدة الولاء والبراء،إذْ من الناس من يؤمن بهذه العقيدة نظرياً لكنه قد يضعفُ في تطبيقاتها عملياً،والله تعالى ينهى بشكل عام عن التناقض بين القول والعمل ويقول:(( يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)) (سورة الصف:3).

واكتفي بالوقوف عند مظهرين من مظاهر الولاء للكافرين :

أولاً :من هذه الموالاة العملية للكفار،الإقامة ببلدهم رغبةً واختياراً لصحبتهم،والرضا بما هم عليه من كفر أو يمدحه،أو يُرضيهم بعيب المسلمين فأولئك ليس من الله في شيء كما قال تعالى:((لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَل ذَلِكَ فَليْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْء)) (سورة آل عمران:128).

وإذا كان الإمامُ مالك - رحمه الله - كره للمسلم أن يسكن ببلدٍ يُسبُّ فيه السلفُ فكيف ببلدٍ يُكفر فيه بالرحمن،وتُعبد فيه من دونه الأوثان،ولا تستقرُ نفسُ أحدٍ على هذا إلا وهو مسلمٌ مريضٌ الإيمان (ابن رشد،مقدمات ابن رشد 2/612،613).

ثانياً:ومن مظاهر الولاء للكفار وهو الأكثر وقوعاً طاعتهم في التشريع والتحليل والتحريم،فذلك كفرٌ وخروجٌ عن الملِّة يقول تعالى:((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)) (سورة آل عمران:100).

وهو - فوق الكفر- مُوردٌ للخسران في الدنيا والآخرة،كما قال تعالى:((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ)) (سورة آل عمران:149).

يقول الشيخُ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - وهو من أعلام الدعوة السلفية- عند هذه الآية:"أخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام،فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر،وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرين،ولم يرخِص في موافقتهم وطاعتهم خوفاً منهم.(الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك ص33،العبد اللطيف،نواقض الإيمان 365).

ونحن في هذه الأيام - ومع الأزمة الأخيرة - نشهد نوعاً من هذا التدخل الغربي النصراني في أحوال المسلمين وتشريعاتهم وذلك بفرض السياسات والتدخل في المناهج وصياغة العقول المسلمة كما يريدون إنها حملةٌ شرسةٌ على الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي،والثقافة الإسلامية،لم يستطع الغربُ إخفاء معالمها وخطواتها،في ظل دعايته وإعلانه الحرب على الإرهاب،لقد انكشف الغطاءُ،وزال اللبسُ عند عددٍ من المنُخدعين بسياسةِ الغرب والضانين بنْزاهته ؟

وما الحملات والمخططات للعالم الإسلامي - من قِبل الغرب - إلا برهانٌ لتوجههم لسياسة (صراع الحضارات) - وفي مقدمتها والمقصود الأولُ منها حضارةُ الإسلام- وكان للملكة نصيبٌ وافرٌ من هذه الحملة الظالمة،ويبدوا أنها إرهاصٌ لفرض سياسات والتدخل في الخصوصيات - في العالم الإسلامي بشكل عام -

إن المناهج - على سبيل المثال - خصوصيةٌ وهي تعبيرٌ عن ثقافة الأمة،ومقومات الدولة - لا يسوغ – بحال- أن تتدخل فيها الأمم الأخرى،وإذا كان الغربُ لا يسمح للمسلمين أن يتدخلوا في مناهجه التعليمية،حتى وإن كان فيها من العَوَر والقصور - ما فيها- في نظر المسلمين،فكذلك المسلمون لا يسمحون للأجنبي أن يتدخل في مناهجهم - بل ولا في سياساتهم الأخرى الإعلامية،والاقتصادية،والاجتماعية...ونحوها.

ولو كان الغربُ جاداً في الإصلاح لبدأ بإصلاح مناهجه ومدارسه،تلك التي تشهدُ من الجرائم وتخريج المنحرفين والشاذين ما يدعوا للإصلاح ،ولغة الأرقام،وعناوين المقالات يشهد على عدد من هذه الجرائم والممارسات اللاأخلاقية في مدارس الغرب مما لا يوجد مِثلُه ولا قريبٌ منه في مدارس المسلمين،هذا فضلاً عن ما في إعلامهم وتعليمهم من إساءة للإسلام وتشويه صورة المسلمين،دون حقٍ أو عدل ،ومن زاوية أخرى فهل يستطيع الغربُ أن يدعوا للتغيير في المناهج والبُنى الثقافية والإعلامية في الصين واليابان مثلاً أو في الهند،أو في فيتنام أو نحوها من الأمم والثقافات الأخرى ؟

ومن زاوية ثالثة وإذا وُجد في العالم الإسلامي مدارسُ ومعاهدُ دينية أو كليات وجامعات لتعليم الدين الحق في مصر أو السعودية أو الباكستان أو غيرها من الدول العربية والإسلامية مثل اليمن والمغرب وأفريقيا،فعند الغرب مئاتٌ من المدارس والمعاهد والكليات والجامعات التي تدرس اللاهوت وتُعنى بالإنجيل و التوراة،ولو كانت خزعبلات وتحريفات وطنطنات وترانيم فارغةَ المحتوى قاصرة في الأهداف والرؤى،وهناك المئات بل الألوف من المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية،والصحف والمجلات الأصولية الإنجيلية أو التوراتية،فأين الحديث عن التطرف وتلك منابعهُ،وأين الحديث عن الإرهاب وتلك مجالات تفريخة ؟!

وباختصار - يمكن القول- إن المناهج التعليمية والسياسات الإعلامية والاجتماعية ونحوها في أي أمة من الأمم هي شأن خاص من شؤونها لا يجوز لأي قوةٍ خارجية أن تتدخل في صياغتها أو تتلاعب بشيءٍ من مفرداتها،والقوانين والدساتيرُ التي يُدندن حولها هؤلاء الغربيون تمنع من هذه التدخلات هذا بمنطقهم ،وفوق ذلك ترفض شريعةُ الله،ويمنع منه إقامةُ الحق والعدل،ويتعارض مع لوازم عقيدة الولاء والبراء في مفهومنا ومنطقنا؟

إننا لا نستغرب مثل هذه الهجمات على الإسلام والمسلمين- من قبل الأعداء فذلك شأنُنا وإياهم عبر التاريخ،لكن المستغرب بحق أن ينبري للتغيير للأسوأ أناسٌ من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا،وفي مقال الكاتب المشار إليه أنفاً،شيءٌ من ذلك بل ودعوةٌ للنظر في الكتب والمناهج التي تحمل خصوصية الأمة وما يحفظها من الذوبان في حضارة الآخرين عبر مؤشرات الولاء والبراء،ومحاور الأصالة،وتثبيت القيم،وثمة طروحاتٌ أخرى مشابهة لهذا الطرح تظهر علينا بين الفينة والأخرى،ولستُ أدري أهي تشكيكٌ في مناهجنا التعليمية تلك التي تعب في صياغة سياستها،ومقرراتِ مناهجها،- مخلصون لدينهم ووطنهم - كذلك نحسبهم والله حسبنا وإياهم- وتخرج منها بكل كفاءة واقتدار العلماءُ والوزراء والمهندسون والأطباء،والإداريون،وأصحابُ الكفاءات المختلفة ؟

أم هو تناغمٌ مع ما يطرحه الغربُ - هذه الأيام- ويتهجمون به على مناهجنا؟ إن التطوير للأحسن مطلب،والنظرُ والتقويم المستمرُ للمناهج - بما يفي بحاجات العصر ومتطلبات التقدم - دليلُ النضج لكن ليس على حساب قيمنا وعقائدنا وأصالتنا وثوابتنا،وتاريخنا،والمختصون يقولون :إن نسبة تأثير المناهج على الفرد بحدود ( 7% ) إنها مأساة حين ينحصر تفكيرُ بعض مثقفينا -في تطوير المناهج- بحذف أو تقليل المواد الدينية والعربية في زمن باتت فيه حربُ العقائد ظاهرة،أو بحذف عبارات ومفاهيم هي من صميم ديننا كالولاء والبراء والجهاد...ونحوها،وكأنها المعوق عن التقدم وينسون أن التطوير ممكن دون طمس هوية الأمة،وأن التقدم لا يعيقه تحقيق معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله .

إن الاستحياء من ذكر المفاهيم الإسلامية والمصطلحات القرآنية،والعناية بالسنة والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي المجيد،كل ذلك مؤشراتٌ للهزيمة النفسية،وهو سقوطٌ في أول المعركة،بل هو ذوبانٌ للشعوب والدول الإسلامية والحضارة الإسلامية في زمنٍ باتت لغةُ القوة هي المسيطرة،وإن كانت قوةً باطلة فهل نعي حقيقة المعركة،وهل نحافظ على أصالتنا وقيمنا مع التطوير والتجديد النافع وهل نشدُّ على أيدي القائمين على المناهج والمدركين لأهداف الحملات الشرسة؟[420]

 

____________

 

 

 

 


المبحث السادس والعشرون

ما ترشد إليه الآيات والأحاديث الشريفة

 

1- حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين،قال ابن تيمة رحمه الله:"فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم،فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم.وقال سبحانه:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا؛فمن واد الكفار فليس بمؤمن،والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة،فتكون محرمة،كما تقدم تقرير مثل ذلك."[421]

وقال ابن العربي:"نَفَى اللَّهُ الْمُوَالَاةَ بِالْكُفْرِ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ خَاصَّةً،وَلَا قُرْبَى أَقْرَبُ مِنْهَا،كَمَا نَفَاهَا بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ،بِقَوْلِهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]؛لَيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْبَ قُرْبُ الْأَدْيَانِ لَا قُرْبُ الدِّيَارِ وَالْأَبَدَانِ،وَمِثْلُهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ:

يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ قَدْ دَنَتْ ...وَأَنْتَ كَئِيبٌ إنَّ ذَا لَعَجِيبُ

فَقُلْت وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ قَرِيبَةٌ ...إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ[422]

2- إن موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ركن خطير في عقيدة المسلم،لا يتم إيمانه إلا به.قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]   .

ومعاداة الكافرين التي هي ركن الإيمان بالله لا تتم إلا بالكفر بالطاغوت،قال تعالى :{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:256]،وقال تعال:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } [النساء:60]،فلا بد لنا من مفاصلة الطواغيت وأعوانهم والتبرؤ منهم:{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [الممتحنة:4]  .

3- موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.وقطع الموالاة والمودة شرعا بين المؤمنين وبين الكافرين في أمور الدين وقضاياه الكبرى الأساسية.ولا مانع من وجود علاقات لمصالح دنيوية تقتضيها الضرورة،بدليل ما قال الطبري في قوله تعالى:وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ:وَمَنْ يَتَوَلَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى دُونَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ،يَقُولُ:فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ،فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ،وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَا خَالَفَهُ وَسَخِطَهُ،وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ"[423]

وقال ابن حزم رحمه الله:وَصَحَّ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] إنَّمَا هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مِنْ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ فَقَطْ - وَهَذَا حَقٌّ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.[424]

لكن لا يعد موالاة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني،إذا دعت الحاجة إليه ( حراماً)،ولا يصحُّ اسبتطانهم (بِطَانَةُ الرَّجُلِ - خَاصَّتُهُ ) ولا الاستعانة بهم في الجهاد.،قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [آل عمران:118 - 120]

4- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلْمُسْلِمِ لَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي النُّصْرَةِ; وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُمْ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ, فَإِذَا أُمِرْنَا بِمُعَادَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِكُفْرِهِمْ فَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِمَنْزِلَتِهِمْ.وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[425]

5- موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان،فلذا تؤدي إلى الكفر.

6- دل قوله:فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أن حكمه حكمهم،وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد.

وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة،وقد قال تعالى:وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود 11/ 113] وقال تعالى:لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 3/ 28] وقال سبحانه:لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران 3/ 118] .

وأعلن تعالى فصل الموالي للكفار عن جماعة المؤمنين،فقال:وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا،ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم،ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم،أي من أصحابهم.

7- إن مخاوف المنافقين التي أدت بهم إلى موالاة الكفار تتبدد أمام تدبير الله وتأييده ونصره،وتدمير الأعداء،وإحباط مخططاتهم،وإذلالهم.

8- عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة.

9- ظهور حقيقة المنافقين في مرأى المؤمنين،فيتعجبون من شأنهم،قائلين لبعضهم:أهؤلاء الذين ادعوا نصرتنا بالأيمان المغلظة؟ أو قائلين لليهود على جهة التوبيخ:أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد؟

فالآية تحتمل قول المؤمنين لبعضهم،أو لليهود.[426]

10- إن التفريط في هذا الركن الأساسي هو الثغرة التي ينفذ منها أعداء الإسلام للقضاء على الأمة المسلمة ولخداعها وتخديرها وتوريطها في الكوارث والمصائب.قال الله تعالى:{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } [التوبة:47].

11- إن التفريط في هذا الركن الأساسي يؤدي إلى انحلال عقيدة المسلم،وانسلاخه منها.قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [آل عمران:149] .

12- إننا أحوج ما نكون إلى التفريق بين أولياء الإسلام الذين يدافعون عنه،وبين أعدائه الذين يعتدون عليه،وبين المذبذبين الذين لا يعملون إلا لتحقيق مصالحهم بتوهين مقاومة الأمة وصرفها عن الميدان الحقيقي للمواجهة.قال الله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون:4]،وقال أيضاً عز من قائل:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} [النساء:142،143].

 

____________

 


الخلاصة في فوائد (الولاء والبراء)

 

(1) بيان صفة أولياء اللّه وفضائلهم المتنوّعة.

(2) محبّة اللّه لأوليائه المؤمنين الّتي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون.

(3) إنّ اللّه مع أوليائه المؤمنين وناصرهم ومؤيّدهم ومسدّدهم ومجيب دعواتهم.

(4) إخلاص العبادة للّه وحده دون غيره.

(5) الولاء والبراء يقتضي عدم الاحتكام إلى أيّ طاغوت في أيّ حكم من الأحكام الدّينيّة أو الدّنيويّة.

(6) عدم موالاة الكفّار في أيّ حال من الأحوال ويعني ذلك:عدم التّقرّب إليهم أو مودّتهم بالأقوال أو الأفعال أو النّوايا،وعدم التّشبّه بهم.

(7) المؤمنون بعضهم أولياء بعض والكفرة بعضهم من بعض وهم جميعا عدوّ للمؤمنين.[427]

 

____________

 


الخلاصة في مضار (موالاة الكفار)

 

(1) تخرج المرء من الإسلام،وتلحقه بدين من والاه.

(2) دليل على بغض اللّه ورسوله ودين الإسلام.

(3) تحرم صاحبها من الجنان،وتورده النّيران مخلّدا فيها.

(4) تعين على هدم الإسلام وتقويض أركانه.

(5) تقوّي الكفر والباطل.

(6) توقع أعلى الأذيّة على المسلمين وعباد اللّه المؤمنين.[428]

 

!!!!!!!!!!!!

 


الفهرس العام

 

المبحث الأول  4

تعريف الموالاة لغة واصطلاحا 4

الموالاة لغة: 4

الكفار: 5

الموالاة اصطلاحا: 6

من معاني الموالاة في القرآن الكريم: 8

البراء لغة: 10

البراءة اصطلاحا: 11

الكافر اصطلاحا: 11

موالاة الكفار اصطلاحا: 12

معنى الولي في القرآن الكريم: 12

معنى الولي في أسماء اللّه- عز وجل-: 13

المبحث الثاني  14

1- الموالاة تكون للّه وحده 14

2-وجوب موالاة الله ورسوله والمؤمنين   58

المبحث الثالث   101

البراءة من عبادة الكفار 101

المبحث الرابع 129

البراءة من المشركين والكافرين  129

المبحث الخامس   167

تحريم موالاة الآباء والأقرباء إذا استحبوا الكفر على الإيمان  167

المبحث السادس   172

النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء 172

المبحث السابع 181

تحريم موالاة من اتخذ ديننا هزوا 181

المبحث الثامن  186

النهي عن اتخاذ الكفار أولياء 186

المبحث التاسع 195

تحريم موالاة المغضوب عليهم 195

المبحث العاشر   205

تحريم اتخاذ بطانة من دون المؤمنين   205

المبحث الحادي عشر    215

البراءة ممن يتولى غير الله ورسوله r   215

المبحث الثاني عشر    226

تولي الكفار بعضهم بعضا 226

المبحث الثالث عشر    246

المبحث الثالث عشر    246

الشيطان لا سلطان له إلا على من يتولاه 246

المبحث الرابع عشر    258

حكم ولاية من لم يهاجر وبقي في بلاد الكفر والحرب   258

المبحث الخامس عشر    266

تحريم موالاة المنافقين   266

المبحث السادس عشر    295

المنافقون هم الذين يتولون الكفار والفجار 295

المبحث السابع عشر    315

النهي عن اتخاذ أولياء من دون اللّه   315

المبحث الثامن عشر    342

الظالمون بعضهم أولياء بعض   342

المبحث التاسع عشر    345

لا ولاية بين المؤمنين والكافرين  345

المبحث العشرون  356

الأحاديث الواردة في (الولاء والبراء) 356

المبحث الحادي والعشرون  367

الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الولاء والبراء) 367

المبحث الحادي والعشرون  377

الأحاديث الواردة في ذمّ (موالاة الكفار) 377

المبحث الثاني والعشرون  381

من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في ذمّ (موالاة الكفار) 381

المبحث الثالث والعشرون  385

صور من الانحراف عن عقيدة الولاء والبراء 385

1- الحكام جمعوا بين الحكم بغير ما أنزل الله وموالاة اليهود والنصارى : 385

2- أعوان الحكام : 388

3- دعاة التصالح الموهوم: 391

4- مجاهدو أمريكا: 392

المبحث الرابع والعشرون  393

ثواب أولياء الله   393

المبحث الخامس والعشرون  398

فتاوى حول الولاء والبراء 398

وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار 398

وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار: 401

إطلاق كلِمَةَ "أخي" على غير المسلمين: 405

حكم مصاحبة الكافر: 406

علاقة المسلم بغير المسلمين والمشاركة في حفلات توديعهم: 407

الواجب على المسلم تجاه غير المسلم: 408

حكم إلقاء السلام على المسيحي والرد عليه: 411

هل يجوز إطلاق اسم "العرَّاب" على منتدى إسلامي ؟ والتنبيه على لفظ "إخواننا المسيحيين" 412

ما حكم الولاية بين المؤمن وغيره من أهل الكتاب ومن المشركين ؟: 414

حول كلمة (الولاء للوطن) 416

حكم التقرب إلى الكفار بالمال  417

مجاملة الكفار ببعض الأمور 417

ما حكم زيارة الكفَّار وقبول هداياهم والقيام لجنائزهم وتهنئتهم في المناسبات ؟  418

هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى‏؟‏  418

ما حكم السَّفر إلى بلاد غير إسلامية بقصد السُّكنى والاستيطان فيها‏؟‏  419

هل يجوز السفر بللاد الكفار للتجارة ؟  420

حكم موالاة الكفار: 420

حكم الاستعانة بالخدم من الدول الكافرة: 421

ما هي حدود موالاة أعداء الله ؟  422

حكم السفر إلى بلاد المشركين: 422

موادة الكافر هل تحرم مطلقاً؟  423

مفهوم الولاء والبراء: 425

حكم موالاة الكفار؟  426

حكم مودة الكفار،وتفضيلهم على المسلمين؟  427

الموالاة والمعاداة؟ وحكم هجر المسلم؟  428

ما حكم الأخذ بالمناهج الدعوية المستوردة؟  430

الرايات الجاهلية: 433

إعادة قراءة الولاء والبراء 441

خطبة حول الولاء والبراء: 452

خطاب أوباما في القاهرة ..ما هو الجديد في الظاهرة ؟؟!! 456

أليس أوباما أخطر على المسلمين من بوش: 462

المتوارون عن الولاء: 466

الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق في نازلة غزة المرابطة: 471

المغالطة بمصطلح (الإنسانية) في حوار الأديان: 478

ما معنى لكم دينكم ولي دين؟  485

الولاء والبراء : 489

تطبيق مبدأ الولاء والبراء: 498

الولاء والبراء والنظر في المناهج: 507

المبحث السادس والعشرون  515

ما ترشد إليه الآيات والأحاديث الشريفة 515

الخلاصة في فوائد (الولاء والبراء) 519

الخلاصة في مضار (موالاة الكفار) 520

 

 



[1] - التفسير الوسيط للزحيلي (1/ 400)

[2] - التفسير الوسيط للزحيلي (1/ 401) وانظر:أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:637، بترقيم الشاملة آليا) وتفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:211) وتفسير الشعراوي (5/ 2747) وتفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (11/ 250)

[3] -  لسان العرب (8/ 4920- 4926)،الصحاح (6/ 2528- 2530)،المصباح المنير (2/ 672- 673)،بصائر ذوي التمييز (5/ 280- 284)،نزهة الأعين النواظر (613).

[4] - قلت: هذا اللفظ لم يرد عن النبي r وإنما ورد من كنت مولاه فعلي مولاه

[5] - للمولى معان أخرى عديدة ذكر منها ابن الأثير:الرب والمالك والسيد والمنعم،والمعتق،والناصر،والمحب،والتابع،والجار،وابن العم،والحليف والعقيد،والصهر،والعبد،والمعتق،والمنعم عليه.وأكثرها جاء فى الحديث ويضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه.انظر النهاية (5/ 228).

[6] - تفسير غريب القرآن (28)،وانظر تفصيلا أكثر عن المعنى اللغوي للمادة في صفة الكفر.

[7] - تفسير غريب القرآن (28)،وانظر تفصيلا أكثر عن المعنى اللغوي للمادة في صفة الكفر.

[8] - لسان العرب (15/ 406- 409).

[9] - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية لمحماس بن عبد اللّه الجلعود (28)،وانظر أيضا كتاب الإيمان للدكتور محمد نعيم ياسين.

[10] - البحر المحيط (5/ 175).

[11] - التعريفات للجرجانى (205).

[12] - فتح الباري (13/ 293).

[13] - كتاب الايمان لنعيم ياسين (190).

[14] - المقصد الأسنى (129)

[15] - الفرقان لابن تيمية (7).

[16] - الرسائل المفيدة لعبد اللّه آل الشيخ (43).

[17] - الفتاوى (7/ 442).

[18] - الولاء والبراء (89- 90).

[19] - التصاريف،تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه،وتصرفت معانيه ليحي بن سلام (235- 237)،كشف السرائر فى معنى الوجوه والأشباه والنظائر لابن العمادت/ فؤاد عبد المنعم أحمد (249- 251)،ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي،ت/ محمد عبد الكريم كاظم (613- 614).

[20] - لسان العرب (13/ 32،33).

[21] - تفسير البحر المحيظ (5/ 6)

[22] - روح المعاني للألوسي (10/ 43)

[23] - الفتاوى السعدية (1/ 98).

[24] - مجموع الفتاوى (28/ 208- 209).

[25] - الكليات للكفوي (764)،وانظر صفة الكفر.

[26] - الإيمان لنعيم يس.

[27] - بصائر ذوي التمييز (5/ 281- 282).

[28] - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء اللّه الحسنى (129،130)،لسان العرب (8/ 4920).

[29] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   113،بترقيم الشاملة آليا)

[30] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   62)

[31] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   126،بترقيم الشاملة آليا)

[32] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   64)

[33] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   315)

[34] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   264،بترقيم الشاملة آليا)

[35] - تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 685)

[36] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   542)

[37] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   111)

[38] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   294،بترقيم الشاملة آليا)

[39] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   120)

[40] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   362،بترقيم الشاملة آليا)

[41] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   682)

[42] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   414،بترقيم الشاملة آليا)

[43] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   145)

[44] - صحيح البخارى- المكنز - (4558)

[45] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   766)

[46] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   442،بترقيم الشاملة آليا)

[47] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   151)

[48] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   794)

[49] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   537،بترقيم الشاملة آليا)

[50] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   180)

[51] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1015)

[52] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   567،بترقيم الشاملة آليا)

[53] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   186)

[54] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1057)

[55] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   615،بترقيم الشاملة آليا)

[56] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   205)

[57] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   665،بترقيم الشاملة آليا)

[58] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   216)

[59] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   840،بترقيم الشاملة آليا)

[60] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   257)

[61] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   851،بترقيم الشاملة آليا)

[62] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   259)

[63] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   916،بترقيم الشاملة آليا)

[64] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1109،بترقيم الشاملة آليا)

[65] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1151،بترقيم الشاملة آليا)

[66] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   312)

[67] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1893)

[68] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   724،بترقيم الشاملة آليا)

[69] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 517)

[70] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 529) والخبر صحيح مرسل

[71] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 531)

[72] - التحرير والتنوير (6/ 239)

[73] - التفسير القرآني للقرآن (3/ 1123)

[74] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   236)

[75] - تفسير الشعراوي (6/ 3234)

[76] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1312)

[77] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   5004،بترقيم الشاملة آليا)

[78] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 493)

[79] - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 246) ضعيف

[80] - تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 54) والحديث صحيح مرسل

[81] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   848)

[82] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   4491،بترقيم الشاملة آليا)

[83] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (21/ 321)

[84] - صحيح مسلم (4/ 1999)65 - (2585)

 [ ش (المؤمن كالبنيان) وفي الحديث الآخر مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم الخ هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه]

[85] - صحيح مسلم (4/ 1999)66 - (2586)

 [ ش (تداعى له سائر الجسد) أي دعا بعضه بعضا إلى المشاركة في ذلك ومنه قوله تداعت الحيطان أي تساقطت أو قربت من التساقط]

[86] - صحيح ابن حبان - مخرجا (12/ 491)(5678 ) حسن

[87] -  صحيح مسلم (4/ 1967) 221 - (2540) وتفسير ابن كثير ت سلامة (7/ 360)

[88] - بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار للكلاباذي (ص:   376)

[89] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   795)

[90] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   4166)

[91] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1307،بترقيم الشاملة آليا)

[92] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2288)

[93] - المعجم الصغير للطبراني (2/ 44) (751 ) وتفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (24/ 703) ضعيف

[94] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   6085،بترقيم الشاملة آليا)

[95] - التفسير الوسيط للزحيلي (3/ 2946) وانظر :   التفسير القرآني للقرآن (16/ 1695)

[96] - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (2424 )  حسن

[97] - صحيح مسلم(1723 )

[98] - صحيح ابن حبان - (3 / 69)  (789)  صحيح

[99] - صحيح ابن حبان - (3 / 69)  (780)  صحيح

[100] - البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (7 / 46)

[101] -  ( دسس ) الدَّسُّ إِدخال الشيء من تحته دَسَّه يَدُسُّه دَسّاً فانْدَسَّ ودَسَّسَه ودَسَّاه الأَخيرة على البدل كراهية التضعيف وفي الحديث اسْتَجِيدوا الخالَ فإِن العِرْقَ دَسَّاسٌ أَي دَخَّال لأَنه يَنْزِعُ في خَفاءٍ ولُطْفٍ ودسَّه يَدُسُّه دَسّاً إِذا أَدخله في الشيءِ بقهر وقوَّة وفي التنزيل العزيز قد أَفْلَحَ من زَكَّاها وقد خابَ من دَسَّاها يقول أَفلح من جعل نفسه زكية مؤمنة وخابَ من دَسَّسَها في أَهل الخير وليس منهم وقيل دَسَّاها جعلها خسيسة قليلة بالعمل الخبيث قال ثعلب سأَلت ابن الأَعرابي عن تفسير قوله تعالى وقد خابَ من دَسَّاها فقال معناه من دسَّ نَفْسَه مع الصالحين وليس هو منهم قال وقال الفراء خابت نفس دَسَّاها اللَّه عز وجل ويقال قد خاب من دَسَّى نَفْسَه فأَخْمَلَها بترك الصدقة والطاعة قال ودَسَّاها من دَسَّسْتُ بُدِّلَتْ بعض سيناتها ياء كما يقال تَظَنَّيْتُ من الظَنِّ قال ويُرَى أَن دَسَّاها دَسَّسَها لأَن البخيل يُخْفي مَنْزِله وماله والسَّخِيُّ يُبْرِزُ منزله فينزل على الشَرَفِ من الأَرض لئلا يستتر عن الضيفان ومن أَراده ولكلٍّ وَجْهٌ الليث الدَّسُّ دَسُّك شيئاً تحت شيء وهو الإِخْفاءُ ودَسَسْتُ الشيء في التراب أَخفيته فيه ومنه قوله تعالى أَم يَدُسُّه في التراب أَي يدفنه قال الأَزهري أَراد اللَّه عز وجل بهذا الموءُودة التي كانوا يدفنونها وهي حية وذَكَّرَ فقال يَدُسُّه وهي أُنثى لأَنه رَدَّه على لفظة ما في قوله تعالى يَتَوارى من القوم من سُوءِ ما بُشِّرَ به فردَّه على اللفظ لا على المعنى ولو قال بها كان جائزاً والدَّسِيسُ إِخفاء المكرِ والدَّسيسُ من تَدُسُّه ليأْتيك بالأَخبار وقيل الدَّسِيسُ شبيه بالمُتَجَسِّس "لسان العرب - (6 / 82)

[102] - الوَصْوَصُ والوَصْوَاصُ " الأَخِيرُ عن اللَّيْث وعلى الأَوَّل اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ :   " خَرْقٌ " - وفي الصّحاح :   ثَقْبٌ - في " السِّتْرِ " ونَحْوِه " بمِقْدَارِ عَيْنٍ تَنْظُر فيه " .قال :     " في وَهَجَانٍ يَلِجُ الوَصْوَاصَا " ووَصْوَصَ :   نَظَرَ فِيهِ " .وَصْوَصَ " الجِرْوُ :   فَتَح عَيْنيْه " كبَصْبَصَ عن ابنِ عَبّادٍ .وَصْوَصَت " المَرأَةُ :   ضَيَّقَتْ نِقَابَهَا " فَلَمْ يُرَ منه إِلاَّ عَيْنَاهَا .وقال الفَرَّاءُ :   إِذا أَدْنَت المَرْأَةُ نِقَابَهَا إِلى عَيْنيْهَا فتِلْكَ الوَصْوَصَةُ " كوَصَّصَتْ " تَوْصِيصاً .قال أَبْو زيْدٍ :   النِّقَابُ على مَارِنِ الأَنْفِ .والتَّرْصِيصُ لا يُرَى إِلا عَيْنَاهَا .وتَمِيمٌ تَقُولُ .هو التَّوْصِسصُ بالوَاو وقد رَصَّصَتْ ووَصَّصَت .وقال الجوهَرِيُّ :   التَّوْصِيصُ في الانْتِقابٍ مِثْلُ التَّرْصِيصِ ." والوَصَاوِصُ :   بَرَاقِعُ صِغَارٌ تَلبَسُها الجارِيَةُ " جَمْعُ وَصْوَاصٍ .وفي الصّحاح :   الوَصْوَاصُ :   البُرْقُعُ الصَّغِيرُ "تاج العروس - (1 / 4556) ولسان العرب - (1 / 239) وكتاب العين - (7 / 177)

[103] - معالم في الطريق للشهيد سيد قطب بتحقيقي  - نقلة بعيدة

[104] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   804،بترقيم الشاملة آليا)

[105] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (9/ 175)

[106] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1473)

[107] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   860،بترقيم الشاملة آليا)

[108] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   261)

[109] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1563)

[110] -  أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1237،بترقيم الشاملة آليا)

[111] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   328)

[112] - التفسير القرآني للقرآن (5/ 694)

[113] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2163)

[114] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   4427)

[115] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2143)

[116] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   172،بترقيم الشاملة آليا)

[117] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   79)

[118] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   368)

[119] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   809،بترقيم الشاملة آليا)

[120] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   252)

[121] - البداية والنهاية ط هجر (9/ 621)

[122] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   1476)

[123] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1350،بترقيم الشاملة آليا)

[124] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2342)

[125] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   3196،بترقيم الشاملة آليا)

[126] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   3527،بترقيم الشاملة آليا)

[127] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   3690)

[128] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   4230،بترقيم الشاملة آليا)

[129] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   764)

[130] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   3992)

[131] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  1259،بترقيم الشاملة آليا)

[132] - تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 121)

[133] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 383)

[134] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   332)

[135] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  2191)

[136] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (4/ 1155) (6506 ) حسن

[137] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 507)

[138] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 508)

[139] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (4/ 1156) (6511 ) صحيح مقطوع

[140] - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 412)

[141] - تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 132)

[142] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   235)

[143] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1307)

[144] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  727،بترقيم الشاملة آليا)

[145] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 533)

[146] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 535)

[147] - تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 140)

[148] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   236)

[149] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1318)

[150] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 316) فيه جهالة

[151] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (2/ 628)(3375 ) حسن

[152] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 317) صحيح مقطوع

[153] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 318) حسن

[154] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 318) حسن

[155] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 318) فيه ضعف

[156] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 319) صحيح مقطوع

[157] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 319)

[158] - تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 30)

[159] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   127)

[160] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  651)

[161] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   637،بترقيم الشاملة آليا)

[162] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (7/ 617)

[163] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   211)

[164] - تفسير الشعراوي (5/ 2747)

[165] - تفسير القاسمي = محاسن التأويل (3/ 380)

[166] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  2242،بترقيم الشاملة آليا)

[167] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   487)

[168] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2992)

[169] - التفسير القرآني للقرآن (8/ 714)

[170] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   5041،بترقيم الشاملة آليا)

[171] - تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 103)

[172] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   858)

[173] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   4433)

[174] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   4996،بترقيم الشاملة آليا)

[175] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 487)

[176] - تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 51)

[177] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   847)

[178] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   4390)

[179] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   411،بترقيم الشاملة آليا)

[180] - تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 106)

[181] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (3/ 742)(4034 ) صحيح

[182] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (3/ 743) (4036) صحيح

[183] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (3/ 743)(4037 )

[184] - أمثال الحديث لأبي الشيخ الأصبهاني (ص:   346)(296 ) صحيح

[185] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 707)

[186] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   144)

[187] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   725)

[188] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 572) حسن

[189] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  5029،بترقيم الشاملة آليا)

[190] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 574)

[191] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   855)

[192] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  4426)

[193] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  748،بترقيم الشاملة آليا)

[194] - تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 160)

[195] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   241)

[196] - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 47) (3713) حسن

[197] - سنن أبي داود - المكنز - (4338 ) حسن  -تأطر:  تعطفه عليه وتوجهه إليه

[198] - صحيح مسلم- المكنز - (186 )

[199] - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 82)(17720) 17872- صحيح لغيره

[200] -  مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 393)(18828) 19033- صحيح

[201] - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 406)(22207) 22560- حسن

[202] - صحيح مسلم- المكنز [1 /219](186 )

[203] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1346)

[204] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  1233،بترقيم الشاملة آليا)

[205] - تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 97)

[206] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   327)

[207] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2109)

[208] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2111)

[209] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1999،بترقيم الشاملة آليا)

[210] - تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 602)

[211] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   449)

[212] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2860)

[213] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  462،بترقيم الشاملة آليا)

[214] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  834)

[215] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  982،بترقيم الشاملة آليا)

[216] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (10/ 132)

[217] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1734)

[218] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  1962،بترقيم الشاملة آليا)

[219] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  2291،بترقيم الشاملة آليا)

[220] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  3011)

[221] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   1233،بترقيم الشاملة آليا)

[222] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 289)

[223] - صحيح البخاري برقم (6747)

[224] - صحيح ابن حبان - مخرجا (16/ 250)(7260 ) صحيح

[225] - مسند البزار = البحر الزخار (5/ 137)(1726) حسن

[226] - صحيح مسلم (3/ 1357) 3 - (1731)

 [ ش (سرية) هي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وتعود إليه قال إبراهيم الحربي هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها قالوا سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها وهي فعيلة بمعنى فاعلة يقال سرى وأسرى إذا ذهب ليلا(في خاصته) أي في حق نفس ذلك الأمير خصوصا(ولا تغلوا) من الغلول ومعناه الخيانة في الغنم أي لا تخونوا في الغنيمة(ولا تغدروا) أي ولا تنقضوا العهد(ولا تمثلوا) أي لا تشوهوا القتلى بقطع الأنوف والآذان(وليدا) أي صبيا لأنه لا يقاتل(ثم ادعهم إلى الإسلام) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ثم ادعهم قال القاضي عياض رضي الله عنه صواب الرواية ادعهم بإسقاط ثم وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث وليست غيرها وقال المازري ليست ثم هنا زائدة بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ(ذمة الله) الذمة هنا العهد(أن تخفروا) يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته أمنته وحميته]

[227] -  تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 95)

[228] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   327)

[229] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2103)

[230] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   2107)

[231] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  581،بترقيم الشاملة آليا)

[232] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   192)

[233] - التفصيل من عندي لزيادة الفائدة والتوضيح

[234] - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 280) (5774) صحيح

[235] - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 281) (5775) حسن

[236] - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 282) (5776) ضعيف

[237] - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 283) (5777) صحيح لغيره

[238] - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 283) (5778) صحيح مرسل

[239] - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 284) (5779) صحيح مرسل

[240] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1086)

[241] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  631،بترقيم الشاملة آليا)

[242] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (7/ 601)

[243] - =تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   209)

[244] - شعب الإيمان - (7/ 129) (4769) صحيح

[245] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1150)

[246] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  635،بترقيم الشاملة آليا)

[247] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (7/ 611) والخبر في صحيح مسلم (4/ 2146)17 - (2784)

 [  ش (العائرة) المترددة الحائرة لا تدري أيهما تتبع (تعير) أي تتردد وتذهب]

[248] - مسند أحمد ط الرسالة (8/ 476)(4872 ) حسن لغيره

[249] - مسند أحمد ط الرسالة (8/ 476)(5610 ) حسن لغيره

[250] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (4/ 1096)(6144 ) صحيح

[251] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (7/ 616) صحيح مرسل

[252] - تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 437)

[253] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   211)

[254] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1155)

[255] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   5015،بترقيم الشاملة آليا)

[256] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (22/ 534)

[257] - سيرة ابن هشام [2/ 47] ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - دار الوسيلة للنشر والتوزيع،جدة [11/ 5640] والبداية والنهاية ط هجر (5/ 321) وتاريخ الإسلام للإمام الذهبي [2/ 146] صحيح مرسل 

[258] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   4406)

[259] - التفسير القرآني للقرآن (14/ 865)

[260] - التفسير الحديث (7/ 321)

[261] - التفسير الوسيط للزحيلي (3/ 2629)

[262] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  958،بترقيم الشاملة آليا)

[263] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (10/ 56)

[264] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   283)

[265] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  1709)

[266] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  3263،بترقيم الشاملة آليا)

[267] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (18/ 403)

[268] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   631)

[269] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  3489)

[270] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  3938،بترقيم الشاملة آليا)

[271] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   717)

[272] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  3824)

[273] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  4154،بترقيم الشاملة آليا)

[274] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   753)

[275] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  3942)

[276] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  4195،بترقيم الشاملة آليا)

[277] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   761)

[278] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  3971)

[279] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  4359،بترقيم الشاملة آليا)

[280] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  4416،بترقيم الشاملة آليا)

[281] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   783)

[282] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:  4370،بترقيم الشاملة آليا)

[283] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (21/ 85)

[284] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   777)

[285] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  4042)

[286] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:  2521)

[287] - صحيح ابن حبان - مخرجا (3/ 70)(790 ) صحيح

[288] - صحيح البخاري (8/ 6) (5990 ) ومسلم في الإيمان باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم رقم 215

 [ ش(آل أبي) أي أقربائي من النسب.(بياض) أي بغير كتابة ووجد في بعض النسخ (آل أبي فلان).(أوليائي) نصرائي وأعواني الذين أتولاهم ويتولونني بسبب القرابة فقط.(صالح المؤمنين) المؤمنون الصالخون الصادقون قريبين كانوا في النسب أم بعيدين.(لهم) أي لآل أبي وأقربائي.(رحم) قرابة.(أبلها) أنديها بما يجب أن تندى به من الصلة والبلال ما يبل به الحلق ويندى من ماء وغيره]

[289] - شعب الإيمان (12/ 552)(9868 ) والزهد وصفة الزاهدين لابن الأعرابي (ص:   60) (104 ) والغرباء للآجري (ص:   47)(35) وسنن الترمذي ت شاكر (4/ 575) (2347 ) صحيح لغيره 

أغبط :   غبَطتُ الرجل :   إذا تمنيت أن يكون كل مثل الذي له من غير أن يزول عنه ماله.-خفيف الحاذ :   الحاذ في الأصل :   بطن الفخذ ،وقيل :   هو الظهر ،والموضع الذي يقع عليه اللبد من ظهر الفرس ،يقال له :   حاذ ،والمراد في الحديث :   الخفيف الظهر من العيال ،القليل المال ،القليل الحظ من الدنيا.-غامضا :   الغامض :   الخفي ،أراد أن يكون الإنسان منقطعا عن الناس لا يخالطهم ،وذلك دأب الزاهدين في الدنيا ،الراغبين فيما عند الله تعالى.-الكفاف :   الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص.-المنية :   الموت.-تراث الرجل :   ما يخلفه بعد موته من متاع الدنيا.جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (10/ 138)

[290] - صحيح البخاري (8/ 105) (6502 )

[ ش (وليا) هو العالم بدين الله تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته.(آذنته بالحرب) أعلمته بالهلاك والنكال.(مما افترضت عليه) من الفروض العينية وفروض الكفاية.(كنت سمعه..) أحفظه كما يحفظ العبد جوارحه من التلف والهلاك وأوفقه لما فيه خيره وصلاحه وأعينه في المواقف وأنصره في الشدائد.(استعاذني) استجار بي مما يخاف (ما ترددت) كناية عن اللطف والشفقة وعدم الإسراع بقبض روحه(مساءته) إساءته بفعل ما يكره]

عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْحِيرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ فَقَالَ:   مَعْنَاهُ:   كُنْتُ أَسْرَعَ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ سَمْعِهِ فِي الِاسْتِمَاعِ وَبَصَرِهِ فِي النَّظَرِ وَيَدِهِ فِي اللَّمِسِ وَرِجْلِهِ فِي الْمَشْيِ.الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 448)

[291] - سنن أبي داود (4/ 351) (5197 ) صحيح

[292] - مسند أحمد ط الرسالة (11/ 314) (6710 ) صحيح لغيره

  الجدع:   هو القطع البائن في الأنف والأذن والشفة والجب:   هو القطع وخص به بعضهم قطع الذكر.

[293] - المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 123)(185 ) و(4/ 276)(7629 ) صحيح

[294] - المعجم الكبير للطبراني (11/ 215)(11537 ) حسن

[295] - السنن الكبرى للنسائي (8/ 18) (8550 ) صحيح

تفرح:   من أفرحه اذا غمه وأزال عنه الفرح،وأفرحه الدين اذا أثقله.

[296] - سنن الترمذي ت شاكر (5/ 275) (3091 ) صحيح

[297] - صحيح ابن حبان - مخرجا (10/ 456) (4595) صحيح

[298] - المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 425)(8161 ) صحيح

[299] - سنن النسائي (5/ 234) (2958 ) صحيح

رهط:   الرهط:   الجماعة من الرجال:   ما بين الثلاثة إلى التسع،ولا تكون فيهم امرأة.يؤذن:   الإيذان الإعلام.

نبذ الشيء:   إذاألقاه،ونبذت إليه العهد،أي:   تحَّللتُ من عهْده.عَيْلة:   العَيْلَةُ:   الفَقْر والفاقة.-الجزية:   هي المقدار من المال الذي تعقد للكتابي عليه الذمة.-وجد المسلمون:   وجد الرجل يجد:   إذا حزن.-عاضهم:   عضت فلانا كذا:   إذا أعطيته بدل ما ذهب منه.-صحل:   الصحل في الصوت:   البحة.جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (2/ 155)

[300] - مسند أحمد ط الرسالة (4/ 310) (2514 ) حسن

[301] -  صحيح البخاري (4/ 179) (3504 ) وصحيح مسلم (4/ 1954)189 - (2520)

  [ ش (قريش) قال الزبير قالوا قريش اسم فهر بن مالك وما لم يلد فهر فليس من قريش قال الزبير قال عمي فهر هو قريش اسمه وفهر لقبه (الأنصار) يريد بالأنصار الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة (ومزينة) هي بنت كلب بن وبرة بن ثعلب (وجهينة) ابن زيد بن ليث بن سود (وأسلم) في خزاعة (وغفار) هو ابن مليل بن ضمرة بن بكر (وأشجع) هو ابن ريث بن غطفان بن قيس،(موالي) أنصاري والمختصون بي فقد بادروا إلى الإسلام والإيمان]

[302] - مسند أبي يعلى الموصلي (12/ 132) (6762 )  حسن

[303] - سنن أبي داود (4/ 94)(4242 ) صحيح

وحرب :   الحرب بفتح الراء :   ذهاب المال والأهل،يقال :   حرب الرجل،فهو حريب :   إذا سلب أهله وماله.-دخنها :   إثارتها وهيجها،شبهها بالدخان الذي يرتفع،أي :   أن أصل ظهورها من هذا الرجل وقوله من تحت قدمي رجل يعني :   أنه يكون سبب إثارتها.-كورك على ضلع :   مثل،أي :   أنه لا يستقل بالملك،ولا يلائمه،كما أن الورك لا تلائم الضلع.-فتنة الدهيماء :   أراد بالدهيماء:   السوداء المظلمة،وقيل :   أراد بالدهيماء :  الداهية يذهب بها إلى الدهيم،وهي في زعم العرب :   اسم ناقة،قالوا :   كان من قصتها :   أنه غزا عليها سبعة إخوة،فقتلوا عن آخرهم،وحملوا على الدهيم،حتى رجعت بهم فصار مثلا في كل داهية.-فسطاطين الفسطاط :   الخيمة الكبيرة،وتسمى مدينة مصر :   الفسطاط،والمراد به في هذا الحديث :   الفرقة المجتمعة المنحازة عن الفرقة الأخري،تشبيها بانفراد الخيمة عن الأخرى،أو تشبيها بانفراد المدينة عن الأخرى،حملا على تسمية مصر بالفسطاط،ويروى بضم الفاء وكسرها.جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (10/ 24)

[304] - صحيح ابن حبان - مخرجا (2/ 415) (647) صحيح

[305] - مسند أحمد ط الرسالة (37/ 540) (22906 ) حسن -  أفناء الناس:   أي لم يعلم ممّن هو.- نوازع القبائل:   أي غرباؤهم.

[306] -  سنن الترمذي ت شاكر (5/ 389) (3270 ) صحيح

عبية :   العبية بضم العين وكسرها ،وتشديد الباء والياء ،مأخوذ من العب :   النور والضوء ،وقيل :   من العبء :   الثقل.

[307] -  سنن أبي داود (4/ 44) (4031 ) صحيح

[308] -  صحيح مسلم (1/ 53)37 - (23)

[309] - المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 154) (2627 ) صحيح

[310] - صحيح البخاري (8/ 14) (6041 )

[311] - صحيح البخاري (8/ 156) (6764 )

[312] - صحيح البخاري (3/ 98) (2298 )

[313] - صحيح مسلم (3/ 1449) 150 - (1817)

 [ ش (بحرة الوبرة) هكذا ضبطناه بفتح الباء وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم قال وضبطه بعضهم بإسكانها وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة(حتى إذا كنا بالشجرة) هكذا هو في النسخ حتى إذا كنا فيحتمل أن عائشة كانت مع المودعين فرأت ذلك ويحتمل أنها أرادت بقولها كنا كان المسلمون]

[314] - سنن أبي داود (3/ 45) (2645 ) صحيح

سرية :   السرية :   طائفة من الجيش تبعث في الغزو.-فاعتصم :   الاعتصام :   الالتجاء والاستمساك بالشيء.

لا تراءى ناراهما :   معنى قوله :   لا تراءى ناراهما :   أن لا يكون كل واحد منهما بحيث يرى نار صاحبه ،فجعل الرؤية للنار ولا رؤية لها ،يعني :   أن تدنو هذه من هذه ،يقال :   داري تنظر إلى دار فلان ،أي :   تقابلها ،وقيل :   معناه :   أنه أراد نار الحرب ،يقول :   ناراهما مختلفتان ،هذه تدعو إلى الله ،وهذه تدعو إلى الشيطان ،فكيف تتفقان ؟ وكيف يساكنهم في بلادهم وهذه حال هؤلاء ،وهذه حال هؤلاء ؟.

بنصف العقل :   العقل :   الدية ،وإنما أمر لهم بنصفها ولم يكملها بعد علمه بإسلامهم ،لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار ،-فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره ،فتسقط حصة جنايته من الدية.جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (4/ 446)

[315] -  صحيح مسلم (4/ 2088) 73 - (2722)

 [ ش (زكها) أي طهرها (خير) لفظة خير ليست للتفضيل بل معناها لا مزكي لها إلا أنت كما قال أنت وليها (ومن نفس لا تشبع) معناه استعاذة من الحرص والطمع والشره وتعلق النفس بالآمال البعيدة هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليل لما قاله العلماء إن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف فإنه يذهب الخشوع والخضوع والإخلاص ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحو ذلك أو كان محفوظا فلا بأس به بل هو حسن]

[316] - صحيح البخاري (4/ 87) (3129 )

 [ ش (يوم الجمل) يوم وقعة الجمل سنة ست وثلاثين هجرية التي وقعت بين طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم وسميت يوم الجمل لأن عائشة رضي الله عنها كانت تركب على جمل في هودج وكانت هي التي خرجت بالناس وكانت هي محور المعركة رضي الله عنها وعفا عنها وعمن شجعها وأغراها بهذا الموقف.(وثلثه لبنيه) أي أوصى بثلث الثلث لبني عبد الله خاصة.(وازى) حاذاهم وساواهم في السن.(الغابة) أرض شهيرة من عوالي المدينة كان الزبير قد اشتراها.(لا ولكنه سلف) أي لا أضعه عندي وديعة ولكني آخذه دينا وذلك حتى يكون مضمونا عليه إذا أصابه شيء من التلف.(فكتمه) كتم أصل الدين حتى لا يستعظمه حكيم فينظر إليه بعين الاحتياج ولكنه لما استعظم القليل أخبره بالحقيقة.(فليوافنا) فليأتنا.(بالموسم) موسم الحج سمي بذلك لاجتماع الناس فيه فهو معلم مأخوذ من الوسم وهو العلامة]

[317] - شعب الإيمان (3/ 179) (1522 ) وسير أعلام النبلاء ط الحديث (3/ 347) والإصابة في تمييز الصحابة (4/ 52) حسن لغيره

[318] - مسند أحمد ط الرسالة (38/ 337) (23308 ) صحيح

قوله:   "هدياً وسمتاً ودلاً" قال السندي:   الهدي بفتح فسكون،وكذا السمت،وأما الدلُّ فبفتح وتشديد لام،قال البيضاوي:   قريب من الهدي،والمراد به السكينة والوقار،وبالسمت:   القصد في الأمور،وبالهدي:   حسن السيرة وسلوك الطريقة المرضية."ابن أم عبد" هو عبد الله بن مسعود،وأم عبد كنية أمه."زلفة" كقُربة لفظاً ومعنىً.

[319] -  السنن الكبرى للبيهقي (9/ 392) (18864) صحيح

[320] - السنن الكبرى للبيهقي (10/ 216) (20409 ) صحيح

[321] - سير أعلام النبلاء ط الحديث (3/ 213) وتاريخ دمشق لابن عساكر (10/ 441) وتحفة الصديق في فضائل أبي بكر الصديق (ص:   80) صحيح مرسل

[322] - فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 182)(191 ) صحيح

[323] - سيرة ابن هشام ت طه عبد الرؤوف سعد (1/ 277) صحيح مرسل

[324] - معرفة الصحابة لأبي نعيم (2/ 828)(2173 )

[325] -  الزهد الكبير للبيهقي (ص:   351)(965 ) صحيح

[326] - الزهد لهناد بن السري (1/ 297) (522 ) صحيح

[327] -  المعجم الكبير للطبراني (12/ 417)(13537 ) حسن لغيره

[328] - تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (1/ 406) (396 ) حسن

[329] - صحيح البخاري (4/ 19) (2805 )

[ (انكشف المسلمون) انهزموا.(الجنة) أريد الجنة وهي مطلوبي.(أجد) أشم.(من دون أحد) عند أحد ويحتمل أنه وجد ريحها حقيقة كرامة له ويحتمل أنه أراد أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها.(بضعا) من الثلاث إلى تسع.(ببنانه) أصابعه أو أطراف أصابعه]

[330] - صحيح مسلم (1/ 36)1 - (8)

 [ ش (أول من قال بالقدر) معناه أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف الصواب الذي عليه أصل الحق ويقال القدر والقدر لغتان مشهورتانواعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعال وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى (فوفق لنا) معناه جعل وفقا لنا وهو من الموافقة التي هي كالالتحام يقال أتانا لتيفاق الهلال وميفاقه أي حين أهل لا قبله ولا بعده وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام (فاكتنفته أنا وصاحبي) يعني صرنا في ناحيتيه وكنفا الطائر جناحاه (ويتقفرون العلم) ومعناه يطلبونه ويتبعونه وقيل معناه يجمعونه (وذكر من شأنهم) هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر يعني وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به (وإن الأمر أنف) أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه  ]

[331] -  سيرة ابن هشام ت السقا (2/ 292) صحيح مرسل

[332] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (4/ 1156)(6511 ) صحيح

[333] - تفسير البغوي - طيبة (6/ 233)

[334] - مجموع الفتاوى (28/ 32)

[335] -   شرح السنة للبغوي (8/ 364)

[336] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 163)

[337] -  ولاية الله والطريق إليها (242) .

[338] - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص:   105)

[339] - صحيح البخاري (5/ 145)(4274 ) وصحيح مسلم (4/ 1941)161 - (2494)

 [ ش (تعادى بنا خيلنا) أسرعت بنا وتعدت عن مشيتها المتعادة.(السورة) التي تبدأ بهذه الآية المذكورة وهي سورة الممتحنة.(أولياء) حلفاء ونصراء.(بالمودة) النصيحة.(إلى قوله) وتتمتها {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم من يفعله منكم..} (أن تؤمنوا) لإيمانكم.(إن كنتم) أي إذا كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة.(ابتغاء مرضاتي) من أجل الحصول على رضواني.(تسرون إليهم بالمودة) تبعثون إليهم ينصحكم سرا.(ضل سواء السبيل) أخطأ الصواب وابتعد عن طريق الهدى]

[340] - سنن أبي داود (3/ 45) (2645 ) صحيح دون جملة العقل

سرية:  السرية:  طائفة من الجيش تبعث في الغزو.فاعتصم:  الاعتصام:  الالتجاء والاستمساك بالشيء.

لا تراءى ناراهما:  معنى قوله:  لا تراءى ناراهما:  أن لا يكون كل واحد منهما بحيث يرى نار صاحبه ،فجعل الرؤية للنار ولا رؤية لها ،يعني:  أن تدنو هذه من هذه ،يقال:  داري تنظر إلى دار فلان ،أي:  تقابلها ،وقيل:  معناه:  أنه أراد نار الحرب ،يقول:  ناراهما مختلفتان ،هذه تدعو إلى الله ،وهذه تدعو إلى الشيطان ،فكيف تتفقان ؟ وكيف يساكنهم في بلادهم وهذه حال هؤلاء ،وهذه حال هؤلاء ؟.

بنصف العقل:  العقل:  الدية ،وإنما أمر لهم بنصفها ولم يكملها بعد علمه بإسلامهم ،لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار ،فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره ،فتسقط حصة جنايته من الدية.جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (4/ 446)

[341] - المعجم الكبير للطبراني (11/ 215)(11537 ) صحيح لغيره

[342] - السنن الكبرى للنسائي (3/ 66) (2360 ) صحيح

تَخلَّيتُ:  تبرأت من الشرك ،وانقطعت عنه.-كُل مسلم على مسلم محرم:  يقال:  أحرم الرجل:  إذا اعتصمَ بحرمةٍ تمنع عنه ،ويقال:  إنه لمحرمٌ عنك:  أي يحرم أذاك عليه ،ويقال:  مسلم محرم ،وهو الذي لم يُخَلِّ من نفسه شيئًا يوقِعُ به ،يريد:  أن المسلم معتصم بالإسلام ،ممتنع بحرمته ممن أراده ،أو أراد ماله.-أخوان نصيران:  أي هما أخوان نصيران ،أي:  يتناصران ويتعاضدان ،والنصير:  فعيل بمعنى فاعل ،ويجوز أن يكون بمعنى مفعول .جامع الأصول في أحاديث الرسول ط مكتبة الحلواني الأولى (1/ 234)

[343] - مسند أحمد ط الرسالة (34/ 343)(20740 ) صحيح

[344] - معرفة الصحابة لأبي نعيم (5/ 2706)(6467 ) صحيح

[345] - مسند أحمد ط الرسالة (9/ 123)(5114) حسن

[346] - مسند أحمد ط الرسالة (31/ 491)(19153) صحيح

قال السندي:  قوله:  تعبد الله:  خبر بمعنى الأمر.

[347] -  مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/ 5)(9821) صحيح

[348] - تفسير ابن أبي حاتم،الأصيل - مخرجا (4/ 1156)(6510 ) حسن

[349] - السنن الكبرى للبيهقي (10/ 216) (20409 ) صحيح

[350] - السنة لأبي بكر بن الخلال (5/ 57)(1603 ) صحيح

[351] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/ 315)

[352] - تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 203)

[353] - صحيح البخاري (5/ 45) (3852 )

[354] - المغني لابن قدامة (9/ 25)

[355] - مجموع الفتاوى (8/ 337)

[356] - تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 140)

[357] - الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية (1/ 33) وانظر الدرر السنية (1/ 235،236).

[358] - تفسير القرطبي (5/ 279)

[359] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   4127،بترقيم الشاملة آليا)

[360] - تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:   748)

[361] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   3922)

[362] - أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص:   4402،بترقيم الشاملة آليا)

[363] - تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (21/ 136)

[364] - في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - ت- علي بن نايف الشحود (ص:   4058)

[365] - مجموع فتاوى ابن باز (2/ 178)

[366] - مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (2/ 165)

[367] - فتاوى موقع الألوكة (91/ 1) رقم الفتوى:   2290المفتي:   الشيخ خالد بن عبد المنعم الرفاعي

[368] - صحيح البخاري المظالم والغصب (2310) ,صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580)

[369] - فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الطيار (ص:   370)

[370] - فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الطيار (ص:   371)

[371] - صحيح مسلم (3/ 1506) 133 - (1893)

 [ ش (أبدع بي) وفي بعض النسخ بدع بي ونقله القاضي عن جمهور رواة مسلم قال والأول هو الصواب ومعروف في اللغة ومعناه هلكت دابتي وهي مركوبي]

[372] - صحيح البخاري (5/ 134)(4210)

[373] - صحيح مسلم (4/ 2060) 16 - (2674)

[374] - صحيح مسلم (4/ 1707)13 - (2167)

[375] - صحيح مسلم (4/ 1705) 6 - (2163)

 [ ش (وعليكم) اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم عليكم السلام بل يقال عليكم فقط أو وعليكم وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم عليكم وعليكم بإثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات بإثباتها وعلى هذا في معناه وجهان أحدهما أنه على ظاهره فقالوا وعليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء وكلنا نموت والثاني أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وتقديره وعليكم ما تستحقونه من الذم أما من حذف الواو فتقديره بل عليكم السام]

[376] - صحيح مسلم (4/ 2025) 140 - (2624)

[377] - صحيح البخاري (3/ 164) (2620 ) وأخرجه مسلم في الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين..رقم 1003 [ ش .(راغبة) أي في الإسلام وقيل عنه أي كارهة له]

[378] - فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الطيار (ص:   371)

[379] - صحيح مسلم (4/ 1707) 13 - (2167)

[380] -  صحيح البخاري (9/ 15)(6926 ) وصحيح مسلم (4/ 1705)6 - (2163)

 [ ش (السام) هو الموت.(وعليكم) ما تستحقون من اللعنة والعذاب والموت،(وعليكم) اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم عليكم السلام بل يقال عليكم فقط أو وعليكم وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم عليكم وعليكم بإثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات بإثباتها وعلى هذا في معناه وجهان أحدهما أنه على ظاهره فقالوا وعليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء وكلنا نموت والثاني أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وتقديره وعليكم ما تستحقونه من الذم أما من حذف الواو فتقديره بل عليكم السام]

[381] - فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الطيار (ص:   374)

[382] - تفسير الطبري " (2 / 144)

[383] - الجواب الصحيح" (5 /200)

[384] - فتاوى الشيخ ابن باز" (5/387)

[385] - فتاوى الشيخ ابن باز" (6/392)

[386] - مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (3/43)

[387] - سنن أبي داود (4/ 44)(4031 ) صحيح

[388] - موقع الإسلام سؤال وجواب (7/ 1041) وفتاوى اللجنة الدائمة" (26 /32)

[389] -  سنن أبي داود (4/ 259)(4833 ) صحيح -خليله :   الخليل :   الصديق ،الخلة - بالضم - الصداقة.

[390] - السنن الكبرى للبيهقي (10/ 216)(20409 ) صحيح ،فتاوى الأزهر (10/ 274) الولاية بين المؤمن وغيره-المفتي عطية صقر .مايو 1997ويراجع تفسير القرطبى ج 4 ص 878" لتوضيح ذلك ويراجع غذاء الألباب للسفارينى ج 2 ص 12 وما بعدها

[391] - فتاوى موقع الألوكة (/ 1)رقم الفتوى:   724 و مجموع فتاوى ابن باز (9/ 317)

[392] - المنتقى من فتاوى الفوزان (18/ 2)(148 )

[393] - نفسه (149 )

[394] - نفسه (150)

[395] - نفسه ( 153 )

[396] - نفسه (154 )

[397] نفسه (155)

[398] -  فضيلة الشيخ صالح الفوزان (  9665 )   03/06/2004

[399] -  فضيلة الشيخ صالح الفوزان(  6987 )

[400] - مصدر الفتوى:   المنتقى من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - (ج 2/ ص 251) [ رقم الفتوى في مصدرها:   218]

[401] -  فتاوى الشيخ عبد الله بن عقيل ([462]

[402] - المفتي العلاّمة/ عبد الرحمن بن ناصر البراك رقم الفتوى 11130 تاريخ الفتوى 12/2/1426 هـ -- 2005-03-23 

[403] - فتاوى أركان الإسلام (ص:   183)(س94) ما هو الولاء والبراء؟ ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 11)

[404] - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 12)(383)

[405] - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 14) (384)

[406] - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 15)(385)

[407] - نداء الإيمان ،رقم الفتوى :   (7004) صالح الفوزان

[408] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=22057

[409] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=17633

[410] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=13976

[411] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=14040

[412] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=13728

[413] - النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الأشراك،ص 15،لحمد بن عتيق.

[414] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=13005

[415] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=12280

[416] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=11970

[417] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=10155

[418] -  http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=6068

http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=6142

[419] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=5725

[420] - http:  //www.islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=1832

[421] - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 550)

[422] - أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (2/ 462)

[423] -  تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (8/ 508)

[424] - المحلى بالآثار (12/ 33)

[425] - أحكام القرآن للجصاص ط العلمية (2/ 555)

[426] - أيسر التفاسير للجزائري (1/ 643) والتفسير المنير للزحيلي (6/ 227)

[427] - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -دار الوسيلة للنشر والتوزيع،جدة (8/ 3711)

[428] - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - r -دار الوسيلة للنشر والتوزيع،جدة (11/ 5582)

 

دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا ربَّه وهو في بَطْنِ الحُوتِ

- دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا ربَّه وهو في بَطْنِ الحُوتِ: لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبْحانك إنِّي كُنتُ مِن الظَّالمينَ، لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسلمٌ في شَيءٍ قطُّ إلَّا اسْتُجِيبَ له. الراوي : سعد بن أبي وقاص | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج زاد المعاد  -الصفحة أو الرقم : 4/182 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
------------------------------
- إنِّي لأعرِفُ كلمةً لا يقولُها مَكْروبٌ إلَّا فرَّجَ اللَّهُ عنهُ كلِمةَ أخي يونس في الظُّلُماتِ أن لا إله إلَّا أنتَ سبحانَكَ إنِّي كنتُ منَ الظَّالِمينَ
الراوي : سعد بن أبي وقاص | المحدث : ابن القيسراني | المصدر : ذخيرة الحفاظ **الصفحة أو الرقم : 2/1012 | خلاصة حكم المحدث : [فيه] عمرو الكلابي مظلم الحديث عن المعروفين توضيح حكم المحدث : إسناده ضعيف جدا

الصحيح البديل: 
- دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا ربَّه وهو في بَطْنِ الحُوتِ: لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبْحانك إنِّي كُنتُ مِن الظَّالمينَ، لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسلمٌ في شَيءٍ قطُّ إلَّا اسْتُجِيبَ له.
الراوي : سعد بن أبي وقاص | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج زاد المعاد
الصفحة أو الرقم : 4/182 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] 

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...