حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

2. سورة البقرة {ج2.}




سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (34-39)
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
غريب الكلمات:

إِبْلِيسَ: أبو الشياطين، وأصل الإبلاس: اليأس، والحُزن المعترِض من شِدَّة اليأس، ومنه اشتقَّ إبليس، وقيل: هو اسمٌ أعجميٌّ
.
رَغَدًا: رِزقًا واسعًا كثيرًا بلا عناء، وأصله: أطيب العيش، وسعة المعيشة .
فَأَزَلَّهُمَا: أي: استزلهما، والزلة في الأصل: استرسال الرِّجْل من غير قصد، يقال: زلَّت رِجل تزل، والزلة: الخطأ؛ لأنَّ المخطئ زلَّ عن نهج الصواب، وقيل للذنب من غير قصد: زلَّة؛ تشبيهًا بزلة الرِّجْل .
حِينٍ: الحين: وقتُ بلوغ الشيء وحصولِه، أو الدهر، وأصله: الزمان؛ قليله وكثيره

.
مشكل الإعراب:

قوله رَغَدًا: منصوب على أنَّه نعت لمصدر محذوف، أي: مفعول مطلق، وتقديره: (كُلَا أَكْلًا رغدًا). أو منصوب على أنَّه حال، وقيل: هو مصدر في موضِع الحال، أي: كُلَا طيِّبينِ مهنَّئينِ

.
المعنى الإجمالي:

يُذَكِّر الله تعالى رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم بمسارعة الملائكة إلى امتثال أمر ربهم بالسجود لآدم عليه السلام حين أمرهم بذلك، وامتناع إبليس عما أمره به ربُّه سبحانه من السجود له استكبارًا وكفرًا.
وأنه أذِن الله لآدَم وزَوجِه حواءَ عليهما السَّلام بأن يَسكُنَا الجنة، وأباح لهما أنْ يأكلَا منها رِزقًا واسعًا لا عناء فيه، واستثنى شجرةً واحدة عيَّنها لهما، فنهاهما عن الاقترابِ منها؛ فإنْ فعلَا كانا من المتعدين حدودَ الله.
فأَوقعهما الشَّيطانُ في المعصية، وذلك بأنْ وسوس لهما، فكان سببًا لإخراجهما ممَّا هما فيه من النَّعيم، فأمَرَهم الله تعالى بالهبوط إلى الأرض، حيث تَنشَبُ بينهم العداوات، يستقرَّون فيها أحياءً على ظهرها، وأمواتًا في القُبور إلى قيام السَّاعة.
فلقَّن الله آدمَ كلماتٍ تحصُل بها توبتُه من المعصية التي وقعتْ منه، فلَهَج بها آدمُ عليه السَّلام، فتاب اللهُ عليه؛ فهو سبحانه قابلُ التَّوبة، الرَّحيم بعِباده المؤمنين.
وأمَر اللهُ آدمَ وحواءَ وإبليسَ بالهبوط من الجنة جميعًا، وأنبأَهم أنَّه إذا جاءهم منه شيءٌ يُرشدهم إلى الحقِّ من كتاب، أو رسول فاتَّبعوه، أنَّ لهم الأمنَ التامَّ، والسرورَ الدائم، أمَّا مَن جحَد الحقَّ، وكذَّب بالآيات، فهذا من أهل النار، الملازمين لها على الدَّوام.
تفسير الآيات:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
أي: يُذكِّر الله تعالى بأمْره لجميع الملائكة بالسُّجود لآدم إكرامًا وتعظيمًا له، وعبوديةً لله تعالى، وأنَّهم بادَروا جميعًا بالسجود، وامتنع إبليسُ من ذلك، وتَكبَّر على أمر الله تعالى، وعلى آدَم، فاتَّصف بكفرٍ عظيم
.
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ.
أي: يُبيِّن الله تعالى إكرامَه لآدَمَ وزوجِه حواءَ عليهما السَّلام، بأنْ أذِن لهما في سُكنى الجنَّة، وأباح لهما أن يأكلَا منها رِزقًا واسعًا هنيئًا، لا عناءَ فيه ، ينالانِه فيها حيثُ شاءَا، عدَا شجرةٍ واحدة فقط، عيَّنها لهم الحكيمُ الخبيرُ سبحانه، فنهاهم عن قُربانها، وإلَّا صارَا بالأكْل منها من الظالِمين، باعتدائهما على حدٍّ من حدود الله جلَّ وعلا .
كما قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229] .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: أزلَّهما قِراءتان:
1- (فأَزَالَهُما) من زالَ يزُولُ، ومعناه: فنحَّاهما .
2- (فَأَزَلَّهُمَا) مِن زَلَلت وأزلَّني غيري، أي: أوْقَعهما في الزَّلل .
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ.
أي: إنَّ الشَّيطانَ قد أوقعهما في المعصية والزَّلل، الذي أبعدهما عن الجَنَّة، وذلك بأكْلِهما من الشجرة، فكان إبليسُ بإغوائه ووسوسته سَببًا في إخراجِهما من الرِّزق الواسع، والعيش الهنِيء، الذي كانَا ينعمان به في الجنَّة .
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.
أي: أمَر الله تعالى آدَمَ وحواءَ وإبليس بالهبوطِ إلى الأرضِ؛ وأخبر بعداوة بعضهم لبعض .
كما قال عزَّ وجلَّ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50] .
وقال سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] .
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
أي: يستقرُّون على ظهرها أحياءً، متمتِّعين بما يَرزُقهم الله تعالى، إلى أجَلٍ مُعيَّن، وهو انقضاءُ أعمارهم، ويستقرُّون في بطنها مقبوريِنَ إلى وقتٍ مُحدَّد، وهو قيام السَّاعة .
قال سبحانه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف: 10] .
وقال جلَّ وعلا: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 24-25] .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى كَلِمَات قراءتان:
1- (فتلقى آدمَ من ربه كَلِمَاتٌ) على أن الكلمات قد استنقذت آدَمَ بتوفيق الله تعالى له لقوله إيَّاها .
2- (فتلقى آدمُ من ربه كَلِمَاتٍ) على أن آدم هو الذي تلقَّى الكلمات بالقَبول لمَّا علَّمه الله هذه الكلماتِ، وأمره بهن .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لقَّن آدَمَ كلماتٍ تحصُل بها توبتُه ممَّا وقَع من عصيانه لله سبحانه، فتلقَّفَها آدَمُ عليه السَّلامُ متلقِّيًا لها بالقَبول، فاعترَف بذنبه، وسألَ اللهَ تعالى مغفرتَه ورحمتَه، فَتَابَ الله عليه ورحِمه، فهو التوَّاب، أي: كثير التَّوْب، بمعنى الرُّجوع على عبدِه بقَبول التوبة، وتوبته بتوفيق عبدِه للتوبة أولًا، وقَبولها منه ثانيًا، وهو الرَّحيمُ بعباده المؤمنين، يختصُّهم برحمته سبحانه .
وهذه الكلمات مذكورةٌ في قوله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] .
والآية شبيهةٌ بقوله تعالى: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 121-122] .
وقوله سبحانه: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا.
أي: قال الله تعالى لآدَمَ وحواءَ وإبليسَ: اهبطوا من الجَنَّة، مُجتمِعين في هُبوطكم .
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: أخْبر الله تعالى الذين أهبَطهم من الجنَّة، ويدخُل في هذا الخطاب ذرِّيتهم، بأنَّه إنْ جاءهم في أيِّ وقت وحين، كتابٌ أو رسول يبيِّن لهم الطريقَ، ويرشدهم إليه، واتَّبعوه في ذلك، أنَّ لهم الأمنَ التامَّ، والسرور الدائم، فلا يخافون ممَّا يستقبلون، ولا على ما فاتهم من أمور الدُّنيا يحزنون، وبهذا تحصُل لهم السَّعادة الدنيويَّة والأخرويَّة، بإذن الله عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بشَّر المؤمنين الذين اتَّبعوا الهُدى أتْبعَه إنذارَ الكافرين الذين نابَذوه بقوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
أي: إنَّ مَن لم يتَّبع هُدى الله عزَّ وجلَّ فجَحَد الحقَّ، وكذَّب بالآيات الشرعيَّة أو الكونيَّة، فهو من أهل النارِ الملازمين لها على الدَّوام، لا يَخرُجون منها أبدًا

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- أنَّ الله تعالى قد يَمتحن العبدَ، فينهاه عن شيءٍ قد تتعلَّق به نفسُه؛ ابتلاءً واختبارا؛ كما قال تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجْرَةَ
.
2- أنَّ معصية الله تعالى ظلمٌ للنَّفس، وعدوانٌ عليها؛ لقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فوضع الأكل في غير ما يحلُّ ظلم.
3- الحذَر من وقوع الزَّلل الذي يُمليه الشَّيطان؛ لقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ؛ فالشيطان يَغرُّ بني آدَمَ كما غرَّ أباهم حين وسوس لآدَمَ وحواء، وقاسمَهُما إنِّي لكما لمن الناصِحين .
4- إضافة الفِعل إلى المتسبِّب فيه؛ لقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ .
5- أنَّه لا دوامَ لبَني آدَم في الدُّنيا؛ لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ؛ وعليه فيَنبغي للمؤمن الزُّهدُ فيها، وعدمُ الاغترار بها.
6- أنَّ الإنسانَ إذا صدَق في تفويض الأمر إلى الله، ورجوعِه إلى طاعة الله، فإنَّ الله تعالى يتوبُ عليه .
7- أنَّ آدَمَ عليه السَّلام لم يَستغنِ عن التوبة، مع علوِّ شأنه، فالواحد منَّا أَوْلى بذلك .
8- أنَّ مَن اتَّبع هُدى الله، فإنَّه آمِنٌ من بين يديه، ومِن خلفه؛ لقوله تعالى: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
9- أنَّه لا يُتعبَّد للهِ إلَّا بما شرع؛ لقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- قال الله تعالى عن نفْسه: قُلْنا ولم يقل: (قلت)؛ لأنَّ الجبَّار العظيم يُخبِر عن نفسه بفِعل الجماعة؛ تفخيمًا وإشادةً بذِكره
.
2- فضلُ آدَمَ على الملائِكة؛ لأنَّ اللهَ أمَر الملائكةَ أن يسجُدوا له .
3- تركُ المأمورِ أشدُّ مِن فعلِ المحظورِ؛ فذنبُ آدم عليه السلام كان بفعلِ المحظورِ، فكان عاقبتُه أن اجتباه ربُّه، فتابَ عليه وهدَى، وذنبُ إبليسَ كان بتركِ المأمور فكان عاقبتُه ما ذكَر اللهُ سبحانه تعالى .
4- أنَّ الجنَّةَ في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: اهْبِطُوا؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل .
5- أنَّه لا يمكن لبَني آدَم العيش إلَّا في الأرض؛ لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ .
6- مِنَّة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدَمَ، ومِنَّة الله على أبينا هي منَّةٌ علينا في الحقيقة؛ لأن النِّعمة الواصلة إلى الآباء تَلحَق الأبناء

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ الاستكبارُ يعني التزايُدَ في الكِبْر؛ لأنَّ السِّين والتاء في قوله: اسْتَكْبَرَ للمُبالغة لا للطَّلب، وجاءت بصيغة الاستفعال إشارةً إلى أنَّ صاحب صِفة الكِبْر من الناس لا يكون إلَّا متكلِّفًا له، وما هو بكبيرٍ حقًّا
.
2- الإتيانُ بخبر كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ دون أن يقول:(وكان كافرًا)؛ لأنَّ إثباتَ الوصف لموصوفٍ بعنوان كونِ الموصوف واحدًا من جماعةٍ يَثبُت لهم ذلك الوصفُ- أدلُّ على شدَّة تمكُّن الوصف منه، ممَّا لو أثبتَ له الوصفَ وحْدَه بناءً على أنَّ الواحد يزداد تمسُّكًا بفِعله، إذا كان قد شارَكه فيه جماعةٌ؛ لأنَّه بمقدار ما يرَى من كثرة المتلبِّسين بمِثل فِعله، تبعُد نفْسُه عن التردُّد في سداد عملِها، وعليه جاء قوله تعالى: أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتُ مِنَ الكَاذِبِينَ [النمل: 27] .
3- قوله: وَإِذْ قُلْنَا خِطاب بضَمير الجَمْع للتعظيم، وهو معطوفٌ على قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ؛ ففيه التفاتٌ؛ حيث غير أسلوب إسناد القول إلى الله، فأتى به مسندًا إلى ضمير العظمة وَإِذْ قُلْنَا، وأتى به في الآية السابقة مُسندًا إلى رب النبيِّ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ؛ للتفنُّن؛ ولأنَّ القول هنا تضمَّن أمرًا بفِعل فيه غضاضة على المأمورين، فناسبه إظهارُ عظمة الآمِر، وأمَّا القول السابق، فمُجرَّد إعلام من الله بمراده؛ ليظهر رأيهم، فناسبه الإسنادُ إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين، وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم .
4- قوله: فَسَجَدُوا عطف بفاء التعقيب؛ إشارةً إلى مبادرة الملائكة بالامتثال .
5- قوله: اسْكُنْ أَنْتَ فيه تأكيدٌ وتقرير لمَعنى المُضمَر، حيث أكَّد الضَّميرَ المستَتِر في: اسْكُنْ بقوله: أَنْتَ؛ ليصحَّ العطفُ عليه، ولئلَّا يكون تابعُه المعطوفُ عليه أبرزَ منه في الكلام .
الأمْر بقوله: اسْكُنْ مُستعمَل في الامتنان بالتمكين والتخويل، وليس أمرًا له بأن يسعَى بنفْسه لسُكنى الجنة؛ إذ لا قُدرةَ له على ذلك السعيِ، فلا يُكلَّف به .
6- قوله: مِنْ حَيْثُ شِئتُمَا عبر بـحَيْثُ التي للمكان المُبهَم -أي: أيُّ مكان- إشارةً إلى إطلاق الأكْل لهما من الجَنَّة على وجه التَّوسِعة البالِغة .
7- قوله: وَلَا تَقْرَبَا هذه الشَّجرةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فيه مبالغة في النهي، وتأكيد عليه؛ حيث علَّق النهي بالقربان منها؛ مبالغةً في تحريمِ الأكل، ووجوبِ الاجتناب عنه، مع أنَّ المنهيَّ عنه هو الأكْلُ من ثِمار الشجرة؛ لأنَّ النهيَ عن مجرَّد القُرْب أبلغُ، وأكَّد هذا النهيَ بالتنبيه على أنَّ القُرب من الشيء يُورِث داعيةً وميلًا يأخُذ بمجامع القلب، وهو مقتضى الألفة، والألفة داعية للمحبة، فلا يرى قبيحًا، ولا يسمع نهيًا، فيُلهيه عمَّا هو مقتضى النَّقل والعقل؛ إذ جَعَل قُربانهما إلى الشجرة سببًا لأنْ يكونَا من الظالمين، والسبب الداعي إلى الشرِّ منهيٌّ عنه، كما أنَّ السَّبب الموصل إلى الخير مأمورٌ به .
8- قوله: مِمَّا كَانَا فِيهِ إيهام ذِكر الجَنَّة أو الكرامة والنَّعيم، والتعبير عنها بذلِك (كانا فيه)؛ للإيذان بفَخامتها وجلالتِها وملابستِهما له، أي: من المكان العظيم الذي كانا مستقِرَّيْنِ فيه .
9- قوله: مِنِّي متعلق بـيَأْتِيَنَّكُم، وهذا شبيهٌ بالالتفات، لأنَّه انتقل من الضَّمير الموضوع للجمع، أو المعظِّم نفسه، إلى الضمير الخاصِّ بالمتكلِّم المفرد. وحِكمة هذا الانتقال هنا أنَّ الهُدَى لا يكون إلَّا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص كونه لا هاديَ إلَّا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يُشاركه فيه غيره الضَّميرَ الخاصَّ الذي لا يحتمل غيرَ الله تعالى .


=====


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (40-46)
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
غريب الكلمات:

وَأَوْفُوا: أي: أدُّوه وافيًا تامًّا، وأصل الوفاء: تمام الشيء، وإتمام العهد والقيام بمقتضاه، وإكمال الشَّرط
.
فَارْهَبُونِ: خافوني، وأصل الرهبة والرَّهب: مخافة مع تحرُّز واضطراب .
بِالْبِرِّ: الدِّين والطاعة، وأصله: الصِّدق في المحبَّة .
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ: لثقيلة شاقَّة، وأصل الكِبَر: خِلافُ الصِّغر

.
المعنى الإجمالي:

يُذكِّر اللهُ تعالى بَني إسرائيل- والمقصود بإسرائيل المنسوبين إليه، يعقوبُ عليه السَّلام- يُذكِّرهم بنِعمته التي أسبَغها عليهم، ويأمرُهم بالوفاء بالعهد، وبمقابل الْتِزامهم بالعهد، سيُمضي الله ما وعدَهم به، وهو إدخالُهم الجنَّةَ، ثم ذكَّرهم بأنْ يَخشوه ويخافوه.
وأمَرَهم تبارك وتعالى أن يُصدِّقوا بقلوبهم وجوارحهم بالقرآن الذي يُوافق التوراةَ التي معهم، ونهاهم أن يكونوا أوَّلَ مَن يجحَد القرآنَ ومَن أُنزل عليه، ونهاهم أيضًا أن يَبيعوا آياتِه؛ فيَدَعوا الإيمانَ به وبما أرسلَه وأنزله، ويكتموا ما ورَد في كتابهم من الحقِّ مقابلَ الدنيا وشهواتها، ثم أمرهم أن يتَّقُوه وحْدَه سبحانَه.
ونهاهم أن يخلِطوا الحقَّ بالباطل، ونهاهم أيضًا أن يُخفوا الحقَّ، وهم يعلمونه، والحالُ أنَّهم يعرِفون ما يترتَّب على إخفائهم من الضَّرَر، وأمرهم بأن يؤدُّوا الصَّلاةَ بأركانها وواجباتِها، ويعطوا الصدقةَ المفروضةَ، ويُصلُّوا جماعةً مع المؤمنين.
ثمَّ سألهم الله منكرًا عليهم أمْرَهم للنَّاس بالإيمان والخير، وترْكَهم أنفسَهم، وهم يقرؤون التوراةَ، ويعرفون ما فيها، أوَليس عندهم عقولٌ تدلُّهم على ضلالهم؟!
ثم يُرشد سبحانه وتعالى إلى الاستعانة بالصَّبر والصَّلاة في جميع الأمور، وإنْ كانت الصَّلاة ثقيلةً إلَّا على الخاشعين، وهم الذين أيقَنوا بملاقاتهم ربَّهم، وأنَّهم إليه عائِدون يوم القِيامة.
تفسير الآيات:

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.
أي: يا بَنِي يعقوب كونوا مثلَ أبيكم في متابعة الحقِّ، واذكروا نِعمَ الله تعالى على آبائكم، ومنها النِّعم التي سيأتي ذِكرُها في هذه السُّورة الكريمة، وذِكرُ هذه النعمِ يستوجب منهم القيامَ بشُكر الله تعالى عليها، بالدُّخول في دِينه ومتابعة رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام
.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.
أي: لا تُخالفوا وصيةَ الله تعالى التي عَهِدَ بها إليكم من الإيمان به سبحانه، وبرسلِه، ومنهم محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، وإقامةِ شرْعه، وبيان الحقِّ الذي تعرفونه، فإنَّكم إن أنفذتُم وصيةَ الله تعالى لكم، أمضَى لكم ما وعدَكم به، وهو تكفيرُ السيئاتِ، ودخولُ الجنَّة، ثم حذَّرهم نفْسَه بعد أن رغَّبهم، فإنْ تحقَّقت فيهم هذه الخشيةُ لله تعالى، فإنَّها تَحمِلهم على الإيفاء بعَهدِه عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [المائدة: 12] .
وقال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] .
وقال عزَّ وجلَّ: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156-157] .
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ.
أي: يأمُر اللهُ تبارك وتعالى بَني إسرائيل بأنْ يُقرُّوا بقلوبهم وجوارحِهم بهذا الذي يُوافِق ما لديهم من التَّوراة، وهو القرآنُ الذي أنزله الله تعالى على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وفي ضِمن ذلك الإشارةُ إلى أنَّ تكذيبهم للقرآن، هو تكذيبٌ لِمَا معهم من التوراة، التي يدَّعون إيمانَهم بها .
وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ.
أي: نهَى الله تعالى بني إسرائيل عن أن يكونوا أوَّلَ مَن يكفُر بالقرآن ومَن أُنزِل عليه، وهو محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فعندهم من العِلم به ما ليس عند غيرِهم، وإلَّا فإنَّه يَقتدي بهم مَن بعدهم، فيكون إثمُ كُفره عليهم .
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: نهاهم اللهُ تعالى عن أن يَبيعوا آياتِه؛ فيترُكوا الإيمانَ به سبحانه، ومتابعةَ رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام، وبيان ما في كِتابهم من الحقِّ، ومنه ما ورد فيه من أمْر محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، من أجْل الدُّنيا وشهواتها، كالإبقاء على ما يَحظَوْن به من المناصب والأموال، وغير ذلك؛ فإنَّ الدنيا بحذافيرها ثمنٌ قليل لا يُساوي شيئًا بجانب الإيمان بالله تعالى .
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.
أي: إنَّ اللهَ سبحانه وَحْدَه هو المستحقُّ للتقوى دون مَن سواه؛ فإنَّهم إذا اتَّقَوا الله وحْدَه، أوجب لهم ذلك، تقديمَ الإيمان بآياته على كلِّ شهوةٍ فانية .
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: نهَى الله تعالى اليهودَ عن خلْط الحقِّ الذي أنزله الله تعالى بالباطِل الذي افتَرَوه، بحيث لا يتمايزان، أو يُظهروا الباطلَ في صورة الحق، كما نهاهم أيضًا عن كِتمان الحقِّ، والحال أنَّهم يعلمونه، ويعلمون ما في صَنيعهم هذا من الضَّرر العظيم على الناس، ومِن الحقِّ المذكور في هذه الآية، ما يعرِفه اليهودُ مِن أمر نبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
كما قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: 71] .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.
أي: بعد أن أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ اليهودَ باعتناق دِين الإسلام، أمَرهم بأنْ يُقيموا الصَّلاة، أي: يؤدُّوها بأركانها، وواجباتِها على أحسنِ وجه، ويُعطوا الصَّدقةَ المفروضة أهلَها المستحقِّين لها، ويصلُّوا مع المصلين- ومنهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابُه رضي الله عنهم- ويكونوا من جملتهم .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: يوبِّخ اللهُ تعالى اليهودَ مُنكِرًا عليهم قُبْحَ صنيعهم في أمْر الناس بالإيمانِ والخيرِ، وتَرْكِ أنفسِهم لا يأمرونها بذلك، والحالُ أنَّهم يقرؤون التوراةَ ويتدارسونها بينهم، ويَعلمون منها ما أُمِروا به من الخير، وما عليهم إنْ قصَّروا في شرْع الله تعالى. أوَليس لهم عقولٌ يدركون بها ضلالهم، وتزجرهم عن الوقوع في ذلك ؟!
كما قال تعالى إخبارًا عن شُعَيب عليه السَّلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود: 88] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3] .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
أي: اطلبوا العونَ على جميع ما تُؤمِّلون من أمور الدُّنيا والآخِرة، وعلى تحمُّل المشاقِّ والمصائبِ بالصَّبر والصَّلاة، والصَّلاةُ ثقيلةٌ وذات مشقَّة على الأنفُس، لكنَّها سهلةٌ وخفيفةٌ على مَن خشَع، فخضَع لله تعالى واطمأنَّ إليه قلبُه، وظهرَ أثرُ ذلك الخشوعِ على جوارحهِ، وهؤلاءِ الخاشعون هم الموقِنون بعودتهم إلى الله تعالى، والحشرِ إليه يوم القِيامة

.
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] .
وقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1-2] .
الفَوائِد التربويَّة:

1- أنَّ تذكيرَ العبد بنِعمة الله عليه أدْعَى لقَبوله الحقِّ، وأقومُ للحُجَّة عليه؛ لقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
.
2- وجوب إخلاص عِبادة الرَّهبة لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ .
3- أنَّ جميع ما في الدُّنيا قليل ، كما قال تعالى: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة: 41] ، فينبغي الزهدُ فيها، وإيثار ما عند الله تعالى؛ فهو خيرٌ وأبقى.
4- وجوب تقوى الله عزَّ وجلَّ، وإفراده بها؛ لقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ .
5- مَن لَبَس الحقَّ بالباطِل، فلم يميِّز هذا من هذا، مع عِلمه بذلك، وكتَم الحقَّ الذي يَعلمه وأُمِر بإظهاره، فهو من دُعاةِ جهنمَ، والعياذ بالله تعالى .
6- وجوب بيانِ الحقِّ، وتمييزِه عن الباطِل، فيُقال: هذا حقٌّ، وهذا باطلٌ؛ لقوله تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ .
7- مَن أمَر غيرَه بالخير ولم يفعلْه، أو نهاه عن الشرِّ فلم يَتركْه، دلَّ على جهله وعدم عقلِه، خصوصًا إذا كان عالِمًا بذلك .
8- ليس في قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أنَّ الإنسان إذا لم يقُمْ بما أُمِر به أنَّه يَترُك الأمرَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر؛ لأنَّها دلَّت على التوبيخ بالنِّسبة إلى الواجبين، وإلَّا فمِن المعلوم أنَّ على الإنسان واجبَينِ: أمْر غيرِه ونهيه، وأمْر نفْسِه ونهيها، فترْك أحدهما، لا يكون رُخصةً في ترْك الآخَر؛ فإنَّ الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنَّقص الكامل أن يتركهما، وأمَّا قيامه بأحدهما دون الآخَر، فليس في رُتبة الأوَّل، وهو دون الأخير، وأيضًا فإنَّ النفوس مجبولةٌ على عدم الانقياد لمن يُخالِف قولُه فِعْلَه، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغُ من اقتدائهم بالأقوال المجرَّدة .
9- أمرُ اللهِ بالاستعانة بالصَّبر يَشمَل جميعَ أنواعه، وهو: الصَّبر على طاعة الله حتى يُؤدِّيَها، والصَّبر عن معصية الله حتى يترُكَها، والصَّبر على أقدار الله المؤلِمة فلا يتسخَّطها .
10- قوله سبحانه: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فيه الحث على الصلاة في جماعة .
11- أنَّ خشوع العبد لله، ممَّا يُسهِّل عليه العبادةَ، فكلما كان لله أخشع كان له أطوع، كما قال تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45] .
12- أنَّ المؤمنين يُوقِنون أنَّهم راجِعون إلى الله تعالى، وهذا يستلزم أمورًا:
أولًا: الخوف من الله؛ لأنَّهم ما داموا يعلمون أنَّهم راجعون إلى الله تعالى، فسوف يخافون منه، والخوفُ في القلب؛ يعني: أنهم إذا علِموا أنَّهم سيرجعون إلى الله، فسوف يَخشَونَه في السِّرِّ والعلانية.
ثانيًا: مراقبة الله عزَّ وجلَّ.
ثالثًا: الحياء منه؛ فلا يَفقِدك حيث أمَرَك، ولا يَجِدك حيث نهاك

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ الله تعالى يوجِّه الخطاب للمخاطَب؛ إمَّا لكونه أوعى من غيرِه، وإمَّا لكونه أَوْلى أن يَمتثِل، وهنا وجَّهه لبني إسرائيل؛ لأنَّهم أَوْلى أن يمتثلوا؛ لأنَّ عندهم من العِلم برسالة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّها حقٌّ- ما ليس عند غيرِهم
.
2- في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: دلالةٌ على أنَّ الصَّلاة واجبةٌ على الأمم السابقة، وأنَّ فيها ركوعًا، كما أنَّ في الصَّلاة التي في شريعتنا رُكوعًا .
3- أنَّ الأمم السابقة كانت عليهم زَكاة، قال تعالى: مخاطبًا بني إسرائيل: وَآتُوا الزَّكَاةَ .
4- جواز التعبير عن الكلِّ بالبعض إذا كان هذا البعضُ من مباني الكلِّ التي لا يتمُّ إلَّا بها؛ لقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ .
5- توبيخ بني إسرائيل، وأنَّهم جهلةٌ حمْقى ذَوُو غيٍّ؛ لقوله تعالى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا... إلى قوله: ...مَعَ الرَّاكِعِينَ فيها ترتيب عجيبٌ، من حيثُ فصاحةُ الكلام وبنائه بعضه على بعض، مع أنَّها عُطِفت بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبًا؛ إذِ افتُتحت بذِكر النِّعم، واختُتمَت بالأمر بالانقياد للمُنعِم، وذُكر بينهما تكاليف اعتقاديَّة، وأفعال بدنيَّة وماليَّة، وفي ذلك ما يدعو إلى محبَّة المنعِم، ووجوب طاعتِه
.
2- قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَأَوْفُوا وأُوفِ فيه ما يُعرَف عند البَلاغيِّين بالتَّعطُّف ويُسمِّيه بعضهم المشاركة؛ حيث علَّق لفظةً من الكلام بمعنًى، ثم كرَّرها بعينها وعلَّقها بمعنًى آخر، وهما مفترقتان؛ كلُّ لفظةٍ منهما في طرَف من الكلام، وفائدته التأكيد .
3- قوله: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، ووَإِيَّايَ فاتَّقونِ فيه تقديم ضمير الفَصل؛ لإفادة التخصيص، وهو آكَدُ في إفادة التَّخصيص من (وإياي فارهبوا) (وإياي فاتقوا)؛ لِمَا فيه- مع التقديم- من تكرير المفعول وهو الياء في (فارهبون، واتقون) إذ أصله (فارهبوني، واتقوني) .
4- قوله: تَلْبِسُوا الحَقَّ، وقوله: وَتَكْتُمُوا الحَقَّ تكرير الحقَّ لزيادة تقبيح المنهيِّ عنه؛ إذ في التصريح ما ليس في الضمير من التأكيد .
5- قوله: أَتَأْمُرُونَ الهمزة للتقرير مع التوبيخ، والتعجُّب من حالهم . وأتى بالمضارع وإنْ كان قد وقَع ذلك منهم؛ لأنَّه يُفهم من المضارع في كثيرٍ من المواضع: الديمومة وكثرة التلبُّس بالفعل؛ فصِيغةُ المضارع تُفيد التجدُّد والحدوث .
6- قوله: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ عبَّر عن ترْك فِعلهم بالنِّسيان؛ مبالغةً في الترك، فكأنَّه لا يَجري لهم على بال، وعلَّقه بالأنفُس توكيدًا للمبالغة في الغفلة المُفرِطة .
7- قوله: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ جُملة حاليَّة، وتصديرُ الكلام بالضمير وَأَنْتُمْ، فيه زيادةٌ في المبالغة، وتسجيل لتبكيتهم وتقريعهم وتوبيخهم .

=====




سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (47-57)
ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

لَا تَجْزِي: أي: لا تقضي عنها ولا تُغني، والجزاء: القضاء، وأصله: قِيام الشيء مقامَ غيره ومكافأته إيَّاه .
عَدْلٌ: أي: فدية، وأصْل العدْل: ضد الجور والظُّلم، والعَدَالَةُ والمُعَادَلَةُ: لفظٌ يقتضي معنى المساواة .
يَسُومُونَكُمْ: يُولُونَكم، أي: يولونكم إذلالًا واستخفافًا، وقيل: يُرسِلون عليكم، وسامه: كلَّفه العمل الشاق. وأصل السَّوْم: الذَّهاب في ابتغاء الشَّيء .
يَسْتَحْيُونَ: أي: يستبقونهنَّ أحياء، والاستحياء: الإبقاء حيًّا، واستفعل فيه بمعنى أفعل .
بَلَاءٌ: أي: اختبار، وأصل البلاء: إخلاقُ الشِّيء، والاختبارُ، ثم صار يُطلق على المكروه والشدَّة، ويُقال: أُبلي بالنِّعمة، وبُلي بالشدَّة .
فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ: فلقناه لكم، والفرق يُقارب الفلق، لكن الفلق انشقاق، والفَرْق انفصال، وأصْل الفَرْق: الفصل والتمييز والتزييل بين الشيئين .
جَهْرَةً: أي: علانية ظاهرًا، وأصله: إعلان الشيء وكشفُه وعلوُّه .
الصَّاعِقَةُ: هي النَّار التي تنزلُ من السَّماء عندَ اشتداد الرَّعد، أو الصَّوت الشديد من الجوِّ، والوَقعُ الشَّديدُ منَ الرَّعْدِ، أو كلُّ عذاب مُهلك (الموت، والعذاب، والنار)، ومنه: صَعق، إذا مات، وأصل صعق: يدلُّ على شِدَّة الصَّوت .
الْغَمَامَ: جمع غمامة، وهو سحابٌ أبيضُ يُواري وجْهَ السماء، لكنَّه يُبقيها مستنيرة؛ سُمِّي بذلك لأنَّه يغمُّ السَّماء، أي يَسترُها ويُواريها، وأصل الغَمِّ: ستر الشيءِ

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ، ومثله وَإِذْ آتَيْنَا، وَإِذْ قَالَ مُوسَى... وأمثالها: إذْ- في ذلك كُلِّه- ظرف زمان، متعلِّق بفعل محذوف تقديره (اذكروا)، مبني في محلِّ نصب، عطف على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ، والتقدير: واذكروا إذْ نَجَّيْناكم، واذكروا إذ فَرَقْنا...إلخ

.
المعنى الإجمالي:

يُخاطِب الله تعالى بَني إسرائيل، ويُذكِّرهم بنِعمه التي أسبغها عليهم، ويَعني بها النِّعمَ التي أَنعم بها على آبائهم، وأنَّه فضَّلهم على سائر الأُمم من أهل زمانهم، ثم بعدَ أنْ ذكَّرهم بنِعمه وفضله عليهم، حذَّرهم وخوَّفهم، وأمرَهم بأنْ يجعلوا بينهم وبين عذاب الله تعالى وقايةً في يوم القيامة، الذي لا تَقضي فيه نفْسٌ عن نفس حقًّا وجَب عليها، ولا تُقبل من نفْس شفاعةٌ لنفس أخرى، إذا كانت كافرةً، ولا يُقبل منها فِداءٌ، ولا أحد يُنقذهم من عذاب الله تعالى.
ثم ذكَّرهم بإنجائه آباءَهم من فرعون وشيعتِه، الذين كانوا يُديمون تعذيبَهم بعذاب سيِّئ شديد، وهو ذبْح الأبناء الذُّكور، واستبقاء الإناث أحياءً؛ لإذلالهنَّ وإهانتهنَّ، وفي ذلك الإنجاءِ من العذاب نعمةٌ عظيمة لهم من ربِّهم.
ثم ذَكَّر بني إسرائيل بأنَّه فَرَق البحرَ لهم؛ ليسلكوا طريقًا للنجاة، فأنقذهم الله بذلك، وأغْرَق فِرعونَ وقومَه، وبنو إسرائيل ينظرون؛ ليكون أشْفَى لصدورهم، وأنكى لعدوِّهم.
وذَكَّرهم مواعدتَه لموسى أربعين ليلةً، ثم عبادتهم العِجلَ بعد أن فارقَهم موسى، وهم في هذا الفِعل ظالمون بوضعِهم العبادةَ في غير موضعها، ثم تجاوز الله عنهم؛ لعلَّهم يَشكُرونه على هذه النِّعمة.
وذكَّرهم إعطاءَه التوراةَ لموسى؛ ليهتدوا بها باتِّباع ما فيها.
ثمَّ ذكَّرهم مناداةَ موسى لهم، وإخبارهم أنَّهم تعدَّوْا في حقِّ أنفسهم باتِّخاذهم العِجلَ معبودًا، وأنَّ عليهم التوبةَ لخالقهم، بأن يقتُل بعضُهم بعضًا، وأنَّ ذلك أفضلُ لهم عند خالقِهم الذي تابَ عليهم؛ فهو التوَّاب الرَّحيم.
وذكَّرهم حِين قالوا لموسى عليه السَّلام: لن نُقِرَّ بما جِئتَ به، حتى نرَى اللهَ عِيانًا، فعُوقبوا بالصَّعق، ينظر بعضهم لبعض وهم يموتون، ثمَّ بعثَهم الله من بعد موتهم؛ ليشكروه على نِعمته عليهم بإحيائهم.
ثمَّ ذكَّرهم بتظليلهم بسحابٍ أبيضَ رقيق في أيَّام التِّيه؛ ليقيَهم حرارةَ الشَّمس، وبإنزال المنِّ والسَّلوى وأمرِهم بالأكلِ من طيِّب الرِّزق، ثم بيَّن تعالى أنَّهم بجحودهم، وعدمِ شُكرهم ومعصيتهم، لن يضرُّوا الله شيئًا، بل ذلك مضرَّةٌ لهم.
تفسير الآيات:




(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (47).
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.
أي: يا بَنِي يعقوب كونوا مثلَ أبيكم في متابعة الحقِّ، واذكُروا نِعمه تعالى على آبائكم ذِكرًا يحملكم على شُكرها بالخضوع لله تعالى، وذلك بالدُّخول في دِينه، واتِّباع رسولِه الكريم صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومنها النِّعم التي سيأتي ذِكرُها في هذه السُّورة الكريمة [474] وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ.
أي: واذكُروا تفضيلي لكم على سائرِ الأمم من أهل زَمانِكم، من إرسال الرُّسُل منكم، وإنزال الكتُب عليكم، وغير ذلك من النِّعم الخاصَّة [475] كما قال تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32] .
وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20] .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَّرهم الله تعالى بنِعمه، عطَف على ذلك التحذيرَ من حلول نِقَمه بهم يومَ القِيامة، فقال [476] وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا.
أي: أمَرهم الله أن يعتقدوا ويَفعلوا ما يكونُ حاجزًا يَقِيهم من عذابِه سبحانه، في يوم القِيامةِ الذي لا تَقضِي فيه نفْسٌ عن نفْس حقًّا وجَب عليها لغيرها، ولا يُغني فيه أحدٌ- كائنًا من كان- عن أيِّ أحدٍ شيئًا، ولو كان من عَشيرته الأقرَبِين، أو كان الشيءُ قليلًا ويسيرًا جدًّا [477] كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان: 33] .
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ.
أي: لا يُقبَل من أيِّ نفْسٍ شفاعةٌ لنفْسٍ أخرى إذا كانت كافرةً على الإطلاق.
كما قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] .
وقال سبحانه عن أهل النار: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100-101] .
أمَّا المؤمنة فتُقبل منها، إنْ كانت الشفاعةُ بإذن الله تعالى، مع رِضاه سبحانه عن المشفوعِ له [478] .
كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ.
أي: لا يُقبَل منها فِداءٌ [479] .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران: 91] .
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 36] .
وقال تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام: 70] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... [الحديد: 15] الآية.
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ.
أي: ليس لهم أحدٌ يُنقِذهم من عذابِ الله تعالى [480] .
كما قال تعالى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق: 10] .
وقال سبحانه: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 25-26] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الأحقاف: 28] .
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49).
أي: واذْكُروا يا بني إسرائيل، نِعمتي عليكم بإنجاءِ آبائكم من شِيعة فِرعونَ وقومِه وملئِه، الذين كانوا يُذيقونهم- ويُديمون عليهم- عذابًا سيِّئًا وشديدًا، وهو ذبْح الأبناء الذُّكور، واستبقاء الإناثِ أحياءً؛ لإذلالهنَّ، وإهانتهنَّ، واستضعافهنَّ، وإنجاءُ الآباء إنجاءٌ لهم؛ ولذا وُجِّه الخِطابُ إليهم [481] .
وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
أي: وفي إنجائِنا لآبائكم من عدوِّكم نعمةٌ عظيمةٌ لكم من ربِّكم [482] .
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله سبحانه وتعالى تسلُّطَ آل فِرعون على بني إسرائيل، ذكَر مآل هؤلاء المتسلِّطين، فقال [483] :
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ:
أي: ذَكَّرَ سبحانه بني إسرائيل بأنَّه فرَق البحر لهم، وبسبب دُخولِهم فيه، ففَصَل بعضَه عن بعض؛ ليسلكوا طريقًا يابسًا بيْن أجزاء البحر، فأنقذهم اللهُ تعالى بذلك من فِرعونَ وقومِه، الذين أغْرَقهم الله تعالى جميعًا، وأمكَن بني إسرائيل من النَّظر إليهم بأبصارهم وهم يَغرَقون، فكان ذلك أشْفَى لصدورهم، وأبلغَ في إهانةِ عدوِّهم [484] .
كما قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [الشعراء: 61-66] .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَاعَدْنَا قراءتان:
1- (وَعَدْنَا) على معنى أنَّه وعْدٌ من الله تعالى لموسى عليه السلام، وليس فيه وعدٌ مِن موسى عليه السلام [485] .
2- (وَاعَدْنَا) على معنى أنَّ المواعدةَ من الله سبحانه لموسى عليه السلام، ومِن موسى عليه السلام لربِّه [486] .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ.
أي: واذكُروا يا بني إسرائيلَ مواعدتَنا لموسى تمامَ أربعين ليلةً، ثم عِبادتكم العِجلَ من بعد أنْ فارقَكم موسى متوجِّهًا إلى الموعِد، وأنتم ظالمون بوضعِكم للعبادةِ في غير موضعها؛ لأنَّ العبادةَ لا تَنبغي إلَّا لله عزَّ وجلَّ، وأنتم قد اتخذتُمُ العِجل إلهًا، والشركُ بالله تعالى ظلمٌ عظيمٌ [487] .
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52).
أي: تجاوزْنا عنكم بمحوِ أثر ذنبِكم بعبادة العِجل، فلم نعاقبْكم؛ لتكونوا من الشاكِرين نعمةَ الله تعالى عليكم بالعَفوِ [488] .
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53).
أي: واذكُروا إعطاءَنا موسى التوراةَ، التي تُفرِّق بين الحقِّ والباطل؛ لتهتدوا بها باتِّباع الحقِّ الذي فيها [489] .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54).
أي: واذكُروا حين نادَى موسى عليه السَّلام قومَه، يؤكِّد لهم ظُلمَهم لأنفسهم باتِّخاذهم العِجلَ إلهًا يعبدونه؛ ولذا فقد وجَبتْ عليهم التوبةُ من هذا الجُرم الشنيع، في حقِّ مَن أَوجدهم من العدَم، فالذي خلقَهم هو من يستحقُّ أن يُعبَد وحده لا شريك له، ثمَّ وصَف لهم كيفيَّةَ توبةِ الله تعالى عليهم بأنْ يَقتُل بعضُهم بعضًا، فذلك خيرٌ لهم عند الله تعالى، الذي تاب عليهم؛ فهو التوَّاب الرَّحيم [490] .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(55).
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً.
أي: واذكُروا حين قلتُم لموسى عليه السَّلام، لن نصدِّقك ولن نُقرَّ بما جئتَنا به، حتى نرى الله عِيانًا، ننظُر إليه بأبصارنا [491] .
كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] .
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
أي: فعاقَبَكم الله تعالى بالصَّعْقِ فمتُّم، ينظرُ بعضكم إلى بعضٍ وهم يموتون [492] .
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56).
أي: ثم أحييناكم من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم؛ لتشكروني على نعمتي عليكم بإحيائكم؛ لتحدثوا توبةً من عظيم ذنبكم [493] .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر تعالى ما دفعَه عنهم من النِّقم، ذكَّرهم أيضًا بما أسبغَ عليهم من النِّعم، فقال [494] :
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ.
أي: وارَيْنا عنكم وجْهَ السَّماء بالسَّحاب الأبيض الرَّقيق؛ لنَقِيَكم حرَّ الشَّمس في التِّيه [495] .
وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.
أي: يذكُر الله تعالى لهم أيضًا أنَّه أنزَل عليهم رِزقًا طيِّبًا سهلًا يحصُلون عليه بلا كُلفةٍ، ولا مشقَّة [496] .
والمنُّ قيل هو كل ما امتن الله تعالى به عليهم من الطعام والشراب، مما ليس في تحصيله كلفة ولا مشقة [497] .
وقيل: هوالتُّرنجبين، وهو شيءٌ أبيضُ ينزِلُ على الشَّجر كالندى، حُلوٌ، يُشبِه العسلَ الأبيض [498] .
والسَّلوى طائر، قيل: هو السُّمَانَى، وقيل: يُشبه السُّمَانَى [499] .
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.
أي: قلنا لهم: كُلوا من طيِّبات ما رزقناكم، كهذا المنِّ والسَّلوى، وهما طيِّبانِ حسًّا ومعنًى؛ للذاذة طعمهما، وحِلِّيَّتهما شرعًا [500] .
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
أي: أنعمْنا عليهم هذِه النِّعم، فقابَلوا نِعمَنا بالجحود، بعدم الشُّكر، وارتكاب المعاصي، وما وضَعوا فِعلهم ذلك وعِصيانهم إيَّانا موضعَ مضرَّة علينا، ومنقصة لنا، ولكنَّهم وضَعوه من أنفسِهم موضعَ مضرَّة عليها ومنقصة لها، والمعنى: أنَّ هذا الظلمَ واقعٌ على أنفسهم؛ حيثُ عرَّضوها به لسَخَطِ الله عزَّ وجلَّ وعِقابه، فضررُ فِعلهم عائدٌ إليهم، والله سبحانه وتعالى لا تضرُّه معاصي خَلْقه، ولا تنفعُه طاعاتُهم [501]

.


الفَوائِد التربويَّة:

1- نِسبة النِّعَم دائمًا إلى الله عزَّ وجلَّ؛ فهذه النِّعمة على بني إسرائيل لم تأتِ بكَسْبهم، ولا بكدِّهم، ولا بإرثٍ عن آبائهم، وإنَّما هي بنعمةِ الله عليهم؛ لقوله تعالى: أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ .
2- التفكُّر في سَعة حِلم الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه مهما بارَز الإنسانُ ربَّه بالذُّنوب، فإنَّ حِلم الله تعالى قد يَشمله، فيُوفَّق للتوبة، كما قال تعالى: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
3- أنَّ إنزالَ الله تعالى الكتُبَ للناس من نِعَمه وآلائه، بل هو من أكبرِ النِّعم؛ لأنَّ الناس لا يمكن أن يستقلُّوا بمعرفة حقِّ الخالق، بل ولا حقِّ المخلوق؛ ولذلك نزلت الكتُبُ تِبيانًا للناس، كما قال تعالى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
4- أنَّ الله تبارك وتعالى يُنزل الكتُب، ويجعلها فُرقانًا؛ لغايةٍ حميدةٍ حقًّا، وهي الهداية؛ لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، فمَن أراد الهداية، فلْيطلبها من الوحي الإلهيِّ .
5- أنَّه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يستعملَ الأسلوبَ الذي يَجذِب إليه الناسَ، ويعطفهم عليه؛ لقوله تعالى حكايةً عن موسى: يَا قَوْمِ؛ فإنَّ هذا لا شكَّ فيه من التودُّد، والتلطُّف، والتحبُّب ما هو ظاهر .
6- أنه يَنبغي للداعي إلى الله أن يبيِّن الأسبابَ فيما يحكُم به؛ لقوله: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ .
7- أنَّه يَنبغي التعبيرُ بما يناسب المقام؛ لقوله: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ؛ لأنَّ ذِكر (البارئ) هنا كإقامة الحُجَّة عليهم في أنَّ العِجلَ لا يكون إلهًا؛ فإنَّ الذي يستحقُّ أن يكون إلهًا هو البارئ، أي: الخالق سبحانه وتعالى .
8- أنَّ التوبة لازمةٌ على الفور؛ لقوله: فَتُوبُوا؛ لأنَّ الفاء للترتيب، والتعقيب .
9- أنَّ الأمَّة كنَفْس واحدة؛ وذلك لقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .
10- إثبات تفاضُل الأعمال؛ لقوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ .
11- في إثباتِ اسْمَي (التواب)، و(الرحيم) لله سبحانه أمَلٌ ورحمة؛ فينبغي للإنسان أن يتعرَّض لِمَا يقتضيه هذان الاسمانِ من أسماء الله، فيتعرَّض لتوبةِ الله، ورحمتِه .
12- أنَّ مَن سأل ما لا يمكن، فهو حريٌّ بالعقوبة؛ لقوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ .
13- أنَّ ألم العقوبة، ووقعَها أشدُّ إذا كان الإنسانُ ينظُر إليها؛ لقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف :

1- في قوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ قال: يُذَبِّحُونَ بدون واو، وفي سورة إبراهيم قال سبحانه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [إبراهيم: 6] فقال: وَيُذَبِّحُونَ بزيادة الواو؛ وذلك لأنه أريد بالآية التي في سورة البقرة تبيين صفات العذاب وتفسيرها؛ لذا فسر سوء العذاب بأنه التذبيح والاستحياء؛ لأنَّه لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلًا، وفي سورة إبراهيم دلَّ بسوء العذاب على أنواع غير التذبيح والاستحياء، وعطف التذبيح والاستحياء عليها؛ لأنه لما قال فيها: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ أي بأياديه ونِعَمِه عليهم ناسب العطف بالواو في قوله: وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ؛ ليدلَّ على تعدد النِّعم والأيادي .
2- أنَّ الآل يَدخُل فيهم مَن ينتسبون إليهم؛ فقد قال تعالى: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ ويدخل فيهم فرعون؛ فالرجل حيث أضيف إلى آله دخل فيهم .
3- أنَّ هلاك عدوِّ الإنسان وهو يَنظُر إليه من نِعمة الله عليه، كما قال تعالى: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
4- أنَّ الله تعالى سَخِر من فرعون، حيث أهلكه بجِنس ما كان يَفتخِر به، وأَوْرَث أرضَه موسى عليه السلام، فقد كان فرعون يقول: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ .
5- قوله جلَّ وعلا: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً عبَّر بالليالي؛ لأنَّها قبل الأيَّام، والمقرَّر في فنِّ العربية أنَّ التاريخ بالليالي؛ لأنَّها قبل الأيام .
6- نِعمة الله تبارك وتعالى بما هيَّأه لعباده من الظلِّ؛ فقد جعَل الله تعالى الغمامَ ظلًّا على بني إسرائيل .
7- قوله جلَّ وعلا في هذه الآية: وَمَا ظَلَمُونَا فيه الدَّليل الواضحُ على أنَّ نفْي الفِعل لا يستلزم إمكانَه؛ لأنَّ الله نفى عنه أنَّهم ظلموه، ونفيه جلَّ وعلا عن نفْسه أنَّهم ظلموه، لا يدلُّ على أنه يُمكنهم أن يظلموه، بل نفْي الفِعل لا يدلُّ على إمكانه

.
بلاغة الآيات :

1- في قوله: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ عطفُ الخاص على العام؛ لأنَّ قوله نِعْمَتِيَ عمَّ جميع النِّعم؛ لبيان الكمال، والتأكيد على خُصوصيَّة هذه النِّعمة، ومزيد فضلها، وتميُّزها على سائر النِّعم

.
2- في قوله: واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ تنكيرُ اليوم؛ للتهويل والتعظيم، أي: يومًا شديد الهول، عظيم الخطب، وتنكير النَّفس يُفيد العمومَ والإقناط الكُلِّي .
3- قوله: ولا هُم يُنصَرون أتى بالجُملة المعطوفة الأخيرة اسميَّةً، مع أنَّ الجمل التي قبلها فعليَّة؛ للمبالغة، وللدَّلالة على الثَّبات والدَّيمومة، أي: إنهم غير منصورين دائمًا، ولا عبرةَ بما يصادفونه من نجاح مؤقَّت .
4- قوله: بَلاء وعَظِيمٌ التنكير فيهما؛ للتفخيم والتهويل .
5- قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ حذف مفعول الاتِّخاذ الثاني، وتقرير المعنى: اتخذتُم العِجل إلهًا، وهذا المفعول الثاني محذوف في جميع القرآن، مثل قوله تعالى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 54] أي: إلهًا. وقولِه سبحانه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا [الأعراف: 148] ، أي: إلهًا، قال بعض العلماء: النُّكتة في حذفِه التنبيهُ على أنَّه لا يَنبغي لعاقل أن يتلفَّظ بأنَّ عِجلًا مُصطنعًا من حُليٍّ أنَّه إلهٌ .
6- قوله: فَتَابَ عَلَيْكُمْ فيه التفات من التكلُّم الذي يتطلَّبه سياقُ الكلام إلى الغَيبة؛ إذ كان مقتضى المقام أن يقال: (فوفقتكم فتبتُ عليكم) . ولم يقل: (فتابَ عليهم) مع أنَّ الضَّميرَ للقوم؛ لأن ذلك نِعمةٌ أُريد التذكيرُ بها للمخاطَبين لا لأسلافهم .
7- قوله: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ... خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فيه تَكرار للبارئ؛ للتوكيد، ولأنَّها جملة مستقلة؛ فناسَب الإظهار، وللتنبيه على أن هذا الفعل أفضل عند الذي أنشأكم، فكما رأى إنشاءكم، رأى توبتكم بالقتل، فينبغي التسليم له في كلِّ حال، وتلقِّي ما يرِدُ من قِبله بالقَبول والامتثال .
8- قوله: جَهْرَةً انتصب على أنَّه مصدر مؤكِّد لـ أرِنا؛ للتأكيد على أنَّهم طلبوا الرؤية العينيَّةَ، ولإزالة احتمال أن تكون الرؤية منامًا، أو عِلمًا بالقلب .
وعَدَلَ عن أن يقول: (عِيانًا) إلى قوله: (جَهرةً)؛ لأنَّ جهرةً أفصح لفظًا؛ لخفَّته؛ فإنَّه غير مبدوء بحرف حَلق، ولسلامته من حرف العِلَّة، فحسُن وقعها في الكلام، وخفَّت على السَّمع، وللقرآن السهم المعلَّى في ذلك، وهو في غاية الفصاحة .
9- قوله: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فيه عدة أوجه بلاغيَّة:
فقوله: وَمَا ظَلَمُونَا: فيه التفات؛ إذ انتقل من خِطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضَمير الغَيبة؛ للإيذان باقتضاء جِنايات المخاطبَين للإعراض عنهم، وتَعداد قبائحهم عند غيرهم، ولقصد الاتِّعاظ بحالهم، وتعريضًا بأنَّهم متمادون على غيِّهم، وليسوا مستفيقين من ضلالهم .
والجمع بين صِيغتَي الماضي والمضارع ظَلَمُونَا ويَظْلِمُونَ؛ للدَّلالة على تماديهم في الظُّلم، واستمرارهم على الكُفر .
وولَكِنْ وقعت هنا أحسنَ موقع؛ لأنَّه تقدَّم قبلها نفيٌ، وجاء بعدها إيجابٌ؛ ولأنَّه لَمَّا تقرَّر أنه قد وقَع منهم ظلمٌ، ونُفي وصولُ ذلك الظلم إلى الله تعالى، بقِيت النفسُ متشوِّفةً ومتطلِّعة إلى ذِكر مَن وقَع به الظُّلم، فاستدرك بأنَّ ذلك الظُّلم الحاصل منهم إنَّما كان واقعًا بهم .
وأَنفُسَهُمْ: معمول مُقدَّم على الخبر؛ ليحصلَ بذلك توافُق رؤوس الآي والفواصل، وللاعتناء بالإخبار عمَّن حلَّ به الفعل .
10- وفي هذه الآيات جاء ترتيب النِّعم متناسقًا، يأخذ بعضه بعُنق بعض، وهي أفعال يتلو بعضها بعضًا؛ فأوَّلها الإنجاءُ من سوء العذاب- ذبْح الأبناء، واستحياء النِّساء- بإخراج موسى إيَّاهم من مصر، ثم فَرْق البَحْر بهم وإرائهم عِيانًا هذا الخارق العظيم، ثم وعْد اللهِ لموسى بمناجاته وذَهابه إلى ذلك، ثم إيتاء موسى التوراةَ، والعفوُ عنهم بعد اتِّخاذهم العجل، وقد ختَم كلَّ فصلٍ منها بمناسبِه:
فجاءت هذه الجُمل في غايةِ الفَصاحة لفظًا، والبلاغة معنًى؛ إذ جمعت الألفاظ المختارة، والمعاني الكثيرة، متعلِّقًا أوائل أواخرها بأواخر أوائلها، مع لُطف الإخبار عن نفسه، فحيث ذكَر النِّعم صرَّح بأن ذلك من عنده، فقال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم، وقال: وظَلَّلْنَا وَأَنْزَلْنَا، وحيث ذكر النِّقم لم ينسبها إليه تعالى، وإن كانت منه حقيقةً، فقال: فَأَخَذَتْكُم الصَّاعِقةُ، وسرُّ ذلك: أنَّه موضِع تعداد للنِّعم، فناسب نِسبةَ ذلك إليه؛ ليُذكِّرهم آلاءَه .

==============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (58-61)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
غريب الكلمات:

حِطَّـةٌ: أي: حُطَّ عنَّا ذنوبَنا، وأصل الحطِّ: إنزال الشيء من علو
.
رِجْزًا: عذابًا، وأصله: الاضطراب .
وَلَا تَعْثَوْا: ولا تفسدوا، وأصل العيث: الفساد، والعيث والعثي متقاربانِ، إلَّا أنَّ العَيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يُدرك حسًّا .
بَقْلِهَا: البقل قيل: هو النَّبات الذي لا ساقَ له، وقيل: ما لا ينبت أصلُه وفرعه في الشِّتاء، وقيل غير ذلك .
قِثَّائِهَا: القثَّاء: اسم جنس واحده قُثَّاءة- بضمِّ القاف، وكسرها- قيل: هو الخيار المعروف، وقيل غير ذلك .
فُومِهَا: الفوم: قيل: هو الثوم؛ أُبدلت الثاء بالفاء، مثل: جدث وجدف للقبر. وقيل: هو الحنطة، والخبز جميعًا؛ من قولهم: فوَّموا، أي: اختبزوا- وهي لغة قديمة- ويقال: الفوم الحبوب

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ: (حطة): مرفوعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أي: سؤالنا أو رغبتنا حطة، والجملة في محل نصب مفعول به مقول القول. أو مرفوعة على الحِكاية، وهي وحدها المفعول به للقول، ومنع من ظهور علامة النصب اشتغالُ المحلِّ بحركة الحكاية. وعلى قراءة النصب: فـ(حطة) مصدر لفِعل محذوف، أي: حطّ عنا ذنوبنا حِطَّةً

.
المعنى الإجمالي:

يُذكِّر الله بني إسرائيل حين أمَرهم أن يدخلوا بيتَ المقدس، ويأكلوا منه رزقًا واسعًا هنيئًا، وأنْ يخضعوا له سبحانه عند دخولِه بالسُّجود له، وطلَب المغفرة منه جلَّ وعلا، فإذا فعَلوا ذلك فقد وعدَهم الله بمغفرة ذُنوبهم، ويَزيد الله مِن فضلِه مَن أحسن منهم.
فغيَّر الظالمون منهم القولَ الذي أُمِروا بقوله، فأنزل الله على هؤلاء عذابًا من السَّماء؛ بسببِ عِصيانهم.
وذكَّرهم حين طلَب موسى من الله تعالى ماءً يَشرَب منه بنو إسرائيل، فأمَره الله أنْ يضرِبَ بعصاه الحجرَ، فخرجتْ من الحجر اثنتَا عَشرةَ عينًا من الماء، قد علِمتْ كلُّ قبيلة محلَّها الذي تشرَب منه، وأمَرَهم أن يأكلوا ويَشرَبوا من رِزق الله، وألَّا يَسعوا في الأرض بالفساد.
ثمَّ ذكَّرهم الله تعالى حين أَخبروا موسى أنَّهم لن يصبِروا على طعام واحد، وهو المنُّ والسَّلوى، وطلَبوا منه أن يَدْعوَ لهم اللهَ؛ كي يخرجَ لهم بعضَ ما تُنبته الأرض من البَقل، والقِثَّاء، والفُوم، والعدَس، والبَصل، فاستنكر عليهم موسى استبدالَهم الطعامَ الدَّنيءَ بالأطعمةِ الهنيئة، وأمَرهم أن ينزلوا أيَّ مِصرٍ من الأمصار، فسيجِدوا ما طلبوا.
وأصبح الهوانُ والصَّغار مفروضًا عليهم، كما أنَّهم رجَعوا متحمِّلين غضَبَ الله، وهذا الذي جازاهم الله به هو بسببِ جُحودهم آياتِ الله، وتقتيلهم لأنبيائِه بغير حق، وذلِك الجزاء الذي عُوقِبوا به- أو ذلك الكُفر بآيات الله عزَّ وجلَّ والقتْل لأنبيائِه- إنَّما وقَع نتيجةَ عِصيانهم، وتجاوزِهم حدودَ الله تعالى.
تفسير الآيات:

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58).
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا.
أي: واذكُروا حين أمَرْنَا بني إسرائيل بالدُّخول لبيت المقدِس، وأن يأكُلوا منها من أيِّ مكان فيها رِزقًا واسعًا هنيئًا
.
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ.
أي: إنَّهم أُمروا أن يَخضعوا له سبحانه بالفِعل والقول عند دُخولِهم أحدَ أبواب بيت المقدس، بأنْ يدخُلوا رُكَّعًا متواضعين، وأن يَطلُبوا من الله تعالى أن يضَعَ عنهم ذُنوبَهم وخطاياهم .
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ.
أي: إذا فعلتُم يا بني إسرائيل، ما أمَرَكم الله تعالى، فسيستُر عليكم ذنوبَكم، ويتجاوز عنها، وسيَزيد سبحانه إيمانًا، أو حسناتٍ من فَضلِه- عاجلًا أو آجلًا- مَن أحْسَن في عبادة الله تعالى، ومَن أحسن للخَلْق بوجوه الإحسان المختلِفة .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59).
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
أي: فغيَّر الظالمون منهم القولَ الذي أُمِروا أن يقولوه بقولٍ غيرِه، فقالوا بدَلَ حِطَّة: حَبَّة في شَعرة، وإذا بدَّلوا القول مع خِفَّته، فتبديلُهم للفِعل من باب أَوْلى وأحرى؛ ولهذا دخَلوا يَزحَفون على أَدبارِهم .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((قيل لبَني إسرائيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، فبدَّلوا، فدخلوا يَزحَفون على أَستاهِهم، وقالوا: حبَّةٌ في شَعرةٍ )) .
فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.
أي: أنزل الله تعالى على هؤلاء- الذين استبدلُوا بالقولِ الذي أُمِروا به قولًا غيرَه- عذابًا من السَّماء؛ بسبب خروجهم عن طاعةِ الله تعالى إلى معصيتِه .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60).
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ.
أي: واذكُروا حين طلَب منَّا موسى ماءً لبني إسرائيل يَشرَبون منه .
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا.
أي: إنَّ الله تعالى قد استجاب لطلبِ موسى عليه السَّلام، فأمَره بأن يضرِبَ عصاه بحجرٍ، ففَعَل ذلك، فخَرجتْ من الحَجر اثنتَا عَشرةَ عينًا من المياه العَذْبة؛ تيسيرًا لهم، وإنعامًا من اللهِ تعالى عليهم .
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.
أي: إنَّ كلَّ قبيلةٍ من قبائل بني إسرائيل الاثنتي عَشرة، قد عرَفَتْ محلَّها الذي تَشرَبُ منه من هذه الأعين الخارجة من الحَجر، فلا يُزاحم بعضُهم بعضًا، بل يَشربونه متهنِّئين .
كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ الله.
أي: كُلُوا واشْربوا من هذا الرِّزقِ الإلهيِّ، الذي آتاكم مِن غيرِ كدٍّ ولا تعب. وهذا أمْرَ إباحةٍ وإرشادٍ لهم مِن الله تعالى .
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
أي: لا تَسْعَوْا في الأرضِ بالفَسادِ .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61).
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ.
أي: واذكُروا يا معشرَ بني إسرائيل حين أخبرتُم موسى عليه السَّلام بضجرِكم وكراهيتِكم للمَنِّ والسَّلوى، وأنْ لا طاقةَ لكم بحَبْس أنفسِكم على تناوُل هذا الطَّعام الذي رزَقَكم الله تعالى رِزقًا هنيئًا سهلًا بلا عناءٍ .
فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا.
أي: ادعُ لأجْلِنا يا موسى، ربَّك؛ كي يُخرجَ لنا بعض ما تنبته الأرضُ من البَقل والقِثَّاء والفُوم، ومن العَدَس والبَصَل .
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
أي: إنَّ موسى عليه السَّلام استنكر عليهم ووبَّخهم بسؤالِهم له طلبَ تلك الأطعمة الدَّنيئة من البقول وغيرها، مع ما لديهم من الطعام الهَنيء، مستبدلين الوضيعَ من العيش بالرَّفيع منه! فقال لهم موسى: أتأخُذون الذي هو أخسُّ قِيمةً وقدرًا من العيش، بدلًا بالذي هو خيرٌ منه قيمةً وقدرًا ؟!
اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ.
أي: هذه الأطعمةُ التي طلبتُم ليستْ بأمرٍ عزيز، بل هي كثيرةٌ؛ ففي أيِّ بلد دخلتموه ستجدون هذا العيشَ الذي تطلُبون .
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان الذي جرَى منهم أكبرَ دليل على قِلَّة صبرهم، واحتقارهم لأوامرِ الله ونِعمه، جُوزُوا من جنس عملهم، فقال تعالى :
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ.
أي: أصبح الهوانُ والصَّغار مفروضًا عليهم، وأصبح أثرُ مسكنة الفقر والحاجة والحِرص -من المهانة والخضوع على قلوبِهم، أو ظواهر أبدانهم- لازمًا لهم، كما أنَّه قد حلَّ عليهم غضبٌ من الله تعالى، ورجَعوا متحمِّلين سخطَ الله تعالى عليهم .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: هذا الذي جازيناهم من الذِّلَّة والمسكَنة، واستحقاقهم غضبَ الله عزَّ وجلَّ؛ بسبب جحودِهم آياتِ الله تعالى الكونيَّةَ والشرعيَّة، فاستكبروا عن اتِّباع الحقِّ، واعتدَوْا على أنبياء الله تعالى بالقَتْل بلا وجه حقٍّ يخوِّل تلك الأفعالَ الشَّنيعة .
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.
أي: ذلك الجزاء الذي جُوزوا به، مِن ضَرْب الذِّلة والمسكنة، وإحلال الغضبِ عليهم، أو ذلِك الكفر بآيات الله عزَّ وجلَّ، والقتْل لأنبيائه، إنَّما سببُه هو عصيانُهم لله تعالى، أي: خروجهم عن طاعته؛ إمَّا بارتكاب المحظور، وإمَّا بترْك المأمور، ومِن أسباب ذلك أيضًا استمرارُهم على تجاوُز حدود الله تعالى

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- يَنبغي على مَن نصَرَه الله عزَّ وجلَّ، وفتَح له البلادَ، أن يدخُلَها على وجه الخضوع، والشُّكر لله سبحانه؛ لقوله تعالى: وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ
.
2- أنَّ الجهادَ مع الخضوع لله عزَّ وجلَّ، والاستغفارَ سببٌ للمغفرة؛ لقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، وسببٌ للاستزادة أيضًا من الفَضل؛ لقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ .
3- أن الإحسان سببٌ للزيادة، سواء كان إحسانًا في عِبادة الله، أو إحسانًا إلى عِباد الله، كما قال تعالى: وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ .
4- مشروعيَّة الاستسقاء عندَ الحاجة إلى الماء؛ لأنَّ موسى عليه السلام استسقى لقومِه، وشَرْع مَن قبلنا شرْعٌ لنا إنْ لم يرِدْ شرعُنا بخلافه .
5- أنَّ ما خلق الله تعالى من المأكول والمشروب للإنسان، فالأصلُ فيه الإباحة والحِلُّ، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ .
6- النِّعمة على الآباء، تلحق الأبناء، والذم الذي يوصف به الآباء يلحق الأبناء إذا كانوا على طريقتهم، فقولُه تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى... فيه الخطابُ لهم بأفعال غيرِهم، ممَّا يدلُّ على أنَّ الأُمَّة المجتمِعة على دِين تتكافَل وتتساعد على مصالحها، حتى كأنَّ متقدِّمهم ومتأخِّرهم في وقت واحد، وكأنَّ الحادثَ من بعضهم حادِثٌ من الجميع .
7- أنَّ مَن اختار الأدْنى على الأعلى، ففيه شَبهٌ من اليهود، ومن ذلك هؤلاء الذين يختارون الشيءَ المحرَّم على الشيءِ الحلال .
8- أنَّ اختيار الأفضل من المآكِل، والمشارب، لا ذَمَّ فيه إذا لم يصِل إلى حدِّ الإسراف .
9- أنَّ الذي يستبدل الأدنى بالذي هو خيرٌ، يستحقُّ التوبيخَ؛ لأنَّ موسى وبَّخهم، حيثُ قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .
10- أنَّ مِن علوِّ همَّة المرء أن ينظُر للأكملِ والأفضلِ في كلِّ الأمور

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ السُّقيا كما تكون بالمطر النازِل من السَّماء، تكون بالنابِع من الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا
.
2- غَطرَسةُ بني إسرائيل، وجفاؤهم؛ لقولهم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ؛ ولم يقولوا: (ادع لنا ربَّنا)، أو: (ادع لنا الله)؛ كأنَّ عندهم- والعياذ بالله- أَنفَةٌ، مع أنَّهم كانوا مؤمنين بموسى، ومع ذلك يقولون: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، كما قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون [المائدة: 24] .
3- أنَّ بَني إسرائيل لا يقومون للمسلمين لو حاربوهم من قِبل الإسلام؛ لأنَّ ضرب الذلة عليهم وقع بسبب المَعصيةِ، فإذا حُورِبوا بالطَّاعة، فلا شكَّ أن الوبالَ سيكون عليهم .
4- يتبين من قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، أنَّ اليهود قد ضُرِبت عليهم المسكنةُ، وهذا يَشمل فقرَ القلوب الذي هو شِدَّة الطَّمع، بحيث إنَّ اليهوديَّ لا يَشبع، ولا يتوقَّف عن طلب المال، ولو كان من أكثرِ الناس مالًا؛ ويَشمل أيضًا فقرَ المال وهو قِلَّتُه .
5- في قوله تعالى: وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله إثباتُ صِفة الغضَب لله عزَّ وجلَّ

.
بلاغة الآيات :

1- قوله: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا
- فيه وضْع الظاهر الَّذِين ظَلَمُوا موضعَ المضمر فلم يقل: (فأنزلنا عليهم)؛ زيادةً في تقبيح أمرهم، وتهويل ظُلمهم، والمبالغة في ذمِّهم وتقريعهم. وللتأكيد على أهميَّة ذِكره في السِّياق؛ لأنَّهم ظلموا في الوقت الذي أَنعم الله عليهم، وعصَوْا أمْرَ ربِّهم، وأيضًا ليبيِّن أنَّ هذا الرِّجزَ مُنزلٌ عليهم بسببِ ظُلمهم، والضَّمير لا يُعطي هذا
.
وعبَّر في سورة الأعراف بالمُضمَر عَلَيهِمْ؛ لأنَّ آيات الأعراف سِيقت لمجرَّد العِبرة بقصَّة بني إسرائيل، وآيات البقرة سِيقت مساقَ التوبيخ، والقصد فيها بيان سببِ إنزال العَذاب عليهم مرَّتين .
- وتنكير رِجْزًا؛ للتهويل والتَّفخيم .
2- قوله: وَلَا تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ قوله: مُفْسِدِينَ حالٌ مؤكدة؛ ليكسُوَ النهيَ عن الفساد قوةً، ويجعله بعيدًا من أن يُغفل عنه أو يُنسى .
3- قوله: بِغَيْرِ الحَقِّ تَقييدٌ؛ لزِيادة التَّشنيع بقُبْح عُدوانهم؛ فإنَّ قتل الأنبياء لا يكون بحقٍّ البتَّةَ .
4- قوله: بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
- لم يَعطف الاعتداءَ على العِصيان؛ لئلَّا يفوت تناسبُ مقاطع الآي، وليدلَّ على أنَّ الاعتداء صارَ كالشيء الصادر منهم دائمًا .
- وفيه: لَفٌّ ونشْر؛ حيث ذكر شيئين (يكفرون- ويقتلون)، وقابلهما بشيئين (عصوا- يعتدون)؛ وذلك من محاسن الكلام .
- جوازُ إسناد الشيءِ إلى مكانه لا إلى الفاعل الأوَّل؛ لقولهم مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ؛ والذي يُنبت حقيقةً هو اللهُ سبحانه وتعالى .


=======




سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (62-66)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريب الكلمات:

وَالصَّابِئِينَ: جمْع صابئ، وهو الخارج من دِينه إلى دينٍ آخَر، وأصله الخروج، يقال: صبأت النُّجُوم خرجت من مطالعها . وهم فِرق؛ منها: الصابئة الحُنفاء .
نَكَالًا: أي: تنكيلًا وعقوبةً، وعِبرةً وعِظةً لمن وراءهم، وأصله: المنع والامتناع؛ وسمِّي النَّكال؛ لأنَّه فعل به ما يمنعه من المعاودة، ويمنع غيرَه من إتيان مِثل صنيعه .
خَاسِئِينَ: أي: باعِدين ومبعدين، وهو إبعاد بمكروهٍ، صاغرين ذَليلين، أو مُنزجِرين، ومنه: خسَأ البَصرُ، أي: انقبَض عن مَهانةٍ

.
المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى أنَّ الذين آمَنوا من أمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومَن كان منهم على الدِّين الحقِّ في وقْته قَبلَ وقوع النَّسخ، أو حدوث التحريفِ، من اليهود، والنَّصارى، والصَّابئين- يخبر أنَّ الذين أحسنوا منهم، وأطاعوا، فلهم ثوابُهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يُخلِّفونه، وأمَّا بعد بعثةِ النبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلا يَدخُل في هذا الوعدِ بـهذا الأجْر إلَّا مَن آمن به، والْتزَم بشَرعِه.
ثم ذكَّر سبحانه وتعالى بني إسرائيل حين أَخَذ عليهم عهدًا مُؤكَّدًا، بالإيمانِ به وبرُسلِه، والالتزامِ بشَرْعِه، وأنَّه رفَع فوقهم الجبلَ لتخويفهم؛ كي يُقرُّوا بما عُوهدوا عليه، وأمَرَهم بأخْذ التوراة بهِمَّة وحزْم، وأن يذكروا ما فيها، بأنْ يتلوها ويَعمَلوا بما فيها؛ رجاءَ أن يكونوا من المتَّقين.
ثم أخبَر سبحانه وتعالى أنَّهم نقَضُوا العهدَ، وأعرضوا عنه، فلولا أنْ أكرمَهم الله تعالى، فتداركهم بالتوبةِ، لكانوا من الهالِكين في الدُّنيا والآخِرة.
وقد عَرفتم يا معشرَ اليهود، الذين تَعدَّوْا حدودَ الله منكم، وتجاوزوا ما أمرهم الله به مِن تَرْك صَيد البَحر يومَ السَّبت، فمَسخَهم الله في صور قِردَةٍ حَقيرينَ ذَليلينَ، فجَعَل الله هذه العقوبةَ رادعةً لِمَن حول الممسوخين، وتذكرةً للمتَّقين؛ ليعتبروا بها.
تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
في توسط هذه الآية بين آيات ذِكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث، مناسبة بليغة؛ إذ بيَّن لهم في هذه الآية أنَّ باب الله مفتوح لهم، وأن اللجأ إليه أمر هيِّن عليهم، وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات، بعدما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى، وما أصابهم من ضرْب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم، وما في هذا من إفزاع لهم فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62).
أي: إنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَر قبائح بني إسرائيل وذمَّهم، بيَّن طائفةً لم يَلحقْها هذا الذمُّ، ولَمَّا كان ذِكرُ بني إسرائيل خاصَّةً يُوهِم اختصاصهم بهذا الفضل، ذكَر سبحانه حُكمًا عامًّا يشمل عددًا من أتباع الشَّرائع الأخرى.
وعنَى بالذين آمنوا: أُمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّهم هم الذين يستحقُّون الوصفَ بالإيمان المطلَق؛ حيث آمنوا بجميع الكتُب، والرُّسل؛ ولكثرة إيمانهم، وشِدَّة إيقانهم. واليهود هم أتباعُ موسى عليه السَّلام قَبل نَسْخ دِينهم، وقبل تحريفِه، والنصارى أتباعُ عيسى عليه السَّلام قَبل نسْخ دِينهم، وقبل تحريفه، وأمَّا الصابئون فهم فِرق؛ منها: الصَّابئة الحُنفاء، الذين بَقُوا على فِطرتهم بتوحيد الله عزَّ وجلَّ، وتحريم الظُّلم والفواحِش، وغير ذلك، من غير تقيُّد بمِلَّة ولا نِحلة، ودون أن يُحدِثوا كُفرًا.
فمَن أحسن مِن هذه الأُمم السالِفة، وأطاع، فإنَّ لهم الثوابَ من عند الله عزَّ وجلَّ، ولهم السَّعادة الأبديَّة، فلا خوفَ عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما يُخلِّفونه.
وهذا الحُكم بين هذه الطَّوائف من حيثُ هم؛ فإنَّ هذا إخبارٌ عنهم قَبل بعثةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأمَّا بعدَ بعثةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلا يُعدُّ مؤمنًا، ولا ينال هذا الأجْر مَن لم يؤمنْ برسالة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ولم يعملْ بمقتضاها .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.
أي: واذكُروا حِين أخْذنا عليكم عهدًا مؤكَّدًا بالإيمان به وبرُسله، والالتزام بشَرْعه، ورَفعْنا فوقكم الجبلَ لتخويفكم؛ كي تُقرُّوا بما عُوهِدتم عليه، وتَعمَلوا به .
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
أي: قُلنا لهم: تلقَّوُا التوراةَ التي أعطيناكم إيَّاها، بهمَّةٍ وحَزمٍ، وجدٍّ ونشاط، واذكُروا ما فيها بأنْ تتلوها، وتتعلَّموا ما فيها، وتتدبَّروها، وتعمَلوا بمقتضاها، من أجل أن تكونوا من المتَّقين .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64).
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.
أي: بعد هذا المِيثاق المؤكَّد أعرضتُم عنه، ونقضتموه بترْك العمل به .
فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
أي: لولا أنْ أكرمكم الله تعالى، فتداركَكم بالتوبةِ وإرسالِ الرُّسل، وآخِرهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، لكُنتم من الهالِكين في الدُّنيا والآخِرة .
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65).
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ.
أي: قد عرفتُم يا معشرَ اليهود، ما حلَّ بمَن جاوزوا منكم ما أُمِروا به مِن ترْك صيدِ البحر يومَ السَّبت، فاحتالوا على هذا الأمر، مُتعدِّين حدود الله عزَّ وجلَّ .
فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ.
أي: لَمَّا فَعلوا ذلك، مَسخَهم اللهُ تعالى، فصيَّرهم بقُدرته سبحانه في صورة القِرَدة، حَقيرينَ ذَليلِين .
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66).
أي: جعَلْنا هذه العقوبةَ رادعًا لِمَن حول أولئك الممسوخين قِردةً، وتذكرةً نافعةً للمتَّقين؛ لينزجِروا بها ويَعتبِروا

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- إذا ذُكِر الثناءُ بالشرِّ على طائفة، وكان منهم أهلُ خير، فإنَّه ينبغي ذِكرُ أولئك الذين اتَّصفوا بالخير؛ حتى لا يكون قدحًا عامًّا .
2- مِن ثمرات الإيمان بالله واليومِ الآخِر، حصولُ الأجْر، وانتفاء الخوف ممَّا يُستقبل، وانتفاء الحزن على ما مضَى، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
3- الأخْذ بالكتاب المُنَزَّل يوجِب التقوى؛ لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
4- الإنسان لا يستقلُّ بنفسه في التوفيق؛ لقوله تعالى: فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ .
5- تحريم الحِيَل، وأنَّ المتحيِّل على المحارم لا يخرُج عن العدوان؛ لقوله تعالى: الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ .
6- أنَّ العقوبات فيها تنكيلٌ حتى لغيرِ الواقِع في الذَّنب؛ لقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا، ومن ذلك الحدود الشرعيَّة نكالٌ للفاعل أن يعودَ مرَّةً أخرى إلى هذا الذَّنب، ولغيرِ الفاعل

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- عُتوُّ بني إسرائيل؛ حيثُ لم يؤمِنوا إلَّا حين رُفع فوقهم الطور، كأنَّه ظُلَّة، وظنُّوا أنَّه واقع بهم؛ فحينئذٍ آمنوا .
2- لُؤم بني إسرائيل؛ لأنَّهم بعد أن رجَع الجبلُ إلى مكانه تولَّوْا، كما قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وهذا من اللؤم .
3- توبيخُ اليهود الموجودِين في عهد الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على عدمِ الإيمان به؛ ووجه ذلك: أنَّهم علِموا ما حلَّ بأسلافِهم من النَّكال بسببِ المخالَفة، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ...؛ فكان ينبغي أن يتعظوا بذلك، ويرتدعوا به عن مَعصيةِ الله تعالى ورسولِه عليه السلام

.
بلاغة الآيات:

1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
- هذه الآية تكررت أيضًا في سورة المائدة وسورة الحج مع اختلاف بتقديم الصُّنوف وتأخيرها، واختلاف في إعراب الصَّابِئِينَ حيث نُصِبت هنا وفي سورة الحجِّ أيضًا، بينما رُفعت في سورة المائدة؛ وهذا لفائدةٍ تقتضي ذلك؛ فقيل: لأنَّ النصارى مقدَّمون على الصَّابِئِينَ في الرتبة؛ لأنَّهم أهل كتاب، فقدَّمهم في البقرة. والصابئون مقدَّمون على النصارى في الزمان؛ لأنهم كانوا قبلَهم، فقدَّمهم في الحج. وراعى في المائدة المعنيين فقدَّمهم في اللفظ وأخَّرهم في التقدير؛ لأنَّ تقديره عند البصريِّين، وأكثر الكوفيين: التأخير على معنى والصابئون كذلك

.
- ومن بديع البلاغة: أنْ قرن مع اليهود في ذلك ذكر بقيةٍ من الأُمم؛ ليكون ذلك تأنيسًا لوحشة اليهود من القوارع السَّابقة في الآيات الماضية، وإنصافًا للصالحين منهم، واعترافًا بفضلهم، وتبشيرًا لصالحي الأُمم من اليهود وغيرهم الذين مضَوْا؛ فقدْ وفَت الآية حقَّ الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتين للآيات المتقدِّمة مناسبةَ اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبةَ ذِكْر الضدِّ بعد الكلام على ضدِّه .
- ومجيء (إنَّ) هنا لمجرد الاهتمام بالخبر، وتحقيقه لدفع توهُّم أنَّ ما سبق من المذمَّات شامل لجميع اليهود؛ فإنَّ كثيرًا من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلت كانوا مثلهم في الضلال .
- وابتُدئ بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم؛ ليكونوا في مقدمة ذِكر الفاضلين، فلا يذكر أهل الخير إلَّا ويذكرون معهم .
- وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ: التعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي؛ لإفادة نفْي جنس الخوف نفيًا قارًّا؛ لدلالة الجملة الاسميَّة على الدوام والثبات، والتعبير في نفي خوف الحزن بالخبر الفعلي وهو (يحزنون)؛ لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخِرة بخلاف غير المؤمنين .
وفي ختْم هذه الآية بقوله: وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مناسبة ظاهرة؛ لأنَّ من استقرَّ أجره عند ربه لا يلحقه حزنٌ على ما مضَى، ولا خوف على ما يُستقبل .
2- قوله: ميثاقكم جاء على صيغة الإفراد ولم يقل: (مواثيقكم)؛ للدَّلالة على أنَّ كل واحد منهم قد أخَذ ذلك، ولبيان أنَّه كأن شيئًا واحدًا أُخذ من كل واحد منهم، كما أُخذ على غيره، فكان كله ميثاقًا واحدًا، ولو قيل: (مواثيقكم) لأشبه أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد .
3- وَلَقَدْ عَلِمْتُم اللام في (لقد) لام توكيد، ويحتمل أن تكون جوابًا لقسم محذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد باللام، و(قد) والقَسم المحذوف؛ لأنَّ مثل هذه القصة يمكن أن يُبهِتوا في إنكارها؛ وذلك لما نال في عقبى أولئك المعتدين من مسخهم قردة، فاحتيج في ذلك إلى توكيد، وأنهم علموا ذلك حقيقة

======


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (67-74)
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
غريب الكلمات:

فَارِضٌ: مُسنَّة، والفارض: المسنَّة من البَقر، أو الهَرمة، والفارض هُوَ الضَّخم من كل شَيْء، وأصل الفرض: التأثير في الشيء بقطع أو غيره
.
بِكْرٌ: أي: صغيرة لم تلد، وأصله: أول الشيء وبدؤه؛ ولذا سُمِّيت التي لم تُفتضَّ بكرًا .
عَوَانٌ: أي: نصف بَين الصَّغيرة والمُسِنَّة، والمتوسِّطة بين السِّنينِ .
فَاقِعٌ: أي: ناصع صاف؛ يقال: أصفر فاقع: إذا كان صادِقَ الصفرة، كقولهم: أسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضِر؛ فهذه التوابع تدل على شِدَّة الوصف وخلوصه .
ذَلُولٌ: التي قد أذلَّها العمل، وأصل الذل: الخضوع، والاستكانة، واللين. والذل: ضد العز، وخلاف الصُّعوبة. وقيل: بالضم ما كان عن قَهْر، وبالكسر: ما كان عن تصعُّب، وهو الذلول من الدَّواب .
تُثِيرُ الْأَرْضَ: أي تقلبها للزراعة، وأصل الإثارة: الاستخراج والقلقلة من مكانٍ إلى مكان .
مُسَلَّمَةٌ: أي: مُخلَّصة، ومبرَّأة من العيوب، وأصْل السلم والسلامة: الصحة والعافية، والتعرِّي من الآفات الظاهرة والباطنة .
لَا شِيَةَ: لا لون فيها سِوى لون جميع جِلدها، والشية: مأخوذة من وشيت الثوب: إذا جعلت فيه أثرًا يُخالف معظمَ لونه، أو نسج على لونين مُخْتَلفين .
فَادَّارَأْتُمْ: أي: تدافعتُم، واختلفتم، أو اختصمتم، وأصل الدَّرْء: دفْع الشيء

.
مشكل الإعراب:

1- قوله لا فَارِضٌ: لا: نافية، لا عمل لها. وفارضٌ: مرفوع، صفة لـ(بقرةٌ) و(لا) معترضة بين الصِّفة والموصوف. ويجوز أن يكون (فارض) خبرًا لمبتدأ محذوف، أي: لا هي فارض. ومثله وَلَا بِكْرٌ ومثله لَا ذَلُولٌ
.
2- قوله: عَوَانٌ: مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هي عوانٌ. ويجوز أن يكون صفة لـ(بقرة) والأول أحسن؛ لبُعد الموصوف

.
المعنى الإجمالي :

يُذكِّر اللهُ سبحانه بني إسرائيل بإخبار موسى لآبائهم بأمْر اللهِ تعالى لهم بذْبْح بقرة؛ كي يضربوا القتيلَ بجزء منها، فيَحيَا ويُخبر بقاتله، فاستنكروا على موسى ذلك، وتَعنَّتوا كعادتِهم، واتَّهموه بأنَّه يسخَر منهم، فاستعاذ باللهِ أن يكون من السُّفهاءِ الذي يَسخَرون من الناس.
فقالوا لموسى- مشدِّدين على أنفسِهم ومُتعنِّتين-: اسأل ربَّك يَصِفْها لنا؛ لنعرفها، فذكَر لهم موسى بأنَّها بقرةٌ متوسِّطة السنِّ، ليست بالكبيرة الهَرِمة، ولا بالصَّغيرة، وأمرهم أنْ يقومُوا بفعل ما أُمِروا به، فطَلبوا منه أن يسأل ربَّه أيضًا عن لون البقرة! فكان الجوابُ: أنَّها بقرة صفراءُ صافيةٌ، شديدةُ الصُّفرة، تُدخِل السرورَ على مَن نظر إليها.
فعادوا طالبِين من موسى مُجدَّدًا أن يسأل ربَّه أن يُبيِّن لهم مزيدًا من أوصافها؛ وحُجَّتهم أنَّ البقرة المطلوبة الْتبَستْ عليهم بين غيرها من البَقر، وأوْضَحوا بأنَّهم بإذن الله سيهتدون.
فقال موسى: إنَّ الله يقول بأنَّ هذه البقرة ليستْ مُذلَّلة بالعمل، لم تُعَدَّ لتقليب الأرض للحَرْث، أو سقي الزَّرع، وهي أيضًا سليمةٌ من جميع العيوب، ولا يُخالِط لونَ جلدِها الأصفر الفاقِع أيُّ لونٍ آخَر.
فقالوا حِينها: اتَّضح الحقُّ الآن، وجئتَ بالصِّفات التي تُميِّزها عن غيرها يا موسى، فوجدوها، وذبحوها، وقد قارَبوا ألَّا يفعلوا!
ثمَّ ذكَّرهم سبحانه حين قتَلوا نفْسًا، ثم تنازَعوا فيها؛ كلٌّ يَدفَع القتلَ عن نفسه، والله سبحانه مُظهِرٌ القاتلَ؛ ليُعلم ما كانوا يُخفونَه، ولينتفيَ النِّزاع بينهم.
فأمَرَهم الله جلَّ وعلا أن يضرِبوا القتيل ببعض البَقرة، ففعلوا، فحَيِيَ بإذن الله، وأخبرهم بقاتله، وكما أحيا الله هذا القتيلَ، كذلك يُحيي الموتى بعد مماتهم، فيبعثهم يومَ القيامة، ويُظهر الله تعالى آياتِه الواضحاتِ؛ لعلَّهم ينزجرون ويمتنعون عن عِصيانه.
ثمَّ غلُظت قلوبُهم، ولم يكن ينبغي لهم ذلك بعدَما عاينوا تِلك الحادثةَ الخارقة للعادة! فصارتْ قلوبهم في غِلظتها كالحجارة، أو أشدَّ صلابةً من الحجارة؛ فإنَّ الحجارة مع قسوتها أفضلُ من قلوب أولئك القوم؛ فإنَّ منها ما يتصدَّع فيخرج منه الماء، ومنها ما يسقُط من علوٍّ إلى سُفول من خشيةِ الله سبحانه، وما الله تبارك وتعالى بغافلٍ ولا ساهٍ عن أفعالهم، بل سيُجازيهم عليها أتمَّ الجزاء.
تفسير الآيات:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
أي: واذكروا يا بني إسرائيل، حين أخبَر موسى عليه السَّلام آباءَكم بأمْر الله تعالى لهم بذَبْح بقرة؛ كي يضربوا القتيل بجزء منها، فيَحيا القتيل، ويُخبرهم بقاتله، ولم يُحدِّد الله تعالى لهم بقرةً معيَّنة ولم يخبرهم بأوصاف محدَّدة، بل أي بقَرة ذبَحوها، فإنَّها تُفيد في تحقيق المطلوب
.
قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا.
أي: إنَّهم استنكروا على موسى عليه السَّلام أمْره بذَبح بقرة، ورأوا أنَّ جوابه غيرُ محقِّقٍ لمقصودهم، فظنوا بموسى عليه السَّلام أنَّه هازئٌ وساخرٌ بهم في ذلك .
قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
أي: إنَّ موسى عليه السَّلام استعاذَ بربِّه عزَّ وجلَّ من أن يكونَ في عِداد السُّفهاء، الذين يَستهزِئون بالنَّاس .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68).
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ.
أي: يُخبِر سبحانه عن تعنُّت بني إسرائيل، وكثرةِ سؤالهم لموسى عليه السَّلام، وأنَّهم لَمَّا ضيَّقوا على أنفسهم ضُيِّق عليهم، ولو أنَّهم ذَبَحوا أيَّ بقرة لكفتْهم، لكنَّهم شدَّدوا، فشُدِّد عليهم، فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِي، أي: اسأل لنا ربَّك ما هذه البقرة؟ صفْها لنا؛ لنعرفَها .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ.
أي: قال لهم موسى عليه السَّلام: إن الله تعالى يقول: إنَّ البقرة التي سألتُم عنها ليستْ في سِنِّها بالكبيرة الهَرِمة، وليست بالصَّغيرة التي لم يَنكِحْها الفحلُ فتلِد، بل هي متوسِّطة في السِّنِّ بين الكبيرة جدًّا، والصغيرة جدًّا. أَمَا وقد أتاكم العلمُ، فاذبحوا البقرةَ التي أُمرتم بذَبْحها؛ لتصِلوا إلى قاتل قتيلكم .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69).
أي: طلَب بنو إسرائيل من موسى عليه السَّلام أن يَسألَ ربَّه عن لون البَقرة المطلوب ذبْحها، فجاءَهم الجوابُ بأنَّها بقرةٌ صفراءُ صافية، شديدةُ الصُّفرة، وتُدخِل السُّرورَ على مَن نظَر إليها؛ لشِدَّة حُسنها وجمال منظرها .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ (70).
أي: طلَبوا من موسى عليه السَّلام- من تعنُّتهم- طلبًا ثالثًا بسؤال ربِّه؛ كي يبيِّن لهم المزيدَ من صفات البقرة المطلوبِ ذبحُها، مُتذرِّعين في طلبهم هذا بحُجَّة الْتِباس البقرة المطلوبة من بين غيرها من البَقر، فلم يَهتدوا- بزَعْمِهم- إلى ما يُريدون، وأخَذوا على أنفسهم أنَّهم سيهتدون؛ ولكنَّهم علَّقوا ذلك بمشيئة الله تعالى .
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71).
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا.
أي: قال لهم موسى عليه السَّلام: إنَّ الله تعالى يقول: إنَّ البَقرة التي أمرتكم بذَبْحها ليستْ مُذلَّلة بالعمَل، فليست بالتي أُعِدَّت لتقليبِ الأرض للحَرْث، أو سَقي الزَّرع، كما أنَّها سليمةٌ من كلِّ عيب، ولا يخالط لونَ جلدها الأصفر الفاقِع أيُّ لون آخَر .
قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ.
أي: قالوا قد اتَّضح للتوِّ الحقُّ في أمْر البقرة، وجئتَ لنا يا موسى بصِفاتها التي تُميِّزها عن غيرِها، فنستطيع معرفتَها، فوجدوها وذبَحوها، وقد أوشكوا على ترك ذبْحها .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72).
أي: واذكُروا يا بني إسرائيل، حين قتلتم نفسًا، فتنازعتُم واختلفتم فيها، كلٌّ يَدفَع قتْلَها عن نفْسه .
وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
أي: إنَّ الله تعالى مُظهِرٌ هذا القاتل؛ ليُعلَمَ .
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73).
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا.
أي: أمَرَهم الله جلَّ ثناؤه أن يضربوا القتيلَ ببعض البقرة؛ ليحيا المضروب، فضَربوه، فحيِيَ بإذن الله عزَّ وجلَّ، وأخبرهم بقاتله .
كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى.
أي: كما أحيا اللهُ تعالى هذا القتيلَ في الدُّنيا، فكذلك يُحيي الموتى بعد مَماتِهم، فيبعثهم يومَ القِيامة .
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
أي: يُظهر اللهُ تعالى لكم العلاماتِ الواضحةَ على كمال قُدرته في إحيائه الموتى، وبَعثِهم بعد موتهم؛ كي تنزجِروا عمَّا يضرُّكم، وتمتنعوا عن عِصيانه جلَّ وعلا .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74).
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
أي: جَفَت قلوبُكم وغلُظت، ولم يكن ينبغي أن تكون كذلك من بَعدِ الأمرِ الذي عاينتموه، وهو إحياءُ القتيل، الذي هو سببٌ عظيمٌ للِين القلوبِ ورِقَّتِها، وانقيادِها للحقِّ؛ فقلوبكم في غِلظتها وشدَّتِها كالحجارة، أو أشدُّ صلابةً من الحجارة .
وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله.
أي: إنَّ الحجارةَ مع قسوتها أفضلُ من قلوبِ أولئك القومِ التي لا تَلين ولا تخشع؛ ذلك بأنَّ هناك أنواعًا من الحجارة تَسيل منها أنهارٌ من المياه، ومنها أنواعٌ تلين وتتصدَّع فيَخرُج منها الماء، ومنها ما يَتردَّى من علوٍّ إلى سُفول؛ من خَشيةِ الله تبارك وتعالى .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ الله سبحانه غيرُ غافلٍ عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساهٍ عنها، بل هو حافظٌ لها، وسيُجازيهم على ذلك أتمَّ الجزاء

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- أنَّه ينبغي للإنسان أن يمهِّدَ للأمر، أو الخبر الذي يعتزم قوله، بما يؤدِّي إلى قَبوله؛ لقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً
.
2- أنَّ جميع الخَلْق محتاجون إلى الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتصام به عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ موسى صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان من أُولي العزمِ من الرُّسُل؛ ومع ذلك فهو محتاجٌ إلى الالتجاء إلى ربِّه تبارك وتعالى؛ لقوله تعالى: قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ .
3- أنَّ الاستهزاءَ بالنَّاس من الجَهل، والحُمق، وقلة العقل؛ لقول موسى عليه الصَّلاة والسَّلام: أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ .
4- أنَّ مَن شدَّد على نفْسه، شدَّد الله عليه، كما حصَل لبني إسرائيل؛ فإنَّهم لو امتثلوا أوَّلَ ما أُمِروا، فذبَحوا أيَّ بقرة، لكفاهم، ولكنَّهم شدَّدوا، وتعنَّتوا، فشدَّد الله عليهم .
5- أنَّه ينبغي الاعتناءُ بمعنى القِصَّة، وغرضِها، دون النظر المجرد إلى مَن وقعَتْ عليه؛ لقوله تعالى: بِبَعْضِهَا ولم يعينْ لهم ذلك .
6- أنَّ المُبهَم في أمور متعدِّدة أيسرُ على المكلَّف من المعيَّن؛ وذلك إذا كانوا قد أُمروا أن يَضرِبوه ببعضها فقط .
7- أنَّ بيانَ الأمورِ الخفيَّة التي يحصُل فيها الاختلاف، والنِّزاع، من نِعمة الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
8- أنَّ الله سبحانه وتعالى يُخرِج ما يكتمُه أهلُ الباطل، ويبيِّنه للناس؛ لقوله تعالى: وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، فلْيحذرِ الإنسانُ من أن يكتُمَ شيئًا لا يرضاه الله عزَّ وجلَّ

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- تعنُّتُ بني إسرائيلَ، وسوءُ أدبِهم معَ أنبيائِهم؛ حيث قالوا لنبيِّهم عليه الصَّلاة والسَّلام: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا، وقالوا أيضًا: الْآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ؛ فكأنَّهم يقولون: الآن رَضِينا بوصف هذه البقرة، فقاموا بذبْحها بعد تعنُّتٍ منهم، وكل هذا يدلُّ على استهتارهم بأوامر الله عزَّ وجلَّ
.
2- استكبار بني إسرائيل؛ حيث قالوا لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، فأمروه أمرًا، ثم أضافوا ربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ إلى موسى، كأنَّهم متبرِّئون من ذلك، فلم يقولوا: «ادع ربَّنا»، أو «ادع الله»، وممَّا يدل على استكبارهم كونُهم طلبوا من موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، أن يُبيِّن لهم ما هذه البقرة، مع أنَّ البقرة معروفة، وهي عند الإطلاق تَشملَ أيَّ واحدة .
3- أنَّ قول الرسول قولٌ لمرسِله إذا كان بأمْره؛ لقوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا .
4- أنَّ هذه الآية من آيات الله عزَّ وجلَّ، وهي أن تكونَ البقرة التي تفارق الحياةَ سببًا لحياة هذا القتيل؛ إذ لا رابطةَ في المعقول بين أن تُذبَح البقرة، ويُضرَب القتيلُ ببعضها، فيحيا، فلو قِيل بضربِه بجزءٍ مِن بقرة حيةٍ لربما توهَّم متوهمٌ أنَّه استمدَّ الحياةَ مِن حياتها، ولكن أمرهم بضربِه بجزءٍ مِن بقرة ميتة، فعادت له الحياةُ .
5- لؤم بني إسرائيل الذين جاءتهم هذه النِّعم، ومع ذلك فهُم لم يَلينوا للحقِّ، بل قسَت قلوبُهم على ظهور هذه النِّعم ! كما قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً.
6- أنَّ الجماداتِ تَعرِف اللهَ عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا عبَّر عن لونها بالاسم صَفراء ولم يُعبِّر بالفعل (يصفر)؛ لأنَّ اللون من الأشياء الثابتة التي لا تتجدَّد، وأفاد ذِكْر اللَّون في فَاقِعٌ لَوْنُها التوكيدَ، وهو أبلغُ من قول: (صفراء فاقعة)؛ لأنَّ اللون اسم للهيئة، وهي الصُّفرة
.
2- قوله: تَسُرُّ النَّاظِرينَ جاء الوصف بالفِعل تَسُرُّ؛ ليُشعرَ بالحدوث والتجدُّد. وتأخَّرَ هذا الوصفُ عن الوصف قبله صفراء؛ لأنَّه ناشئ عنه، أو كالناشئ. وجاء بصِيغة الجمْع في النَّاظِرينَ، وأدخل الألف واللام التي تدلُّ على الاستغراق؛ ليوضِّح أن أعينَ الناس كلِّهم طامحة إليها، متلذِّذة فيها بالنظر، فليست ممَّا تُعجِب شخصًا دون شخص .
3- قوله: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ توسَّط قولُه: إِنْ شَاءَ اللهُ بين اسم إنَّ وبين خبرِها؛ ليحصل توافُق رؤوس الآي، وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله، وجاء خبر إنَّ لَمُهْتَدُونَ اسمًا؛ لأنَّه أدلُّ على الثبوت، وعلى حُصولِ الهداية لهم، وأُكِّد بحَرفَيِ التأكيد: إنَّ واللام .
4- قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
- قوله: ثُمَّ قَسَتْ فيه مناسبة حسَنة، حيث كان حصولُ المعصية منهم- بعدَ رُؤية هذه الخارقة- مُستبعَدَ التصوُّر، فضلًا عن الوقوع .
قوله: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ فيه تشبيه مُرسَل مُجمَل ذُكرت فيه أداة الشَّبه وحُذِف وجهُ الشبه؛ حيث شبَّه قلوبهم في نبوِّها عن الحقِّ، وتجافيها مع أحكامِه بالحجارة القاسية، ثم ترقَّى في التشبيه، فجَعل الحجارة أكثرَ لِينًا من قلوبهم. وهو أيضًا من باب تشبيهُ المعقولِ بالمحسوس؛ فالحجارة أمرٌ محسوس، وقسوة القلب أمرٌ معقول .
ووجه تشبيه قلوبهم بأنَّها كالحجارة في القَسوة ولم يشبهها بالحديد، وهو أشد من الحجارة وأصلب؛ لأنَّ الحديدَ قابلٌ للين بالنار، وقد لان لداود عليه الصَّلاة والسلام، والحجارة ليست قابلةً للين، فلا تلين قط .
قوله: أشدُّ قَسوةً عبَّر بالمصدر الصَّريح، ومصدر الفِعل (قسى)، مع أنَّه ممَّا يخرج منه أفعلُ التفضيل (أقسى)؛ لأنَّ هذا أدلُّ وأبين على فَرط القسوة؛ ولأنَّه قصَد وصف القَسوة بالشدَّة، لا قصدَ معنى الأقسى، كأنَّه قيل: اشتدَّت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدُّ قسوةً. وفي هذا التعبير أيضًا زيادةُ تقريع مناسِب لسِياق هذه القَصص .
5- وفي هذه الآيات المتقدِّمة فنُّ التكرير، وهو داخلٌ في باب الإطناب ، كأنَّهم يُكرِّرون السؤالَ استكناهًا لحقيقة البقرة؛ لشدَّة تعنُّتهم .


=============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (75-82)
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ​ﭨ​ﭩ​ﭪ​ﭫ​ﭬ​ﭭ​ﭮ​ﭯ​ﭰ​ﭱ​ﭲ​ﭳ​ﭴ​ﭵ​ﭶ​ﭷ​ﭸ​ﭹ​ﭺ​ﭻ​ﭼ​ﭽ​ﭾ​ﭿ​ ​​ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
غريب الكلمات:

يُحَرِّفُونَهُ: يَقلبونه ويُغيِّرونه، وأصل تحريف الشَّيء وانحرافه: إمالته، والعدول به عن الاستقامة
.
أُمِّيُّونَ: جهلة غَفَلة، أو الذين لا يكتبون ولا يقرؤون من كتاب، وأصل (أم): الأصل والمرجع، فنُسِب الأُمِّي إلى ما عليه جِبلَّة الناس؛ لا يكتب ولا يقرأ على ما وُلِد عليه .
أَمَانِيَّ: جمْع أُمْنِية، وهي تأتي بمعنى التِّلَاوة المُجرَّدة عن المعرفة؛ تَجري عند صاحبها مجرَى أمنية متمنَّاة على التخمين. وتأتي الأماني بمعنى: الأكاذيب، ومَا يتمناه الْإِنْسَان ويشتهيه أَيضًا

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ: (إنْ): حرف نفي بمعنى (ما).
و(هم): في محل رفع مبتدأ.
و(يظنون) فعل وفاعل في محل رفع خبر.
و(إلَّا): أداة حصْر؛ لتحقيق النفي، والاستثناء مفرغ. وهكذا كل (إنْ) مكسورة مخفَّفة وبعدها (إلَّا)؛ فإنَّ (إنْ) بمعنى (ما)، نحو: إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُور [الملك: 20] وأمثالها

.
المعنى الإجمالي:

يحضُّ الله تعالى المؤمنين على قَطْع أملهم من إيمان اليهود؛ فإنَّ حالهم لا يَقتضي الطَّمع في إيمانهم؛ فإنَّهم يَسمعون كلامَ الله الذي هو التوراة، ثم يُبدِّلونه من بعد ما فَهِموه، وهم يعلمون أنَّهم كاذبون ومُفترون، وإذا قابلوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابَه أظهروا الإيمانَ بألسنتهم فقط، وحين يَختَلُون بأصحابهم يُنكِر عليهم أصحابُهم إخبارَهم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابه بأنَّ ما في التوراة من صفات النبيِّ المنتظَر تنطبِق على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبما وقع لآبائهم من العقوبات؛ وذلك لئلَّا يكون هذا الاعترافُ حُجَّةً للمؤمنين عليهم يومَ القيامة أمام الله، حيث عرَفوا الحقَّ ولم يتَّبعوه، وقال لهم أصحابهم مُنكِرين عليهم: لو كان لديكم إدراكٌ لفَهِمتم هذا الأمر. فأنكر الله تعالى عليهم قولَهم هذا، وهم يعلمون أنَّ الله يعلم ما يُخفونه وما يُعلنونه.
ثم أخبَر الله سبحانه أنَّ من اليهود عوامَّ، ليس لهم حظٌّ من التوراة إلَّا تلاوةُ ألفاظها فحَسْبُ؛ فهم لا يفقهون معانيَها، وليس معهم إلَّا مجرَّدُ ظنون.
ثم توعَّد الله عزَّ وجلَّ بالعذاب والهلاك اليهودَ، الذين حرَّفوا التوراةَ ثم يدَّعون أنَّها من عند الله؛ لأجْل الحصول على مكاسبَ دُنيويَّة، فأخْبَر أنَّ هؤلاء لهم عذابٌ شديد؛ جزاءَ ما زوَّروه بأيديهم وعلى ما أَخذوه من الحرام.
ثم ذكَر الله تعالى تزكيةَ اليهود لأنفسهم بأنَّ النار لن تلاقيَ أجسامَهم إلَّا أيَّامًا قليلة، فأمر الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسألَهم إنْ كان لديهم ميثاقٌ من الله على ما زَعموه؛ فإنْ كان لهم، فاللهُ لا ينقض ميثاقَه، أم أنَّهم يدَّعون َعلى الله كذبًا؟!
فأخبَرهم الله جلَّ شأنُه أنَّ الأمر ليس كما ادَّعَوه؛ فالحُكم أنَّ مَن أشرك بالله، وأَحدقتْ به ذنوبُه، ومات عليها ولم يتُبْ منها، فهؤلاء هم الملازمون للنَّار، لا يخرجون منها أبدًا، وأنَّ مَن آمن بالله وملائكته وكتُبه ورُسله واليوم الآخِر، وعمِل صالحًا، فهؤلاء هم أهلُ الجنة المقيمون فيها، لا يخرجون منها أبدًا.
تفسير الآيات:

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن سبحانه أنَّ قلوب اليهود صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرُّؤ على بارئِها محجوبةً بالرَّيْن، كثيفةَ الطَّبع، بحيث إنَّها أشدُّ قسوةً من الحجارة، وتسبَّب ذلك في بُعدهم عن الإيمان- لَمَّا بيَّن سبحانه ذلِك أَيْئَسَ عبادَه المؤمنين من استجابة اليهود إلى الدِّين الحقِّ
، فقال:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ.
أي: أتُعلِّقون الطمعَ بما لا مطمعَ فيه، فترجون أن يؤمنوا لكم؟! أي: يُصدِّقون ويُقرُّون بقلوبهم وألسنتهم وجوارحِهم؛ لأجْل دعوتكم وطلبِكم منهم الإيمانَ ؟!
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ الله.
أي: والحال أنَّ جماعةً منهم كانوا يَسمعون كلام الله يُتلَى في كتابه التوراة .
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ.
أي: إنَّهم من بعد سماعِهم لكلام الله عزَّ وجلَّ، ومن بعد أن أدْركوه بعقولهم ففهِموه جيِّدًا، يقومون بتبديله، وتغييره، وصرْف معانيه إلى معانٍ أُخرى على غيرِ مُرادِ الله تعالى !
وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أي: والحال أنَّهم يعلمون أنَّهم حرَّفوه مُبطِلين، ومفترين على الله تعالى الكذبَ !
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76).
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا.
أي: وإذا قابَل منافقو اليهود، المؤمنين -وهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابُه- أظْهَروا لهم الإيمان بألسنتهم، بما ليس في قلوبِهم .
وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
أي: حين ينصرِفُ هؤلاء المنافقون من اليهود، خالين بأصحابِهم في موضعٍ ليس فيه أحدٌ سواهم .
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ.
أي: قال أصحابُهم اليهود الذين لم ينافقوا، مُنكِرين على مَن نافق منهم: أُتخبِرون النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابَه، بما أعْلَمَنا الله تعالى به في التوراة وحكم به علينا؟! (وذلك كالإخبار بأنَّ محمَّدًا عليه الصَّلاة والسَّلام هو النبيُّ المنتظَر الذي تَنطبِق عليه الصِّفاتُ المذكورة لدَيْهم، والذي وجب علَيْهم الإيمان به، وكقضائه وحكمه على أسلافهم بما وقع عليهم من العذاب) .
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ.
أي: فيكون ذلك الإقرارُ حُجَّةً لهؤلاء المؤمنين علينا عند الله تعالى يوم القيامة، أنَّنا عَرَفْنا الحقَّ وترَكْنا العمل به ؟!
كما قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: أليس لكم إدراكٌ بعقولكم؛ فتفهموا أنَّه لا ينبغي لكم إخبارُ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه النبيُّ المنتظَر، فيكون ذلك حُجَّةً لهم عليكم عند الله تعالى يوم القِيامة ؟!
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77).
أي: أيقولون مِثل هذا ولا يعلمون أنَّ إسرارَهم وإعلانهم عند الله جلَّ وعلا سواءٌ؛ فالسِّرُّ عنده علانية؟! فالله تعالى يعلم ما يُسرُّه اليهود من الكفر والتكذيب، وما يُخفونه من التلاوم بينهم على إظهارِهم ما أظهروا للمؤمنين من الإقرار، كما يَعلم ما يُعلنونه للمؤمنين بقولهم لهم: آمنَّا .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78).
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ.
أي: إنَّ من اليهود مَن لا يحسن القراءة والكتابة، وليسوا على عِلمٍ بالتوراة، وإنَّما لديهم مجرَّد أحاديث وأمنيات باطلة اختلقوها من تِلقاء أنفسهم، كقولهم: لن يدخُل الجنة إلَّا من كان هودًا أو نصارى، وكقولهم أيضًا: لن تمسَّنا النار إلا أيَّامًا معدودات، إلى غير ذلك من تخرُّصاتهم .
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.
أي: نفَى عنهم العِلمَ، وبيَّن أنَّهم ليس معهم إلَّا مجرَّد ظنون .
كما قال تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء: 157] .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79).
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله.
أي: هلاكٌ عظيم، وعذابٌ هائِل سيحُلُّ بدُعاة الضَّلال من اليهود، الذين يُحرِّفون التوراة، فيخطُّون بأيديهم أشياءَ باطلةً مُختلَقة، ثم يدَّعون زُورًا وبهتانًا أنَّها حقٌّ من عند الله تبارك وتعالى .
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: إنَّهم إنَّما قاموا بذلك الافتراء والتزوير؛ لأجْل غايةٍ خسيسة، وهي الحصولُ على مكاسبَ دُنيويَّة .
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.
أي: لهم عذابٌ شديد، وهلاكٌ عظيم؛ جرَّاءَ ما كتبتْه أيديهم من الكذب والافتراء على الله عزَّ وجلَّ، ولهم العذابُ والهلاك أيضًا؛ جزاءً على أخْذهم الحرامَ عوضًا على ما عملتْه أيديهم من التَّزوير والتحريف .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ (80).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
بعدَ أنْ ذكَر الله تعالى تحريفَهم التوراةَ، بيَّن سبَب جُرأتهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من جرائمَ، وأنَّهم مع ذلك يزكُّون أنفسهم فجَمَعوا بين الإساءة والأمْن ، قال تعالى:
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً.
أي: إنهم قالوا: لن تلاقي أجسادنا نار الآخِرة، إلَّا أيامًا قليلةً، ثم ننجُوا منها .
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ.
أي: قُلْ يا محمَّد، لأولئك اليهود الذين ادَّعوا لأنفسهم ما ادَّعوا: هل عندكم مِن الله تعالى ميثاقٌ يُثبت صحَّةَ دعواكم؛ فإنْ كان قد وقَع عهد، فلكم العُذر فيما قلتم؛ فإنَّ الله تعالى لا ينقُض ميثاقه، ولا يُخلِف وعده ؟
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
أي: أوْ هلْ تتقوَّلون على الله تعالى الباطِل، وتَختلِقون الكذبَ جَراءةً عليه سبحانه ؟
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قال اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، كذَّبهم الله تعالى وأخبَرهم بالحُكم الذي لا حُكمَ غيره، لا أمانيهم ودعاويهم الباطِلة ، فقال:
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً.
أي: ليس الأمر كما تمنَّيتُم يا معشرَ اليهود، ولكن من أشرك بالله تعالى .
كما قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 123] .
وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ.
أي: أحدقت ذنوبُه وخطاياه بقَلبِه من كلِّ جانب، فليس له منفذٌ للخروج منها، ومات عليها قَبلَ التوبة منها .
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: إنَّهم ملازِمون للنار على الدَّوام، لا يخرجون منها أبدًا .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82).
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أي: الذين صَدَّقوا وأقرُّوا بألسنتهم وقلوبهم، وصدَّقوا ذلك بجوارحهم، فعمِلوا الأعمالَ الصالحاتِ بإخلاصٍ لله تعالى، ومتابعةٍ للرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: هؤلاء هم أهلُ الجنة المقيمون فيها على الدَّوام، لا يخرجون منها أبدًا

.
الفوائد التربويَّة:

1- تَسليةُ الله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما يُذهب عنه الأسى، والحزن؛ حيث بيَّن له حال هؤلاء، وأنَّهم قومٌ عُتاةٌ لا مَطمعَ في إيمانهم، كما قال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ
.
2- أنَّ مَن كان لا يؤمن بما هو أظهرُ، فإنَّه يبعُد أن يؤمن بما هو أخْفَى؛ لأنَّ مَن يَسمع كلام الله، ثم يُحرِّفه، أبْعَدُ قَبولًا للحقِّ ممَّن لم يسمعه، كما قال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
3- التَّحريف بعد عقْل المعنى أعظمُ، كما قال تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؛ وذلك لأنَّ الجاهل قد يُعذَر بجهله؛ لكن العالم الذي عقَل الشيء يكون عملُه أقبحَ؛ لأنَّه تجرَّأ على المعصية مع عِلمه بها .
4- أنَّ العِلم من الفتح؛ لقولهم: بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ؛ ولا شكَّ أنَّ العِلم فتْحٌ يَفتح الله به على المرء من أنواع العلوم والمعارف ما يُنير به قلبَه .
5- في توبيخ الله تعالى لليهود بقوله: أَفَلَا تَعْقِلُونَ دلالةٌ على أنه يَنبغي للإنسان أن يكون عاقلًا؛ فلا يخطو خُطوةً إلَّا وقد عرَف أين يضع قدمه، ولا يتكلَّم إلَّا وينظر ما سيترتَّب على كلامه، ولا يفعل شيئا إلَّا وينظر ما سيؤول إليه فِعلُه .
6- ذمُّ مَن لا يَعتني بمعرفة معاني كتاب الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ .
7- أنَّ الإيمان وحده لا يَكفي لدخول الجنة، بل لا بدَّ من العمل الصالح،كما أنَّ العَمل وحده لا يكفي، بل لا بدَّ أن يكون صادرًا عن إيمان؛ لقوله تعالى: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ ولذلك لم ينفعِ المنافقين عَملُهم؛ لفقدهم الإيمانَ في قلوبهم

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ من سجايا اليهود وطبائعهم الغَدرَ والخيانة؛ لقوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ... الآية؛ لأنَّ في هذا نوعًا من الغَدْر بالمؤمنين
.
2- حُسن مجادلة القرآن؛ لأنَّه حصَر هذه الدعوى في واحدٍ من أمرين، وكلاهما منتفٍ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ .
3- في قوله تعالى: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ: أنَّ الله سبحانه وتعالى لن يُخلِفَ وعده؛ وكونه لا يُخلف الوعد يتضمَّن صفتين عظيمتين، هما: الصِّدق، والقدرة؛ لأنَّ إخلاف الوعد إمَّا لكَذِب، وإمَّا لعجز؛ فكون الله جلَّ وعلا لا يُخلف الميعاد يقتضي كمالَ صِدقه، وكمال قُدرته سبحانه وتعالى

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: أَفَتَطْمَعُونَ استفهام إنكاري للنَّفي، وفيه معنى التقرير لعدم إيمانهم، والتعجُّب كذلك، فكأنَّه قيل: فلا تَطمَعوا أن يؤمنوا لكم، أو فاعجبوا من طمَعِكم
.
2- قوله: عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فيه تَكرار أفعال متقارِبة في المعنى (عقل- علم)، وفائدته: التأكيد على شِدَّة قسوتهم، وعظمة جَراءتهم؛ إذ عقَلوا مرادَ الله فأوَّلوه تأويلًا فاسدًا، يعلمون أنَّه غيرُ مراد، أو علِموا أنَّ التأويل الفاسد يُكسبهم الوزرَ والعقوبة .
3- في قوله: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ذِكر الأيدي تأكيدٌ، وهذا الموضع ممَّا يحسن فيه التأكيد، كما يُقال لمن يُنكر معرفة ما كتَبَه: هذا ما كتبتَه بيمينك، والقصد منه: تحقيقُ وقوعِ الكتابة، وأنَّهم في ذلك عامِدون قاصِدون .
4- في قوله: فَوَيْلٌ... فَوَيْلٌ لَهُمْ... وَوَيْلٌ لَهُمْ
جاء التعبير بالجُملة الاسميَّة؛ دلالةً على الثبوت والدوام .
ونُكِّرَت كلمة (ويل) للتعظيم والتهويل .
وفائدة تَكرار ذِكر الويل في الكَسب؛ بيان أنَّ في أخذهم المالَ على ما كتبوه ذنبٌ آخَر؛ ففيه دفْعٌ للإيهام، وإزالةٌ للشبهة، بأنَّ مجموع الكتابة والكسب يَقتضي الوعيد العظيم دون كلِّ واحدٍ منهما .
وفيه من البلاغة: الجمع والتقسيم ؛ ففي قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا جمْعٌ، وفي قوله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ تقسيم .
5- قوله: يَكْتُبُونَ... يَقُولُونَ... يَكْسِبُونَ فيه التعبير بالفِعل المضارِع؛ لاستحضار الصُّورة، كأنَّها حاضرة للعِيان .
6- قوله: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
أمْ هذه تُسمَّى أم المعادلة لهمزة الاستفهام، والاستفهام هنا على سبيل التقرير للعِلم بوقوع أحدهما، أو على التقرير والتقريع .
7- في قوله: سَيِّئَةً جاء التنكير للتعظيم؛ لأنَّ المقصودَ بها الشرك .
8- في قوله: فأولئك، وقوله: أولئك كما ورد في هاتيْن الآيتيْن بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ذِكر الفاء وحَذفها فيه معنًى لطيف؛ فقد يكون ورودها للدَّلالة على سببيَّة دخول النار بسُوء أفعالهم، وذلك عدلٌ منه سبحانه، وأمَّا دخول الجَنَّة فهو بفَضل الله تعالى ورحمته؛ ولذا حُذِفَت الفاء .
=================


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (83-86)
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

أُسَارَى: جمْع أَسْرى، وأَسْرى جمْعُ أسير؛ فأُسارَى جمْع الجمْع، وأصل الأسر: الحبس والإمساك، ومنه الشدُّ بالقيد، من قولهم: أسرت قَتَب البَعيرِ، وسُمِّي الأسير بذلك، ثم قيل لكلِّ مأخوذٍ ومقيَّد- وإن لم يكن مشدودًا -: أسير .
خِزْيٌ: هوان، وهلاك، وأصل الخِزي: الإبعاد

.
مشكل الإعراب:

قَوْله: لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله: الفعل (تعبدون) مرفوع وعلامة رفْعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة. ورفْعه إمَّا على تقدير (أنْ لَا تعبدوا)، ولَمَّا حُذِفت (أَنْ) ارتفع الفِعْل. أو تكون (لا) نافية لا عمَلَ لها، ويكون النَّفي مقصودًا منه النَّهي. وقيل غير ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يُذكِّرُ اللهُ سبحانه بني إسرائيل بالعهد المؤكَّد الذي أخَذه عليهم، وهو أن يعبدوه وحْدَه، وأن يُحسنوا إلى الوالدين، وإلى جميع مَن تربطهم بهم صِلةُ قرابة، وأن يُحسنوا كذلك إلى مَن فقَدوا آباءهم قبل أن يبلُغوا، وإلى الفقراء، وأن يُحسِنوا القول إلى كلِّ الناس، وأن يأتوا بالصَّلاة تامَّةَ الأركان والواجبات، ويُعطوا الزَّكاة المفروضة لمستحقِّيها، لكنَّهم نقَضوا هذا العهدَ الذي أخذ عليهم، وتولَّوا عنه بلا رَجعة، إلَّا عددًا قليلًا منهم قدْ أوفَوا بعهد الله تعالى.
ثمَّ ذكَّرهم الله أيضًا بعهدٍ آخَر قد أخَذَه عليهم من قبل، وهو أن لا يَقتُلَ بعضُهم بعضًا، ولا يخرج بعضُهم بعضًا من ديارهم بغير حقٍّ، وأنَّهم أقرُّوا بمعرفة هذا العهدِ وصحَّتِه، ولم يغبْ عنهم ولم يُنكروه، لكنَّهم نقضوه وفعَلوا ما نُهوا عنه، فقَتَل بعضُهم بعضًا، وأخرَج بعضُهم بعضًا من دِيارهم، وتعاونوا على أهل مِلَّتهم بالمعصية وتجاوُز حدود الله عزَّ وجلَّ.
وبالرُّغْم من هذا القَتل والإخراج المُحرَّميْنِ، إلَّا أنَّهم إذا أُسِرَ بعضهم يجيءُ الذين قاتلوهم من اليهود من الفريق الآخَر فيُخلِّصونهم من الأَسْر؛ يَمتثلون ما أُمروا به من افتداء الأسرى اليهود، مع أنَّهم مُحرَّم عليهم إخراجُهم، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك؛ إذ كيف يمتثلون بعضًا ممَّا في التوراة، ويتركون بعضًا؟!
ثم أخْبَر تعالى أنَّه لا جزاءَ لِمَن يفعل فِعلهم القبيح إلَّا الذلُّ في الدُّنيا، وفي الآخِرة لهم من العذاب أشدُّه، والله لا يَخفَى عليه شيءٌ من أعمالهم.
ثم بيَّن أنَّ هؤلاء الصِّنف من اليهود قد استبدَلوا في الحقيقة ما في الدُّنيا من نعيم زائلٍ بنعيم الآخِرَة الدائم؛ وذلك بسبب كُفرهم وتركهم شرائعَ الله تعالى؛ فلن يُخفَّف عنهم ما يستحقُّونه من العذاب يومَ القِيامة، ولن يُنقِذَهم أحدٌ منه.
تفسير الآيات:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ.
أي: واذكُروا يا معشر اليهود، حين أخَذْنا عليكم عهدًا مؤكَّدًا بعبادة الله وحْدَه لا شريكَ له .
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.
أي: وممَّا أُخِذ على بني إسرائيل من العهود المؤكَّدة أن يُحسنوا إلى الوالدين، وهذا يشمل كلَّ أنواع الإحسان القوليَّة والفعليَّة، وممَّا أُخِذ عليهم أيضًا: العهد بالإحسان- بجميع طرقه- إلى أنواع القَرابات كافَّةً، وإلى اليتامى- واليتيم هو مَن فقَدَ أباه قبلَ البلوغ، ذَكَرًا كان أم أُنثى- وإلى المساكين، وهم الفقراء .
كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ... الآية [النساء: 36] .
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
أي: ومما أمر الله تعالى به اليهود أن يحسنوا بالقول إلى النَّاس عمومًا، فيكلمونهم بكلام طيب لين، يدخل فيه الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعفو والصفح، وغير ذلك .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ.
أي: وممَّا أُمِر به اليهودُ أيضًا: إقامةُ الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، أي: ائتوا بالصَّلاة تامَّةً بحقوقها الواجبة عليكم فيها، وأعطوا الزكاةَ مستحقِّيها بما فرَض الله تعالى عليكم في أموالِكم .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.
أي: خاطَب اللهُ تعالى اليهودَ الحاضرين في زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّهم هم وآباؤهم قد ترَكوا ما أخذ الله تعالى عليهم من المواثيق التي ذُكرت في الآية، ترَكوها وراءَ ظهورهم، فنقضوها وأعْرَضوا عنها عن عمْد بعد العِلم بها، إعراضًا لا رجعةَ فيه إليها، عدا عددٍ قليل منهم قد عصمَهم الله تعالى ووفَّقهم، فوفوا بتلك العهود .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ.
أي: واذكروا حين أخَذْنا عليكم وعلى آبائكم من قبل، ألَّا يقتل بعضُكم بعضًا، ولا يُخرِج بعضُكم بعضًا من دِيارهم بغير حقٍّ .
ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
أي: بعد أخْذ هذا الميثاق عليكم، بقيتُم عليه، وقد أقررتُم بمعرفته وصحَّته، وشهدتُم عليه، فهو لديكم باقٍ، لم يغبْ عنكم، ولم تُنكِروه .
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85).
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ.
أي: إنَّهم من بعد ذلك الميثاقِ، والإقرارِ به، والشهادة عليه، نقَضوا الميثاقَ الذي أُخذ عليهم؛ إذ وقعوا في المخالفة بقَتْل بعضهم بعضًا، وإخراج بعضهم بعضًا من دِيارهم بغير حقٍّ .
تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
أي: تتعاونون على أهلِ ملَّتكم بمعصية الله تعالى، وتجاوز حدودِه .
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: (تفادوهم) قِراءتان:
1- (تُفَادُوهُمْ) على معنى أنَّ المفاداة من اثنين؛ لأنَّ الفداء: أن تأخذ ما عنده، وتُعطي ما عندك، فتَفعل به كما يُفعل بك .
2- (تَفْدُوهُمْ) أي: تشتروهم من العدوِّ وتُنقِذوهم .
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ.
أي: إنَّه بعد أَسْر بعض اليهود من كِلا الفريقيْنِ المتحاربيْنِ يقوم الذين قاتلوهم من أهل مِلَّتهم، بتخليصهم من الأَسر، بعِوض أو بمبادلةٍ بين أسارى الفريقينِ؛ امتثالًا لما أُمِروا به في كتابِهم من افتداءِ الأَسرى منهم، مع أنَّه قد حُرِّم عليهم في كِتابهم أيضًا إخراجُهم من دِيارهم، ولم يجتنبوا هذا النهيَ !
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
أي: أنْكَر الله تعالى عليهم ذلك؛ إذ كيف يمتثِلون شيئًا ممَّا أُمروا به في التوراة، وهو فِداء أسراهم من أيدي العدوِّ، بينما يتركون أشياءَ أخرى من نفْس التوراة، وهي ارتكابُ ما نُهوا عنه من قتْل، وإخراج بعضهم بعضًا، ومظاهرة بعضهم العدوَّ على بعض ؟!
فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: ليس لِمَن وقَع في ذلك الانحراف الشَّنيع منكم معشرَ اليهود، سوى الذلِّ؛ عقابًا عاجلًا في الدنيا. وممَّا وقَع لهم من ذلك: تسليطُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ عليهم، فقَتَل منهم مَن قتَل، وسبَى مَن سبَى، وأجْلَى البقيةَ من دِيارهم .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ.
أي: ويوم تقوم السَّاعة، فيقوم النَّاسُ لربِّ العالمين، يُرَدُّ هؤلاء الذي فعَلوا ذلك منكم- أيُّها اليهود- أي: يرجعون من ذلِّ الدنيا إلى أعظم ما يكون من العُقوبات الأخرويَّة التي أعدَّها الله تعالى لأعدائه .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: يُهدِّدهم الله تعالى ويتوعَّدهم؛ فلكمالِ عِلمه ومراقبتِه لا يَخفى عليه شيءٌ، ولا يَنسى شيئًا سبحانه وتعالى، بل هو حافظٌ عليهم أعمالَهم، ومحصيها لهم؛ ليجازيَهم بها .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86).
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ.
أي: إنَّهم قد استبدلوا نَعيمَ الدُّنيا الفاني بنَعيمِ الآخِرة الباقي، وذلك ببذلهم الكفرَ بالله تعالى وترْك شرائعه، ثمنًا للاستحواذِ على ما يبتغون من حُطام الدُّنيا .
فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.
أي: لأجْل إيثارهم الدُّنيا على الآخِرة، لن يُخفَّف عنهم من عذاب يوم القيامة شيءٌ، لا زَمنًا ولا شدَّةً .
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 49-50] .
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ.
أي: لا يَستنقِذهم أحدٌ من عذاب الله تعالى

.
الفوائد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة: 83] ، إشارةٌ إلى أنَّ حقَّ ذي القُربى، كالتابع لحقِّ الوالدينِ؛ لأنَّ الإنسان إنما يتَّصل به أقرباؤه بواسطة اتِّصالهم بالوالدينِ، والاتِّصالُ بالوالدين مقدَّم على الاتِّصال بذي القربى؛ فلهذا أخَّر الله تعالى ذِكرَه عن الوالدينِ .
2- أنَّ الأُمَّة كالنَّفْس الواحدة؛ لقوله تعالى: لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ

.

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- في قوله سبحانه وتعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [البقرة: 83] : جاء الأمْر بالإحسان إلى اليتيم بعدَ الأمر بالإحسان إلى الأقارب؛ لأنَّه لصغره لا يُنتفع به، ولخلوِّه عمَّن يقوم بشؤونه، يَحتاجُ إلى مَن يَنفعه، والإنسان قلَّما يرغب في صُحبة مِثل هذا، ولَمَّا كان هذا التكليفُ شاقًّا على النفْس، كانت درجتُه عظيمةً في الدِّين.
وأمَّا المساكين فقد تأخَّرت درجتُهم عن اليتامى؛ لأنَّ المسكين قد يُنتفع به في الاستخدام، فكان المَيلُ إلى مُخالطته أكثرَ من الميل إلى مخالطةِ اليتامى، ولأنَّ المسكين يُمكنه الاشتغالُ بتعهُّد نفْسه ومصالح معيشته، وليس اليتيم كذلك .
2- إثبات أنَّ صفات الله تعالى ثبوتيَّة، ومنفيَّة، لكنَّ النفي المحضَ لا يُوجَد في صفات الله تعالى، وإنَّما جاء النفيُ الواقع في صفاته؛ لبيان كمال ضدِّ ذلك المنفيِّ، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 85]

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فيه قصرٌ بالنفي والاستثناء (لا... إلَّا) .
- والأسلوب إخباري في معْنى النهي، وهو أبلغُ من صريح النهي؛ لِمَا فيه من إيهام أنَّ المنهيَّ سارع إلى الانتهاء .
2- في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ التفات؛ إذ خرَج من ضمير المتكلِّم في أَخَذْنَا إلى الاسم الغائب اللهَ. ولو جرَى على نسَقٍ واحد لقال: (لا تعبدون إلَّا إيَّانا)، لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة، والدلالة على سائر الصفات، والتفرد بالتسمية به، ما ليس في المُضمَر، ولأنَّ ما جاء بعده من الأسماء، إنما هي أسماء ظاهرة، فناسَب مجاورة الظاهر الظاهر .
3- قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
فيه التقديم بحسَب الأهمِّ؛ حيث قدَّم عِبادة الله تعالى، ثم قدَّم الأحوج إلى الإحسان بِالْوَالِدَيْنِ... ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى... وَالْمَسَاكِينِ. وقدَّم الأمور بحسب الأنفع فيها؛ فقدَّم الإحسان على القول الحسن .
وقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فيه تأكيدٌ بوضع المصدر (حُسْنًا) موضِعَ الاسم (قولًا حَسَنًا)، وهذا إنَّما يُستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف، فكأنَّه نفْس الحُسن، كرجل عدْل ، أو على أنَّه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه: وقولوا للناسِ قَوْلًا حُسْنًا، أي: ذا حُسْن .
- وفي قوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ التِفات من الغَيبة إلى الخِطاب، حيث انتقل مِن الحديث عن بني إسرائيل القُدامى إلى خِطاب الحاضرين منهم في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وحكمته: أنَّ الإقبالَ عليهم بالخِطاب أدْعى للقَبول، وأقرب للامتثال؛ إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب .
- وقوله: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عبَّر بالجملة الاسميَّة التي تدلُّ على الثبوت؛ للتأكيد على إعراضهم واستمرارهم فيه .
4- قوله: تَقْتُلُونَ وقوله: وَتُخْرِجُونَ حال، أو خبَر نُزِّل فيه الغائِبُ مَنزلةَ الحاضر؛ لأنَّ المرادَ بهم أسلافُهم، وعبَّر بالمضارع؛ لقصد الدَّلالة على التجدُّد والحدوث، وأنَّ ذلك من شأنهم .
5- في قوله: إِلَّا خِزْيٌ جاء تنكير الخزي؛ للتهويل والتعظيم .
6- في قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تقديمُ المسنَد إليه بِغَافِلٍ؛ للتَّخصيص، وتأكيد الوعيد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...