حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

السبت، 5 نوفمبر 2022

من ج{101الي ج110} من سقوط جزيرة قرنة بأيدي الفرنج . العام الهجري : 540 العام الميلادي : 1145.

ج101.سقوط جزيرة قرنة بأيدي الفرنج .
العام الهجري : 540 العام الميلادي : 1145
تفاصيل الحدث:
سار أسطول الفِرنجِ مِن صقليَّةَ، فاحتَلُّوا جزيرةَ قرنةَ مِن إفريقيَّة، فقتَلُوا رجالَها، وسَبَوا حَريمَهم، فأرسل الحسَنُ صاحِبُ إفريقيَّةَ إلى رجار مَلِك صقليَّة يُذَكِّرُه العُهودَ التي بينهم، فاعتذَرَ بأنَّهم غيرُ مُطيعينَ له.
استيلاء الموحدين على فاس ومكناسة .
العام الهجري : 540 العام الميلادي : 1145
تفاصيل الحدث:
سار عبدُ المؤمِن إلى مدينةِ فاس فنَزَل على جَبَلٍ مُطِلٍّ عليها، وحصَرَها تسعةَ أشهُرٍ، وفيها يحيى بنُ الصَّحراويَّة وعَسكَرُه الذين فَرُّوا مِن تلمسان، فلمَّا طال مُقامُ عبد المؤمِنِ عَمَد إلى نهرٍ يدخُلُ البَلَدَ فسَكَّرَه بالأخشابِ والترابِ وغيرِ ذلك، فمَنَعَه من دُخولِ البَلَدِ، وصار بحيرةً تَسيرُ فيها السُّفُنُ، ثمَّ أزال الحاجِزَ، فجاء الماءُ دَفعةً واحدةً فخَرَّبَ سُورَ البلد وكُلَّ ما يُجاوِرُ النَّهرَ مِن البَلَدِ، وأراد عبدُ المؤمِنِ أن يَدخُلَ البلَدَ فقاتَلَه أهلُه خارِجَ السُّورِ، فتعَذَّرَ دخولُ البلد، وكان بفاس عبدُ الله بنُ خيار الجياني عاملًا عليها وعلى جميعِ أعمالِها، فاتَّفَق هو وجماعةٌ مِن أعيانِ البَلَدِ، وكاتَبوا عبدَ المؤمِنِ في طَلَبِ الأمانِ لأهلِ فاس، فأجابَهم إليه، ففَتَحوا له بابًا من أبوابِها، فدخَلَها عَسكَرُه، وهَرَب يحيى بنُ الصَّحراويَّة، وكان فتْحُها آخِرَ سنة 540، وسار إلى طنجةَ ورتَّبَ عبدُ المؤمِنِ أمْرَ مدينةِ فاس، وأمَرَ فنُودِيَ في أهلِها: مَن تَرَك عنده سلاحًا وعِدَّةَ قِتالٍ، حَلَّ دَمُه، فحَمَلَ كُلُّ مَن في البَلَدِ ما عندهم من السِّلاحِ إليه، فأخَذَه منهم. ثم رجَعَ إلى مكناسة، ففعَلَ بأهلِها مثلَ ذلك، وقَتَل مَن بها مِن الفُرسانِ والأجناد. وأمَّا العسكَرُ الذي كان على تِلمسانَ فإنَّهم قاتلوا أهلَها، ونَصَبوا المجانيقَ وأبراجَ الخَشَبِ، وزَحَفوا بالدبَّاباتِ، وكان المُقَدَّمُ على أهلِها الفقيهُ عُثمان، فدام الحِصارُ نحوَ سَنةٍ، فلمَّا اشتَدَّ الأمرُ على أهلِ البَلَدِ اجتمَعَ جماعةٌ منهم وراسَلوا الموحِّدينَ أصحابَ عبدِ المؤمِنِ بغيرِ عِلمِ الفَقيهِ عُثمانَ، وأدخلوهم البَلَدَ، فلم يَشعُرْ أهلُه إلَّا والسَّيفُ يأخُذُهم، فقُتِلَ أكثَرُ أهلِه، وسُبِيَت الذريَّةُ والحريمُ، ونُهِبَ من الأموالِ ما لا يُحصى، ومِن الجواهِرِ ما لا تُحَدُّ قِيمَتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكَسِ الأثمانِ، وكان عِدَّةُ القتلى مِئةَ ألفِ قَتيلٍ، وقيل: إنَّ عبدَ المُؤمِنِ هو الذي حَصَرَ تلمسان، وسار منها إلى فاس.
دعوة البابا للقيام بحملة صليبية جديدة ثانية .
العام الهجري : 540 العام الميلادي : 1145
تفاصيل الحدث:
بعد أن تمكَّنَ الأتابك عِمادُ الدين زنكي مِن انتزاعِ الرَّها مِن يَدِ الصَّليبيِّينَ قام مَلِكُ القُدسِ بتَوجيهِ رِسالةِ استغاثةٍ إلى البابا أوجين الثَّالث، فكان لها الأثَرُ القَويُّ في الأوساطِ البابويَّة، فقَرَّرَ البابا تأليفَ حَملةٍ صليبيَّةٍ ثانيةٍ، وكَلَّفَ القِدِّيس برنارد كليرفو بالدَّعوةِ لهذه الحملةِ، فقام بعَقدِ عِدَّةِ مُؤتمرات في مُدُنِ فَرنسا وألمانيا يدعو فيها لحَملةٍ صَليبيَّةٍ جَديدةٍ، فأثار حماسَ النَّاسِ فأقبلوا للتطَوُّعِ في الحملةِ، ومنهم تألَّفَت الحملةُ الصَّليبيَّةُ الثانيةُ.
وفاة الإمام اللُّغويّ أبي منصور الجواليقي .
العام الهجري : 540 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1145
تفاصيل الحدث:
هو أبو منصورٍ موهوبُ بنُ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ الحَسَن بن الخضر الجواليقي البغداديُّ النحويُّ اللُّغويُّ. إمامُ الخليفةِ المقتفي, وكان إمامًا في فُنونِ الأدب. وُلِدَ في ذي الحجة سنة 465, ونشأ بباب المراتِبِ، قرأ على أبي زكريَّا سبع عشرة سنة, فانتهى إليه عِلمُ اللغة فأقرأها، ودرَّسَ العربيَّةَ في النظاميَّةِ بعد أبي زكريَّا مُدَّةً، فلما وَلِيَ المُقتفي اختَصَّ بإمامتِه في الصَّلاةِ, وكان المقتفي يقرأُ عليه شيئًا من الكُتُبِ. كان الجواليقي دَيِّنًا، ثقةً، وَرِعًا، غزيرَ الفَضلِ، وافِرَ العَقلِ، مَليحَ الخَطِّ، كثيرَ الضَّبطِ. صَنَّف التصانيفَ وانتشرت عنه، وشاع ذِكْرُه. قال ابن الجوزي: "كان غزيرَ الفَضلِ مُتواضِعًا في مَلبَسِه ورياستِه، طويلَ الصَّمتِ لا يقولُ الشَّيءَ إلَّا بعدَ التَّحقيقِ والفِكرِ الطَّويلِ، وكثيرًا ما كان يقولُ: لا أدري، وكان مِن أهلِ السُّنَّةِ. سَمِعتُ منه كثيرًا مِن الحديثِ وغَريبِ الحديثِ، وقرأتُ عليه كتابَه المُعرب وغيرَه من تصانيفِه، وقطعةً مِن اللُّغةِ". توفِّي سَحرةَ يوم الأحد مُنتصَفَ مُحَرَّم، وحضر للصَّلاةِ عليه الأكابِرُ، كقاضي القضاة الزينبي، وهو الذي صلَّى عليه، وصاحِبُ المخزنِ، وجماعةُ أربابِ الدولةِ، والعُلَماءُ والفُقَهاءُ، ودُفِنَ بباب حرب عند والدِه, وقد توفِّيَ وله من العمر 74 عامًا, ومن أشهَرِ كتبه "المعرَّب من كلامِ العَجَم" و"شَرحُ أدبِ الكاتِبِ" و "كِتابُ العَروض" و "التَّكملة فيما تلحَنُ فيه العامَّةُ".
استيلاء الموحدين على مراكش عاصمة المرابطين ونهاية دولتهم .
العام الهجري : 541 العام الميلادي : 1146
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فَرَغ عبدُ المؤمِنِ مِن فاس، سار إلى مراكشَ، وهي كرسيُّ مَملكةِ المُرابِطينَ، وهي مِن أكبَرِ المُدُنِ وأعظَمِها، وكان صاحِبُها حينئذ إسحاقَ بنَ عليِّ بنِ يوسف بن تاشفين، وهو صَبيٌّ، فنازلها، فضَرَب خيامَه في غَربيِّها على جَبَل صغيرٍ، وبنى عليه مدينةً له ولِعَسكَرِه، وبنى بها جامِعًا وبنى له بناءً عاليًا يُشرِفُ منه على المدينةِ، ويرى أحوالَ أهلِها وأحوالَ المُقاتِلينَ مِن أصحابِه، وقاتَلَها قِتالًا كثيرًا، وأقام عليها أحدَ عَشَرَ شَهرًا، فكان مَن بها من المُرابِطينَ يَخرُجونَ يُقاتِلونَهم بظاهرِ البلد، واشتد الجوعُ على أهلِه، وتعَذَّرَت الأقواتُ عِندَهم. ثمَّ زَحَف إليهم يومًا، وجعل لهم كمينًا، وقال لهم: إذا سَمِعتُم صوتَ الطَّبلِ فاخرُجوا. تقَدَّمَ عَسكَرُه، وقاتلوا، وصَبَروا، ثمَّ انهزموا لأهلِ مراكش لِيَتبَعوهم إلى الكمينِ الذي لهم، فتَبِعَهم المُلَثَّمونَ إلى أن وصلوا إلى مدينةِ عبد المؤمن، فهَدَموا أكثَرَ سُورِها، وصاحت المَصامِدة بعبدِ المؤمِنِ ليأمُرَ بضَربِ الطَّبلِ لِيَخرُجَ الكَمينُ، فقال لهم: اصبِروا حتى يَخرُجَ كُلُّ طامعٍ في البَلَدِ، فلمَّا خرج أكثَرُ أهلِه، أمر بالطَّبلِ فضُرِبَ وخَرَج الكمينُ عليهم، ورجَعَ المصامِدةُ المُنهَزمينَ إلى المُلَثَّمينَ، فقتلوا كيف شاؤوا، وعادت الهزيمةُ على المُلَثَّمين، فمات في زحمةِ الأبوابِ ما لا يُحصيه إلَّا اللهُ سُبحانَه. وكان شيوخُ المُلَثَّمين يُدَبِّرونَ دَولةَ إسحاقَ بنِ علي بن يوسف لصِغَرِ سِنِّه، فاتفق أنَّ إنسانًا مِن جملتهم يقال له عبدُ الله بن أبي بكر خرج إلى عبدِ المؤمِنِ مُستأمِنًا وأطلعه على عَوراتِهم وضَعْفِهم، فقَوِيَ الطمعُ فيهم، واشتَدَّ عليهم البلاءُ، ونُصِبَ عليهم المنجنيقاتُ والأبراجُ، وفَنِيَت أقواتُهم، وأكلوا دوابَّهم، ومات مِن العامَّةِ بالجوعِ ما يزيدُ على مئة ألف إنسان، فأنتن البَلَدُ مِن ريحِ الموتى. وكان بمراكش جيشٌ مِن الفرنج كان المرابِطونَ قد استنجدوا بهم، فجاؤوا إليهم نجدةً، فلمَّا طال عليهم الأمرُ، راسلوا عبد المؤمِنِ يسألونَ الأمانَ فأجابَهم إليه، ففَتَحوا له بابًا من أبواب البلدِ يقال له بابُ أغمات، فدخَلَت عساكِرُه بالسيف، وملكوا المدينةَ عَنوةً، وقَتَلوا مَن وجدوا، ووصلوا إلى دارِ أمير المُسلِمينَ، فأخرجوا الأميرَ إسحاقَ وجميعَ مَن معه من أمراء المرابطين فقُتِلوا، وجَعَل إسحاقُ يرتَعِدُ رَغبةً في البقاء، ويدعو لعبدِ المؤمِنِ ويبكي، فقام إليه سَيرُ بن الحاج، وكان إلى جانِبِه مكتوفًا فبَزَق في وجهِه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟ اصبِرْ صَبْرَ الرجالِ؛ فهذا رجلٌ لا يخافُ اللهَ ولا يَدينُ بدِينٍ. فقام الموحِّدونَ إلى ابنِ الحاجِّ بالخَشَبِ فضَرَبوه حتى قَتَلوه، وكان من الشُّجعانِ المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاقُ على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عُنُقُه سنة 542، وهو آخِرُ ملوكِ المرابطين، وبه انقَرَضَت دولتُهم، وكانت مُدَّةُ ملكِهم سبعين سَنة، ووَلِيَ منهم أربعةٌ: يوسف، وعلي، وتاشفين، وإسحاق. ولَمَّا فتَحَ عبدُ المؤمِنِ مراكش أقام بها، واستوطَنَها واستقَرَّ مُلكُه. قال ابنُ الأثير: "لَمَّا قَتَل عبدُ المؤمن مِن أهلِ مراكش فأكثَرَ فيهم القَتلَ، اختفى مِن أهلِها، فلَمَّا كان بعد سَبعةِ أيَّامٍ أمَرَ فنُودِيَ بأمانِ مَن بَقِيَ مِن أهلِها، فخَرَجوا، فأراد أصحابُه المَصامِدةُ قَتْلَهم، فمَنَعَهم، وقال: هؤلاء صُنَّاعٌ، وأهلُ الأسواقِ مَن ننتَفِعُ به، فتُرِكوا، وأمَرَ بإخراجِ القتلى مِن البَلَد، فأخرَجوهم، وبنى بالقَصرِ جامِعًا كبيرًا، وزخرَفَه فأحسَنَ عَمَلَه، وأمر بهَدمِ الجامع الذي بناه أميرُ المُسلِمينَ يوسُفُ بن تاشفين. ولقد أساء يوسُفُ بن تاشفين في فِعْلِه بالمُعتَمِد بنِ عَبَّاد صاحِبِ إشبيلية، وارتكَبَ بسَجنِه على أسوأِ حالةٍ وأقبَحِ مَركَبٍ، فلا جرَمَ سَلَّطَ الله عليه في عَقِبه مَن أربى في الأخذِ عليه وزاد، فتبارك الحيُّ الدائِمُ الملك، الذي لا يزولُ مُلكُه، وهذه سُنَّةُ الدنيا، فأُفٍّ لها، ثمَّ أُفٍّ، نسألُ اللهَ أن يَختِمَ أعمالَنا بالحُسنى.
استيلاء عبد المؤمن صاحب المغرب على الأندلس .
العام الهجري : 541 العام الميلادي : 1146
تفاصيل الحدث:
سَيَّرَ عبدُ المؤمن جيشًا إلى جزيرة الأندلس، فمَلَكوا ما فيها مِن بلاد الإسلامِ. وسَبَبُ ذلك أنَّ عبدَ المؤمِنِ لَمَّا كان يحاصِرُ مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلُسِ، منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين، ومعهم مكتوبٌ يتضَمَّنُ بيعة أهلِ البلاد التي هم فيها لعبدِ المؤمِنِ ودُخولهم في زُمرةِ أصحابِه المُوحِّدينَ، وإقامتهم لأمره، فقَبِلَ عبدُ المؤمِنِ ذلك منهم، وشَكَرَهم عليه، وطَيَّبَ قُلوبَهم، وطَلَبوا منه النُّصرةَ على الفِرنجِ، فجَهَّزَ جَيشًا كثيفًا وسَيَّرَه معهم، وعَمَر أسطولًا وسَيَّرَه في البحر، فسار الأسطولُ إلى الأندلس، وقَصَدوا مدينةَ إشبيليَّةَ، وصَعِدوا في نَهرِها، وبها جيشٌ مِن الملثَّمينَ، فحَصَروها برًّا وبحرًا ومَلَكوها عَنوةً، وقُتِلَ فيها جماعةٌ، وأَمِنَ النَّاسُ فسَكَنوا واستولت العساكِرُ على البلاد، وكان لعبدِ المؤمِنِ مَن بها.
احتلال الفرنج طرابلس الغرب .
العام الهجري : 541 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1146
تفاصيل الحدث:
احتَلَّ الفِرنجُ طرابلسَ الغَربِ، وسَبَبُ ذلك أنَّ رجار مَلِك صقليَّةَ جَهَّزَ أسطولًا كبيرًا وسَيَّرَه إلى طرابلُس الغَربِ، فأحاطوا بها برًّا وبحرًا، ثالِثَ المُحَرَّم، فخرج إليهم أهلُها وأنشَبوا القِتالَ، فدامَت الحَربُ بينهم ثلاثةَ أيَّامٍ، فلمَّا كان اليومُ الثَّالثُ سَمِعَ الفِرنجُ بالمدينةِ ضَجَّةً عَظيمةً، وخَلَت الأسوارُ مِن المُقاتِلة، وسَبَبُ ذلك أنَّ أهلَ طرابلُس كانوا قبل وصولِ الفرنجِ بأيَّامٍ يَسيرةٍ قد اختلفوا، فأخرج طائفةٌ منهم بني مطروح، وقَدَّموا عليهم رجُلًا مُلَثَّمًا قَدِمَ يُريدُ الحَجَّ ومعه جماعةٌ، فوَلَّوه أمْرَهم، فلمَّا نازَلهم الفِرنجُ أعادت الطَّائفةُ الأخرى بني مطروح، فوقَعَت الحَربُ بين الطائِفَتينِ، وخَلَت الأسوارُ، فانتهَزَ الفِرنجُ الفُرصةَ ونَصَبوا السَّلالِمَ، وصَعِدوا على السُّورِ، واشتَدَّ القِتالُ فمَلَكَت الفِرنجُ المدينةَ عَنوةً بالسَّيفِ، فسَفَكوا دماءَ أهلِها وسَبَوا نساءَهم، وهرب مَن قَدَر على الهرَبِ، والتجأ إلى البربَرِ والعَرَب، فنودِيَ بالأمانِ في النَّاسِ كافَّةً، فرجع كلُّ من فَرَّ منها، وأقام الفرنجُ سِتَّةَ أشهُرٍ حتى حَصَّنوا أسوارَها وحَفَروا خَندَقَها، ولَمَّا عادوا أخَذوا رهائِنَ أهلِها، ومعهم بنو مطروح والمُلَثَّم، ثمَّ أعادوا رهائِنَهم، ووَلَّوا عليها رجلًا من بني مطروح، واستقامت أمورُ المدينةِ وأُلزِمَ أهلُ صقلية والرُّوم بالسَّفَرِ إليها فانعَمَرت سريعًا وحَسُنَ حالُها.
اغتيال عماد الدين زنكي .
العام الهجري : 541 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1146
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ المنصورُ، أبو الجودِ الأتابك عِمادُ الدين زنكي بنُ الحاجِبِ قسيم الدولة آقسنقر بن عبد الله التركي، صاحِبُ المَوصِل. وُلِدَ سنة 477. قتل والِدُه, قسيمُ الدَّولةِ مملوكُ السُّلطانِ ألب أرسلان, وله يومئذٍ عَشرُ سنينَ، ولم يُخَلِّفْ والِدُه ولدًا غَيرَه، فالتَفَّ عليه غِلمانُ أبيه، ورَبَّاه كربوقا، وأحسَنَ إليه, فكان زنكي بطلًا شُجاعًا مِقدامًا كأبيه، عظيمَ الهَيبةِ مَليحَ الصُّورةِ، أسمرَ جميلًا، قد وَخَطَه الشَّيبُ، وكان عاليَ الهِمَّةِ، لا يَقِرُّ ولا ينامُ، فيه غَيرةٌ حتى على نِساءِ جُندِه، عَمَرَ البِلادَ, وكان يُضرَبُ بشجاعتِه المَثَلُ، وهو من أشجَعِ خَلقِ الله. قبل أن يَملِكَ شارك مع الأميرِ مودود صاحبِ المَوصِلِ حِصارَ مدينةِ طَبريَّة، وهي للفِرنجِ، فوصلت طعنتُه إلى بابِ البَلَدِ، وأثَّرَ فيه. وحمل أيضًا على قلعةِ عقر الحميدية، وهي على جَبَلٍ عالٍ، فوصَلَت طعنتُه إلى سورِها, وأمَّا بعدَ مُلكِه، فكان الأعداءُ مُحدِقينَ ببِلادِه، وكلُّهم يَقصِدُها، ويريدُ أخْذَها، وهو لا يَقنَعُ بحِفظِها، حتى إنَّه لا ينقضي عليه عامٌ إلَّا وهو يفتَحُ مِن بلادِهم, ومِن شجاعَتِه التي لم يُسمَعْ بمِثلِها أنَّه كان في نَفَرٍ أثناءَ حصارِ طَبَريَّة وقد خرج الفِرنجُ مِن البَلَدِ، فحمل عليهم هو ومَن معه وهو يَظُنُّ أنَّهم يَتبَعونَه فتخَلَّفوا عنه وتقَدَّمَ وَحْدَه وقد انهزَمَ مَن بظاهِرِ البلدِ مِن الفرنجِ فدخلوا البلَدَ ووَصَلَ رُمحُه إلى البابِ فأثَّرَ فيه، وقاتلهم عليه وبَقِي ينتظر وصولَ من كان معه فحيث لم يَرَ أحدًا حمى نفسَه وعاد سالِمًا، فعَجِبَ النَّاسُ مِن إقدامِه أوَّلًا، ومِن سلامتِه آخِرًا, وكان زنكي من الأمراءِ المُقَدَّمينَ، فوَّضَ إليه السُّلطان محمودُ بن ملكشاه شحنكية بغداد، سنة 511 في العامِ الذي وُلِدَ له فيه ابنُه المَلِك العادِلُ نورُ الدين محمود، ثمَّ عَيَّنه السُّلطانُ محمود على المَوصِل، بتوصيةٍ مِن القاضي بهاءِ الدينِ أبو الحَسَن علي بن الشهرزوي وصلاح الدين محمد الياغبساني بعد أن أشارا به على وزير السُّلطان بقَولِهما: "قد عَلِمْتَ أنت والسُّلطانُ أنَّ بلادَ الجزيرة والشَّام قد استولى الإفرنجُ على أكثَرِها وتمَكَّنوا منها وقَوِيَت شَوكتُهم، وكان البرسقي يَكُفُّ بعضَ عادِيَتِهم، فمُنذ قُتِلَ ازداد طَمَعُهم، وهذا وَلَدُه طِفلٌ صَغيرٌ ولا بُدَّ للبلادِ مِن شَهمٍ شُجاعٍ يَذُبُّ عنها ويحمي حَوزَتَها، وقد أنهينا الحالَ إليكم لئلَّا يجريَ خَلَلٌ أو وهَنٌ على الإسلامِ والمُسلِمينَ فنَحصُلَ نحن بالإثمِ مِن الله تعالى، واللوم من السُّلطانِ، فأنهى الوزيرُ ذلك إلى السُّلطان فأعجَبَه، وقال: مَن تَرَيانِ يَصلُحُ لهذه البلادِ، فذكرا جماعةً فيهم عمادُ الدين زنكي، وعَظَّمَا محَلَّه أكثَرَ مِن غَيرِه" فأجاب السُّلطانُ إلى توليَتِه؛ لِمَا عَلِمَ مِن شَهامَتِه وكفايتِه، فوَلَّاه البلادَ جَميعَها، وكتب بذلك منشورًا, ولَمَّا قَدِمَ زنكي المَوصِل سَلَّمَ إليه السُّلطانُ محمود وَلَديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليُرَبِّيهما؛ فلهذا قيل لزنكي "أتابك"؛ لأنَّ الأتابك هو الذي يُرَبِّي أولاد الملوك. سار زنكي مِن بغدادَ إلى البوازيج ليَملِكَها ويتقَوَّى بها. كان زنكي يُحسِنُ اختيارَ رِجالِه وقادتِه، فيَختارُ أصلَحَهم وأشجَعَهم, وأكرَمَهم لِمَهامِّ ولايتِه وقيادةِ جُيوشِه، وكان في المُقابِلِ يُكرِمُهم ويَحتفي بهم. عَمِلَ زنكي على تَرتيبِ أوضاعِ المَوصِلِ فقَرَّرَ قواعِدَها فولَّى نصير الدين جقر دزدارية قلعةَ المَوصِل, وجَعَلَ الصَّلاحَ مُحمَّدَ الياغبساني أميرَ حاجِبِ الدولة وجعَلَ بهاء الدين قاضيَ قُضاةِ بلادِه جَميعِها وما يفتَحُه مِن البلادِ، ووفَى لهم بما وعَدَهم وكان بهاءُ الدين أعظَمَ النَّاسِ عنده مَنزِلةً وأكرَمَهم عليه وأكثَرَهم انبساطًا معه وقُربًا منه، ورَتَّبَ الأمورَ على أحسَنِ نِظامٍ وأحكَمِ قاعدةٍ, ثمَّ تفَرَّغَ عِمادُ الدين زنكي لتحريرِ بلاد المُسلِمينَ مِن الفرنج، فبدأ بتَوحيدِ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ وهي أراضي المُسلِمينَ المحيطةُ بالفِرنجِ الصَّليبيِّينَ في الشَّامِ, ففَتَحَ مدائِنَ عِدَّةً، وكان خُصومُه من المُسلِمينَ محيطينَ به مِن كُلِّ الجِهاتِ، وهو ينتَصِفُ منهم، ويستولي على بلادِهم, وقد أحاطت ولاياتُهم بولايتِه مِن كُلِّ جِهاتِها، فهو يقصِدُ هذا مَرَّةً وهذا مَرَّةً، ويأخُذُ مِن هذا ويَصنَعُ هذا، إلى أن مَلَك مِن كُلِّ مَن يليه طَرفًا مِن بلادِه، وحاصَرَ دِمشقَ وصالَحَهم على أن خَطَبوا له بها، ثمَّ بعد ذلك اتَّجَه للفِرنجِ واستَنقَذَ منهم كفرطاب والمعرَّة ودوَّخَهم، وشَغَلَهم بأنفُسِهم، ودانت له البلادُ، وخَتَم جِهادَه معهم باستنقاذِ إمارةِ الرَّها منهم. قال أبو شامة: "كان الفِرنجُ قد اتَّسَعَت بلادُهم وكَثُرَت أجنادُهم، وعَظُمَت هيبتُهم، وزادت صَولَتُهم، وامتَدَّت إلى بلادِ المُسلِمينَ أيديهم، وضَعُفَ أهلُها عن كَفِّ عاديهم، وتتابعت غزواتُهم، وساموا المُسلِمينَ سوءَ العذابِ، واستطار في البلاد شَرَرُ شَرِّهم، وامتَدَّت مَملَكتُهم من ناحيةِ ماردين وشبختان إلى عريشِ مِصرَ، لم يتخَلَّلْه مِن ولاية المُسلِمينَ غير حَلَب وحَماة وحمص ودمشق، فلما نظَرَ اللهُ سُبحانَه إلى بلادِ المُسلِمينَ ولَّاها عِمادَ الدِّينِ زنكي فغزا الفرنجَ في عُقرِ دِيارِهم، وأخذَ للمُوحِّدينَ منهم بثَأرِهم، واستنقذ منهم حصونًا ومعاقِلَ" توجَّه أتابك زنكي إلى قلعةِ جعبر ومالِكُها يومذاك سيفُ الدولةِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ مالك، فحاصَرَها وأشرَفَ على أخْذِها، فأصبح زنكي يومَ الأربعاء خامِسَ شَهرِ ربيع الآخر سنة 541 مَقتولًا، قَتَلَه خادِمُه وهو راقِدٌ على فراشِه ليلًا، ودُفِنَ بصفين. ذَكَرَ بَعضُ خواصِّه قال: "دخَلْتُ إليه في الحالِ وهو حيٌّ، فحين رآني ظَنَّ أني أريدُ قَتْلَه، فأشار إليَّ بإصبُعِه السبَّابة يَستَعطِفُني، فوقَفْتُ مِن هَيبَتِه، وقلتُ له: يا مولانا، مَن فَعَل بك هذا فلم يَقدِرْ على الكلامِ، وفاضَت نفسُه لوقتِه"، فكان- رحمه الله- شديدَ الهَيبةِ على عَسكَرِه ورَعِيَّتِه، عظيمَ السِّياسةِ، لا يَقدِرُ القَويُّ على ظُلمِ الضعيفِ، وكانت البلادُ قبل أن يَملِكَها خرابًا من الظُّلمِ ومُجاوَرةِ الفِرنجِ، فعَمَرَها وامتلأت أهلًا وسُكَّانًا. قال عز الدين بنُ الأثير في تاريخه: "حكى لي والدي قال: رأيتُ المَوصِلَ وأكثَرُها خرابٌ، وكان الإنسانُ لا يَقدِرُ على المشيِ إلى الجامِعِ العتيقِ إلَّا ومعه مَن يحميه؛ لِبُعدِه عن العمارةِ، وهو الآن في وسَطِ العِمارةِ، وكان شديدَ الغيرةِ لا سِيَّما على نساءِ الأجنادِ، وكان يقول: لو لم تُحفَظْ نِساءُ الأجنادِ بالهَيبةِ وإلَّا فَسَدْنَ لِكَثرةِ غَيبةِ أزواجِهنَّ في الأسفارِ". فلمَّا قُتِلَ تَمَلَّك ابنُه نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وابنُه غازي بالمَوصِل.
تولي سيف الدين غازي إمارة المَوصِل .
العام الهجري : 541 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1146
تفاصيل الحدث:
لَمَّا قُتِلَ عِمادُ الدين زنكي أخذَ نورُ الدين محمود ولَدُه خاتَمَه مِن يَدِه، وكان حاضِرًا معه، وسار إلى حَلَب فمَلَكَها، وكان حينئذٍ يتوَلَّى ديوانَ زنكي، ويحكُمُ في دولتِه مِن أصحابِ العمائِمِ جَمالُ الدين محمَّدُ بنُ علي وهو المنفَرِدُ بالحكم، ومعه أمير حاجِب صلاح الدين محمد الياغيسياني، فاتَّفَقا على حِفظِ الدولة، وكان مع الشَّهيدِ أتابك المَلِكُ ألب أرسلان بن السُّلطان محمود، فرَكِبَ ذلك اليومَ، وأجمعت العساكِرُ عليه، وحَضَرَ عنده جمالُ الدين وصلاح الدين، وأدخلاه الرقَّة، فبَقِيَ فيها أيامًا لا يَظهَرُ، ثم سار إلى ماكسين، فدخَلَها، وأقام بها أيامًا، وجمالُ الدين يُحَلِّفُ الأمراءَ لِسَيفِ الدين غازي بن أتابك زنكي، ويُسَيِّرُهم إلى المَوصِل، ثمَّ سار من ماكسين إلى سنجار، فاجتمَعَ أكابِرُ الدولة، وفيهم الوزيرُ جمال الدين محمَّد الأصبهاني، المعروفُ بالجواد، والقاضي كمالُ الدين أبو الفضل محمد بن الشهروزي, وقَصَدوا خيمةَ ألب أرسلان، وقالوا له: كان عِمادُ الدين زنكي غُلامَك ونحن غِلمانُك، والبِلادُ لك، وطَمَّنوا الناسَ بهذا الكلامِ, ثمَّ إنَّ العَسكَرَ افتَرَق فِرقَتَين: فطائفةٌ منهم توجَّهت بصُحبة نور الدين محمودِ بنِ عماد الدين زنكي إلى الشَّام، والطائفة الثانيةُ سارت مع ألب أرسلان وعساكِرِ الموصِلِ وديار ربيعة إلى المَوصِل، فلمَّا انتهوا إلى سنجار تخيَّلَ ألب أرسلان منهم الغَدْرَ فتَرَكَهم وهَرَب، فلَحِقَه بعضُ العَسكَرِ ورَدُّوه، فلمَّا وصلوا إلى المَوصِل وصَلَهم سيفُ الدين غازي، وكان مُقيمًا بشهرزور؛ لأنَّها كانت إقطاعَه مِن جِهةِ السُّلطان مسعود السلجوقي، مَلِك المَوصِل وما كان لأبيه من ديار ربيعة، وترتَّبَت أحوالُه، وأخذ أخوه نورُ الدين محمود حَلَب وما والاها مِن بلادِ الشَّامِ، ولم تكُنْ دمشقُ يومئذٍ لهم.
أخبار مسير الحملة الصليبية الثانية .
العام الهجري : 542 العام الميلادي : 1147
تفاصيل الحدث:

تألَّفَت الحَملةُ الصَّليبيَّةُ الثانيةُ مِن ثلاثِ فِرَقٍ؛ الفِرقةُ الإنكليزيَّةُ التي اتَّجَهت من إنكلترا التي رَسَت سُفُنُها على سواحِلِ البرتغال بسَبَبِ العواصِفِ، فساهَموا في مساعدةِ أمير البرتغال ألفونسو الأوَّل في قتال المُسلِمينَ في لشبونةَ والاستيلاءِ عليها، ولم يُواصِلِ السَّيرَ إلى الأراضي المُقَدَّسة منهم إلَّا القليلُ، والفِرقَتانِ الألمانيَّة والفرنسيَّة ساراتا بَرًّا، فعَبَروا القُسطنطينيَّة، ولم تكُنْ على وفاقٍ مع الإمبراطور البيزنطي، وتعَرَّضَت هاتان الفرقتان للكثيرِ مِن الأخطار، كقِلَّةِ المُؤَنِ وانقِضاضِ السَّلاجِقةِ الرُّومِ عليهم.
مقتل بوزابة صاحب فارس وخوزستان .
العام الهجري : 542 العام الميلادي : 1147
تفاصيل الحدث:
لَمَّا عَلِمَ الأميرُ بوزابة بقَتلِ عَبَّاس صاحِبِ الرَّيِّ، جمَعَ عساكِرَه مِن فارس وخوزستان وسارَ إلى أصفهان فحَصَرَها، وسَيَّرَ عَسكرًا آخَرَ إلى همذان، وعَسكَرًا ثالثًا إلى قَلعةِ الماهكي من بلَدِ اللحفِ، فأمَّا عَسكَرُه الذي بالماهكي فإنَّه سار إليهم الأميرُ البقش كون خر فدَفعَهم عن أعمالِه وكانت أقطاعه، ثمَّ إنَّ بوزابة سار عن أصفهانَ يَطلُبُ السُّلطانَ مَسعودًا، فراسَلَه السُّلطانُ في الصُّلحِ، فلم يُجِبْ إليه، وسار مُجِدًّا فالتقيا بمَرج قراتكين، وتصافَّا، فاقتَتَلَ العَسكَرانِ، فانهزَمَت مَيمَنةُ السُّلطانِ مَسعودٍ ومَيسرتُه، واقتَتَل القَلبانِ أشَدَّ قتالٍ وأعظَمَه، صَبَرَ فيه الفريقانِ، ودامت الحَربُ بينهما، فسَقَطَ بوزابةُ عن فَرَسِه بسَهمٍ أصابَه، وقيل: بل عَثَرَ به الفَرَسُ فأُخِذَ أسيرًا وحُمِلَ إلى السُّلطان وقُتِلَ بين يديه، وانهزم أصحابُه لَمَّا أُخِذَ هو أسيرًا، وبَلَغَت هزيمةُ العسكر السُّلطاني من المَيمَنةِ والمَيسَرة إلى همذان، وقُتِلَ بين الفريقينِ خَلقٌ كَثيرٌ، وكانت هذه الحربُ مِن أعظَمِ الحُروبِ بين الأعاجِمِ.
الموحدون يخيرون أهل الذمة بين الإسلام أو اللحاق بدار الحرب .
العام الهجري : 542 العام الميلادي : 1147
تفاصيل الحدث:
لَمَّا استولى عبدُ المؤمن بنُ علي قائدُ المُوحِّدينَ على مراكش، أحضَرَ اليهودَ والنَّصارى، وقال: إنَّ الإمامَ المَهديَّ أمَرَني ألَّا أُقِرَّ النَّاسَ إلَّا على مِلَّةٍ واحدةٍ وهي الإسلامُ، وأنتم تَزعُمونَ أنَّ بعد الخَمسِمئة عام يظهَرُ مَن يُعضِّدُ شريعتَكم، وقد انقَضَت المُدَّةُ، وأنا مُخَيِّرُكم بين ثلاثٍ: إمَّا أن تُسلِموا، وإمَّا أن تَلحَقوا بدارِ الحَربِ، وإمَّا أن أضرِبَ رِقابَكم، فأسلم منهم طائِفةٌ، ولَحِقَ بدار الحَربِ أخرى. وأخرَبَ عبدُ المؤمِنِ الكنائسَ والبِيَعَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجِزيةَ، وفعل ذلك في جميعِ ولاياتِه.
سقوط بعض المدن الأندلسية في يد الأسبان .
العام الهجري : 542 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1147
تفاصيل الحدث:
في جمادى الأولى حَصَرَ الفِرنجُ مَدينةَ المرية مِن الأندلس، وضَيَّقوا عليها بَرًّا وبَحرًا، فملكوها عَنوةً، وأكثَروا القَتلَ بها والنَّهبَ، وملكوا أيضًا مدينةَ بياسة وولايةَ جيان.
ظفر عبد المؤمن قائد الموحدين بالملثمين في دكالة .
العام الهجري : 543 العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
سار بَعضُ المُرابِطينَ مِن المُلَثَّمينَ إلى دكالة، فاجتمَعَ إليه قبائِلِها، وصاروا يُغيرُونَ على أعمالِ مَراكشَ، وعبدُ المؤمِنِ لا يلتَفِتُ إليهم، فلمَّا كَثُرَ ذلك منهم سار إليهم سنةَ أربعٍ وأربعين وخمسمئة، فلمَّا سَمِعَت دكالة بذلك انحشَروا كُلُّهم إلى ساحِلِ البَحرِ في مئتي ألف راجلٍ وعشرين ألفَ فارسٍ، وكانوا مَوصوفين بالشَّجاعةِ، وكان مع عبدِ المؤمِنِ من الجيوشِ ما يخرج عن الحَصرِ، وكان الموضِعُ الذي فيه دكالةُ كَثيرَ الحَجَرِ والحزونة، فكَمَنوا فيه كُمَناءَ ليَخرُجوا على عبدِ المؤمِنِ إذا سلكه، فمِن الاتِّفاقِ الحَسَنِ له أنَّه قَصَدَهم من غيرِ الجِهةِ التي فيها الكُمَناءُ، فانحَلَّ عليهم ما قَدَّروه، وفارقوا ذلك الموضِعَ، فأخذهم السَّيفُ، فدخلوا البَحرَ، فقُتِلَ أكثَرُهم، وغُنِمَت إبِلُهم وأغنامُهم وأموالُهم، وسُبِيَت نساؤُهم وذراريُّهم، فبِيعَت الجاريةُ الحَسناءُ بدراهِمَ يَسيرةٍ، وعاد عبدُ المؤمِنِ إلى مراكِشَ مُنتَصِرًا، وثبَت مُلكُه، وخافه الناسُ في جميعِ المَغرِبِ، وأذعَنوا له بالطَّاعةِ.
فشل حصر الفرنج لدمشق في الحملة الصليبية الثانية .
العام الهجري : 543 العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
سار مَلِكُ الألمانِ مِن بلادِه في خَلقٍ كَثيرٍ وجَمْعٍ عَظيمٍ مِن الفرنج، عازمًا على قَصدِ بلادِ الإسلامِ، وهو لا يَشُكُّ في مِلكِها بأيسَرِ قِتالٍ؛ لكَثرةِ جُموعِه، وتوفُّرِ أموالِه وعُدَدِه، فلمَّا وَصَل إلى الشَّامِ قَصَده مَن به من الفرنجِ وخَدَموه، وامتَثَلوا أمْرَه ونَهْيَه، فأمَرَهم بالمسيرِ معهم إلى دمشقَ لِيَحصُرَها، فساروا معه ونازلوها وحَصَروها، وكان صاحِبُها مجير الدين أبق بن نوري بن طغتكين، وليس له من الأمر شيءٌ، وإنَّما الحُكمُ في البلد لِمُعين الدين أنر مملوكِ جَدِّه طغتكين، فجَمَعَ العساكِرَ وحَفِظَ البَلَدَ، وأقام الفرنجُ يُحاصِرونَهم، ثمَّ إنَّهم زَحَفوا سادِسَ ربيع الأوَّل بفارِسِهم وراجِلِهم، فخرج إليهم أهلُ البَلَدِ والعَسكَرُ فقاتَلوهم، وصَبَروا لهم، وقاتَلوا الفِرنجَ حتى قُتِلَ مُعين الدين عند النيرب نحوَ نِصفِ فرسَخٍ عن دِمشقَ وقَوِيَ الفرنجُ وضَعُفَ المُسلِمونَ، فتقَدَّمَ مَلِكُ الألمان حتى نزل بالميدانِ الأخضَرِ، فأيقَنَ النَّاسُ بأنَّه يَملِكُ البَلَدَ، وكان مُعينُ الدينِ قد أرسل إلى سيفِ الدين غازي بن أتابك صاحِبِ حَلَب يدعوه إلى نُصرةِ المُسلِمينَ وكَفِّ العدُوِّ عنهم، فجمع عساكِرَه وسار إلى الشَّامِ، واستصحَبَ معه أخاه نورَ الدين محمود من حَلَب، فنزلوا بمدينةِ حِمص، وأرسل إلى مُعين الدين يقول له: "قد حَضَرتُ ومعي كلُّ مَن يَحمِلُ السلاحَ من بلادي، فأريد أن يكونَ نُوَّابي بمدينة دمشق لأحضُرَ وألقى الفِرنجَ، فإن انهَزمتُ دخَلْتُ أنا وعسكري البَلَدَ، واحتمَينا به، وإن ظَفِرتُ فالبَلَدُ لكم لا أنازِعُكم فيه"، ثم أرسل إلى الفِرنجِ يتهَدَّدُهم إن لم يَرحَلوا عن البلَدِ، فكفَّ الفرنجُ عن القتال خوفًا من كثرةِ الجِراحِ، وربما اضطُروا إلى قتالِ سيف الدين، فأبقَوا على نُفوسِهم، فقَوِيَ أهلُ البلَدِ على حِفظِه، واستراحوا من لزومِ الحَربِ، وأرسل مُعينُ الدين إلى الفرنج الغُرَباء: "إنَّ مَلِكَ المَشرِق قد حضر، فإنْ رَحَلتُم، وإلَّا سَلَّمتُ البلدَ إليه، وحينئذٍ تَندَمونَ، وأرسل إلى فرنجِ الشام يقول لهم: بأيِّ عَقلٍ تُساعِدونَ هؤلاء علينا، وأنتم تعلمونَ أنهم إن مَلَكوا دمشقَ أخَذوا ما بأيديكم من البلادِ الساحليَّة، وأمَّا أنا فإن رأيتُ الضَّعفَ عن حِفظِ البلد سَلَّمتُه إلى سيف الدين، وأنتم تعلمونَ أنَّه إن ملك دِمشقَ لا يبقى لكم معه مُقامٌ في الشام"، فأجابوه إلى التَّخلي عن مَلِك الألمانِ، وبذل لهم تَسليمَ حِصنِ بانياس إليهم، واجتمَعَ السَّاحليَّة بمَلِك الألمان، وخَوَّفوه مِن سَيفِ الدين وكَثرةِ عَساكِرِه وتتابُعِ الأمداد إليه، وأنَّه ربما أخذ دمشقَ وتَضعُفُ عن مُقاومِته، ولم يزالوا به حتى رحَلَ عن البَلَدِ، وتسَلَّموا قلعة بانياس، وعاد الفرنجُ الألمانيَّةُ إلى بلادهم وهي من وراء القُسطنطينيَّة، وكفى اللهُ المؤمنينَ شَرَّهم. ذكر ابنُ كثيرٍ هذا الحِصارَ لدمشق فقال: "حاصَرَ الفِرنجُ دِمشقَ وهم سبعون ألفًا، ومعهم مَلِكُ الألمانُ في خَلقٍ لا يَعلَمُهم إلَّا اللهُ عَزَّ وجل، وعليها مُجير الدين أرتق وأتابكه مُعين الدين أنر، وهو مُدَبِّرُ المملكة، وذلك يومَ السبت سادس ربيع الأول، فخرج إليهم أهلُها في مئة ألف وثلاثين ألفًا، فاقتتلوا معهم قتالًا شَديدًا، قُتِلَ مِن المُسلِمينَ في أوَّلِ يَومٍ نحوٌ مِن مِئتَي رجُلٍ، ومن الفرنجِ خَلقٌ كَثيرٌ لا يُحصَونَ، واستمَرَّت الحَربُ مُدَّةً، واجتمَعَ النَّاسُ وسطَ صحْنِ الجامِعِ يدعونَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، والنِّساء والأطفال مُكشفي الرؤوس يدعون ويتباكَون، فاستغاث أرتق بنور الدينِ محمود صاحِبِ حلب وبأخيه سيفِ الدين غازي صاحِبِ المَوصِل، فقصداه سريعًا في نحوٍ مِن سبعينَ ألفًا بمن انضاف إليهم من الملوكِ وغَيرِهم، فلمَّا سَمِعَت الفرنج بقدوم الجيشِ تحولوا عن البلد، فلَحِقَهم الجيشُ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجَمًّا غفيرًا، وقتلوا قِسِّيسًا معهم اسمُه إلياس، وهو الذي أغراهم بدِمشقَ، وذلك أنَّه افترى منامًا عن المسيح أنَّه وعده فَتحَ دِمشقَ، فقُتِلَ- لعنه الله- وقد كادوا يأخُذونَ البَلَدَ، ولكِنَّ الله سَلَّمَ، وحماها بحَولِه وقُوَّتِه. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] ومدينةُ دِمشقَ لا سبيلَ للأعداء من الكَفَرةِ عليها؛ لأنَّها المحَلَّةُ التي أخبَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها أنَّها مَعقِلُ الإسلامِ عند الملاحِمِ والفِتَنِ، وبها يَنزِلُ عيسى بنُ مريم، وقد قَتَل الفرنجُ خَلقًا كَثيرًا مِن أهلِ دِمشقَ".
محاولة فرنج صقلية فتح قلعة إقليبية .
العام الهجري : 543 العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:

لَمَّا استَقَرَّت أحوالُ الفرنجِ في المهديَّة وصفاقِسَ سار قائِدُهم جرجي في أسطولٍ إلى قلعةِ إقليبيَّةَ، وهي قلعةٌ حَصينةٌ، فلَمَّا وصَلَ إليها سَمِعَت به العرب، فاجتَمَعوا إليها، ونزل إليهم الفِرنجُ، فاقتتلوا فانهزم الفِرنجُ وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فرجعوا خاسرين إلى المهديَّة، وصار للفِرنجِ مِن طرابلس الغَرب إلى قريبِ تُونُسَ ومِن المغرب إلى دونَ القَيروان.
الخلاف بين السُّلطان مسعود وجماعة من الأمراء .
العام الهجري : 543 العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
فارق السُّلطانُ مَسعودًا جماعةٌ مِن أكابِرِ الأمراءِ، وهم من أذربيجان: إيلدكر المسعودي، صاحِبُ كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك، وكان سَبَبُ ذلك مَيلَ السُّلطانِ إلى خاص بك واطِّراحَه لهم، فخافوا أن يَفعَلَ بهم مِثلَ فِعلِه بعبدِ الرَّحمنِ وعَبَّاس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، ووصل إليهم عليُّ بن دبيس صاحِبُ الحلة، فنزل بالجانب الغربيِّ، فجند الخليفةُ أجنادًا يحتمي بهم، ووقع القتالُ بين الأمراء وبين عامَّةِ بغداد ومَن بها مِن العَسكَرِ، واقتتلوا عِدَّةَ دَفعاتٍ، ففي بَعضِ الأيَّامِ انهزَمَ الأمراءُ الأعاجِمُ مِن عامَّةِ بغدادَ مَكرًا وخَديعةً، وتَبِعَهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بَعضُ العسكَرِ مِن ورائهم، ووضعوا السَّيفَ فقُتِلَ مِن العامَّةِ خَلقٌ كثير، ولم يُبقُوا على صغيرٍ ولا كبيرٍ، وفَتَكوا فيهم، فأصيبَ أهلُ بغداد بما لم يصابوا بمِثلِه، وكَثُرَ القتلى والجرحى، وأُسِرَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فقُتِلَ البعضُ وشُهر البَعضُ، ودفَنَ النَّاسُ مَن عرفوا، ومَن لم يُعرَفْ تُرِكَ طريحًا بالصَّحراءِ، وتفَرَّقَ العَسكَرُ في المحالِّ الغربية، فأخذوا مِن أهلِها الأموالَ الكثيرة، ونهَبوا بلدَ دجيل وغيره، وأخذوا النِّساءَ والولدان، ثمَّ إن الأمراءَ اجتَمَعوا ونزلوا مقابِلَ التاج وقَبَّلوا الأرضَ واعتَذروا، وتَردَّدَت الرُّسُلُ بينهم وبين الخليفةِ إلى آخِرِ النَّهارِ، وعادوا إلى خيامِهم، ورَحَلوا إلى النهروان، فنَهَبوا البلادَ، وأفسَدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد، ثمَّ إنَّ هؤلاء الأمراءَ تفَرَّقوا وفارَقوا العراقَ، وتوفِّيَ الأميرُ قيصر بأذربيجان، هذا كُلُّه والسُّلطانُ مَسعود مُقيمٌ ببَلَدِ الجبل، والرسُلُ بينه وبين عَمِّه السُّلطان سنجر مُتَّصِلة، فسار السُّلطانُ سنجر إلى الريِّ، فلَمَّا عَلِمَ السُّلطان مسعود بوصولِه سار إليه وترَضَّاه، واستنزله عمَّا في نَفسِه فسَكَنَ. وكان اجتماعُهما سنة 544.
انهزام الفرنج في أرض يغرى .
العام الهجري : 543 العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:

هزَمَ نورُ الدِّينِ محمود بن زنكي الفرنجَ بمكانٍ اسمُه يغرى مِن أرضِ الشَّامِ، وكانوا قد تجَمَّعوا ليقصِدوا أعمالَ حَلَب ليُغيروا عليها، فعَلِمَ بهم، فسار إليهم في عَسكَرِه، فالتَقَوا بيغرى واقتتلوا قتالًا شديدًا وأجْلَت المعركةُ عن انهزام الفرنج، وقُتِلَ كَثيرٌ منهم، وأُسِرَ جَماعةٌ مِن مُقَدَّميهم، ولم ينجُ من ذلك الجمعِ إلَّا القَليلُ، وأرسل من الغنيمةِ والأسارى إلى أخيه سيفِ الدين وإلى الخليفةِ ببغداد وإلى السُّلطانِ مَسعود وغَيرِهم.
سقوط مدينة طرطوشة بيد الفرنج بالأندلس .
العام الهجري : 543 العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
مَلَك الفِرنجُ بالأندلُسِ مَدينةَ طَرطوشة، ومَلَكوا معها جميعَ قِلاعِها وحُصونَ لاردة وأفراغة، ولم يبقَ للمُسلِمينَ في تلك الجِهاتِ شَيءٌ إلَّا واستولى الفِرنجُ عليه جميعِه؛ لاختلافِ المُسلِمينَ بينهم.
النورمانديون يحتلون مدينة المهدية بأفريقيا ونهاية دولة بني زيري .
العام الهجري : 543 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
اشتَدَّ الغلاءُ بإفريقيَّةَ مِن سنة 537 إلى سنة اثنتين وأربعين حتى أكَلَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، وخَلَت القرى، ولحِقَ كثيرٌ مِن النَّاسِ بجزيرة صقلية، فاغتنمَ رجار مُتمَلِّكُها الفُرصةَ وبعث جرج، مُقَدَّم أسطولِه، فنزل على المهديَّة ثامِنَ صفر سنة 542، وبها الحَسَنُ بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس، ففَرَّ بأخَفِّ حِملِه وتَبِعَه الناس، فدخل جرج المهديَّةَ بغيرِ مانعٍ، واستولى على قَصرِ الأمير حَسَن، وأخذ منه ذخائِرَ نَفيسةً وحظايا بديعاتٍ، وعزم حَسَن على المجيءِ إلى مصر، فقَبَضَ عليه يحيى بن العزيز، صاحِبُ بجاية، ووكَلَ به وبأولادِه، وأنزله في بعضِ الجزائر، فبَقي حتى ملك عبدُ المؤمنِ بنُ علي بجاية سنة 547، فأحسنَ إلى الأمير حسن وأقَرَّه في خدمتِه، فلَمَّا مَلَك المهديَّةَ تقَدَّمَ إلى نائبه بها أن يقتديَ برأيِ حَسَن ويَرجِعَ إلى قوله، وكان عِدَّةُ مَن ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحَسَن تسعةَ ملوك، ومُدَّةُ ولايتهم 208 سنوات، من سنة 335 إلى سنة 543, وفيها بَعَثَ رجار بن رجار مَلِكُ جزيرة صقلية إلى المهديَّة أُسطولَه، مائتين وخمسين من الشواني، مع جرجي بن ميخائيل، فجَدَّ في حِصارِها حتى أخَذَها في صفر، ومَلَك سوسة وصفاقس، وملك رجار بونة.
========= 
  102.      النورمان يستولون على سوسة وصفاقس .
العام الهجري : 543 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1148

تفاصيل الحدث:
لَمَّا استقَرَّ جرجي صاحب صقليَّة بالمَهديَّة، سَيَّرَ أسطولًا بعد أسبوع إلى مدينة صفاقس، وسَيَّرَ أسطولًا آخَرَ إلى مدينة سوسة، فأمَّا سوسة فإنَّ أهلَها لَمَّا سَمِعوا خبَرَ المهديَّة، وكان واليها عليَّ بنَ الحَسَن الأمير، فخرج إلى أبيه، وخرج النَّاسُ لخروجه، فدخلها الفِرنجُ بلا قتالٍ ثانيَ عَشَرَ صَفر، وأمَّا صفاقس فإنَّ أهلَها أتاهم كثيرٌ مِن العَرَبِ، فامتنعوا بهم، فقاتَلَهم الفرنج، فخرج إليهم أهلُ البَلَدِ فأظهَرَ الفِرنجُ الهزيمةَ، وتَبِعَهم الناسُ حتى أبعدوا عن البَلَدِ، ثمَّ عطَفوا عليهم، فانهزم قومٌ إلى البلد وقومٌ إلى البرِّيَّةِ، وقُتِلَ منهم جماعة، ودخل الفرنجُ البَلَدَ فمَلَكوه بعد قتالٍ شَديدٍ وقتلى كثيرةٍ، وأُسِرَ مَن بقي من الرجالِ وسُبِيَ الحَريمُ، وذلك في الثالثِ والعشرين من صفر، ثمَّ نودي بالأمان، فعاد أهلُها إليها، وافتَكُّوا حَرَمَهم وأولادَهم، ورَفَق بهم وبأهلِ سوسة والمهديَّة، وبعد ذلك وَصَلَت كتُبٌ مِن رجار لجميعِ أهلِ إفريقيَّة بالأمانِ والمواعيدِ الحَسَنةِ.
إفشال محاولة الانقلاب على الحافظ العبيدي الفاطمي .
العام الهجري : 543 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
توجَّه عَسكَرُ الحافِظِ الفاطميِّ صاحِبِ مِصرَ، في ثالِثَ صَفَر، لقتالِ لواتة وقد تجَمَّعوا وعَقَدوا الأمرَ لرَجُلٍ قَدِمَ مِن المغرب وادَّعى أنَّه وَلَدُ نزار بن المستنصِر الفاطمي، فسار إليهم العَسكَرُ وواقَعَهم على الحمَّامات وانهزم منهم العَسكرُ، فجَهَّزَ الحافِظُ عَسكَرًا آخَرَ، ودَسَّ إلى مُقَدَّمي لواتة مالًا جزيلًا، ووعدهم بالإقطاعاتِ، فغدروا بابن نزار وقَتَلوه، وبَعَثوا برأسِه إلى الحافِظِ، ورجعت العساكِرُ في ربيع الأول.
وفاة الفقيه المالكي ابن العربي الأندلسي .
العام الهجري : 543 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1148
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ القاضي: أبو بكر مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ بنِ مُحمَّد المعافري ابنُ العربيِّ الإشبيليُّ الأندلسيُّ المالكيُّ، صاحِبُ التَّصانيفِ, الحافِظُ المشهورُ مِن عُلَماءِ الأندلس، وُلِدَ ونشأ وتعلَّمَ بإشبيليَّة, كانت ولادتُه سنة 468, ثمَّ لَمَّا استولى المرابطونَ عليها رحل مع أبيه إلى المَشرِق, ثمَّ رجع إلى الأندلُسِ بعد أن دَفَنَ أباه في رِحلتِه إلى المشرق, ثم عاد مِن قُرطبةَ إلى مراكش وسُجِنَ فيها, ولَمَّا أُطلِقَ سَراحُه عاد إلى الأندلُسِ مَرَّةً أخرى. صَنَّفَ ابنُ العربيِّ وجَمَع، وبرَع في فُنونِ العِلمِ، وكان فصيحًا بليغًا خَطيبًا, واشتهر اسمُه، وكان رئيسًا مُحتَشِمًا وافِرَ الأموالِ، بحيث أنشأَ على إشبيليَّةَ سُورًا مِن ماله الخاصِّ، وهو أوَّلُ مَن أدخل بالأندلُسِ إسنادًا عاليًا، وعِلمًا جَمًّا, وكان ثاقِبَ الذِّهنِ، عَذْبَ المَنطِقِ، كريمَ الشمائلِ، كامِلَ السُّؤددِ، ولِيَ قَضاءَ إشبيليَّةَ، فحُمِدَت سياستُه، وكان ذا شِدَّةٍ وسَطوةٍ، فعُزِلَ وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وتدوينِه, ذكَرَه ابنُ بشكوال فقال: "هو الحافِظُ المُستَبحِر، خِتامُ عُلَماءِ الأندلُسِ، وآخِرُ أئمَّتِها وحُفَّاظها، لَقِيتُه بمدينةِ إشبيليَّةَ ضَحوةَ يوم الاثنين لِلَيلتَينِ خَلَتا من جمادى الآخرة سنة 516 فأخبَرَني أنَّه رحل إلى المشرق مع أبيه يومَ الأحد مُستهَلَّ شَهرِ ربيع الأول سنة 485 وأنَّه دخل الشَّامَ ولَقِيَ بها أبا بكر مُحَمَّدَ بنَ الوليد الطرطوشي، وتفَقَّه عنده، ودخل بغدادَ وسمِعَ بها مِن جماعةٍ مِن أعيانِ مَشايخِها، ثمَّ دخَلَ الحِجازَ فحَجَّ في موسمٍ سنة 489، ثمَّ عاد إلى بغدادَ وصَحِبَ بها أبا بكرٍ الشاشيَّ وأبا حامدٍ الغزالي وغيرَهما مِن العُلَماءِ والأُدَباء، ثمَّ صَدَرَ عنهم، ولَقِيَ بمصر والإسكندريَّةٍ جماعةً مِن المحدِّثينَ فكَتَبَ عنهم واستفاد منهم وأفادهم، ثمَّ عاد إلى الأندلس سنة 493، وقَدِمَ إلى إشبيليَّةَ بعِلمٍ كَثيرٍ لم يُدخِلْه أحدٌ قبلَه مِمَّن كانت له رِحلةٌ إلى المشرق. وكان مِن أهلِ التفَنُّنِ في العلومِ والاستبحارِ فيها والجَمعِ لها، مُقَدَّمًا في المعارِفِ كُلِّها، مُتكَلِّمًا في أنواعِها، نافِذًا في جميعِها، حريصًا على أدائها ونَشرِها، ثاقِبَ الذِّهنِ في تمييزِ الصَّوابِ منها، ويجمَعُ إلى ذلك كُلِّه آدابَ الأخلاقِ مع حُسنِ المعاشرةِ ولِينِ الكَنَفِ وكثرةِ الاحتمالِ، وكَرَمِ النَّفسِ وحُسنِ العَهدِ وثَباتِ الوُدِّ. واستُقضِيَ ببلدةٍ فنَفَعَ اللهُ به أهلَها لصرامتِه وشِدَّتِه ونفوذِ أحكامِه، وكانت له في الظَّالِميَن سَوْرة مرهوبة، ثمَّ صُرِفَ عن القضاء، وأقبَلَ على نَشرِ العِلمِ وبَثِّه". قال الذهبي: "كان أبوه أبو مُحمَّدٍ مِن كِبار أصحابِ أبي محمَّد بن حزم الظاهريِّ بخلاف ابنِه القاضي أبي بكر؛ فإنَّه مُنافِرٌ لابنِ حَزمٍ، مُحِطٌّ عليه بنَفسٍ ثائرةٍ" ولابن العربي تصانيفُ عديدةٌ، منها، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، وله أحكامُ القُرآنِ، والنَّاسِخُ والمنسوخ في القرآن، والمحصول في عِلْم الأصول، وله عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، وغَيرُها من الكتب. توفِّيَ في طريقه في المغيلة بالقُربِ مِن فاس عند رجوعِه مِن مراكش، ونُقِلَ إلى فاس، ودُفِنَ بمقبرة الجيَّاني.
استيلاء نور الدين محمود زنكي على سنجار .
العام الهجري : 544 العام الميلادي : 1149
تفاصيل الحدث:
لَمَّا مَلَك قُطبُ الدين مودود المَوصِلَ بعد أخيه سيف الدين غازي، كان أخوه الأكبَرُ نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وله حَلَب وحَماة، فكاتبه جماعةٌ مِن الأمراء وطَلَبوه، وفيمن كاتَبَه المُقَدَّم عبدُ الملك والد شمس الدين محمد، وكان حينئذٍ مُستَحفظًا بسنجار، فأرسَلَ إليه يستدعيه ليتسَلَّمَ سنجار، فسار نور الدين جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- في سبعينَ فارِسًا مِن أُمَراءِ دَولتِه، فوصَلَ إلى ماكسين في نَفَرٍ يَسيرٍ قد سَبَق أصحابَه، ولحِقَ به باقي أصحابِه، ثم سار إلى سنجار، فوصَلَها وليس معه سوى ركَّابي وسلاح دار، ونزل بظاهرِ البلد وأرسل إلى المُقَدَّم يُعلِمُه بوصوله، فرآه الرسولُ وقد سار إلى الموصِلِ وتَرَك ولده شمس الدين مُحمَّدًا بالقلعة، فأعلَمَه بمسيرِ والده إلى المَوصِل، وأقام مَن لَحِقَ أباه بالطريقِ، فأعلمه بوصولِ نور الدين، فعاد إلى سنجار فسَلَّمَها إليه، فدخَلَها نور الدين، وأرسل إلى فخرِ الدِّينِ قرا أرسلان، صاحِبِ الحصن يستدعيه إليه؛ لِمَودَّةٍ كانت بينهما، فوصلَ إليه في عَسكَرِه، فلَمَّا سمع أتابك قطب الدين، وجمال الدين وزين الدين بالمَوصِلِ بذلك جَمَعوا عساكِرَهم وساروا نحو سنجار، فوصلوا إلى تل يعفر، وترَدَّدَت الرسُلُ بينهم بعد أن كانوا عازمينَ على قَصدِه بسنجار، فقال لهم جمالُ الدين: ليس مِن الرأيِ مُحاقته وقِتالُه، وأشار بالصُّلحِ، وسار هو إليه فاصطلح وسَلَّمَ سنجار إلى أخيه قُطب الدين، وسَلَّم مدينةَ حِمص والرحبة بأرضِ الشَّامِ، وبَقِيَ الشام له، وديارُ الجزيرة لأخيه، واتفقا، وعاد نور الدين إلى الشَّامِ، وأخذ معه ما كان قد ادَّخَره أبوه أتابك الشَّهيد فيها من الخزائِنِ، وكانت كثيرةً جِدًّا.
انتصارات نور الدين محمود زنكي على الصليبيين .
العام الهجري : 544 العام الميلادي : 1149
تفاصيل الحدث:
غزا نورُ الدين محمودُ بن زنكي بلادَ الفِرنجِ مِن ناحيةِ أنطاكيةَ، وقَصَد حِصنَ حارم، وهو للفِرنجِ، فحَصَره وخَرَّب رَبضَه، ونهَبَ سَوادَه، ثمَّ رحل إلى حِصنِ أنب فحَصَرَه أيضًا، فاجتمع الفرنجُ مع البرنس صاحبِ أنطاكية وحارم وتلك الأعمال، وساروا إلى نورِ الدين لِيُرحِلوه عن إنب، فلَقِيَهم واقتتلوا قتالًا عظيمًا، وباشَرَ نور الدين القِتالَ ذلك اليوم، فانهزم الفرنجُ أقبَحَ هَزيمةٍ، وقُتِلَ منهم جمعٌ كثيرٌ، وأُسِرَ مِثلُهم، وكان ممَّن قُتِلَ الأميرُ ريمون بواتيه صاحِبُ أنطاكية، وكان عاتيًا مِن عُتاةِ الفرنج، وعظيمًا مِن عُظَمائِهم، ولَمَّا قُتِلَ البرنس مَلَكَ بعده ابنُه بيمند، وهو طفل، فتزوَّجَت أمُّه بأميرٍ آخَرَ ليُدَبِّرَ البَلَدَ إلى أن يكبَرَ ابنُها، وأقام معها بأنطاكية، ثمَّ إنَّ نور الدين غزاهم غزوةً أخرى، فاجتَمَعوا ولَقُوه، فهزَمَهم وقَتَل فيهم وأسَرَ، وكان فيمن أُسِرَ البرنس الثاني زوجُ أم بيمند، فتمَكَّنَ حينئذٍ بيمند بأنطاكيةَ، وأكثَرَ الشُّعَراءُ بمَديحِ نور الدين وتهنِئَتِه بهذا الظَّفَرِ؛ فإنَّ قَتلَ البرنسِ كان عظيمًا عند الطائِفَتينِ.
وفاة القاضي عياض الأندلسي .
العام الهجري : 544 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1149
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العَلَّامة الحافِظُ الأوحَدُ، شَيخُ الإسلامِ القاضي أبو الفَضلِ عِياضُ بنُ موسى بنِ عِياضِ بنِ عَمرِو بنِ موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عِياض اليحصبي الأندلسي، ثمَّ السبتي، المالكيُّ، قاضي سبتة. أحدُ مشايخ العُلَماءِ المالكيَّة، أصلُه من الأندلُسِ انتَقَلَ جَدُّه عَمرٌو مِن الأندلُسِ إلى مدينة فاس، ثمَّ مِن فاس إلى سبتة, ووُلِدَ القاضي عياض بسبتة في النِّصفِ مِن شعبان سنة 476, لم يَحمِل القاضي العِلمَ في الحداثة، وأوَّلُ شَيءٍ أخذه عن الحافِظِ أبي علي الغساني إجازةً مُجَرَّدة، وكان يُمكِنُه السَّماعُ منه. بدأ بطلب العلمِ في الثانية والعشرين مِن عُمُرِه, ثمَّ رحل إلى الأندلس سنة 503، فاستبحَرَ مِن العُلومِ، وجمَعَ وألَّف، وسارت بتصانيفِه الرُّكبانُ، واشتُهِرَ اسمُه في الآفاقِ، حتى أصبح إمامَ وَقتِه في الحديثِ وعُلومِه، والفِقهِ واللُّغةِ والأدَبِ، وأيَّامِ الناس، وله مُصَنَّفات كثيرةٌ مُفيدةٌ شاهِدةٌ على إمامتِه، منها: الشَّفا بتعريف حقوق المصطفى، وشَرحُ مُسلِم، ومشارِقُ الأنوار، وشَرحُ حديث أم زرع، وغير ذلك، وله شِعرٌ حَسَنٌ. قال خلف بن بشكوال تلميذُه: "هو مِن أهلِ العِلمِ والتفَنُّنِ والذَّكاءِ والفَهمِ، استُقضِيَ بسبتةَ مُدَّةً طويلةً، حُمِدَت سِيرتُه فيها، ثمَّ نُقِلَ عنها إلى قضاءِ غِرناطة سنة 532، فلم يُطَوِّلْ بها، وقَدِمَ علينا قُرطُبةَ، فأخَذْنا عنه". قال الفقيهُ محمد بن حماده السبتي: "جلس القاضي للمُناظرة وله نحوٌ مِن ثمان وعشرين سنة، ووَلِيَ القضاءَ وله خمس وثلاثون سنة، كان هيِّنًا مِن غَيرِ ضَعفٍ، صُلبًا في الحَقِّ، تفَقَّه على أبي عبدِ الله التميمي، وصَحِبَ أبا إسحاق بن جعفر الفقيه، ولم يكُنْ أحَدٌ بسبتة في عَصرِه أكثَرَ تواليفَ مِن تواليفِه" ذكره الذهبي بقوله: "تواليفُه نَفيسةٌ، وأجَلُّها وأشرَفُها كِتابُ (الشَّفا) لولا ما قد حشاه بالأحاديثِ المُفتَعَلةِ عَمَلَ إمامٍ لا نَقْدَ له في فَنِّ الحديثِ ولا ذَوْقَ، واللهُ يُثيبُه على حُسنِ قَصْدِه، وينفَعُ بـ (شِفائِه) وقد فَعَل، وكذا فيه من التأويلاتِ البَعيدةِ ألوانًا، ونبيُّنا صَلَواتُ الله عليه وسلامُه غَنِيٌّ بمِدحةِ التَّنزيلِ عن الأحاديثِ، وبما تواتَرَ مِن الأخبارِ عن الآحادِ، وبالآحادِ النَّظيفةِ الأسانيدِ عن الواهياتِ، فلماذا يا قومِ نتشَبَّعُ بالموضوعاتِ؟ فيتطَرَّق إلينا مقالُ ذَوي الغِلِّ والحَسَدِ، ولكِنْ مَن لا يعلَمُ مَعذورٌ، فعليك يا أخي بكتاب (دلائل النبوة) للبَيهقيِّ؛ فإنَّه شِفاءٌ لِما في الصُّدور، وهُدًى ونُور" مات بمراكش يومَ الجُمُعةِ في جمادى الآخرةِ، وقيل في رمضانَ، بمدينة سبتة, ودُفِنَ بباب إيلان داخِلَ المَدينةِ.
وفاة سيف الدين بن أتابك زنكي وملك أخيه قطب الدين بعده .
العام الهجري : 544 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1149
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ سَيفُ الدين غازي بن أتابك زنكي صاحِبُ المَوصِل تَمَلَّكَ المَوصِلَ بعدَ أبيه، واعتَقَلَ ألب أرسلان السلجوقي, وكان عاقِلًا حازِمًا شُجاعًا جَوادًا، محبًّا أهلَ الخَيرِ، لم تَطُلْ مُدَّتُه، وعاش أربعين سنة. وكان أحسَنَ الملوك شكلًا، وله مَدرسةٌ كبيرة بالمَوصِل، وهي من أحسَنِ المدارس، وقَفَها على الفُقَهاءِ الحَنَفيَّة والشَّافعيَّة، توفِّيَ في المَوصِل بمَرَضٍ حادٍّ، ولَمَّا اشتَدَّ مَرَضُه أرسل إلى بغدادَ واستدعى أوحَدَ الزَّمان، فحضَرَ عنده، فرأى شِدَّةَ مَرَضِه، فعالجَه فلم يَنجَعْ فيه الدَّواءُ، وتوفِّيَ أواخِرَ جمادى الآخرة، وكانت ولايتُه ثلاث سنين وشهرًا وعشرين يومًا، توفِّيَ ولم يترك سوى ولدٍ مات شابًّا، ولم يُعقبْ. ولَمَّا تُوفِّيَ سَيفُ الدين غازي كان أخوه قُطب الدين مودود مُقيمًا بالمَوصِل، فاتَّفَق جمال الدين الوزير وزَينُ الدين عليٌّ أميرُ الجَيشِ على تمليكِه، فأحضروه، واستحلفوه وحَلَفوا له، وأركَبوه إلى دارِ السَّلطَنةِ، وزينُ الدين في ركابِه، وأطاعه جميعُ بلاد أخيه سيفِ الدين كالمَوصِل والجزيرةِ والشَّامِ.
وفاة الحاكم الفاطمي الحافظ لدين الله وتولي ابنه الظافر بأمر الله .
العام الهجري : 544 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1149
تفاصيل الحدث:
هو الحافِظُ لدينِ الله عبدُ المجيد بنُ الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله الفاطمي العُبَيدي حاكِمُ مصر، كان في جميعِ مُدَّةِ حُكمِه محكومًا عليه، يَحكُمُ عليه وزراؤُه، حتى إنَّه جَعَلَ ابنَه حسنًا وزيرًا ووَلِيَّ عَهدِه فحَكَمَ عليه واستبَدَّ بالأمرِ دونَ أبيه وقَتَلَ كثيرًا مِن أُمَراءِ دَولةِ أبيه وصادَرَ كثيرًا، فلما رأى الحافِظُ ذلك سقى الحسَنَ سُمًّا فمات. توفِّيَ الحافِظُ بعد أن أصابه مَرَضٌ شديدٌ، وقد ثارت فِتنةٌ بين العَسكَرِ والريحانيَّة أصحاب الحَسَن، وهَمُّوا بخَلعِ الحافِظِ، فنُقِلَ إلى قصر لؤلؤة وهو مَريضٌ فمات به، وكانت مُدَّةُ حُكمِه عشرينَ سَنةً إلَّا خمسة أشهر، وولِيَ الحُكمَ بَعدَه في مصرَ ابنُه الظَّافِرُ بأمرِ اللهِ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بنُ عبد المجيد الحافِظ، وبُويِعَ له في اليوم الذي مات فيه الحافِظُ لدين الله، وعُمُرُه سَبعَ عَشرةَ سَنةً وأربعة أشهر وعشرة أيام، بوَصيِّةٍ مِن أبيه له بالحُكمِ، وكان أصغَرَ أولادِه.
فتح نور الدين محمود زنكي حصن فاميا وأعزاز .
العام الهجري : 545 العام الميلادي : 1150
تفاصيل الحدث:
فتَحَ نور الدين محمود بنُ الشهيد زنكي حِصنَ فاميا من الفرنجِ، وهو مُجاوِرٌ شيزر وحماة على تَلٍّ عالٍ، مِن أحصَنِ القِلاعِ وأمنَعِها، فسار إليه نورُ الدين وحَصَرَه وبه الفِرنجُ، وقاتَلَهم وضَيَّقَ على مَن به منهم، فاجتمع فِرنجُ الشَّامِ وساروا نحوَه لِيُرحِلُوه عنه فلم يَصِلوا إلَّا وقد مَلَكَه وملأَه ذخائِرَ وسِلاحًا ورِجالًا وجميعَ ما يُحتاجُ إليه، فلَمَّا بلغه مَسيرُ الفرنج إليه، رحَلَ عنه وقد فرغ مِن أمرِ الحِصنِ وسار إليهم يَطلُبُهم، فحين رأوا أنَّ الحِصنَ قد مُلِكَ، وقُوَّةَ عَزمِ نُورِ الدين على لقائِهم، عَدَلوا عن طريقِه، ودخلوا بلادَهم وراسلوه في المُهادَنةِ وعاد سالِمًا مُظَفَّرًا، ومَدَحَه الشُّعَراءُ وذَكَروا هذا الفَتحَ, ثمَّ فَتَحَ نور الدين حِصنَ إعزاز، وأسَرَ ابنَ مَلِكِها بن جوسلين، ففَرِحَ المُسلِمون بذلك، ثمَّ أسَرَ بعده والده جوسلين الفرنجي، فتزايَدَت الفَرحةُ بذلك، وفتَحَ بلادًا كَثيرةً مِن بلادِ الفِرنجِ.
أبو جعفر بن أبي أحمد الأندلسي أول وزراء الموحدين في الأندلس .
العام الهجري : 545 العام الميلادي : 1150
تفاصيل الحدث:
استوزَرَ عبدُ المُؤمِنِ صاحبُ بلادِ المغرب أبا جَعفر بنَ أبي أحمد الأندلسي، وكان مأسورًا عنده، فوُصِفَ له بالعَقلِ وجَودةِ الكتابة، فأخرَجَه من الحَبسِ واستوزَرَه، وهو أوَّلُ وزيرٍ كان للمُوَحِّدينَ.
حصر الفرنج قرطبة ورحيلهم عنها .
العام الهجري : 545 العام الميلادي : 1150
تفاصيل الحدث:
سار السليطين- وهو الأذفونش مَلِكُ طليطلة وأعمالِها، وهو مِن مُلوك الجلالقة، نوعٌ من الفرنج- في أربعينَ ألفَ فارسٍ إلى مدينةِ قُرطُبةَ، فحَصَرَها، وهي في ضَعفٍ وغَلاءٍ، فبَلَغَ الخبَرُ إلى عبدِ المؤمن وهو في مراكش، فجَهَّزَ عَسكرًا كثيرًا، وجعَلَ مُقَدَّمَهم أبا زكرياء يحيى بن يرموز، ونفَذَهم إلى قُرطُبةَ، فلَمَّا قَرُبوا منها لم يَقدِروا أن يلقَوا عسكَرَ السليطين في الوطاءِ، وأرادوا الاجتماعَ بأهلِ قُرطُبةَ ليَمنَعوها لخَطَرِ العاقبةِ بعد القتال، فسَلَكوا الجِبالَ الوَعْرةَ والمضايقَ المُتشَعِّبةَ، فساروا نحوَ خمسة وعشرين يومًا في الوَعرِ في مسافة أربعةِ أيَّامٍ في السَّهلِ، فوصلوا إلى جَبَلٍ مُطِلٍّ على قرطبة، فلمَّا رآهم السليطين وتحَقَّقَ أمرَهم رحَلَ عن قُرطُبةَ، فلما رحل الفرنجُ خرَجَ منها أميرُها لوَقتِه وصَعِدَ إلى ابنِ يرموز، وقال له: انزِلوا عاجلًا وادخُلوا البلد؛ ففعلوا، وباتوا فيها، فلما أصبحوا من الغَدِ رأوا عَسكَرَ السليطين على رأسِ الجَبَلِ الذي كان فيه عَسكَرُ عبد المؤمن، فقال لهم أبو الغمر: "هذا الذي خِفتُه عليكم؛ لأني عَلِمتُ أنَّ السليطين ما أقلَعَ إلَّا طالبًا لكم، فإنَّ مِن المَوضِعِ الذي كان فيه إلى الجَبَلِ طَريقًا سهلةً، ولو لَحِقَكم هناك لنال مرادَه منكم ومِن قُرطُبةَ"، فلمَّا رأى السليطين أنَّهم قد فاتوه عَلِمَ أنَّه لم يَبقَ له طَمَعٌ في قُرطُبةَ، فرحل عائدًا إلى بلادِه، وكان حَصرُه لقُرطُبةَ ثلاثةَ أشهُرٍ.
اعتداء العرب على أهل الحج بين مكة والمدينة .
العام الهجري : 545 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1150
تفاصيل الحدث:
في الرابعَ عَشَرَ مِن مُحَرَّم خَرَجَ العَرَبُ، زعب ومَن انضَمَّ إليها، على الحُجَّاج بالغرابي، بين مَكَّة والمدينة، فأخذوهم ولم يَسلَمْ منهم إلَّا القليلُ، وكان سَبَبُ ذلك أنَّه سار على الحاجِّ قايماز الأرجواني، وكان حَدَثًا غِرًّا، سار بهم إلى مكَّةَ، فلمَّا رأى أميرُ مكَّةَ قايماز استصَغَرَه وطَمِعَ في الحاجِّ، وتلَطَّفَ قايماز الحالَ معه إلى أن عادوا، فلمَّا سار عن مكَّةَ سَمِعَ باجتماعِ العَرَبِ، فقال للحاجِّ: المصلحةُ أنَّا لا نمضي إلى المدينةِ، وضَجَّ العَجَمُ وتَهَدَّدَه بالشكوى منه إلى السُّلطانِ سنجر، فقال لهم: فأعطُوا العَرَبَ مالًا نَستكِفُّ به شَرَّهم! فامتنعوا من ذلك، فسار بهم إلى الغرابي، وهو مَنزِلٌ يَخرُجُ إليه مِن مَضيقٍ بين جبلين، فوَقَفوا على فَم مَضيقٍ، وقاتلهم قايماز ومَن معه، فلمَّا رأى عَجْزَه أخَذَ لنَفسِه أمانًا، وظَفِروا بالحُجَّاجِ، وغَنِموا أموالَهم وجميعَ ما عِندَهم، وتفَرَّقَ الناسُ في البَرِّ، وهلك منهم خلقٌ كَثيرٌ لا يُحصَونَ كَثرةً، ولم يَسلَمْ إلَّا القليل، فوصل بعضُهم إلى المدينةِ وتحَمَّلوا منها إلى البلادِ، وأقام بعضُهم مع العرب حتى توصَّلَ إلى البلادِ. قال ابن الأثير: "ثمَّ إن الله تعالى انتصَرَ للحاجِّ مِن زعب، فلم يزالوا في نَقصٍ وذِلَّةٍ، ولقد رأيتُ شابًّا منهم بالمدينةِ سنة 576، وجرى بيني وبينه مفاوضةٌ، قلت له فيها: إنَّني- واللهِ- كنتُ أَميلُ إليك حتى سمعتُ أنَّك مِن زعب، فنَفَرْتُ وخِفتُ شَرَّك. فقال: ولمَ؟ فقلت: بسبَبِ أخْذِكم الحاجَّ. فقال لي: أنا لم أدرِكْ ذلك الوقتَ، وكيف رأيتَ اللهَ صَنَعَ بنا؟ واللهِ ما أفلَحْنا، ولا نجَحْنا؛ قَلَّ العَدَدُ وطَمِعَ العدوُّ فينا"!
نور الدين زنكي يعتقل جوسلين الفرنجي ويفتح عددا من القلاع .
العام الهجري : 546 العام الميلادي : 1151
تفاصيل الحدث:
جمعَ نُورُ الدِّينِ مَحمود بن زنكي عَسكَرَه وسار إلى بلادِ جوسلين الفرنجي، وهي شَماليَّ حَلَب منها تل باشر، وعين تاب، وإعزاز وغيرها، وعَزَمَ على مُحاصَرتِها وأخْذِها، وكان جوسلين فارِسَ الفِرنجِ غَيرَ مُدافَعٍ، قد جمع الشَّجاعةِ والرَّأيَ، فلَمَّا عَلِمَ بذلك جَمَعَ الفِرنجَ فأكثَرَ، وسار نحوَ نور الدين فالتَقَوا واقتتلوا، فانهزم المُسلِمونَ وقُتِلَ منهم وأُسِرَ جمعٌ كثيرٌ، وكان في جُملةِ مَن أُسِرَ سلاحُ دار نور الدين محمود، فأخذه جوسلين، ومَعَه سلاحُ نور الدين، فسَيَّرَه إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان، صاحِبِ قونية، وأقصرا، وقال له: هذا سِلاحُ زَوجِ ابنَتِك، وسيأتيك بعده ما هو أعظَمُ منه، فلمَّا عَلِمَ نور الدين محمود الحالَ، عَظُمَ عليه ذلك، وأعمَلَ الحيلةَ على جوسلين، وهَجَرَ الراحةَ ليأخُذَ بثَأرِه، وأحضَرَ جَماعةً مِن أمراء التركمان، وبذَلَ لهم الرَّغائِبَ إن هم ظَفِروا بجوسلين وسَلَّموه إليه إمَّا قتيلًا أو أسيرًا؛ لأنَّه عَلِمَ أنَّه متى قَصَدَه بنفسه احتمى بجُموعِه وحُصونِه، فجعل التُّركمانُ عليه العُيونَ، فخرج مُتصَيِّدًا، فلَحِقَت به طائفةٌ منهم وظَفِروا به فأخذوه أسيرًا، فصانَعَهم على مالٍ يُؤدِّيه إليهم، فأجابوه إلى إطلاقِه إذا حضَرَ المالُ، فأرسل في إحضارِه، فمضى بعضُهم إلى أبي بكر بن الداية، نائِبِ نورِ الدين بحَلَب، فأعلَمَه الحالَ، فسَيَّرَ عَسكرًا معه، فكَبَسوا أولئك التُّركمانَ وجوسلين معهم، فأخذوه أسيرًا وأحضَروه عنده، وكان أسْرُه من أعظَمِ الفُتوحِ؛ لأنَّه كان شَيطانًا عاتيًا، شديدًا على المُسلِمينَ، قاسيَ القَلبِ، وأُصيبَت النصرانيَّةُ كافَّةً بأسْرِه، ولَمَّا أُسِرَ سار نور الدين إلى قلاعِه فمَلَكَها، وهي تل باشر، وعين تاب، وإعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان، وبرج الرصاص، وحصن البارة، وكفرسود، وكفرلاثا، ودلوك، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك من أعمالِه، في مُدَّةٍ يسيرةٍ، وكان نورُ الدين كلَّما فتح منها حِصنًا نقل إليه مِن كُلِّ ما تحتاجُ إليه الحُصونُ؛ خَوفًا من نَكسةٍ تَلحَقُ بالمُسلِمينَ من الفِرنجِ، فتكون بلادُهم غيرَ مُحتاجةٍ إلى ما يَمنَعُها من العَدُوِّ.
حصار الموحدين غرناطة والمرية من بلاد الأندلس .
العام الهجري : 546 العام الميلادي : 1151
تفاصيل الحدث:
سَيَّرَ عبدُ المؤمن قائِدُ الموحِّدينَ جَيشًا كثيفًا، نحو عشرينَ ألفَ فارسٍ، إلى الأندلُسِ مع أبي حَفصٍ عُمَرَ بن أبي يحيى الهنياتي، وسَيَّرَ معهم نساءَهم، فكُنَّ يَسِرْنَ مُفرَداتٍ عليهن البَرانِسُ السُّودُ، ليس معهنَّ غَيرُ الخَدَمِ، ومتى قَرُبَ منهن رجلٌ ضُرِبَ بالسياط، فلما قَطَعوا الخليجَ ساروا إلى غرناطةَ وبها جمعُ المرابطين، فحَصَرَها عُمَرُ وعَسكَرُه، وضَيَّقوا عليها، فجاء إليه أحمَدُ بنُ ملحان، صاحِبُ مدينة آش وأعمالها، بجماعته، ووحَّدوا، وصاروا معه، وأتاهم إبراهيمُ بن همشك بن مردنيش، صاحبُ جيان، وأصحابُه، ووحدوا، وصاروا أيضًا معه، فكَثُرَ جَيشُه، وحَرَّضوه على المسارعة إلى ابن مردينش، مَلِك بلاد شرق الأندلس، لِيَبغَتَه بالحصار قبل أن يتجَهَّزَ، فلما سمع ابن مردنيش ذلك خاف على نفسِه، فأرسل إلى ملك برشلونة مِن بلاد الفرنج، يُخبِرُه ويَستَنجِدُه ويَستَحِثُّه على الوصول إليه، فسار إليه الفرنجيُّ في عشرة آلاف فارس، وسار عسكَرُ عبد المؤمن، فوصلوا إلى حمة بلقوارة، فسَمِعوا بوصول الفِرنجِ، فرجع وحَصَرَ مدينةَ المرية- وهي للفرنج- عِدَّةَ شُهورٍ، فاشتَدَّ الغَلاءُ بالعَسكَرِ، وعَدِمَت الأقواتُ، فرحَلوا عنها وعادوا إلى إشبيليَّةَ فأقاموا بها.
قتال الإسماعيلية في طريثيث .
العام الهجري : 546 العام الميلادي : 1151
تفاصيل الحدث:
سار الأميرُ قجق في طائفةٍ مِن عَسكَرِ السُّلطان سنجر إلى طريثيث بخُراسان، وأغار على بلادِ الإسماعيليَّةِ فنَهَب وسَبى، وخَرَّب وأحرَقَ المساكِنَ، وفعل بهم أفاعيلَ عَظيمةً، وعاد سالِمًا، وكان في السَّنةِ الماضيةِ أمَرَ علاءُ الدين محمود بن مسعود- الغالبُ على أمر طريثيث التي بِيَدِ الإسماعيليَّةِ- بإقامةِ الخُطبةِ للخَليفةِ، ولُبْسِ السَّوادِ، ففَعَلَ الخَطيبُ ذلك، فثار به عَمُّه وأقاربُه ومَن وافَقَهم، وقاتلوه، وكسَروا المِنبَرَ وقتلوا الخَطيبَ.
غزو جيش المصريين الفرنج بالشام والانتصار عليهم .
العام الهجري : 546 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1151
تفاصيل الحدث:
جهَّزَ أبو منصورٍ عليُّ بنُ إسحاق، المعروفُ بالعادِلِ ابن السلار، وهو وزيرُ الظَّافِرِ الفاطميِّ، المَراكِبَ الحَربيَّةَ بالرِّجالِ والعُدَد، وسَيَّرَها إلى يافا، فأسَرَت عِدَّةً مِن مراكِبِ الفِرنجِ، وأحرقوا ما عَجَزوا عن أخْذِه، وقَتَلوا خلقًا كثيرًا مِن الفِرنجِ بها، ثمَّ تَوجَّهوا إلى ثَغرِ عكَّا، فأنكَوا فيهم، وساروا منه إلى صيدا وبيروت وطرابلس، فأبلوا بلاءً حسنًا، وظَفِروا بجماعةٍ مِن حُجَّاج ِالفِرنجِ فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وبلغ ذلك المَلِكَ العادِلَ نور الدين محمود بن زنكي، مَلِك الشام، فعَزَمَ على قَصدِ الفِرنجِ ومُحارَبتِهم في البَرِّ، ولو قُدِّرَ ذلك لقَطَعَ اللهُ دابِرَ الفِرنجِ، لكِنَّه اشتغل بإصلاحِ أمورِ دِمشقَ، وعاد الأسطول مُظفَرًا بعدَما أنفق عليه العادِلُ ثلثمئة ألف دينار، وسَبَبُ مَسيرِ الأسطول تخريبُ الفرنج للفَرما.
ظفر عبد المؤمن قائد الموحدين بصنهاجة .
العام الهجري : 547 العام الميلادي : 1152
تفاصيل الحدث:
لَمَّا مَلَكَ عَبدُ المؤمِنِ بجايةَ تَجَمَّعَت صنهاجةُ في أُمَمٍ لا يُحصِيها إلَّا الله تعالى، وتقَدَّمَ عليهم رجلٌ اسمُه أبو قصبة، واجتمع معهم مِن كتامة ولواتة وغيرِهما خلقٌ كَثيرٌ، وقَصَدوا حَرْبَ عبد المؤمن، فأرسل إليهم جيشًا كبيرًا، ومُقَدَّمُهم أبو سعيد يخلف، فالتَقَوا في عرض الجَبَلِ شرقي بجاية، فانهزم أبو قصبة وقُتِلَ أكثَرُ مَن معه، ونُهِبَت أموالُهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريُّهم، ولَمَّا فَرَغوا من صنهاجة ساروا إلى قلعةِ بني حَمَّاد، وهي من أحصَنِ القلاعِ وأعلاها، لا تُرامُ، على رأسِ جَبَلٍ شاهِقٍ يكاد الطَّرْفُ لا يُحَقِّقُها لعُلُوِّها، ولكِنَّ القَدَرَ إذا جاء لا يَمنَعُ منه مَعقِلٌ ولا جيوشٌ، فلَمَّا رأى أهلُها عساكِرَ المُوحِّدينَ، هربوا منها في رؤوسِ الجبال، ومُلِكَت القَلعةُ، وأُخِذَ جَميعُ ما فيها من مالٍ وغَيرِه، وحُمِلَ إلى عبدِ المُؤمِنِ فقَسمَه.
نهاية دولة بني حماد بالمغرب .
العام الهجري : 547 العام الميلادي : 1152
تفاصيل الحدث:
سارَ عبدُ المُؤمِنِ بنُ علي إلى بجاية ومَلَكَها، ومَلَك جميعَ مَمالِكِ بني حَمَّاد. وكان لَمَّا أراد قَصْدَها سار من مراكِشَ إلى سبتة سنة 546، فأقام مُدَّةً يَعمُر الأسطولَ، ويَجمَعُ العساكِرَ القَريبةَ منه، فكتَبَ لِمَن في طريقِه إلى بجاية ليتجَهَّزوا ويكونوا على الحَرَكةِ أيَّ وَقتٍ طَلَبَهم، والنَّاسُ يَظُنونَ أنَّه يريدُ العبور إلى الأندلُسِ، فأرسل في قَطعِ السَّابلةِ عَن بلادِ شَرقِ المَغرِبِ بَرًّا وبَحرًا، وسار مِن سبتة في صفر سنة 547، فأسرع السَّيرَ وطَوى المراحِلَ، والعساكِرُ تلقاه في طريقِه، فلم يَشعُرْ أهلُ بجاية إلَّا وهو في أعمالها، وكان مَلِكُها يحيى بن العزيز بن حماد آخرَ مُلوكِ بني حمَّاد، وكان مُولَعًا بالصَّيدِ واللَّهوِ، لا ينظُرُ في شَيءٍ مِن أمورِ مَملَكَتِه، فلَمَّا اتَّصَلَ الخبَرُ بميمون بن حمدون، جمَعَ العساكِرَ وسار عن بجاية نحوَ عبد المؤمن، فلَقِيَهم مُقَدِّمةُ عبد المؤمن، وهم يزيدون على عشرينَ ألف فارس، فانهزم أهلُ بجاية مِن غَيرِ قِتالٍ، ودخَلَت مُقَدِّمةُ عبد المؤمن بجاية قَبلَ وصول عبدِ المؤمِنِ بيومين، وتفَرَّقَ جَميعُ عَسكَرِ يحيى بن عبد العزيز، وهَرَبوا برًّا وبحرًا، وتحَصَّن يحيى بقلعةِ قسنطينة الهوى، وهَرَبَ أخواه الحارِثُ وعبد الله إلى صقليَّةَ، ودخل عبدُ المؤمن بجاية، ومَلَك جميعَ بلاد يحيى بن العزيز بغَيرِ قِتالٍ، ثمَّ إنَّ يحيى نَزَل إلى عبدِ المُؤمِنِ بالأمان، فأمَّنَه، ولَمَّا فَتَحَ عبدُ المؤمِنِ بجاية لم يتعَرَّضْ إلى مالِ أهلِها ولا غَيرِه، وسَبَبُ ذلك أن بني حمدون استأمنوا فوفَى بأمانِه، وكان يحيى قد فَرِحَ لَمَّا أُخِذَت بلادُ إفريقيَّةَ مِن الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس فرحًا ظَهَرَ عليه، فكان يَذُمُّه، ويَذكُرُ مَعايبَه، فلم تَطُلِ المدَّةُ حتى أُخِذَت بلادُه هو، فسُبحانَ مُقَلِّبِ الأمورِ! ووصل الحسَنُ بنُ علي إلى عبدِ المؤمِنِ في جزائر بني مزغنان، واجتَمَعا عنده، فأرسل عبدُ المؤمن يحيى بن العزيز إلى بلادِ المغرب، وأقام بها، وأجرى عليه شيئًا كثيرًا, وأمَّا الحَسَنُ بن علي فإنَّه أحسَنَ إليه، وألزَمَه صُحبَتَه، وأعلى مرتَبَتَه، فلَزِمَه إلى أنْ فَتَحَ عبد المؤمن المهديَّة فجَعَلَه فيها، وأمَرَ واليَها أن يقتَدِيَ برأيِه ويَرجِعَ إلى قَولِه.
الحرب بين نور الدين محمود زنكي وبين الفرنج .
العام الهجري : 547 العام الميلادي : 1152
تفاصيل الحدث:
تَجَمَّعَت الفِرنجُ، وحَشَدَت الفارِسَ والرَّاشِدَ، وساروا نحوَ نُورِ الدين محمود، وهو ببلاد جوسلين، ليَمنَعوه عن مِلْكِها، فوَصَلوا إليه وهو بدلوك، فلمَّا قَرُبوا منه رجَعَ إليهم ولَقِيَهم، وجرى المصافُّ بينهم عند دلوك، واقتَتَلوا أشَدَّ قِتالٍ رآه النَّاسُ، وصَبَرَ الفريقان، ثم انهزمَ الفِرنجُ، وقُتِلَ منهم وأُسِرَ كَثيرٌ، وعاد نور الدين محمود إلى دلوك، فمَلَكَها واستولى عليها.
انقضاء دولة بني سبكتكين عن بلاد غزنة .
العام الهجري : 547 العام الميلادي : 1152
تفاصيل الحدث:
اقتتل السُّلطانُ سنجر ومَلِك الغور علاءُ الدين الحسين بن الحسين أوَّلُ مُلوكِهم، فكَسَرَه سنجر وأسَرَه، ثم عَفا عنه وأطلَقَه إلى بلاده، ثمَّ إن علاء الدين قَصَدَ غزنةَ, ومَلِكُها حينئذ بهرام شاه بن إبراهيمَ بنِ مَسعودِ بنِ محمود بن سبكتكين فلم يَثبُتْ بها بين يدي علاءِ الدينِ الغوريِّ، بل فارَقَها إلى كرمان، وهي مدينةٌ بينَ غزنةَ والهندِ، وسُكَّانُها قَومٌ يُقالُ لهم أبغان، فلمَّا فارق بهرام شاه غزنةَ مَلَكَها علاء الدين، وأحسَنَ السيرةَ في أهلِها، واستعمَلَ عليهم أخاه سيف الدين سوري، وأجلسه على تخت المَملكةِ، وخَطَب لنَفسِه ولأخيه سيفِ الدِّينِ بَعْدَه، ثمَّ عاد علاءُ الدين إلى بلد الغور، وأمَرَ أخاه أن يخلَعَ على أعيانِ البَلَدِ خِلَعًا نفيسةً، ويَصِلَهم بصِلاتٍ سَنِيَّةٍ، ففَعَلَ ذلك وأحسنَ إليهم، فلمَّا جاء الشتاء ووقَعَ الثَّلجُ، وعَلِمَ أهل غزنة أنَّ الطَّريقَ قد انقطَعَ إليهم، كاتَبوا بهرام شاه الذي كان صاحِبَها، واستدعوه إليهم، فسار نحوَهم في عسكَرِه، فلما قارب البلَدَ ثار أهلُه على سيف الدين فأخذوه بغيرِ قتالٍ، وكان العلويُّونَ هم الذين تولَّوا أسْرَه، وانهزم الذين كانوا معه، فمنهم مَن نجا، ومنهم من أُخِذَ، ثمَّ إنَّهم سَوَّدوا وَجهَ سَيفِ الدين، وأركبوه بقرةً وطافوا به البلَدَ، ثمَّ صَلَبوه، وقالوا فيه أشعارًا يَهجُونَه بها وغنى بها حتى النِّساءُ، فلمَّا بلغ الخبَرُ إلى أخيه علاء الدين الحسين قال شعرًا معناه: إنْ لم أقلَعْ غزنةَ في مَرَّةٍ واحدة، فلَسْتُ الحسين بن الحسين؛ ثم توفِّيَ بهرام شاه ومَلَك بعده ابنُه خسروشاه، وتجهَّزَ علاء الدين الحُسَين وسار إلى غزنة سنة 550، فلمَّا بلغ الخبَرُ إلى خسروشاه سار عنها إلى لهاوور، ومَلَكَها علاء الدين، ونَهَبها ثلاثة أيام، وأقام بغزنةَ حتى أصلَحَها، ثم عاد إلى فيروزكوه، وتلَقَّبَ بالسُّلطانِ المُعَظَّم وحَمَلَ الجتر على عادةِ السلاطين السلجوقية، فكان خسروشاه آخِرَ مُلوك سبكتكين وبه انقَضَت دولتُهم التي دامت مائتين وثلاث عشرة سنةً تَقريبًا.
========
103. وفاة السُّلطان السلجوقي مسعود وتولي ابن أخيه ملكشاه بعده .
العام الهجري : 547 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1152

تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ الكَبيرُ، غِياثُ الدِّينِ، أبو الفَتحِ مَسعودُ بنُ مُحَمَّد بن ملكشاه أحَدُ مُلوكِ السُّلجوقيَّة المشاهير، نشأ بالمَوصِل مع أتابك مودود، ورَبَّاه، ثم مع آقسنقر البرسقي، ثمَّ مع خوش بك صاحِبِ المَوصِل، فلمَّا مات والِدُه، حَسَّنَ له خوش بك الخروجَ على أخيه محمود، فالتَقَيا، فانكسر مسعودٌ، ثم تنقلت به الأحوالُ، واستقل بالسَّلطَنةِ سنة 528، وقَدِمَ بغداد. كان عادِلًا لَيِّنًا، كبيرَ النَّفسِ، فَرَّقَ مَملَكَتَه على أصحابِه، وما ناوأه أحَدٌ إلا وظَفِرَ به، وقَتَلَ خَلقًا مِن كبار الأُمراء والخليفتَينِ المُستَرشِدَ والرَّاشِدَ, وكان قد خلَعَ الرَّاشدَ وأقام المُقتَفيَ، كما جرت بينه وبين عَمِّه سنجر منازعةٌ، ثم تصالحَا. قال ابنُ الأثير: كان كثيرَ المزاحِ، حسَنَ الخلُقِ، كريمًا، عفيفًا عن أموالِ الرعيَّةِ، مِن أحسَنِ السَّلاطينِ سِيرةً، وأليَنِهم عريكةً. قلت: أبطَلَ مُكوسًا ومَظالِمَ كَثيرةً، وعَدَلَ، واتَّسَعَ مُلكُه، وكان يَميلُ إلى العُلَماءِ والصَّالحينَ، ويتواضع لهم. أقبل مسعودٌ على الاشتغالِ باللَّذاتِ والانعكافِ على مُواصَلةِ وُجوهِ الرَّاحات، مُتَّكِلًا على السَّعادةِ تَعمَلُ له ما يُؤثِرُه، إلى أن حَدَثَ له القَيءُ والغثيان، واستمَرَّ به ذلك إلى أن توفِّيَ في حادي عشر جمادى الآخرة، وقيل يوم الأربعاء، الثاني والعشرين بهمذان, ومات معه سعادةُ البيت السلجوقي لم يَقُمْ لهم بعدَه رايةٌ يُعَتَدُّ بها ولا يُلتَفَتُ إليها، وكان مسعودٌ عَهِدَ إلى ملكشاه بن أخيه السُّلطانِ محمود، فلمَّا توفِّيَ مَسعودٌ خُطِبَ لملكشاه بالسَّلطنةِ، ورَتَّبَ له الأمورَ الأميرُ خاص بك بن بلنكري، وقَرَّرَها بين يديه، وأذعَنَ له جميعُ العَسكَرِ بالطَّاعةِ، ثم جاء أخوه السُّلطانُ مُحمَّدٌ وانتزع المُلْكَ منه، وكانت مُدَّةُ سَلطنةِ مسعود إحدى وعشرين سنة تقريبًا.
النزاع على السلطنة بعد وفاة السُّلطان مسعود السلجوقي .
العام الهجري : 547 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1152
تفاصيل الحدث:
لَمَّا مات السُّلطان مسعود، قال خاص بك لملكشاه: "سأقبِضُ عليك صُورةً، وأطلُبُ أخاك محمَّدًا لأُمَلِّكَه، فإذا جاء أمسَكْناه، وتستَقِلَّ أنت. قال: فافعَلْ. فما نَفَقَ خُبثُه على محمَّدٍ، وجاء إلى همذان، فبادر العَسكَرُ إليه، فقال: كلامُكم مع خاص بك فهو الوالِدُ، فوصل هذا القَولُ إلى خاص بك، فاطمَأَنَّ، وتلَقَّاه، وقَدَّمَ له تُحَفًا، ثمَّ قُتِلَ خاص بك، وخَلَّفَ أموالًا جزيلةً مِن بعضِها سبعون ألفَ ثوب أطلس. قال المؤيَّدُ: بَدَرَه السُّلطانُ مُحمَّد ثاني يوم مِن قُدومِه، وقتَلَه"، وقَتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفَرَّقَ أصحابُهما، ولم ينتَطِحْ فيهما عَنزانِ، وأخذ مُحمَّدٌ مِن أموالِ خاص بك شيئًا كثيرًا واستقَرَّ مُحمَّدٌ في السلطنة وتمكَّنَ، وبَقِيَ خاص بك مُلقًى حتى أكلَتْه الكِلابُ، وكان صبيًّا تُركمانيًّا اتصل بالسُّلطانِ مَسعود، فتقَدَّمَ على سائر الأمراءِ، وكانت هذه خاتِمةَ أمْرِه.
الصليبيون يستولون على عسقلان من العبيديين الفاطميين بمصر .
العام الهجري : 548 العام الميلادي : 1153
تفاصيل الحدث:
مَلَكَ الفِرنجُ بالشَّامِ مَدينةَ عَسقلان، وكانت مِن جُملةِ مَملكةِ الظَّافِرِ بالله الفاطميِّ المصريِّ، وكان الفِرنجُ كُلَّ سَنةٍ يَقصِدونَها ويَحصُرونَها، فلا يَجِدونَ إلى مِلْكِها سَبيلًا، وكان الوُزراء بمِصرَ لهم الحُكمُ في البلاد، والحُكَّامُ معهم اسمٌ لا معنى تحته، وكان الوزراءُ كُلَّ سَنَةٍ يُرسِلونَ إليها الذَّخائِرَ والأسلِحةَ والأموال والرِّجالَ مَن يَقومُ بحِفظِها، فلمَّا كان في هذه السَّنَةِ قُتِلَ ابنُ السلار الوزيرُ، واختَلَفَت الأهواءُ في مصر، وولِيَ عَبَّاس الوَزارةَ، إلى أن استَقَرَّت قاعدة، فاغتَنَم الفرنج اشتغالَهم عن عسقلان، فاجتَمَعوا وحَصَروها، فصَبَرَ أهلُها، وقاتَلوهم قِتالًا شديدًا، حتى إنَّهم بعضَ الأيامِ قاتلوا خارِجَ السُّورِ، ورَدُّوا الفِرنجَ إلى خيامِهم مَقهورينَ، وتَبِعَهم أهلُ البَلَدِ إليها فأَيِسَ حينئذ الفِرنجُ مِن مِلْكِها، فبينما الفِرنجُ على عَزمِ الرَّحيلِ إذ أتاهم الخبَرُ أنَّ خِلافًا قد وقع بين أهلِ عَسقلان، وقُتِلَ بينهم قتلى، فصبَرَ الفِرنجُ، وكان سَبَبُ هذا الاختلاف أنَّهم لَمَّا عادوا عن قِتالِ الفِرنجِ قاهرينَ مَنصورينَ، ادَّعَت كلُّ طائفةٍ منهم أن النُّصرةَ مِن جِهتِهم كانت، وأنَّهم هم الذين رَدُّوا الفِرنجَ خاسِرينَ، فعَظُمَ الخِصامُ بينهم إلى أن قُتِلَ مِن إحدى الطائفتَينِ قَتيلٌ، واشتَدَّ الخَطبُ حينئذ، وتفاقَمَ الشَّرُّ، ووقعت الحَربُ بينهم، فقُتِلَ بينهم قتلى، فزاد طَمَعُ الفِرنجِ في عَسقلان، فزَحَفوا إليها وقاتَلوهم عليها، فلم يَجِدوا مَن يَمنَعُهم فمَلَكَوها.
اجتياح الغز الأتراك على بلاد خرسان وإبادة أهلها .
العام الهجري : 548 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1153
تفاصيل الحدث:
لَمَّا مَلَك الخطا بلادَ ما وراءَ النَّهرِ، خَرَجَ منها الغُزُّ الأتراكُ وهم طائفةٌ مِن مُسلِمي التُّركِ، كانوا بما وراء النَّهرِ، فقَصَدوا خراسان وكانوا خَلقًا كثيرًا، فأقاموا بنواحي بَلخٍ يَرْعَون في مراعيها، فأراد الأميرُ قماج وهو صاحِبُ بلخ، إبعادَهم، فصانعوه بشَيءٍ مِن المال بَذَلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالةٍ حَسَنةٍ لا يؤذونَ أحدًا، يُقيمونَ الصَّلاةَ, ويُؤتُونَ الزَّكاةَ, ثمَّ إنَّ قماج عاوَدَهم وأمَرَهم بالانتِقالِ عن بلَدِه، فامتَنَعوا، وانضَمَّ بَعضُهم إلى بعضٍ، واجتَمَعَ معهم غَيرُهم من طوائِفِ التُّركِ، فسار قماج إليهم في عَشرةِ آلافِ فارِسٍ، فجاء إليه أمراؤُهم وسألوه أن يَكُفَّ عنهم، ويَترُكَهم في مَراعيهم، ويُعطونَه مِن كلِّ بَيتٍ مِئَتي دِرهمٍ فِضَّة، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، وشَدَّدَ عليهم في الانتزاحِ عن بَلَدِه، فعادوا عنه، واجتَمَعوا وقاتلوه، فانضَمَّ إليه العسكَرُ الخُراساني, فلمَّا سَمِعوا بقُربِ الغز الأتراك منهم أجفَلوا مِن بينِ يَدَيه هاربين؛ لِما دخَلَ قُلوبَهم مِن خَوفِهم والرُّعبِ منهم؛ فلَمَّا فارقها السُّلطانُ سنجر والعَسكَر، دخَلَها الغز ونَهَبوها أفحَشَ نَهبٍ وأقبَحَه، وذلك في جمادى الأولى من هذه السَّنةِ، وقُتِلَ بها كثيرٌ مِن أهلِها وأعيانِها، ولَمَّا خرج سنجر مِن مَروٍ قَصَدَ إندرابة وأخَذَه الغزُّ أسيرًا، ثم عاودوا الغارةَ على مَروٍ في رَجَب مِن هذه السَّنةِ، فمَنَعَهم أهلُها، وقاتلوهم قِتالًا بَذَلوا فيه جُهدَهم وطاقَتَهم، ثمَّ إنَّهم عَجَزوا، فاستَسلَموا إليهم، فنَهَبوها أقبَحَ مِن النَّهبِ الأوَّلِ ولم يتركوا بها شَيئًا، وكان قد فارق سنجر جميعُ أمراءِ خُراسان ووزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، ولم يَبْقَ عِندَه غيرُ نَفَرٍ يَسيرٍ مِن خواصِّه وخدَمِه، فلمَّا وصلوا إلى نيسابور أحضروا المَلِكَ سُليمان شاه بن السُّلطان محمد، فوصَلَ إلى نيسابور تاسِعَ عَشَرَ مِن جمادى الآخرة مِن هذه السَّنةِ، فاجتمعوا عليه، وخَطَبوا له بالسَّلطنةِ، وسار في هذا الشَّهرِ جَماعةٌ مِن العَسكَرِ السُّلطاني إلى طائفةٍ كَثيرةٍ مِن الغز، فأوقعوا بهم، وقَتَلوا منهم كثيرًا، وانهزم الباقونَ إلى أمرائِهم الغزيَّةِ فاجتَمَعوا معهم، ولَمَّا اجتَمَعَت العساكِرُ على المَلِك سُليمان شاه ساروا إلى مَرْوٍ يَطلُبونَ الغز، فبَرَز الغز إليهم، فساعةَ رآهم العَسكَرُ الخراساني انهزموا وولَّوا على أدبارِهم، وقَصَدوا نيسابور، وتَبِعَهم الغز، فمَرُّوا بطوس، فنَهَبوها، وسَبَوا نِساءَها، وقَتَلوا رجالَها، وخَرَّبوا مساجِدَها ومساكِنَ أهلِها، ولم يَسلَمْ مِن جَميعِ ولاية طوس إلَّا البلد الذي فيه مَشهَدُ عليِّ بنِ موسى الرضي، ومواضِعُ أُخَرُ لها أسوار، وساروا منها إلى نيسابور، فوَصَلوا إليها في شَوَّال سنة 549، ولم يَجِدوا دونها مانِعًا ولا مُدافعًا، فنهبوها نهبًا ذريعًا، وقَتَلوا أهلَها، فأكثَروا حتى ظنُّوا أنَّهم لم يُبقوا بها أحدًا، حتى إنَّه أُحصِيَ في مَحلَّتَينِ خَمسةَ عشَرَ ألفَ قَتيلٍ مِن الرجال دونَ النِّساءِ والصِّبيانِ، وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وأخَذوا أموالهم، وبَقِيَ القتلى في الدُّروبِ كالتِّلالِ بَعضُهم فوقَ بَعضٍ، واجتَمَع أكثَرُ أهلِها بالجامِعِ المنيعي وتحصَّنوا به، فحصَرَهم الغز فعَجَزَ أهلُ نيسابور عن مَنْعِهم، فدخل الغزُّ إليهم فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وكانوا يَطلُبونَ مِن الرَّجُلِ المال، فإذا أعطاهم الرجُلَ مالَه قَتَلوه، وقتلوا كثيرًا مِن أئمَّةِ العُلَماءِ والصَّالحينَ، وأحرقوا ما بها من خزائِنِ الكُتُبِ، ولم يَسلَمْ إلَّا بَعضُها. وحَصَروا شارستان، وهي منيعةٌ، فأحاطوا بها، وقاتَلَهم أهلُها مِن فوقِ سُورِها، وقصدوا جوين فنَهَبوها، وقاتَلَهم أهل بحراباذ من أعمالِ جوين، وبَذَلوا نفوسَهم لله تعالى، وحَمَوا بَيضَتَهم, والباقي أتى النَّهبُ والقتلُ عليه، ثمَّ قصدوا أسفرايين فنَهَبوها وخَرَّبوها، وقتلوا في أهلِها فأكثَروا، ولَمَّا فَرَغَ الغزُّ مِن جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنَهَبوا ما بَقِيَ فيها بعد النَّهبِ الأول، وكان قد لحِقَ بشَهرستان كثيرٌ مِن أهلها، فحَصَرَهم الغزُّ واستولوا عليها، ونَهَبوا ما كان فيها لأهلِها ولأهلِ نيسابور، ونهبوا الحرمَ والأطفال، وفَعَلوا ما لم يفعَلْه الكُفَّارُ مع المُسلِمينَ، وكان العَيَّارون أيضًا ينهَبونَ نيسابورَ أشَدَّ مِن نهبِ الغُز ويفعلونَ أقبَحَ مِن فِعْلِهم، ثمَّ إنَّ أمرَ الملكِ سُليمانَ شاه ضَعُفَ، وكان قبيحَ السِّيرةِ سَيِّئ التدبيرِ، وإنَّ وَزيرَه طاهِرَ بنَ فخر الملك بن نظام الملك توفِّيَ في شوال سنة 548 فضَعُفَ أمرُه، واستوزر سُلَيمان شاه بعده ابنَه نظم الملك أبا علي الحَسَن بن طاهر وانحَلَّ أمرُ دَولَتِه بالكليَّة، ففارق خراسان في صفر سنة 549 وعاد إلى جرجان، فاجتمَعَ الأُمَراءُ وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابنُ أخت السُّلطان سنجر، وخَطَبوا له على منابِرِ خُراسان، واستدعَوه إليهم، فمَلَّكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة 549، وسارُوا معه إلى الغزِّ وهم يحاصِرونَ هراة، وجرت بينهم حروبٌ، كان الظَّفَرُ في أكثَرِها للغز، ورَحَلوا في جُمادى الأولى من سنة 550 مِن على هراة إلى مَرْوٍ، وعاودوا المُصادرةَ لأهلِها.
وفاة الملك العادل ابن السلار .
العام الهجري : 548 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1153
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ العادِلُ سَيفُ الدين أبو منصور عليُّ بنُ إسحاق المعروف بابن السلار، وزيرُ الظَّافِرِ العُبَيدي صاحِبِ مِصرَ، كان من أمراء الأكراد، وكان تربيةَ القَصرِ بالقاهرة، وتقَلَّبَت فيه الأحوالُ في الولايات بالصَّعيدِ وغَيرِه إلى أن تولى الوزارةَ للظَّافِرِ في رَجَب سنة 543. بعد أن تغَلَّبَ على ابنِ مصال وانتزَعَ منه الوزارةَ واستَمَرَّ العادِلُ في الوزارة إلى أن قُتِلَ، وكان ابنُ السلار مِن الأبطالِ المَشهورينَ شَهمًا مِقدامًا، عَمَرَ بالقاهرة مساجِدَ، وكان سُنِّيًّا مُسلِمًا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافعيًّا، خَمَدَ بولايته ثائِرةَ الرَّفضِ بمِصرَ، مائلًا إلى أرباب الفَضلِ والصَّلاحِ؛ فقد احتَفَلَ بالحافِظِ أبي طاهرٍ السَّلفي لَمَّا ورد عليه بثغر الإسكندريةِ، وزاد في إكرامه، وعَمَرَ له هناك مدرسةً فَوَّضَ تَدريسَها إليه، وكان مع هذه الأوصافِ ذا سيرةٍ جائرةٍ، وسَطوةٍ قاطِعةٍ، يُؤاخِذُ النَّاسَ بالصَّغائِرِ والمُحَقَّراتِ، وكان قد وصَلَ مِن إفريقيَّةَ إلى الدِّيارِ المِصريَّة أبو الفتوح بن يحيى سنة 509، فسار إلى الديارِ المِصريَّة ومعه زوجته بلارة ابنةُ القاسم بن تميم بن المعز بن باديس، وولَدُه عباس وهو صَغيرٌ يَرضَعُ. نزل أبو الفتوح بالإسكندرية، فأقام بها مُدَّةً يسيرة، ثم توفِّيَ فتَزَوَّجَت امرأتهُ بلارة بابنِ السَّلار وأقامت عنده زمانًا، ثمَّ تَزَوَّجَ ابنُها العباس بمصرَ ورُزِقَ ولدًا سَمَّاه نصرًا، فكان عند جَدَّتِه بلارة في دار العادِلِ، والعادِلُ يحنو عليه ويُعِزُّه، ونَصرًا هذ هو الذي قَتَلَ العادِلَ على فِراشِه يومَ الخميس سادس المحرم بدار الوَزارة بالقاهرة بتدبيرٍ مِن والِدِه العَبَّاس وأسامة بن منقذ، وقيل: إنه قتل يوم السبت حادي عشر المحرم, وهذا نَصرُ بنُ عباس هو الذي قَتَلَ أيضًا حاكِمَ مِصرَ الظَّافِرَ إسماعيلَ بنَ الحافِظِ العُبَيدي.
انتصار عساكر عبد المؤمن قائد الموحدين على العرب في المغرب .
العام الهجري : 548 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1153
تفاصيل الحدث:
كانت الحَربُ بين عَسكَرِ عبدِ المُؤمِنِ والعَرَبِ عند مدينة سطيف، وسَبَبُ ذلك أنَّ العَرَبَ- وهم بنو هلالٍ، والأبتح، وعدي، ورياح، وزغب، وغيرهم من العرب- لَمَّا مَلَك عبدُ المؤمِنِ بلادَ بني حَمَّاد اجتَمَعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إنْ جاوَرَنا عبدُ المؤمِنِ أجلانا من المَغرِبِ، وليس الرأيُ إلَّا إلقاءَ الجِدِّ معه، وإخراجَه من البلاد قبل أن يتمَكَّنَ، وتحالَفوا على التعاوُنِ والتَّضافُرِ، وألَّا يَخونَ بَعضُهم بعضًا، وعَزَموا على لقائِه بالرِّجالِ والأهلِ والمالِ؛ ليُقاتِلوا قِتالَ الحريم، واتَّصَل الخبَرُ بالملك رجار الفرنجي، صاحِبِ صقَليَّة، فأرسل إلى أمراءِ العَرَبِ، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى بن حسن وغيرهم يَحُثُّهم على لقاءِ عبدِ المؤمنِ ويَعرِضُ عليهم أن يُرسِلَ إليهم خمسةَ آلاف فارس من الفِرنجِ يُقاتِلونَ معهم على شَرطِ أن يُرسِلوا إليه الرَّهائِنَ، فشَكَروه وقالوا: ما بنا حاجةٌ إلى نَجدَتِه ولا نَستَعينُ بغير المُسلِمينَ، وساروا في عددٍ لا يحصى، وكان عبدُ المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلادِ المغرب، فلَمَّا بلغه خبَرُهم جَهَّزَ جَيشًا من الموحِّدينَ يزيدُ على ثلاثين ألفَ فارس، واستعمل عليهم عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ الهنتاني، وسعدَ اللهِ بنَ يحيى، وكان العَرَبُ أضعافَهم، فاستجَرَّهم الموحِّدونَ وتَبِعَهم العَرَبُ إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف بين جبال، فحَمَلَ عليهم جَيشُ عبد المؤمن فجأةً والعَرَبُ على غيرِ أُهبةٍ، والتقى الجَمعانِ، واقتتلوا أشَدَّ قتالٍ وأعظَمَه، فانجَلَتِ المعركةُ عن انهزامِ العَرَبِ ونُصرةِ المُوحِّدينَ، وتَرَك العَرَبُ جميعَ ما لهم من أهلٍ ومالٍ وأثاثٍ ونَعَمٍ، فأخذ الموحِّدونَ جميعَ ذلك، وعاد الجيشُ إلى عبدِ المُؤمِنِ بجَميعِه، فقَسَّمَ جميعَ الأموالِ على عَسكَرِه، وتَرَك النِّساءَ والأولادَ تحت الاحتياط، وكَّلَ بهم من الخَدَمِ الخِصيانِ مَن يَخدُمهم ويقومُ بحَوائِجِهم، وأمَرَ بصِيانتِهم، فلمَّا وصلوا معه إلى مراكش أنزَلَهم في المساكنِ الفَسيحةِ، وأجرى لهم النَّفَقاتِ الواسِعةَ، وأمَرَ عبدُ المؤمِنِ ابنَه مُحمَّدًا أن يكاتِبَ أُمَراءَ العَرَبِ ويُعلِمُهم أنَّ نِساءهم تحت الحِفظِ والصِّيانة، وأمَرَهم أن يَحضُروا ليُسَلِّمَ إليهم أبوه ذلك جَميعَه، وأنَّه قد بذل لهم الأمانَ والكَرامةَ، فلمَّا وَصَلَ كِتابُ مُحَمَّدٍ إلى العَرَبِ سارعوا إلى المسيرِ إلى مراكش، فلمَّا وصلوا إليها أعطاهم عبدُ المؤمِنِ نِساءَهم وأولادَهم، وأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلةً، فاستَرَقَّ قُلوبَهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حَفِيًّا، واستعان بهم على ولايةِ ابنِه مُحمَّدٍ للعَهدِ.
احتلال الفرنج مدينة بونة بإفريقيَّة .
العام الهجري : 548 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1153
تفاصيل الحدث:
سار أُسطولُ رجار مَلِكِ الفرنج بصقليَّةَ إلى مدينة بونة- وهي أوَّلُ حَدٍّ مِن بلادِ إفريقيَّةَ- وكان المُقَدَّمُ عليهم فتاه فيلب المهدوي، فحَصَرَها واستعان بالعَرَبِ عليها، فأخَذَها في رجب، وسَبى أهلَها، ومَلَكَ ما فيها، غيرَ أنَّه أغضى عن جماعةٍ مِن العُلَماءِ والصَّالحينَ، حتى خَرَجوا بأهليهم وأموالِهم إلى القُرى، فأقام بها عَشرةَ أيَّامٍ، وعاد إلى المهديَّةِ وبَعضِ الأسرى معه، وعاد إلى صقليَّةَ، فقَبَضَ رجار على فيلب المهدوي؛ لِما اعتَمَدَه مِن الرِّفقِ بالمُسلِمينَ في بونة, وكان يقالُ إن فيلب وجميع فتيانه مُسلِمونَ يَكتُمونَ ذلك، وشَهِدوا عليه أنَّه لا يصومُ مع المَلِك، وأنَّه مُسلِمٌ، فجَمَعَ رجار الأساقِفةَ والقُسوسَ والفُرسانَ، فحَكَموا بأنْ يُحرَقَ، فأُحرِقَ في رمضانَ، وهذا أوَّلُ وَهَنٍ دَخَلَ على المُسلِمينَ بصقليَّةَ.
نُورِ الدِّينِ محمود زِنكي يسيطر على قَلعةَ تَلِّ باشِرَ .
العام الهجري : 549 العام الميلادي : 1154
تفاصيل الحدث:
في هذه السَّنَةِ وقِيلَ التي بعدَها، مَلَكَ نورُ الدينِ محمودُ بن زِنكي قَلعةَ تَلِّ باشِرَ، وهي شَماليَّ حَلَب مِن أَمنَعِ القِلاعِ، وسَببُ مِلْكِها أن الفِرنجَ لمَّا رأوا أن نورَ الدينِ مَلَكَ دِمشقَ خافوهُ، وعَلِموا أنه يَقوَى عليهم، ولا يَقدِرون على الانتِصافِ منه، لِمَا كانوا يَرَوْنَ منه قبلَ مِلْكِها، فراسَلَهُ مَن بهذه القَلعةِ مِن الفِرنجِ، وبَذَلوا له تَسليمَها، فسَيَّرَ إليهم الأَميرَ حَسَّان المنبجيَّ، وهو من أَكابرِ أُمراءِه، وكان أَقطَعهُ ذلك الوَقتَ مَدينةَ منبج، وهي تُقارِب تَلَّ باشِرَ، وأَمَرَهُ أن يَسيرَ إليها ويَتَسلَّمَها، فسار إليهم وتَسلَّمَها منهم، وحَصَّنَها ورَفَعَ إليها من الذَّخائرِ ما يَكفِيها سِنينَ كَثيرةً.
حَصْرُ عَسكَرِ الخَليفَةِ المُقتَفِي لأَمرِ الله تَكريتَ وعَوْدُهُم عنها .
العام الهجري : 549 العام الميلادي : 1154
تفاصيل الحدث:
سَيَّرَ الخَليفةُ العبَّاسيُّ المُقتَفِي لأَمرِ الله عَسكرًا إلى تَكريتَ لِيَحصُروها، وأَرسلَ معهم مُقدَّمًا عليهم أبا البَدرِ بن الوَزيرِ عَوْنِ الدِّينِ بن هُبيرَة وتُرشُكَ، وهو مِن خَواصِّ الخَليفةِ، وغَيرَهما، فجَرَى بين أبي البَدرِ وتُرشُكَ مُنافرَةً فكَتَبَ ابنُ الوَزيرِ للخَليفةِ يشكو من تُرشكَ، فأَمرَ الخَليفةُ بالقَبضِ على تُرشكَ، فعَرَفَ ذلك، فأَرسلَ إلى مَسعودِ بِلال، صاحِبِ تَكريت، وصالَحَهُ وقَبَضَ على ابنِ الوَزيرِ ومَن معه مِن المُتَقدِّمينَ، وسَلَّمَهم إلى مَسعودِ بِلالٍ فانهَزمَ العَسكرُ وغَرَقَ منه كَثيرٌ، وسار مَسعودُ بِلالٍ وتُرشكُ من تَكريتَ إلى طَريقِ خراسان فنَهَبَا وأَفسَدا، فسار المُقتَفِي عن بغداد لدِفْعِهِما، فهَرَبا من بين يَديهِ، فقَصَدَ تَكريتَ، فحَصَرَها أَيامًا وجَرَى له مع أَهلِها حُروبٌ مِن وَراءِ السُّورِ، فقُتِلَ من العَسكرِ جَماعةٌ بالنُّشَّابِ، فعاد الخَليفةُ عنها، ولم يَملِكها.
بُطلانُ خَبَرِ نَقْلِ رَأسِ الحُسينِ رضي الله عنه مِن عَسقلانَ إلى القاهرةِ .
العام الهجري : 549 العام الميلادي : 1154
تفاصيل الحدث:
سُئِلَ شَيخُ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ عن المَشهَدِ المَنسوبِ إلى الحُسينِ رضي الله عنه بمَدينةِ القاهرةِ:هل هو صَحيحٌ أم لا؟ وهل حُمِلَ رَأسُ الحُسينِ إلى دِمشقَ، ثم إلى مصر، أم حُمِلَ إلى المَدينَةِ من جِهَةِ العِراقِ؟ وهل لِمَا يَذكُرهُ بعضُ الناسِ مِن جِهَةِ المَشهَدِ الذي كان بعَسقلان صِحَّةٌ أم لا؟ ومَن ذَكَرَ أَمرَ رَأسِ الحُسينِ، ونَقْلِه إلى المَدينةِ النَّبويَّةِ دون الشامِ ومصر؟ ومَن جَزَمَ مِن العُلماءِ المُتقدِّمينَ والمُتأخِّرينَ بأن مَشهدَ عَسقلانَ ومَشهدَ القاهرةِ مَكذوبٌ، وليس بصَحيحٍ؟ وليَبسُطوا القَولَ في ذلك لأَجلِ مَسِيسِ الضَّرورَةِ والحاجةِ إليه، مُثابِينَ مَأجُورِينَ. فأجاب: "الحمدُ لله، بل المَشهدُ المَنسوبُ إلى الحُسينِ بنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلقٌ، بلا نِزاعٍ بين العُلماءِ المَعروفِينَ عند أَهلِ العِلمِ، الذين يَرجِع إليهم المسلمون في مِثلِ ذلك لِعِلْمِهِم وصِدْقِهم. ولا يُعرَف عن عالِمٍ مُسَمَّى مُعروفٌ بعِلْمٍ وصِدْقٍ أنه قال: إن هذا المَشهدَ صَحيحٌ. وإنما يَذكرُه بعضُ الناسِ قَوْلًا عمَّن لا يُعرَف، على عادةِ مَن يَحكِي مَقالاتِ الرَّافِضَةِ وأَمثالِهم مِن أَهلِ الكَذِب. فإنهم يَنقُلونَ أَحاديثَ وحِكاياتٍ، ويَذكُرون مَذاهِبَ ومَقالاتٍ. وإذا طالَبتَهُم بمَن قال ذلك ونَقَلَهُ، لم يكُن لهم عِصمَةٌ يَرجِعُون إليها. ولم يُسَمُّوا أَحَدًا مَعروفًا بالصِّدقِ في نَقلِه، ولا بالعِلمِ في قَولِه، بل غايةُ ما يَعتَمِدون عليه أن يقولوا: أَجمَعَت الطائِفَةُ الحَقَّةُ. وهُم عند أَنفُسِهم الطائِفةُ الحَقَّة، الذين هم عند أَنفُسِهم المؤمنين، وسائرُ الأُمَّةِ سِواهُم كُفَّارٌ. وهكذا كلُّ ما يَنقُلونَه من هذا البابِ. يَنقُلون سِيَرًا أو حِكاياتٍ وأَحاديثَ، إذا ما طالَبتَهُم بإسنادِها لم يُحيلُوكَ على رَجُلٍ مَعروفٍ بالصِّدقِ، بل حَسْبُ أَحَدِهم أن يكون سَمِعَ ذلك مِن آخرَ مِثلِه، أو قَرأَهُ في كِتابٍ ليس فيه إسنادٌ مَعروفٌ، وإن سَمُّوا أَحَدًا، كان من المَشهُورِين بالكَذِبِ والبُهتان. لا يُتَصَوَّر قَطُّ أن يَنقُلوا شيئًا مما لا يُعرَف عند عُلماءِ السُّنَّةِ إلا وهو عن مَجهولٍ لا يُعرَف، أو عن مَعروفٍ بالكَذِب. ومن هذا البابِ نَقْلُ الناقلِ: أن هذا القَبرَ الذي بالقاهرةِ مَشهدُ الحُسينِ رضي الله عنه؛ بل وكذلك مَشاهدُ غيرُ هذا مُضافَةٌ إلى قَبرِ الحُسينِ رضي الله عنه، فإنه مَعلومٌ باتِّفاقِ الناسِ: أن هذا المَشهدَ بُنِيَ عامَ بِضعٍ وأربعين وخمسمائة، وأنه نُقِلَ مِن مَشهدٍ بعَسقلانَ، وأن ذلك المَشهدَ بعَسقلانَ كان قد أُحدِثَ بعدَ التِّسعين والأربعمائة. فأَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ: هو ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ. وذلك العَسقلانيُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتلِ الحُسينِ بأَكثرَ من أربعمائة وثلاثين سَنَةً، وهذا القاهريُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتَلِه بقَريبٍ من خمسمائة سَنَةٍ. وهذا مما لم يُتنازَع فيه اثنان ممَّن تَكلَّم في هذا البابِ من أَهلِ العِلمِ، على اختِلافِ أَصنافِهم، كأَهلِ الحَديثِ، ومُصَنِّفِي أَخبارِ القاهرةِ، ومُصَنِّفِي التَّواريخِ. وما نَقَلَهُ أَهلُ العِلمِ طَبقَةٌ عن طَبقَةٍ. فمِثلُ هذا مُستَفيضٌ عندهم. وهذا بينهم مَشهورٌ مُتَواتِرٌ، سَواءٌ قِيلَ: إن إضافَتَهُ إلى الحُسينِ صِدقٌ أو كَذِبٌ، لم يَتَنازَعوا أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في أواخرِ الدولةِ العُبيديَّةِ. وإذا كان أَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ مَنقولٌ عن ذلك المَشهدِ العَسقلانيِّ باتِّفاقِ الناسِ وبالنَّقْلِ المُتَواتِر؛ فمن المَعلومِ أن قَولَ القائلِ: إن ذلك الذي بعَسقلانَ هو مَبْنِيٌّ على رَأسِ الحُسينِ رضي الله عنه قَوْلٌ بلا حُجَّةٍ أَصلًا. فإن هذا لم يَنقُلهُ أَحَدٌ من أَهلِ العِلمِ الذين مِن شَأنِهم نَقلُ هذا. لا من أَهلِ الحَديثِ، ولا من عُلماءِ الأَخبارِ والتَّواريخِ، ولا من العُلماءِ المُصَنِّفين في النَّسَبِ؛ نَسَبِ قُريشٍ، أو نَسَبِ بَنِي هاشِمٍ ونَحوِه. وذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ، أُحدِثَ في آخِرِ المائةِ الخامسةِ، لم يكُن قَديمًا، ولا كان هناك مَكانٌ قَبلَه أو نَحوَه مُضافٌ إلى الحُسينِ، ولا حَجَرٌ مَنقوشٌ ولا نَحوُه ممَّا يُقالُ: إنه عَلامةٌ على ذلك. فتَبَيَّنَ بذلك أن إِضافةَ مِثلِ هذا إلى الحُسينِ قَوْلٌ بلا عِلمٍ أصلًا. وليس مِن قائِلٍ ذلك ما يَصلُح أن يكون مُعتَمَدًا، لا نَقْلٌ صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ، بل لا فَرقَ بين ذلك وبين أن يَجيءَ الرَّجلُ إلى بَعضِ القُبورِ التي بأَحَدِ أَمصارِ المسلمين، فيَدَّعِي أن في واحدٍ منها رَأسَ الحُسينِ، أو يَدَّعِي أن هذا قَبرُ نَبِيٍّ من الأَنبياءِ، أو نحوَ ذلك ممَّا يَدَّعِيهِ كَثيرٌ من أَهلِ الكَذِبِ والضَّلالِ. وإذا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ قد قال طائفةٌ: إنه قَبرُ بَعضِ النَّصارَى، أو بَعضِ الحَواريِّينَ –وليس مَعَنَا ما يَدُلُّ على أنه قَبرُ مُسلِمٍ، فَضلًا عن أن يكون قَبرًا لرَأسِ الحُسينِ- كان قَولُ مَن قال: إنه قَبرُ مُسلِمٍ –الحُسينِ أو غَيرِه- قَوْلًا زُورًا وكَذِبًا مَردودًا على قائلِه. فهذا كافٍ في المَنْعِ مِن أن يُقال: هذا مَشهدُ الحُسينِ. ثم نقول: بل نحن نَعلَم ونَجزِم بأنه ليس فيه رَأسُ الحُسينِ، ولا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ مَشهَدًا للحُسينِ، من وُجُوهٍ مُتعدِّدَةٍ: منها: أنه لو كان رَأسُ الحُسينِ هناك لم يَتأَخَّر كَشْفُه وإِظهارُه إلى ما بعدَ مَقتَلِ الحُسينِ بأكثرَ من أربعمائة سَنَةٍ. ودَولةُ بَنِي أُمَيَّة انقَرَضَت قبلَ ظُهورِ ذلك بأَكثرَ من ثلاثمائة وبِضعٍ وخمسين سَنَةً. وقد جاءت خِلافَةُ بني العبَّاسِ وظَهَرَ في أَثنائِها من المَشاهِدِ بالعِراقِ وغَيرِ العِراقِ ما كان كَثيرٌ منها كَذِبًا. وكانوا عند مَقتَلِ الحُسينِ بكَربَلاء قد بَنوا هناك مَشهدًا. وكان يَنتابُه أُمراءُ عُظماءُ، حتى أَنكرَ ذلك عليهم الأئمَّةُ. وحتى إن المُتوَكِّل لمَّا تَقدَّموا له بأَشياءَ يُقال: إنه بالَغَ في إِنكارِ ذلك وزادَ على الواجبِ. دَعْ خِلافةَ بَنِي العبَّاسِ في أَوائلِها، وفي حالِ استِقامَتِها، فإنهم حينئذٍ لم يكونوا يُعَظِّمونَ المَشاهِدَ، سَواءٌ منها ما كان صِدقًا أو كَذِبًا، كما حَدَثَ فيما بعدُ؛ لأن الإسلامَ كان حينئذٍ ما يَزالُ في قُوَّتِه وعُنفُوانِه. ولم يكُن على عَهدِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم من ذلك شيءٌ في بِلادِ الإسلامِ، لا في الحِجازِ، ولا اليَمنِ، ولا الشامِ، ولا العِراقِ، ولا مصر، ولا خُراسان، ولا المَغربِ، ولم يكُن قد أُحدِثَ مَشهدٌ، لا على قَبرِ نَبِيٍّ، ولا صاحِبٍ، ولا أَحَدٍ من أَهلِ البيتِ، ولا صالِحٍ أَصلًا، بل عامَّةُ هذه المَشاهِدِ مُحْدَثَةٌ بعدَ ذلك. وكان ظُهورُها وانتِشارُها حينَ ضَعُفَت خِلافةُ بني العبَّاسِ، وتَفَرَّقَت الأُمَّةُ، وكَثُرَ فيهم الزَّنادِقَةُ المُلَبِّسُونَ على المسلمين، وفَشَت فيهم كَلِمةُ أَهلِ البِدَعِ، وذلك في دَولةِ المُقتَدِر في أَواخرِ المائَةِ الثالثةِ، فإنه إذ ذاك ظَهَرَت القَرامِطَةُ العُبيدِيَّةُ القَدَّاحِيَّة بأَرضِ المَغربِ. ثم جاؤوا بعدَ ذلك إلى أَرضِ مصر. فإذا كان مع كلِّ هذا لم يَظهَر حتى مَشهدٌ للحُسينِ بعَسقلانَ، مع العِلمِ بأنه لو كان رَأسُه بعَسقلانَ لكان المُتقَدِّمون من هؤلاءِ أَعلمَ بذلك من المُتأخِّرين، فإذا كان مع تَوَفُّرِ الهِمَمِ والدَّواعِي والتَّمَكُّنِ والقُدرَةِ لم يَظهَر ذلك، عُلِمَ أنه باطِلٌ مَكذوبٌ، مِثلُ ما يَدَّعِي أنه شَريفٌ عَلَوِيٌّ. وقد عُلِمَ أنه لم يَدَّعِ هذا أَحَدٌ من أَجدادِه، مع حِرصِهِم على ذلك لو كان صَحيحًا، فإنه بهذا يُعلَم كَذِبُ هذا المُدَّعِي، الوجهُ الثاني: أن الذين جَمَعوا أَخبارَ الحُسينِ ومَقتَلِهِ مِثلُ أبي بكرِ بن أبي الدنيا، وأبي القاسمِ البَغَويِّ وغَيرِهما لم يَذكُر أَحَدٌ منهم أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى عَسقلانَ ولا إلى القاهرةِ. وقد ذَكَرَ نحوَ ذلك أبو الخَطَّابِ بنُ دُحيةَ في كِتابِه المُلَقَّب بـ ((العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور)) ذَكَرَ أن الذين صَنَّفُوا في مَقتَلِ الحُسينِ أَجمَعوا أن الرَّأسَ لم يَغتَرِب، وذَكَرَ هذا بعدَ أن ذَكَرَ أن المَشهَدَ الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلَق، وأنه لا أَصلَ له، وبَسَطَ القَولَ في ذلك، كما ذَكَرَ في يومِ عاشُوراءَ ما يَتَعلَّق بذلك. الوجهُ الثالث: أن الذي ذَكَرَهُ مَن يُعتَمَد عليه مِن العُلماءِ والمُؤرِّخين: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى المَدينةِ، ودُفِنَ عند أَخيهِ الحَسَنِ. ومن الَمعلوم: أن الزُّبيرَ بنَ بَكَّارٍ، صاحِبَ كتابِ ((الأنساب)) ومحمدَ بنَ سَعدٍ كاتِبَ الواقِديِّ صاحِبَ ((الطبقات))، ونَحوَهُما مِن المَعروفين بالعِلمِ والثِّقَةِ والاطِّلاعِ، أَعلمُ بهذا البابِ، وأَصدَقُ فيما يَنقُلونَه من الجاهِلين والكَذَّابين، ومِن بَعضِ أَهلِ التَّواريخِ الذين لا يُوثَق بِعِلْمِهِم ولا صِدْقِهِم، بل قد يكون الرَّجلُ صادِقًا، ولكن لا خِبرةَ له بالأَسانيدِ حتى يُمَيِّزَ بين المَقبولِ والمَردودِ، أو يكون سَيِّءَ الحِفْظِ أو مُتَّهَمًا بالكَذِبِ أو بالتَّزَيُّدِ في الرِّوايَةِ، كحالِ كَثيرٍ من الإخبارِيِّين والمُؤَرِّخين، لا سيما إذا كان مِثلَ أبي مِخنَفٍ لُوطِ بنِ يحيى وأَمثالِه. ومَعلومٌ أن الواقِديَّ نَفسَهُ خَيرٌ عند الناسِ من مِثلِ هِشامِ بنِ الكلبيِّ، وأَبيهِ محمدِ بنِ السائبِ وأَمثالِهِما، وقد عُلِمَ كَلامُ الناسِ في الواقديِّ، فإن ما يَذكُرهُ هو وأَمثالُه إنما يُعتَضَدُ به، ويُستَأنسُ به، وأما الاعتِمادُ عليه بمُجرَّدِهِ في العِلمِ فهذا لا يَصلُح. فإذا كان المُعتَمد عليهم يَذكُرون أن رأسَ الحُسينِ دُفِنَ بالمَدينةِ، وقد ذَكَرَ غَيرُهم أنه إما أن يكون قد عادَ إلى البَدَنِ، فدُفِنَ معه بكَربَلاء، وإما أنه دُفِنَ بحَلَب، أو بدِمشق أو نحوَ ذلك من الأَقوالِ التي لا أَصلَ لها، ولم يَذكُر أَحَدٌ ممَّن يُعتَمَد عليه أنه بعَسقلانَ – عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، إذ يُمتَنَع أن يكون أَهلُ العِلمِ والصِّدقِ على الباطلِ، وأَهلُ الجَهلِ والكَذِبِ على الحَقِّ في الأُمورِ النَّقلِيَّةِ، التي إنما تُؤخَذ عن أَهلِ العِلمِ والصِّدقِ، لا عن أَهلِ الجَهلِ والكَذِبِ. الوجهُ الرابع: أن الذي ثَبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى قُدَّامِ عُبيدِ الله بن زِيادٍ، وجَعَلَ يَنكُت بالقَضيبِ على ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسِ بنِ مالكٍ، وفي المُسنَدِ: أن ذلك كان بحَضرَةِ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ. وهذا باطِلٌ. فإن أبا بَرزَةَ، وأَنسَ بنَ مالكٍ كانا بالعِراقِ، لم يكُونَا بالشامِ، ويَزيدُ بن مُعاوِيةَ كان بالشامِ، لم يكُن بالعِراقِ حِينَ مَقتلِ الحُسينِ، فمَن نَقَلَ أنه نَكَتَ بالقَضيبِ ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسٍ وأبي بَرزَةَ قُدَّامَ يَزيدَ فهو كاذِبٌ قَطْعًا، كَذِبًا مَعلومًا بالنَّقلِ المُتواتِرِ. ومَعلومٌ بالنَّقلِ المُتَواتِرِ: أن عُبيدَ الله بنَ زيادٍ كان هو أَميرُ العِراقِ حين مَقتلِ الحُسينِ، وقد ثَبَتَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ: أنه هو الذي أَرسلَ عُمرَ بنَ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ مُقَدَّمًا على الطائفَةِ التي قاتَلَت الحُسينَ، وكان عُمَرُ قد امتَنَع من ذلك، فأَرغَبَهُ ابنُ زيادٍ وأَرهَبَهُ حتى فَعَلَ ما فَعَلَ. والمَقصودُ هنا أن نَقْلَ رَأسِ الحُسينِ إلى الشامِ لا أَصلَ له زَمَنَ يَزيدَ. فكيف بِنَقْلِه بعدَ زَمَنِ يَزيدَ؟ وإنما الثابتُ هو نَقْلُه من كَربَلاء إلى أَميرِ العِراقِ عُبيدِ الله بن زيادٍ بالكُوفةِ. والذي ذَكَرَ العُلماءُ: أنه دُفِنَ بالمَدينَةِ. الوجهُ الخامس: أنه لو قُدِّرَ أنه حُمِلَ إلى يَزيدَ، فأيُّ غَرَضٍ كان لهم في دَفنِه بعَسقلانَ، وكانت إذ ذاكَ ثَغْرَةً يُقيمُ به المُرابِطون؟ فإن كان قَصْدُهُم تَعْفِيَةَ خَبَرِهِ فمِثلُ عَسقلانَ تُظهِرُهُ لكَثرَةِ مَن يَنتابُها للرِّباطِ. وإن كان قَصْدُهُم بَركَةَ البُقعَةِ فكيف يَقصِدُ هذا مَن يُقال: إنه عَدُوٌّ له، مُسْتَحِلٌّ لِدَمِهِ، ساعٍ في قَتْلِه؟! ثم مِن المَعلومِ: أن دَفْنَهُ قَريبًا عندَ أُمِّهِ وأَخيهِ بالبَقيعِ أَفضلُ له. الوجهُ السادس: أن دَفْنَهُ بالبَقيعِ هو الذي تَشهَدُ له عادَةُ القَومِ. فإنهم كانوا في الفِتَنِ، إذا قَتَلوا الرَّجُلَ -لم يكُن منهم- سَلَّمُوا رَأسَهُ وبَدَنَهُ إلى أَهلِه، الوجهُ السابع: أنه لم يُعرَف قَطُّ أن أَحَدًا، لا مِن أَهلِ السُّنَّةِ، ولا من الشِّيعَةِ، كان يَنتابُ ناحِيةَ عَسقلانَ لأَجلِ رَأسِ الحُسينِ، ولا يَزورونَهُ ولا يَأتونَهُ. كما أن الناسَ لم يكونوا يَنتابون الأَماكِنَ التي تُضافُ إلى الرَّأسِ في هذا الوَقتِ، كمَوضِعٍ بحَلَب. فإذا كانت تلك البِقاعُ لم يكُن الناسُ يَنتابونَها ولا يَقصِدونَها، وإنما كانوا يَنتابون كَربَلاء؛ لأن البَدَنَ هناك، كان هذا دَليلًا على أن الناسَ فيما مضى لم يكونوا يَعرِفون أن الرَّأسَ في شَيءٍ من هذه البِقاعِ، ولكن الذي عَرَفوهُ واعتَقَدوهُ هو وُجودُ البَدَنِ بكَربَلاء، حتى كانوا يَنتابونَهُ في زَمنِ أَحمدَ وغَيرِه، حتى إن في مَسائِلِه، مَسائلَ فيما يُفعَل عند قَبرِه، ذَكَرَها أبو بكرٍ الخَلَّالُ في جامِعِه الكَبيرِ في زِيارَةِ المَشاهِدِ. ولم يَذكُر أَحَدٌ من العُلماءِ أنهم كانوا يَرون مَوضِعَ الرَّأسِ في شيءٍ من هذه البِقاعِ غيرَ المَدينةِ. فعُلِمَ أن ذلك لو كان حَقًّا لكان المُتقَدِّمون به أَعلمَ. ولو اعتَقَدوا ذلك لعَمِلُوا ما جَرَت عادَتُهم بعَمَلِه، ولأَظهَروا ذلك وتَكَلَّموا به، كما تَكَلَّموا في نَظائِرِهِ. فلمَّا لم يَظهَر عن المُتقَدِّمين –بقَوْلٍ ولا فِعْلٍ- ما يَدُلُّ على أن الرَّأسَ في هذه البِقاعِ عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، والله أعلم. الوجهُ الثامن: أن يُقال: ما زال أَهلُ العِلمِ في كلِّ وَقتٍ وزَمانٍ يَذكرون في هذا المَشهَدِ القاهريِّ المَنسوبِ إلى الحُسينِ: أنه كَذِبٌ مُبِينٌ، كما يَذكرون ذلك في أَمثالِه من المَشاهِدِ المَكذوبَةِ؛ فقد ذَكَرَ أبو الخَطَّابِ بن دُحيةَ في كِتابِه ((العِلم المشهور)) في هذا المَشهَدِ فَصْلًا مع ما ذَكَرَهُ في مَقتلِ الحُسينِ مِن أَخبارٍ ثابتَةٍ وغيرِ ثابتَةٍ، ومع هذا فقد ذَكَرَ أن المَشهَدَ كَذِبٌ بالإجماعِ، وبَيَّنَ أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في آخرِ الدُّوَلِ العُبيديَّةِ، وأنه وُضِعَ لأَغراضٍ فاسِدَةٍ، وأنه بعدَ ذلك بقَليلٍ أَزالَ الله تلك الدَّولةَ وعاقَبَها بنَقيضِ قَصْدِها. وما زال ذلك مَشهورًا بين أَهلِ العِلمِ حتى أَهلِ عَصْرِنا، مِن ساكِنِي الدِّيارِ المِصريَّةِ، القاهرَةِ وما حَولَها والله أعلم. ".
اغتِيالُ الحاكِمِ العُبيديِّ (الفاطِميِّ) الظافِرِ وتَولِيَةُ ابنِه الفائزِ بنَصرِ الله .
العام الهجري : 549 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1154
تفاصيل الحدث:
هو حاكِمُ مصر الظافِرُ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بن الحافظِ لدِينِ الله عبدِ المجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر مَعَدِّ بن الظاهرِ عليِّ بن الحاكمِ الفاطميُّ العُبيديُّ، المصريُّ، الإسماعيليُّ. وَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ خَمسةَ أَعوامٍ. وكان شابًّا جَميلًا وَسيمًا لَعَّابًا عاكِفًا على الأَغاني والسَّراري، استَوْزَرَ الأَفضلَ سليمَ بن مصالٍ فَسَاسَ الإِقليمَ. وانقَطعَت في أَيامِه الدَّعوةُ له ولآبائِهِ العُبيدِيِّين من سائرِ الشامِ والمَغربِ والحَرمَينِ, وبَقِيَ لهم إِقليمُ مصر, وقد خَرجَ على وَزيرِه ابنِ مصالٍ. العادلُ بن السَّلَّارِ، وحارَبَه وظَفَرَ به، واستَأصَلَهُ، واستَبَدَّ بالأَمرِ, وكان ابنُ السَّلَّارِ مِن أَجَلِّ الأُمراءِ الأَكرادِ سُنِّيًّا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافِعيًّا. وفي أَيامِ الظافرِ قَدِمَ من إفريقية عبَّاسُ بن يحيى بن تَميمِ بن المُعِزِّ بن باديس مع أُمِّهِ صَبِيًّا. فتَزَوَّجَ العادلُ بها قبلَ أن يَتوَلَّى الوِزارةَ، ثم تَزَوَّجَ عبَّاسٌ، ووُلِدَ له نَصرٌ، فأَحَبَّهُ العادلُ، فاتَّفَقَ عبَّاسٌ وأُسامةُ بن مُنقِذ على قَتلِ العادلِ، وأن يَأخُذ عبَّاسٌ مَنصِبَهُ. فذَبحَ نَصرٌ العادلَ على فِراشِه في المُحرَّم سَنةَ 548هـ، وتَمَلَّكَ عبَّاسٌ وتَمَكَّنَ. عاشَ الظافِرَ اثنتين وعِشرينَ سَنةً, وكانت مُدَّةُ حُكمِه أَربعَ سِنينَ وسَبعةَ أَشهُر وأَربعةَ عشرَ يومًا، وكان سَببُ قَتلِه أن نصرَ بن عبَّاسٍ كان مَلِيحًا، فمالَ إليه الظافرُ وأَحَبَّه، وجَعلَه من نُدَمائِه وأَحبابِه الذين لا يَقدِر على فِراقِهم ساعةً واحدةً، فاتَّهَمَهُ مُؤيِّدُ الدولةِ أُسامةُ بن مُنقِذ بأنه يُفْحِشُ به وذَكرَ ذلك لأَبيهِ عبَّاسٍ فانزَعجَ لذلك وعَظُمَ عليه، فذَكرَ الحالَ لوَلَدِه نَصرٍ، فاتَّفَقا على قَتلِه، فحَضَرَ نَصرٌ عند الظافرِ وقال له: أَشتَهِي أن تَجيءَ إلى داري لدَعوةٍ صَنعتُها، ولا تُكثِر من الجَمعِ؛ فمَشَى معه في نَفَرٍ يَسيرٍ مِن الخَدَمِ لَيلًا، فلمَّا دَخلَ الدارَ قَتَلَه وقَتَلَ مَن معه، وأَفلَتَ خادمٌ صَغيرٌ اختَبأَ فلم يَرَوهُ، ودَفَنَ القَتلَى في دارِه، ثم هَربَ الخادمُ الصغيرُ الذي شاهَدَ قَتْلَه، من دارِ عبَّاسٍ عند غَفْلَتِهم عنه، وأَخبرَ أَهلَ القَصرِ بقَتْلِ نَصرِ بن عبَّاسِ للظافرِ، ثم رَكِبَ عبَّاسٌ من الغَدِ وأَتَى القَصرَ, وقال: أين مولانا؟ فطَلَبوهُ فلم يَجدِوه, فخَرجَ جِبريلُ ويوسفُ أَخَوَا الظافرِ، فقال لهم عبَّاسٌ: أين مولانا؟ قالا: سَلْ ابنَك، فغَضِبَ. وقال: أنتُما قَتَلْتُماهُ، وضَرَبَ رِقابَهُما في الحالِ ليُبعِدَ التُّهمةَ عنه, ثم أَجلسَ الفائزُ بنَصرِ الله أبا القاسمِ عيسى بنَ الظافرِ إسماعيلَ ثاني يَومٍ قُتِلَ أَبوهُ، وله من العُمرِ خمسُ سِنين. حَمَلَهُ عبَّاسٌ على كَتفِه وأَجلَسهُ على سَريرِ المُلْكِ وبايَعَ له الناسُ، وأَخَذَ عبَّاسٌ من القَصرِ من الأَموالِ والجَواهِر والأَعلاقِ النَّفيسَةِ ما أَرادَ، ولم يَترُك فيه إلا ما لا خَيرَ فيه.
نُورُ الدِّين زِنكي يَستَولِي على مَدينةِ دِمشق وانتِهاءُ الدَّولَةِ البوريَّةِ .
العام الهجري : 549 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1154
تفاصيل الحدث:
تَمَلَّك نُورُ الدِّين محمودُ بن زِنكي مَدينةَ دِمشق، وأَخذَها مِن صاحِبِها مُجيرِ الدِّين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، وكان سَببُ جِدِّهِ في مِلْكِها أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا في العام الماضي مَدينةَ عَسقلان لم يكُن لنورِ الدين طَريقٌ لإزعاجِهِم عنها لاعتِراضِ دِمشق بينه وبين عَسقلان، كما أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا عَسقلان طَمِعوا في دِمشق، حتى أنهم استَعرَضوا كلَّ مَن بدِمشق مَملوكًا أو جارِيةً من النَّصارَى، فمَن أرادَ المُقامَ بها تَركوهُ، ومَن أرادَ العَوْدَ إلى وَطنِه أَخذوهُ قَهرًا شاء صاحِبُه أم أَبَى، وكان لهم على أَهلِها كلَّ سَنةٍ قَطيعةٌ يَأخُذونها منهم، فكان رُسُلُهم يدخلون البلدَ ويَأخُذونها منهم، فلمَّا رأى نورُ الدين ذلك خافَ أن يَملِكَها الفِرنجُ فلا يَبقَى له حينئذٍ بالشامِ مُقامٌ، فأَعْمَلَ الحِيلةَ في أَخْذِها حيث عَلِمَ أنها لا تَملِك قُوَّةً، لأن صاحِبَها متى رأى غَلَبَتَهُ عليه راسَلَ الفِرنجَ واستَعانَ بهم فأَعانوهُ لِئَلَّا يَملِكَها؛ فراسَلَ نورُ الدينِ محمودٌ مُجيرَ الدينِ صاحِبَ دِمشق واستَمالَهُ، وواصَلَهُ بالهَدايا، وأَظهرَ له المَودَّةَ حتى وَثِقَ به، فلمَّا لم يَبقَ عنده من الأُمراءِ أَحَدٌ قَدَّمَ أَميرًا يُقال له: عَطَا بن حَفَّاظ السُّلَمِيُّ الخادِمُ، وكان شَهْمًا شُجاعًا، وفَوَّضَ إليه أَمْرَ دَولتِه، فكان نورُ الدينِ لا يَتمكَّن معه مِن أَخْذِ دِمشق، فقَبَضَ مُجيرُ الدينِ على عَطَا الخادمِ فقَتَلهُ، فسار نورُ الدينِ حينئذٍ إلى دِمشقَ، وكان قد كاتَبَ مَن بها من الأَحداثِ واستَمالَهُم، فوَعَدوهُ بالتَّسليمِ إليه، فلمَّا حَصَرَ نورُ الدينِ البلدَ أَرسلَ مُجيرُ الدينِ إلى الفِرنجِ يَبذُل لهم الأَموالَ وتَسليمَ قَلعةِ بعلبك إليهم ليِنجِدوه وليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عنه، فشَرَعوا في جَمْعِ فارِسِهِم وراجِلِهم ليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عن البلدِ، فإلى أن اجتَمَعَ لهم ما يُريدون تَسلَّم نورُ الدينِ البلدَ، فعادوا بخُفَّيْ حُنَينٍ، وأما كَيفِيَّةُ تَسليمِ دِمشق فإنه لمَّا حَصرَها ثارَ الأَحداثُ الذين راسَلَهم، فسَلَّموا إليه البلدَ من البابِ الشرقيِّ ومَلَكَهُ، وحَصَرَ مُجيرَ الدينِ في القَلعةِ، وراسَلَهُ في تَسليمِها وبَذَلَ له أَقطاعًا من جُملَتِه مَدينةُ حِمْصَ، فسَلَّمَها إليه وسار إلى حِمصَ، ثم إنه راسَلَ أَهلَ دِمشق ليُسلِّموا إليه، فعَلِمَ نورُ الدينِ ذلك فَخافَهُ، فأَخَذَ منه حِمصَ، وأَعطاهُ عِوَضًا عنها بالس، فلم يَرْضَهَا، وسار منها إلى العِراقِ، وأَقامَ ببغداد وابتَنَى بها دارًا بالقُربِ من النِّظامِيَّة، وتُوفِّي بها.
قَصْدُ الإسماعيليَّةِ خُراسانَ والظَّفَرُ بهم .
العام الهجري : 549 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1154
تفاصيل الحدث:
اجتَمعَ جَمْعٌ كَثيرٌ من الإسماعيليةِ من قهستان، بلغت عُدَّتُهم سَبعةَ آلافِ رَجلٍ ما بين فارسٍ وراجلٍ، وساروا يُريدون خُراسانَ لاشتِغالِ عَساكرِها بالأَتراكِ الغُزِّ، وقَصَدوا أَعمالَ خواف وما يُجاوِرُها، فلَقِيَهم الأَميرُ فرخشاه بن محمود الكاسانيُّ في جَماعةٍ من حَشَمِه وأَصحابِه، فعَلِمَ أنه لا طاقةَ له بهم، فتَرَكهُم وسار عنهم، وأَرسلَ إلى الأَميرِ محمدِ بن أنر، وهو مِن أَكابرِ أُمراءِ خُراسان وأَشْجَعِهِم، يُعرِّفُه الحالَ، وطلب منه المَسيرَ إليهم بعَسكَرِه ومَن قَدَرَ عليه من الأُمراءِ ليَجتَمِعوا عليه ويُقاتِلوهُم، فسار محمدُ بن أنر في جَماعةٍ من الأُمراءِ وكَثيرٍ من العَسكرِ، واجتَمَعوا هم وفرخشاه، وواقَعُوا الإسماعليةَ وقاتَلوهُم، وطالَت الحَربُ بينهم، ثم نَصَرَ الله المسلمين وانهَزَم الإسماعيليةُ، وكَثُرَ القَتلُ فيهم، وأَخَذَهُم بالسَّيفِ مِن كلِّ مَكانٍ، وهَلَكَ أَعيانُهم وسادَتُهم. بَعضُهم قُتِلَ، وبَعضُهم أُسِرَ، ولم يَسلَم منهم إلا القَليلُ الشَّريدُ، وخَلَت قِلاعُهم وحُصونُهم مِن حَامٍ ومانِعٍ، فلَولا اشتِغالُ العَساكرِ بالغُزِّ الأَتراكِ (التُّركمان) لكانوا مَلَكوها بلا تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ، وأَراحُوا المسلمين منهم، ولكن لله أَمْرٌ هو بالِغُه.
فَتْحُ نورِ الدِّينِ الزِّنكي بعلبكَ وتَقرِيبُه لآلِ أيوب واحتِفاؤهُ بهم .
العام الهجري : 550 العام الميلادي : 1155
تفاصيل الحدث:
كان نَجمُ الدينِ أيوبُ نائِبَ بعلبك، وعلى قَلعَتِها رَجلٌ يُقالُ له الضَّحَّاكُ البِقاعيُّ، فكاتَبَ نَجمُ الدينِ نورَ الدينِ محمودًا، ولم يَزَل نورُ الدينِ يَتلَطَّف البِقاعيَّ حتى أَخَذَ منه القَلعةَ ثم استَدعَى نَجمَ الدينِ أيوبَ إليه بدمشق فأَقطَعَهُ إِقطاعًا حَسَنًا، وأَكرَمهُ. مِن أَجلِ أَخيهِ أَسَدِ الدينِ، فإنه كانت له اليَدُ الطُّولَى في فَتحِ دِمشقَ، وجَعلَ الأَميرَ شَمسَ الدولةِ بوران شاه بن نِجمِ الدينِ شِحْنَةَ دِمشقَ، ثم مِن بَعدِه جَعلَ أَخاهُ صَلاحَ الدينِ يُوسفَ هو الشِّحْنَةَ، وجَعلَهُ مِن خَواصِّهِ لا يُفارِقه حَضَرًا ولا سَفَرًا، لأنه كان حَسَنَ الشَّكلِ حَسَنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وكان نورُ الدينِ يُحِبُّ لَعِبَ الكُرَةِ لِتَمرينِ الخَيلِ وتَعلِيمِها الكَرَّ والفَرَّ.
الغُزُّ الأَتراكُ التُّركُمان يَنْتَزِعُون خوزستان ونيسابور مِن السَّلاجِقَة .
العام الهجري : 550 العام الميلادي : 1155
تفاصيل الحدث:
استَولَى شملةُ التُّركمانيُّ على خوزستان، وكان قد جَمَعَ جَمْعًا كَثيرًا من التُّركمانِ وسار يريد خوزستان، وصاحِبُه حينئذٍ ملكشاه بنُ محمودٍ السَّلجوقيُّ، فسَيَّرَ الخَليفةُ إليه عَسكرًا، فلَقِيَهم شملةُ في رجب، وقاتَلَهم، فانهَزَم عَسكرُ الخَليفةِ، وأَسَرَ وُجُوهَهُم، ثم أَحسَنَ إليهم وأَطلَقَهم، وأَرسلَ يَعتَذِر، فقَبِلَ عُذرَهُ، وسار إلى خوزستان فمَلَكَها وأَزاحَ عنها ملكشاه بنَ مَحمودٍ، ثم سار الغُزُّ الأَتراكُ التُّركمانُ إلى نيسابور، فمَلَكوها بالسَّيفِ، فدَخَلوها وقَتَلوا محمدَ بنَ يحيى الفَقيهَ الشافعيَّ ونَحوًا من ثلاثين ألفًا، وكان السُّلطانُ سنجر له اسمُ السَّلطَنَةِ، وهو مُعتَقلٌ لا يُلتَفَتُ إليه، حتى إنه أراد كَثيرًا من الأيام أن يَركَب، فلم يكُن له مَن يَحمِل سِلاحَه، فشَدَّهُ على وَسَطِه ورَكِبَ، وكان إذا قُدِّمَ له طَعامٌ يَدَّخِر منه ما يَأكلُه وَقتًا آخرَ، خَوفًا من انقِطاعِه عنه، لِتَقصيرِهِم في واجِبِه.
عِصيانُ أَهالي إفريقية على مَلِكِ الفِرنجِ بصِقِلِّيَة .
العام الهجري : 551 العام الميلادي : 1156
تفاصيل الحدث:
مات في سَنةِ 548هـ رجار مَلِكُ صِقِلِّية ومَلَكَ وَلدُه غليالم، وكان فاسِدَ التَّدبيرِ، فخَرجَ من حُكمِه عِدَّةٌ من حُصونِ صِقِلِّية، فلمَّا كان هذه السَّنَةُ قَوِيَ طَمعُ الناسِ فيه، فخَرجَ عن طاعَتِه جَزيرةُ جربة وجَزيرةُ قرقنة، وأَظهَروا الخِلافَ عليه، وخالَفَ عليه أَهلُ إفريقية، فأَوَّلُ مَن أَظهرَ الخِلافَ عليه، من أَهلِ إفريقية، عُمَرُ بنُ أبي الحُسينِ الفِرياني بمَدينةِ صَفاقس، وكان رجار قد استَعمَلَ عليها، لمَّا فَتَحَها، أَباهُ أبا الحُسينِ، وكان من العُلماءِ الصَّالِحين، فأَظهَرَ العَجْزَ والضَّعْفَ، فقال أبو الحُسينِ: استَعْمِل وَلَدِي عُمَرَ فاستَعمَلَه، وأَخَذَهُ رَهينَةً معه إلى صِقِلِّية، فلمَّا وَجَدَ عُمَرُ هذه الفُرصةَ دَعَا أَهلَ المَدينةِ إلى الخِلافِ وقال: يَطلُع جَماعةٌ منكم إلى السُّورِ، وجَماعةٌ يَقصِدون مَساكِنَ الفِرنجِ والنَّصارَى جَميعِهم، ويَقتُلُونهم كُلَّهُم، فلم تَطلُع الشمسُ حتى قَتَلوا الفِرنجَ عن آخرِهِم، وكان ذلك أَوَّلَ سَنةِ 551هـ، ثم أَتبَعَهُ أبو محمدِ بن مطروح بطَرابلُس وبعدَهُما محمد بن رشيد بقابس، وسار عَسكرُ عبدِ المؤمنِ إلى بونة فمَلَكَها وخَرجَت جَميعُ إفريقية عن حُكمِ الفِرنجِ ما عدا المَهدِيَّة وسوسة، وأَرسلَ عُمَرُ بن أبي الحُسينِ إلى زويلة، وهي مَدينةٌ قَريبةٌ إلى المَهديَّة، يُحَرِّضُهم على الوُثوبِ على مَن معهم فيها من النَّصارَى، ففَعَلوا ذلك، وقَدِمَ عَربُ البلادِ إلى زويلة، فأَعانوا أَهلَها على مَن بالمَهدِيَّة من الفِرنجِ، وقَطَعوا الميرةَ عن المَهدِيَّة. فلمَّا اتَّصَلَ الخَبرُ بغليالم مَلِكِ صِقِلِّية أَحضَرَ أبا الحُسينِ وعَرَّفَه ما فعل ابنُه، فأَمَرَ أن يَكتُب إليه يَنهاهُ عن ذلك، ويَأمُرهُ بالعَوْدِ إلى طاعَتِه، ويُخَوِّفُه عاقِبةَ فِعْلِه، فقال: مَن قَدِمَ على هذا لم يَرجِع بِكتابٍ؛ فأَرسلَ مَلِكُ صِقِلِّية إليه رَسولًا يَتَهَدَّدهُ، ويَأمُرهُ بِتَرْكِ ما ارتَكَبَهُ، فلم يُمَكِّنهُ عُمَرُ مِن دُخولِ البلدِ يَومَه ذلك، فلمَّا كان الغَدُ خَرجَ أَهلُ البلدِ جَميعُهم ومعهم جَنازةٌ، والرَّسولُ يُشاهِدهُم، فدَفَنوها وعادوا، وأَرسلَ عُمَرُ إلى الرَّسولِ يقول له: هذا أبي قد دَفنتُه، وقد جَلستُ للعَزاءِ به، فاصنَعوا به ما أَردتُم، فعاد الرَّسولُ إلى غليالم فأَخبرَهُ بما صَنعَ عُمَرُ بن أبي الحُسينِ، فأَخذَ أَباهُ وصَلَبَهُ، فلم يَزَل يَذكُر الله تعالى حتى مات، وأمَّا أَهلُ زويلة فإنهم كَثُرَ جَمعُهم بالعَربِ وأَهلِ صفاقس وغَيرِهم، فحَصَروا المَهدِيَّة وضَيَّقوا عليها، وكانت الأَقواتُ بالمَهدِيَّة قَليلةً.
دُخولُ فِرنجِ صِقِلِّيَةَ زَوِيلةَ ونَهْبُها وقَتْلُ نِسائِها وأَطفالِها .
العام الهجري : 551 العام الميلادي : 1156
تفاصيل الحدث:
لمَّا حَصرَ أهالي أفريقية المَهدِيَّة سَيَّرَ إليها صاحِبُ صِقِلِّية عِشرينَ شِينِيًّا –سُفن كبيرة- فيها الرِّجالُ والطَّعامُ والسِّلاحُ، فدَخَلوا البلدَ، وأَرسَلوا إلى العَربِ وبَذَلوا لهم مالًا لِيَنهَزِموا، وخَرَجوا من الغَدِ، فاقتَتَلوا هُم وأَهلُ زَوِيلةَ، فانهَزَمَت العَربُ، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ وأَهلُ صفاقس يُقاتِلون الفِرنجَ بِظَاهِرِ البلدِ، وأَحاطَ بهم الفِرنجُ، فانهَزَم أَهلُ صفاقس ورَكِبوا في البَحرِ فنَجوا، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ، فحَمَلَ عليهم الفِرنجُ فانهَزَموا إلى زَويلةَ، فوَجَدوا أَبوابَها مُغلَّقَة فقاتَلوا تحتَ السُّورِ، وصَبَروا حتى قُتِلَ أَكثرُهم ولم يَنجُ إلا القليلُ فتَفَرَّقوا، ومَضَى بَعضُهم إلى عبدِ المؤمنِ، فلمَّا قُتِلُوا هَرَبَ مَن بها مِن الحُرَمِ والصِّبيانِ والشُّيوخِ في البَرِّ، ولم يُعرِّجوا على شيءٍ مِن أَموالِهم، ودَخلَ الفِرنجُ زَوِيلةَ وقَتَلوا مَن وَجَدوا فيها من النِّساءِ والأَطفالِ، ونَهَبوا الأَموالَ، واستَقَرَّ الفِرنجُ بالمَهدِيَّة إلى أن أَخَذَها عبدُ المؤمن منهم.
حِصارُ السُّلطانِ محمدِ بنِ مَحمودٍ السَّلجوقيِّ بغدادَ .
العام الهجري : 551 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1156
تفاصيل الحدث:
أَرسلَ السُّلطانُ محمدُ بنُ مَحمودِ بنِ ملكشاه إلى الخَليفةِ المُقتَفِي يَطلُب منه أن يُخطَب له في بغداد، فلم يُجِبهُ إلى ذلك، فسار من همذان إلى بغداد لِيُحاصِرَها، فانجَفَلَ الناسُ وحَصَّنَ الخَليفةُ البلدَ، وجاء السُّلطانُ محمدُ فحَصَرَ بغدادَ، ووَقَفَ تِجاهَ التَّاجِ مِن دارِ الخِلافَةِ في جَحْفَلٍ عَظيمٍ، ورَموا نَحوَهُ النُّشَّابَ، وقاتَلَت العامَّةُ مع الخَليفةِ قِتالًا شَديدًا بالنِّفْطِ وغَيرِه، واستَمَرَّ القِتالُ مُدَّةً، فبينما هُم كذلك إذ جاءَهُ الخَبرُ أن أَخاهُ قد خَلَفَهُ في همذان، فانشَمَرَ عن بغداد إليها، في رَبيعٍ الأوَّل من سَنةِ اثنتين وخمسين، وتَفَرَّقَت عنه العَساكِرُ الذين كانوا معه في البلادِ، وأَصابَ الناسَ بعدَ ذلك القِتالِ مَرَضٌ شَديدٌ، ومَوْتٌ ذَريعٌ، واحتَرَقَت مَحالٌّ كَثيرةٌ من بغداد، واستَمَرَّ ذلك فيها مُدَّةَ شَهرَينِ.
حَصْرُ نُورِ الدِّينِ مَحمودٍ زِنْكِي قَلعةَ حارِم .
العام الهجري : 551 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1156
تفاصيل الحدث:
جَمَعَ نورُ الدينِ بنُ محمودٍ صاحِبُ الشامِ، العَساكِرَ بحَلَب، وسار إلى قَلعةِ حارِم، وهي للفِرنجِ غَربيَّ حَلَب، فحَصَرَها وَجَدَّ في قِتالِها، فامتَنَعَت عليه بحَصَانَتِها، وكَثرَةِ مَن بها من فِرسانِ الفِرنجِ ورَجَّالَتِهم، فلمَّا عَلِمَ الفِرنجُ ذلك جَمَعوا فارِسَهم وراجِلَهم من سائرِ البلادِ، وحَشَدوا، واستَعَدُّوا، وساروا نَحوَها لِيُرَحِّلُوه عنها، فلمَّا قارَبوهُ طَلَبَ منهم المُصَافَّ، فلم يُجِيبوهُ إليه، وراسَلوهُ، وتَلَطَّفوا الحالَ معه، فلمَّا رأى أنه لا يُمكِنهُ أَخْذُ الحِصنِ، ولا يُجيبُونَه إلى المُصَافِّ، وكان بالحِصنِ شَيطانٌ مِن شَياطِينِهم يَعرِفون عَقْلَهُ ويَرجِعون إلى رَأيهِ، فأَرسلَ إليهم يقول: إننا نَقدِر على حِفْظِ القَلعَةِ، وليس بنا ضَعْفٌ، فلا تُخاطِروا أنتم باللِّقاءِ، فإنه إن هَزَمَكُم أَخَذَها وغَيرَها، والرَّأيُ مُطاوَلَتُه؛ فأَرسَلوا إليه وصالَحوهُ على أن يُعطوهُ نِصفَ أَعمالِ حارِم، فاصطَلَحوا على ذلك، ورَحَلَ عنهم.
فَتْحُ نُورِ الدِّينِ محمودٍ زنكي حِصْنَ شيزر .
العام الهجري : 552 العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
حِصنُ شيزر قَريبٌ مِن حماة، بينهما نِصفُ نَهارٍ، وهو على جَبلٍ عالٍ مَنيعٍ لا يُسلَك إليه إلا مِن طَريقٍ واحدةٍ. وكان لآلِ مُنقِذ الكِنانِيِّين يَتَوارثونَهُ من أَيامِ صالِحِ بنِ مرداس، ثم تُوفِّي سُلطانُها وبَقِيَ بعدَه أَولادُه، فبَلَغَ نورَ الدينِ عنهم مُراسلةُ الفِرنجِ، فاشتَدَّ حِنقُه عليهم، وانتَظرَ فُرصةً تُمَكِّنُهُ، فلمَّا خَرِبَت القَلعةُ من الزَّلزلَةِ لم يَنجُ من بني مُنقِذٍ الذين بها أَحَدٌ، وخَرِبَت القَلعةُ وسَقطَ سُورُها وكلُّ بِناءٍ فيها، ولم يَنجُ منها إلا الشَّريدُ، فبادَرَ إليها بَعضُ أُمرائِه، وكان بالقُربِ منها فمَلَكَها وتَسلَّمَها نورُ الدينِ منه، فمَلَكَها وعَمَّرَ أَسوارَها ودُورَها، وأَعادَها جَديدةً.
=======
104.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
انقِراضُ دَولةِ المُلَثَّمِين (المُرابِطِين) في الأَندلُس .
العام الهجري : 552 العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
انقَرَضَت دَولةُ المُلَثَّمِين(المُرابِطِين) بالأندلس، وسَببُ ذلك أن عبدَ المؤمن لمَّا استَعمَل ابنَه أبا سَعيدٍ عَلِيًّا على الجَزيرَةِ الخَضراءِ ومالقة، عَبَرَ أبو سعيدٍ البحرَ إلى مالقة، واتَّخَذَها دارًا، وكاتَبَهُ أَميرُ المُرابِطين بالأندلس ميمونُ بنُ بَدرٍ اللَّمتُوني، صاحِبُ غرناطة، أن يُوَحِّد ويُسَلِّم إليه غرناطة، فقَبِلَ أبو سعيدٍ ذلك منه وتَسَلَّم غرناطة، فسار ميمون إلى مالقة بأَهلِه ووَلَدِه، فتَلَقَّاهُ أبو سعيدٍ، وأَكرَمَهُ، ووَجَّهَهُ إلى مراكش، فأَقبلَ عليه عبدُ المؤمن وانقَرَضَت دَولةُ المُلَثَّمِين ولم يَبقَ لهم إلا جَزيرةُ ميورقة مع حمو بن غانية.
عبدِ المُؤمِن قائدِ المُوَحِّدِين يسيطر على مدينة المِرْيَةَ في الأَندَلُسِ .
العام الهجري : 552 العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
لمَّا مَلَكَ أبو سَعيدٍ عليُّ بنُ عبدِ المُؤمنِ غرناطة جَمعَ الجُيوشَ وسار إلى مَدينةِ المِريَةِ، وهي بأَيدِي الفِرنجِ، أَخَذوها من المسلمين سَنةَ 542هـ، فلمَّا نازَلَها وَافاهُ الأُسطولُ مِن سَبتَة وفيه خَلْقٌ كَثيرٌ من المسلمين، فحَصَروا المِريَةَ بَرًّا وبَحرًا، وجاء الفِرنجُ إلى حِصنِها، فحَصَرَهُم فيها ونَزَلَ عَسكرُه على الجَبلِ المُشرِف عليها، وبَنَى أبو سَعيدٍ سُورًا على الجَبلِ إلى البَحرِ، وعَمِلَ عليه خَندقًا، فصارَت المَدينةُ والحِصنُ الذي فيه الفِرنجُ مَحصُورِينَ بهذا السُّورِ والخَندَق، ولا يُمكِن مَن يُنجِدُهُما أن يَصِلَ إليهما، فجمع الأذفونشُ مَلِكُ الفِرنجِ بالأَندلسِ، والمَعروفُ بالسليطين، اثني عشر ألف فارس من الفِرنجِ، ومعه محمدُ بن سعدِ بن مردنيش في سِتَّةِ آلافِ فارس من المسلمين، وراموا الوُصولَ إلى مَدينةِ المِريَةِ ودَفْعَ المسلمين عنها، فلم يُطيقوا ذلك، فرَجعَ السليطين وابنُ مردنيش خائِبينَ، فماتَ السليطين في عَوْدِه قبلَ أن يَصِلَ إلى طُليطِلَة. وتَمادَى الحِصارُ على المِريَةِ ثلاثةَ أَشهُر، فضاقَت المِيرةُ، وقَلَّت الأَقواتُ على الفِرنجِ، فطَلَبوا الأَمانَ لِيُسلِّموا الحِصنَ، فأَجابَهم أبو سعيدٍ إليه وأَمَّنَهُم، وتَسلَّم الحِصنَ، ورَحلَ الفِرنجُ في البَحرِ عائِدينَ إلى بِلادِهم فكان مِلْكُ الفِرنجِ لِمريَةِ عشرَ سِنينَ.
غَزْوُ صاحِبِ طبرستان الإسماعِيلِيَّةَ .
العام الهجري : 552 العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
جَمعَ شاه مازندران رستم بنُ عليِّ بنِ شهريار عَسكرَهُ، وسارَ ولم يَعلَم أَحَدٌ جِهَةَ مَقصِدِهِ، وسَلكَ المَضايِقَ، وجَدَّ السَّيْرَ إلى بلدِ ألموت، وهي للإسماعيليَّةِ على الرغمِ من أنه شِيعِيٌّ شَديدُ التَّشَيُّعِ، فأَغارَ عليها وأَحرقَ القُرَى والسَّوادَ، وقَتَلَ فأَكثرَ، وغَنِمَ أَموالَهم، وسَبَى نِساءَهُم، واستَرَقَّ أَبناءَهُم فباعَهُم في السُّوقِ وعادَ سالِمًا غانِمًا، وانخَذلَ الإسماعيليةُ، ودَخَلَ عليهم من الوَهَنِ ما لم يُصابوا بمِثلِه، وخَرِبَ من بِلادِهم ما لا يُعَمَّر في السِّنين الكَثيرَةِ.
قِتالُ عَسكَرِ العُبيدِيِّينَ (الفاطِمِيِّينَ) مع الفِرنجِ .
العام الهجري : 552 العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
انفَسَخَت الهُدنَةُ بين الفِرنجِ وبين المِصرِيِّين، فشَرَعَ الوَزيرُ الصالحُ أبو الغارات الأَرمَنيُّ الرَّافِضيُّ في النَّفَقَةِ على العَساكِرِ وعِربانِ البِلادِ للغارَةِ على بلادِ الفِرنجِ. فأَخرجَ سَرِيَّةً في سابع عشر جُمادَى الأُولى وأَتبَعَها بأُخرَى في رابع عشر جُمادَى الآخِرَة؛ فوَصَلَت الأُولى إلى غَزَّة ونَهَبَت أَطرافَها، ثم سارت إلى عَسقلانَ فأَسَرَت وغَنِمَت وعادَت مُنتَصِرةً. ثم نَدَبَ سَرِيَّةً ثالِثةً، فمَضَت إلى الشريعةِ فأَبْلَت بَلاءً حَسنًا وعادَت مُنتَصِرةً أيضًا. وسَيَّرَ المَراكِبَ الحَربيَّة فانتَهَت إلى بيروت وأَوقَعَت بمَراكِبِ الفِرنجِ وأَسَرَت منهم وغَنِمَت. وسَيَّرَ عَسكرًا في البَرِّ إلى بلادِ الشَّوبكِ فعاثوا فيها وغاروا ورَجَعوا بالغَنائمِ في رجب ومعهم كَثيرٌ من الأَسرَى. ثم سَيَّرَ الأُسطولَ إلى عكا فأَسَروا نَحوًا من سبعمائة نَفْسٍ بعدَ حُروبٍ كَثيرةٍ، وعاد الأُسطولُ في رمضان. وجَهَّزَ سَرِيَّةً فغارَت على بلادِ الفِرنجِ وعادَت بالغَنائمِ في رمضان. ثم بَدأَت سَرِيَّةٌ في أوَّلِ ذي القعدةِ وأَردَفها بأُخرى في خامسِه فوَصَلَت غارَاتُهم إلى أَعمالِ دِمشقَ وعادوا غانِمينَ.
تَحالَفَ إمبراطور بِيزَنطَة ومَلِكِ القُدسِ الصَّليبي ضِدَّ نُورِ الدِّينِ زِنكي .
العام الهجري : 552 العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
تَحالَفَ بودان الثالثُ مَلِكُ بَيتِ المَقدِس مع الإمبراطورِ البِيزنطيِّ مانويل كومنين ضِدَّ نورِ الدينِ مَحمودٍ مُقابِلَ إطلاقِ يَدِ الإمبراطورِ البِيزنطي في أنطاكية, وزَواجِ بودان الثالثِ من تيودورا ابنَةِ أخي الإمبراطور.
وَفاةُ سنجر مَلِكِ السَّلاجِقَةِ فارِسِ وعَمِيدِ الأُسرَةِ السَّلجوقِيَّة .
العام الهجري : 552 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ مُعِزُّ الدِّينِ أبو الحارِثِ سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن جغريبك بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق؛ الغُزِّيُّ، التُّركيُّ، السَّلجوقيُّ سُلطانُ خراسان وغُزنَة وما وَراءَ النَّهرِ. كانت وِلادَتُه يومَ الجُمعةِ لِخَمسٍ بَقِينَ من رجب سَنةَ 479هـ بظاهِرِ مَدينةِ سنجار، ولذلك سُمِّيَ بسنجر. نَشأَ ببلادِ الخَزَر، ثم سَكنَ خراسان. كان مِن أَعظمِ المُلوكِ هِمَّةً، وأَكثرِهم عَطاءً، ذُكِرَ عنه أنه اصطَبَحَ خَمسةَ أيامٍ مُتوالِيَة ذَهَبَ في الجُودِ بها كلَّ مَذهَبٍ، فبَلَغَ ما وَهَبَهُ مِن العَينِ سبعمائة ألف دينار، غيرَ ما أَنعمَ من الخَيلِ والخِلَعِ والأَثاثِ وغيرِ ذلك. وَلِيَ نِيابةً عن أَخيهِ السُّلطانِ بركياروق سَنةَ 490هـ، ثم استَقَلَّ بالمُلْكِ في سَنةِ 512هـ. كان في أَيامِ أَخيهِ يُلَقَّب بالمَلِكِ المُظَفَّر إلى أن تُوفِّيَ أَخوهُ محمدٌ بالعِراقِ، آخرَ سَنةِ 511هـ، فتَسَلْطَنَ، وَرِثَ المُلْكَ عن آبائهِ، وزادَ عليهم، ومَلَكَ البِلادَ، وقَهَرَ العِبادَ، وكان وَقورًا حَيِيًّا، كَريمًا سَخِيًّا، مُشفِقًا، ناصِحًا لِرَعِيَّتِه، كَثيرَ الصَّفْحِ، جَلَسَ على سَريرِ المُلْكِ قَريبًا من سِتِّين سَنةً, وضُرِبَت السِّكَّةُ باسمِه في الخافِقَينِ. كان قد خُوطِبَ سنجر بالسُّلطانِ بعدَ وَفاةِ أَخيهِ محمدٍ، فاستَقامَ أَمرُه، وأَطاعَهُ السَّلاطينُ، وخُطِبَ له على أَكثرِ مَنابرِ الإسلامِ بالسَّلطَنَةِ نحوَ أربعين سَنَةً، وكان قَبلَها يُخاطَب بالمَلِكِ عِشرينَ سَنةً, ولم يَزَل أَمرُهُ عالِيًا وَجَدُّهُ مُتراقِيًا إلى أن أَسَرَهُ الغُزُّ الأَتراكُ التُّركمان، ثم إنه خُلِّصَ مِن الأَسْرِ بعدَ مُدَّةٍ وجَمَعَ إليه أَطرافَهُ بمَرو، وكاد يعودُ إليه مُلْكُه، لولا أنه أَدرَكَهُ أَجَلُه، فقد أَصابَهُ قولنج، ثم إسهال، فماتَ منه، ولمَّا مات دُفِنَ في قُبَّةٍ بَناها لِنَفسِه سَمَّاها دارَ الآخِرَةِ؛ ولمَّا وَصَلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد قُطِعَت خُطبتُه، ولم يُجلَس له في الدِّيوانِ للعَزاءِ، وانقَطَع بمَوتِه استِبدادُ المُلوكِ السَّلجوقيَّة بخراسان، واستَولَى على أَكثرِ مَملَكتِه خوارزم شاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين، وهو جَدُّ السُّلطانِ محمدِ بن تكش خوارزم شاه، فسُبحان مَن لا يَزولُ مُلْكُه. كان السُّلطانُ سنجر لمَّا حَضَرَهُ المَوتُ استَخلَفَ على خراسان المَلِكَ محمودَ بنَ محمدِ بنِ بغراجان، وهو ابنُ أُختِ السُّلطانِ سنجر، فأَقامَ بها خائِفًا من الغُزِّ، فقَصَدَ جرجان يَستَظهِر بها، وعاد الغُزُّ إلى مَرو وخراسان، واجتَمَعَ طائفةٌ من عَساكرِ خراسان على أي أبه المؤيد -أحد مماليك سنجر السلجوقي- فاستَولَى على طَرفٍ من خراسان. وبَقِيَت خراسان على هذا الاختِلالِ إلى سَنةِ أربعٍ وخمسين.
جَمعٌ من الجُندِ ينَهْبُون ويقَتْلُون حجيج خُراسان .
العام الهجري : 552 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
سار حُجَّاجُ خُراسان، فلمَّا رَحَلوا عن بسطام أغار عليهم جَمعٌ من الجُندِ الخُراسانيَّة قد قَصَدوا طبرستان، فأَخَذوا من أَمتِعَتَهم، وقَتَلوا نَفرًا منهم، وسَلِمَ الباقون وساروا من مَوضِعهم، فبينما هم سائِرون إذ طَلُعَ عليهم الإسماعيليَّةُ، فقاتَلَهم الحُجَّاجُ قِتالًا عَظيمًا، وصَبَروا صَبرًا عَظيمًا، فقُتِلَ أَميرُهم، فانخَذَلوا، وأَلقَوا بأيديهم، واستَسلَموا وطَلَبوا الأَمانَ، وأَلقَوا أَسلِحَتَهم مُستَأمِنينَ، فأَخَذهم الإسماعيليَّةُ وقَتَلوهُم، ولم يُبقوا منهم إلا شِرذِمةً يَسيرَةً؛ وقُتِلَ فيهم من الأئمَّةِ والعُلماءِ والزُّهَّادِ والصُّلَحاءِ جَمعٌ كَثيرٌ، وكانت مُصيبةً عَظيمةً عَمَّت بِلادَ الإسلامِ، وخَصَّت خُراسان، ولم يَبقَ بلدٌ إلا وفيه المَأتَمُ، فلمَّا كان الغَدُ طافَ شَيخٌ في القَتلَى والجَرحَى يُنادِي يا مُسلِمين، يا حُجَّاج، ذَهبَ المَلاحِدَةُ، وأنا رَجلٌ مُسلمٌ، فمَن أرادَ الماءَ سَقَيتُه؛ فمَن كَلَّمَهُ قَتَلَهُ وأَجهَز عليه، فهَلَكوا جَميعُهم إلا مَن سَلِمَ ووَلَّى هارِبًا؛ وقَليلٌ ما هُم.
حِمايةُ نُورِ الدِّينِ مَحمودٍ للشامِ من الفِرنجِ بعدَ زَلازلَ قَوِيَّةٍ تُدمِّرُها .
العام الهجري : 552 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1157
تفاصيل الحدث:
كان بالشامِ زَلازلُ كَثيرةٌ قَوِيَّةٌ خَرَّبَت كَثيرًا من البلادِ، وهَلَكَ فيها ما لا يُحصَى كَثْرَةً، فخَرِبَ منها بالمرة: حماة، وشيزر، وكفر طاب، والمعرة، وأفاميا، وحِمصُ، وحِصنُ الأَكرادِ، وعرقة، واللَّاذِقِيَّة، وطَرابلُس، وأَنطاكية، وأما ما لم يَكثُر فيه الخَرابُ ولكن خَرِبَ أَكثرُه فجَميعُ الشامِ، وتَهَدَّمَت أَسوارُ البلادِ والقِلاعِ، فقام نورُ الدينِ محمودٌ في ذلك المقام المرضي، وخاف على بلادِ الإسلامِ من الفِرنجِ حيث خَرِبَت الأَسوارُ، فجَمَعَ عَساكِرَه وأَقامَ بأَطرافِ بِلادِه يُغيرُ على بلادِ الفِرنجِ ويَعمَل في الأَسوارِ في سائرِ البلادِ، فلم يزل كذلك حتى فَرغَ من جَميعِ أَسوارِ البِلاد.
الحَربُ بين الغُزِّ الأَتراكِ التُّركمانِ والإسماعيليَّةِ بخُراسان .
العام الهجري : 553 العام الميلادي : 1158
تفاصيل الحدث:
نَزلَ جَمْعٌ من الإسماعيليَّةِ من قِلاعِهم وهُم ألفٌ وسبعمائة رَجلٍ. على طائفةٍ من الغُزِّ الأَتراكِ التُّركمانِ كانوا بنَواحِي قهستان، فأَوقَعوا بهم، فلم يَجِدوا الرِّجالَ، وكانوا قد فارَقوا بُيوتَهم، فنَهَبوا الأَموالَ، وأَخَذوا النِّساءَ والأَطفالَ، وأَحرَقوا ما لم يَقدِروا على حَملِه، وعادَ التُّركمانُ ورَأوا ما فُعِلَ بهم، فتَبِعوا أَثرَ الإسماعيليَّةِ، فأَدرَكوهُم وهُم يَقتَسِمون الغَنيمةَ، فكَبَّرُوا وحَمَلوا عليهم، ووَضَعوا فيهم السَّيفَ، فقَتَلوهُم كيف شاءوا، فانهَزَم الإسماعيليَّةُ وتَبِعَهم التُّركمانُ حتى أَفنوهُم قَتْلًا وأَسْرًا، ولم يَنجُ إلا تِسعةُ رِجالٍ.
فِتنَةُ الغُزِّ الأَتراكِ التُّركمانِ بالجَبلِ وقِتالُهم .
العام الهجري : 553 العام الميلادي : 1158
تفاصيل الحدث:
كَثُرَ فَسادُ الغُزِّ الأَتراكِ التُّركمانِ أَصحابِ بُرجُم الإيوائي بالجَبلِ، فسَيَّرَ إليهم الخَليفةُ العبَّاسيُّ المُقتَفِي مِن بغداد عَسكرًا مُقَدَّمَهُم منكبرسُ المسترشدي، فلمَّا قارَبَهُم اجتَمَعَ التُّركمانُ، فالتَقوا واقتَتَلوا هُم ومنكبرس، فانهَزَم التُّركمانُ أَقبحَ هَزيمَةٍ، فقُتِلَ بَعضُهم، وأُسِرَ البَعضُ الآخَر، وحُمِلَت الرُّؤوسُ والأَسارَى إلى بغداد.
القِتالُ بين عَسكرِ العُبيدِيِّينَ (الفاطِمِيِّينَ) والفِرنج .
العام الهجري : 553 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1158
تفاصيل الحدث:
جَهَّزَ المَلِكُ الصالحُ أبو الغارات الأَرمنيُّ الرَّافِضيُّ وَزيرُ العاضِدِ حاكِم مصر العُبيديُّ أَربعةَ آلافٍ وأَمَّرَ عليهم شَمسَ الخِلافَةِ أبا الأَشبالِ ضِرغامًا للغارَةِ على بِلادِ الفِرنجِ، فساروا إلى تَلِّ العُجولِ وحارَبوا الفِرنجَ، فانهَزَموا من المسلمين هَزيمةً قَبيحةً عليهم. وسَيَّرَ عَسكرًا فوَاقَعوا الفِرنجَ على العَريشِ وعادوا ظافِرينَ بعِدَّةِ غَنائمَ ما بين خُيولٍ وأَموالٍ، وسار الأُسطولُ في يَومِ الجُمعةِ ثالث عشر رَبيعٍ الآخر فانثَنَى إلى تنيس في الثامنِ من شعبان وأَقلعَ منه إلى بِلادِ الفِرنجِ، وفي سادس عشر رَبيعٍ الآخَر قَدِمَ أُسطولُ الإسكندريَّةِ وقد امتَلأَت أَيدِي الغُزاةِ بالغَنائمِ، وفي رَبيعٍ الآخَر سار عَسكرٌ إلى وادي موسى فنَزَل على حِصنِ الدميرةِ وحاصَرَهُ ثمانيةَ أيامٍ، وتَوجَّه إلى الشَّوبكِ وأَغارَ على ما هنالك؛ وأَقامَ أَميرانِ على الحِصارِ وعاد بَقِيَّةُ العَسكرِ، وفي التاسعِ من جُمادَى الأُولى سار عَسكرٌ إلى القُدسِ فخَرَّبَ وعادَ بالغَنائمِ. ووَرَدَ الخَبرُ بوَقعَةٍ كانت على طبرية كُسِرَ فيها الفِرنجُ وانهَزَموا، فأَخَذَ الصَّالحُ في النَّفَقَةِ على طَوائفِ العَسكرِ، وكان جُملةُ ما أَنفقَهُ فيها مائةَ ألفِ دِينارٍ. فلمَّا تَكامَل تَجهيزُهم سَيَّرَهُم في الخامسِ من شعبان، فتَوَجَّهَت لِسَواحلِ الشامِ، وظَفرَت بمَراكِبَ من مَراكبِ الفِرنجِ وعادَت بكَثيرٍ من الغَنائمِ والأَسرَى في الثاني والعشرين من رمضان. وخَرجَ العَسكرُ في البَرِّ وقد وَرَدَ الخَبرُ بحَركَةِ مُتَمَلِّكِ العَريشِ يُريدُ الغارَةَ على أَطرافِ البِلادِ، فلمَّا بَلَغَهُ سَيْرُ العَسكرِ لم يَتحرَّك، ورَجعَ العَسكرُ.
مُعاوَدَةُ الغُزِّ الأَتراكِ (التُّركمانِ) الفِتنةَ بخُراسان وقِتالُهم .
العام الهجري : 553 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1158
تفاصيل الحدث:
كان الغُزُّ الأَتراكُ (التُّركمانُ) قد أَقاموا بمَدينةِ بَلخ واستَوطَنُوها، وتَرَكوا النَّهْبَ والقَتْلَ ببلادِ خُراسان، واتَّفَقَت الكَلمةُ بها على طاعَةِ السُّلطانِ خاقان محمود بن أرسلان، وكان المُتَوَلِّي لِأُمورِ دَولتِه المُؤيَّدُ أي أبه -أحد مماليك سنجر- وعن رَأيِه يَصدُر محمودٌ، فلمَّا كان هذه السَّنةَ في شعبان، سار الغُزُّ من بَلخ إلى مَرو، وكان السُّلطانُ محمود بسرخس في العَساكرِ، فسار المُؤيَّد أي أبه بطائِفَةٍ من العَسكرِ إليهم، فأَوقعَ بطائفةٍ منهم، وظَفَرَ بهم، ولم يَزَل يَتْبَعُهم إلى أن دَخَلوا إلى مَرو أَوائلَ رمضان وغَنِمَ من أَموالِهم، وقَتلَ كَثيرًا وعاد إلى سرخس، فاتَّفَقَ هو والسُّلطانُ محمودٌ على قَصْدِ الغُزِّ وقِتالِهم، فجَمَعَا العَساكرَ وحَشَدَا، وسارَا إلى الغُزِّ، فالتَقوا سادسَ شَوَّال من هذه السَّنَةِ، وجَرَت بينهم حَربٌ طالَ مَداها، فبقوا يَقتَتِلون من يَومِ الاثنينِ تاسِعَ شَوَّال إلى نِصفِ اللَّيلِ من لَيلةِ الأَربعاءِ الحادي عشر من الشهرِ، تَواقَعوا عِدَّةَ وَقَعات مُتَتَابِعَة، ولم يكُن بينهم راحةٌ، ولا نُزولٌ، إلا لِمَا لا بُدَّ منه؛ انهَزَمَ الغُزُّ فيها ثلاثَ دَفعاتٍ، وعادوا إلى الحَربِ. فلمَّا أَسفرَ الصُّبحُ يومَ الأَربعاءِ انكَشَفَت الحَربُ عن هَزيمةِ عَسكرِ خُراسان وتَفَرُّقِهِم في البلادِ، وظَفَرَ الغُزُّ بهم، وقَتَلوا فأَكثَروا فيهم، وأمَّا الأَسرَى والجَرحَى فأَكثرُ من ذلك.
ضَمُّ المُوَحِّدِين عَدَدًا من مَناطِقَ إفريقية .
العام الهجري : 554 العام الميلادي : 1159
تفاصيل الحدث:
وفي مُدَّةِ حِصارِ عبدِ المُؤمنِ للمَهديَّةِ أَطاعَتهُ صفاقسُ، وكذلك مَدينةُ طرابلس، وجِبالُ نَفُوسَة، وقُصورُ إفريقية وما وَالَاهَا، وفَتَحَ مَدينةَ قابس بالسَّيفِ، وسَيَّرَ ابنَه أبا محمدٍ عبدَ الله في جَيشٍ ففَتَحَ بِلادًا، ثم إن أَهلَ مَدينةِ قفصة لمَّا رَأوا تَمَكُّنَ عبدِ المؤمنِ أَجمَعوا على المُبادَرَةِ إلى طاعَتِه، وتَسليمِ المَدينةِ إليه.
الفِتنَةُ بين الشَّافعيَّةِ والشِّيعَةِ في استراباذ .
العام الهجري : 554 العام الميلادي : 1159
تفاصيل الحدث:
وَقعَ في استراباذ -جرجان حاليا، شمال إيران- فِتنةٌ عَظيمةٌ بين العَلَوِيِّين ومَن يَتبَعُهم مِن الشِّيعَةِ وبين الشافعيَّةِ ومَن معهم، وكان سَببُها أن الإمامَ محمدًا الهَرويَّ وَصلَ إلى استراباذ، فعَقَدَ مَجلِسَ الوَعظِ، وكان قاضِيَها أبو نصرٍ سعدُ بن محمدِ بن إسماعيلَ النعيميُّ شافعيُّ المَذهَبِ أيضًا فثار العَلَوِيِّون ومَن يَتبَعُهم مِن الشِّيعَةِ بالشافعيَّةِ ومَن يَتبَعُهم باستراباذ، ووَقَعَت بين الطائِفَتينِ فِتنةٌ عَظيمةٌ انتَصرَ فيها العَلَوِيُّون، فقُتِلَ من الشافعيَّةِ جَماعةٌ، وضُرِبَ القاضي ونُهِبَت دارُه ودُورُ مَن معه، وجَرَى عليهم من الأُمورِ الشَّنيعةِ ما لا حَدَّ عليه، فسَمِعَ شاه مازندران الخَبرَ فاستَعظَمَهُ، وأَنكَرَ على العَلَوِيِّين فِعْلَهم، وبالَغَ في الإنكارِ مع أنه شَديدُ التَّشَيُّعِ، وقَطَعَ عنهم جِراياتٍ كانت لهم، ووَضَعَ الجِباياتِ والمُصادَراتِ على العامَّةِ، فتَفَرَّقَ كَثيرٌ منهم وعادَ القاضي إلى مَنصِبِه وسَكَنَت الفِتنةُ.
نِهايَةُ الدَّولةِ النَّجاحِيَّة وقِيامُ دَولةِ بَنِي مَهديٍّ باليَمنِ .
العام الهجري : 554 العام الميلادي : 1159
تفاصيل الحدث:
كان بَنُو نَجاحٍ يَحكُمون تِهامَة وكان أَميرُهم فاتك بن منصور الذي تُوفِّي سَنةَ 540هـ وكان ظَهَرَ في أَيامِه المَهدِيُّون، فهاجَمُوا بإِمْرَةِ عليِّ بن مَهديٍّ بِلادَ بَنِي نَجاحٍ سَنةَ 538هـ غيرَ أنَّهم هُزِمُوا وانسَحَب عليُّ بن مَهديٍّ إلى الجِبالِ، وبعدَ مَوتِ فاتك خَلَفَهُ فاتك بن محمد بن فاتك، وبَقِيَ إلى أَواخرِ هذا العامِ فكان آخِرَ مُلوكِ بَنِي نَجاحٍ ونِهايةَ دَولَتِهم به، ثم أَغارَ عليُّ بن مَهديٍّ مَرَّةً أُخرَى على زبيدٍ فاستَنجَد أَهلُها ببَنِي الرس وكان إمامُهم المُتَوَكِّلَ أحمدَ بن سُليمانَ فأَنجَدَهُم ودَفَعَ عنهم غاراتِ عليِّ بن مَهديٍّ الذي استَطاعَ دُخولَها سَنةَ 553هـ.
عبد المُؤمِن قائدِ المُوَحِّدِين ينتزع مدينة المَهديَّةَ من الفرنج .
العام الهجري : 554 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1159
تفاصيل الحدث:
لمَّا مَلَكَ الفِرنجُ مَدينةَ المَهديَّة وفَعَلوا ما فَعَلوا في زويلة المَدينةِ المُجاوِرَةِ للمَهديَّةِ من القَتلِ والنَّهبِ، هَرَبَ منهم جَماعةٌ وقَصَدوا عبدَ المُؤمنِ صاحبِ المَغربِ، وهو بمراكش، يَستَجيرُونَه، فلمَّا وَصَلوا إليه ودَخَلوا عليه أَكرَمَهم، وأَخبَروهُ بما جَرَى على المسلمين، وأنه ليس من مُلوكِ الإسلامِ مَن يُقصَد سِواهُ، فبدَأَ بالاستِعدادِ للمَسيرِ, فلمَّا كان في صفر سَنةَ554هـ سار عن مراكش، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهُم ثم نَزَلوا يَسأَلونَهُ الأَمانَ فأَجابَهُم إليه. ثم سار عبدُ المؤمن منها إلى المَهديَّةِ والأُسطولُ يُحاذِيه في البَحرِ، فوَصلَ إليها ثامنَ عشر رجب سَنةَ 554هـ، وكان حينئذٍ بالمَهديَّةِ أَولادُ مُلوكِ الفِرنجِ وأَبطالُ الفِرسانِ، وقد أَخلوا زويلةَ، فدَخلَ عبدُ المؤمنِ زويلةَ، وامتَلأَت بالعَساكرِ والسُّوقَةِ وانضافَ إليه من صنهاجة والعَربِ وأَهلِ البلادِ ما يَخرُج عن الإحصاءِ، وأَقبَلوا يُقاتِلون المَهديَّةَ مع الأَيامِ، فلا يُؤثِّر فيها لِحصَانَتِها وقُوَّةِ سُورِها وضِيقِ مَوقِعِ القِتالِ عليها، فعَلِمَ عبدُ المؤمنِ أن المَهديَّةَ لا تُفتَح بقِتالٍ بَرًّا ولا بَحرًا، لأن البحرَ دائرُ بأَكثرِها، فكأَنها كَفٌّ في البَحرِ، وزِندُها مُتَّصِلٌ بالبَرِّ، وليس لها إلا المُطاوَلَةِ، فتَمادَى الحِصارُ، وكانت الفِرنجُ تُخرِج شُجعانَهم إلى أَطرافِ العَسكرِ، فتَنال منه وتَعودُ سَريعًا؛ فأَمرَ عبدُ المؤمنِ أن يُبنَى سُورٌ من غَربِ المَدينةِ يَمنَعُهم من الخُروجِ، وأَحاطَ الأُسطولُ بها في البَحرِ، ورَكِبَ عبدُ المؤمنِ في شيني، ومعه الحَسنُ بنُ عَليٍّ الذي كان صاحِبَها، وطاف بها في البَحرِ، فهاله ما رأى من حَصانَتِها، وفي مُدَّةِ حِصارِه أَطاعَتهُ مجموعةٌ من المناطِقِ. ثم جاء أُسطولُ صاحبِ صِقلِّية فأَرسلَ إليهم مَلِكُ الفِرنجِ يَأمُرُهم بالمَجيءِ إلى المَهديَّةِ، فلمَّا قارَبَ أُسطولُ صِقلِّية المَهديَّةَ حَطُّوا شِراعَهم لِيَدخُلوا المِيناءَ، فخَرجَ إليهم أُسطولُ عبدِ المؤمنِ، ورَكِبَ العَسكرُ جَميعُه، ووَقَفوا على جانبِ البَحرِ، فاستَعظَم الفِرنجُ ما رَأوهُ من كَثرةِ عَساكرِ المُوَحِّدِين، ودَخلَ الرُّعبُ قُلوبَهم، فاقتَتَلوا في البَحرِ، فانهَزَمَت شواني الفِرنجِ، وتَبِعَهم المسلمون، فأَخَذوا منهم سبعَ شوان. ويَئِسَ أَهلُ المَهديَّةِ حينئذٍ من النَّجدَةِ، وصَبَروا على الحِصارِ سِتَّةَ أَشهُر، فنَزلَ حينئذٍ من فِرسانِ الفِرنجِ إلى عبدِ المؤمنِ عَشرةٌ وكان قُوتُهُم قد فَنِيَ حتى أَكَلوا الخَيْلَ, وسَألوا الأَمانَ لمن فيها من الفِرنجِ على أَنفُسِهم وأَموالِهم لِيَخرُجوا منها ويَعودُوا إلى بِلادِهم، فعَرَض عليهم الإسلامَ، ودَعاهُم إليه فلم يُجيبوا، ولم يَزالوا يَتَردَّدُون إليه أيامًا واستَعطَفوهُ بالكَلامِ اللَّيِّنِ، فأَجابَهُم إلى ذلك، وأَمَّنَهُم وأَعطاهُم سُفُنًا فرَكِبوا فيها وساروا، وكان الزَّمانُ شِتاءً، فغَرِقَ أَكثرُهم ولم يَصِل منهم إلى صِقلِّية إلا النَّفَرُ اليَسيرُ. ودَخلَ عبدُ المؤمن المَهديَّةَ بُكرَةَ عاشوراء من المُحرَّم سنةَ 555هـ، وسَمَّاها عبدُ المؤمن سَنةَ الأَخماسِ، وأَقامَ بالمَهديَّةِ عِشرينَ يَومًا، فرَتَّبَ أَحوالَها، وأَصلَح ما انثَلَمَ من سُورِها، ونَقَلَ إليها الذَّخائِرَ من القُوَّاتِ والرِّجالِ والعَدَدِ، واستَعمَلَ عليها أَحَدَ أَصحابِه، وجَعلَ معه الحَسنَ بن عليٍّ الذي كان صاحِبَها، وأَمَرَهُ أن يَقتَدِي بَرأيِه في أَفعالِه، وأَقطَعَ الحَسنَ بها أَقطاعًا، وأَعطاهُ دُورًا نَفيسةً يَسكُنُها، وكذلك فَعلَ بأَولادِه، ورَحلَ من المَهديَّةِ أوَّلَ صَفر من السَّنَةِ إلى بِلادِ المَغرِب.
ارتفاع نهر دِجلَة وغرق بغداد .
العام الهجري : 554 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1159
تفاصيل الحدث:
في ثامنِ رَبيعٍ الآخر، كَثُرَت الزِّيادةُ في دِجلَة، وخَرَقَ القُورجُ فوقَ بغداد -القُورج نهر بين القاطول وبغداد، منه يكون غرق بغداد غالبًا- فامتَلأَت الصَّحارِي وخَندَق البلد، وأَفسدَ الماءُ السُّورَ وأَحدثَ فيه فَتحةً يومَ السبتِ تاسعَ عشرَ الشهرِ، فوَقعَ بعضُ السُّورِ عليها فَسَدَّهَا، ثم فَتحَ الماءُ فَتحةً أُخرَى، وأَهمَلوها ظَنًّا أنها تُنَفِّسُ عن السُّورِ لِئَلَّا يَقَع، فغَلَبَ الماءُ، وتَعَذَّرَ سَدُّهُ، فغَرِقَ قَراحُ ظَفَر، والأَجمةُ، والمُختارةُ، والمُقتَدِيةُ، ودَربُ القبارِ، وخَرابةُ ابن جردةَ، والرَّيانُ، وقَراحُ القاضي، وبعضُ القطيعَةِ، وبعضُ بابِ الأَزجِ، وبعضُ المَأمونيةِ، وقَراحُ أبي الشحمِ، وبعضُ قَراحِ ابنِ رَزينٍ، وبعضُ الظفريةِ، ودَبَّ الماءُ تحتَ الأَرضِ إلى أَماكنَ، فوَقَعَت وأَخَذَ الناسُ يَعبُرون إلى الجانبِ الغربيِّ، فبَلَغَت المَعبَرَةُ عِدَّةَ دَنانيرٍ، ولم يكُن يُقدَر عليها، ثم نَقَصَ الماءُ، وتَهَدَّم السُّور، وبَقِيَ الماءُ الذي داخِلُ السُّورِ يَدُبُّ في المَحالِّ التي لم يَركَبها الماءُ، فكَثُرَ الخَرابُ، وبَقِيَت المَحالُّ لا تُعرف إنما هي تُلولٌ، فأَخذَ الناسُ حُدودَ دُورِهِم بالتَّخمِينِ، وأما الجانبُ الغربيُّ فغَرِقَت فيه مَقبرَةُ أَحمدَ بنِ حَنبلٍ وغَيرُها من المقابرِ، وانخَسَفَت القُبورُ المَبنيَّةُ، وخَرَجَ المَوتَى على رَأسِ الماءِ، وكذلك المَشهَد والحَربيَّة، وكان أَمرًا عَظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
دُخولُ المُوَحِّدِينَ تونس .
العام الهجري : 554 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1159
تفاصيل الحدث:
في صَفر سار عبدُ المؤمنِ بنُ عليٍّ عن مراكش، يَطلُب إفريقية، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس في الرابع والعشرين من جُمادَى الآخرة، وبها صاحِبُها أحمدُ بن خُراسان، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهم من الغَدِ أَشَدَّ قِتالٍ، فلم يَبقَ إلا أَخْذُها، ودُخولُ الأُسطولِ إليها، فجاءَت رِيحٌ عاصِفٌ مَنَعَت المُوَحِّدِين من دُخولِ البلدِ، فرَجَعوا لِيُباكِرُوا القِتالَ ويَملِكوهُ، فلمَّا جَنَّ اللَّيلُ نَزَلَ سبعة عشر رَجُلًا من أَعيانِ أَهلِها إلى عبدِ المؤمن يَسأَلونَه الأَمانَ لأَهلِ بَلدِهِم، فأَجابَهم إلى الأَمانِ لهم في أَنفُسِهم وأَهلِيهِم وأَموالِهم لِمُبادَرَتِهم إلى الطَّاعةِ، وأمَّا ما عَداهُم من أَهلِ البلدِ فيُؤَمِّنُهم في أَنفُسِهم وأَهالِيهِم، ويُقاسِمُهم على أَموالِهم وأَملاكِهم نِصفَين، وأن يَخرُج صاحِبُ البلدِ هو وأَهلُه؛ فاستَقَرَّ ذلك، وتَسَلَّم البلدَ، وعَرَضَ الإسلامَ على مَن بها من اليَهودِ والنَّصارَى، فمَن أَسلَم سَلِمَ، ومَن امتَنَعَ قُتِلَ، وأَقامَ أَهلُ تونس بها بأُجرَةٍ تُؤخَذ عن نِصفِ مَساكِنِهم.
وَفاةُ السُّلطانِ محمدِ بنِ محمودِ بنِ ملكشاه .
العام الهجري : 554 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1160
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ محمدُ بن محمودِ بن محمدٍ، كان مَولِدُه سَنةَ 522هـ، وكان كَريمًا عاقِلًا، وهو الذي حاصَرَ بغدادَ طالِبًا السَّلْطَنَةَ وعادَ عنها، فأَصابَهُ سُلٌّ، وطالَ به فماتَ ببابِ همذان، فلمَّا حَضَرَهُ الموتُ أَمَرَ العَساكرَ فرَكِبَت وأَحضرَ أَموالَه وجَواهِرَه وحَظَاياهُ ومَمَاليكَهُ، فنَظَرَ إلى الجَميعِ مِن طَيَّارَةٍ تشرف على ما تحتها، فلمَّا رَآهُ بَكَى، وقال: هذه العَساكرُ والأَموالُ والمَماليكُ والسَّراري ما أرى يَدفَعون عَنِّي مِقدارَ ذَرَّةٍ، ولا يَزيدون في أَجَلِي لَحظةً. وأَمَرَ بالجَميعِ فرُفِعَ بعدَ أن فَرَّقَ منه شَيئًا كَثيرًا. وكان له وَلَدٌ صَغيرٌ، فسَلَّمَهُ إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أَعلمُ أن العَساكرَ لا تُطيعُ مِثلَ هذا الطِّفلِ، وهو وَديعةٌ عندك، فارحَل به إلى بِلادِك. فرَحَلَ إلى مراغة، فلمَّا ماتَ اختَلَفَت الأُمراءُ، فطائِفةٌ طَلَبوا ملكشاه أَخاهُ، وطائِفةٌ طَلَبوا عَمَّهُ سُليمانَ شاه، وهُم الأَكثرُ، وطائِفةٌ طَلَبوا أرسلان الذي مع إيلدكز؛ فأَمَّا ملكشاه فإنه سار من خوزستان، ومعه دكلا صاحِبُ فارسن وشملة التُّركمانيُّ وغَيرُهما، فوَصلَ إلى أصفهان، فسَلَّمَها إليه ابنُ الخجندي، وجَمَعَ له مالًا أَنفَقَهُ عليه، وأَرسلَ إلى العَساكرِ بهمذان يَدعُوهم إلى طاعَتِه، فلم يُجيبوهُ لعدم الاتِّفاقِ بينهم، ولأنَّ أَكثرَهُم كان يُريدُ عَمَّهُ سُليمانَ شاه, وكان مَسجونًا بالمَوصِل فأُفرِجَ عنه وانعَقَدَت له السَّلطَنَةُ، وخُطِبَ له على مَنابرِ تلك البِلادِ سِوَى بغدادَ والعِراقِ.
وفاة ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه .
العام الهجري : 555 العام الميلادي : 1160
تفاصيل الحدث:
هو السلطان ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، تولى السلطنة بعد وفاة عَمِّه السلطان مسعود بن محمد بعهدٍ منه. فقعد في السلطنة وخُطِبَ له، وكان المتغلِّبُ على المملكة أميرًا يقال له خاص بك، وأصله صبي تركماني اتصل بخدمة السلطان مسعود، فتقدَّم على سائر أمرائه، ثم إنَّ خاص بك قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجَنه، وأرسل إلى أخيه محمد بن محمود، وهو بخورستان، فأحضَرَه وتولى السلطنة، وجلس على السرير، وكان قصدُ خاص بك أن يُمسِكَه ويخطُبَ لنفسه بالسلطنة، فبدره السلطان محمد في ثاني يوم وصوله، فقتَلَ خاص بك وقتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفرق أصحابُهما. توفي ملكشاه بأصفهان مسمومًا، وكان سبب ذلك أنه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه، ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت عليه أولًا، وإلَّا قصدهم، فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خَصِيًّا كان خصيصًا به، يقال له أغلبك الكوهراييني، فمضى إلى بلاد العجم، واشترى جاريةً من قاضي همذان بألف دينار، وباعها من ملكشاه، وكان قد وضعها على سَمِّه ووعدها أمورًا عظيمة، ففعلت ذلك وسَمَّتْه في لحم مشوي فأصبح ميتًا، وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرَّفهما أنه مسموم، فعرفوا أن ذلك مِن فِعلِ الجارية، فأُخِذَت وضُرِبَت وأقرَّت، ولَمَّا مات أخرج أهل أصفهان أصحابَه من عندهم، وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك البلاد، وعاد شملة إلى خوزستان، فأخذ ما كان ملكشاه تغلب عليه منها. حكم ملكشاه خمسةَ أشهر، وهو ثاني ملك من بني سلجوق سُمِّي بملكشاه.
=======
105.وَفاةُ حاكم مصر الفائِزِ بنَصرِ الله العُبيدِيِّ وتَوَلِّي العاضِدِ بن الحافِظِ .
العام الهجري : 555 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1160

تفاصيل الحدث:
هو حاكِمُ مصر الفائزُ بنَصرِ الله أبو القاسمِ عيسى بن الظَّافِرِ إسماعيلَ بن الحافِظِ عبدِ المَجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر بالله العُبيديُّ، المصريُّ الفاطِميُّ. كانت مُدَّةُ حُكمِه سِتَّ سِنين ونحوَ شَهرينِ؛ وكان عُمرُه لمَّا وَلِيَ خمسَ سِنين، قال الذَّهبيُّ: "لمَّا اغتَالَ عبَّاسٌ الوَزيرُ الظَّافِرَ، أَظَهَرَ القَلقَ، ولم يكُن عَلِمَ أَهلُ القَصرِ بمَقتَلِه, فطَلَبوه في دُورِ الحَرَمِ فما وَجَدوهُ، وفَتَّشُوا عليه وأَيِسُوا منه، وقال عبَّاسٌ لأَخوَيهِ: أَنتُما الذين قَتَلتُما مولانا، فأَصَرَّا على الإنكارِ، فقَتَلَهُما نَفْيًا للتُّهمَةِ عنه, واستَدعَى في الحالِ عيسى هذا، وهو طِفلٌ له خَمسُ سِنين, وقِيلَ: بل سَنَتانِ. فحَمَلهُ على كَتِفِه، ووَقَفَ باكِيًا كَئيبًا، وأَمَرَ بأن تَدخُل الأُمراءُ، فدَخَلوا, فقال: هذا وَلَدُ مَولاكُم، وقد قَتَلَ عَمَّاهُ مَولاكُم، فقَتَلتُهُما به كما تَرَونَ، والواجِبُ إِخلاصُ النِّيَّةِ والطَّاعةُ لهذا الوَلَدِ، فقالوا كلُّهم: سَمْعًا وطاعَةً، وضَجُّوا ضَجَّةً قَوِيَّةً بذلك، ففَزِعَ الطِّفلُ، ولَقَّبوهُ الفائِزَ، وبَعَثوهُ إلى أُمِّهِ، واختَلَّ عَقلُه من حينئذٍ، وصار يَتَحرَّك ويُصرَع، ودانَت الممالِكُ لعبَّاسٍ. وأمَّا أَهلُ القَصرِ، فاطَّلَعوا على باطِنِ القَضِيَّةِ، فكاتَبُوا طَلائِعَ بنَ رزيك الأرمنيَّ الرَّافِضيَّ، والِيَ المنية" كان ابنُ رزيك ذا شَهامَةٍ وإِقدامٍ, فسَألوهُ الغَوْثَ، والأَخذَ بالثَّأْرِ من عبَّاسٍ الوَزيرِ لقَتْلِه الظَّافِرَ وأَخَوَيْهِ, فلَبِسَ الحِدادَ، وكاتَبَ أُمراءَ القاهرةِ، وهَيَّجَهُم على طَلَبِ الثَّأْرِ، فأَجابوهُ, فسار إلى القاهرةِ، وكان عبَّاسٌ في عَسكرٍ قَليلٍ. فخارَت قُواهُ وهَرَبَ هو وابنُه نَصرٌ ومَماليكُه والأَميرُ ابنُ مُنقِذٍ, واستَولَى الصَّالِحُ طَلائعُ بن رزيك على دِيارِ مصر بلا ضَربَةٍ ولا طَعنَةٍ، فنَزلَ إلى دارِ عبَّاسٍ، ثم استَدعَى خادِمًا كَبيرًا، وقال له: مَن هاهنا يَصلُح للحُكمِ؟ فقال: هاهنا جَماعةٌ؛ وذَكَرَ أَسماءَهُم، وذَكَرَ له منهم إِنسانٌ كَبيرُ السِّنِّ، فأَمَرَ بإحضارِهِ، فقال له بَعضُ أَصحابِه سِرًّا: لا يكون عبَّاسٌ أَحزَمَ منك حيث اختارَ الصَّغيرَ وتَرَكَ الكِبارَ واستَبَدَّ بالأَمرِ؛ فأَعادَ الصالحُ الرَّجُلَ إلى مَوضِعِه، وأَمَرَ حينئذٍ بإحضارِ العاضِدِ لدِينِ الله أبي محمدٍ عبدِ الله بن يوسفَ بن الحافظِ، ولم يكُن أَبوهُ حاكِمًا، وكان العاضِدُ في ذلك الوَقتِ مُراهقًا قارَبَ البُلوغَ، فبايَعَ له بالحُكمِ.
وَفاةُ الخَليفَةِ العبَّاسيِّ المُقتَفِي بأَمرِ الله وخِلافَةُ ابنِهِ المُستَنجِد بالله .
العام الهجري : 555 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1160
تفاصيل الحدث:
هو الخَليفةُ، أَميرُ المُؤمِنين، المُقتَفِي لأَمرِ الله، أبو عبدِ الله، محمدُ بن المُستَظهِر بالله أبي العبَّاسِ أحمدَ بن المُقتَدِي بالله، بن الذَّخيرَةِ محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله عبدِ الله بن القادرِ بالله عبدِ الله أحمدَ بن الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر، الهاشميُّ، العبَّاسيُّ، البغداديُّ، الحَبَشيُّ الأُمِّ. وُلِدَ في رَبيعٍ الأوَّلِ سَنةَ 489هـ. وبُويِعَ بالإمامَةِ في سادس عشر ذي القعدةِ، سَنةَ 530هـ. كان المُقتَفِي عاقِلًا لَبيبًا، عامِلًا مَهيبًا، صارِمًا، جَوادًا، أَسمَرَ، آدَمَ، مَجْدُورَ الوَجْهِ، مَليحَ الشَّيْبَةِ، مُحِبًّا للحَديثِ والعِلمِ، مُكرِمًا لأَهلِه، سَمِعَ المُقتَفِي من: أبي الحَسنِ بن العَلَّافِ، ومن مُؤَدِّبِه أبي البَركاتِ السيبي. قال السَّمعانيُّ: "وأَظُنُّهُ سَمِعَ (جُزءَ ابنِ عَرَفَة) من ابنِ بيان، كَتَبْتُ إليه قِصَّةً أَسأَلُهُ الإنعامَ بالإذِنِ في السَّماعِ منه، فأَنعَمَ، وفَتَّشَ على الجُزءِ، ونَفَذَهُ إليَّ على يَدِ إِمامِه ابنِ الجواليقي، فسَمِعتُه من ابنِ الجواليقي عنه"، وكان حَمِيدَ السِّيرَةِ، يَرجِعُ إلى تَدَيُّنٍ وحُسْنِ سِياسَةٍ، جَدَّدَ مَعالِمَ الخِلافَةِ، وباشَرَ المُهِمَّاتِ بِنَفسِه، وغَزَا في جُيوشِه. كانت أَيامُه نَضِرَةً بالعَدلِ، زَهِرَةً بالخَيرِ، وكان على قَدَمٍ مِن العِبادَةِ قبلَ الخِلافَةِ ومعها، ولم يُرَ مع لِينِه بعدَ المُعتَصِم في شَهامَتِه مع الزُّهْدِ والوَرَعِ، ولم تَزَل جُيوشُه مَنصورَةً. قال الذَّهبيُّ: "كان مِن حَسَناتِه وَزيرُه عَوْنُ الدِّينِ بن هُبيرَة، وقِيلَ: كان لا يَجرِي في دَولتِه شَيءٌ إلا بِتَوقِيعِه"، ووَزَرَ للمُقتَفِي عليُّ بنُ طرادٍ، ثم أبو نَصرِ بنُ جَهيرٍ، ثم عليُّ بن صَدقةَ، ثم ابنُ هُبيرَةَ، وحَجَبَ له أبو المعالي بنُ الصاحِبِ، ثم كامِلُ بنُ مُسافرٍ، ثم ابنُ المُعوَجِّ، ثم أبو الفَتحِ بن الصَّيْقَلِ، ثم أبو القاسمِ بن الصاحِبِ. وهو أَوَّلُ مَن استَبَدَّ بالعِراقِ مُنفَرِدًا عن سُلطانٍ يكونُ معه. مِن أَوَّلِ أَيامِ الدَّيلمِ إلى أَيامِه، وأَوَّلُ خَليفةً تَمَكَّنَ من الخِلافةِ وحَكَمَ على عَسكَرِهِ وأَصحابِه مِن حين تَحَكُّمِ المَماليكِ على الخُلفاءِ مِن عَهدِ المُستَنصِر إلى عَهدِه، إلا أن يكون المُعتَضِد، فأَقامَ المُقتَفِي حِشمةَ الخِلافَةِ، وقَطَعَ عنها أَطماعَ السَّلاطينِ السَّلجوقِيَّة وغَيرِهم، وكان من سَلاطينِ خِلافَتِه صاحِبُ خُراسان سنجر بن ملكشاه، والمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صاحِبُ الشامِ، وأَبوهُ قَسيمُ الدَّولةِ. تُوفِّي المُقتَفِي ثانيَ رَبيعٍ الأَوَّل، بِعِلَّةِ التَّراقِي؛ وكانت خِلافَتُه أَربعًا وعِشرينَ سَنَةً وثلاثةَ أَشهُر وسِتَّةَ عشرَ يومًا، ووَافقَ أَباهُ المُستَظهِر بالله في عِلَّةِ التَّراقِي وماتَا جَميعًا في نَفسِ الشَّهرِ، ثم بُويِعَ المُستنجِدُ بالله ابنُه واسمُه يُوسفُ، وكان للمُقتَفِي حَظِيَّةٌ، وهي أُمُّ وَلَدِه أبي عليٍّ، فلمَّا اشتَدَّ مَرضُ المُقتَفِي وأَيِسَت منه أَرسَلَت إلى جَماعَةٍ من الأُمراءِ وبَذَلَت لهم الإِقطاعاتِ الكَثيرةَ والأَموالَ الجَزيلةَ لِيُساعِدوها على أن يكون وَلَدُها الأَميرُ أبو عليٍّ خَليفةً. قالوا: كيف الحِيلَةُ مع وَلِيِّ العَهدِ؟ فقالت: إذا دَخَلَ على والِدِه قَبَضتُ عليه. وكان يَدخُل على أَبيهِ كلَّ يَومٍ. فقالوا: لا بُدَّ لنا مِن أَحَدٍ مِن أَربابِ الدَّولةِ؛ فوَقَعَ اختِيارُهم على أبي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدَعوهُ إلى ذلك، فأَجابَهم على أن يكونَ وَزيرًا، فبَذَلوا له ما طَلَبَ، فلمَّا استَقَرَّت القاعِدةُ بينهم وعَلِمَت أُمُّ أبي عليٍّ أَحضَرَت عِدَّةً من الجَواري وأَعطَتهُنَّ السَّكاكِينَ، وأَمَرَتهُنَّ بقَتلِ وَلِيِّ العَهدِ المُستَنجِد بالله. وكان له خَصِيٌّ صَغيرٌ يُرسِلُه كلَّ وَقتٍ يَتَعَرَّف أَخبارَ والِدِه، فرأى الجَوارِي بأَيدِيهِنَّ السَّكاكِينُ، ورَأى بِيَدِ أبي عليٍّ وأُمِّهِ سَيْفَينِ، فعادَ إلى المُستَنجِد فأَخبَرَهُ، وأَرسَلَت هي إلى المُستَنجِد تَقولُ له إن والِدَهُ قد حَضَرَهُ المَوتُ لِيَحضُر ويُشاهِدَه، فاستَدعَى أُستاذَ الدارِ عَضُدَ الدِّينِ وأَخَذَهُ معه وجَماعَةً من الفَرَّاشِين، ودَخَلَ الدارَ وقد لَبِسَ الدِّرْعَ وأَخَذَ بِيَدِه السَّيفَ، فلمَّا دَخلَ ثارَت به الجَوارِي، فضَرَب واحِدةً منهن فجَرَحَها، وكذلك أُخرَى، فصاحَ ودَخلَ أُستاذُ الدارِ ومعه الفَرَّاشون، فهَرَبَ الجَوارِي وأَخَذَ أَخاهُ أبا عليٍّ وأُمَّهُ فسَجَنهُما، وأَخذَ الجَوارِي فقَتَلَ منهن، وغَرَّقَ منهن، ودَفَعَ الله عنه، فلمَّا تُوفِّي المُقتَفِي جَلسَ المُستَنجِد للبَيْعَةِ، فبَايَعَهُ أَهلُه وأَقارِبُه، وأَوَّلُهم عَمُّهُ أبو طالِبٍ، ثم أَخوهُ أبو جَعفرِ بن المُقتَفِي، وكان أَكبرَ من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونُثرت الدراهمُ والدنانيرُ.
الفتنة بنيسابور وتخريبها .
العام الهجري : 556 العام الميلادي : 1160
تفاصيل الحدث:
كان أهلُ العبث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت، وفِعلِ ما أرادوا، فإذا نُهوا لم ينتهوا، فلما كان الآن تقدمَ المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور، منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره، وحبسهم في ربيع الآخر، وقال: أنتم الذين أطمعتم المفسدين حتى فعلوا هذه الفِعال، ولو أردتم منعهم لامتنعوا، وقتل من أهل الفساد جماعةً، فخربت نيسابور بالكلية، ومن جملة ما خُرِّبَ مسجدُ عقيل، كان مَجمَعًا لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافعِ نيسابور، وخُرِّب أيضًا من المدارس ثماني مدارس للحنفية، وسبع عشرة مدرسة للشافعية، وأُحرق خمسُ خزائن للكتب، ونُهِب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان.
فتنة بين أصحاب الوزير ابن هبيرة والفقهاء ببغداد .
العام الهجري : 556 العام الميلادي : 1160
تفاصيل الحدث:
خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان، والغلمان يطرقون له، وأرادوا أن يَرِدوا باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة، فمنعهم الفقهاءُ وضربوهم بالآجُرِّ، فشَهَر أصحابُ الوزير السيوف وأرادوا ضربَهم، فمنعهم الوزير، ومضى إلى الديوان، فكتب الفقهاء مطالعةً يشكون أصحاب الوزير، فأمر الخليفة بضربِ الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار، فمضى أستاذ الدار وعاقبَهم هناك، واختفى مدرِّسُهم الشيخ أبو طالب، ثم إنَّ الوزير أعطى كل فقير دينارًا، واستحلَّ منهم، وأعادهم إلى المدرسة وظهر مدَرِّسُهم.
مبايعة السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه .
العام الهجري : 556 العام الميلادي : 1160
تفاصيل الحدث:
لما تخلص الخادم كردبازو من السلطان سليمان شاه بسَجنه ثم قتله، أرسل إلى إيلدكز، صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان، يستدعيه إليه ليخطُبَ للملك أرسلان شاه الذي معه، وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري، فسار ينهب البلادَ إلى أن وصل إلى همذان، فتحصن كردبازو، فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافًا، فقال: أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز. وسار إيلدكز في عساكره جميعًا يزيد على عشرين ألف فارس، ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، فوصل إلى همذان، فلقِيَهم كردبازو، وأنزله دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسَّلطنة بتلك البلاد، وكان إيلدكز قد تزوَّجَ بأم أرسلان شاه، وهي أم البهلوان بن إيلدكز، وكان إيلدكز أتابكَه، والبهلوان حاجبَه، وهو أخوه لأمه، وكان إيلدكز هذا أحدَ مماليك السلطان مسعود، واشتراه في أول أمره، فلما ملك أقطعَه أران وبعض أذربيجان، واتفق الحروب والاختلاف، فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية، وعظُمَ شأنُه وقَوِيَ أمرُه، وتزوج بأم الملك أرسلان شاه، فولدت له أولادًا منهم البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان، فلما خطَبَ له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضًا، وأن تعاد القواعِدُ إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود، فأُهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة، وأما إينانج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق، وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونُقِلَت إليه بهمذان.
مقتل السلطان سليمان شاه بن محمد ملكشاه .
العام الهجري : 556 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1161
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ السلطانُ سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه، وسببُ ذلك أنه كان فيه تهوُّرٌ وخرقٌ، وبلغ به شربُ الخمر حتى إنه شربها في رمضان نهارًا، وكان يجمع المساخِرَ ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكرُ أمره، وصاروا لا يحضُرون بابه، وكان قد ردَّ جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، كان فيه دينٌ وعقل وحسن تدبير، فكان الأمراء يشكُون إليه السلطان وهو يُسَكِّنُهم، فكتب سليمان شاه إلى إينانج صاحب الري يطلبُ منه أن يُنجِدَه على كردبازو، فوصل الرسولُ وإينانج مريض، فأعاد الجوابَ يقول: إذا أفقتُ من مرضي حضرتُ إليك بعسكري؛ فبلغ الخبر كردبازو، فازداد استيحاشًا، فأرسل إليه سليمان يومًا يطلبه، فقال: إذا جاء إينانج حَضرتُ، وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته، وكانوا كارهين لسليمان، فحلفوا له، فأوَّل ما عَمِلَ أن قتل المساخرة الذين لسليمان، وقال: إنما أفعل ذلك صيانةً لملكك؛ ثم اصطلحا، وعَمِلَ كردبازو دعوةً عظيمة حضرها السلطان والأمراء، فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبضَ عليه كردبازو وعلى وزيره ابنِ القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه، في شوال سنة 555، فقَتَلَ وزيرَه وخواصَّه، وحَبَس سليمان شاه في قلعة، ثمَّ أرسل إليه من خنَقَه؛ وقيل: بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان، وفيها قُتِلَ، وقيل بل سُقِيَ سُمًّا فمات.
وفاة ملك الغور علاء الدين وتولي ابنه محمد الملك بعده .
العام الهجري : 556 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1161
تفاصيل الحدث:
هو الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري ملك الغور، وكان عادلًا من أحسن الملوك سيرة في رعيته، توفي بعد انصرافه عن غزنة، ولما مات ملَك بعده ابنُه سيف الدين محمد، وأطاعه الناس وأحبوه، وكان قد صار في بلادهم جماعةٌ من دعاة الإسماعيلية، وكثر أتباعهم فأُخرِجوا من تلك الديار جميعها، ولم يبقَ فيها منهم أحدٌ، وراسل الملوك وهاداهم، واستمال المؤيد، أي أبه صاحب نيسابور وطلب موافقتَه‏.‏
الحرب بين العرب وعسكر بغداد .
تمرد أهل غرناطة على الموحدين بتحريض من ابن مردنيش .
العام الهجري : 557 العام الميلادي : 1161
تفاصيل الحدث:
كانت غرناطة لعبد المؤمن، فأرسل أهلُها إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيش فاستدعوه إليهم؛ ليسلموا إليه البلد؛ وكان قد وحَّدَ- صار من أتباع الموحدين- ومن أصحاب عبد المؤمن، وفي طاعته، وممن يحرِّضُه على قتل ابن مردنيش. ثم فارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش. فامتنعوا بحصنها، فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة، فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجَّه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم، فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد بن مردنيش، ملك البلاد بشرق الأندلس، فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه، فاجتمعوا بضواحي غرناطة، فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم، فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن، وقدم أبو سعيد، واقتتلوا أيضًا، فانهزم كثير من أصحابه، وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين، والرجالة الأجلاد، حتى قُتلوا عن آخرهم، وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة، وسمع عبد المؤمن الخبر، وكان قد سار إلى مدينة سلا، فسيَّرَ إليهم في الحال ابنَه أبا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين، فجدُّوا المسيرَ، فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليُعين ابن همشك، فاجتمع منهم بغرناطة جمعٌ كثير، فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها، ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولًا، وهم ألفا فارس، بظاهر القلعة الحمراء، ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه، ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة، فأقاموا في سفحِه أيامًا، ثمَّ سَيَّروا سريةً أربعة آلاف فارس، فبيَّتوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء، وقاتلوهم من جهاتهم، فما لحقوا يركبون، فقتلوهم عن آخرهم، وأقبل عسكرُ عبد المؤمن بجملته، فنزلوا بضواحي غرناطة، فعَلِمَ ابن مردنيش وابن همشك أنَّهم لا طاقة لهم بهم، ففَرُّوا في الليلة الثانية، ولحقوا ببلادِهم، واستولى الموحِّدون على غرناطة, وعاد عبدُ المؤمن مِن مدينة سلا إلى مراكش.
فتنة جماعة من عبيد مكَّةَ في الحجِّ بمنى .
العام الهجري : 557 العام الميلادي : 1161
تفاصيل الحدث:
وصل الحُجَّاج إلى منى، ولم يتمَّ الحجُّ لأكثر الناس؛ لصَدِّهم عن دخول مكة والطواف والسعي، فمن دخل يومَ النحر مكَّةَ وطاف وسعى كَمُل حجه، ومن تأخر عن ذلك مُنِعَ دخولَ مكَّةَ؛ لفتنةٍ جرت بين أمير الحاجِّ وأمير مكة، كان سببُها أن جماعة من عبيد مكَّةَ أفسدوا في الحاجِّ بمنى، فنفَرَ عليهم بعضُ أصحاب أمير الحاج، فقتلوا منهم جماعة، ورجعَ مَن سلم إلى مكة، وجمعوا جمعًا وأغاروا على جمالِ الحاجِّ، وأخذوا منها قريبًا من ألفِ جمل، فنادى أمير الحاج في جُندِه، فركبوا بسلاحِهم، ووقع القتالُ بينهم، فقُتِلَ جماعة، ونُهِبَ جماعةٌ من الحاجِّ وأهل مكة، فرجع أميرُ الحاج ولم يدخل مكة، ولم يُقِم بالزاهر غيرَ يوم واحد، وعاد كثيرٌ من الناس رجَّالة؛ لقلة الجمال، ولَقُوا شِدَّة.
ملك الخليفة العباسي المستنجد قلعة الماهكي .
العام الهجري : 557 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1162
تفاصيل الحدث:
مَلَكَ الخليفةُ المستنجد بالله قلعة الماهكي، وسببُ ذلك أنَّ سنقر الهمذاني، صاحبها، سلَّمَها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان، فضَعُف هذا المملوك عن مقاومة ما حولها من الغزِّ الأتراك التركمان والأكراد، فأشيرَ عليه ببيعها على الخليفةِ، فراسل في ذلك، فاستنزله المستنجِدُ عنها بخمسة عشر ألف دينار وسلاحٍ وغير ذلك من الأمتعة، وعِدَّة من القرى، فسلَمَّها واستلم ما استقَرَّ له، وأقام ببغداد، وهذه القلعة لم تَزَلْ من أيام المقتدر بالله بأيدي التركمان والأكراد.
الحرب بين المسلمين والكرج وهم الجورجيون، سكان جورجيا .
العام الهجري : 557 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1162
تفاصيل الحدث:
اجتمعت الكرج في خلقٍ كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل، ودخلوا بلاد الإسلام، وقصدوا مدينةَ دوين من أذربيجان، فملكوها ونَهَبوها، وقتلوا من أهلِها وسوادها نحوَ عشرة آلاف قتيل، وأخذوا النساءَ سبايا، وأسَرُوا كثيرًا، وأعرَوُا النساءَ وقادوهم حُفاةً عُراةً، وأحرقوا الجوامِعَ والمساجِدَ، فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساءُ الكرج ما فعلوا بنساءِ المسلمين، وقُلْنَ لهم قد أحوجتُم المسلمين أن يفعلوا بنا مثلَ ما فعلتُم بنسائهم؛ وكسونَهنَّ، ولَمَّا بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز، صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان، جمع عساكِرَه وحشَدَها، وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي، صاحب خلاط، وابن آقسنقر، صاحب مراغة وغيرها، فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل، وساروا إلى بلاد الكرج في صَفَر سنة ثمان وخمسين ونهبوها، وسَبَوا النساءَ والصبيان، وأسَروا الرِّجالَ، ولقيهم الكرج، واقتتلوا أشدَّ قتالٍ صبَرَ فيه الفريقان، ودامت الحربُ بينهم أكثر من شهر، وكان الظَّفَرُ للمسلمين، فانهزم الكرج وقُتِلَ منهم كثيرٌ وأُسِرَ كذلك، وكان سببُ الهزيمة أن بعض الكرج حضر عند إيلدكز، فأسلم على يديه، وقال له: تعطيني عسكَرًا حتى أسيرَ بهم في طريق أعرِفُها وأجيء إلى الكرجِ مِن ورائهم وهم لا يشعرون، فاستوثق منه، وسيَّرَ معه عسكرًا وواعده يومًا يصِلُ فيه إلى الكرج، فلما كان ذلك اليومُ، قاتل المسلمون الكرج، فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكرُ، وكبَّروا وحملوا على الكرج من ورائهم، فانهزموا، وكثُرَ القتل فيهم والأسرُ، وغنم المسلمون من أموالِهم ما لا يدخُلُ تحت الإحصاءِ لِكَثرتِه؛ فإنهم كانوا متيقِّنين النَّصرَ لكثرتهم، فخَيَّبَ الله ظنَّهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثةَ أيام بلياليها، وعاد المسلمون منصورين قاهرين.
خلع السلطان محمود ملك خراسان .
العام الهجري : 557 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1162
تفاصيل الحدث:
قَصَد السلطانُ محمود بن محمد الخان، وهو ابن أخت السلطان سنجر، مَلِك خراسان بعده. سار محمود لحصار المؤيَّد أي أبه صاحب نيسابور بشاذياخ، وكان الغز الأتراك (التركمان) مع السلطان محمود، فدامت الحربُ إلى سنة 556, ثم إن محمودًا أظهر أنَّه يريدُ دُخولَ الحمَّام، فدخل إلى شهرستان، آخر شعبان، كالهارب من الغز، وأقاموا على نيسابورَ إلى آخرِ شوال، ثم عادوا راجعين، فعاثُوا في القرى ونَهَبوها، ونهبوا طوس نهبًا فاحشًا، فلما دخل السلطانُ محمود إلى نيسابور أمهلَه المؤيدُ إلى أن دخل رمضانُ من سنة 557 فأخذه وكحَّله وأعماه، وأخذ ما كان معه من الأموالِ والجواهرِ والأعلاقِ النفيسة، وكان يُخفيها خوفًا عليها من الغز لَمَّا كان معهم، وقطَعَ المؤيدُ خطبته من نيسابور وغيرِها ممَّا هو في تصَرُّفِه، وخطَب لنفسِه بعد الخليفة المستنجد بالله، وأخذ ابنَه جلالَ الدين محمدًا الذي كان قد ملَّكه الغز أمْرَهم قبل أبيه، وسجنهما، ومعهما جواريهما وحشمهما، وبقيا فيها فلم تطُل أيامهما، ومات السلطان محمود، ثم مات ابنُه بعده من شدة وجْدِه لموت أبيه.
إجلاء بني أسد أهل الحلة المزيدية الشيعة من العراق .
العام الهجري : 558 العام الميلادي : 1162
تفاصيل الحدث:
أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية الشيعة؛ لِما ظهَرَ مِن فسادهم، ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمدًا لَمَّا حصر بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم عن البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح، فلا يُقدر عليهم، فتوجه يزدن إليهم، وجمع عساكر كثيرة من راجل وفارس، وأرسل إلى ابن معروف مُقدم المنتفق، وهو بأرض البصرة، فجاء في خلق كثير فحصرهم وسَدَّ عليهم الماء، وصابرهم مدة، فأرسل الخليفة إلى يزدن يَعتِبُ عليه ويُعَجِّزُه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع، وكان يزدن يتشيع، فجدَّ هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم، وسد مسالكهم في الماء، فاستسلموا حينئذ، فقُتل منهم أربعة آلاف قتيل، ونادى فيمن بقي: من وُجِدَ بعد هذا في المزيدية فقد حلَّ دمه، فتفرقوا في البلاد، ولم يبقَ منهم في العراق من يُعرَف، وسُلِّمت بطائحُهم وبلادُهم إلى ابن معروف.
انهزام نور الدين محمود زنكي من الفرنج .
العام الهجري : 558 العام الميلادي : 1162
تفاصيل الحدث:
انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببُها أن نور الدين جمع عساكِرَه ودخل بلاد الفرنج، ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصرًا له عازمًا على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يومًا في خيامِهم وسط النهار، لم يَرُعْهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حِصن الأكراد، وذلك أن الفرنجَ اجتمعوا واتَّفَق رأيهم على كبسة المسلمين نهارًا، فإنَّهم يكونون آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مُجِدِّين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قَرُبوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونَه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملةِ، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلُبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معًا إلى العسكَرِ النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخْذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتلَ والأسر، وكان أشدَّهم على المسلمين الدوقس الرومي؛ فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يُبقوا على أحد، وقَصَدوا خيمةَ نور الدين وقد ركب فيها فرسَه ونجا بنفسه، ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعةُ فراسخ، وتلاحق به مَن سَلِم من العسكر، وقال له بعضهم: ليس من الرأي أن تُقيم هاهنا؛ فإن الفرنج ربما حمَلَهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخَذَ ونحن على هذه الحال؛ فوبَّخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألفُ فارس لقيتُهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظِلُّ بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلامِ، ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضرَ الأموال والثياب والخيام، والسلاح والخيل، فأعطى اللباسَ عِوَضَ ما أخذ منهم جميعه، فعاد العسكر كأن لم تُصِبْه هزيمة، وكلُّ من قتل أعطى أقطاعَه لأولاده، وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمينَ على قصد حمص بعد الهزيمة لأنَّها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعَلْ هذا إلا وعنده قوة يمنعُنا بها، ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلحَ، فلم يُجِبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادِهم.
وفاة عبد المؤمن بن علي ملك الموحدين بالمغرب والأندلس .
العام الهجري : 558 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1163
تفاصيل الحدث:
هو سلطان المغرب الملقب بأمير المؤمنين، عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي، القيسي، المغربي التلمساني. وُلِدَ بأعمال تلمسان، سنة 487, وكان أبوه يصنع الفخار. كان أبيضَ جميلًا، تعلوه حُمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جَهْوري الصوت، فصيحًا جَزلَ المَنطِق، لا يراه أحدٌ إلَّا أحَبَّه بديهةً، وكان في كِبَره شَيخًا وقورًا، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضِحَ بياض الأسنان، وكان عظيمَ الهامة، طويل القعدة، غليظَ الكف، أشهلَ العين، على خَدِّه الأيمن خالٌ, وكان كامِلَ السُّؤددِ، عاليَ الهمة، خليقًا للإمارة، وكان شديدَ السطوة، كان في جُودِه بالمال كالسَّيلِ، وفي محبته لحُسنِ الثناء كالعاشق. مجلِسُه مجلس وقار وهيبةٍ، مع طلاقةِ الوجه. انعمرت البلادُ في أيامه، وما لبس قَطُّ إلا الصوفَ طُولَ عُمُرِه. وما كان في مجلسِه حُصرٌ، بل مفروش بالحَصباءِ، وله سجادة من الخوص تحته خاصة. ظهر أمر عبد المؤمن بعد أن التقى بابن تومرت مُدَّعي المهدية والانتساب لآل البيت, وهو في طريق رجعته من المشرق إلى إفريقية، حيث صادفه عبد المؤمن، فحَدَّثه ووانسه، وقال: "إلى أين تسافر؟ قال: أطلبُ العلم. قال: قد وجدتَ طَلِبَتَك. ففَقَّهه وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسرارِه لِما رأى فيه من سمات النُّبل، فوجد همَّتَه كما في النفس. قال ابنُ تومرت يوما لخواصِّه: هذا غلَّاب الدُّوَل" قال ابن خَلِّكان: "وجد ابن تومرت عبدَ المؤمن- وهو إذ ذاك غلام- فأكرمه وقدَّمَه على أصحابه، وأفضى إليه بسِرِّه، وانتهى به إلى مراكش، وصاحِبُها يومئذ علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، فأخرجه منها، ثم توجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإن ابن تومرت لم يملك شيئًا من البلاد، بل عبد المؤمن ملَكَ بعد وفاته بالجيوش التي جهَّزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان ابن تومرت يتفَرَّس فيه النجابةَ ويُنشِدُ إذا أبصره: تكاملت فيك أوصافٌ خُصِصْتَ بها فكلُّنا بك مسرورٌ ومُغتَبِطُ السنُّ ضاحكةٌ والكَفُّ مانِحةٌ والنفسُ واسعةٌ والوجهُ مُنبَسِطُ" لما توفي ابن تومرت سنة 524، كتم أصحابُه خبر موته، وجعلوا يَخرُجون من البيت، ويقولون: قال المهدي كذا، وأمر بكذا، وبقي عبد المؤمن يُغِيرُ في عسكره على القرى، ويعيشون من النهب، وبعد خمسة أعوام أفصحوا بموت ابن تومرت، وبايعوا عبد المؤمن ولقَّبوه بأمير المؤمنين. وأوَّل ما أخَذَ عبد المؤمن من البلاد وهران، ثم تلمسان، ثم فاس، ثم سلا، ثم سبتة. ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرًا، فأخذها في أوائل سنة اثنتين وأربعين. وامتد مُلكُه إلى أقصى المغرب وأدناه، وبلاد إفريقية، وكثير من الأندلس، وسمى نفسه: أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه, ولما قال فيه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي هذه القصيدة، وأنشده إياها: ما هَزَّ عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فلما أنشده هذا المطلع أشار إليه أن يقتصرَ عليه، وأجازه بألف دينار". لم يزل عبد المؤمن بعد موت ابن تومرت يقوى، ويَظهَر على النواحي، ويدوخ البلاد. استولى على مراكش كرسيِّ مُلك أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. قال سبط ابن الجوزي: "لما استولى عبد المؤمن على مراكش، قطع الدعوةَ لبني العباس ثمَّ قَتَل المُقاتِلة، ولم يتعرَّضْ للرعية، وأحضر أهلَ الذمَّة وقال: "إن المهديَّ أمرني ألَّا أُقِرَّ الناس إلا على ملَّة الإسلام، وأنا مخيِّرُكم بين ثلاث: إما أن تُسلِموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإمَّا القتل. فأسلم طائفةٌ، ولحق بدار الحرب آخرون، وخَرَّبَ الكنائِسَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجزيةَ، وفعل ذلك في جميع مملكته، ثم فرق في الناس بيتَ المال وكَنَسَه، وأمر الناس بالصلاةِ فيه اقتداءً بعلي رضي الله عنه، وليعلم الناسُ أنه لا يُؤثِرُ جمعَ المال, وقال: من ترك الصلاةَ ثلاثةَ أيَّامٍ فاقتلوه. وكان يصلِّي بالناس الصلوات، ويقرأ كل يومٍ سُبعًا، ويلبَسُ الصوفَ، ويصوم الاثنين والخميس، ويقسم الفيء على الوجه الشرعي، فأحبه الناس", ثم تملك بجاية وأعمالها وأما الأندلس فاختلت أحوالها اختلالًا بَيِّنًا أوجب تخاذل المرابطين وميلَهم إلى الراحة، فهانوا على الناس، واجترأ عليهم الفرنجُ، وقام بكل مدينة بالأندلس رئيس منهم فاستبَدَّ بالأمر، وأخرج مَن عنده من المرابطين. وكادت الأندلسُ تعود إلى مثل سيرتها بعد الأربعمائة عند زوال دولة بني أمية, فجهز عبد المؤمن الشيخَ أبا حفص عمر إينتي، فعدى البحر إلى الأندلس، فافتتح الجزيرةَ الخضراء، رندة، ثم افتتح إشبيليَّةَ، وغرناطة، وقرطبة. وسار عبد المؤمن في جيوشه وعبَرَ مِن زقاق سبتة، فنزل جبلَ طارق، وسماه: جبل الفتح. فأقام هناك شهرًا، وابتنى هناك قصرًا عظيمًا ومدينة، فوفد إليه رؤساء الأندلس، ومدحه شعراؤها، فمن ذلك: ما للعدى جنة أوفى من الهَرَبِ أين المفرُّ وخَيلُ الله في الطَّلَبِ فأين يذهبُ مَن في رأس شاهقةٍ وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُبِ حدث عن الروم في أقطار أندلس والبحر قد ملأ البرين بالعرب فلما أتم القصيدةَ قال عبد المؤمن: بمثل هذا تُمدَحُ الخلفاء. عبد المؤمن هو خليفة ابن تومرت وعلى طريقته ودعوته، فكان يمتحن الناس في عصمة ابن تومرت ودعواه أنه المهدي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصومًا". كما اشتهر عن عبد المؤمن تساهلُه في استباحة دماء خصومه من المسلمين، وسَبْي نسائهم وذراريهم إذا انتصر عليهم. كما فعل في مراكش؛ قال ابن الأثير"فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عَنوةً، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقُتلوا، وجَعَل إسحاق يرتعد رغبةً في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفًا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟! اصبر صبْرَ الرجال؛ فهذا رجلٌ لا يخاف اللهَ ولا يدينُ بدين. فقام الموحِّدون إلى ابن الحاج بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاق على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عنقه" وأما في دكالة، فقال ابن الأثير عن عبد المؤمن "فأخذ الملثمين السيف، فدخلوا البحر، فقُتِل أكثرهم، وغُنِمَت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش منتصرًا، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة". وغيرهما من بلاد المسلمين في المغرب والأندلس. وفي تلمسان قال ابن الأثير: "وأما العسكر الذي كان على تلمسان، فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقُتِلَ أكثر أهله، وسُبِيت الذرية والحريم، ونُهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحَدُّ قيمتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكس الأثمان، وكان عِدَّةُ القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان" في العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، توفي عبد المؤمن. كان قد أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم، واستنفر الناس عامة، ثم سار حتى نزل بسلا، فمرض، وجاءه الأجل بها، في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وارتجت المغرب لموته، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدا، وكان لا يَصلُح لطَيشِه وجُذامٍ به ولِشُربه الخمر، فتملك أيامًا، ثم خلعوه، واتفقوا على تولية أخيه أبي يعقوب يوسف، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة، وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدًا ذكرًا.
إجلاء القارغلية من من بلاد ما وراء النهر .
العام الهجري : 559 العام الميلادي : 1163
تفاصيل الحدث:
كان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوَّض ولاية سمرقند وبخارى إلى الخان جغري خان بن حين تكين، واستعمله عليها، وهو مِن بيت الملك، قديم الأبوة، فبقي فيها مدبِّرًا لأمورها، فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارى وسمرقند إلى كاشغر، وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال، فتقدم جغري خان إليهم بذلك، فامتنعوا، فألزمهم وألحَّ عليهم بالانتقال، فاجتمعوا وصارت كلمتُهم واحدة، فكثُروا وساروا إلى بخارى، فأرسل الفقيهُ محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة، رئيس بخارى، إلى جغري خان يعلمه ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يَعظُم شَرُّهم، وينهبوا البلاد، وأرسل إليهم ابن مازة يقول لهم: إن الكُفَّار بالأمس لما طَرَقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل، وأنتم مسلمون غزاة، يَقبُح منكم مدُّ الأيدي إلى الأموال والدماء، وأنا أبذلُ لكم من الأموال ما تَرضَون به لتكفوا عن النَّهبِ والغارة؛ فترددت الرسلُ بينهم في تقرير القاعدة، وابن مازة يطاوِلُ بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان، فلم يشعُر الأتراك القارغلية إلا وقد دهمَهم جغري خان في جيوشه وجموعه بَغتةً ووضع السيف فيهم، فانهزموا وتفَرَّقوا، وكثر القتلُ فيهم والنهب، واختفى طائفةٌ منهم في الغياض والآجام، ثم ظفر بهم أصحابُ جغري خان فقَطَعوا دابرهم، ودفعوا عن بخارى وضواحيها ضَرَرَهم، وخَلَت تلك الأرضُ منهم.
غارة الأمير محمد بن أنز الإسماعيلية بخراسان .
العام الهجري : 559 العام الميلادي : 1163
تفاصيل الحدث:
أغار الأمير محمد بن أنز صاحب قهستان على بلد الإسماعيلية بخراسان وأهلها غافلون، فقَتَل منهم وغَنِم وسبى وأكثَرَ، وملأ أصحابه أيديهم من ذلك.
خروج ملك الروم من القسطنطينية وهزيمته أمام المسلمين التركمان .
العام الهجري : 559 العام الميلادي : 1163
تفاصيل الحدث:
خرج مَلِكُ الروم من القسطنطينية في عساكِرَ لا تحصى، وقَصَدَ بلاد الإسلام التي بِيَدِ قلج أرسلان وابن دانشمند، فاجتمع الغز الأتراك التركمان في تلك البلاد في جمعٍ كبير، فكانوا يُغيرون على أطرافِ عَسكَرِه ليلًا، فإذا أصبَحَ لا يرى أحدًا، وكثُرَ القتل في الروم حتى بلغت عِدَّةُ القتلى عشراتِ ألوف، فعاد إلى القُسطنطينية، ولما عاد مَلَك المسلمونَ منه عِدَّة حصون.
حملة نور الدين محمود زنكي على مصر .
العام الهجري : 559 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:
سيَّرَ نور الدين محمود بن زنكي عسكرًا كثيرًا إلى مصر، وجعل عليهم الأميرَ أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مُقَدَّم عسكره، وأكبَرُ أمراء دولته، وأشجعُهم، وكان سبب إرسال هذا الجيش أنَّ شاور السعديَّ- وزيرَ العاضد لدين الله العُبَيدي، صاحِبِ مِصرَ- نازعه في الوزارة ضرغام، وغَلَبَ عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئًا إلى نور الدينِ ومُستجيرًا به، فأكرَمَ مثواه، وأحسَنَ إليه، وأنعم عليه، وكان وصولُه في ربيع الأول من هذه السنة، وطلب منه إرسالَ العساكر معه إلى مصر؛ ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث دخل البلادِ بعد إقطاعات العسكَرِ، ويكون شيركوه مُقيمًا بعساكِرِه في مصر، ويتَصَرَّف هو بأمر نور الدين واختياره، ثمَّ قَوَّى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزِها وإزالة عِلَلِها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقُوَّةِ النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعًا وشاوِر في صحبتهم، في جمادى الأولى، وتقدم نورُ الدين إلى شيركوه أن يعيدَ شاوِر إلى مَنصِبِه، وينتقم له ممَّن نازعه فيه، وسار نور الدين إلى طرفِ بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره؛ ليمنع الفرنج من التعرُّض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حِفظُ بلادهم من نور الدين، ووصل أسدُ الدين ومَن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكَرِ المصريين ولَقِيَهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزومًا، ووصل أسدُ الدين فنزل على القاهرة أواخِرَ جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة آخر الشهر، فقُتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبَقِيَ يومين، ثم حُمِل ودُفِن بالقرافة، وقُتل أخوه فارس، وخُلع على شاور مُستهَلَّ رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكَّن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاوِر، وعاد عمَّا كان قرَّره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضًا، وأرسلَ إليه يأمُرُه بالعود إلى الشام، فأعاد الجوابَ بالامتناع، وطلب ما كان قد استقَرَّ بينهم، فلم يُجِبْه شاوِر إليه، فلما رأى ذلك أرسَلَ نُوَّابَه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكَمَ على البلاد الشرقية، فأرسل شاوِر إلى الفرنج يستمِدُّهم ويخوِّفُهم من نور الدينِ إن مَلَك مصر، وكان الفرنجُ قد أيقنوا بالهلاكِ إن تَمَّ مِلكُ نور الدين لمصر، فلما أرسل شاوِر يطلب منهم أن يساعِدوه على إخراجِ أسد الدين من البلاد جاءهم فَرَجٌ لم يحتَسِبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونُصرتِه، وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالًا على المَسيرِ إليه، وتجهَّزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكِرِه إلى أطراف بلادِهم ليمتنعوا عن المسيرِ، فلم يمنَعْهم ذلك؛ لعِلمِهم أن الخطرَ في مُقامِهم إذا ملك أسدُ الدين مصر، أشدُّ، فتركوا في بلادِهم من يحفَظُها، وسار مَلِكُ القدس في الباقين إلى مصر، وكان قد وصل إلى الساحل جمعٌ كثير من الفرنج في البحرِ لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنجُ الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضُهم معهم، وأقام بعضُهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنجُ مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكَرُه، وجعلها له ظهرًا يتحصَّنُ به، فاجتمعت العساكرُ المصرية والفرنج، ونازلوا أسدَ الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثةَ أشهر، وهو ممتنعٌ بها مع أنَّ سورَها قصير جدًّا، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتالَ ويُراوِحُهم، فلم يبلغوا منه غرضًا، ولا نالوا منه شيئًا، فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبَرُ بهزيمة الفرنج على حارم، ومِلكُ نور الدين حارم، ومسيره إلى بانياس، فحينئذ سُقِطَ في أيديهم، وأرادوا العودةَ إلى بلادهم؛ ليحفظوها، فراسلوا أسدَ الدين في الصُّلحِ والعود إلى الشام، ومفارقة مِصرَ، وتسليم ما بيده منها إلى المصريِّين، فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه لم يعلم ما فعله نورُ الدين بالشام بالفرنج، ولأنَّ الأقوات والذخائر قَلَّت عليهم، وخرج من بلبيس في ذي الحجة.
=====
106.نور الدين زنكي يهزم الصليبيين في موقعة أرتاح ويفتح قلعة تل حارم . العام الهجري : 559 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:
فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسببُ ذلك أن نور الدين لَمَّا عاد منهزمًا من البقيعة، تحت حصن الأكراد، مِن قبلُ، واتَّفَق مسير بعض الفرنج مع مَلِكِهم في مصر، فأراد أن يقصِدَ بلادهم ليعودوا عن مصرَ، فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدينِ قرا أرسلان، صاحبِ حصن كيفا، وإلى نجمِ الدين ألبي، صاحبِ ماردين، وغيرِهم من أصحاب الأطراف يستنجِدُهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمعَ عسكَرَه وسار مجِدًّا، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما نجم الدين فإنه سيَّرَ عسكرًا، فلما اجتمعت العساكرُ سار نحو حارم فحصرها ونصبَ عليها المجانيق وتابَعَ الزحف إليها، فاجتمع من بقيَ بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حَدِّهم وحديدِهم، ومُلوكِهم وفُرسانِهم، وقِسِّيسِيهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلون، وكان المُقَدَّم عليهم البرنس بيمند: صاحب أنطاكية، وقمص: صاحب طرابلس وأعمالِها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مُقَدَّم كبيرٌ من الروم، وجمعوا الفارِسَ والراجِلَ، فلمَّا قاربوه رحلَ عن حارم إلى أرتاح؛ طمعًا أن يَتبَعوه فيتمَكَّنَ منهم؛ لبُعدِهم عن بلادِهم إذا لَقُوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم عَلِموا عجزَهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تَبِعَهم نورُ الدين في أبطال المسلمينَ على تعبئةِ الحرب، فلما تقاربوا اصطفُّوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنةِ المسلمين، وفيها عسكَرُ حلب وصاحِبُ الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبِعَهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمةُ من الميمنة على اتِّفاق ورأيٍ دَبَّروه، فكان الأمرُ على ما دبَّروه؛ فإن الفرنج لَمَّا تبعوا المنهزمين عطف زينُ الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلًا وأسرًا، وعاد خيَّالتهم، ولم يُمعِنوا في الطلَبِ خوفًا على راجِلِهم، فعاد المنهَزِمون في آثارهم، فلما وصل الفرنجُ رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسُقِطَ في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبَقُوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدَّت الحربُ، وقامت على ساق، وكثُرَ القتل في الفرنج، وتمَّت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسَروا ما لا يُحَدُّ، وفي جملة الأسرى صاحِبُ أنطاكية، والقمص، صاحب طرابلس، وكان شَيطانَ الفرنج، وأشَدَّهم شكيمةً على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل. ثم سار إلى حارم فملكها في شهر رمضان من السنة، وبثَّ سراياه في أعمال أنطاكية، فنَهَبوها وأسروا أهلها، وباع البرنس بمال عظيم وأسرى من المسلمين.
ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة بانياس من الفرنج .
العام الهجري : 559 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:
فتَحَ نور الدين محمود قلعة بانياس، وهي بالقُرب من دمشق، وكانت بيد الفرنج من سنة 543، وكان نور الدين لما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم، وأظهر أنه يريدُ طبرية، فجعل من بقي من الفرنج همَّتَهم حفظَها وتقويتَها، فسار محمود إلى بانياس لعِلْمِه بقلة من فيها من الحُماة الممانعين عنها، ونازلها، وضَيَّقَ عليها وقاتَلَها، وجَدَّ في حصارها، فسمع الفرنج، فجَمَعوا، فلم تتكاملْ عِدَّتُهم، حتى فتحها؛ على أن الفرنج كانوا قد ضَعُفوا بقتل رجالهم بحارم وأسْرِهم، فمَلَك القلعةَ وملأها ذخائرَ وعِدَّةً ورجالًا، وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرَّروا له على الأعمال التي لم يشاطِرْهم عليها مالًا في كل سنةٍ.
وفاة شاه مازندران رستم واستيلاء ابنه على الملك من بعده .
العام الهجري : 560 العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:
هو رستم بن علي بن شهريار بن قارن. ملك مازندران. كان ملكًا شجاعًا مخوفًا، استولى على بسطام وقومس، واتَّسعت ممالكه، وكان شيعيًّا شديد التشيع, غزا بلاد ألموت فأوطأ الإسماعيلية ذلًّا، وخَرَّب بلادهم، وسبى النساء والأولاد، وغنم، وخُذلت الإسماعيلية في أيامه، وخُرِّبَت عامة قراهم. توفي في ثامن ربيع الأول، ولَمَّا توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موتَه أيامًا، حتى استولى على سائر الحصون والبلاد، ثم أظهره، فلما ظهر خبرُ وفاته أظهر إيثاق بن الحسن صاحِبُ جرجان ودهستان المنازعة لوالده في الملك، ولم يَرْعَ حقَّ أبيه عليه، ولم يحصُلْ من منازعته على شيءٍ غير سوء السمعة وقُبح الأُحدوثة.
الحروب بين أمراء السلاجقة .
العام الهجري : 560 العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:
نشبَت الحرب بين قليج أرسلان بن مسعود صاحِبِ قونية، وبين ياغي بسان بن دانشمند صاحِبِ ملاطية، وكان سبب هذه الحرب أنَّ قليج أرسلان تزوج ابنة سلدق بن علي بن أبي القاسم صاحب أرزروم، فسيرت العروس إلى قليج مع جهاز كبير، فأغار ياغي على مسيرة العروس واختطفها وما معها، وأمَرَها بالردَّةِ عن الإسلام لينفَسِخَ زواجُها من قليج أرسلان، ففعلت ثم عادت للإسلامِ؛ ليزوجها ياغي من ابن أخيه، فلما علم قليج بذلك جمع عساكره وسار إلى ملاطية، وقاتل صاحبها ياغي، فانهزم قليج والتجأ إلى ملك الروم يستنصره على ابن دانشمند، فرده ملك الروم بقوة وسَيَّرَه إلى قتال ياغي، ولكن بلغه في الطريق وفاة ابن دانشمند فأغار على بلاده وملك بعضها، وخلف ابن دانشمند أخوه إبراهيم في إمارة ملاطية، وتم الصلح مع قليج على أن يستولي ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية، وأن يملك شاهنشاه أخو قليج أرسلان على مدينة أنكورية (أنقرة).
حصار الإسماعلية لقزوين .
العام الهجري : 560 العام الميلادي : 1164
تفاصيل الحدث:
بنى الإسماعيلية قلعةً بالقرب من قزوين، فقيل لشمس الدين إيلدكز عنها، فلم يكنْ له إنكار لهذه الحالِ؛ خوفًا مِن شَرِّهم وغائلتهم، فتقَدَّموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها، وقاتلهم أهلُها أشدَّ قتال رآه الناس.
وقوع قتال بسبب التعصب المذهبي في أصفهان .
العام الهجري : 560 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1165
تفاصيل الحدث:
وقعَت بأصفهان فتنةٌ عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي رئيس الشَّافعية بأصفهان وبين أصحاب المذاهبِ الأخرى، بسبب التعصب للمذاهب، فدام القتالُ بين الطائفتين ثمانيةَ أيام مُتَتابعةً قُتل فيها خلق كثير، واحترق وهُدم كثيرٌ من الدور والأسواق، ثم افترقوا على أقبحِ صورةٍ.
فتح نور الدين محمود زنكي حصن المنيطرة من الشام .
العام الهجري : 561 العام الميلادي : 1165
تفاصيل الحدث:
فتَحَ نورُ الدين محمود بن زنكي حِصنَ المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشِدْ له، ولا جمَعَ عساكِرَه، وإنما سار إليه جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- على غِرَّة منهم، وعَلِمَ أنه إن جمع العساكِرَ حَذِروا وجمعوا، وانتهز الفرصةَ وسار إلى المنيطرة وحصره، وجَدَّ في قتاله، فأخذه عَنوةً وقهرًا، وقتل من بها وسبى، وغَنِمَ غنيمة كثيرة، فإنَّ الذين به كانوا آمنين، فأخذتهم خيل الله بغتةً وهم لا يشعرون، ولم يجتمع الفرنج لدفعِه إلَّا وقد ملكه، ولو علموا أنه جريدة في قِلَّةٍ مِن العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنُّوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفَرَّقوا وأيِسُوا من رَدِّه.
وفاة الشريف الإدريسي الجغرافي الأندلسي الكبير .
العام الهجري : 561 العام الميلادي : 1165
تفاصيل الحدث:
هو الشَّريفُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي الحمودي الحَسني الطالبي الإدريسي. ولد بمدينة سبتة وتعلَّم بقُرطبة، خرج إلى المشرق وطاف البلاد، أقام في بلاد الإسلام وعاد إلى المغربِ. كان أديبًا ظريفًا شاعرًا مُغرمًا بعلم الجغرافيا. أقام بصقليَّةَ في بلاط الملك النورماندي روجيه الثاني الذي كان من هواة الفلك، فألَّفَ له الإدريسي كتابَ نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو في وصفِ بلاد أوربا, ثم قضى الإدريسي شطرًا من حياته في رسم أوَّلِ خريطة للعالم، بناها على القواعد العلمية الصحيحة، وقد صنع الملك النورماندي هذه الخريطة على كُرةٍ فِضِّية بإشراف الإدريسي، وللإدريسي مؤلفات أخرى منها صفة بلاد المغرب، وروضة الأندلس ونزهة النفس، وله مشاركات في علوم النبات، ويعتبر الإدريسي أكبَرَ جغرافي عربي بل وأشهرهم على الإطلاق، توفي الإدريسي عن 71 عامًا، ويغلب على الظن أنه توفي في صقليَّةَ.
وفاة عبدالقادر الجيلاني .
العام الهجري : 561 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1166
تفاصيل الحدث:
هو الزاهِدُ، صاحِبُ الكرامات والمقامات، شيخُ الحنابلة أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد الهاشمي القرشي العلوي الجيلي الحنبلي. ولد بجيلان سنة 470 وقيل 471. دخل بغداد سنة ثمان وثمانين، وله ثماني عشرة سنة، فقرأ الفقهَ على: أبي الوفاء بن عقيل، وأبي الخطاب، وأبي سعد المخرمي، وأبي الحسين بن الفراء، حتى أحكم الأصولَ، والفروع، والخلاف, وسمع الحديث، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد. بنى أبو سعد المخرمي مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوض إلى عبد القادر التدريسَ فيها, فتكلَّم على الناس بلسان الوعظ وظهر له صيتٌ, فضاقت مدرسته بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندًا إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلقٌ كثير, وكان له سمتٌ حسنٌ، وصَمتٌ غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهدٌ كثير وله أحوال صالحة، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالًا وأفعالًا ومكاشَفات أكثَرُها مغالاة، وقد كان صالحًا وَرِعًا، وقد صنَّف كتاب الغنية، وفتوح الغيب، وفيهما أشياءُ حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، قال ابن النجار في ترجمة عبد القادر: "قرأ الأدبَ على أبي زكريا التبريزي، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه, ثم لازم الخَلوة، والرياضة، والسياحة، والمجاهدة، والسهر، والمقام في الخراب والصحراء. وصحب الشيخ حماد الدباس، وأخذ عنه علم الطريق، ثمَّ إن الله تعالى أظهره للخلق، وأوقع له القبول العظيم، فعَقد مجلس الوعظ سنة 521 وأظهر الله الحكمة على لسانه, ثم جلس في مدرسة شيخه أبي سعد للتدريس والفتوى سنة 528، صنف في الأصول والفروع، وله كلام على لسان أهل الطريقة". قال: عبد الرزاق ولد عبد القادر يقول: "كتب إلي عبد الله بن أبي الحسن الجبَّائي قال: كنت أسمع كتاب «الحلية» على ابن ناصر، فرَقَّ قلبي، وقلت في نفسي: اشتهيت أن أنقَطِعَ عن الخلق وأشتغل بالعبادة. ومضيت فصليتُ خلف الشيخ عبد القادر، فلما صلى جلسنا، فنظر إلي وقال: إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقَّه، وتجالِسَ الشيوخ، وتتأدب، ولا تنقطِعْ وأنت فريخ ما ريَّشت؛ فإن أشكلَ عليك شيء من أمر دينك تخرجُ من زاويتك وتسأل الناس عن أمر دينك! ما يَحسُن صاحب الزاوية أن يخرُجَ من زاويته ويسأل الناس عن أمر دينه! ينبغي لصاحب الزاوية أن يكون كالشَّمعة يُستضاء بنوره". وقال عبد الرزاق: وُلِدَ لوالدي تسع وأربعون ولدًا، سبعة وعشرون ذكرًا، والباقي إناث". توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له.
نور الدين محمود زنكي ينتزع عددا من الحصون من الصليبيين .
العام الهجري : 562 العام الميلادي : 1166
تفاصيل الحدث:
جمع نور الدين محمود العساكر، فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره، فاجتمعوا على حمص، فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج، فاجتازوا حصنَ الأكراد، وقصدوا عرقةَ فنازلوها وحصروها، وقصدوا حلبة وأخذوها، وفتحوا العريمةَ وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان، ثم ساروا إلى بانياس، وقصَدوا حِصنَ هونين، وهو للفرنجِ أيضًا، من أمنَعِ حصونهم ومعاقِلِهم، فانهزم الفرنجُ عنه وأحرقوه، فوصل نور الدين من الغدِ فهدَم سورَه جميعه، وأراد الدخولَ إلى بيروت، فتجَدَّدَ في العسكر خلافٌ أوجب التفرق، فعاد قطب الدين إلى الموصل، وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات، وكانت له، فأخذها في طريقِه وعاد إلى الموصل.
مقاتلة أسد الدين شيركوه للفرنجة بمصر وفتح الإسكندرية .
العام الهجري : 562 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1167
تفاصيل الحدث:
أقبَلَت الفرنج في جحافِلَ كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصَرَّفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسدَ الدين شيركوه، فاستأذن الملك نور الدين محمود في العود إليها، وكان كثيرَ الحنق على الوزير شاوِر السعدي، فتجهَّزَ وسار في ربيع الآخر في جيشٍ قويٍّ، وسَيَّرَ معه نور الدين جماعة من الأمراء، فلما اجتمع معه عسكرُه سار إلى مصر على البَرِّ، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد أطفيح، وعبَرَ النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابِلَ مصر، وتصرَّفَ في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفًا وخمسين يومًا، وكان شاوِر لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجِدُهم، فأتوه على الصَّعبِ والذَّلول؛ طمعًا في ملكها، وخوفًا أن يملكها أسد الدين، فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكانًا يُعرَف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرةِ عددهم وعُدَّتهم، وجِدِّهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تَضعُفَ نفوسُهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، فأشار أحدُهم بالقتال وشجَّعَهم عليه، فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمَلُ، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، فلما تقاتلت الطائفتان حمل الفرنج على القلب، فقاتلهم من به قتالًا يسيرًا، وانهزموا بين أيديهم غير متفرِّقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسدُ الدين فيمن معه على من تخلَّفَ عن الذين حمَلوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيفَ فيهم، فأثخن وأكثَرَ القتل والأسرَ، فلما عاد الفرنج من المنهزمين، رأوا عسكرَهم مهزومًا، والأرض منهم قَفرًا، فانهزموا أيضًا، فلما انهزم الفرنج والمصريونَ مِن أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القُرى على طريقه من الأموال، ووصلَ إلى الإسكندرية، فتسلَّمها بمساعدة من أهلِها سلَّموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين بن أخيه، وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله، وأقام به حتى صام رمضان، وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حالَ عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاحَ الدين بها، واشتَدَّ الحصار، وقلَّ الطعام على من بها، فصبر أهلُها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاوِر قد أفسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشَرَطَ على الفرنج ألَّا يقيموا بالبلاد ولا يتملَّكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، وتسلَّم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة، وأما الفرنج فإنهم استقَرَّ بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم؛ ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخلِ مصرَ كل سنة مائة ألف دينار. وعاد الفرنج إلى بلادِهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعةً من مشاهير فرسانهم.
الحرب بين البهلوان وصاحب مراغة .
العام الهجري : 563 العام الميلادي : 1167
تفاصيل الحدث:
أرسل آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده، وهو ولد السلطان محمد شاه، ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق، ولا يطلب شيئًا غير ذلك، وبذل مالًا يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه، فأجيب بتطييب قلبه، وبلغ الخبر إيلدكز صاحِبَ البلاد، فساءه ذلك، وجهَّزَ عسكرًا كثيفًا، وجعل المقدَّمَ عليهم ابنَه البهلوان، وسيَّرَهم إلى آقسنقر، فوقعت بينهم حربٌ أجْلَت عن هزيمةِ آقسنقر وتحصُّنه بمراغة، ونازله البهلوان بها وحصَره وضَيَّقَ عليه. ثم ترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.
قتال بين خفاجة وجيش بغداد .
العام الهجري : 563 العام الميلادي : 1167
تفاصيل الحدث:
وفيها أفسدت خفاجة في البلاد ونهَبوا القرى، فخرجَ إليهم جيش من بغداد فهربوا في البراري فانحسر الجيشُ عنهم خوفًا من العطش، فكَرُّوا على الجيش فقتلوا منهم خلقًا، وأسروا آخرين، وكان قد أسر الجيش منهم خلقًا، فصُلِبوا على الأسوار.
نهاية دولة بني زيري في الجزائر وتونس .
العام الهجري : 563 العام الميلادي : 1167
تفاصيل الحدث:
لحق الحسنُ بن يحيى آخِرُ ملوك بني زيري بعد استيلاءِ النصارى على المهدية، بالعَرَبِ مِن رياح، وكبيرُهم محرز بن زياد الفادعي صاحِبُ القلعة، فلم يجِدْ لديهم مصرخًا، وأراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد الفاطمي, لكنَّه ارتحل إلى المغرب، وأجاز إلى بونة وبها الحارث بن منصور وأخوه العزيز. ثم توجه إلى قسنطينة وبها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية، فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر. ونزل على ابن العزيز فأحسن نُزُلَه وجاوره إلى أن فتح الموحدون الجزائر سنة 547 بعد تملكهم المغرب والأندلس، فخرج إلى عبد المؤمن فلقَّاه تكرمةً وقبولًا. ولحق به وصَحِبَه إلى إفريقية في غزاته الأولى، ثم الثانية سنة 557 فنازل المهدية وحاصرها عبد المؤمن أشهرًا، وأسكن بها الحسنَ وأقطعه فيها, فأقام هنالك ثمانيَ سنين. ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهلِه يريد مراكش. وهلك بتامسنا في طريقه إلى بابارولو، واللهُ وارثُ الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين، ورب الخلائق أجمعين.
حماية نور الدين محمود زنكي لشاور من أسد الدين شيركوه .
العام الهجري : 563 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1168
تفاصيل الحدث:
بعث شاور إلى نور الدين محمود رسالةً مع شهاب الدين محمود، خال صلاح الدين الأيوبي، تتضمن أنه يحمل إليه مالًا في كل سنة من مصر مصانعةً؛ ليصرف عنه أسد الدين شيركوه، فأجاب نور الدين إلى ذلك، وأعطى شيركوه مدينة حمص وأعمالها زيادةً على ما كان بيده، وأمره بترك ذكر مصر، فأرسل شاور إليه كتابًا يشكر صنيعَه.
ملك نور الدين محمود زنكي قلعة جعبر .
العام الهجري : 564 العام الميلادي : 1168
تفاصيل الحدث:
ملَكَ نورُ الدين محمود بن زنكي قلعةَ جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه مِن قَبلِه من أيام السلطان ملك شاه، وهي من أمنَعِ القلاع وأحصَنِها، مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأمَّا سبب ملكها فإن صاحِبَها نزل منها يتصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة 563، فاعتقله وأحسنَ إليه، ورغَّبَه في المال والإقطاع ليُسَلِّمَ إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسيَّرَ إليها نور الدين عسكرًا مُقَدَّمُه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفَرْ منها بشيء، فأمَدَّهم بعسكر آخر، فحصرها أيضًا فلم ير له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العِوَض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقَبِلَ قولَه وسَلَّمَها، فأخذ عِوَضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار مُعَجَّلة، وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنَّه لا حصن فيه، وهذا آخِرُ أمر بني مالك بالقلعة.
فتح مصر على يد أسد الدين شيركوه .
العام الهجري : 564 العام الميلادي : 1168
تفاصيل الحدث:
في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فمَلَكَها ومعه العساكر النورية، وسَبَبُ ذلك تمكُّن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنةً وتسَلَّموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعةً من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكَموا المسلمين حكمًا جائرًا، ورَكِبوهم بالأذى العظيم، فعَمِلوا أيضًا على تجهيز الجيوش لتمَلُّك مصر كلها، وشرعوا يتجهَّزون ويُظهِرون أنَّهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين محمود بهم شرع يجمَعُ عساكِرَه، وأمَرَهم بالقدوم عليه، وجَدَّ الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها، ونازلوا مدينة بلبيس، ومَلَكوها قهرًا مستهَلَّ صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسَبَوا، وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعَدوهم النصرة، فقَوِيَ جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر، فنزلوا على القاهرة عاشِرَ صَفَر وحصروها، فخاف الناسُ منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحمَلَهم الخوف منهم على الامتناعِ، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونَه وبذلوا جُهدَهم في حفظه، وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلَها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن يُنهَب البلد، فانتقلوا، وبقُوا على الطرق، ونُهِبَت المدينة وافتقرَ أهلُها، وذهبت أموالُهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفًا أن يملِكَها الفرنج، فبَقِيَت النار تحرقها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل حاكمُ مصر العاضد العبيدي إلى نور الدين يستغيثُ به، ويُعَرِّفُه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، فشرع في تسيير الجيوش، وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضَيَّقوا على أهلها، وشاوِر هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضَعُف عن ردهم، فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يَذكُرُ له مودته ومحبته القديمة له، وأنَّ هواه معه؛ لخوفه من نور الدين والعاضد، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يُعَجَّل البعض، ويُمهَل البعض فاستقرت القاعدةُ على ذلك، وجعل شاوِر يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصَّل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وهم في خلالِ هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكونَ أسدُ الدين مقيمًا عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضًا خارجًا عن الثُّلث الذي لهم، وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدًّا منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصرَ رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادِهم بخُفَّي حُنَين خائبين مما أمَّلوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضَربِ البشائر في البلاد، وبَثَّ رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحًا جديدًا لمصر، وحفظًا لسائر بلاد الشام وغيرها، فأمَّا أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامِه بالعاضدية، وفرح به أهلُ مصر، وأُجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة.
اغتيال شاور بن مجير السعدي وزير العاضد العبيدي (الفاطمي) .
العام الهجري : 564 العام الميلادي : 1168
تفاصيل الحدث:
هو مَلِك الديار المصرية ووزيرُها أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار بن عشائر السعدي، الهوازني. يرجع نسبه إلى أبي ذؤيب عبد الله والد حليمة السعدية مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان الملك الصالحُ طلائع بن رزيك الرافضي وزيرُ العاضد قد ولَّاه إمرة الصعيد، ثم نَدِمَ على توليته حيث لا ينفع الندم. ثم إن شاوِر تمكن في الصعيد، وكان شجاعًا فارسًا شهمًا، وكان الصالح لما احتُضِرَ قد وصى ولده رزيك ألَّا يتعرض لشاور ولا يهيجه بمساءةٍ ولا يُغَيِّر عليه حاله، فإنه لا يأمَنُ عصيانه والخروج عليه، وكان كما أشار، ثم إن شاور بعد وفاة الملك الصالح حشَدَ وجمع، وأقبل من الصعيد على واحات، واخترق البرِّية إلى أن خرج من عند تروجة بقرب الإسكندرية، وتوجه إلى القاهرة ودخلها، فقتل العادِلَ رزيك بن الملك الصالح، ووزر للعاضِدِ. لما تملك شاور البلاد لمَّ شَعثَ القصر، وأدرَّ الأرزاق الكثيرة على أهل القصر، وكان قد نقصهم المَلِكُ الصالح أشياءَ كثيرة، ثمَّ تجبَّرَ شاور وظلم فخرج عليه الأميرُ ضرغام وأمراء، وتهيؤوا لحربه، ففَرَّ إلى دمشق مستنجدًا بالسلطان نور الدين محمود، فاجتمع به، وأكرمَه، ووعده بالنصرة. وقال شاوِر له: أنا أمَلِّكُك مصر، فجهَّزَ معه شيركوه بعد عهودٍ وأيمان، فالتقى شيركوه وعسكر ضرغام، فانكسرَ المصريون، وحُوصِرَ ضرغام بالقاهرة، وتفلَّلَ جمعُه، فهرب، فأُدرِك وقُتِلَ عند جامع ابن طولون، وطِيفَ برأسه، ودخل شاوِر، فعاتبه العاضِدُ على ما فعل من جَلبِ أصحاب نور الدين محمود إلى مصر، فضَمِنَ له أن يصرِفَهم، فخلع عليه، فكتب إلى الروم يستنفِرُهم ويُمَنِّيهم، فأُسقِطَ في يد شيركوه، وحاصر القاهرةَ، فدهمته الرومُ، فسبق إلى بلبيس، فنزلها، فحاصره العدوُّ بها شهرين، وجرت له معهم وقعات، ثم فَتَروا، وترحلوا، وبقي خلقٌ من الروم يتقوَّى بهم شاور، وقرر لهم مالًا، ثم فارقوه. وبالغ شاوِر في العسف والمصادرة، وتمنى المصريون أن يليَ أمرهم شيركوه، فسار إليهم ثانيًا من الشام، فاستصرخ شاوِر بملك الفرنج عموري، للعودِ إلى مصر، ولكنهم تأخروا فخاف شاور فعَمِلَ حيلةً يغدر فيها بأسد الدين وأمرائه ويقبض عليهم، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن لم تنتهِ عن هذا الأمرِ لأُعَرِّفنَ أسد الدين. فقال له أبوه شاور: واللهِ لئن لم نفعَلْ هذا لنُقتَلَنَّ كلنا. فقال له ابنه الكامل: لَأنْ نقتل والبلادُ بيدِ المُسلِمينَ خَيرٌ من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج. وكان شاور قد شرط لأسدِ الدين شيركوه ثلثَ أموال البلاد، فأرسل أسد الدين يطلب منه المال، فجعل شاوِر يتعلل ويماطل وينتظر وصول الفرنج، فابتدره أسدُ الدين وقتَلَه، واختلفوا في قتلِه على أقوال؛ أحدُها: أن الأمراء اتفقوا على قتله لَمَّا عَلِموا مكاتبتَه للفرنج، وأنَّ أسد الدين تمارض، وكان شاور يخرجُ إليه في كل يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادةِ وُزَراء مصر، فجاء شاوِر ليعود أسد الدين فقَبَض عليه وقتله، والثاني: أن صلاح الدين وجرديك اتَّفقا على قتله وأخبرا أسدَ الدين فنهاهما، وقال: لا تفعلا، فنحن في بلاده ومعه عسكر عظيم، فأمسكا عن ذلك إلى أن اتفق أنَّ أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعي وأقام عنده، فجاء شاوِر على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو في الزيارة انزل، فامتنع؛ فجذباه فوقع إلى الأرض فقتَلاه، والثالث: أنهما لما جذباه لم يمكِنْهما قتله بغير أمر أسد الدين فسَحَبَه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليُجَيِّشوا عليهم، علم أسد الدين فعاد مسرعًا، وجاء رسول من العاضد برقعةٍ يطلب من أسد الدين رأسَ شاور، وتتابعت الرسل. وكان أسد الدين قد بعث إلى شاوِر مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمانٌ، وأنا خائِفٌ عليك من الذي عندي فلا تجيء. فلم يلتفت وجاء على العادة فقُتِل. ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجَزَّ رأسه، وبعث أسد الدين برأسِه إلى العاضد فسُرَّ به. ثم طلب العاضد ولدَ شاوِر الملك الكامل وقتَلَه في الدهليز وقتَلَ أخاه، واستوزر أسدَ الدين شيركوه، وذلك في شهر ربيع الأول.
صلاح الدين الأيوبي يسيطر على مصر .
العام الهجري : 564 العام الميلادي : 1168
تفاصيل الحدث:
لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين بن أخيه أيوب بن شاذي قد سار معه على كُرهٍ منه للمسير، وأما كيفيَّة ولايته، فإنَّ جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدُّمَ على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عينُ الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خالُ صلاح الدين، وكُلُّ واحد من هؤلاء يخطُبها، وقد جمع أصحابه ليغالَ عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضرَه عنده، وخلعَ عليه، وولَّاه الوزارة بعد عَمِّه، وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابَه قالوا: ليس في الجماعة أضعَفُ ولا أصغَرُ سنًّا من يوسف بن أيوب (صلاح الدين)، والرأيُ أن يولَّى، فإنَّه لا يخرجُ من تحت حُكمِنا، ثم نضَعُ على العساكر من يستميلُهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنَعُ بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرِجُه، فلما خلع عليه لقب الناصر لم يُطِعْه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدونَ الأمرَ لأنفُسِهم، ولا خَدَموه، وكان الفقيهُ عيسى الهكاري مع صلاح الدين، فمَيَّل الأمراء الذين كانوا قد طمعوا بالوزارة إلى الانقيادِ إليه، فأجابوا سوى عين الدولة الياروقي؛ فإنه امتنع، وثبتَ قَدَمُ صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين محمود، واستمال صلاحُ الدين قلوبَ النَّاسِ، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبُّوه وضَعُف أمر العاضد، ثم أرسل صلاحُ الدين يطلُب من نور الدين أن يرسِلَ إليه إخوتَه وأهلَه، فأرسلهم إليه، وشرعَ عليهم طاعتَه والقيامَ بأمره ومساعدته، وكلُّهم فعل ذلك، وأُخِذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حبًّا وطاعةً.
وفاة أسد الدين شيركوه مؤسس الوجود الأيوبي بمصر .
العام الهجري : 564 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1169
تفاصيل الحدث:
هو الملك المنصور أبو الحارث أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان عم صلاح الدين, وأصلُه من الأكراد الروادية، وهذا النَّسلُ هم أشرف الأكراد. كان شاوِر وزيرَ العاضد العُبيدي, فقدم إلى الشام يستنجِدُ بنور الدين سنة 559 على خَصِمه ضرغام. فسير معه جماعة من عسكره، وجعل مُقَدَّمَهم أسدَ الدين شيركوه، وقَدِموا مصر، وغدر بهم شاوِر ولم يفِ بما وعدهم به، فعادوا إلى دمشق، ثم عاد شيركوه إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 562، وكان توجهه إليها رغبةً في مِلكِها, فجَرَت عدة وقائع مع شاور. توجَّه خلالها صلاح الدين إلى الإسكندرية وحَكَمها، ثمَّ جرى صلحٌ بين شيركوه وبين المصريين، وسَيَّروا له صلاح الدين، وعاد إلى الشام، ولَمَّا وصل الفرنج إلى بلبيس وملكوها وقتلوا أهلها سنة 564، سيَّروا إلى أسد الدين وطلبوه ومنَّوه ودخلوا في مرضاته لأن يُنجِدَهم، فمضى إليهم وطرَدَ الفرنج عنهم. وكان وصولُه إلى مصر في شهر ربيع الأول، وعزم شاوِر على قتله وقتلِ الأمراء الكبار الذين معه، فبادروه وقتَلوه, فتولى أسدُ الدين الوزارة يوم الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة 564، ولما ثبتت قدَمُه بمصر، وظنَّ أنه لم يبقَ له مُنازِع، أتاه أجَلُه فجأةً، فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، بالقاهرة، ودُفِنَ بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مدة بوصية منه، وكانت ولايتُه شهرين وخمسة أيام، وتولى مكانَه صلاح الدين, ولم يُخَلِّف ولدًا سوى ناصر الدين محمد بن شيركوه الملقب بالملك القاهر.
=======
107.وقعة السودان بمصر .
العام الهجري : 564 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1169

تفاصيل الحدث:
في أوائل ذي القعدة قُتِلَ مؤتمن الخلافة، وهو خصِيٌّ كان بقصرِ العاضد، إليه الحُكم فيه، والتقدُّم على جميع من يحويه، فاتَّفَق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقَوِّي بهم على صلاح الدين ومَن معه، وسَيَّروا الكتب مع إنسانٍ يثقون به، وأقاموا ينتَظِرون جوابه، وسار ذلك القاصدُ إلى البئر البيضاء، فلَقِيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبَسُه هذا الرجل لكانا خَلِقين؛ فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتَقَهما، فرأى الكتابَ فيهما، فقرأه وسكت عليه، وكان مقصودُ مؤتمن الخلافة أن يتحَرَّك الفرنجُ إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها خرج صلاحُ الدين في العساكرِ إلى قتالهم، فيثور مؤتمنُ الخلافة بمن معه من المصريِّين على مخلفيهم فيقتلونَهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاحَ الدين، فيأتونه مِن وراء ظهره، والفرنجُ من بين يديه، فلا يبقى لهم باقية. فلما قرأ الكتابَ سأل عن كاتبه، فقيل: رجل يهودي، فأُحضِرَ، فأمَرَ بضَربِه وتقريره، فابتدأ وأسلم وأخبَرَه الخبر، وأخفى صلاح الدين الحال، واستشعر مؤتمنُ الخلافة، فلازم القصر ولم يخرج منه خوفًا، وإذا خرج لم يبعد صلاح الدين لا يظهرُ له شيئًا من الطلب، لئلا ينكرَ الحال ذلك، فلما طال الأمرُ خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزُّه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه وقتلوه وأتوه برأسِه، وعزل جميعَ الخدم الذين يتولَّون أمر الخلافة، واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خَصِيٌّ أبيض، وكان لا يجري في القَصرِ صغيرٌ ولا كبير إلا بأمره وحُكمِه، فغضب السودان الذين بمصر لقَتلِ مؤتمن الخلافة حَمِيَّة، ولأنه كان يتعصَّبُ لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتُهم على خمسين ألفًا، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحيَّة، فاجتمع العسكرُ أيضًا وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتلُ في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلَّتِهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادِهم وحرَمِهم، فلما أتاهم الخبَرُ بذلك ولَّوا منهزمين، فركبهم السَّيفُ، وأُخِذَت عليهم أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثُرَ فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأُخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزيرُ الدولة توارن شاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسَّيفِ، ولم يبقَ منهم إلا القليلُ الشريد، وكفى الله تعالى شَرَّهم.
غزوةٌ لسريةٍ نورانيَّةٌ مباركة .
العام الهجري : 565 العام الميلادي : 1169
تفاصيل الحدث:
كان شهابُ الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك، صاحب قلعة البيرة، قد سار في عسكره، وهو في مائتي فارس، إلى نور الدين وهو بعشترا، فلما وصل إلى قرية اللبوة، وهي من عمل بعلبك، رَكِبَ متصَيِّدًا، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال، فوقع بعضُهم على بعض، واقتتلوا واشتَدَّ القتال، وصبَرَ الفريقان لا سيما المسلمون، فإنَّ ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية، وكَثُرَ القتلى بين الطائفتين، فانهزم الفرنجُ، وعَمَّهم القتلُ والأسر، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا من لا يُعتَدُّ به، وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين، فركب نور الدين والعسكر، فلقوهم، فرأى نور الدين في الرؤوس رأسَ مُقَدَّم الإسبتار، صاحب حصن الأكراد، وكان من الشجاعة بمحلٍّ كبير، وكان شَجًا في حلوقِ المسلمين.
الحرب بين يوسف بن عبد المؤمن وابن مردنيش بالأندلس .
العام الهجري : 565 العام الميلادي : 1169
تفاصيل الحدث:
كان محمد بن سعيد بن مردنيش، ملك شرق الأندلس، قد اتفق هو والفرنج، وامتنع على عبد المؤمن وابنه يوسف من بعده، فاستفحل أمرُ ابن مردنيش، لا سيَّما بعد وفاة عبد المؤمن، فلمَّا كان هذه السَّنةَ جَهَّزَ إليه يوسفُ بن عبد المؤمن العساكِرَ الكثيرةَ مع أخيه عُمَرَ بنِ عبد المؤمن، فجاسوا بلادَه وخَرَّبوها، وأخذوا مدينتينِ مِن بلاده، وأخافوا عساكِرَ جنودِه، وأقاموا ببلادِه مُدَّةً يتنقَّلون فيها ويَجبُون الأموال، ثمَّ إن ابن مردنيش توفي فدخل أولادُه في طاعة ابن عبد المؤمن.
محاصرة الفرنجة لدمياط ورجوعهم عنها .
العام الهجري : 565 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1169
تفاصيل الحدث:
تحرَّكَ الفرنج لغزو ديار مصرَ؛ خوفًا من صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي عندما بلغهم تمكُّنُه من ديار مصر وقطعُ آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنجَ صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمالِ والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهَلِّ صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها برًّا وبحرًا، فأسرع صلاح الدين إلى دمياط وتحصَّنَ فيها، كما قام نور الدين محمود بالإسراع بغزو البلدانِ التي يسيطرون عليها، فحاصر الكرك، وأرسل كذلك نجدةً إلى صلاح الدين وكانت القوةُ تتحرك إثر القوة، وكان على رأسِ أحدِها والد صلاح الدين نجمُ الدين أيوب، واستمرَّ حصار الصليبيين لمدينة دمياط خمسين يومًا اضطروا بعدها لرفع الحصارِ عنها نتيجةَ الإمدادات التي كانت تصِلُ إلى دمياط من نور الدين محمود وشِدَّة مقاومة صلاح الدين، بالإضافة إلى دعم العاضد حاكم مصر الفاطمي، واستيلاء نور الدين على أجزاء من مملكة الصليبيين في بيت المقدس، ولِفَناءٍ وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلاثمائة مركب، فأحرَقوا ما ثَقُل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، فغادروا دمياط, وتفرَّغَ صلاح الدين لتوطيد أقدامِه بمصر.
حصار نور الدين محمود لكرك .
العام الهجري : 565 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1170
تفاصيل الحدث:
أرسل صلاح الدين إلى نور الدين يطلُبُ أن يرسِلَ إليه والِدَه نجم الدين أيوب، فجَهَّزه نور الدين وسَيَّرَه، وسيَّرَ معه عسكرًا، واجتمع معه من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أُنس وصحبة، فخاف نور الدين عليهم من الفرنجِ، فسار في عساكره إلى الكرك، فحصَرَه وضيَّقَ عليه ونصب عليه المجانيق، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج قد جمعوا له، وساروا إليه، وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقَدَّمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتَحِقَ بهما باقي الفرنج، فلما قاربَهما رجعا واجتمعا بباقي الفرنج, وسلك نور الدين وسطَ بلادهم يسلُبُ ويَحرِق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظِرُ حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يَبرَحوا من مكانهم، فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل, وأما نجمُ الدين أيوب فإنَّه وصل إلى مصر سالِمًا هو ومن معه وخرج العاضِدُ الحاكم الفاطمي فالتقاه؛ إكرامًا له.
وفاة قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي .
العام الهجري : 565 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1170
تفاصيل الحدث:
هو قطبُ الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر، المعروفُ بالأعرج صاحِبُ الموصل، وقد كان من أحسن الملوك سيرةً، وأعفِّهم عن أموال رعيَّته، مُحسِنًا إليهم، كثيرَ الإنعام عليهم، محبوبًا إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفًا على شريفهم ووضيعهم، كريمَ الأخلاق، حسَنَ الصحبة معهم, سريعَ الانفعال للخير، بطيئًا عن الشَّرِّ، جمَّ المناقب، قليلَ المعايب. تولى قطب الدين السلطنةَ بالموصل بعد موت أخيه سيف الدين غازي بن زنكي, وكان قطبُ الدين حسنَ السيرة، عادلًا في حكمه. وفي دولته عَظُمَ شأن جمال الدين محمد الوزير الأصبهاني المعروف بالجواد، وكان مدبِّرَ دولته, وصاحب رأيه الأمير زين الدين علي كجك، وكان نِعمَ المدبر والمشير لصلاحِه وخيرِه وحُسنِ مقاصده, ولم يزَلْ قطب الدين على سلطنته ونفاذ كلمتِه بالموصل وما حولها إلى أن توفي في شوال، وقيل في الثاني والعشرين من ذي الحجة. كان مرضُه حمى حادة، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه عماد الدين زنكي، ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي, وكان له ثلاثةُ أولاد: سيف الدين غازي الذي تولى السلطنة بعده، وعز الدين مسعود تولى السلطنة بعد أخيه سيف الدين، وعماد الدين زنكي صاحب سنجار.
ملك نور الدين محمود زنكي الرقة ونصيبين والخابور وسنجار .
العام الهجري : 566 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1170
تفاصيل الحدث:
لَمَّا بلغ نور الدين محمودًا وفاةُ أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل، ومُلك ولده سيف الدين غازي الموصِلَ والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمرِ معه، وتحكُّمه عليه؛ أنِفَ لذلك وكَبِرَ لديه وعَظُمَ عليه، وكان يُبغِضُ فخر الدين؛ لما يبلغه عنه من خشونةِ سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي ومُلكِهم، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبر الفرات، عند قلعة جعبر، مُستهَلَّ المحَرَّم، وقصد الرقةَ فحصَرَها وأخذها، ثم سار إلى الخابور فمَلَكَه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمَعُ العساكر، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحِبُ حصن كيفا، وكثُرَ جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيقَ وملَكَها، وسَلَّمَها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتُبُ الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعةَ، ويَحُثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، وكان سيفُ الدين غازي وفخر الدين قد سيَّرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد، يستنجده على عمه نور الدين محمود، فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرُّضِ للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسُّلطان، فلا تقصِدْها، فلم يلتفت إليه، فأقام نور الدين على الموصِل، فعزم مَن بها من الأمراء على مجاهرةِ فخر الدين عبد المسيح بالعِصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم ذلك، فأرسل فخر الدين إلى نور الدين بتسليمِ البلَدِ إليه على أن يُقِرَّه بيد سيف الدين، ويطلُب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرطَ أنَّ فخر الدين يأخذُه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعًا يُرضيه، فتسَلَّم البلد ثالث عشر جمادى الأولى، ودخل القلعةَ من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف ألَّا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولَمَّا ملكها أطلقَ ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالمِ، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميعُ بلاده من الشام ومصر، واستناب في قلعة الموصل خصيًّا له اسمه كمشتكين، ولقَّبَه سعد الدين، وأمر سيف الدين ألَّا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحَكَّمَه في البلاد وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين بن أخيه قطب الدين، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًا، واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّرَ اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
وفاة الخليفة العباسي المستنجد بالله وخلافة ابنه المستضيء بأمر الله .
العام الهجري : 566 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
هو الخليفةُ، المستنجد بالله، أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي. أمُّه كرجية اسمُها طاووس. عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة. فلما احتُضِر المقتفي، رام طائفة عزل المستنجد، وبعثت حَظِيَّة المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم؛ ليبايعوا ابنَها علي بن المقتفي. قالوا: كيف هذا مع وجود ولي العهدِ يوسف؟ فقالت أنا أكفيكموه، فدبرت مؤامرة للتخلص من يوسف الذي اكتشف الأمر فاعتقلها وابنها علي، وثَبَت الأمرُ له، وتلقب بالمستنجد بالله. كان يقولُ الشعر، ونقش على خاتمه: من أحَبَّ نفسه عَمِلَ لها. كانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا وستة أيام، وصُلِّي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودُفن بدار الخلافة، ثمَّ نُقِل إلى التربة من الرصافة، وكان سببُ موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبَرُ أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيبَ على أن يصِفَ له ما يؤذيه، فوصف له دخولَ الحمام، فامتنع لضَعفِه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات، وقيل إنَّ الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمُرُه بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصَلْبِهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخطَّ إلى الوزير، ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، ثم بعد وفاة المستنجد، أحضرَ هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه شروطًا: أن يكون عضدُ الدين وزيرًا، وابنُه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يتول الخلافة من اسمُه الحسنُ إلَّا الحسن بن علي بن أبي طالب، والمستضيء بأمر الله، فبايعه أهلُ بيته البيعةَ الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناسُ في الغد في التاج بيعةً عامة، ويُذكَرُ أن الخليفة المستنجد بالله كان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية، عادلًا فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيرًا من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العيثِ والفسادِ والسعاية بالناس.
غزو صلاح الدين الأيوبي بلاد الفرنج وفتح إيلة .
العام الهجري : 566 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين عن مصر إلى بلاد الفرنج، فأغار على أعمال عسقلان والرملة، وهجمَ على ربض غزة فنهَبه، وأتاه ملك الفرنج في قِلَّةٍ مِن العسكر مسرعين لرَدِّه عن البلاد، فقاتلهم وهزمهم، وأفلت ملكُ الفرنج بعد أن أشرف أن يؤخَذَ أسيرًا. عاد صلاحُ الدين إلى مصر، وعَمِلَ مراكب مفصلة، وحملها قطعًا على الجبال في البر، وقصَدَ إيلة، فجمع قطع المراكب وألقاها في البحر، وحصر إيلة برًّا وبحرًا، وفتحها في العشر الأُوَل من ربيع الآخر، واستباح أهلَها وما فيها، وعاد إلى مصر.
صلاح الدين الأيوبي يبدأ بإصلاح مصر وإزالة التشيع منها .
العام الهجري : 566 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
كان بمصر دار للشحنة تُسمَّى دار المعونة يُحبَسُ فيها من يريد حبسه، فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وأزال ما كان بها من الظُّلم، وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضًا، وبنى مدرسة أخرى للمالكية، وعزل القضاة المصريين، وكانوا شيعةً، وأقام قاضيًا شافعيًا في مصر، وولَّى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قُضاة شافعية، ومن حينئذ اشتهر مذهبُ الشافعي ومذهب مالك بديار مصر، وتظاهر الناس بهما، واختفى مذهب الشيعة من الإمامية الإسماعيلية. وبطل من حينئذ مجلسُ الدعوة بالجامع الأزهر وغيره، واشترى تقيُّ الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازِلَ العز بمصر، وبناها مدرسة للشافعية، كما أبطل صلاحُ الدين الأذان بحيَّ على خير العمل، محمد وعلي خير البشر، فكانت أوَّل وصمة دخلت على الدولة الفاطميَّة، ثم أمر أن يُذكَرَ في الخطبة يوم الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي، ثم أمر أن يذكر العاضِدُ في الخطبة بكلام يحتمل التلبيسَ على الشيعة، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلِحِ العاضد لدينِك، لا غيرُ، ثم أمر صلاح الدين بتغيير شعار الفاطميين، وأبطل ذِكرَ العاضد من الخطبة، وكان الخطيبُ يدعو للإمام أبي محمد، فتخالُه العامة والروافض العاضِدَ، وهو يريد أبا محمد الحسن المستضئ بأمر الله الخليفة العباسي! ثم أعلن بالعزم على إقامة الخطبة العباسيَّة.
غضب نور الدين زنكي من صلاح الدين الأيوبي والصلح بينهما .
العام الهجري : 567 العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
كان سببُه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر إلى بلاد الفرنج غازيًا، ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيَّقَ على مَن به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمانَ واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك، فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدًا بلاد الفرنج؛ ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، مَلَكَها، ومتى زال الفرنجُ عن الطريق وأخذ مُلكَهم لم يبقَ بديار مصر مقامٌ مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماعِ به، وحينئذ يكون هو المتحَكِّم فيك بما شاء، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، فقد لا تقدِرُ على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر، فرحل عن الشوبك عائدًا إلى مصر، ولم يأخُذْه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العَلَويين، وأنهم عازمون على الوثوبِ بها، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغيَّرَ عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها، وظهر ذلك فسَمِعَ صلاح الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه، واستشارهم فلم يجِبْه أحد بكلمة واحدة، فقام تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين، فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتَمَ تقيَّ الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك، وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثَرُ محبة لك من جميع ما ترى، وواللهِ لو رأيت أنا وخالك هذا نورَ الدين، لم يمكِنَّا إلا أن نقَبِّلَ الأرض بين يديه، ولو أمَرَنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعَلْنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنُّك بغيرنا؟ وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحْدَه لم يتجاسَروا على الثبات على سروجِهم، وهذه البلاد له، ونحنُ مماليكه ونوَّابُه بها، فإن أراد عزلَك سَمِعْنا وأطعنا؛ والرأيُ أن تكتب كتابًا تقول فيه: بلغني بأنك تريد الحركةَ لأجل البلاد، فأيُّ حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي مِنديلًا ويأخُذُني إليك، وما هاهنا من يمنَعُ عليك! وأقام الأمراء وغيرهم وتفَرَّقوا على هذا، ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قَصْدَه واشتغل بغيره، فكان الأمرُ كما ظنه أيوب، فتوفِّيَ نور الدين ولم يقصدْه، وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أحسَنِ الآراء وأجوَدِها.
قطع صلاح الدين الأيوبي الخُطبة للفاطميين والدُّعاء للعباسيين .
العام الهجري : 567 العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
قام صلاح الدين الأيوبي بقَطعِ الخُطبة للحاكم الفاطمي بمصر، والدُّعاء للخليفة العباسي "المستضيء" على منابر مصر، معلنًا بذلك نهاية الدولة الفاطمية، ومُعَبِّرًا عن طاعته وولائه للخليفة العباسي.
صلاح الدين الأيوبي يؤسس دولة الأيوبيين ويقضي على العبيديين .
العام الهجري : 567 العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
لما مات العاضد غَسَّله ابنه داود وصلى عليه، وجلس على الشدَّة، واستدعى صلاح الدين ليبايعَه، فامتنع، وبعث إليه: أنا نائبٌ عن أبيك في الحُكم ولم يوصِ بأنَّك وليُّ عهده، وقبَضَ عليه وعلى بقيَّةِ أولاد العاضد وأقاربه، ونقله هو وجميع أقاربه وأهله إلى دار المظفر من حارة برجوان، ووكل عليهم وعلى جميع ذخائر القصر، وفَرَّق بين الرجال والنساء حتى لا يحصُلَ منهم نسل. وأُغلِقَت القصور وتُمُلِّكَت الأملاك التي كانت لهم، وضُرِبَت الألواح على رِباعِهم، وفُرِّقَت على خواص صلاح الدين كثيرٌ منها وبِيعَ بَعضُها. وأعطى القصر الكبير لأمرائه فسكنوا فيه. وأسكن أباه نجم الدين أيوب في اللؤلؤة على الخليج، وصار كل من استحسن من الغز الأتراك (التركمان) دارًا أخرج صاحِبَها منها وسكَنَها، ونُقلوا إلى قلعة الجبل، وهم ثلاثة وستون نفرًا، فمات منهم إلى ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة ثلاثة وعشرون. وتولى وضع القيود في أرجلهم الأمير فخر الدين الطبنا أبو شعرة بن الدويك والي القاهرة.
وفاة العاضد بالله آخر حكام العبيديين الفاطميين بمصر .
العام الهجري : 567 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1171
تفاصيل الحدث:
هو صاحِبُ مصرَ العاضد لدين الله خاتم الدولة العُبيدية: أبو محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، العبيدي الحاكمي المصري الإسماعيلي المُدَّعي هو وأجدادُه أنهم فاطميون. ولد سنة 546. وليَ الحُكمَ بعد وفاة ابن عمه الفائز، وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما عباس بعد الظافر، واستقر الأمر للعاضد اسمًا، والصالحُ بن رزيك الرافضي كان المتحكِّمَ في الحكم. كان العاضِدُ مليح النظم، قويَّ الرفض، يناظر على الإمامة والقَدَر, وكان سبَّابًا خبيثًا متخلِّفًا شديدَ التشيُّع، متغاليًا في سبِّ الصحابة- رضوانُ الله عليهم أجمعين- وإذا رأى سنيًّا استحل دمه، وسار وزيره الصالح بن رزيك في أيامه سيرةً مذمومة؛ فإنه احتكر الغَلَّات، فارتفع سعرها، وقتل أمراء الدولة خَشيةً منهم، وأضعف أحوالَ الدولة المصرية، فقتَلَ مُقاتِلَتَها، وأفنى ذوي الآراء والحزم منها، وكان كثيرَ التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال، وصادرَ أقوامًا ليس بينه وبينهم تعلُّق، وفي أيام العاضد ورد أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر من المغرب ومعه عساكر وحشود، فلما قارب بلاد مصر غدرَ به أصحابه وقبضوه وحملوه إلى العاضِدِ، فقتله صبرًا، ووزَرَ للعاضد بعد رزيك بن الصالح, الملك أبو شجاع شاوِر السعدي وهو سُنِّي، ثم استوزر له أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي، فلم تطُل أيامه، ومات بالخانوق بعد شهرين وأيام, وقام بعده صلاح الدين الأيوبي الذي شرعَ يَطلُبُ مِن العاضد أشياءَ مِن الخيل والرَّقيقِ والمال ليزيد بذلك مِن ضَعفِه, ثم قبض عليه صلاحُ الدين فحبَسَه في قصره مُضَيِّقًا عليه، لا يعلم كثيرًا مما يجري في دولته، وكان صلاح الدين قد استفتى الفقهاء في قَتلِ العاضد، فأفتوه بجواز ذلك؛ لِما كان عليه العاضِدُ وأشياعه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد، وكثرة الوقوع في الصحابة والاستهتار بذلك. فقطعَ الخطبة للعاضد، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بالله في أول جمعة من المحرم، وتسلَّمَ صلاح الدين القصرَ بما حوى من النفائس والأموال، وقبض أيضًا على أولاد العاضد وآله، فسجنَهم في بيت من القصر، وقمع غلمانهم وأنصارهم، وعفى آثارَهم. هلك العاضد يوم عاشوراء غَمًّا لَمَّا سمع بقطع خطبته وإقامة الدعوة للمستضيء. وقيل: سُقِيَ سمًّا. قال ابن خلكان: "من عجيب الاتفاق أنَّ العاضد في اللغة القاطِع، يقال: عضدتُ الشيءَ فأنا عاضدٌ له، إذا قطعته، فكأنه عاضدٌ لدولتِهم، وكذا كان؛ لأنَّه قطَعَها". قال الذهبي: "تلاشى أمرُ العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه، وخطبَ لبني العباس، واستأصل شأفةَ بني عُبَيد، ومحقَ دولةَ الرفض, وكانوا أربعة عشر متخَلِّفًا لا خليفة، والعاضِدُ في اللغة أيضًا القاطع، فكان هذا عاضدًا لدولة أهلِ بيته". وبهلاك العاضد انتهت دولة الفاطميين، وكانت جميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة 299 إلى أن هلك العاضد 272 سنة وشهر تقريبًا.
وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه تكش .
العام الهجري : 568 العام الميلادي : 1172
تفاصيل الحدث:
هو السلطانُ علاءُ الدين خوارزم شاه تكش بن الملك أرسلان شاه بن أطسز، وقيل: هو من ولد طاهر بن الحسين, كان ملكًا مشهورًا، عنده آدابٌ وفضائلُ، ومعرفةٌ بمذهبِ أبي حنيفة، وبنى مدرسةً بخوارزم للحنفيَّةِ، وكان شُجاعًا جوادًا، ملَكَ الدنيا من السِّندِ والهندِ وما وراء النهرِ إلى خراسانَ إلى بغدادَ؛ فإنَّه كان نوَّابُه في حلوان. وكان في ديوانه مائةُ ألف مقاتل، وهو الذي كسر مملوكُه عسكرَ الخليفةِ وأزال دولةَ بني سلجوق، وكان حاذقًا بعلمِ الموسيقى، لم يكن أحدٌ ألعبَ منه بالعودِ. قيل: إنَّ الباطنيَّةَ جهزوا عليه من يقتُلُه، وكان يحترسُ كثيرًا، فجلس ليلةً يلعبُ بالعود، فاتفق أنه غنى بيتًا بالعجمي معناه: قد أبصرتك، وفهمه الباطني، فخاف وارتعد فهرب، فأخذوه وحمل إليه، فقرره فاعترف فقتله. وكان يباشر الحروب بنفسِه، وذهبت عينه في القتال. وكان قد عزم على قصد بغداد، وحشد فوصل إلى دهستان فتوفي بها في رمضان، وحمل إلى خوارزم، ودفن عند أهلِه، وقام بعده ولده خوارزم شاه محمد، ولُقِّب علاء الدين بلقبه, وقيل: حصل له خوانيق فأشير عليه بترك الحركة، فامتنع وسار، فاشتدَّ مرضُه ومات.
وصول الترك إلى إفريقية وملكهم طرابلس وغيرها .
العام الهجري : 568 العام الميلادي : 1172
تفاصيل الحدث:
سارت طائفةٌ مِن الترك من ديارِ مِصرَ مع قراقوش مملوكِ تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى جبال نفوسة، واجتمع بمسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط، وهو من أعيان العرب هناك، وكان خارجًا عن طاعة عبدِ المؤمن وأولاده، فاتفقا، وكثُرَ جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضَيَّقا على أهلها، ثم فُتِحَت فاستولى قراقوش، وأسكن أهلَه قصرها، وملك كثيرًا من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وصفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع، وصار مع قراقوش عسكرٌ كثير، فحكَمَ على تلك البلاد بمساعدة العربِ بما جُبِلَت عليه من التخريبِ والنهب، والإفساد بقطع الأشجار والثمار، وغير ذلك، فجمع بها أموالًا عظيمةً وجعلها بمدينة قابس، وقَوِيَت نفسه وحَدَّثَته بالاستيلاء على جميع إفريقية؛ لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحِبِها عنها.
غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس .
العام الهجري : 568 العام الميلادي : 1172
تفاصيل الحدث:
جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكِرَه، وسار من إشبيلية إلى الغزو، فقصد بلاد الفرنج، ونزل على مدينة رندة، وهي بالقرب من طليطلة شرقًا منها، وحصرها، واجتمعت الفرنجُ على بن الأذفونش ملك طليطلة في جمع كثير، فلم يَقدِروا على لقاء المسلمين، فاتَّفَق أن الغلاء اشتدَّ على المسلمين، وعَدِمت الأقوات عندهم، وهم في جمع كثير، فاضطُروا إلى مفارقة بلاد الفرنج، فعادوا إلى إشبيلية، وأقام أبو يعقوب بها سنة 571، وهو في ذلك يجهز العساكِرَ ويُسَيِّرُها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت، فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يُوصَف، وصار الفارس من العرب يَبرُز بين الصفين ويطلُب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرُز إليه أحد، ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.
غاره الفرنج على بلد حوران وغارة المسلمين على بلد الفرنج .
العام الهجري : 568 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1172
تفاصيل الحدث:
اجتمع الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه، وبلغ الخبر إلى نور الدين محمود، وكان قد برز ونزل هو وعسكره بالكسوة، فسار إليهم مجدًّا، وقَدِمَ بجموعه عليهم، فلما عَلِموا بقُربه منهم دخلوا إلى السواد، وهو من أعمال دمشق أيضًا، ولحِقَهم المسلمون وتخَطَّفوا مَن في ساقتهم ونالوا منهم، وسار نور الدين فنزل في عشترا، وسيَّرَ منها سرية إلى أعمال طبرية، فشنُّوا الغارات عليها، فنَهَبوا وسَبَوا، وأحرقوا وخربوا، فسمع الفرنج ذلك، فرحلوا إليهم ليمنعوه عن بلادهم، فلما وصلوا كان المسلمون قد فَرَغوا من نهبِهم وغنيمتِهم، وعادوا وعبَروا النهر، وأدركهم الفرنجُ، فوقف مقابِلَهم شجعان المسلمين وحُماتهم يقاتلونهم، فاشتد القتال وصبر الفريقان، الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردُّوها، والمسلمون يريدون أن يمنعونهم عنها لينجو بها من قد سار معها، فلما طال القتالُ بينهم وأبعدت الغنيمة وسلِمَت مع المسلمين، عاد الفرنج ولم يقدروا أن يستردُّوا منها شيئًا.
رحيل صلاح الدين الأيوبي عن مصر إلى الكرك وعوده عنها .
العام الهجري : 568 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1173
تفاصيل الحدث:
رحَلَ صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكِرِه جميعِها إلى بلاد الفرنج يريدُ حَصرَ الكرك، والاجتماع مع نور الدين محمود والاتِّفاق على قصد بلاد الفرنج من جِهَتينِ، كل واحد منهما في جهة بعسكرِه، وسبب ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا أنكر على صلاح الدين عَودَه من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قَصْدَ مصر وأخْذَها منه، أرسل يعتذر، ويَعِدُ من نفسه بالحركةِ على ما يقَرِّرُه نور الدين، فاستقَرَّت القاعدة بينهما أنَّ صلاح الدين يخرجُ مِن مصر ونور الدين يسيرُ من دمشق، فأيُّهما سبق صاحبَه يقيمُ إلى أن يصِلَ الآخَرُ إليه، وتواعدا على يومٍ معلومٍ يكون فيه وصولُهما، فسار صلاح الدين عن مصر؛ لأن طريقه أصعَبُ وأبعَدُ وأشَقُّ، ووصل إلى الكرك وحصره، وأمَّا نور الدين فإنه لَمَّا وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مِصرَ فَرَّقَ الأموال، وحصَّل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصَلَ إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاحُ الدين بقُربِه خافه هو وجميعُ أهله، واتَّفَق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين؛ لأنهم علموا أنَّه إن اجتمعا كان عزلُه على نور الدين سهلًا. فلما عاد أرسل الفقيهُ عيسى إلى نور الدين يعتَذِرُ عن رحيله، بأنه كان قد استخلف أباه نجمَ الدين أيوب على ديار مصرَ، وأنَّه مريض شديد المرض، ويخاف أن يَحدُثَ عليه حادث الموت، فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التُّحَف والهدايا ما يجِلُّ عن الوصف؛ فجاء الرسولُ إلى نور الدين وأعلَمَه ذلك، فعظم عليه وعَلِمَ المراد من العَود، إلَّا أنه لم يُظهِر للرسول تأثرًا، بل قال له: حِفظُ مِصرَ أهَمُّ عندنا مِن غيرنا، وسار صلاح الدين إلى مصرَ فوجد أباه قد قضى نحْبَه.
موقف صلاح الدين من نزاع آل زنكي بعد وفاة نور الدين محمود .
العام الهجري : 569 العام الميلادي : 1173
تفاصيل الحدث:
لَمَّا سار سيفُ الدين غازي، صاحِبُ الموصل، ومَلَك البلادَ الجزريَّةَ، أرسل صلاح الدين أيضًا إلى المَلِك الصالح يعتبُه حيث لم يُعلِمْه قصد سيف الدين بلادَه وأخْذَها، ليحضُرَ في خدمته ويكُفَّ سيف الدين، وكتب إلى كمالِ الدين والأمراء يقول: "لو أنَّ نور الدين يعلَمُ أنَّ فيكم من يقومُ مقامي، أو يثِقُ به مِثلَ ثِقتِه بي، لسلم إليه مصر التي هي أعظَمُ ممالكه وولاياته، ولو لم يُعجِّلْ عليه الموت لم يعهَدْ إلى أحد بتربيةِ ولَدِه والقيام بخدمته غيري، وأراكم قد تفَرَّدتُم بمولاي وابنِ مولاي دوني، وسوف أصِلُ إلى خدمته، وأجازي إنعامَ والدِه بخدمةٍ يظهَرُ أثَرُها، وأجازي كلًّا منكم على سوءِ صنيعه في ترك الذَّبِّ عن بلادِه".
=========
108.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة .
العام الهجري : 569 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
كانت الفتنةُ ببغدادَ بين أمير العسكَرِ قطب الدين قايماز المظفري والخليفةِ المستضيء بأمرِ الله، وسَبَبُها أنَّ الخليفة أمرَ بإعادة عَضدِ الدين ابن رئيس الرؤساءِ إلى الوزارة، فمنع منه قُطب الدين، وأغلق بابَ النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصَرة، فأجاب الخليفةُ إلى تَركِ وَزارته، فقال قطب الدين: "لا أقنَعُ إلا بإخراج عضد الدينِ مِن بغداد؛ فأمر بالخروجِ منها" فالتجأ عضدُ الدين إلى صدر الدين شيخِ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطِه وأجاره، ونقله إلى دارِ الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثمَّ عاد إلى بيته في جُمادى الآخرة.
النفوذ الأيوبي يصل إلى اليمن ونهاية دولة بني مهدي وبني زريع .
العام الهجري : 569 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
لما عاد صلاحُ الدين إلى مصرَ بلَغَه أنَّ باليمن إنسانًا يسمَّى عبدَ النبي بن مهدي صاحِبَ زبيد يزعُمُ أنه ينتشر ملكُه حتى يملِكَ الأرضَ كُلَّها، وكان قد ملك كثيرًا من بلادِ اليمَنِ, واستولى على حصونِها وخطب لنَفسِه، وقطع الخطبةَ للخليفةِ العباسي, وكان السُّلطانُ قد ثبتت قواعِدُه وقَوِيَ عسكرُه، فاستأذن السلطان نور الدين محمود في أن يسيرَ إلى اليمن لقصدِ عبد النبي، فأذِنَ له في ذلك، فجهَّز أخاه شمس الدولة توران شاه بجيش اختاره، وتوجَّه إليها من الديار المصرية في مستهَلِّ رجب، فوصل إلى مكَّةَ، ومنها إلى زبيد، وفيها صاحِبُها المتغَلِّبُ عليها المعروفُ بعبد النبي، فلما قرُبَ منها رآه أهلُها، فاستقَلُّوا من معه، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه، فلم يثبُت أهلُ زبيد وانهزموا، ووصل المصريونَ إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنَعُهم، فنصبوا السلالم، وصَعَدوا السور، فملكوا البلدَ عَنوةً ونَهَبوه وأكثروا النَّهبَ، وأخذوا عبد النبيِّ أسيرًا وزوجتَه المدعوة بالحُرَّة، وسَلَّمَ شمسُ الدولة عبد النبي إلى أحد أمرائه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ، أصحاب شيزر، وأمره أن يستخرجَ منه الأموالَ، وبذلك انتهت الدولة المهديَّة باليمن، ولَمَّا ملكوا زبيدَ واستقَرَّ الأمر لهم بها ودان أهلُها، وأقيمت فيها الخُطبةُ العباسيَّة، أصلحوا حالها، وساروا إلى عدن، وصاحِبُها ياسرُ بنُ بلال، فسار إليهم وقاتَلَهم، فانهزم ياسِرٌ ومن معه، وسبقهم بعضُ عسكر شمس الدولة، فدخلوا البلدَ قبل أهله، فملكوه، وأخذوا صاحِبَه ياسرًا أسيرًا، وأرادوا نهبَ البلد، فمنعهم شمسُ الدولة، وقال: ما جئنا لنخربَ البلاد، وإنما جئنا لنَملِكَها ونُعَمِّرَها وننتفع بدخلها؛ فلم ينهب منها أحدٌ شيئًا، فبقيت على حالها وثبَت مُلكُه واستقَرَّ أمرُه، وبذلك انتهت دولة بني زريع في اليمن، وآل الزريع هم أهل عدن، وهم شيعةٌ إسماعيليَّةٌ من همذان بن جشم، ولَمَّا فرغ شمس الدولة مِن أمْرِ عدن عاد إلى زبيد، وملك أيضًا قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون، واستناب بعدن عزَّ الدين عثمان بن الزنجيلي، وبزبيد سيفَ الدولة مبارك بن منقذ، وجعَلَ في كل قلعةٍ نائبًا من أصحابه، وألقى مُلكُهم باليمن جِرانَه ودام، وأحسَنَ شمسُ الدولة إلى أهالي البلاد، واستصفى طاعتَهم بالعدل والإحسان، وعادت زبيد إلى أحسنِ أحوالها من العمارة والأمن.
إحباط ثورة الشيعة الفاطميين على صلاح الدين الأيوبي بمصر .
العام الهجري : 569 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
أراد جماعةٌ مِن شيعة العُبَيديين ومحبِّيهم إقامةَ الدعوة، ورَدَّها إلى العاضد، فكان منهم عمارةُ بنُ أبي الحسن اليمني، وعبدُ الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، والقاضي هبة الله بن كامل، وداعي الدُّعاة ابن عبد القوي، وغيرُهم من جند المصريِّين ورجالتهم السُّودان، وحاشيةُ القصر، ووافَقَهم جماعةٌ من أمراءِ صلاح الدين، وعَيَّنوا الخليفةَ والوزير، وتقاسَموا الدُّورَ، واتَّفَق رأيُهم على استدعاء الفرنجِ مِن صقليَّةَ، ومِن ساحِلِ الشامِ إلى ديارِ مِصرَ على شيءٍ بذلوه لهم من المالِ والبلاد، فإذا قصدوا البلادَ، فإن خرج صلاحُ الدين إليهم بنَفسِه ثاروا هم بالقاهرةِ ومِصرَ وأعادوا الدولةَ الفاطميَّةَ، وعاد مَن معه من العسكر الذين وافَقوهم عنه، فلا يبقى له مقامٌ مقابِلَ الفرنج، وإن كان صلاحُ الدين يقيمُ ويُرسِلُ العساكِرَ إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذًا باليَدِ؛ لعدم وجود الناصرِ له والمُساعد، وأرسلوا إلى الفرنجِ بصقليَّةَ والساحِلِ في ذلك، وتقرَّرَت القاعدة بينهم، ولم يبقَ إلَّا رحيلُ الفرنج، وكان مِن لُطفِ الله بالمُسلِمينَ أنَّ الجماعةَ المصريين أدخلوا معهم في هذا الأمرِ الأميرَ زينَ الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجيَّة، ورتبوا الخليفةَ والوزيرَ والحاجِبَ والداعيَ والقاضيَ، إلَّا أن بني رزيك قالوا: "يكونُ الوزيرُ منا؛ وبني شاور قالوا: يكون الوزيرُ منا؛ فلمَّا علم ابن نجا الحالَ حضر عند صلاح الدين، وأعلَمَه حقيقةَ الأمر، فأمر بملازمتِهم ومخالَطتِهم ومُواطأتِهم على ما يريدونَ أن يفعلوه، وتعريفه ما يتجَدَّدُ أولًا بأول، ففعل ذلك وصار يُطالِعُه بكُلِّ ما عَزَموا عليه"، ثمَّ وصلَ رَسولٌ مِن ملك الفِرنجِ بالساحل الشاميِّ إلى صلاح الدين بهديَّةٍ ورسالةٍ، وهو في الظاهِرِ إليه، والباطِنِ إلى أولئك الجماعةِ، وكان يُرسِلُ إليهم بعضَ النصارى وتأتيه رسُلُهم، فأتى الخبَرُ إلى صلاح الدين من بلاد الفرنجِ بجليةِ الحال، فوضع صلاحُ الدينِ على الرسولِ بعضَ من يثقُ به من النصارى، وداخَلَه، فأخبره الرسولُ بالخبر على حقيقتِه، فقبض حينئذٍ على المُقَدَّمينَ في هذه الحادثة منهم: عمارة، وعبد الصمد، والعويرس، وغيرهم، وصَلَبَهم في ثاني رمضانَ.
وفاة نور الدين زنكي صاحب الشام وتولي ابنه الصالح إسماعيل .
العام الهجري : 569 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ العادِلُ، ناصِر أمير المؤمنين، تقيُّ الملوك، ليثُ الإسلام، أبو القاسِم نور الدين محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر التركي، السلطاني، الملكشاهي. ولِيَ جدُّه آقسنقر نيابةَ حَلَب للسلطان ملكشاه بن ألب آرسلان السلجوقي. وُلِدَ نور الدين يوم الأحد سابع عشر شوال سنة 511؛ وكان أسمَرَ اللَّونِ طويلَ القامةِ حَسَنَ الصورة، ليس بوجهِه شَعرٌ سوى ذقنه. كان ملكًا عادلًا، زاهدًا عابدًا وَرِعًا، متمسكًا بالشريعةِ، مائلًا إلى أهل الخير، مجاهدًا في سبيل الله. لما حاصر أبوه قلعةَ جعبر كان نور الدين في خدمته، فلما قُتِلَ أبوه سار نور الدين بعساكرِ الشام إلى مدينة حلب فمَلَكَها. وملك أخوه سيفُ الدين غازي مدينةَ الموصل. قال الذهبي فيه: " كان نور الدين حامِلَ رايتي العدل والجهاد، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه، حاصر دمشق، ثمَّ تمَلَّكَها، وبَقِيَ بها عشرين سنة. افتتح أولًا حُصونًا كثيرة، منها فامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحِبَ أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلافٍ من الفرنج، وأظهر السُّنَّةَ بحلب، وقمع الرافِضةَ. وبنى المدارسَ بحلب وحمص ودمشق وبعلبك، والجوامع والمساجد، وسُلِّمَت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحَصَّنها، ووسَّعَ أسواقها، وأنشأ المارستان ودارَ الحديث، والمدارس، ومساجد عدة، وأبطل المكوسَ مِن دار بطيخ، وسوق الغنم، والكيالة، وضمان النهر والخمر، ثم أخذ من العدوِّ بانياس والمنيطرة، وكسر الفرنجَ مَرَّات، ودَوَّخهم وأذَلَّهم. وكان بطلًا شجاعًا وافِرَ الهيبة، حسَنَ الرَّمي، مليح الشكل، ذا تعبُّد وخوف ووَرَع، وكان يتعرَّضُ للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشُره من بطون السباع وحواصل الطير. وبنى دار العدل، وأنصف الرعيَّةَ، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميلِ سور المدينة النبويَّة، واستخراج العين بأُحُدٍ دفَنَها السَّيلُ، وفتح درب الحجاز، وعَمَرَ الخوانق والربُطَ والجسور والخانات بدمشق وغيرها، وكذا فعَلَ إذ ملك حران وسنجار والرَّها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر, ووقف كتبًا كثيرة, وكسر الفرنجَ والأرمن على حارم وكانوا ثلاثين ألفًا، فقل من نجا، وعلى بانياس." جهَّز نور الدين جيشًا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهَرَ دولتها الرافضيَّة، وهربت منه الفرنجُ، وقتل شاورَ الذي غدر به وبشيركوه، وصَفَت الديار المصرية لشيركوه نائبِ نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العُبَيديين، واستأصلهم، وأقام الدَّعوة العباسية. وكان نور الدين مليحَ الخط، كثيرَ المطالعة، يصلي في جماعةٍ، ويصوم ويتلو ويُسَبِّح، ويتحَرَّى في القوت، ويتجنب الكِبرَ، ويتشبَّه بالعلماء والأخيار. قال أبو الفرج بن الجوزي: "وليَ نور الدين الشامَ سنين، وجاهد الثغور وانتزع من أيدي الكفار نيفًا وخمسين مدينةً وحِصنًا، منها: الرها، وبنى مارستان في الشام أنفق عليه مالًا، وبنى بالموصل جامعًا غرم عليه ستين ألف دينار، وكانت سيرته أصلح من كثير من الولاة، والطرق في أيامه آمنة، والمحامد له كثيرة، وكان يتديَّنُ بطاعة الخلافة، وتَرَك المكوسَ قبل موته، وبعث جنودًا افتتحوا مصر، وكان يميل إلى التواضع ومحبة العلماء وأهل الدين, وأحلفَ الأمراء على طاعة ولده الصالح إسماعيل بعده, وعاهَدَ ملك الإفرنج صاحِبَ طرابلس وقد كان في قبضته أسيرًا على أن يطلقه بثلاثمائة ألف دينار وخمسين ومائة حصان وخمسمائة زردية، ومثلها تراس إفرنجية ومثلها قنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين، وأنه لا يعبر على بلاد الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك مائةً من أولاد كبراء الإفرنج وبطارقتهم, فإن نكث أراقَ دماءَهم، وعزم على فتح بيت المقدس، فوافته المنية في شوال هذه السنة" وقال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبدٌ من الجهاد، وكان يأكلُ مِن عَمَل يده، ينسخ تارةً، ويعمَلُ أغلافًا تارة، ويلبَسُ الصوف، ويلازم السجادة والمصحَف، وكان حنفيًّا، يراعي مذهبَ الشافعي ومالك, وكان ابنُه الصالح إسماعيل أحسَنَ أهل زمانه." قال ابنُ خَلِّكان: "افتتح من بلاد الفرنجة عدَّة حصون، منها مرعش وبهسنا، وحارم، وأعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدتُه على خمسين حصنًا. ثم سيَّرَ الأمير أسد الدين شيركوه إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة نيابة عنه، وضرب باسمِه السكَّة والخطبة بمصر، وكان زاهدًا عابدًا متمسِّكًا بالشرع، مجاهِدًا كثير البر والأوقاف، له من المناقب ما يستغرق الوصفَ". توفي يوم الأربعاء حادي عشر من شوال، بعِلَّة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبًا فما رُوجِعَ, ودُفِنَ بقلعة دمشق, فقد كان يلازم الجلوسَ والمبيت فيها، ثم نُقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين، وكانت ولايته ثمانية وعشرين سنة وأشهرًا, وكان لموته وقعٌ عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه؛ لأنه كان محسنًا محمود السيرة، ولَمَّا توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالمُلك بعده، وكان عمرُه إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقَدَّمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاحُ الدين بمصر، وخُطِبَ له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيتَه الأميرُ شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبِّرَ دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولِمَن معه من الأمراء: "قد علمتُم أن صلاح الدين صاحِبَ مصر هو من مماليك نورِ الدين ونوَّابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاورَه في الذي نفعله، ولا نُخرِجُه من بيننا فيَخرُج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حُجَّة علينا، وهو أقوى منا؛ لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر، فلم يوافِقْ هذا القولَ أغراضَهم، وخافوا أن يدخُلَ صلاح الدين ويُخرِجَهم، فلم يمضِ غيرُ قليل حتى وردت كتُبُ صلاح الدين إلى المَلِك الصالح يُعَزِّيه ويهنئه بالمُلك، وأرسل دنانيرَ مِصريَّةً عليها اسمه ويُعَرِّفُه أنَّ الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه".
حصر الفرنج بانياس وعودهم عنها .
العام الهجري : 569 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
لما مات نورُ الدين محمود زنكي، صاحِبُ الشام، اجتمعت الفرنجُ وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها، فجمع شمسُ الدين محمد بن المقدم الوصيُّ على الملك الصالح بن نور الدين محمود العسكرَ عنده بدمشق، فخرج عنها، فراسَلَهم، ولاطَفَهم، ثم أغلظ لهم بالقول، وقال لهم: إن أنتم صالحتُمونا وعدتُم عن بانياس، فنحن على ما كنَّا عليه، وإلا فنُرسِلُ إلى سيف الدين، صاحِبِ الموصل، ونصالِحُه، ونستنجده، ونرسِلُ إلى صلاح الدين بمصر فنستنجِدُه، ونقصِدُ بلادكم من جهاتها كُلِّها، فعَلِموا صِدقَه، فصالحوه على شيءٍ مِن المال أخذوه وأسرى أُطلِقوا كانوا عند المسلمينَ وتقَرَّرت الهُدنة، فلما سَمِعَ صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه، وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يُقَبِّحُ لهم ما فعلوه ويبذُلُ مِن نفسه قصْدَ بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجُهم عن قصدِ شَيءٍ مِن بلاد الملك الصالح.
نزاع آل زنكي وأمرائهم على ملك بلدان الشام بعد وفاة نور الدين .
العام الهجري : 569 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
كان نور الدين قبل أن يمرَضَ قد أرسل إلى البلاد الشرقيَّة- الموصل وديار الجزيرة وغيرها- يستدعي العساكِرَ منها للغَزاة، والمراد غيرها، وقد تقدَّمَ ذِكرُه، فسار سيفُ الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، في عساكره، وعلى مُقَدِّمتِه الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نورُ الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين، فلما كانوا ببعضِ الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين، فأمَّا سعد الدين فإنَّه كان في المقَدِّمة، فهرب جريدة. وأما سيفُ الدين فأخذ كلَّ ما كان له من برك وغيره، وعاد إلى نصيبين فملَكَها، وأرسل الشحنَ إلى الخابور فاستولوا عليه، وأقطَعَه، وسار هو إلى حرَّان فحصرها عدَّةَ أيام، وبها مملوكٌ لنور الدين يقال له قايماز الحراني، فامتنع بها، وأطاع بعد ذلك على أن تكون حرَّان له، ونزل إلى خدمة سيف الدين، فقبض عليه وأخذ حران منه، وسار إلى الرَّها فحصرها ومَلَكَها، وكان بها خادِمٌ خَصِيٌّ أسود لنور الدين فسَلَّمَها وطلب عِوَضَها قلعة الزعفران من أعمالِ جزيرة ابن عمر، فأُعطِيَها، ثم أُخِذَت منه، ثم صار يستعطي ما يقوتُه، وسيَّرَ سيف الدين إلى الرقة فمَلَكها، وكذلك سروج، واستكمل ملك جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر، فإنَّها كانت منيعة، وسوى رأس عين، فإنَّها كانت لقطب الدين، صاحب ماردين، وهو ابنُ خال سيف الدين، فلم يتعَرَّض إليها. وكان شمس الدين علي بن الداية، وهو أكبَرُ الأمراء النورية، بحَلَب مع عساكرها، فلم يقدِرْ على العبور إلى سيف الدين ليمنَعَه من أخذ البلاد، لفالج كان به، فأرسل إلى دمشقَ يطلب المَلِكَ الصالح، فلم يُرسَل إليه، ولَمَّا ملك سيف الدين الديار الجزرية قال له فخر الدين عبد المسيح، وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موتِ نور الدين، وهو الذي أقَرَّ له الملك بعد أبيه قطب الدين، فظَنَّ أن سيف الدين يرعى له ذلك، فلم يجنِ ثمرة ما غرس، وكان عنده كبعضِ الأمراء، قال له: الرأيُ أن تعبر إلى الشام فليس به مانعٌ، فقال له أكبَرُ أمرائه، وهو أميرٌ يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار: قد ملكتَ أكثَرَ ما كان لأبيك، والمصلحةُ أن تعود، فرجع إلى قولِه، وعاد إلى الموصل.
وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية وانهزامه عنها .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
ظَفِرَ أهلُ الإسكندرية وعسكَرُ مصرَ بأسطولِ الفِرنجِ مِن صقليَّةَ، وكان سبَبُ ذلك إرسالَ أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحلِ الشَّامِ، وإلى صاحبِ صقليَّةَ، ليَقصِدوا ديارَ مِصرَ ليثُوروا على صلاحِ الدين ويُخرجوه من مصر، فجَهَّزَ صاحبُ صقلية أسطولًا كبيرًا، وسَيَّرَه إلى الإسكندرية من ديار مصر، فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 569، على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها وطمأنينةٍ، فخرج أهل الإسكندرية بعُدَّتِهم وسلاحِهم ليمنَعوهم من النزول، وأبعدوا عن البلدِ، فمنعهم الوالي من ذلك، وأمرهم بملازمة السور، ونزل الفرنجُ إلى البَرِّ مما يلي البحر والمنارة، وتقدموا إلى المدينة ونَصَبوا عليها الدبَّابات والمجانيق، وقاتلوا أشد قتال، وصبر لهم أهلُ البلد، وسُيِّرَت الكتُبُ بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفعِ العَدُوِّ عنهم، ووصل من العساكِرِ المسلمين كلُّ من كان له في أقطاعه، وهو قريبٌ من الإسكندرية، فقَوِيَت بهم نفوسُ أهل الإسكندرية، وأحسنوا القتالَ والصبر، فلما كان اليومُ الثالث فتح المسلمون باب البلَدِ وخرجوا منه على الفرنجِ مِن كل جانب، وهم غارُّون، واشتد القتالُ، فوصل المسلِمونَ إلى الدبابات فأحرقوها، وصَبَروا للقتال، فأنزل الله نَصْرَه عليهم، وفَشِلَ الفرنجُ وفتَرَ حربُهم، وكثُرَ القتل والجراح في رجالاتهم، وأما صلاح الدين فإنَّه لما وصله الخبر سار بعساكِرِه، وسيَّرَ مملوكًا له ومعه ثلاث جنائب ليجِدَّ السير عليها إلى الإسكندرية يبشِّرُ بوصوله، وسيَّرَ طائفة من العسكر إلى دمياط خوفًا عليها، واحتياطًا لها، فسار ذلك المملوك، فوصل الإسكندريةَ مِن يَومِه وقت العصر، والناسُ قد رجعوا من القتال، فنادى في البلدِ بمجيءِ صلاحِ الدين والعساكِر مُسرعين، فلمَّا سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال، وقد زال ما بهم من تعَب وألمِ الجراح، وسمع الفرنجُ بقرب صلاح الدين في عساكره، فسُقِطَ في أيديهم، وازدادوا تعبًا وفتورًا، فهاجمهم المسلمونَ عند اختلاط الظلام، ووصلوا إلى خيامِهم فغَنِموها بما فيها من الأسلحةِ الكثيرة والتحمُّلات العظيمة، وكثُرَ القتل في رجالة الفرنجِ، فهرب كثيرٌ منهم إلى البحر، فغَلَبَهم أهلُ البلد وقهروهم، فصاروا بين قتيل وأسير، وكفى الله المسلمينَ شَرَّهم، وحاق بالكافرين مَكرُهم.
محاولة فاشلة لإعادة الدولة العبيدية الفاطمية في مصر .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
جمع كَنزُ الدولة والي أسوان العَرَبَ والسودانَ، وقَصَد القاهرةَ يريدُ إعادةَ الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالًا جزيلة، وانضم إليه جماعةٌ ممَّن يهوى هواهم، فقَتَلَ عدَّةً من أمراء صلاح الدين، وخرج في قريةِ طود رجلٌ يُعرَفُ بعباس بن شادي، وأخذ بلادَ قوص، وانتهب أموالَها، فجهز السلطانُ صلاح الدين أخاه المَلِكَ العادل في جيشٍ كثيف، ومعه الخطيرُ مهذب بن مماتي، فسار وأوقع بشادي وبدَّدَ جموعَه وقتَلَه، ثم سار فلقيه كنزُ الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروبٌ فَرَّ منها كنزُ الدولة، بعدما قُتِلَ أكثَرُ عَسكَرِه، ثم قُتل كنزُ الدولة في سابع صفر، وقَدِمَ العادلُ إلى القاهرة في ثامن عشر من صفر.
صلاح الدين الأيوبي يستولي على دمشق .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
ملكَ صلاحُ الدِّينِ يوسف بن أيوب مدينةَ دمشق، وسبَبُ ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا مات ومَلَك ابنُه المَلِكُ الصالح إسماعيلُ بعده كان بدمشق، ولَمَّا استولى سيفُ الدين غازي بن قطب الدين مودود صاحِب الموصل وعَمِّ الملك الصالح إسماعيل على البلاد الجزرية، خاف شمس الدين علي بن الداية-وهو أكبر الأمراء النورية- أن يُغيرَ إلى حلب فيَملِكَها، فأرسل الخادمَ سعد الدين كمشتكين إلى دمشق لِيُحضِرَ الملك الصالح ومعه العساكِر إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبَضَ سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته، وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومُقَدَّم الأحداث فيها، واستبَدَّ سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المُقَدَّم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليَعبُرَ الفرات إليهم؛ لِيُسَلِّموا إليه دمشق، فامتنع عن قصد دمشق، وراسل الخادم سعد الدين الملك الصالح وصالَحَهما على ما أخَذَه من البلاد، فلما امتنع سيفُ الدين غازي عن العبور إلى دمشق عَظُمَ خَوفُ ابن المقدم ومن معه من الأمراء، وقالوا: حيث صالحَ الخادم سعد الدين سيف الدين والملك الصالح لم يبقَ لهم مانعٌ عن المسير إلينا، فكاتبوا حينئذ صلاحَ الدين يوسف بن أيوب، صاحِبَ مصر، واستدعوه ليُملكوه عليهم، فلما وصلت الرسُلُ إلى صلاح الدين بذلك لم يلبَثْ، وسار جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في سبعمائة فارس، والفرنج في طريقه، فلم يبالِ بهم، ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كلُّ من بها من العسكر إليه، فلَقُوه وخدموه، ودخل البلد، ونزل في دار والده المعروفةِ بدار العقيقي، وكانت القلعةُ بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمالَ الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكِمُ في جميع أموره من الديوانِ والوقف وغير ذلك، وأرسَلَه إلى ريحان ليسَلِّمَ القلعة إليه، وقال: "أنا مملوكُ الملك الصالح، وما جئتُ إلَّا لأنصُرَه وأخدمه، وأعيدَ البلاد التي أُخِذَت منه إليه"، وكان يَخطُبُ له في بلاده كلها، فصَعِدَ كمال الدين إلى ريحان، ولم يزَلْ معه حتى سَلَّمَ القلعة، فصَعِدَ صلاح الدين إليها، وأخَذَ ما فيها من الأموال، وأخرجها واتَّسَع بها وثَبَّت قَدَمَه، وقَوِيَت نفسه، وهو مع هذا يُظهرُ الطاعة للملك الصالح، والخُطبة والسكة باسمه، والصالحُ يخاطِبُه بالمملوكِ.
ملك صلاح الدين الأيوبي حمص .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1174
تفاصيل الحدث:
لَمَّا استقَرَّ مُلك صلاح الدين لدمشق، وقرَّر أمْرَها، استخلَفَ بها أخاه سيفَ الإسلام طغتكين بن أيوب، وسار إلى مدينة حمص مستهَلَّ جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بعين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاعِ الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، فلمَّا مات نور الدين لم يُمكِن فخر الدين المقامُ بها لسوء سيرتِه في أهلها، ولم يكُنْ له في قلاعِ هذه البلاد حُكمٌ، إنما فيها ولاة لنور الدين. وكان بقلعةِ حمص والٍ يحفَظُها، فلما نزل صلاح الدين على حمص، حاديَ عَشَرَ مِن هذا الشهر، راسل مَن فيها بالتسليم، فامتنعوا، فقاتلهم من الغَدِ، فملك البلدَ وأمَّنَ أهلَه، وامتنعت عليه القلعةُ، وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب، وترك بمدينة حمص من يحفَظُها، ويمنَعُ مَن بالقلعة من التصَرُّفِ وأن تصعَدَ إليهم ميرةٌ.
ملك صلاح الدين الأيوبي حماة .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1175
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين إلى مدينةِ حماة، وهو في جميعِ أحوالِه لا يُظهِرُ إلَّا طاعةَ الملكِ الصالحِ بنِ نور الدين محمود، فلما وصَلَ إلى حماة، مَلَك المدينةَ مُستهَلَّ جمادى الآخرة، وكان بقلعتِها الأميرُ عزُّ الدين جورديك، وهو من المماليك النوريَّة، فامتنع من التسليمِ إلى صلاحِ الدين، فأرسل إليه صلاحُ الدينِ ما يُعَرِّفه ما هو عليه من طاعةِ المَلِك الصالح، وإنما يريدُ حِفظَ بلادِه عليه، فاستحلَفَه جورديك على ذلك فحَلَفَ له وسَيَّرَه إلى حلب في اجتماعِ الكلمة على طاعةِ الملك الصالح، وفي إطلاقِ شمسِ الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن، فسار جورديك إلى حلب، واستخلف بقلعةِ حماة أخاه ليحفَظَها، فلما وصل جورديك إلى حَلَبَ قبض عليه كمشتكين وسجَنَه، فلما عَلِمَ أخوه بذلك سَلَّمَ القلعةَ إلى صلاح الدين فمَلَكَها.
محاولة صلاح الدين الأيوبي في السيطرة على حلب .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1175
تفاصيل الحدث:
لَمَّا مَلَك صلاحُ الدين حماة سارَ إلى حَلَب فحَصَرها ثالثَ جُمادى الآخرة، فقاتَلَه أهلُها، ورَكِبَ الملك الصالحُ، وهو صبيٌّ عُمُرُه اثنتا عشرة سنة، وجمع أهلَ حَلَب واتفقوا على القتالِ دُونَه، والمنع عن بلده، وجَدُّوا في القتال، وأرسل سعدُ الدين كمشتكين إلى سنان مقدَّم الإسماعيليَّة، وبذَلَ له أموالًا كثيرةً؛ ليقتلوا صلاح الدين، فأرسلوا جماعةً منهم إلى عسكَرِه، فحمل أحدُهم على صلاح الدين ليقتُلَه، فقُتِلَ دونه، وقاتل الباقونَ مِن الإسماعيليَّة، فقَتلوا جماعةً مِن أصحاب صلاح الدين, ثم قُتلوا جميعًا، وبقي صلاحُ الدين مُحاصِرًا لحلب إلى آخر جمادى الآخرة، ورحل عنها مستهَلَّ رَجَب وسببُ ذلك هو مسيرُ الفرنج إلى حمص وتجهُّزهم لِقَصدِها، فسمع صلاح الدين الخبَرَ فرحل عن حلب.
ملك صلاح الدين الأيوبي قلعة حمص وبعلبك .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1175
تفاصيل الحدث:
أثناءَ حِصار صلاحِ الدين الأيوبي لحَلَب بلَغَه مسيرُ الفرنجِ إلى حمص وتجهُّزُهم لِقَصدِها، فرحل عن حَلَب إلى حماة، فوصله ثامِنَ رَجَب، بعد نزول الفرنجِ على حمص بيومٍ، ثم رحل إلى الرستن، فلمَّا سَمِعَ الفرنجُ بقُربِه رَحَلوا عن حمص، ووصل صلاحُ الدين إليها، فحصر القلعةَ إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان، فصار أكثَرُ الشام بيده، ولَمَّا ملك حمص سار منها إلى بعلبك، وبها خادِمٌ اسمه يمن، وهو والٍ عليها من أيام نورِ الدين محمود، فحصرها صلاحُ الدين، فأرسل يمن يطلبُ الأمان له ولمن عنده، فأمَّنَهم صلاحُ الدين، وسُلِّمَ القلعة رابع شهر رمضان.
ملك صلاح الدين الأيوبي قلعة بعرين من الشام .
العام الهجري : 570 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1175
تفاصيل الحدث:
في العَشرِ الأُوَل من شوال مَلَك صلاحُ الدين قلعةَ بعرين من الشَّامِ، وكان صاحِبُها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو مِن أكابر الأمراءِ النوريَّة، فلما رأى قوَّةَ صلاح الدين نزل منها، واتَّصل بصلاح الدين، ظنَّ أنَّه يُكرِمُه ويُشارِكُه في ملكه، ولا ينفَرِدُ عنه بأمرٍ مِثل ما كان مع نور الدين، فلم يَرَ مِن ذلك شيئًا، ففارَقَه، ولم يكن بَقِيَ من أقطاعه الذي كان له في الأيامِ النورية غيرُ بعرين ونائبُه بها، فلما صالحَ صلاحُ الدين المَلِكَ الصالِحَ بحلب، عاد إلى حماة وسار منها إلى بعرين، وهي قريبةٌ منها، فحصرها ونصَبَ عليها المجانيق، وأدام قتالها، فسَلَّمَها واليها بالأمان، فلما مَلَكَها عاد إلى حماة، فأقطَعَها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصِرَ الدين محمد بن عمِّه شيركوه، وسار منها إلى دمشقَ فدخلها أواخِرَ شَوَّال.
وفاة ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. غَلَب عليه الحديثُ فاشتَهَر به وبالَغَ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتَّفِق لغَيرِه، حتى صار أحدَ أكابر حُفَّاظ الحديث ومن عُنِيَ به سَماعًا وجمعًا وتصنيفًا، واطِّلاعًا وحفظًا لأسانيده ومتونِه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه، صاحِبُ الكتاب المشهور (تاريخ دمشق) الذي حاز فيه قَصَب السَّبْق، ومن نظَرَ فيه وتأمَّله، رأى ما وصَفَه فيه وأصَّلَه، وحَكَم بأنَّه فريدُ دَهرِه في التواريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكُتُب المفيدة، وما هو مشتَمِلٌ عليه من العبادة والطرائق الحميدة, وله مصنفاتٌ كثيرة منها الكبار والصغار، والأجزاءُ والأسفار، وقد أكثَرَ في طلب الحديث من التَّرحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ مِن الحُفَّاظ نسخًا واستنساخًا، ومقابلة وتصحيحَ الألفاظ. قال الذهبي: "نقلتُ ترجمته من خَطِّ ولده المحدِّث أبي محمد القاسم بن علي، فقال: وُلِدَ أبي في المحرم سنة 499، وعَدَدُ شيوخِه الذي في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخًا أنشدوه، وعن مائتين وتسعين شيخًا بالإجازة، الكل في معجمه، وبضع وثمانون امرأة لهن مُعجَم صغير سَمِعْناه. وحدَّث ببغداد، والحجاز، وأصبهان، ونيسابور, وصنف الكثير, وكان فَهِمًا، حافِظًا، متقِنًا ذكيًّا، بصيرًا بهذا الشأن، لا يُلحَقُ شَأنُه، ولا يُشَقُّ غُباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه. وكان له إجازاتٌ عالية، ورُوي عنه أشياءُ من تصانيفه بالإجازة في حياته، واشتهر اسمُه في الأرض، وتفقَّه في حداثته على جمال الإسلام أبي الحسن السلمي وغيره، وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل عيسى بن علي القرشي في النحو، ولازم الدرسَ والتفقُّه بالنظامية ببغداد، وصنف وجمع فأحسن, فمن ذلك تاريخ دمشق في ثمانمائة جزء. قلت (الذهبي): "الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة", وجمع (الموافقات) في اثنين وسبعين جزءًا، و(عوالي مالك)، والذيل عليه خمسين جزءًا، و(غرائب مالك) عشرة أجزاء، و(المعجم) في اثني عشر جزءًا, و(مناقب الشبان) خمسة عشر جزءًا، و(فضائل أصحاب الحديث) أحد عشر جزءًا، (فضل الجمعة) مجلد، و(تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) مجلد، و (المسلسلات) مجلد، و (السباعيات) سبعة أجزاء، (من وافقت كنيته كنيةَ زوجته) أربعة أجزاء، و (في إنشاء دار السنة) ثلاثة أجزاء، (في يوم المزيد) ثلاثة أجزاء، (الزهادة في الشهادة) مجلد، (طرق قبض العلم)، (حديث الأطيط)، (حديث الهبوط وصحته)، (عوالي الأوزاعي وحاله) جزءان, (الخماسيات) جزء، (السداسيات) جزء، (أسماء الأماكن التي سمع فيها)، (الخضاب)، (إعزاز الهجرة عند إعواز النصرة)، (المقالة الفاضحة)، (فضل كتابة القرآن)، (من لا يكون مؤتمنًا لا يكون مؤذِّنًا)، (فضل الكرم على أهل الحرم)، (في حفر الخندق)، (قول عثمان: ما تغنيت)، (أسماء صحابة المسند)، (أحاديث رأس مال شعبة)، (أخبار سعيد بن عبد العزيز)، (مسلسل العيد)، (الأبنة)، (فضائل العشرة) جزءان، (من نزل المزة)، (في الربوة والنيرب)، (في كفر سوسية)، (رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)، (برزة)، (منين)، (يعقوبا)، (أحاديث بعلبك)، (فضل عسقلان)، (القدس)، (المدينة)، (مكة)، كتاب (الجهاد)، (مسند أبي حنيفة ومكحول)، (العزل)، (الأربعون الطوال)، (الأربعون البلدية) جزء، (الأربعون في الجهاد)، (الأربعون الأبدال)، (فضل عاشوراء) ثلاثة أجزاء، (طرق قبض العلم) جزء، كتاب (الزلازل)، (المصاب بالولد) جزءان، (شيوخ النبل)، (عوالي شعبة) اثنا عشر جزءًا، (عوالي سفيان) أربعة أجزاء، (معجم القرى والأمصار) جزء، وغير ذلك, وسرد له عدة تواليف. قال: وأملى أبي أربعمائة مجلس وثمانية. قال: وكان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، كان يجري ذكره عند ابن شيخه، وهو الخطيب أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي، فيقول: ما نعلم من يستحِقُّ هذا اللقب اليوم يعني: (الحافظ) ويكون حقيقًا به سواه. وقال القاسم: لما دخلت همذان أثنى عليه الحافظ أبو العلاء، وقال لي: أنا أعلم أنه لا يساجِلَ الحافظ ابن عساكر في شأنه أحد، فلو خالط الناسَ ومازجهم كما أصنع، إذًا لاجتمع عليه الموافِقُ والمخالف, وقال لي أبو العلاء يومًا: أي شيء فتح له، وكيف ترى الناس له؟ قلت (الذهبي): "هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع، حتى في نُزَهِه وخلواته" ثم قال أبو العلاء: ما كان يسمَّى ابن عساكر ببغداد إلَّا شعلةَ نار؛ من توقُّدِه وذكائه وحُسنِ إدراكه. قال أبو المواهب: لم أرَ مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلَّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضَت عليه، وقِلَّة التفاته إلى الأمراء، وأخْذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخُذُه في الله لومة لائم. قال لي: لَمَّا عزمت على التحديث، واللهُ المطَّلِعُ أنَّه ما حملني على ذلك حُبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كُلَّ ما قد سمعته، وأيُّ فائدة في كوني أخَلِّفُه بعدي صحائف؟ فاستخرتُ الله، واستأذنت أعيانَ شيوخي ورؤساء البلد، وطُفت عليهم، فكُلٌّ قال: ومن أحقُّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين" كانت وفاة ابن عساكر في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي جنازتَه ودُفِنَ بمقابر باب الصغير، وكان الذي صلى عليه الشيخُ قطب الدين النيسابوري.
انتصار صلاح الدين الأيوبي على سيف الدين غازي بن نور الدين .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
تجهَّز الحلبيُّون لقتال صلاح الدين، فاستدعى صلاحُ الدين عساكر مصر، فلما وافته بدمشقَ في شعبان سار في أوَّل رمضان، فلَقِيَهم في عاشر شوال، وكانت بينهما وقعةٌ تأخَّرَ فيها السلطان سيف الدين غازي بن نور الدين محمود صاحِبُ الموصل، فظَنَّ الناس أنَّها هزيمة، فولَّت عساكرهم، وتَبِعَهم صلاح الدين، فهلك منهم جماعةٌ كثيرة، وملك خيمةَ غازي، وأسر عالَمًا عظيمًا، واحتوى على أموالٍ وذخائر وفُرُش وأطعمة وتُحَف تجلُّ عن الوصفِ، وقَدِمَ عليه أخوه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن، فأعطاه سرادقَ السلطان غازي بما فيه من الفُرُش والآلات، وفَرَّق الإسطبلات والخزائِنَ على مَن معه، وخلع على الأسرى وأطلَقَهم، ولحِقَ سيف الدين غازي بمن معه، فالتجؤوا جميعًا لحلب، ثم سار إلى الموصل وهو لا يُصَدِّقُ أنه ينجو، وظنَّ أن صلاح الدين يَعبُرُ الفرات ويقصِدُه بالموصل، ورحل صلاحُ الدين ونزل على حلب في رابع عشر شوال، فأقام عليها إلى تاسِعَ عَشَرِه، ورحل إلى بزاعة، وقاتَلَ أهل الحصنِ حتى تسَلَّمه، وسار إلى منبج، فنزل عليها يوم الخميس رابع عشرٍ منه.
ملك صلاح الدين الأيوبي مدينة منبج .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين إلى بزاعة فحصرها، وقاتَلَه مَن بالقلعة، ثم تسلَّمَها وجعل بها من يحفَظُها، وسار إلى مدينة منبج فحصَرها آخِرَ شوال، وبها صاحِبُ قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديدَ العداوة لصلاح الدين والتَّحريضِ عليه، والإطماع فيه، والطَّعن فيه، فحَنِقَ عليه صلاح الدين وهَدَّده، ثم مَلَك منبج، ولم تمتنِعْ عليه إلا قلعَتُها وبها صاحِبُها اسمه ينال، قد جمع إليها الرجال والذخائر والسلاح، فحصره صلاحُ الدين وضَيَّق عليه وزَحَف إلى القلعة، فوصل النقَّابون إلى السور فنَقَبوها ومَلَكوها عَنوةً، وغَنِمَ العسكر الصلاحي كلَّ ما بها، وأخذ صاحِبَها ينال أسيرًا، فأخذ صلاحُ الدين كُلَّ ماله، ثم أطلقه صلاح الدين فسار إلى الموصل، فأقطعه سيفُ الدين غازي مدينةَ الرقَّةِ.
وقوع فتنة ببغداد بين العامة وبعض الأتراك .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
وقَعَت يومَ عيد الأضحى فتنةٌ ببغداد، بين العامَّةِ وبعضِ الأتراك؛ بسَبَبِ أخْذِ جِمالِ النحر، فقُتِلَ بينهم جماعةٌ، ونُهِبَ شَيءٌ كثير من الأموال، ففَرَّق الخليفةُ أموالًا جليلةً فيمن نُهِب مالُه.
صلاح الدين الأيوبي يسيطر على قلعة إعزاز ونجاته من محاولة اغتيال .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
ولَمَّا فَرَغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالثَ ذي القعدة، وهي من أحصَنِ القلاع وأمنَعِها، فنازلها وحَصَرها، وأحاط بها وضَيَّقَ على من فيها ونَصَب عليها المجانيقَ، حتى فتحها وقُتِل عليها كثيرٌ من العسكر. فبينما صلاح الدين يومًا في خيمةٍ لأحد أمرائه يقال له جاولي، وهو مُقَدَّم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطنيٌّ إسماعيليٌّ فضَرَبه بسكينٍ في رأسِه فجَرَحه، فلولا فضلُ الله ثمَّ إنَّ المِغفَر الزند كانت تحت القلنسوةِ لقَتَله، فبقي الباطنيُّ يَضرِبُه في رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند فكانت الضَّرَباتُ تقع في زيق الكزاغند فتُقَطِّعُه، والزرد يمنَعُها من الوصول إلى رقبته، فجاء أمير من أمرائه اسمه يازكش، فأمسك السكينَ بكَفِّه فجرحه الباطنيُّ، ولم يُطلِقْها من يده إلى أن قُتِلَ الباطني، وجاء آخَرُ من الإسماعيليَّة فقُتِلَ أيضًا، وثالِثٌ فقُتِلَ، ثم لازم حصار إعزاز ثمانيةً وثلاثين يومًا، كل يوم أشد قتالًا مما قبله، وكَثُرَت النقوب فيها فأذعَنَ مَن بها، وسَلَّموا القلعة عليه، فتسَلَّمَها حاديَ عشر ذي الحجة.
حصر صلاح الدين الأيوبي مدينة حلب .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
لَمَّا ملك صلاح الدين إعزازَ رحل إلى حلب فنازلها منتصَفَ ذي الحجة وحَصَرَها، وبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود ومَن معه من العساكِرِ، وقد قام العامَّةُ في حفظِ البَلَدِ القيامَ المَرضِيَّ، بحيث إنَّهم منعوا صلاح الدين من القُربِ مِن البلد، لأنَّه كان إذا تقدم للقتال خَسِرَ هو وأصحابُه، كَثُرَ الجراح فيهم والقَتلُ، كانوا يخرجُون ويقاتلونه خارج البلد، فترك القتالَ وأخلدَ للمطاولة، وانقَضَت سنة إحدى وسبعين، ودخلت سنة اثنتين وسبعين، وهو محاصِرٌ لها، ثم ترددت الرسُلُ بينهم في الصُّلحِ في العشرين من المحرم، فوقَعَت الإجابةُ إليه من الجانبين؛ لأن أهل حلب خافوا من طول الحصارِ؛ فإنَّهم ربمَّا ضَعُفوا، وصلاحُ الدين رأى أنه لا يقدِرُ على الدنوِّ مِن البلد، ولا على قتالِ مَن به، فأجاب أيضًا، وتقرَّرَت القاعدة في الصلحِ للجميع، للمَلِك الصالحِ، ولسيف الدين صاحِبِ الموصل، ولصاحِبِ الحصن، ولصاحِبِ ماردين، وتحالفوا واستقَرَّت القاعدة أن يكونوا كُلُّهم عونًا على الناكِثِ الغادر، فلمَّا انفصل الأمرُ وتمَّ الصلحُ، رحل صلاح الدين عن حلب، بعد أن أعاد قلعةَ إعزاز إلى الملك الصالح، وكان في شروط الصلح أن يُطلِقَ صَلاحُ الدين عزَّ الدين جورديك، وشمسَ الدين علي بن الداية، وأخويه سابق الدين، وبدر الدين. فسار أولادُ الداية إلى الملك الناصر، فأكرمهم، وأنعمَ عليهم. وأما جورديك، فأقام في خدمةِ الملك الصالح، وعَلِمَ الجماعةُ براءتَه ممَّا ظنوا به.
============
109.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
الفتنة بمكة وعزل أميرها وإقامة غيره .
العام الهجري : 571 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
كان بمكَّةَ حَربٌ شديدةٌ بين أمير الحاجِّ طاشتكين وبين الأمير مُكثِر أمير مكة، وكان الخليفةُ قد أمر أميرَ الحاج بعَزلِ مُكثر وإقامة أخيه داود مقامَه، وسبَبُ ذلك أنه كان قد بنى قلعةً على جبل أبي قُبَيس، فلما سار الحاجُّ من عرفة لم يبيِّتوا بالمُزدَلفة، وإنما اجتازوا بها، فلم يَرمُوا الجمار، إنَّما بَعضُهم رمى بعضَها وهو سائِرٌ، ونزلوا الأبطُحَ فخرج إليهم ناسٌ مِن أهل مكة فحاربوهم، وقُتِلَ من الفريقين جماعة، وصاح الناسُ: الغزاةُ إلى مكَّة، فهجموا عليها، فهرب أميرُ مكة مكثر، فصَعِدَ القلعة التي بناها على جبلِ أبي قبيس فحَصَروه بها، ففارقها وسار عن مكَّة، وولي أخوه داود الإمارةَ، ونَهَب كثيرٌ من الحاجِّ مَكَّةَ وأخذوا من أموالِ التجَّارِ المقيمين بها الشَّيءَ الكثير، وأحرقوا دورًا كثيرةً.
صلاح الدين الأيوبي يبني سورا ضخما لحماية القاهرة .
العام الهجري : 572 العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
أمَرَ السُّلطانُ الناصِرُ صلاح الدين الأيوبي ببناء السُّورِ على القاهرةِ والقَلعةِ، طولُه تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وذراعان بالذراع الهاشمي، فتولى ذلك الأميرُ بهاء الدين قراقوش الأسدي، وشرعَ في بناء القلعة، وحَفَرَ حول السور خندقًا عميقًا، وحفر واديَه وضَيَّقَ طريقه، وكان في مكانِ القلعة عِدَّةُ مساجد، منها مسجد سعد الدولة، فدخلت في جملةِ القلعة، وحَفَر فيها بئرًا ينزل إليها بدَرَجٍ منحوتة في الحَجَرِ إلى الماء.
بناء مدرسة صلاح الدين الأيوبي للشافعية .
العام الهجري : 572 العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
أمرَ النَّاصِرُ ببناء مدرسةِ صلاح الدين للشافعيَّة عند قبرِ الشافعيِّ، وجعل الشيخَ نجم الدين الخبوشاني مُدَرِّسَها وناظِرَها.
ظفر المسلمين بالفرنج والفرنج بالمسلمين .
العام الهجري : 572 العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
كان شَمسُ الدين محمَّدُ بنُ عبد الملك بن المقَدَّم صاحب بعلبك، قد أتاه خبَرُ أنَّ جمعًا من الفرنجِ قد قَصَدوا البِقاعَ من أعمال بعلبك، وأغاروا عليها، فسار إليهم، وكَمَن لهم في الشعاري والغياض، وأوقع بهم، وقَتَل فيهم وأكثَرَ، وأسَرَ نحو مائتي رجل منهم وسَيَّرَهم إلى صلاح الدين، وكان شمسُ الدولة توران شاه، أخو صلاح الدين، وهو الذي مَلَك اليمن، قد وصل إلى دمشق، وهو فيها، فسَمِعَ أن طائفة من الفرنج قد خرجوا من بلادِهم إلى أعمال دمشق، فسار إليهم ولَقِيَهم عند عين الجر في تلك المروج، فلم يثبُتْ لهم، وانهزم عنهم، فظَفِروا بجمعٍ مِن أصحابه، فأسَروهم، منهم سيفُ الدين أبو بكر بن السلار، وهو من أعيان الجُندِ الدمشقيين، واجترأ الفرنجُ بعده، وانبسَطوا في تلك الولاية، وجَبَروا الكسرَ الذي نالهم من ابن المقدم.
مسير صلاح الدين الأيوبي إلى بلد الإسماعيلية وحصارهم .
العام الهجري : 572 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
لَمَّا رحَلَ صَلاحُ الدين من حلب، قصدَ بلادَ الإسماعيليَّة في مصياف؛ ليقاتِلَهم بما فعلوه من الوثوبِ عليه وإرادة قتلِه، وحصر قلعةَ مصياف، وهي أعظمُ حصونِهم، وأحصَنُ قلاعِهم، فنصَبَ عليها المجانيقَ، وضيَّقَ على مَن بها، فنَهَب بلَدَهم وخَرَّبه وأحرَقَه، فقَتَل وسبى وحرَّق، وأخذ أبقارَهم، ولم يزَلْ كذلك، فأرسل سنان مُقَدَّم الإسماعيلية إلى شهابِ الدين الحارمي، صاحِبِ حماة، وهو ابنُ خال صلاح الدين، يسألُه أن يِدخُلَ بينهم ويُصلِحَ الحال ويَشفَعَ فيهم، ويقول له: إن لم تفعَلْ قتلناك وجميعَ أهلِ صلاح الدين وأمراءَه، فحضر شهابُ الدين عند صلاح الدين وشَفَع فيهم وسأل الصفحَ عنهم، فأجابه إلى ذلك، وصالَحَهم، ورحل عنهم، وكان عسكَرُه قد مَلُّوا من طول الحَربِ، وقد امتلأت أيديهم من غنائِمِ عسكَرِ الموصل، ونَهْب بلدِ الإسماعيليَّة، فطلبوا العودَ إلى بلادهم للراحة، فأَذِنَ لهم، وسار هو إلى مصر مع عسكَرِها، لأنَّه قد طال بُعدُه عنها، ولم يمكِنْه المضيُّ إليها فيما تقدَّمَ؛ خوفًا على بلاد الشام؛ فلما انهزم سيفُ الدين، وحَصَر هو حلب، ومَلَك بلادها، واصطلحوا، أمِن على البلاد، فسار إلى مصر.
وفاة القاضي كمال الدين محمد الشهرزوري الموصلي .
العام الهجري : 572 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1176
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ، قاضي القضاة أبو الفضل كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، الفقيه الموصلي الشافعي، بقيَّةُ الأعلام. وُلِدَ سنة 491, وكان والدُه أحد علماء زمانه يُلقَّب: بالمرتضى. لَمَّا قُتِلَ عماد الدين زنكي عند قلعةِ جعبر كان كمال الدين حاضرًا في العسكر هو وأخوه تاج الدين أبو طاهر يحيى، فلما رجع العسكَرُ إلى الموصل كانا في صُحبتِه, ولَمَّا تولى سيفُ الدين غازي بن عماد الدين زنكي فوَّضَ الأمورَ كُلَّها إلى القاضي كمال الدين وأخيه بالموصِل وجميع مملكته، ثمَّ إنه قبض عليهما في سنة 542 واعتقَلَهما بقلعة الموصل، ثمَّ إن الخليفة المقتفي شَفَعَ فيه وفي أخيه فأُخرِجا من الاعتقال، وقَعَدا في بيوتهما وعليهما الترسيمُ، ولما مات سيف الدين غازي رُفِعَ الترسيم عنهما، ثم انتقل كمال الدين إلى خدمة نور الدين محمود صاحب الشام في سنة 550 الذي احتفى به وأكرم وِفادتَه، فأقام بدمشق، ثم فوَّضَه نور الدين محمود في صفر سنة 555، نظَرَ الجامِعِ ودارَ الضرب وعمارة الأسوار والنَّظَر في المصالح العامة. واستناب ولَدَه وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقَّى القاضي كمال الدين إلى درجة الوزارة، وحَكَم في بلاد الشام في ذك الوقت، واستناب ولَدَه القاضي محيي الدين في الحُكم بمدينة حلب، ولم يكنْ شَيءٌ من أمور الدولة يخرجُ عنه، حتى الولاية وشد الديوان، ولَمَّا مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشقَ أقَرَّه على ما كان عليه. وكان فقيهًا أديبًا شاعرًا كاتبًا ظريفًا فَكِهَ المجالسة، يتكَلَّمُ في الخلاف والأصول كلامًا حسنًا، وكان شهمًا جَسورًا كثير الصدقة والمعروف، وقَّفَ أوقافًا كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيمَ الرياسة خبيرًا بتدبير المُلك، لم يكُنْ في بيته مثلُه ولا نال أحدٌ منهم ما ناله من المناصِبِ مع كثرة رؤساءِ بَيتِه، توفي القاضي كمال الدين في السادس من المحرم من هذه السنة، وقد كان من خيار القضاة وأخصِّ الناس بنور الدين محمود، ولَمَّا حضرته الوفاةُ أوصى بالقضاء لابنِ أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري، مع أنَّه كان يجِدُ عليه؛ لِمَا كان بينه وبينه حين كان صلاحُ الدين سَجَنه بدمشق، وكان يعاكِسُه ويخالِفُه، ومع هذا أمضى وصيَّتَه لابن أخيه، فجلس في مجلسِ القضاءِ على عادةِ عَمِّه وقاعدتِه.
الفتنة ببغداد مع اليهود .
العام الهجري : 573 العام الميلادي : 1177
تفاصيل الحدث:
حضر قَومٌ مِن مُسلِمي المدائِنِ إلى بغداد، فشَكَوا من يهودِها، وقالوا: لنا مسجِدٌ نؤذِّنُ فيه ونصَلِّي، وهو مجاورُ الكنيسة، فقال لنا اليهودُ: قد آذيتُمونا بكثرةِ الأذان، فقال المؤذِّنُ: ما نبالي بذلك، فاختَصَموا، وكانت فتنةٌ استظهر فيها اليهودُ، فجاء المسلمون يشكونَ منهم، فأمَرَ ابنُ العطار، وهو صاحِبُ المخزن، بحَبسِهم، ثم أُخرِجوا، فقصدوا جامِعَ القصر، واستغاثوا قبلَ صلاةِ الجُمعةِ، فخَفَّف الخطيبُ الخُطبةَ والصلاة، فعادوا يستغيثونَ، فأتاهم جماعةٌ مِن الجند ومَنَعوهم، فلمَّا رأى العامَّةُ ما فعل بهم غَضِبوا نصرةً للإسلام، فاستغاثوا، وقالوا أشياءَ قبيحة، وقلعوا طوابيقَ الجامع، ورَجَموا الجندَ فهَرَبوا، ثم قصَدَ العامَّةُ دكاكين المخَلِّطين، لأنَّ أكثَرَهم يهود، فنَهَبوها، وأراد حاجِبُ الباب منعهم، فرجموه فهَرَب منهم، وانقلَب البلد وخَرَّبوا الكنيسة التي عند دار البساسيري، وأحرقوا التوراةَ فاختفى اليهود، وأمر الخليفة أن تُنقَضَ الكنيسةُ التي بالمدائن وتُجعَلَ مَسجِدًا ونُصِبَ بالرحبةِ أخشابٌ ليُصلَبَ عليها قومٌ من المفسدين، فظَنَّها العامةُ نُصِبَت تخويفًا لهم لأجلِ ما فعلوا، فعَلَّقوا عليها في الليلِ جِرذانًا ميتةً، وفي الصباح أُخرِجَ جماعةٌ مِن الحبسِ لُصوصٌ فصُلِبوا عليها.
حصر الفرنج مدينة حماة .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1177
تفاصيل الحدث:
حصَرَ الفرنجُ مدينةَ حماة، وسَبَبُ ذلك أنَّه وصل من البحرِ إلى الساحل الشامي كند- يعني قائد- كبيرٌ من الفرنج من أكبر طواغيتِهم، فلما رأى أنَّ صلاح الدين قد عاد منهزمًا لمصرَ، اغتنم خلو البلاد؛ لأنَّ توران شاه بن أيوب كان بدمشق ينوبُ عن أخيه صلاح الدين ليس عنده كثيرٌ من العسكَرِ، وكان أيضًا كثيرَ الانهماك في اللذَّاتِ مائلًا إلى الرَّاحات، فجمع ذلك الكند الفرنجيُّ مَن بالشام من الفرنج، وفَرَّقَ فيهم الأموال، وسار إلى مدينةِ حماة فحصرها وبها صاحِبُها شهاب الدين محمد الحارمي ابنُ خال صلاح الدين، وهو مريضٌ شديدُ المرض، وكان طائفةٌ مِن العسكر الصلاحي بالقُربِ منها، فدخلوا إليها وأعانوا من بها، وقاتل الفرنجُ على البلد قتالًا شديدًا وهَجَموا بعض الأيام على طَرفٍ منه، وكادوا يملِكونَ البلد قهرًا وقَسرًا، فاجتمع أهلُ البلد مع العسكر إلى تلك الناحية واشتَدَّ القتال، وعَظُمَ الخطب على الفريقين، واستقتَلَ المسلمون وحامَوا عن الأنفُسِ والأهل والمال، فأخرجوا الفرنجَ من البلد إلى ظاهِرِه، ودام القتالُ ظاهِرَ البلد ليلًا ونهارًا، وقَوِيَت نفوس المسلمين حين أخرجوهم من البلد، وطَمِعوا فيهم وأكثَروا فيهم القتلَ، فرحل الفرنجُ حينئذ خائبينَ، وكفى الله المُسلمينَ شَرَّهم، وساروا إلى حارم فحَصَروها، وكان مقامُهم على حماة أربعة أيام، ولَمَّا رحل الفرنجُ عن حماة مات صاحِبُها شهاب الدينِ الحارمي.
انهزام صلاح الدين الأيوبي في الرملة .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1177
تفاصيل الحدث:
في أواخِرِ جمادى الأولى، سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصرَ إلى ساحل الشامِ؛ لقصد بلاد الفرنج، وجمع معه عساكِرَ وجنودًا كثيرة، فلم يزالوا يجِدُّون السيرَ حتى وصلوا عسقلان في الرابع والعشرين منه، فنَهَبوا وأسروا، وقتلوا وأحرقوا وتفَرَّقوا في تلك الأعمال مُغِيرينَ، فلما رأَوا أنَّ الفِرنجَ لم يَظهَرْ لهم عسكَرٌ ولا اجتمع لهم من يحمي البلادَ مِن المسلمين، طَمِعوا، وانبسطوا، وساروا في الأرض آمنين مطمئنينَ، ووصل صلاحُ الدين إلى الرملة، عازمًا على أن يقصِدَ بعضَ حُصونهم ليَحصُرَه، فوصل إلى نهر، فازدحم الناسُ للعبور، فلم يَرُعْهم إلا والفرنج أشرفت عليهم بأبطالها وطلابِها، وكان مع صلاح الدين بعضُ العسكر؛ لأن أكثَرَهم تفَرَّقوا في طلب الغنيمة، فلما رآهم وقف لهم فيمن معه، وتقَدَّمَ بين يديه تقيُّ الدين عمر بن محمد ابن أخي صلاح الدين، فباشر القتالَ بنفسه بين يدي عَمِّه، فقُتِلَ من أصحابه جماعة، وكذلك الفرنجُ، وتمت الهزيمةُ على المسلمين، وحمل أحدُ الفرنج على صلاح الدين فقارَبَه حتى كاد أن يصِلَ إليه فقُتِلَ الفرنجيُّ بين يديه، وتكاثر الفرنج عليه فمضى مُنهَزِمًا، يسيرُ قليلًا ويقف ليلحَقَه العسكرُ إلى أن دخل الليل، فسلك البرية إلى أن مضى في نفَرٍ يسيرٍ إلى مصر، ولقُوا في طريقِهم مَشقَّة شديدة، وقل عليهم القوتُ والماء، وهلك كثيرٌ مِن دواب العسكر جوعًا وعطشًا وسرعةَ سير، وأما العسكَرُ الذين كانوا دخَلوا بلاد الفرنج في الغارة، فإنَّ أكثَرَهم ذهب ما بين قتيلٍ وأسير، ووصل صلاحُ الدين إلى القاهرة نصفَ جمادى الآخرة.
مقتل سعد الدين كمشتكين .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1177
تفاصيل الحدث:
قَبَض الملكُ الصالِحُ إسماعيلُ بنُ نور الدين على سعدِ الدين كمشتكين، وكان المتولِّيَ لأمر دولته والحاكِمَ فيها؛ وسَبَبُ قَبضِه أنَّه اتُّهِم بالسعيِ لقتل أبي صالح بن العجمي، الذي كان بمنزلةِ الوزير الكبير المتمكِّن، وكان قد وثب به الباطنيَّةُ فقتلوه وتمكَّنَ بعده سعد الدين وقَوِيَ حاله، فلما قُتِلَ ابن العجمي أحال الجماعةُ قتله على سعد الدين، وقالوا: هو وضَعَ الباطنية عليه حتى قتلوه، وذكروا ذلك للمَلِك الصالح، ونَسَبوه إلى العجز، وأنَّه ليس له حُكم، وأنَّ سعد الدين قد تحَكَّمَ عليه واحتَقَره واستصغره، وقَتَل وزيره، ولم يزالوا به حتى قَبَض عليه، وكانت قلعةُ حارم لسعد الدين قد أقطعه إيَّاها الملك الصالح، فامتنع مَن بها بعد قبضه، وتحصَّنوا بها، فسَيَّرَ سعد الدين إليها تحت الاستظهارِ ليأمر أصحابَه بتسليمها إلى الملك الصالح، فأمَرَهم بذلك، فامتنعوا، فعُذِّبَ كمشتكين وأصحابُه لا يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصَرَّ أصحابُه على الامتناعِ والعِصيانِ.
حصر الفرنج قلعة حارم .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1177
تفاصيل الحدث:
لما رأى الفرنج الخلافَ الذي في قلعةِ حارم وقَتْل الملك الصالحِ صاحِبَها سعد الدين كمشتكين، ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى، ظنًّا منهم أنَّهم لا ناصِرَ لهم، وأنَّ الملك الصالح صبيٌّ قليل العسكر، وصلاحُ الدين بمصر، فاغتنموا هذه الفرصةَ ونازلوها وأطالوا المقامَ عليها مدة أربعة أشهر، ونَصَبوا عليها المجانيقَ والسلالم، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم المَلِكُ الصالح مالًا، وقال لهم: إنَّ صلاح الدين واصِلٌ إلى الشام، وربما أُسَلِّمُ القلعة ومن بها إليه، فأجابوه حينئذٍ إلى الرحيل عنها، فلما رحلوا عنها سيَّرَ إليها الملك الصالح جيشًا فحَصَروها، وقد بلغ الجهدُ منهم بحصارِ الفرنج، وصاروا كأنَّهم طلائع، وكان قد قُتِلَ من أهلها وجُرح الكثير، فسلَّموا القلعةَ إلى الملك الصالح، فاستناب بها مملوكًا كان لأبيه، اسمُه سرخك.
صلاح الدين الأيوبي يسقط المكوس والضرائب عن الحجيج .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1177
تفاصيل الحدث:
أسقط صلاحُ الدين المكوسَ والضرائب عن الحُجَّاج بمكة، وقد كان يُؤخَذُ مِن حجاج الغربِ شَيءٌ كثيرٌ، ومن عجز عن أدائه حُبِسَ، فربما فاته الوقوفُ بعرفة، وعَوَّضَ أميرَ مكَّةَ بمالٍ أقطَعَه إياه بمصر، وأن يحمِلَ إليه في كلِّ سَنةٍ ثمانية آلاف أردب إلى مكة، ليكون عونًا له ولأتباعه، ورِفقًا بالمجاورين، وقُرِّرَت للمجاورين أيضًا غلَّات تُحمَلُ إليهم
بناء قلعة الجبل الضخمة بالقاهرة .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1178
تفاصيل الحدث:
أمر المَلِكُ الناصر صلاحُ الدين ببناء قلعة الجبلِ، وإحاطة السور على القاهرة ومصر، فعَمرَ قلعة للملك لم يكُنْ في الديار المصرية مثلُها ولا على شكلها، ووليَ عمارة ذلك الأميرُ بهاء الدين قراقوش مملوكُ تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
حدوث زلزلة شديدة ببغداد .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1178
تفاصيل الحدث:
هبَّت ببغداد ريحٌ عظيمة، ثم زَلَزلت الأرض، واشتَدَّ الأمرُ على الناس حتى ظَنُّوا أنَّ القيامةَ قد قامت، فبَقِيَ ذلك ساعة ثم انجَلَت، وقد وقع كثيرٌ من الدور، ومات فيها جماعةٌ كثيرة.
وفاة الوزير أبو الفرج بن المظفر .
العام الهجري : 573 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1178
تفاصيل الحدث:
هو محمَّدُ بن عبد الله بن هبة الله بن المظفَّر، الوزير أبو الفرج ابنُ رئيس الرؤساء، ولَقَبُه عضد الدولة. وكان أبوه أستاذ دار المقتفي وأقرَّه المستنجد. فلمَّا ولي المستضيء استوزره، فشرع ظهيرُ الدين بن العطَّار أبو بكر صاحب المخزن في عداوة أبي الفرج، حتَّى غيَّر قلب الخليفة عليه، فطلب الحجَّ فأذِنَ له، فتجهَّزَ جهازًا عظيمًا واشترى ستَّمائة جمل لحَملِ المنقطعينَ وزادِهم، وحمل معه جماعةً من العلماء والزهَّاد، وأخذ معه بيمارستانًا فيه جميع ما يحتاج إليه، وسافر بتجمُّلٍ زائد. فلمَّا وصل إلى باب قطفتا خرج إليه رجلٌ صوفي بيده قصَّة، فقال: مظلومٌ، فقال الغلمان: هات قصَّتك. فقال: ما أسلِّمُها إلَّا للوزير. فلمَّا دنا منه ضربه بسكِّينٍ في خاصرته، فصاح: قتلتَني، وسقط من دابَّتِه، وبَقِيَ على قارعة الطريق مُلقًى، وتفرَّق من كان معه إلَّا حاجب الباب، فإنَّه رمى بنفسه عليه، فضَرَبَه الباطني بسكِّينٍ فجرحه، وظهر للباطنيِّ رفيقان فقُتِلوا وأُحرِقوا. ثمَّ حُمل الوزير إلى داره فمات بها. وكان مشكورَ السِّيرة محببًّا إلى الرعيَّة، غير أنَّ القاضى الفاضِلَ لَمَّا بلغه خبر قتله، أنشد:
وأحسن من نيل الوزارة للفتى
حياة تريه مصرع الوزراء
وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيد.
كان ابن المظفر- عفا الله عنه- قد قتل وَلَدي الوزير ابن هُبيرة وخلقًا كثيرًا.
عصيان ابن المقدم على صلاح الدين الأيوبي وحصر بعلبك .
العام الهجري : 574 العام الميلادي : 1178
تفاصيل الحدث:
عصى شمسُ الدين محمد بن عبد الملك المقَدَّم على صلاح الدين ببعلبك، وكانت له قد سَلَّمَها إليه صلاحُ الدين لَمَّا فَتَحَها جزاءً له حيث سَلَّمَ إليه ابن المقدم دمشق، فلم تَزَلْ بيده إلى الآن، فطلب شمسُ الدولة بن أيوب أخو صلاح الدين منه بعلبك، وألحَّ عليه في طلبها، فلم يتمكَّنْ صلاح الدين من مخالفته، فأمر شمس الدين بتسليمِها إلى أخيه ليعَوِّضَه عنها، فلم يُجِبْ إلى ذلك، وذَكَّرَه العهود التي له، وما اعتمده معه من تسليمِ البلاد، فلم يُصْغِ إليه ولجَّ عليه في أخذها، وسار ابنُ المقدم إليها، واعتصم بها، فتوجَّه إليه صلاح الدين، وحَصَره بها مدة، ثم رحل عنها من غيرِ أن يأخذها، وتَرَك عليه عسكرًا يحصره، فلما طال عليه الحصارُ أرسل إلى صلاح الدين يطلبُ العِوَضَ عنها ليسَلِّمَها إليه، فعَوَّضَه عنها وسَلَّمَها، فأقطعها صلاح الدين أخاه شمسَ الدولة.
الغلاء والوباء العام .
العام الهجري : 574 العام الميلادي : 1178
تفاصيل الحدث:
انقطعت الأمطارُ بالكليَّةِ في سائِرِ البلاد الشاميَّة والجزيرة والبلاد العراقية، والديار البكريَّة، والموصل وبلاد الجَبَل وخلاط، وغير ذلك، واشتدَّ الغلاء، وكان عامًا في سائرِ البلاد، واستسقى الناسُ في أقطار الأرض، فلم يُسقَوا، وتعَذَّرَت الأقوات، وأكَلَت الناس الميتةَ وما ناسَبَها، ودام كذلك إلى آخِرِ سنة خمس وسبعين؛ ثم تَبِعَه بعد ذلك وباءٌ شديد عامٌّ أيضًا، كَثُرَ فيه الموت، وكان مَرَضُ الناس شيئًا واحدًا، وهو السرسام- ورم في حجاب الدماغ تَحدُثُ عنه حُمَّى دائمة- وكان الناسُ لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أنَّ بعض البلاد كان أشَدَّ مِن البَعضِ.
عودة الفرنج إلى مدينة حماة .
العام الهجري : 574 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1178
تفاصيل الحدث:
سار جمعٌ كثيرٌ مِن الفرنج بالشَّامِ إلى مدينة حماة، وكَثُرَ جَمعُهم من الفرسان والرجَّالة؛ طمعًا في النهب والغارة، فشَنُّوا الغارة، ونَهَبوا وخَرَّبوا القرى، وأحرَقوا وأسروا وقَتَلوا، فلما سمع العسكرُ المقيم بحماة ساروا إليهم، وهم قليل، متوكلينَ على الله تعالى، فالتقوا واقتتلوا، وصدق المسلمونَ القتال، فنصرهم الله تعالى، وانهزم الفرنج، وكَثُرَ القتل والأسرُ فيهم، واستردُّوا منهم ما غَنِموه من السواد، وكان صلاحُ الدين قد عاد من مصر إلى الشامِ في شوال من السنة الماضية، وهو نازِلٌ بظاهر حمص، فحُمِلَت الرؤوس والأسرى والأسلاب إليه، فأمَرَ بقتل الأسرى فقُتِلوا.
وفاة الشاعر الحيص بيص شهاب الدين أبو الفوارس .
العام الهجري : 574 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1179
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ شِهابُ الدين، أبو الفوارِسِ سَعدُ بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي الأديب الفقيه الشافعي، المعروف بالحيص بيص, ومعنى الحيص بيص: الشِّدَّةُ والاختلاطُ, قيل: إنَّه رأى الناسَ في شدَّة وحركةٍ، فقال: ما للنَّاسِ في حيصَ بَيصَ؟ فلزِمَه ذلك. وكان من فضلاءِ العالَم. كان قد سمع الحديثَ، ومدح الخلفاءَ والسلاطين والأكابر، وشِعرُه مشهورٌ، وله (ديوان) وترَسُّل. كان فصيحًا حسَن الشعر, بليغًا وافِرَ الأدَبِ، عظيمَ المنزلةِ في الدولتين العباسيَّة والسلجوقية. كان بديعَ المعاني، مليحَ الرسائِلِ، ذا خبرةٍ تامةٍ باللغة والبلاغة والأدب، وله يدٌ في المناظرة, وكان يناظِرُ على رأي الجمهور. كان لا يخاطِبُ أحدًا إلا بالكلام العربي. تفقَّه في مذهب الشافعي بالريِّ، وتكلَّم في مسائل الخلاف. ذكره ابن السمعاني في «ذيله» فقال: "له باعٌ في اللغة، وحِفظٌ كثيرٌ للشعرِ، وكان إمامًا في الرأي، حَسَن العقيدة". قال عبد الباقي بن زريق الحلبي الزاهد: "رأيتُه واجتمعتُ به، فكان صدرًا في كل علم، عظيمَ النفس، حسَنَ الشارة، يركَبُ الخيل العربية الأصيلة، ويتقلَّدُ بسيفين، ويحمِلُ حلقة الرمح، ويأخذ نفسَه بمآخِذِ الأمراء، ويتبادى في لفظِه، ويعقِدُ القاف, وكان أفصَحَ مَن رأيت". قال ابن كثير: "لم يكُنْ له في المراسلات بديلٌ، كان يتقعَّرُ فيها ويتفاصح جدًّا، فلا تواتيه إلا وهي مُعجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسُئِل أبوه عن ذلك فقال ما سمعتُه إلَّا منه". توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلِّي عليه بالنظامية، ودُفن بباب التبن، ولم يُعْقِب.
غارات الفرنج على بلاد المسلمين في الشام .
العام الهجري : 574 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1179
تفاصيل الحدث:
اجتمع الفِرنجُ وساروا إلى بلدِ دِمشقَ مع ملكهم، فأغاروا على أعمالِها فنهبوها وأسَروا وقَتَلوا وسَبَوا، فأرسل صلاحُ الدين فرخشاه، ولد أخيه، في جمعٍ من العسكر إليهم، وأمره إذا قاربهم يرسِلُ إليه يخبره على جناحِ طائر ليسير إليه، وتقدَّمَ إليه أن يأمُرَ أهل البلاد بالانتزاحِ مِن بين يدي الفرنج، فسار فرخشاه في عسكره يطلُبُهم، فلم يشعُرْ إلا والفرنجُ قد خالطوه، فاضطرَّ إلى القتال، فاقتتلوا أشدَّ قتال رآه الناسُ، وألقى فرخشاه نفسَه عليهم، وغَشِيَ الحربَ ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنجُ ونُصر المسلمون عليهم، وقُتِلَ مِن مُقَدَّمي الفرنج جماعةٌ، منهم همفري، كان يُضرَبُ به المثل في الشجاعة والرأي في الحرب، وكان بلاءً صَبَّه الله على المسلمين، فأراح اللهُ المسلمين مِن شَرِّه، وقُتِلَ غيرُه من أضرابِه، ولم يبلُغْ عسكر فرخشاه ألف فارس، وكذلك أغار البرنسُ صاحب أنطاكية واللاذقية على جشير المسلمين- جشير أو دشير: هي الخيلُ والبقر التي تلازِمُ المرعى ولا ترجِعُ إلى الحظيرة بالليل- بشيزر وأخذه، وأغار صاحِبُ طرابلس على جمعٍ كثيرٍ مِن التركمان، فاحتجَفَ أموالهم- استخلصها وحازها- وكان صلاحُ الدين على بانياس، فسيَّرَ ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى مصر، وأمَرَهما بحفظ البلاد، وحياطة أطرافِها من العدُوِّ.
==========
110.وفاة علم بنت عبد الله أم المبارك .
العام الهجري : 575 العام الميلادي : 1179

تفاصيل الحدث:
توفِّيَت الزاهدةُ العابدةُ علم بنت عبد الله بن هبة الله أم المبارك. امرأة صالحة واعظة، زوجةُ محمد بن يحيى الزبيدي الواعِظ، تزوجها بدمشق ثم قَدِمَت معه بغداد, وكانت تضاهي رابعة العدويَّة في زمانها، وقد عمرت طويلًا، توفيت ببغداد، وعمرها مائة سنة وستُّ سنين، ولم يتغيَّرْ لها شيء من حواسِّها.
وقعة مرج عيون بين الفرنجة والسلطان صلاح الدين .
العام الهجري : 575 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1179
تفاصيل الحدث:
سار السُّلطانُ صلاح الدِّين من عكَّا إلى دمشق، فأقام بها ثم خرج إلى شقيف- وهي في موضع حصين- فخَيَّم في مرجِ عُيون بالقُربِ منه، وأقام أيامًا يباشِرُ القتال- والعساكر تتواصل إليه- فلمَّا تحقَّقَ أرناط صاحِبُ شقيف أنَّه لا طاقة له به، نزل إليه بنفسه، فلم يشعُرْ به إلَّا وهو قائمٌ على باب خيمته، فأذِنَ له في دخوله إليه، وأكرمه واحتَرَمه، وكان من أكابِرِ الفرنج وعُقَلائِهم، وكان يَعرِف بالعربيَّة وعنده الاطِّلاع على شيءٍ من التواريخ والأحاديث، وكان حسَنَ التأني، لَمَّا حضَرَ بين يدي السلطان، وأكل معه الطعامَ وخلا به، ذكَرَ أنَّه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسَلِّمُ إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعًا يسكُنُه بدمشق، وإقطاعًا فيها يقومُ به وبأهلِه، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. ووصَلَه الخبر بتسليم الشوبك بالأمان. ثم ظهر للسُّلطانِ بعد ذلك أنَّ جميعَ ما قاله صاحب شقيف كان خديعةً، فراسَلَهم عليه ثمَّ بلغه أنَّ الفِرنجَ قَصَدوا عكَّا ونزلوا عليها، فقَبَضَ على أرناط صاحب شقيف وحَبَسَه في دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكَّا ودخلها بغتةً لتقوِّي قلوب من بها، ثم استدعى العسكرَ من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرُهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخلُ إليها ويَخرجُ من المسلمين، فضاق صدرُ السلطان لذلك، ثم اجتهد أمراءُ المسلمين في فتح طريقٍ إليها لتستمِرَّ المسايلة بالمسيرة والنجدة، فسار الأمراءُ واتفقوا على مضايقة العدوِّ لينفتِحَ الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمونَ ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورِها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات، وقيل للسلطان: إن الوخمَ قد عظُمَ بمرج عكا، فإن الموتَ قد نشأ بين الطائفتينِ فرَجَعوا.
تخريب المسلمين حصن الأحزان .
العام الهجري : 575 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1179
تفاصيل الحدث:
كان الفرنجُ قد بَنَوا حِصنًا منيعًا يقارِبُ بانياس، عند بيت يعقوب، بمكان يُعرَف بمخاضة الأحزان؛ وقد حفروا فيه بئرًا وجعلوه لهم عينًا، وسلموه إلى الداوية، فلمَّا سمع صلاح الدين بذلك كتب إلى الفرنج يأمرهم بتخريبِ هذا الحصن الذي بنوه للداوية فامتنعوا إلا أن يبذُلَ لهم ما غرموه عليه، فبذل لهم ستين ألفَ دينار فلم يقبلوا، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار، فقال له ابنُ أخيه تقي الدين عمر: ابذُلْ هذا إلى أجنادِ المسلمين وسِرْ إلى هذا الحصن فخرِّبْه، فأخذ بقولِه. فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس، وأقام بها، وبثَّ الغاراتِ على بلاد الفرنج، ثم سار إلى الحصن ليخَرِّبَه ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر، فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنجِ، ثم عاد عنه، ولم يفارِقْ بانياس بل أقام بها وخَيلُه تُغيرُ على بلاد العدو، وأرسل جماعةً مِن عسكره مع جالبي الميرة، فلم يشعُروا إلا والفرنجُ مع مَلكِهم قد خرجوا عليهم، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرِّفونه الخبر، فسار في العساكِرِ مُجِدًّا حتى وافاهم في القتال، فقاتل الفرنجُ قتالًا شديدًا، وحملوا على المسلمينَ عِدَّةَ حملات كادوا يزيلونَهم عن مواقفهم، ثم أنزل الله نَصْرَه على المسلمين، وهَزم المشركين، وقُتِلَت منهم مقتلة عظيمة، ونجا ملكُهم فريدًا وأُسِرَ منهم كثير، من أعيانهم ومقَدَّميهم، ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضعِ المعركة، وتجهَّز للدخول إلى ذلك الحِصنِ ومحاصرته، فسار إليه وأحاط به، وقَوِي عزمُه على فتحه بعد هزيمة الفرنج، وبثَّ العساكر في بلد الفرنج للإغارة عليهم، ففعلوا ذلك، وجمع المسلمونَ مِن الأخشاب والزَّرجُون-وهي قضبان الكرم- شيئًا كثيرًا ليجعله متارِسَ لمجانيق الفرنج, ثم أشار جاولي الأسدي بالزحف أولًا فقَبِلَ رأيه، وأمَرَ فنودي بالزحف على الحصن، والجِدِّ في قتال من فيه، فزحفوا واشتد القتالُ، وعظم الأمرُ، فألح المسلمون في القتال؛ خوفًا من وصول الفرنج وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليلُ، فلما كان الغد أصبحوا وقد نَقَبوا الحصن، وعمَّقوا النقب، وأشعلوا النيران فيه، وانتظروا سقوطَ السور، فسَقَط يوم الخميس لسِتٍّ بقين من ربيع الأول، ودخل المسلمونَ الحصن عَنوةً, فغنموا جميع ما فيه، وقد كان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ومِن المأكل شيءٌ كثير، وأخَذَ منه سبعَمائة أسير، فقَتَل بعضَهم وأرسل الباقي إلى دمشق، وأطلقوا من كان به من أُسارى المسلمين، وأقام صلاحُ الدين بمكانه حتى هَدَم الحصن، وعفى أثَرَه، وألحقَه بالأرض. ثم عاد إلى دمشق مؤيَّدًا منصورا، غيرَ أنه مات من أمرائِه عشرة بسبب ما نالهم من الحرِّ والوباء في مدَّةِ الحصار، وكانت أربعة عشر يومًا.
وفاة الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله وخلافة ولده الناصر .
العام الهجري : 575 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1180
تفاصيل الحدث:
هو الخليفةُ، أبو محمد الحَسَن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي الهاشمي، العباسي المستضيء بأمر الله. ولِدَ سنة 536, وأمه أرمنية، اسمها غضة. بويع بالخلافة يوم موت أبيه، في ربيع الآخر، سنة 566، وقام بأمر البيعة عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، فاستوزره يومئذ, وكان المستضيءُ ذا حِلمٍ وأناة ورأفةٍ وبِرٍّ وصدقات. قال ابن الجوزي: "لَمَّا بويع نُودي برفع المكوس، وردِّ المظالم، وأظهَرَ مِن العدل والكرم ما لم نَرَه من أعمارنا، وفَرَّق مالًا عظيمًا على الهاشميين, والعلويين والعُلماء والأربطة، وكان دائِمَ البذل للمال ليس له عنده وقْعٌ، وخلَعَ على أرباب الدولة والقضاة والجند وجماعة من العلماء", وفي خلافته زالت دولة العُبَيديين بمصر، وخُطِبَ له بها، وجاء الخبر، فغُلِّقَت الأسواق للمسرة، وعُمِلَت القباب، وصَنَّف ابن الجوزي (النصر على مصر) وخُطِبَ للمستضيء باليمن، وبرقة، وتوزر، وبلاد الترك، ودانت له الملوك، وكان يطلُبُ ابن الجوزي، ويأمرُه أن يعِظَ بحيث يَسمَع، ويميل إلى مذهب الحنابلة، وضَعُفَ بدولته الرفضُ ببغداد ومصر وظهرت السنة، وحصَل الأمن. وفي ثاني ذي القعدة توفي المستضيء بأمر الله، وكانت خلافتُه نحو تسع سنين وسبعة أشهر، فلما مات شَرَع ظهيرُ الدين ابن العطار في أخذِ البيعة لولده الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، فلمَّا تمت البيعة صار الحاكم في الدولة أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وسُيِّرَت الرسلُ إلى الآفاق لأخْذِ البيعة، فسَيَّرَ صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان، صاحب همذان وأصفهان والري وغيرها، فامتنع من البيعة، فراجعه صدر الدين، وأغلظ له في القول، فاضطرَّ إلى المبايعة والخطبة، وأرسل إلى رضي الدين القزويني مدرس النظامية إلى الموصل لأخذ البيعة، فبايع صاحِبها، وخطب للخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
قصد صلاح الدين الأيوبي بلاد الأرمن .
العام الهجري : 576 العام الميلادي : 1180
تفاصيل الحدث:
قصد صلاحُ الدين بلَدَ ابنِ ليون الأرمني، وسَبَبُ ذلك أنَّ ابن ليون الأرمني قد استمال قومًا من التركمان وبذل لهم الأمانَ، فأمرهم أن يَرعَوا مواشِيَهم في بلاده، وهي بلاد حصينةٌ كلُّها حصون منيعة، والدخول إليها صعب؛ لأنها مضائق وجبال وَعِرة، ثم غدر بهم وسبى حريمَهم، وأخذ أموالهم، وأسرَ رجالهم بعد أن قَتَل منهم، فسار صلاح الدين على النَّهر الأسود، وبثَّ الغارات على بلاده، فخاف ابنُ ليون على حِصنٍ له على رأس جبل أن يؤخَذَ فخَرَّبه وأحرقه، فسَمِعَ صلاح الدين بذلك، فأسرع السير إليه، فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائِرَ وأقوات، فغَنِمَها، وانتفع المسلمون بما غَنِموه، فأرسل ابن ليون يبذلُ إطلاق ما عنده من الأسرى والسَّبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واستقَرَّ الحال، وأُطلق الأسرى وأُعيدت أموالهم، وعاد صلاحُ الدين عنه في جمادى الآخرة.
وفاة الحافظ أبي طاهر السِّلَفي .
العام الهجري : 576 العام الميلادي : 1180
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامة المحدِّث، الحافظ الكبيرُ المفتي شيخ الإسلام، شرف المعمرين، أبو طاهرٍ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني، الجرواني السِّلَفي بكسر السين وفتح اللام. يلقب جَدُّه أحمد سِلفة- أي أشرم الشفة- وأصله بالفارسية سِّلبة، وكثيرًا ما يمزجون الباء بالفاء فسَمَّته الأعاجم لذلك السِّلَفي، والسَّلَفي -بفتحتين- وهو من كان على مذهَبِ السلف، وكان يلقب بصدر الدين، وكان شافعيَّ المذهب، ولد سنة 475، أو قبلها بسنة، قال السِّلَفي: "أنا أذكُرُ قتل الوزير نظام الملك وكان عمري نحو عشر سنين، قتل سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وقد كُتِبَ عني بأصبهان أول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأنا ابن سبع عشرة سنة أو أكثر، أو أقل بقليل، وما في وجهي شعرة، كالبخاري- يعني لَمَّا كتبوا عنه-". ورَدَ السِّلَفي بغداد وله أقل من عشرين سنة, واشتغل بها على الكيا الهراسي، وأخذ اللغةَ عن الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي. سمِعَ الحديث الكثير ورحل في طلبِه إلى الآفاق ثمَّ نزل ثغر الإسكندرية في سنة 511، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الظافر العبيدي مدرسةً، وفوَّضها إليه، وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدًّا، وبقي بالإسكندرية بضعًا وستين سنة, وهو ينشُرُ العلم، ويحَصِّل الكتب التي قلَّ ما اجتمع لعالمٍ مثلُها في الدنيا. ارتحل إليه خلق كثير جدًّا، ولا سيما لما زالت دولة الرَّفض العُبيدية الفاطمية عن مصر، وتملَّكَها عسكر الشام. ارتحل إلى السِّلَفي السُّلطانُ صلاح الدين وإخوته وأمراؤه، فسَمِعوا منه, وله تصانيفُ كثيرة، منها تخريج (الأربعين البلدية) التي لم يُسبَقْ إلى تخريجها، وقلَّ أن يتهيأ ذلك إلا لحافظ عُرِفَ باتساع الرحلة, وله (السفينة الأصبهانية) في جزء ضخم، و(السفينة البغدادية) في جزأين كبيرين، و(مقدمة معالم السنن)، و(الوجيز في المجاز والمجيز)، و(جزء شرط القراءة على الشيوخ)، و(مجلسان في فضل عاشوراء)، وكان يستحسن الشعر، ويَنظِمُه, وكان جيِّدَ الضبط، كثير البحث عما يُشكِلُ عليه. كان أوحد زمانه في علم الحديث، وأعرَفَهم بقوانين الرواية والتحديث، وكان عاليَ الإسناد؛ فقد روى عن الأجداد والأحفاد، وبذلك كان ينفرد عن أبناء جنسه. قال أبو سعد السمعاني: "السِّلَفي: ثقة، ورِع، متقن، متثبت، فَهِم، حافظ، له حظٌّ من العربية، كثير الحديث، حسن الفهم والبصيرة فيه". توفي في الإسكندرية عن عمر تجاوز المائة سنة.
ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة بالمغرب .
العام الهجري : 576 العام الميلادي : 1180
تفاصيل الحدث:
سار يوسُفُ بن عبد المؤمن إلى إفريقيَّةَ، وملك قفصة، وكان سبب ذلك أنَّ صاحِبَها علي بن عبد المعز بن المعتز لَمَّا رأى دخولَ الترك إلى إفريقيَّة واستيلاءهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم؛ طَمِعَ أيضًا في الاستبدادِ والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العِصيان، ووافقه أهلُ قفصة، فقتلوا كلَّ من كان عندهم مِن الموحِّدين أصحابه، وكان ذلك في شوال سنة 572، فأرسل والي بجاية إلى يوسفَ بن عبد المؤمن يخبِرُه باضطراب أمور البلاد، واجتماعِ كثيرٍ من العرب إلى بهاء الدين قراقوش القائد الأيوبي الذي دخل إلى إفريقيَّة, فشرع يوسف بن عبد المؤمن في سدِّ الثغور التي يخافُها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهَّز العسكر وسار نحو إفريقيَّة سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحَصَرها ثلاثة أشهر وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطَعَ شَجَرَها، فلما اشتد الأمرُ على صاحبها وأهلها خرج منها مستخفيًا وطلب عفوَ أمير المؤمنين واعتذر، فَرَقَّ له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسيَّرَ علي بن المعز صاحِبَها إلى بلاد المغرب، فكان فيها مُكرمًا عزيزًا، وأقطعه ولايةً كبيرة؛ ورتَّب يوسف لقفصة طائفةً من أصحابه الموحِّدين.
وفاة فخر الدين شمس الدولة توران شاه بن أيّوب .
العام الهجري : 576 العام الميلادي : 1180
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ المُعظَّم فخر الدين شمس الدولة توران شاه بن أيُّوب أخو السلطان صلاح الدين. كان أكبَرَ من صلاح الدين في السنِّ. وكان يرى في نفسه أنَّه أحقُّ بالمُلك من صلاح الدين يوسف، وكان يبدو منه كلامٌ يقدح في صلاح الدين وتبلغه عنه، ومع ذلك كان صلاح الدين يُحسِنُ إليه. شهد معه مواقِفَ مشهودة محمودة، وهو الذي افتتح بلادَ اليمن عن أمر صلاح الدين، فمكث فيها حينًا واقتنى منها أموالًا جزيلة، ثم عاد من اليمن، فاستنابه صلاح الدين على دمشق مدة، ثم سار إلى مصر فاستنابه على الإسكندرية فلم توافقْه، وكانت تعتريه القوالنج، فمات في هذه السنة، ودفن بقصر الإمارة فيها، ثم نقلته أختُه ست الشام بنت أيوب فدفنته بتربتها التي بالشامية البرانية, ولَمَّا بلغ موته أخاه صلاح الدين بن أيوب وهو مخيِّم بظاهر حمص، حَزِن عليه حزنًا شديدًا. كان توران شاه شجاعًا جوادًا مُمَدَّحًا حَسَن الأخلاق.
وفاة سيف الدين غازي صاحب الموصل وولاية أخيه عز الدين بعده .
العام الهجري : 576 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1180
تفاصيل الحدث:
هو سيفُ الدينِ غازي بن الملك قطب الدين مودود بن أتابك زنكي بن آق سنقر التركي. صاحِبُ الموصِل ووالد سنجر شاه صاحِب جزيرة ابن عمر. لَمَّا مات أبوه قطب الدين، وهو على تلِّ باشر، وفي سنة ست وستين مَلَك الرقة، ونصيبين وسنجار، ثم أتى الموصِلَ، فأرسل إلى صاحبها وعَرَّفَه صحة قصده، فصالحه. ونزل الموصِلَ ودخلَها، وأقرَّ صاحبها فيها، وزوَّجَه بابنته، وعاد إلى الشام، فلما تملَّك صلاح الدين وسار إلى حلب وحاصرها، سيَّرَ إليه غازي جيشًا عليه أخوه عز الدين مسعود فكسَرَه صلاح الدين, فتجهَّز غازي وسار بنفسه، فانهزم جيشُ غازي فعاد إلى حلب، ثم رحل إلى الموصل. إلى أن مات بالسل. قال ابن الأثير: "كان مليحَ الشباب، تامَّ القامة، أبيضَ اللون، وكان عاقلًا وقورًا، قليلَ الالتفات, ولا يحِبُّ الظلم، على شُحٍّ فيه وجُبن". قال الذهبي عن سيف الدين غازي: "أدار الخمرَ والزنا ببلاده بعد موت عمِّه نور الدين، فمَقَتَه أهل الخير, وقد تاب قبل موته بيسير". توفي سيف الدين غازي بعد أن أُصيب بمرض السل آخِرَ أيامه، وطال به، ثم أدركَه في آخره السرسام- ورم في حجاب الدماغ تحدث عنه حمى دائمة- فمات في صفر. وعاش نحوًا من ثلاثين سنة وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر، وكان لَمَّا اشتد مرضه أراد أن يعهَدَ بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه، وكان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة، فخاف على الدولة من ذلك؛ لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكَّن بالشام، وقَوِيَ أمره، وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك، والإجابة إليه، فأشار الأمراءُ الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعَلَ المُلْك بعده في عِزِّ الدين أخيه؛ لِما هو عليه من الكِبَر في السن، والشجاعة والعقل وقوة النفس، وأن يعطي ابنيه بعضَ البلاد، ويكون مرجِعُهما إلى عز الدين عمِّهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز، ففعل ذلك، وجعل المُلْك في أخيه، وأعطى جزيرةَ ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه، وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك، فلما توفي سيف الدين مَلَك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين، وكان المدبر للدولة مجاهد الدين قايماز، وهو الحاكِم في الجميع، واستقَرَّت الأمور.
غزو الفرنج في الكرك من الشام .
العام الهجري : 577 العام الميلادي : 1181
تفاصيل الحدث:
سار عز الدين فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال الكرك ونَهَبها، وسببُ ذلك أن البرنس صاحب الكرك، كان من شياطين الفرنج ومَرَدتهم، وأشدِّهم عداوة للمسلمين، فتجهز وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع، وعزم على المسيرِ في البر إلى تيماء، ومنها إلى مدينة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، فسَمِعَ فرخشاه ذلك، فجمع العساكِرَ الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه، وعاد إلى طرف بلادِهم، وأقام ليمنع البرنس من بلاد الإسلام، فامتنع بسببِه عن مقصده، فلما طال مقامُ كل واحد منهم في مقابلة الآخر عَلِمَ البرنس أنَّ المسلمين لا يعودون حتى يُفَرِّق جمعَه، ففَرَّقهم وانقطع طمَعُه من الحركة، فعاد فرخشاه إلى دمشق، وكفى الله المؤمنين شَرَّ الكفار.
إرسال صلاح الدين الأيوبي العساكر إلى اليمن .
العام الهجري : 577 العام الميلادي : 1181
تفاصيل الحدث:
سَيَّرَ صلاحُ الدين جماعةً من أمرائه منهم صارم الدين قتلغ أبه- والي مصر- إلى اليمن؛ للاختلاف الواقع بها بين نواب أخيه شمس الدولة توران شاه، وهم عزُّ الدين عثمان بن الزنجيلي، والي عدن، وحطان بن منقذ، والي زبيد، وغيرهما؛ فإنهم لما بلغهم وفاةُ صاحبهم توران شاه اختلفوا وجَرَت بين عز الدين عثمان وبين حطان حربٌ، وكل واحد منهما يروم أن يغلِبَ الآخر على ما بيده، واشتد الأمرُ، فخاف صلاح الدين أن يطمَعَ أهل البلاد فيها بسبب الاختلافِ بين أصحابه وأن يُخرِجوهم من البلاد، فأرسل هؤلاء الأمراءَ إليها. واستولى قتلغ أبه على زبيد وأزال حطان عنها، ثم مات قتلغ أبه، فعاد حطان إلى إمارة زبيد، وأطاعه الناس لجوده وشجاعتِه.
حصر صاحب ماردين قلعة البيرة ومصير صاحبها مع صلاح الدين .
العام الهجري : 577 العام الميلادي : 1181
تفاصيل الحدث:
كانت قلعةُ البيرة، وهي مُطِلَّة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الأرتقي، وهو ابنُ عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعةِ نور الدين محمود بن زنكي، صاحِبِ الشام، فمات شهابُ الدين وملك القلعةَ بعده ولدُه وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحِبُ ماردين إلى عز الدين مسعود يطلبُ منه أن يأذن له في حَصْرِ البيرة وأخْذِها، فأذِنَ له في ذلك، فسار في عسكرِه إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسيَّرَ العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفَرْ منها بطائل إلَّا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبُها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، يطلب منه أن ينجدَه ويُرحِلَ العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولًا إلى صاحِبِ ماردين يشفَعُ فيه، ويطلب أن يرحل عسكَره عنه، فلم يقبَلْ شفاعته، واشتغل صلاحُ الدين بالفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طولَ مقام عسكره على البيرة، ولم يبلُغوا منها غرضًا، أمرهم بالرحيلِ عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبُ البيرة إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفراتَ.
وفاة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صاحب حلب .
العام الهجري : 577 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1181
تفاصيل الحدث:
هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها، ولعلي أموتُ وهو في جوفي)). ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.
وفاة ابن الأنباري النحوي .
العام الهجري : 577 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
هو أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله مصغر بن أبي سعيد بن سليمان الأنباري النحوي صاحب التصانيف المفيدة، من الأئمَّة المشار إليهم في علمِ النحو، وُلِدَ في شهر ربيع الآخر سنة 513, وسكن بغداد من صباه إلى أن مات، وتفقَّه على مذهب الشافعي، بالمدرسة النظامية وتصدَّر لإقراءِ النحو بها، وصار شيخَ العراق في الأدب غيرَ مُدافَع له. تولى التدريس في بغداد, وقَصَده طلابُ العلم من سائر الأقطار, يقول ابنُ خَلِّكان: "اشتغل عليه خلقٌ كثيرٌ وصاروا عُلَماء، ولَقِيتُ جماعة منهم، وصَنَّف في النحو كتاب "أسرار العربية" وهو سهل المأخذ كثير الفائدة، وله كتاب "الميزان" في النحو، وله كتاب في "طبقات الأدباء" جمع فيه المتقَدِّمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتُبُه كلها نافعة، وكان نفَسُه مباركًا ما قرأ عليه أحدٌ إلا وتميز". ثم انقطع ابن الأنباري في منزله مشتغلًا بالعلم والعبادة والإفادة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "لم أر في العُبَّاد والمنقطعين أقوى منه في طريقِه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جِدٌّ مَحضٌ لا يعتريه تصَنُّع، ولا يَعرِف الشرورَ ولا أحوال العالَم. كانت له دارٌ يَسكُنُها، وحانوت ودار أخرى يتقَوَّت بأجرتهما، سيَّرَ له المستضيء خمس مائة دينار فردَّها، وكان لا يُوقَد عليه ضوء، وتحته حصير قصب، وثوبَا قُطن، وله مائة وثلاثون مصنفًا" ومن تصانيفه في المذهب "هداية الذاهب في معرفة المذاهب" و"بداية الهداية" وفي الأصول "الداعي إلى الإسلام في أصول الكلام" و"النور اللائح في اعتقاد السلف الصالح" وغير ذلك، وفي الخلاف "التنقيح في مسلك الترجيح"، و"الجمل في علم الجدل" وغير ذلك، وفي النحو واللغة ما يزيد على الخمسين مصنَّفًا، وله شعر حسن كثير, ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وتَرَك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة إلى أن توفي ليلة الجمعة تاسع شعبان من هذه السنة ببغداد، ودُفِنَ بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
إرسال سيف الإسلام الأيوبي إلى اليمن وتغلبه عليه .
العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
سَيَّرَ صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن، وأمَرَه بتمَلُّكِها وقطْع الفتن بها، وفَوَّض إليه أمرها، وكان بها حطان بن منقذ، وكتَبَ عز الدين عثمان الزنجيلي متولي عدن إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه باحتلال البلاد، ويشير بإرسالِ بعض أهله إليها؛ لأن حطان كان قَوِيَ عليه، فجَهَّز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام وسَيَّرَه إلى أهل اليمن، فوصلَ إلى زبيد، فخافه حطان بن منقذ واستشعر منه، وتحصَّن في بعض القلاع، فلم يزل به سيف الإسلامِ يؤَمِّنُه ويهدي إليه ويتلَطَّفُه حتى نزل إليه، فأحسن صحبتَه، وطلب حطان أن يأذنَ له بقصد الشام، فأذن له، فأخرج أثقالَه وأمواله وأهله، وأصحابه وكل ما له، وسيَّرَ الجميع بين يديه، فلما كان الغد دخل على سيف الإسلام ليودِّعَه، فقبض عليه واسترجع جميعَ ماله ثمَّ سَجَنه في بعضِ القلاع، وكان آخِرَ العهد به، فقيل إنه قتله، وأمَّا عز الدين عثمان الزنجيلي فإنَّه لَمَّا سمع ما جرى على حطان خاف فسار نحو الشام خائفًا يترقَّبُ، وسيَّرَ معظم أمواله في البحر، فصادفهم مراكِبُ فيها أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كل ما لعز الدين، ولم يبقَ إلَّا ما صحبه في الطريق، وصَفَت زبيد وعدن وما معهما من البلاد لسيف الإسلام.
نهاية دولة آل سبكتكين الغزنوية في بلاد فارس وما وراء النهر .
العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
كان أوَّل الغورية هو محمد بن الحسين قد صاهر بهرام شاه بن مسعود صاحِبَ عزنة من آل سبكتكين، ثم قتله بهرام شاه خشيةً من غدره، وقد جاءه يظهِرُ الطاعة ويُبطِنُ الغدر، فولى بعده ملكَ الغورية أخوه سورى وسار إلى غزنة في طلب ثأرِ أخيه وقاتَلَ بهرام شاه فظفر به وقتله أيضًا. ثم ملك أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين، وسار إلى غزنة، فانهزم عنها بهرام شاه، فاستوى عليها علاء الدين الحسين وأقام بغزنة أخاه سيف الدين شاه، ورجعَ إلى الغور، فكاتب أهل غزنة بهرام شاه فقاتَلَ سيف الدين الغوري فظَفِرَ بسيف الدين فقتَله وملك بهرام شاه غزنة، ثم توفِّي بهرام شاه. وملك ابنُه خسرو شاه وتجهَّز علاء الدين ملك الغورية إلى غزنةَ فمَلَكَها شهاب الدين سنة تسع وسبعين وخمسمائة بعد حصار، وأمنَ خسرو شاه فحضر فأكرمه، وبلغ غياث الدين ذلك فطلب من شهاب الدين إنفاذَ خسرو شاه إليه فأمَرَه شهاب الدين بالتوجُّه إليه، فقال خسرو شاه: أنا ما أعرف أخاك فطَيَّبَ خاطره وأرسله، وأرسل ابن خسرو شاه أيضًا معه مع عسكر يحفظونهما فرفعهما غياثُ الدين إلى بعض القلاع ولم يرهما، فكان آخِرَ العهد بهما, وخسرو شاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين هو آخر ملوك آل سبكتكين، ابتداءُ دولتهم سنة 366، وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريبًا، فانقراض دولتهم سنة 578، وكانوا من أحسن الملوك سيرةً.
وفاة المنصور عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه صاحب بعلبك .
العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
هو الملك المنصورُ عِزُّ الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحِبُ بعلبك ونائِبُ دمشق لعَمِّه الناصر صلاح الدين الأيوبي، وهو والِدُ الأمجد بهرام شاه صاحِبِ بعلبك بعد أبيه، وإليه تُنسَبُ المدرسة الفروخ شاهية بالشرقِ الشمالي بدمشق، وإلى جانبِها التربة الأمجديَّة لولده، وهما وقفٌ على الحنفية والشافعية، وقد كان فروخ شاه شجاعًا شَهمًا عاقلًا، ذكيًّا كريًما مُمدَّحًا، امتدحه الشعراءُ لفضله وجُودِه، وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي، عَرَفه من مجلس القاضي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسِنُ إليه، وللعماد الكاتب فيه مدائِحُ، وكان ابنه الأمجد شاعرًا جيدًا، ولَّاه عم أبيه صلاحُ الدين بعلبك بعد أبيه، واستمَرَّ فيها مدة طويلة، ومن محاسِنِ فروخ شاه صُحبَتُه لتاج الدين الكندي
صلاح الدين الأيوبي يسيطر على ديار الجزيرة ويحصار الموصل .
العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
كان عِزُّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحِبُ الموصل قد أقطَعَ مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك مدينةَ حران وقلعَتَها، ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنحَ اليه مظفر الدين ووعَدَه النصر واستحَثَّه للقدوم على الجزيرةِ، فجَدَّ صلاح الدين السيرَ مُظهِرًا أنه يريد حَصْرَ حلب سترًا للحالِ، فلما قارب الفراتَ سار إليه مظفر الدين فعبَرَ الفرات واجتمع به وعاد معه فقصدَ البيرة، وهي قلعةٌ منيعة على الفرات، من جانب الجزيرة، وكان صاحِبُها قد سار مع صلاح الدين، وفي طاعته، فعبَرَ هو وعسكره الفراتَ على الجسر الذي عند البيرة، وكان عزُّ الدين صاحِبُ الموصل ومجاهِدُ الدين لما بلغهما وصولُ صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين؛ ليكونا على أُهبةٍ واجتماعٍ لئلا يتعَرَّض صلاح الدين إلى حلب، ثمَّ تقدما إلى دارا، فنزلا عندها، فجاءهما أمرٌ لم يكن في الحساب، فلما بلغهما عبورُ صلاح الدين الفرات، عادا إلى الموصِل وأرسلا إلى الرَّها عسكرًا يحميها ويمنَعُها، فلما سمع صلاح الدين ذلك قَوِيَ طمعه في البلاد، فكاتب الملوكَ أصحابَ الأطراف ووعدهم، وبذل لهم البذولَ على نصرته، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحِبُ الحصن، إلى ما طلب منه، وسار صلاحُ الدين إلى مدينة الرها، فحصرها في جمادى الأولى، وقاتلها أشدَّ قِتالٍ، حتى مَلَك المدينة ثم زحف إلى القلعة، فسَلَّمَها إليه الدزدار الذي بها على مالٍ أخذه، فلما ملَكَها سلمها إلى مظفر الدين مع حران، ثم سار عنها، على حران، إلى الرقَّة، فلما وصل إليها كان بها مقطعُها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار عنها إلى عزِّ الدين مسعود، ومَلَكَها صلاح الدين، وسار إلى الخابور، قرقيسيا، وماكسين وعابان، فملك جميعَ ذلك، فلما استولى على الخابور جميعِه سار إلى نصيبين، فملك المدينةَ لوقتها، وبَقِيَت القلعة فحصرها عِدَّةَ أيام، فملكها أيضًا، وأقام بها ليُصلِحَ شأنَها، ثم أقطعها أميرًا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، وسار عنه ومعه نور الدين صاحب الحِصن.
انتصار المسلمين على الفرنج في بحر عيذاب .
العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
عَمِلَ البرنسُ صاحب الكرك أسطولًا، وفَرَغ منه بالكرك، ولم يبقَ إلَّا جمعٌ قطَعَه بعضُها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيلة، وجمعها في أسرع وقت، وفرغَ منها وشحَنَها بالمقاتِلة وسَيَّرَها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقةٌ أقامت على حِصنِ أيلة وهو للمسلمينَ يَحصُرونه، ويمنَعُ أهلَه من ورود الماء، فنال أهله شدةٌ شديدة وضِيقٌ عظيم؛ وأما الفرقةُ الثانية فإنَّهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكبِ الإسلامية ومَن فيها من التجَّار، وبغتوا الناسَ في بلادهم على حين غفلةٍ منهم؛ فإنهم لم يعهدوا بهذا البحرِ فرنجيًّا قطُّ لا تاجرًا ولا محاربًا، وكان بمصرَ الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوبُ عن أخيه صلاح الدين، فعمرَ أسطولًا وسيَّرَه، وفيه جمعٌ كثير من المسلمين، ومُقَدَّمُهم الحاجب حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، فسار لؤلؤ مجِدًّا في طلبهم، فابتدأ بالذين على أيلة فقاتلهم، فقتل بعضَهم، وأسر الباقيَ، وسار من وقته بعد الظَّفَر يقُصّ أثَرَ الذين قصدوا عيذاب، فلم يَرَهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لَقُوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى؛ ليفعلوا كما فعلوا فيه، وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، فأدركهم بساحلِ الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطبَ وشاهدوا الهلاكَ خرجوا إلى البَرِّ، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤٌ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشدَّ قِتالٍ، فظَفِرَ بهم وقَتَل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضَهم إلى مِنًى ليُنحِروا بها عقوبةً لِمن رام إخافةَ حَرَمِ الله تعالى وحَرَمِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقُتِلوا جميعُهم.
صلاح الدين الأيوبي يملك مدينة سنجار .
العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
لَمَّا سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار، سيَّرَ مجاهد الدين قايماز إليها عسكرًا قوةً لها ونجدةً، فسمِعَ بهم صلاح الدين، فمَنَعَهم من الوصول إليها، وأوقع بهم، وأخذ سلاحَهم ودوابَّهم وسار إليها ونازلها، وكان بها شرفُ الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين بن مسعود، صاحِبِ الموصل، في عسكر معه، فحَصَر البلد وضايقه، وألحَّ في قتاله، فكاتبه أحدُ أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية، وخامر معه، وأشار بقَصدِه من الناحية التي هو بها لِيُسَلِّمَ إليه البلد، فطرقه صلاحُ الدين ليلًا، فسَلَّمَ إليه ناحيتَه، فلما سمع شرف الدين بن مسعود الخبَرَ استكان وخضع، وطلب الأمان، فأُمِّن، ومَلَك صلاحُ الدين البلد، وسار شرفُ الدين ومن معه إلى الموصل، واستقَرَّ جميع ما ملكه صلاح الدين بمِلكِ سنجار، فلما مَلَك سنجارَ صارت على الجميعِ كالسور، واستناب بها سعدَ الدين بن معين الدين أنر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...