حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

3. سورة ال عمران {ج5}






3. سورة ال عمران {ج5}  
 سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (187-188)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
غريب الكلمات:

بِمَفَازَةٍ: أَيْ: بمَنجاةٍ، أو بمَوضِعِ الفوْز، ومِنْه يُقال: فازَ فُلانٌ، أَيْ: نجا، والفوز: الظَّفَرُ بالخيرِ مع حُصولِ السَّلامة، وأصلُه: النَّجاة
مشكل الإعراب:

قوله: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ:
قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ: وكذلك قوله: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ: قُرِئ بتاءِ الخِطاب فيهما، وبياءِ الغَيبةِ فيهما، وبياءِ الغَيبةِ في الأوَّلِ وتاءِ الخِطابِ في الثَّاني، ولكلِّ قِراءةٍ توجيهُها الإعرابيُّ:
فعَلى قِراءة لَا تَحْسَبَنَّ وفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء؛ فالفِعلانِ مضافانِ إلى المخاطَب، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الفاعِلُ. والَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعولٌ أوَّلُ لـوَلَا تَحْسَبَنَّ، وحُذِف المفعولُ الثَّاني؛ لدَلالةِ ما بعدَه عليه- وهو بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ، الذي هو المفعولُ الثاني لـفَلَا تَحسَبَنَّهُمْ، وقيل: إنَّ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ هو المفعولُ الثاني لـوَلَا تَحْسَبَنَّ الأوَّلِ على تَقديرِ التَّقديمِ، فيكونُ المفعولُ الثاني لـ(تَحْسَب) الثاني محذوفًا لدَلالةِ الأوَّلِ عليه تقديرُه: لا تَحسبَنَّ- يا محمَّدُ- الذين يَفرحون بما أَتَوْا بمفازةٍ من العذاب، فلا تَحسبنَّهم بمفازةٍ من العذابِ، ثم حُذِف الثاني. وفَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ: تأكيدٌ لـوَلَا تَحْسَبَنَّ بالتاءِ أيضًا، أو بَدلٌ جاءَ مشوبًا بمعنى التأكيدِ؛ لاتِّفاقِ الفاعلين والمفعولين، والفاءُ صِلةٌ لا تمنَعُ من البَدلِ.
وعلى قِراءة (لَا يَحْسَبَنَّ) و(فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ) بالياء؛ فـالَّذِينَ فاعلٌ، ومَفْعولَا (وَلَا يَحْسَبَن) محذوفانِ؛ اكتفاءً بمفعولي (فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ)؛ لأنَّ الفاعلَ فيهما واحدٌ، فالفِعلُ الثاني تكريرٌ للأوَّل؛ (فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ): تأكيدٌ لـ(لَا يَحْسَبَن)، أو بدلٌ جاءَ مشوبًا بمعنى التأكيد، ولَمَّا تعدَّى (فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ) إلى مَفعولَينِ استُغني بذلك عن تَعدِّي (وَلَا يَحْسَبَن)؛ لأنَّ الثاني بدلٌ منه، فاستُغني بتعدِّيه عن تَعدِّي الأوَّل، والتقدير: لا يَحسبَنَّ الفارِحونَ أنفسَهم فائزين؛ فلا يَحسبنَّهم فائِزين.
وأمَّا على قِراءة الأوَّل (وَلَا يَحْسَبَنَّ) بالياء، والثاني (فَلَا تَحْسَبَنَّ) بالتاء؛ فالإعرابُ كما مرَّ في كلِّ فِعلٍ بحسَبِه، إلَّا أنَّه لا يَحْسُن في الثاني التأكيدُ أو البَدلُ؛ لاختلافِ فاعليهما، ولكن يكونُ مفعولَا الأوَّل حُذِفَا؛ لدلالةِ مفعولَيِ الثاني عليهما، وفي الآيةِ توجيهاتٌ أخرى

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُذكِّر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى عليه وسلَّم؛ حين أخذ سبحانَه عهْدًا مُؤكَّدًا مِن أهْل الكتاب: بأنْ يقوموا بتبيين ما في كُتُبهم للنَّاس ولا يُخفون شيئًا ممَّا فيه؛ فنَقضوا ذلك العهد ولم يعملوا به، ومن ذلك أنْ كتموا صِفَة مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّتِي في كتُبهم، مُستبدِلين مُقابِلَ ذلك الكتمانِ ما حصلوا عليه من مَكاسِبَ دُنيويَّة حقيرة؛ فبِئس ما صَنَعوا.
ويُخاطِب اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنْ لا يَظُنَّ هو، ولا يَظُنَّ الذين يَفرحون بما فَعَلوه من أعمالٍ، ويُحبُّون أنْ يُثنِي عليهم الناسُ بما لم يَعملوه- أنَّهم سيَنجُون من عذابِ الله، بل لهم عذابٌ أليمٌ!
تفسير الآيات:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حكَى اللهُ تعالى عنِ اليَهودِ شُبَهًا طاعِنةً في نُبوَّة مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وأجاب عنه، أتْبَعه بهذه الآيةِ، وذلك؛ لأنَّه تعالى أوجَبَ في التوراةِ والإنجيلِ على أُمَّة موسى وعيسى عليهما السَّلام أنْ يَشرحوا ما في هذين الكِتابَيْن من الدَّلائلِ الدَّالَّةِ على صِحَّة دِينِه، وصِدْقِ نُبوَّته ورِسالَتِه، والمراد منه التعجُّب مِن حالهم، كأنَّه قِيل: كيفَ يَليقُ بكم إيرادُ الطَّعْنِ في نُبوَّته ودِينه مع أنَّ كُتبَكم ناطِقةٌ ودالَّةٌ على أنَّه يجبُ عليكم ذِكْرُ الدَّلائل الدَّالَّة على صِدْق نبوَّته ودِينه
.
وأيضًا فإنَّه تعالى لَمَّا أوجبَ في الآيةِ المتقدِّمةِ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ احتمالَ الأذى مِن أهْلِ الكتاب، وكان مِن جُملة إيذائِهم للرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنَّهم كانوا يَكتُمون ما في التوراةِ والإنجيلِ مِن الدَّلائل الدَّالَّة على نُبوَّته؛ فكانوا يُحرِّفونها، ويَذكُرون لها تأويلاتٍ فاسِدةً؛ فبَيَّن أنَّ هذا مِن تِلك الجُملةِ الَّتِي يجب فيها الصَّبرُ ، فقال:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
أَيْ: واذْكُر- يا مُحمَّدُ- حين عَهِد اللهُ عزَّ وجلَّ إلى اليهودِ وغيرِهم مِن أهل الكتاب عَهْدًا مؤكَّدًا: بأنْ يُبيِّنوا ما في كتُبهم للنَّاس ولا يُخفونه أبدًا، ومن ذلك صِفةُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإثباتُ رِسالتِه .
عنْ أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((من سُئِلَ عن علْمٍ علِمَهُ، ثُمَّ كتَمَهُ، أُلْجِمَ يَومَ القيامَةِ بلِجامٍ من نارٍ )) .
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
أَيْ: فكانتِ النتيجةُ أنَّهم نقَضوا هذا العهْدَ، وترَكوا العملَ به، ككِتمانِهم صِفةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الناس .
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أَيْ: أرادُوا مُقابِلَ نقْضِهم عَهدَ الله تعالى بكِتمانهم ما في كتُبهم- الحصولَ على حُظوظٍ دُنيويَّةٍ خسيسةٍ مِن مَناصِبَ أو أموالٍ، أو غيرِ ذلك .
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
أَيْ: فبِئستِ الصفْقَةُ صَفْقتُهم، وما أخْسرَها مِن تجارةٍ! لأنَّهم اختاروا الدَّنيءَ الخَسيسَ، وترَكوا العاليَ النَّفيس .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188).
سببُ النُّزول:
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رجالًا مِن المنافقين على عَهْدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كان إذا خرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عنه، وفَرِحُوا بمقعدِهم خِلافَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا قَدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعتَذَرُوا إليه وحَلَفُوا، وأحَبُّوا أنْ يُحْمَدوا بما لم يَفْعَلوا، فنزَلَتْ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا الآيةُ )) .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
هذه الآيةُ مِن جملةِ ما دخَلَ تحتَ قولِه: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا، فبَيَّن تعالى أنَّ مِن جُملةِ أنواعِ هذا الأذَى أنَّهم يَفرحون بما أَتَوْا به من أنواعِ الخُبْث والتلبيسِ على ضَعَفةِ المسلمين، ويُحبُّون أنْ يُحمَدوا بأنَّهم أهْلُ البِرِّ والتقوى والصِّدْق والدِّيانة وغير ذلك، ولا شكَّ أنَّ الإنسانَ يَتأذَّى بمشاهدةِ مِثل هذه الأحوالِ؛ فأمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالمصابرةِ عليها ، فقال تعالى:
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قِراءتان:
1- قراءة (تَحْسَبَنَّ) بالخِطابِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَعْله الفاعِل، والَّذِينَ يَفْرَحُونَ مفعولًا .
2- قراءة (يَحْسَبَنَّ) بجَعْل الفاعل: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
أَيْ: لا تظُنَّنَّ- يا مُحمَّدُ- ولا يَظُنَّنَّ الَّذين يَفرحون بما فعَلوه من أقوالٍ وأفعالٍ باطِلة: ككِتْمان العِلم لمَن سألهم كاليهود، والتخلُّف عن الغزْو في سبيل الله تعالى كالمنافقين، وكأعمال المتزيِّنين للنَّاس المُرائين لهم بما لم يَشرَعْه الله ورسولُه .
عن ثابتِ بنِ الضحَّاك رضِي اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ومَن ادَّعى دعَوى كاذبةً؛ لِيتكثَّرَ بها لم يَزدْه اللهُ إلا قِلَّةً )) .
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
أَيْ: وهم مع ذلك يُحبُّون أنْ يُثني الناسُ عليهم بالخَيرِ، على طاعاتٍ للهِ تعالى لم يَقوموا بها .
فجمَعوا بذلك بين فِعْلِ الشَّرِّ والفرَحِ بذلك، ومحبَّةِ حمْدِ النَّاسِ لهم على الخيرِ الذي لم يَفعلوه .
عنْ عَلْقمةَ بنِ وقَّاصٍ ((أنَّ مَرْوانَ، قال: اذْهَبْ يا رافعُ- لبوَّابِه- إلى ابنِ عَبَّاسٍ فقُلْ: لَئِنْ كانَ كلُّ امْرِئٍ منَّا فَرِحَ بِما أَتَى وأَحبَّ أنْ يُحْمَدَ بما لم يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أجمعونَ! فقال ابنُ عَبَّاسٍ: ما لكُم ولهذه الآيةِ؟ إِنَّما أُنزِلَتْ هذه الآيةُ في أهلِ الكِتابِ، ثُمَّ تَلَا ابنُ عَبَّاسٍ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] هذه الآيةَ، وتَلَا ابنُ عَبَّاسٍ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: «سَأَلَهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شَيءٍ فكَتَموه إيَّاهُ، وأَخْبَروه بِغَيرِه، فخَرَجوا قدْ أَرَوْه أنْ قدْ أَخْبَروه بما سَأَلَهُمْ عنه واسْتَحْمَدوا بذلكَ إليه، وفَرِحوا بِما أَتَوْا مِنْ كِتْمانِهم إيَّاه ما سَأَلَهُمْ عنه )) .
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ قِراءتان:
1- قراءة (يَحْسَبُنَّهُمْ) بجَعْل الفِعلِ للذين يَفرَحون بما أَتوا ويُحبُّون أنْ يُحمدوا بما لم يَفعلوا، أَيْ: فلا يَحْسَبون أنفسَهم بمفازةٍ من العذابِ .
2- قِراءة (تَحْسَبَنَّهُمْ) بجَعْل الفِعل خِطابًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ
أَيْ: لا تَظُنَّهم- يا مُحمَّدُ- ولا يظُنَّ أولئك القومُ أنفسَهم أنَّهم في سَلامةٍ ونجاةٍ من عذابِ الله تعالى .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أَيْ: إنَّهم قد استحقُّوا عذابًا مُؤلِمًا سيَصيرون إليه

.
الفوائد التربوية:

1- في قولِه تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ وجوبُ بيانِ العِلمِ على أهلِ العِلم، ولمْ يَذكرِ اللهُ عزَّ وجلَّ الوسيلةَ التي يَحصُل بها البيان؛ فتكونُ على هذا مُطلقَةً راجعةً إلى ما تَقتضيه الحالُ، قد يكون البيانُ بالقولِ، وقد يكونُ بالكتابةِ، وقد يكونُ في المجالسِ العامَّة، وقد يكونُ في المجالسِ الخاصَّة، على حسْبِ الحال؛ لأنَّ اللهَ أطلقَ البيانَ ولم يُفصِّل ولم يُعيِّن
.
2- يَنبغي قرْنُ النَّفي بالإثباتِ في الأمور المهِمَّة؛ لِيتحقَّقَ الكمالُ؛ لقوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ، ووجْه ذلك: أنَّ البيانَ عدمُ الكتمان، لكن لَمَّا قال: وَلاَ تَكْتُمُونَهُ أكَّد البيانَ بأنْ يكونَ كامِلًا ليسَ فيه أيُّ نوعِ كِتمانٍ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- لما قال تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ قال بعده: وَلاَ تَكْتُمُونَهُ مع أنَّ البيان ضدُّ الكتمان؛ قيل: لأنَّ المعنى: لَتبيِّنُنَّه بيانًا لا كِتمانَ فيه بأيِّ وجهٍ من الوجوه
، أو يكون المرادُ مِن البيان ذِكْرَ تلك الآيات الدَّالَّة على نُبوَّة محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من التوراة والإنجيل، والمرادُ مِن النهي عن الكِتمان أنْ لا يُلقُوا فيها التأويلاتِ الفاسِدةَ والشُبهات المعطلة .
2- الذمُّ القبيح لأهْلِ الكتابِ اليهود والنصارى؛ لِقوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ وذلك أنَّه يُلاحَظ شدَّةُ القذْفِ في قوله: نَبَذُوه، ثمَّ شِدَّةُ الاستكبار في قوله: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
3- دلَّ مفهومُ قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا على أنَّ مَن أحبَّ أنْ يُحمَدَ ويُثنى عليه بما فعَلَه من الخيرِ واتِّباع الحقِّ، إذا لمْ يكُن قصدُه بذلك الرِّياءَ والسُّمْعَةَ- أنَّه غيرُ مذمومٍ، بل هذا من الأمورِ التي جازَى بها اللهُ تعالى خَواصَّ خَلْقِه، وسألوها مِنه، كما قال إبراهيمُ عليه السَّلام: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وقال: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحْسِنِينَ، وقد قال عِبَاد الرَّحْمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلًا: كلامٌ مُستَأنَف سِيقَ؛ لِبيان بعض أذياتهم، وهو كِتْمانُهم ما في كِتابِهم من شواهدِ نُبوَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها
.
- وفيه: التفاتٌ؛ فقَد انتقلَ من الغَيْبةِ في قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ... إلى الخِطابِ في قوله: لَتُبَيِّنُنَّهُ، ثمَّ عاد إلى الغيْبةِ في قولِه تعالى: فَنَبَذُوُه، والفائدةُ مِن ذلك: زيادةُ التَّسجيلِ المباشِرِ عليهم .
- وفيه تأكيدُ إيجابِ بيانِ الكتابِ واجتنابِ كِتمانه؛ حيثُ قال: وَلَا تَكْتُمُونَهُ، ولم يقل: (ولا تَكتموه)، ولَم يُؤكِّد بالنون؛ لكونِه مَنفيًّا؛ أو لأنَّه اكتفَى بالتأكيدِ بالنونِ في الأوَّل؛ ولأنَّ هذا الفِعلَ نفسَه تأكيدٌ له .
- قوله: فَنَبَذُوهُ فيه: العطْف بالفاءِ الدَّالَّةِ على التعقيبِ؛ للإشارةِ إلى مُسارَعتِهم إلى ذلك، ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ مُستعمَلةً في لازِم التعقيب، وهو شِدَّةُ المسارَعَة لذلك عند اقتضاءِ الحال إيَّاه، والاهتمامُ به، وصرْفُ الفكرة فيه .
- قوله: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلًا فيه نهايةُ الجَزالة، والدَّلالةُ على كمالِ فَظاعة حالِهم وغاية قُبْحها، بإيثارِهم الدنيءَ الحقيرَ على الشَّريفِ الخَطير، وتَعكيسِهم بجعلهم المقصِدَ الأصلِيَّ وسيلةً والوسيلةَ مَقصِدًا؛ حيثُ صوَّر هذه المعاملةَ بعقْدِ المعاوَضَة لا سيَّما بالاشتراءِ المؤذِن بالرَّغبةِ في المأخوذ، والإعراضِ عن المعطَى، والتعبيرِ عن المُشترَى الذي هو العُمْدةُ في العَقْد، والمقصودُ بالمعامَلة بالثَّمنِ الذي شأْنُه أنْ يكونَ وسيلةً إليه، وجعْلِ الكتابِ الذي حقُّه أنْ يَتنافسَ فيه المتنافِسون مَصحوبًا بالباءِ الدَّاخِلة على الآلاتِ والوسائلِ .
2- قوله: لَا تَحْسَبَنَّ، فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ: فيه تَكرار الفعل (حسب)، وهو يُفيد التَّأكيد .

===
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (189-195)
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
غريب الكلمات:

أَخْزَيْتَهُ: أي: أهْلكتَه وأبعدتَه، مِن أَخْزى فلانًا، أي: ألْزمَه الحُجَّةَ وأذلَّه معها، وخزِيَ الرَّجُلُ: لَحِقَه انكسارٌ، والخزاية: النَّكالُ والفضيحةُ، وأصل الإخزاء: الإبعادُ

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ:
عَلَى رُسُلِكَ: الجارُّ والمجرور متعلِّق بـوَعَدْتَنا، بتقديرِ مُضافٍ محذوف، والتَّقدير: ما وَعَدْتنا على تَصديقِ رُسلِك مِن الثَّوابِ، أو على ألْسنةِ رُسلِك، ويجوزُ أنْ يتعلَّق بـآتِنَا، وقيل غير ذلك
.
2- قوله: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ:
أَنِّي لَا أُضِيعُ: (أنَّ) المفتوحةُ وما بعدَها مَصدرٌ مؤوَّل، وهو في مَحلِّ نصْبٍ على نزْعِ الخافِض، أو في محلِّ جرٍّ بحَرْف الجرِّ؛ إذ التقدير: (بأنِّي لا أُضيع)، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بـاسْتَجَابَ. وقُرِئ (إنِّي) بالكسر على تَقديرِ: فقَال: إنِّي لا أُضيع، أو على الحِكايةِ بـاسْتَجَابَ؛ لأنَّ فيه معنى القول؛ فلا موضعَ لـ(إنَّ) وما بعدَها حينئذٍ؛ لأنَّها جملةُ مقول القول

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبر تعالى أنَّه وحَدَه مَن يَملِكُ السَّمواتِ والأرضَ وما فيهما، وهو ذو القُدرةِ التامَّةِ على كلِّ شيء.
ويُخبر أيضًا سبحانه أنَّ في إيجادِ السَّموات والأرض من عدمٍ، وصُنعِها المتقنِ وما فيها، وتعاقُبِ الليل والنهار، لَدلائلَ واضحةً لذوي العقولِ السَّليمةِ تدلُّهم على الخالقِ سبحانه وعلى صِفاتِه، هؤلاء هم الذين يَذكُرون الله تعالى دائمًا وعلى مُختلفِ حالاتِهم قِيامًا وقُعودًا ومُضطجِعين، وتَجُولُ أفكارُهم في خلْقِ السَّمواتِ والأرض، يقولون وهم يتفكَّرون فيها مُخاطِبين الله تعالى: إنَّك يا ربَّنا، لم تَخلقْ هذا الخلقَ عبثًا؛ فأنتَ منزَّهٌ عن العَبثِ واللَّهو، فجنِّبْنا عذابَ النارِ، تِلك النارُ التي مَن أدخلتَه فيها فقدْ أهنتَه، وما للظالمين مِن أنصار، ربَّنا إنَّنا سَمِعنا نبيَّك مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْعو إلى الإيمانِ بك، فاستجَبْنا له، فتجاوزْ عن ما اقتَرَفْناه مِن ذنوبٍ واستُرْها بسَتْرِك، وامْحُها بإيمانِنا بك واتِّباعنا لنبيِّك، واجعَلْنا حينَ تتوفَّانا مِن الصَّالحين، ربَّنا وآتِنا جميعَ ما وعدتنَا به على ألْسِنةِ رُسلِك، ولا تَفضَحْنا بذُنوبِنا أمامَ الخَلْقِ يومَ القيامة؛ إنَّك لا تخلفُ وعدَك.
فأَخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه استجابَ لهم تلك الدَّعواتِ؛ فهو سبحانه لا يَضيعُ عَملٌ عنده، أيُّ عَملٍ، ومِن أيِّ عاملٍ، سواء كان ذكرًا أو أنثى؛ فلا فَرْقَ بينهم في ذلك، فالذين ترَكوا أوطانَهم- لكونها دارَ كُفرٍ- إلى دارِ الإيمان، أو طَردَهم أهلُ الشِّركِ مِن دِيارهم، وأُوذوا في سبيل الله، وقاتلوا في سبيلِ الله وقُتلوا، سَيمْحُو اللهُ عنهم خَطاياهم، وسيُدخلهم جنَّاتٍ تَجري من تحتِها الأنهارُ؛ جزاءً من عند الله على ما بذَلوا وقدَّموا، واللهُ تعالى عنده حُسنُ الثَّواب.
تفسير الآيات:

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو وَحْدَه المالكُ لكلِّ شيءٍ؛ فيَملِكُ السَّمواتِ والأرضَ وجميعَ ما حوتْه من أصنافِ الخَلْق
.
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ له كمالُ القُدرةِ على كلِّ شيءٍ، فلا يمتنعُ عليه أحدٌ، ولا يُعجِزُه شيءٌ سبحانه .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان المقصودُ من هذا الكتابِ الكريمِ جَذْبَ القلوبِ والأرواحِ عن الاشتغالِ بالخَلقِ إلى الاستغراقِ في مَعرفةِ الحقِّ والإيمانِ بهِ وتوحيدِهِ وطاعتِهِ، فلمَّا طال الكلامُ في تقريرِ الأحكامِ والجوابِ عن شُبهاتِ المبطِلين، عادَ إلى إنارةِ القلوبِ بذِكرِ ما يدلُّ على التوحيدِ والإلهيَّة والكبرياءِ والجلالِ، فذَكَر هذه الآيةَ .
وأيضًا لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّه مالكُ السَّمواتِ والأرضِ، وذكَر قُدرتَه، ذكَر أنَّ في خَلقِهما دَلالاتٍ واضحةً لذَوي العقولِ ، فقال:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أي: إنَّ في ابتداعِ اللهِ تعالى وإيجادِه من العدمِ هذه السَّمواتِ والأرضَ، المبهرةَ في إتقانِ صُنعِها، والعظيمةَ في سَعتِها وفي حُسنِها وجمالِها، والعَجيبةَ فيما أودَعَ اللهُ تعالى فيها مِن منافعَ عَديدةٍ، ومَخلوقاتٍ عجيبةٍ، وغير ذلك .
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
أي: إنَّ في تعاقُبَ اللَّيلِ والنَّهارِ على العبادِ وتفاوتهما طولًا وقِصرًا، وغير ذلك .
لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
أي: إنَّ في خَلْق تِلكِ المخلوقاتِ العجيبةِ وما تَحويه من الأشياءِ المبهرةِ العظيمة، لعلاماتٍ لأصحابِ العقولِ السَّليمةِ التي تُدرِكُ حَقائقَ الأشياء، فتدلُّهم على أنَّ خالقَ ذلك هو الربُّ المعبودُ وحْدَه سبحانه، كما تدلُّهم على صِفاتِ الله تبارَك وتعالَى .
عن ابن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما، قال: ((بِتُّ في بيتِ مَيمونَةَ ليلةً، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَها؛ لأنظُرَ كيفَ صلاةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالليلِ، فتحدَّث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معَ أهلِه ساعةً ثم رقَد، فلمَّا كان ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، أو بعضُه، قعَد فنظَر إلى السَّماءِ، فقرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: لِأُولِي الْأَلْبَابِ، ثمَّ قام فتوضَّأ واستَنَّ، ثم صلَّى إحْدَى عشْرةَ ركعةً، ثم أذَّن بلالٌ بالصَّلاةِ، فصلَّى ركعتَينِ، ثمَّ خرَج فصلَّى للناسِ الصُّبحَ )) .
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ سبحانه وتعالى في الآيةِ السَّابقةِ دَلائلَ الإلهيَّةِ والقُدرةِ والحِكمةِ، وهو ما يتَّصلُ بتَقريرِ الرُّبوبيَّة، ذكَرَ بعدَها ما يتَّصل بالعبوديَّة .
وأيضًا لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّ الذين يَنتفعونَ بتلك الآياتِ هم أُولو الألبابِ، شرَعَ في وصْفِهم ، فقال:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
أي: إنَّ أُولي الألبابِ هم الذين يُديمون ذِكرَ اللهِ تعالى بقلوبِهم وألْسنتِهم، وفي جميعِ أحوالِهم، في حالِ وُقوفِهم، وحالِ جُلوسِهم، وحالِ اضطجاعِهم .
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَفَهم بالذِّكر، وثبَت أنَّ الذِّكرَ لا يَكمُلُ إلَّا مع الفِكر، لا جرمَ قال بَعْدَه :
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أي: إنَّ مِن صِفاتِهم أيضًا أنهم يُعمِلون عُقولَهم في خَلْقِ اللهِ تعالى للسَّمواتِ والأرض؛ ليَستدلُّوا بذلك على المقصودِ منها، ويَفهموا ما فيها من الحِكمِ الدالَّةِ على صِفاتِ الخالقِ جلَّ وعلا .
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ
أي: إنَّهم حين يَتفكَّرون في خَلْقِ السَّمواتِ والأرض، يقولون: إنَّك يا ربَّنا، لم تَخلقْ هذا الخَلْقَ عبثًا ولا لهوًا؛ فأنتَ مُنزَّهٌ عن ذلك، ولكنَّك خلقتَه لحِكمةٍ ولأمرٍ عظيمٍ، من تكليفٍ وبعْثٍ، وحسابٍ وجزاءٍ، فتُجزي كلَّ أحدٍ بما عمِله من خيرٍ أو شرٍّ .
كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
وقال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85] .
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
أي: يا مَن خلقتَ الخَلْقَ بالحقِّ والعدل، وأنتَ منزَّهٌ عن النقائصِ والعيوب، أَجِرْنا من عذابِ النار، بأنْ تُوفِّقَنا للأعمالِ الصالحات، وتُجنِّبَنا بفضلِك الذُّنوبَ والسيِّئات .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا سألوا ربَّهم أن يَقيَهم عذابَ النار، أتْبعوا ذلك بما يدلُّ على عِظَمِ ذلك العقابِ وشِدَّته، وهو الخزيُ؛ ليكونَ موقعُ السؤال أعظمَ؛ لأنَّ مَن سأل ربَّه أنْ يَفعلَ شيئًا، أو ألَّا يَفعلَه، إذا شرَح عِظمَ ذلك المطلوبِ وقوَّتَه، كانت داعيتُه في ذلك الدعاءِ أكْمَلَ، وإخلاصُه في طلبه أشدَّ، والدُّعاءُ لا يتَّصلُ بالإجابةِ إلَّا إذا كان مقرونًا بالإخلاصِ؛ فهذا تعليمٌ من اللهِ لعبادِه في كيفيَّة إيرادِ الدُّعاء .
وأيضًا لَمَّا دَعَوْا أنْ يَقيَهم اللهُ من النار، بيَّنوا سببَ دُعائِهم، وأنَّ سببَ ذلك هو أنَّ النارَ دارُ الخِزي ؛ لذا قالوا:
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ
أي: إنَّ مَن أدخلتَه النارَ يا رَبَّنا، فقدْ أَهنتَه وفَضحْتَه .
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
أي: إنَّهم إنما دخلوا النارَ بظُلمِهم، وليس للظالمِ يَومَ القيامةِ أحدٌ يُنقذُه من عذابِ اللهِ تعالى .
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ
أي: إنَّهم قالوا: يا ربَّنا، إنَّنا قد سمِعْنا داعيًا يَدْعو إلى الإيمانِ، وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
أي: يقولُ للنَّاسِ: آمِنوا بربِّكم، فبَادَرْنا إلى الاستجابةِ له، فأَقرَرْنا بالحقِّ وقبِلْناه، مُنقادِين إليه، ومُذعِنين له .
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
أي: بإيمانِنا واتِّباعِنا نبيَّك، استُرْ علينا ذُنوبَنا، وتجاوزْ عن مُؤاخذتِنا بها .
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
أي: بإيمانِنا واتِّباعِنا نبيَّك، امحُ عنَّا خَطايانا؛ فالحسناتُ يُذهِبْنَ السيِّئاتِ .
وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ
أي: اجعلْنا إذا قَبضتَ أرواحَنا إليك في عِدادِ الصَّالحين .
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ
أي: أعطِنا- يا ربَّنا- ما وعَدتَنا به على ألْسنةِ رُسلِك عليهم السَّلامُ، من النَّصرِ على الأعداء ، ومِن الثوابِ على الأعمالِ الصَّالحة .
وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: لا تَفْضَحْنا بذُنوبِنا على رُؤوسِ الخلائقِ، ولا تُذِلَّنا يومَ القيامةِ .
إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
أي: فإنَّا قد عَلِمْنا بأنَّك لا تُخلفُ وعدَك لعبادِك .
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حَكَى اللهُ تعالى عنهم مواظبتَهم على الذِّكر، وهو قوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا، وعلى التفكُّرِ، وهو قوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثم حكَى عنهم أنَّهم أثْنَوا على اللهِ تعالى وهو قولُهم: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ، ثمَّ حَكَى عنهم أنَّهم بعدَ الثناءِ اشتَغلوا بالدُّعاء وهو مِن قولهم: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ: إلى قوله: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ- بيَّن في هذه الآيةِ أنَّه استجابَ دُعاءَهم ، فقال:
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
أي: فأجابُ اللهُ تعالى أولئك الدَّاعين، بأنَّ عمَلَ كلِّ عاملٍ منهم محفوظٌ لديهِ؛ قلَّ أو كثُر، وسواء كان صادرًا مِن ذَكَر أو أُنثى؛ فلا فَرْقَ بينهم في الثَّوابِ وإجابةِ الدعوات، مِثلما أنَّه لا فَرْقَ بينهم في اتِّباع مِلَّةِ الإسلام .
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا قِراءات:
1- قِراءة (وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا) قيل: على معنى أنَّ بعضَهم يُقْتل، فيَقْتُل الباقون مَن بقِي مِن عَدوِّهم، وهذا أبلغُ في مَدحِهم؛ لأنَّهم يُقاتِلون بعد أن يُقْتل منهم، فلم يَهِنوا بعدَ قتْلِ أصحابِهم .
2- قراءة (وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) قيل: على معنى أنَّهم قاتلوا أحياءً ثم قُتِلوا؛ لأنَّ القتْلَ لا يكونُ إلَّا بعدَ قِتال .
3- قراءة (وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا) بتشديدِ التاء، على معنى التَّكثير .
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا
أي: إنَّ الذين غادَروا قومَهم من أهلِ الكُفر، واسْتَوْطَنوا دارَ الإيمانِ مع إخوانِهم في الله، وطرَدَهم المشركونَ أو ضايقوهم بالأذَى حتى أَلْجؤوهم إلى الخروجِ من بين أَظهرِهم، ووقَعَ عليهم الأذى بسببِ إيمانِهم باللهِ تعالى وطاعتِهم له سبحانه، وقاتَلوا في سبيلِ اللهِ تعالى لإعلاءِ كَلمتِه، وقُتِلوا تَقتيلًا كثيرًا، مِثل أصحابِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورضِي اللهُ عنهم .
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
أي: إنَّ أولئك المؤمنين والمؤمنات؛ بسببِ ما حصَل لهم مِن تلك الأشياءِ مِن هِجرةٍ وجِهادٍ وغيرِ ذلك ، يمحو اللهُ تعالى عنهم خَطاياهم .
وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: لأُسكِننَّهم جنَّاتٍ تَجري في خلالِها أنواعٌ من الأنهار؛ جزاءً عظيمًا لهم على ما قدَّموا، وأبْلَوْا في سبيلِ العظيمِ الكريم .
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عنده الجزاءُ الحسن لِمَن عمِلَ صالحًا، ممَّا لا عَينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَر على قلبِ بشَرٍ

.
الفوائد التربوية :

1- الحثُّ على التأمُّل في خَلْقِ السَّمواتِ والأرض؛ لأنَّ اللهَ ذَكَر أنَّ فيهما آياتٍ، والآياتُ هي: العلاماتُ، وكلَّما ازدادتِ الآياتُ وضوحًا ازدادَ الإيمانُ قُوَّةً، كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...
.
2- إدامةُ ذِكرِ الله تعالى على كلِّ حال، فقدْ أرادَ بقوله تعالى: قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ عُمومَ الأحوال، على أنَّ هذه الأحوالَ هي مُتعارَفُ أحوالِ البَشرِ في السَّلامة، أي: أحوال الشُّغل، والرَّاحة، وقَصْد النَّوم .
3- أصنافُ العُبوديَّة ثلاثةُ أقسام: التَّصديقُ والإذعانُ بالقلب، والإقرارُ باللِّسان، والعملُ بالجوارحِ؛ فقوله تعالى: يَذْكُرُونَ اللهَ إشارةٌ إلى عُبوديَّةِ اللِّسان، وقوله: قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ إشارةٌ إلى عُبوديَّةِ الجوارحِ والأعضاء، وقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إشارةٌ إلى عُبوديَّة القلبِ والفِكرِ والرُّوح، والإنسانُ ليس إلَّا هذا المجموع، فإذا كان اللِّسان مستغرقًا في الذِّكرِ، والأركانُ في الشُّكر، والجَنانُ في الفِكر، كان هذا العبدُ مُستغرقًا بجميعِ أجزائِه في العبوديَّة .
4- أنَّ ذِكرَ اللهِ تعالى لا يَكفي وَحْدَه في الاهتداءِ إلى الآيات، ولكن يُشترَط معه التفكُّرُ في تِلك الآيات؛ فلا بدَّ من الجمْعِ بَينَ الذِّكر والفِكْر، كما قال سبحانه: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إشارةٌ إلى أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أنْ يَتصرَّفَ في مُلكِه إلَّا على حسَبِ إذْنِ الشَّارع؛ لأنَّ كونَ المُلكِ للهِ يدلُّ على أنَّ تصرُّفَنا فيه إنما يكونُ بطريق الوكالةِ، والوكيلُ يَتقيَّد بما أُذِن له فيه
.
2- أنَّه كلَّما كان الإنسانُ أعقلَ، كان باللهِ وآياتِه أعلمَ؛ لقوله: لآَيَاتٍ لأِولِي الأَلْبَابِ والحُكمُ المعلَّقُ على وصْفٍ يَثبُت لثبوتِه، ويُعدَم لعدمِه، فإذا كان أصحابُ العقولِ هم الذين يَنتفعون بهذه المخلوقاتِ، ويَستدلُّون بها على الخالقِ عزَّ وجلَّ، وعلى ما له مِن صِفاتِ الكمال؛ فإنَّ مَن عقْلُه عَقلٌ بهيميٌّ لا يَنتفع بهذه الآيات؛ لأنَّه ليس من ذوي الألباب .
3- أنَّ ذِكرَ الله عزَّ وجلَّ من لوازمِ العقلِ ومُقتضياتِه؛ لقوله: لأِولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ .
4- ذهَب بعضُ أهلِ العِلم إلى جوازِ ذِكرِ الله تعالى للجُنُب: أي: إنَّه يجوزُ للجُنبِ أن يذكُرَ الله؛ لدُخولِه في عموم قولِه: يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ .
5- قوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ: تخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذِّكر ليس لتخصيصِ الذِّكرِ بها، بل لأنَّها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يَخلو عنها الإنسانُ غالبًا .
6- في قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أنَّه إذا أثْنى على المتفكِّرين في الخَلْق، فالمُتفكِّرون في الشَّرْعِ مِن باب أوْلى؛ لأنَّ الشرعَ ليس أمرًا مَحسوسًا، فالتفكُّر فيه أبلغُ في الإيمانِ من التفكُّرِ في الخَلق؛ الخلق أمرٌ محسوس، كلُّ إنسان يُدركه، لكن حِكَم الشَّرائع وأسرارها ليس لكلِّ أحدٍ أن يُدركها .
7- أنَّ صفوةَ الخَلقِ مُحتاجون إلى الدُّعاءِ للوقايةِ مِن النار؛ لقولهم: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
8- إثباتُ التوسُّل في الدُّعاءِ بصِفاتِ اللهِ؛ يُؤخذ ذلِك مِن قوله: فَقِنَا؛ لأنَّهم بَنَوْا فَقِنَا على قولهم: سُبْحَانَكَ فَقِنَا يعني: أنَّنا نتوسَّلُ إلى الله عزَّ وجلَّ بتنزُّهه عن النقصِ أنْ يَقيَنا عذابَ النار؛ لأنَّنا مؤمنون؛ لقوله: يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، ويُقرُّون بأنها خُلقتْ بالحقِّ وللحقِّ، ويُنزِّهون اللهَ عزَّ وجلَّ عن كلِّ نقْصٍ وعيبٍ .
9- التوسُّلُ إلى الله تعالى بالربوبيَّة حالَ الدُّعاءِ، بتعبيرِهم في دُعائِهم باسمِ الربوبيَّة، أو وصْف الربوبيَّة دون اسمِ الجلالة؛ في قولهم: رَبَّنَا، لأنَّ الربوبيَّةَ بها الخَلْقُ والمُلك والتَّدبير، والقيامُ بأمورِ العِباد وإصلاحُها، ولِمَا في الربوبيَّة من الدَّلالةِ على الشَّفقةِ بالمربوب، ومَحبَّة الخيرِ له، ومِن الاعترافِ بأنَّهم عبيدُه فكان العبدُ مُتعلِّقًا بمَن شأنُه التربيةُ والرِّفقُ والإحسانُ، ولتتأتَّى الإضافةُ المفيدةُ التشريفَ والقُرب .
10- تكرَّر لفظ رَبَّنَا خمسَ مرَّات؛ كل ذلك على سَبيلِ الاستعطاف، وتَطلُّبِ رحمةِ الله تعالى بنِدائِه بهذا الاسمِ الشريفِ الدالِّ على التربيةِ والمُلكِ والإصلاح، وفيه أيضًا دَلالةٌ على الإلحاحِ في المسألة، واعتمادِ كثرةِ الطَّلب مِن الله تعالى ، وتَكرارُ الدُّعاءِ من أسبابِ الإجابة .
11- في قوله تعالى: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ بيان أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذَلَ الجهدَ في دعوةِ الخَلْق إلى الحقِّ؛ لأنَّ النداءَ يكون برفْعِ الصوت، فكأنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاة والسَّلام يدعو الناسَ بأعْلَى صوتِه يُناديهم للإيمانِ .
12- أنَّ الكلمات قد يُستغنى بمُجملها عن تفصيلها؛ لقوله: فَآمَنَّا أي: بكلِّ شيءٍ يجب الإيمان به، فكلُّ ما أخبر اللهُ به، وصَدَّقْنا به، وأَقْرَرْنا به، فهو داخلٌ في الإيمانِ باللهِ عزَّ وجلَّ .
13- الإشارةُ إلى بيانِ عِلَّة الإيمان؛ لقوله: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ؛ فالربُّ أهلٌ لأنْ يُؤمِنَ به الإنسانُ؛ لأنَّه ربٌّ خالقٌ، مالكٌ، مُدبِّر؛ فهو جديرٌ بأنْ يُؤمِن به العبدُ .
14- جوازُ التوسُّل في الدعاءِ بالأعمالِ الصالحة؛ لقولهم: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا عطفًا على قولهم: فَآمَنَّا، والتوسُّلُ بالأعمالِ الصَّالحة ممَّا ثبَت بالسُّنة أيضًا .
15- أنَّه يَنبغي للدَّاعي أنْ يُكثِرَ مِن الثناءِ على اللهِ تعالى بأسمائِه وصِفاتِه؛ لأنَّ هذا منِ وسائلِ إجابةِ الدُّعاءِ، كما قال تعالى حاكيًا عن الدَّاعينَ الذين أَثْنَى عليهم: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ.... .
16- يَتبادر سؤالٌ عندَ قوله تعالى: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ...، وهو أنَّ الخُلفَ في وعْدِ اللهِ محالٌ؛ فكيفَ طلبوا بالدُّعاءِ ما عَلِموا أنَّه لا محالةَ واقعٌ؟ والجوابُ عنه من وجوه:
الأوَّل: أنَّه ليس المقصودُ من الدَّعاء طلبَ الفِعل، بل المقصودُ منه إظهارُ الخضوعِ والذلَّة والعُبوديَّة، وكَمالِ الضَّراعة والابتهال، وقد أُمِرْنا بالدُّعاءِ في أشياءَ نعلمُ قطعًا أنَّها تُوجدُ لا محالةَ، كقوله: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء: 102]، وقوله: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر: 6].
والوجه الثاني: أنَّ وعْدَ اللهِ لا يتناول آحادَ الأمَّةِ بأعيانهم، بل إنَّما يتناولهم بحسَبِ أوصافهم؛ فإنَّه تعالى وعَدَ المتَّقين بالثواب، ووعَد الفُسَّاقَ بالعقاب، فقوله: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا معناه: وفِّقْنا للأعمالِ التي بها نَصيرُ أهلًا لوعدِك، واعْصِمْنا من الأعمالِ التي نَصيرُ بها أهلًا للعقابِ والخزي، وعلى هذا التقديرِ يكونُ المقصودُ مِن هذه الآيةِ طلَبَ التوفيقِ للطَّاعة، والعِصمةِ عن المعصيةِ، فهذه الدعواتُ ليستْ لخوفِهم من إخلافِ الميعاد، بل لخوفِهم مِن أنْ لا يكونوا مِن جملةِ الموعودِين بسبب تغيُّر الحالِ، وسوءِ الخاتمةِ والمآل؛ فمَرجعُها إلى الدُّعاءِ بالتثبيت.
الوجه الثالث: أنَّ اللهَ تعالى وعَدَ المؤمنين بأنْ يَنصُرَهم في الدُّنيا، ويَقهرَ عدوَّهم؛ فهم طلبوا تَعجيلَ ذلك .
17- قوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بيان لـعَامِلٍ، قيل: وجهُ الحاجةِ إلى هذا البيانِ هنا: دفْعُ توهُّمِ أنَّ النساءِ لا حَظَّ لهنَّ في تحقيقِ الوعد، الذي وعَد اللهُ على ألْسنةِ رُسلِه .
18- الإشارةُ إلى عِظَم هذا الثوابِ مِن قوله: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وذلك لأنَّ العَطيَّةَ تَعظُمُ بحسَب مُعطيها، والهبةَ تَعظُم بحسَبِ واهبِها، وإذا كان ذلك مِن عندِ اللهِ، كان هذا دليلًا على أنَّه ثوابٌ عظيمٌ؛ لأنَّ الثوابَ من العظيمِ عظيمٌ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ: تذييلٌ بوعيدٍ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى لا يَخفى عليه ما يَكتمُون مِن أخلاقِهم وطِباعِهم
.
- وفيه فيه تقديمٌ للخبر لِلهِ، وأفادَ هذا التقديمُ أنَّ مُلكَ السَّمواتِ والأرضِ خاصٌّ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه إذا قُدِّم ما حقُّه التأخيرُ، كان ذلك دليلًا على الحَصْر .
2- قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تقريرٌ لاختصاصِ مُلكِ العالَمِ به سبحانَه وتعالى؛ فإنَّ كونَه تعالى قادرًا على الكلِّ بحيثُ لا يشِذُّ من ملكوتِه شيءٌ من الأشياء، يَستدعي كونَ ما سواه كائنًا ما كان مَقدورًا له، ومِن ضَرورتِه اختصاصُ القُدرةِ به تعالى واستحالةُ أنْ يشاركَه شيءٌ مِن الأشياءِ في القُدرةِ على شيءٍ مِن الأشياءِ، فضلًا عن المشاركةِ في مُلكِ السَّمواتِ والأرض .
- وفيه تقريرٌ لِمَا مرَّ مِن ثُبوتِ العذابِ الأليمِ لهم، وعَدمِ نجاتِهم منه .
- وفيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ (والله) في مَوقعِ الإضمارِ (وهو)؛ لتربيةِ المهابةِ، والإشعارِ بمناطِ الحُكم؛ فإنَّ شمولَ القُدرةِ لجَميعِ الأشياءِ من أحكامِ الأُلوهيَّة، مع ما فيه مِن الإشعارِ باستقلالِ كلٍّ من الجُمَلتين بالتقرير .
3- قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ:
- قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ: جملةٌ مُستأنفةٌ سِيقتْ لتقريرِ ما سبَق مِن اختصاصِه تعالى بالسُّلطانِ القاهرِ، والقُدرةِ التامَّةِ، وصُدِّرتْ بكلمة التأكيدِ إِنَّ اعتناءً بتحقيق مضمونِها، أي: في إنشائِها على ما هي عليه في ذواتِها وصِفاتِها من الأمورِ التي يَحارُ في فَهمِ أجلاها العقولُ ، وأفاد حرفُ إِنَّ أيضًا الاهتمامَ بالخبر .
- قوله: لآيَاتٍ: التنكيرُ فيه للتفخيمِ كمًّا وكيفًا، أي: لآياتٍ كثيرةً عظيمة .
- قوله: لِأُولِي الأَلْبَابِ: فيه اختصاصٌ ، أفادَ أنَّ أصحابَ العقولِ السليمةِ هم أَوْلى النَّاسِ وأحقُّهم بهذا الوَصْفِ.
4- قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ: فيه طِباقٌ أوْضَحَ به جميعَ حالاتِ الإنسانِ الثَّلاثِ في الصَّلاة، وهي: القِيام، والقُعود، والاضطجاع على الجَنْب أو الاستلقاء ، وهو يوضِّحُ إكثارَهم مِن ذِكْر الله تعالى في جَميعِ حالاتِهم.
5- قوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ: فيه إيجازٌ، حيثُ انطوى تَحتَ هذا الإيجازِ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كلُّ مَا تمخَّض عنه العِلمُ من رَوائعِ المُكتَشفات، وبَدائعِ المُستنبَطات .
6- قوله: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلًا سُبْحَانَك: (هذا) كِنايةٌ عن المخلوق، يعني: ما خَلقتَ هذا المخلوقَ العجيبَ باطلًا، والتعبيرُ بـهَذَا ضربٌ من التَّعظيم، كقوله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
- وقوله: سُبْحَانَك: اعتراضٌ، فيه تأكيدٌ لمضمونِ ما قَبْلَه، وتمهيدٌ لِمَا بعدَه .
7- قوله: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ: جِيء بفاءِ التعقيب؛ لترتيبِ الدُّعاءِ على ما ذُكِر، وللاستعدادِ لقَبول الدُّعاءِ؛ فالفاءُ لترتيبِ المدعوِّ (الوقايةَ) على ذلك، كأنَّه قيل: وإذ قدْ عرَفْنا سِرَّك ، وأَطَعْنا أمْرَك، ونزَّهناك عمَّا لا يَنبغي؛ فقِنا عَذابَ النارِ الذي هو جزاءُ الذين لا يَعرِفون ذلك .
8- قوله: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ:
- فيه مبالغةٌ في استدعاءِ الوقايةِ، وبيانٌ لسببِه .
- وتصديرُ الجملةِ بالنِّداء رَبَّنَا؛ للمبالغةِ في التضرُّعِ .
- وتأكيدُها بـ(إنَّ)؛ لإظهارِ كمالِ اليقينِ بمضمونها، والإيذانِ بشدَّةِ الخوفِ .
- وإظهارُ النَّار في موضِع الإضمارِ؛ لتهويلِ أمرِها .
- وذِكرُ الإدخالِ تُدْخِلُ في مَوردِ العذابِ؛ لتعيينِ كيفيتِه وتَبيينِ غايةِ فَظاعتِه .
- وفي قوله: أَخْزَيْتَهُ: تهويلُ المستعاذِ منه؛ تَنبيهًا على شِدَّة خوفِهم، وطلبِهم الوقايةَ منه، وفيه إشعارٌ بأنَّ العذابَ النَّفسي أفظعُ مِن العذابِ البدنيِّ .
9- قوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ: تذييلٌ؛ لإظهارِ نهايةِ فظاعةِ حالِهم، ببيانِ خُلودِ عَذابِهم بفُقدانِ مَن ينصُرهم ويقومُ بتخليصِهم، وغَرضُه تأكيدُ الاستدعاءِ .
- وفيه: وضْع الظاهر لِلظَّالِمِينَ موضعَ المضمَر- فقد كان مُقتضَى الظاهر أنْ يُقال: (وما لهم) أو (وما له)؛ مُراعاةً لمعنى مَنْ (العموم)، أو مُراعاةً للفظِها (الإفراد)- وفائدة هذا الإظهارِ: الإشعارُ بتخصيصِ الخِزي بهم وذَمُّهم، والإشعارُ بتعليلِ دُخولِهم النارَ بظُلمِهم ووضعِهم الأشياءَ في غيرِ مواضعِها .
10- قوله: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْإِيمَانِ: فيه: تصديرُ مُقدِّمةِ الدُّعاءِ بالنِّداء رَبَّنا؛ لإظهارِ كمالِ الضَّراعةِ والابتهال .
- وفيه: إيجازٌ، حيث أَوقعَ الفِعلَ على المُسمَع، وحَذَف المسموعَ؛ لدلالةِ وصْفِه عليه، وهو يُفيد مبالغةً ليستْ في إيقاعِه على نفْس المسموعِ .
- وفيه إطنابٌ بالتَّكرار، وهو الجَمْع بين مُنَادِيًا ويُنَادِي؛ وذلك أنَّه ذَكَر النِّداءَ في الأوَّلِ مُطلقًا، ثمَّ ذَكَره في الثَّاني مُقيَّدًا بالإيمان؛ وفائدتُه تفخيمُ شأنِ المُنادِي وتعظيمُه؛ فتَنكيرُ المنادِي وإطلاقُه، ثم تقييدُه بالإيمان؛ تفخيمًا وتعظيمًا لشأنِه؛ لأنَّه لا مُنادِي أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان؛ وذلك لأنَّ المنادِي إذا أُطلق ذهَب الوهمُ إلى منادٍ للحرب، أو لإطفاءِ النَّائِرة، أو لإغاثة المكروبِ، أو الكفايةِ لبعضِ النوازل، فإذا قلت: يُنادي للإيمان، فقد رفعتَ من شأنِ المنادِي وفخَّمته .
11- قوله: فَآمَنَّا: فاء التعقيب؛ للدَّلالةِ على المبادرةِ والسَّبقِ إلى الإيمان، وذلك دليلُ سلامةِ فِطرتِهم مِن الخطأِ والمكابرة، وقد تَوسَّموا أنْ تكونَ مبادرتُهم لإجابةِ دعوةِ الإسلامِ مشكورةً عندَ الله تعالى .
12- قوله: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا: فيه تَكرارٌ؛ للتأكيد، حيث طلَبوا من اللهِ تعالى في هذا الدُّعاءِ غُفرانَ الذُّنوب، وتكفيرَ السيِّئات- على القولِ بأنَّ المرادَ بهما شيءٌ واحد-؛ وإنَّما أُعيدَ ذلك للتأكيدِ؛ لأنَّ الإلحاحَ في الدُّعاءِ والمبالغةَ فيه مندوبٌ .
- والفاء في قوله: فَاغْفِرْ لَنَا لترتيبِ المغفرةِ، أو الدُّعاءِ بها على الإيمانِ به تعالى، والإقرارِ برُبوبيَّته؛ فإنَّ ذلك مِن دواعي المغفرةِ والدُّعاءِ بها .
13- في قوله تعالى: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ... إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ: ما يُسمَّى بـ(الإسجال)؛ فقد سجَّل المولى سبحانَه على ألْسنةِ عِبادِه تحقيقَ موعودِه على لِسانِ رسولِه، وبتأمُّل قوله: مَا وَعَدْتَنَا يتَّضح أنَّ هذا الوَعدَ قد أصبح مُبرَمًا لا انفكاكَ لإبرامِه .
- وتكريرُ رَبَّنا؛ للمبالغةِ في الابتهالِ، والدَّلالة على استقلالِ المطالِب وعُلوِّ شأنها، والإعلامِ بما يُوجِب حُسنَ الإجابة وحُسنَ الإثابةِ، من احتمالِ المشاقِّ في دِين الله، والصبرِ على صُعوبة تكاليفِه .
- قوله: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ: تعليلٌ لتحقيقِ ما طلَبوا من الدُّعاء .
14- قوله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ:
- صِيغةُ الماضي في قوله: فَاسْتَجَابَ هاهنا للإيذانِ بتحقُّقِ الاستجابةِ وتقرُّرها .
- قوله: فَاسْتَجَابَ بمعنى أجاب؛ فالسِّينُ والتاءُ للتأكيدِ، و(استجاب) أخصُّ مِن (أجاب)؛ لأنَّ (استجاب) يُقال لِمَن قبِل ما دُعي إليه، و(أجاب) أعمُّ، فيُقال لِمَن أجاب بالقَبول وبالردِّ .
- وفي قوله: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ: التفاتٌ، حيث الْتفَتَ من الغَيْبةِ إلى التَّكلُّم والخِطاب؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِ الاستجابةِ، وتشريفِ الدَّاعينَ بشَرفِ الخِطاب، والمرادُ: تأكيدُ الاستجابةِ ببيانِ سببِها، والإشعارُ بأنَّ مَدارَها أعمالُهم التي قدَّموها على الدُّعاءِ، لا مُجرَّدُ الدعاءِ .
- قوله: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ: الباء للسببيَّة، كأنَّه قيل: فاستجابَ لهم ربُّهم؛ بسببِ أنَّه لا يُضيعُ عَملَ عاملٍ منهم.
- وفيه التفاتٌ إلى التكلُّم والخِطاب؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِ الاستجابةِ، وتَشريفِ الدَّاعين بشَرفِ الخِطاب، والمرادُ تأكيدُها ببيانِ سببِها، والإشعارُ بأنَّ مَدارَها أعمالُهم التي قدَّموها على الدُّعاء، لا مُجرَّد الدُّعاء، وتَعميمُ الوعدِ لسائرِ العاملين- وإنْ لم يَبلُغوا درجةَ أُولي الألباب-؛ لتأكيدِ استجابةِ الدَّعواتِ المذكورة .
- والتعبيرُ عن ترْكِ الإثابةِ بالإضاعةِ لَا أُضِيعُ؛ لبيانِ كَمالِ نزاهتِه تعالى عن ذلِك بتصويرِه بصورةِ ما يَستحيلُ صدورُه عنه من القَبائح، وإبرازِ الإثابةِ في مَعرِض الأمورِ الواجبةِ عليه .
- قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى جملةٌ معترِضة بيَّن بها شركةَ النِّساءِ مع الرِّجالِ فيما وعَد للعمَّال .
- وفيه بيان للتساوي في الأخبارِ المتعلِّقة بضمائرِ المخاطبين، أي: أنتُم في عِنايتي بأعمالِكم سواءٌ، وهو قضاءٌ لحقِّ ما لهم مِن الأعمال الصَّالحةِ المتساوين فيها؛ ليكونَ تمهيدًا لبساطِ تمييزِ المهاجِرين بفَضلِ الهجرةِ الآتي في قوله: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا... الآيات .
- ومِن بَيانيَّة، وقيل: إنَّها مؤكِّدة للنَّفي، بمعنى: عَمَل عاملٍ مِنكم ذِكرٍ أو أُنثى .
- قوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: جملة مُعترضة مُبيِّنة لسببِ انتظامِ النِّساءِ في سلكِ الرِّجالِ في الوعد؛ فإنَّ كونَ كلٍّ منهما من الآخَر- لتشعُّبهما من أصلٍ واحد، أو لفَرطِ الاتِّصال بينهما، أو لاتِّفاقهما في الدِّين والعمل- ممَّا يَستدعي الشركةَ والاتحاد .
- قوله: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا: فيه نوعُ تَفصيلٍ لِمَا أُجمل في العملِ، وتَعدادٌ لبعضِ أحاسِن أفرادِه، على وجهِ المدح والتَّعظيم ، وهو تَفريعٌ عن قوله: لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ، وهو مِن ذِكرِ الخاصِّ بعدَ العامِّ؛ للاهتمامِ بذلك الخاصِّ .

===============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (196-200)
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
غريب الكلمات:

مَتَاعٌ: مَنفعةٌ، وكلُّ ما حَصَل التمتُّع والانتفاعُ به على وجهٍ ما، والمتاعُ والمتعة: ما يُنتفعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، بل يَنقضي عن قَريبٍ، وأصل (متع): يدلُّ على مَنفعةٍ وامتدادٍ مُدَّةً في خيرٍ
.
الْمِهَادُ: الفِراشُ والقرارُ، والمهدُ: ما يُهيَّأ للصَّبي، وأصلُ المهاد: المكانُ الممهَّد الموطَّأ .
نُزُلًا: أي: ثوابًا ورزقًا، والنُّزل: ما يُعدُّ للنازلِ من الزَّاد، أو ما يُهيأ للضَّيف .
وَرَابِطُوا: اثبتُوا وداوِموا، وأصلُ المرابطة والرِّباط: ربْطُ كلِّ فريق لخيولهم في الثَّغر، كل يُعِدُّ لصاحبِه؛ فسُمِّي المقامُ بالثغور رباطًا، ومِنه: مُلازمةُ ثَغْرِ العَدُوِّ، كأَنَّهم قدْ رُبِطُوا هناك فثَبَتوا به ولازَمُوه، وربْطُ الفرس: شدُّه بالمكانِ للحِفْظ، ومنه: رِباط الخيل، وسُمِّي المكانُ الذي يُخصُّ بإقامةِ حِفظِه فيه: رباطًا، وأصل الرَّبط: الشدُّ والثبات

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يَنهى اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَنخدعَ بما يحصُلُ عليه الكفَّارُ من مَتاع الدُّنيا، وتقلُّبهم في البلادِ بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسِب، والغلبةِ في بعضِ الأوقات؛ فإنَّ ذلك مُتعةٌ قليلةٌ، فانيةٌ زائلة، ثم يكونُ مصيرُهم جهنَّمَ، وبئسَ المقرُّ.
أمَّا المتَّقون لربِّهم، فإنَّ لهم جَناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ، هي دارُهم التي يَمكُثون فيها على الدَّوام، أعدَّها اللهُ لهم مَنزلَ ضِيافةٍ، وما عندَ الله تعالى خيرٌ مِن متاعِ الدُّنيا لِمَن أطاع وأَحْسنَ العملَ.
ثم يُخبر تعالى أنَّ مِن أهل الكتاب طائفةً يُؤمنون بالله تعالى، ويُوحِّدونه، ويُؤمنون بما أُنزِلَ على مَحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما أَنزلَ الله إليهم مِن كتُب، خاضِعين لله، لا يُحرِّفون ما في كُتبهم، ولا يَكتمونه، ولا يُبدِّلونه مُقابلَ متاعٍ دُنيويٍّ زائل؛ فهؤلاء لهم عند الله ثوابٌ عظيمٌ، واللهُ سريعُ الحسابِ.
ثم يأمُر الله عِبادَه المؤمنين بالصَّبر، ومغالبةِ أعداءِ الدِّين بالصَّبر، حتى يَنتصروا عليهم، وأنْ يَلزموا الإقامةَ في الأماكنِ التي يُخشَى من وصولِ العدوِّ من خلالِها، وأنْ يَمنعوه من الوصولِ إلى مُبتغاه، وأنْ يتَّقوا اللهَ؛ وذلك مِن أجْل أنْ يفوزوا بمطلوبِهم، ويَنجُوا ممَّا يَرهبونَه.
تفسير الآيات:

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وعَد اللهُ تعالى المؤمنين بالثَّوابِ العظيم، وكانوا في الدُّنيا في نهاية الفقرِ والشِّدَّة، والكفَّارُ كانوا في النِّعم، ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ما يُسلِّيهم ويُصبِّرُهم على تلك الشِّدَّة
، فقال:
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
أي: لا تَنخدعْ- يا محمَّد- بظاهرِ ما عليه الكفَّارُ من تردُّدٍ على البلاد، وتنقُّلٍ فيها بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسبِ، بِما يجعلُهم في بَحبوحةٍ في العيش، وترَفٍ في الحياةِ، وعِزٍّ وغلبةٍ في بعضِ الأوقات .
قال تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر: 4] .
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ
أي: إنَّ هذا الذي عليه الكفَّارُ إنما هو لذائذُ فانيةٌ؛ فزمنُها محدودٌ، وتَنتهي بانقضاءِ أعمارِهم، وهي مُتعةٌ قليلةٌ كمًّا وكيفًا .
ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
أي: إنَّهم مُنتقِلون بعدَ مماتِهم وذَهابِ مُتعِهم، إلى الإقامةِ في نارِ جَهنَّم .
قال الله عزَّ وجلَّ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24] .
وَبِئْسَ الْمِهَادُ
أي: وبئس الفراشُ والمقرُّ هي، أي: جهنَّم .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله سبحانه وتعالى الوعيدَ للذين كَفروا، أتْبعَه بالوعدِ بالنُّزُل للذين آمنوا ، فقال:
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أي: أمَّا الذين امتَثلوا ما أمَر الله تعالى به، واجتَنبوا ما نهى عنه، فإنَّهم يُمتَّعون في الدارِ الآخِرةِ في جَنَّاتٍ تَجري من خلالها أنواعٌ من الأنهار، وهم ماكثونَ في هذا النَّعيمِ على الدَّوام .
نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: إنَّ الله تعالى قدْ أعدَّ لهم تلك الجنَّاتِ مَنزلَ ضِيافةٍ دائمًا مِن كرامةِ اللهِ تعالى لهم .
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ
أي: إنَّ ما عندَ اللهِ تعالى من النَّعيمِ والكرامةِ خيٌر للطَّائعين- الذين أحْسَنوا العملَ- من متاعِ الدُّنيا القليلِ الزَّائل .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى حالَ المؤمنين- وكان قدْ ذكَر حالَ الكفَّارِ مِن قبلُ بأنَّ مَصيرَهم إلى النَّار- بَيَّن في هذِه الآيةِ أنَّ مَن آمَنَ منهم كان داخلًا في صِفة الذين اتَّقْوا .
وأيضًا لَمَّا حكَى اللهُ تعالى بعضَ مخالفاتِ أهلِ الكتابِ، مِن نبْذِ الميثاق وتَحريفِ الكتابِ وغيرِ ذلك، سِيقتْ هذه الآيةُ؛ لبيانِ أنَّ أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمَن حُكيتْ مخالفاتُهم، بل منهم مَن له مَناقبُ جليلةٌ، مثل: عبد الله بن سَلَام وأصحابه .
سببُ النُّزول:
عن أنسٍ رضِي اللهُ عنه قال: لَمَّا جاء نعْيُ النَّجاشيِّ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((صلُّوا عليه، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، نُصلِّي على عَبدٍ حَبشيٍّ؟ فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ الآية)) .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
أي: إنَّ طائفةً من أهلِ الكتابِ مِن اليهودِ والنَّصارى يُؤمنون باللهِ تعالى حقَّ الإيمان، ويقرُّون بوحدانيَّته .
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
أي: إنَّهم يُؤمنون أيضًا بالقرآن، الذي أُنزل على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
أي: ويُؤمنون أيضًا بالكتُب السابقةِ، التي أَنزلها اللهُ تعالى إليهم كالتَّوراة .
خَاشِعِينَ لِلَّهِ
أي: والحالُ أنَّهم خاضِعون للهِ تعالى، مُستكينين له ومُتذلِّلين .
لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أي: لا يُحرِّفون ما في كُتُبِهم، ولا يُبدِّلونه، ولا يَكتمون ما فيها من العِلم- ومِن ذلك البشارةُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانُ صِفتِه للناس-؛ ليَحْصُلوا في مُقابلِ ذلك على متاعٍ دُنيويٍّ زائل، مِن منصبٍ، أو جاهٍ، أو مالٍ، وغير ذلك .
أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
أي: إنَّ لأولئك القومِ المؤمنين ثوابًا عظيمًا عندَ الله سبحانه .
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
أي: إنَّ حسابَ اللهِ عزَّ وجلَّ قريبٌ؛ لسُرعةِ انقضاء الدُّنيا، كما أنَّه سبحانه يُحاسبُ الخلائقَ يومَ القيامة على أعمالِهم في مُدَّةٍ وجيزٍة جدًّا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
أي: يا أيُّها المؤمنون، اصبِروا على جميعِ ما أمَرَكم اللهُ تعالى بالصَّبرِ عليه، كالصَّبرِ على طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والصَّبرِ عن مَعصيتِه، والصَّبرِ على أقدارِه سبحانه .
وَصَابِرُوا
أي: وغالِبوا بالصبرِ أَعداءَ الدِّين، حتى تَنتصِروا عليهم؛ فلا يكونوا أصْبرَ منكم .
وَرَابِطُوا
أي: والْزَموا الإقامةَ في الثُّغورِ؛ لِمَنْع العدوِّ من الوصولِ إليها، والنفوذِ منها إلى مُبتغاه .
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
أي: استعمِلوا تَقوى اللهِ عزَّ وجلَّ بامتثالِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه، ومِن ذلك: الأوامرُ السَّابقة، مِن الصَّبرِ والمصابرةِ والمرابطةِ في سبيلِه؛ وذلك مِن أجْل تحقيقِ الفوزِ بالمطلوب، والنَّجاةِ من المرهوبِ في الدُّنيا والآخِرة

.
الفوائد التربوية:

1- نَهْي المسلمِ عن الاغترارِ بما أُوتي الكفَّار من النِّعمِ والرَّفاهية؛ لقوله: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ؛ لأنَّ ما يُعطيه اللهُ العبدَ من الرَّخاء وسَعة الرِّزق والانطلاقِ في الأرض، ليس دليلًا على رِضاه عن العبدِ، وإنما المقياسُ لرِضا اللهِ عن العبدِ هو اتِّباعُ العبدِ لشرْعِ اللهِ تعالى
.
2- أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد يَستدرجُ المرءَ بإغداقِ النِّعم عليه؛ فِتنةً له، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ؛ ووجه ذلك أنَّ اللهَ مَكَّن هؤلاءِ الكفَّارَ من التقلُّبِ في البلادِ كما يَشاؤون؛ فتنةً لهم؛ ليستمرُّوا على ما هم عليه، فيكونَ ذلك شرًّا لهم- والعياذ بالله- كما قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ .
3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا فيه: أنَّ الإنسانَ وإنْ تكلَّفَ الصَّبرَ والمصابرةَ، إلَّا أنَّ فيه أخلاقًا ذميمةً تَحمِل على أضدادِها، وهي الشهوةُ والغضبُ والحِرصُ، والإنسانُ ما لم يكُن مُشتغلًا طولَ عُمرِه بمجاهدتِها وقَهرِها، لا يُمكنه الإتيانُ بالصبرِ والمصابرةِ؛ فلهذا قال: وَرَابِطُوا، ولَمَّا كانتْ هذه المجاهدةُ فِعلًا من الأفعال، ولا بدَّ للإنسانِ في كلِّ فِعلٍ يفعله من داعيةٍ وغرَض- وجَب أنْ يكون للإنسانِ في هذه المجاهدةِ غرضٌ وباعثٌ، وذلك هو تقوى اللهِ؛ لنَيل الفلاحِ والنَّجاح؛ فلهذا قال: وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
4- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه: أنَّه لا سبيلَ إلى الفلاحِ بدون الصَّبرِ والمصابرةِ والمرابطةِ؛ فلم يُفلحْ مَن أفلحَ إلَّا بها، ولم يَفُتْ أحدًا الفلاحُ إلَّا بالإخلالِ بها أو ببَعضِها

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله تعالى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، إنْ قيل: كيف جازَ أنْ يَغترَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك حتى يُنهى عنه وعن الاغترارِ به؟ فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّ مُقدَّمَ القومِ يُخاطَبُ بشيءٍ، فيقوم خِطابُه مقامَ خِطابهم جميعًا، فكأنَّه قيل: لا يَغُرَّنَّكم. والثاني: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان غيرَ مغرورٍ بحالهم، فأكَّد عليه ما كان وثبَت على الْتزامِه، كقوله: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشْرِكِينَ [الأنعام: 14]
.
2- الإشارةُ إلى أنَّ هذا النَّعيمَ الذي يُدركه الكفَّارُ في الدنيا سوف يُنسى بهذا المأوى السيِّئ؛ فإذا كان المأوى هو النارَ، نسُوا كلَّ شيء؛ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ .
3- قوله تعالى: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه عِظَمُ هذا الجزاءِ والثوابِ الذي يَحصُل لهم؛ لأنَّه نُزلٌ من عند أكرمِ الأَكْرَمِينَ، وهو الله عزَّ وجلَّ .
4- ختَم سبحانه السُّورةَ بهذه الوصيةِ للمؤمنين بقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ; قيل لأنَّها هي التي تَتحقَّق بها استجابةُ ذلك الدُّعاءِ، وإيفاءُ الوعدِ بالنَّصرِ في الدنيا، وحُسنُ الجزاءِ في الآخِرة

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ: فيه الخِطابُ للخاصِّ (النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) والمرادُ به العامُّ (أمَّته)، أو تثبيتُه على ما كان عليه كقوله: فَلَا تُطِعِ المكَذِّبِينَ [القلم: 8] ، أو لكلِّ أحدٍ
.
2- لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا: إيرادُ التقوى في حيِّز الصِّلة الَّذِينَ؛ للإشعارِ بكونِ الخِصال المذكورةِ من بابِ التقوى .
3- قوله: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ: الجملةُ تذييلٌ لِمَا قَبلَها .
- والتعبيرُ عن المتقين بــ(الأبرار)؛ للإشعارِ بأنَّ الصِّفاتِ المعدودةَ من أعمالِ البِرِّ، كما أنَّها من قَبيلِ التقوى .
4- قوله: أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: أُولَئِكَ إشارةٌ إليهم مِن حيثُ اتِّصافُهم بما عُدَّ من صِفاتِهم الحميدةِ، وما فيه من مَعنى البُعد؛ للدَّلالةِ على عُلوِّ رُتبتهم، وبُعدِ مَنزلتِهم في الشَّرفِ والفضيلةِ .
5- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:
- قوله: وصَابَرِوا: عبَّر بصِيغة المفاعَلة، مع أنَّ (المصابرة) بابٌ من الصَّبر الذي ذُكرَ قبلَه في قوله: اصْبِرُوا؛ تَخصيصًا لشدَّتِه وصُعوبتِه .
6- وفي الآية من البَلاغة: حُسنُ الختامِ، وحُسنُ البيانِ؛ حيث جاءَ ختامُ سورةِ آل عمران حَسنًا جدًّا، فكما جاءَ خِتامُ سورةُ البقرةِ مُشتملًا على الدُّعاءِ، جاءَ ختامُ سورة آل عمران مشتملًا على عَددٍ من الوصايا النافعةِ، كالدُّعاءِ وطَلبِ التَّقوى التي هي ملاكُ الأمْر وزِمامُه، وهذا هو حُسنُ الختامِ؛ ليَبقَى راسخًا في الأسماعِ، وهذا هو حُسنُ البيان ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر في هذه السُّورةِ أنواعًا كثيرةً مِن عُلوم الأصولِ- فيما يَتعلَّقُ بتقريرِ التوحيدِ والعدلِ والنبوَّة والمعاد- والفروع- فيما يتعلَّقُ بالتكاليفِ والأحكامِ نحوَ الحجِّ والجهادِ وغيرهما- ختَم هذه السُّورةَ بهذه الآيةِ المشتملةِ على جَميعِ الآدابِ؛ وذلك لأنَّ أحوالَ الإنسانِ قِسمان: منها ما يَتعلَّق به وحْدَه، ومنها ما يكونُ مُشتركًا بينَه وبينَ غيرِه، أمَّا القِسمُ الأوَّل فلا بدَّ فيه مِن الصَّبر، وأمَّا القِسم الثاني فلا بدَّ فيه مِن المصابَرة
 
الاتي سورة النساء بمشيئة الله تعالي
==================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...