حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

2. سورة البقرة {ج3.}




سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (87-90)
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
غريب الكلمات:

وَقَفَّيْنَا: أتْبَعنا وأردفنا على آثارهم، مأخوذ من القفا؛ يقال: قفوت الرجل: إذا سرت في أثره
.
بِرُوحِ الْقُدُسِ: جبريل عليه السلام؛ سمي بذلك لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب، أو لأنَّه ينزل بالقدس، أي: بما يُطهر به نفوسنا من القرآن والحِكمة .
غُلْفٌ: جمْع أغلف، أي: كأنها في غِلاف لا تفهم، ولا تَعقل شيئًا مما يقال، وأصل الغلف: الغشاوة وغشيان شيءٍ لشيء .
يَسْتَفْتِحُونَ: أي: يستنصرون باسم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وببعثته؛ فالاستفتاح: الاستنصار، وطلب الفتح، أي: طلب الظفر .
بَغْيًا: أي: حسدًا، وأصل البغي: طلب الشيء، وجنس من الفساد، والظلم، والترفع والعلو، ومجاوزة المقدار .
فَبَاؤُوا: رجعوا، وانصرفوا بذلك، واستوجبوه. ولا يُقال (باء) إِلَّا بشر، ويقال: باء بكذا إذا أقرَّ به
المعنى الإجمالي :

يُخبِر الله سبحانه وتعالى عن إعطائِه التوراةَ لموسى عليه السَّلام، وإرسالِه الرُّسلَ إلى بني إسرائيل مِن بعدِ موسى عليه السَّلام، وأنَّه أعطى عيسى عليه السَّلام معجزاتٍ تُظهِر صِدقَه، وتُثبت نبوَّته، كما قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السَّلام.
ثم أنكَر سبحانه على بني إسرائيل ما صَنعوه بمَن جاءهم من الرُّسل عليهم السَّلام، فكلَّما أتاهم رسولٌ من عند الله بأحكامٍ تُخالف أهواءَهم، كذَّبوا طائفةً منهم، وقتَلوا طائفةً أخرى.
ثم إنَّهم يدَّعون كذبًا واستكبارًا أنَّ سببَ عدَمِ إيمانهم هو أنَّ الله تعالى جعَل في قلوبهم أَغطيةً؛ فلا تتمكَّن من الفَهم، ولكن الأمْر ليس كما ادَّعَوا، بل الحقيقة أنَّ الله تعالى طرَدَهم من رحمتِه؛ مجازاةً لهم على جُحودهم بآياته، وتكذيبهم لرسلِه؛ فهم لا يُقِرُّون إلَّا بشيءٍ قليلٍ ممَّا يجب عليهم الإيمانُ به.
وحين جاءَ اليهودَ القرآنُ، وفيه تصديقٌ لِمَا عندهم من التوراة، وقد كانوا قبلَ مَبعث رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومجيئه بالقرآنِ يَستنصِرون على مَن يقاتلهم من المشركين بمبعثِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّ اليهود سيكونون معه، وسيقتلون المشركين، فلمَّا أتاهم وعرَفوه، جَحَدوا به عمدًا؛ فاستحقُّوا الطردَ من رحمة الله عزَّ وجلَّ.
فما أقبحَ ما استبدلوا به أنفسَهم! وهو الكفرُ؛ إذ اختاروه وبذَلوا أنفسَهم للنَّار؛ وذلك حسدًا منهم لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ كان من غير بني إسرائيل. فاستوجبوا بذلك غضبًا من الله؛ بسبب جُحودِهم لرِسالته صلَّى الله عليه وسلَّمَ، إضافةً إلى ما تحملوه من غضَب الله أولًا؛ بسببِ ذنوبٍ مضَتْ منهم، ولكلِّ جاحد لنبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ عذابٌ يُهان فيه ويُذَلُّ.
تفسير الآيات:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87).
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ.
أي: أعطى الله تعالى موسى عليه السَّلام التوراة، ومِن بعدِه أرسل أنبياءَ إلى بني إسرائيل، فأتْبع بعضهم بعضًا على منهاج موسى وشريعتِه، بإقامة التوراة، والعملِ بما فيها إلى زمَن عيسى عليه السَّلام.
كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ الآية [المائدة: 44]
.
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ.
أي: أخبر تعالى أنَّه أعطَى خاتمةَ أنبياء بني إسرائيل، عيسى عليه السَّلام، معجزاتٍ تُظهر صِدقَه، وتُثبت نبوَّتَه، كإحياء الموتى، وإبراء المَرضَى، وغير ذلك .
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
أي: أيَّد الله تعالى عيسى عليه السَّلام بجبريل عليه السَّلام، يُقوِّيه ويُعينه .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة: 110] .
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ.
أي: يُنكِر اللهُ تعالى على بني إسرائيل تعامُلَهم الشَّنيع مع رُسله وأنبيائِه عليهم السَّلام، وأنَّهم كلَّما جاءَ نبيٌّ منهم؛ ليلزمَهم بأحكام تُخالِف أهواءهم، شقَّ ذلك عليهم، فتجبَّروا وبغوا عليهم، مقدِّمين هواهم على هُداهم، فكذَّبوا طائفةً منهم، وقتَلوا طائفةً آخرين .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88).
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ.
أي: إنَّهم يقولون كذبًا بأنَّ الله لم يَفتحْ لهم الطريق إلى معرفة ما جاءت به الرُّسُل والأنبياءُ عليهم السَّلام، بجعْل قلوبِهم داخلةً في غِلاف وأَغطيةٍ فلا تَفهم؛ فكيف تقوم عليهم الحُجَّة ؟!
كما قال تعالى عن المشركين: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت: 5] .
بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ.
أي: ليس الأمرُ كما ادَّعى هؤلاء كذبًا بأنَّ الله تعالى خلَق قلوبَهم غلفًا لا تَعي، ثم أمرهم بالإيمان، وهم لا يفقهونه، كلَّا! بل حقيقة الأمر أنَّ الله تعالى قد طردَهم من رحمته؛ جزاءَ ما اختاروه لأنفسهم من الجحود بآيات الله تعالى وما جاءتْ به رُسلُه وأنبياؤه .
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّهم آمنوا بشيءٍ يسيرٍ مما وجب عليهم الإيمان به، لكنه إيمانٌ لا ينفعهم؛ لأنه مغمورٌ بما كفروا به .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89).
سبب النُّزول:
عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخٍ منهم قالوا: (فينا والله وفيهم- أي: الأنصار واليهود- نزلت هذه القصة قالوا: كنا علوناهم دهرًا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًّا يُبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتْلَ عاد وإرم. فلمَّا بعث الله عزَّ وجلَّ رسوله من قريش واتبعناه كفروا به، قال الله عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه) الآية .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ.
أي: لَمَّا جاء اليهودَ القرآنُ الذي أَنزله الله تعالى على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، والمشتمِل على تصديق ما معهم من التوراة .
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: قد كانوا من قَبلِ مجيء الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ بالقرآن يستنصرون بمجيئِه على أعدائهم من المشركين إذا قاتَلوهم، ويتوعَّدونهم بقتْلهم معه .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
أي: لَمَّا أتاهم ما يعرفونه من الحقِّ وصِفةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، تَعمَّدوا الجَحدَ به عليه الصَّلاة والسَّلام بعد قِيام الحُجَّة بنبوَّته عليهم .
فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: بسبب ذلك الكُفر؛ طرَدَهم الله تعالى وأبْعَدهم من رحمتِه، وهذا الحكم يعمُّ كلَّ كافر .
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90).
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ.
أي: بئس الشيءُ باعوا به أنفسَهم الكفرُ، يعني: أنَّهم اختاروا الكفرَ وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنَّار؛ لأنَّ اليهود علِموا صِدقَ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّ مَن كذَّبه فالنار عاقبتُه، فاختاروا الكُفر وسلَّموا أنفسهم للنار .
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
أي: إنَّ الذي حمَلهم على اختيار الكفر، حسدُهم لمن شاء الله تعالى أن يَخصَّه بفضله العظيم مِن دون عبادِه، فحسَدوا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ على أنَّه هو الرسولُ المنتظَر؛ لأنَّه كان من ولد إسماعيل، ولم يكُن من بني إسرائيل .
فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ.
أي: رجَع اليهودُ مستوجبين ومستصحبين غضبًا آخَرَ من الله تعالى عليهم؛ بسبب جحودِهم رسالةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ حسدًا منهم، إضافةً إلى الغضب الأوَّل الذي اكتسبوه لذنوبٍ سلَفتْ منهم .
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ.
أي: وللجاحدين نبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الناس كلِّهم عذابٌ من الله يُهانون فيه ويُذلَّون

.
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ المستكبِر يُعاقَب بنقيض حاله؛ لقوله تعالى: عَذَابٌ مُهِينٌ؛ فعُوقِبوا بما يَليق بذنوبهم؛ وعلى هذا جرَتْ سُنَّة الله سبحانه وتعالى في خَلْقه
.
2- أنَّ القلوب بفِطرتها ليست غلفاءَ؛ لقوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ، وهذا الإضراب للإبطال، يعني: ليست القلوب غَلفاءَ لا تقبل الحقَّ، لكنْ هناك شيء آخَر هو الذي منَع من وصول الحقِّ؛ وهو لَعْنُ الله إيَّاهم؛ بسبب كُفرِهم .
3- أنَّ العلم من أعظمِ نِعم الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ .
4- أنَّ العقوبات تَتراكم بحسَبِ الذُّنوب؛ جزاءً وفاقًا؛ لقوله تعالى: فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف :

1- أن مَن بعد موسى مِن الرُّسل مِن بني إسرائيل تبَعٌ له؛ لقوله تعالى: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
.
2- أنَّ من جملة تسخير الملائكة للخلْق أنَّهم يُؤيِّدون مَن أمَرَهم الله تعالى بتأييده، كما قال تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى فيه تأكيدٌ بالقَسَم؛ والتَّصدير بالجملة القَسَميَّة؛ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بموسى عليه السلام وإيتائِه الكِتاب وإرساله
.
2- في قوله: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
تقديم المفعول (فريقًا) في الموضعيْن؛ ليدلَّ على التَّفصيل، وللاهتمامِ وتشويقِ السَّامعِ إلى ما فعَلوا بهم، وتوخِّيًا لرؤوس الآي .
بدأ بالتَّكذيب كَذَّبْتُمْ قبل القَتْل تَقْتُلُونَ؛ لأنَّه أوَّل ما يفعلونه من الشر، ولأنَّه الأمر المُشترَك بين الفريقين: المُكذَّب والمقتول .
الإتيان بالمضارع في تَقْتُلُونَ في غاية الفصاحة؛ إذ هو لبيان فظاعة هذا الأمر، ولاستحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، أو للإعلام بأنَّ الأمر مستمرٌّ؛ ففيه إشارةٌ لليهود الذين في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أرادوا قتْله عليه الصَّلاة والسَّلام، لولا أنَّ الله تعالى عَصمَه منهم ، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم )) .
وفيه كذلك مراعاة لفواصِل الآيات .
3- في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ التفاتِ من الخطاب الذي في أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ واسْتَكْبَرْتُمْ وكَذَّبْتُمْ وتَقْتُلُونَ إلى الغَيْبة في قوله: وَقَالُوا؛ إشعارًا بإبعادهم عن رُتبة الخِطاب؛ لِمَا فُصِّل من مخازيهم الموجبةِ للإعراض عنهم .
4- في قوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ حُذفت صفة (قليلًا)؛ لدلالة الفعل عليها، والتقدير (فإيمانًا قليلًا). ومَا صِلة؛ أُتيَ بها للتأكيد والمبالَغة في التقليل .
5- في قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ وجَاءكُمْ رَسُولٌ تنكير (كتاب) و(رسول)؛ للتفخيم، وتعظيمًا لشأنه .
6- قوله: عَلَى الْكافِرِينَ فيه وضْعٌ للظاهر موضعَ المُضمَر -على اعتبار الألف واللام للعهد-؛ وذلك للتسجيل عليهم بالكُفر، وللدَّلالة على أنَّ اللَّعنة لحقتْهم بسبب كُفرهم، ولبيان أنَّ هذا الحُكم يعُمُّ كلَّ كافر .
7- قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ فيه وضْعٌ للظاهر موضعَ المضمر؛ إشعارًا بعِلَّة كون العذاب المهين لهم، وأنَّه هو الكفر، ولو قيل: (ولهم عذاب مهين)، لم يكُن في ذلك تنبيهٌ على العِلَّة. وأيضًا لبيان أنَّ هذا العذابَ يَشمل كلَّ كافر .

==============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (91-93)
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
غريب الكلمات:

الطُّورَ: الجبل الشاهق، أو اسم لكلِّ جبل، أو الجبل المنبت، أو اسمُ جبلٍ مخصوصٍ، وأصل طور: الامتدادُ في شيءٍ من مكان أو زمان

.
المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى عن اليهود أنَّهم حين أُمِروا بالإيمان بالقرآن كان ردُّهم بأنَّ إيمانهم بالتوراة يَكفيهم، وجحَدوا بما جاء بعد التوراة من الكتُب التي أنزلها الله تعالى، مع أنَّ ما فيها حقٌّ موافِقٌ للذي عندهم في التوراة.
فأمَر الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يسألهم إنْ كانوا حقًّا مؤمنين بما في التوراة؛ فَلِمَ يَقتُلون أنبياءَ الله الذين جاؤوا بتصديق ما فيها؟!
ثمَّ ذَكَّرهم الله تعالى بما فعَلوه حين أتاهم موسى عليه السَّلام بالآيات الواضحات، الدَّالَّات على صِدق ما جاء به، لكنَّهم جعَلوا العِجل إلهًا يعبدونه بعد أنْ فارقهم موسى لمناجاة ربِّه، مُتعدِّين بذلك حدودَ الله تعالى.
وذَكَّرهم سبحانه أيضًا بما أَخَذ عليهم من عهد الإيمان به وبرُسله، والالتزام بشَرْعه، وخوَّفهم بأنْ رفَعَ الجبل فوقهم، وقيل لهم: خذوا التوراة التي أعطيناكموها بحَزمٍ وجِدٍّ، واسمعوا كلامَ الله وانقادوا له، فأجاب اليهود بأنَّهم سمِعوا بآذانهم، وعصَوْا بأفعالهم، وقد خالَط حبُّ العجل قلوبَهم؛ بسبب كفرهم، فإنْ كانوا يدَّعون الإيمان ويفعلون كلَّ تلك القبائح، فبِئس ذلك الإيمان الذي ادَّعوْه!
تفسير الآيات:

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا.
أي: وإذا قيل لليهود الذين كانوا على عهد رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: آمِنوا بالقرآن الذي أَنزلَه اللهُ تعالى، ردُّوا على ذلك بأنَّه يَكفيهم الإيمانُ بالتوراة
.
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ.
أي: إنَّ اليهود يَجحدون بما بعد التَّوراة من كتُب الله تعالى التي أنزلها إلى رُسلِه عليهم الصَّلاة والسَّلام، والحال أنَّ ما أنزله الله عزَّ وجلَّ هو الحقُّ الموافِق لِمَا عندهم من التوراة؛ فَلِمَ يؤمنون بما أُنزل عليهم، ويَكفُرون بنظيره؟! هل هذا إلَّا تعصُّب واتِّباع للهوى؟! فكُفرهم بالقرآن، كُفرٌ بما في أيديهم، ونقضٌ له .
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: قلْ يا محمَّد، لهؤلاء اليهود المتناقضين: إنْ كنتم صادقين في دَعواكم الإيمانَ بالتوراة، فَلِمَ قَتلتُم- والمقصود أسلافُهم - الأنبياءَ الذين جاؤوكم بتصديق التوراة والحُكم بها وعدَم نَسخِها، وأنتم تعلمون صِدقَهم، وقد حرَّم الله عليكم في التوراة قتْلَهم، بل أمرَكم فيها باتِّباعهم وطاعتهم؟! وهذا تكذيبٌ لهم في قولهم: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لمَّا بيَّن الله تعالى كذِبَ اليهود في دعواهم الاكتفاء بالإيمان بالتوراة، مع كُفرهم بالقرآن، ذكر أنَّهم لم يَصْدُقوا حتى في دعواهم الإيمانَ بالتوراة؛ فقد قابَلوا دعوة موسى عليه السَّلام- الذي يزعمون أنَّهم لا يؤمنون إلَّا بما جاءهم به- قابلوا دعوتَه بالكُفر والعِصيان، فقال سبحانه :
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قد جاءكم يا معشرَ اليهود، موسى عليه السَّلام، بالآيات الواضحاتِ، والأدلَّة القاطعة على صِدقه وصِحَّة رِسالته، كالعصا واليَد، وغيرهما من المُعجِزات المؤيِّدة له .
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ.
أي: إنَّكم يا مَعشرَ يهود، كفرتُم بما جاءكم به موسى عليه السَّلام من توحيدِ الله تعالى، فجعلتُم العِجل إلهًا تَعبُدونه، من بعد ذَهاب موسى إلى الطُّور لمناجاة ربِّه سبحانه، وأنتم بهذا قد تَعدَّيتم حدودَ الله عزَّ وجلَّ، وليس لكم أن تفعلوا ذلِك وأنتم تعلمون أنَّه لا معبودَ بحقٍّ سواه، وليس في التوراة- التي تَدَّعون تمسُّككم بها فحسبُ- أمرُكم بعبادة العِجل؛ فدعواكم أنَّكم مؤمنون بالتوراة، باطلةٌ .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93).
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ.
أي: واذكُروا يا معشر اليهود، حين أَخذْنا عليكم عهدًا مؤكَّدًا بالإيمان بالله سبحانه وبرُسله، والالتزام بشرعِه، ورَفعْنا فوقكم الجبلَ لتخويفكم؛ كي تقرُّوا بما عُوهِدتم عليه، وتعملوا به .
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا.
أي: قلنا لهم تلقَّوُا التوراة التي أعطيناكم إيَّاها، بهِمَّةٍ وحزمٍ، وجِدٍّ ونشاط، واسمعوا لكلام الله تعالى سماعَ قَبول واستجابة وانقياد .
قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا.
أي: كان جوابهم على ما سبق أنْ قالوا: سمِعْنا بآذاننا قولَك، وعصينا بأفعالِنا ما أُمِرْنا به .
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ
أي: خالَط حبُّ العِجل وعبادته شغافَ قلوبِهم، وتغلغل في أعماقها، كالماء الذي يَتغلغل في باطِن أعضاء الجسَد، وإنَّما وقع لهم ذلك؛ بسبب جُحودِهم الحقَّ .
قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: أنتم تدَّعون الإيمانَ، مع أنَّكم قتلتُم أنبياءَ الله، واتَّخذتم العِجل إلهًا من دون الله، ولم تَنقادوا لكلامِه؛ فما هذا الإيمان الذي تدَّعون؟! فإنْ كان هذا إيمانًا بزعمكم، فبِئس الإيمانُ الداعي صاحبَه إلى الطُّغيان، والكفرِ برُسل الله، وكثرةِ العصيان! فإنَّ الإيمان الصَّحيح يأمُر صاحبَه بكلِّ خير، وينهاه عن كلِّ شر؛ فتبيَّن بهذا كذبُهم، وتناقضُهم

.
الفوائد التربويَّة:

1- وجوب تلقِّي شريعة الله تعالى بقوَّة، دون كسَلٍ أو فُتور؛ لقوله تعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
.
2- في قوله تعالى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 93] ، دلالةٌ على أنَّ الإيمان الصَّحيح يأمُر صاحبَه بالطاعات لا بالمعاصي .
3- في قوله تعالى ذامًّا بني إسرائيل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة: 91] ، دلالةٌ على وجوب قَبول الحقِّ مِن كلِّ مَن جاء به .
4- أنَّ الشرَّ لا يُسنده الله تعالى إلى نفْسه، وإنْ كان هو سبحانه الخالِقَ للخير والشرِّ، بل يَذكُره بصيغة المبنيِّ لِمَا لم يُسمَّ فاعله؛ لقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِم

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- ممَّا يُستفاد من قوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [البقرة: 91] ، أن الله تعالى لَمَّا رفَع مقدار بني إسرائيل بالدُّعاء إلى الإيمان بما أُسنِد إلى هذا الاسم العظيم في قوله: أَنْزَلَ اللهُ قالوا تسفيلًا لأنفسهم: نؤمِن بما أُنزل عَلَينا، فأَسقطوا اسمَ مَن يُتشرَّف بذِكره، ويُتبرَّك باسمه، وخصُّوا بعضَ ما أنزله سبحانه
.
2- إفحام الخَصْم بإقامة الحُجَّة عليه مِن فِعله؛ ووجه ذلك: أنَّ الله تعالى أقام على اليهود الحُجَّةَ عليهم بفِعلهم؛ لأنَّهم قالوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا، لكنَّهم قتَلوا أنبياء الله الذين جاؤوهم بالحقِّ من ربِّهم، فعُلم إذًا أنَّ قولهم: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ليس بصحيح؛ لأنَّهم لو كانوا مؤمنين حقيقةً ما قتَلوا الأنبياء؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ؟!
3- مِن دَلائل النبوَّة والمعجِزات العلميَّة، إشاراتُ القرآن إلى العِبارات التي نطَق بها موسى عليه السلام في بني إسرائيل، وكُتبت في التوراة؛ فإنَّ الأمر بالسَّماع تَكرَّر في مواضع مخاطبات موسى لملأ بني إسرائيل بقوله: اسمَعْ يا إسرائيل، وجاء في القرآن: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة: 93] ، فهذا من نُكت اختيار هذا اللَّفْظ للدَّلالة على الامتثال دون غيرِه، وهذا مِثل التعبير بالعهد

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
الاستفهام للتبكيت والتوبيخ
.
وجاء قوله: تَقْتُلُونَ بصيغة المضارع، مع أنَّ الكلام عن الماضي بدليل قوله: مِنْ قَبْلُ، ومعلومٌ أنَّه لا يجوز أن يُقال: أنا أضربك أمس؛ وهذا إنما حسُن في هذه الآية؛ لأنَّ ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصِّفة اللازمة كقوله تعالى: واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ [البقرة: 102] ولم يقل: ما تَلَت؛ لأنَّه أراد: مِن شأنها التِّلاوة، فأراد هنا: مِن شأنهم القَتْل، وللإعلام بأنَّ الأمر مستمرٌّ؛ ففيه إشارةٌ لليهود الذين في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أرادوا قتْله عليه الصَّلاة والسَّلام، لولا أنَّ الله تعالى عَصمَه منهم. وربَّما يكون خِطابًا لمن كانوا في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال لهم: لِمَ ترضَوْن بقتْل الأنبياء من قبلُ؟ لأنَّ الراضي بالقتل بمنزلة القاتل، فصحَّ أن يُقال للرَّاضين بالقتل لِمَ تَقْتُلُونَ .
وفيه ما يُعرف بالاحتباك ؛ حيث حُذِف الشرطُ الأوَّل، (والتقدير: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون أنبياء الله؟)، والجوابُ الأخير، (والتقدير: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم؟) .
2- قوله: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فيه تأكيدٌ بالقَسَم؛ للاهتمام بالخبر، أو لتنزيلهم منزلة المنكرين؛ لعدم حِرصهم على موجب العلم .
3- قوله: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ عبر بالجملة الاسميَّة للدَّلالة على استمرارهم في الظُّلم وثُبوتهم الأصلي عليه .
4- قوله: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ كرَّر رفْع الطور؛ لِمَا تعلَّق به من زيادة ليست مع الأوَّل وهي قولهم: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، مع ما فيه من التوكيد وإيجاب الحُجَّة على الخَصْم على عادة العرب، وتذكارهم بتعداد نِعم الله تعالى عليهم ونِقَمه منهم، ليزدجرَ الأخلاف بما حلَّ بالأسلاف .
5- في قوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
جاء التعبير بالفِعل المبنيِّ لِمَا لم يُسمَّ فاعله أُشْرِبُوا؛ إشارةً إلى أنَّ حبَّهم للعجل بلَغ مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه، كأنَّ غيرهم أشربهم إيَّاه .
وفيه: إيجاز بالحذف، والتقدير: (حب العجل) أو (حب عبادة العجل)، وحسُن الحذف هنا، وأُسند الإشراب إلى ذات العِجل مبالغةً في حبِّهم له، أو لعبادته .
وفيه: تشبيهٌ بليغ؛ حيث صوَّر قلوبهم لتمكُّن حبِّ العجل منها كأنها تَشرَب؛ وعبر بالشُّرب إشارةً إلى أنَّ تلك المحبة كانت مادَّةً لجميع ما صدَر عنهم من الأفعال، مثلما أنَّ الشُّرب مادةٌ لحياةِ ما تنبته الأرض .
6- في قوله: يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ جاءت إضافة الأمر إلى إيمانهم من باب التهكُّم؛ إذ الإيمان الحقيقي لا يأمر إلا بخير، وكذلك إضافة الإيمان إليهم؛ لأنَّهم ليسوا بمؤمنين حقيقةً؛ ولإظهار أنَّ الإيمان المذموم هو إيمانُهم، أي: الذي دخَلَه التحريف والاضطراب .

===============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (94-96)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
غريب الكلمات:

يُعَمَّرُ: يطول عُمره، والتعمير: إعطاء العُمر بالفِعل، وأصله: البقاء وامتداد الزمان
.
بِمُزَحْزِحِهِ: أي: بمُبعِده؛ فأصل الزحزحة: الإبعاد

.
المعنى الإجمالي:

لَمَّا زعَم اليهود أنَّ النَّعيم سيكون لهم وحْدَهم، أمَر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهم: إنْ كان الأمر كما زعمتُم، فاجتمِعوا مع المسلمين، ثمَّ ادعُوا بالموت على أيِّ الفريقينِ منكما أكذبُ، لكنَّهم لن يفعلوا ذلك أبدًا؛ بسبب ما اكتسبوه من الكُفر والمعاصي، والله تعالى محيطٌ بهم وبكلِّ ظالم، وسيُجازيهم على أعمالِهم.
ثمَّ أخْبَر الله عزَّ وجلَّ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن اليهود أنَّه سيجدهم من أكثر الناس حِرصًا على البَقاء على قَيد الحياة، حتى فاقوا المشركين الذين لا يُؤمنون بِبَعثٍ ولا نُشور! يودُّ الشخصُ منهم أن يمكثَ حيًّا ألفَ عام، مع أنَّ هذا المُكث- ولو طال- لن يُبعده عن عذاب الآخِرة، والله تعالى يرَى كلَّ ما يفعله هؤلاء اليهودُ، وسيجازيهم عليه.
تفسير الآيات:

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94).
أي: قلْ يا محمَّد، لهؤلاء اليهود: إنْ كان نعيم الآخرة مقصورًا عليكم وحدكم دون بقيَّة الناس- كما تزعمون- فهناك طريقةٌ تُظهِر المحقَّ في دعاويه من الكاذب المبطِل، وهي المباهلةُ، بأنْ تَدْعُوا بالموتِ على أيِّ الفريقينِ أكذبُ، وسيتبيَّن الأمر
.
وقد أَرشد الله تعالى رسولَه عليه الصَّلاة والسَّلام، إلى مباهلة وفْد نجران من النَّصارى بعد قِيام الحُجَّة عليهم في المناظرة، وعُتوِّهم وعِنادهم، فقال عزَّ وجلَّ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61] .
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95).
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.
أخبَر تعالى عن عِلمه بعَجز اليهود عن تمنِّي ذلك مطلقًا؛ بسبب ما اكتسبوه من كُفرٍ ومعاصٍ، ومن ذلك تكذيبهم النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام، وكتمانهم صفتَه الموجودة في توراتهم، فهم يعلمون أنَّ الموت طريقٌ إلى مجازاتهم على ما اكتَسبوه؛ ولذا فهم يكرهونه .
وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أي: توعَّد اللهُ تعالى اليهود وهدَّدهم- ويدخل في هذا كلُّ ظالمٍ سواهم- بأنَّه سبحانه ذو عِلم بالظالمين، ليس بغافل عنهم ولا ساهٍ، بل هو حافظٌ لأعمالهم، وسيجازيهم على ظُلمهم .
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة: 6-7] .
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96).
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.
أي: مِن المؤكَّد يا محمَّد، أن تجِد هؤلاء اليهودَ أشدَّ الناس حرصًا على البقاء في الحياة الدُّنيا، وأشدَّهم كراهةً للموت؛ لعِلمهم بما لهم في الآخِرة من العذاب، وأن تجد حبَّهم للمُكث وطولِ العُمر في الدُّنيا فاق حتى أولئك المشركين الذين لا يُؤمنون بأحدٍ من الرُّسل والكتُب، ولا يُقرُّون بالبعث .
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ.
قيل: يودُّ أحدُ اليهود- وقيل: يودُّ أحدُ المشركين- مِن حِرصه على المُكث في هذه الحياة الفانية، أن يَطولَ عُمُرهُ حتى يبلغَ ألْفَ سَنةٍ .
وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ.
أي: وما طولُ البَقاء في الدُّنيا لأحدهم بمُبعِده من عذاب الآخِرة؛ لأنَّه مهما طال العمرُ فلا بدَّ له من فَناءٍ .
وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ.
هذا توعُّدٌ لأولئك اليهود، وتهديدٌ لهم بالمجازاة على أعمالهم؛ فالله تعالى يرَى كلَّ ما يفعلونه، لا يخفى عليه شيءٌ من ذلك

.
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة: 8] .
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ طول العُمُر لا يُفيد المرءَ شيئًا إذا كان في معصية الله تعالى؛ لقوله: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ
.
2- دِقَّة فَهم السَّلف حين كرِهوا أن يُدْعَى للإنسان بالبقاء على سبيل الإطلاق من غير تقييدٍ بطاعة؛ فإنَّ الإمامَ أحمد كرِه أن يقول للإنسان: (أطال اللهُ بقاءَك)؛ لأنَّ طول البقاء قد ينفع، وقد يضرُّ، والأفضل أن يُقال: (أطال اللهُ بقاءَك على طاعةِ الله)، أو نحو ذلك

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- إثبات عِلم الله تعالى للمستقبل؛ لقوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا؛ فوقَع الأمرُ كما أخبَر به
.
2- جوازُ تخصيص العموم لغرَض؛ لقوله تعالى: وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فخصَّ عِلمه بالظالمين؛ تهديدًا لهم .
3- أنَّ الناس يتفاوتون في الحِرص على الحَياة؛ لقوله تعالى: أَحْرَصَ؛ وأَحْرَص اسمُ تفضيل

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فيه تقديمُ الجار والمجرور لَكُمُ؛ إشعارًا بالاختصاص والحصر، أو للاهتمام
.
وفي قوله: مِنْ دُونِ النَّاسِ: تأكيدٌ لمعنى الاختصاص المستفاد من قوله: لَكُمْ، ومِن قوله: خَالِصَةً .
2- في قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا جاء التعبير هنا بحرف النفي (لن)، بينما في سورة الجمعة جاء التعبير بحرف النفي (لا) في قوله: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ؛ وهذا من المناسبات اللَّطيفة، ومن محاسِن المعاني؛ لأنَّهم هنا في سورة البَقرة ادَّعَوْا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وهناك في سورة الجمعة ادَّعَوْا أنَّهم أولياء لله تعالى من دون الناس، والدَّعوى الأولى أعظمُ من الثانية، فبيَّن سبحانه فسادَ قولهم بلفظ: (لن)؛ لأنَّه أقوى الألفاظ النافية، واكتفى في إبطال الثانية بلفظ (لا)؛ لأنَّه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي .
3- قوله: واللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ خبَر مستعمَل في التهديد؛ لأنَّ القَديرَ إذا علِم بظلم الظالم لم يتأخَّر عن معاقبته .
وقوله: بِالظَّالِمِينَ فيه وضْع الظاهر موضعَ المُضمر؛ وذلك للتسجيل عليهم بالظُّلم، وقصدًا إلى تعميم الحُكم عليهم وعلى غيرِهم .
4- في قوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا تخصيصٌ بعد تعميم- فخصَّص المشركين بالذكر عقب عموم الناس-؛ وذلك للتَّوبيخ العظيم لليهود؛ إذ هم أهل كتاب، ومع ذلك هم أحرصُ على طول البقاء في الدنيا ممَّن لا يُؤمن بكتابٍ ولا يُقِرُّ ببعث !
في قوله: عَلَى حَيَاةٍ قيل نُكِّرت (حياة)؛ للدَّلالة على أنَّها حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة - على حذف مضاف، أي: على طول حياة، أو على حذف صفة، أي على حياة طويلة . أو للدَّلالة على كونِهم أحرصَ الناس على مُطلق حياة؛ لأنَّ من كان أحرص على مطلق حياة، وهو تحققها بأدنى زمان، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى، وعليه، فلا حاجة لتقدير محذوف . وقيل فيه دَلالة على حِرصهم على أدْنى ما يَصدُق عليه أنَّه (حياة) ولو كانت تخلو من أي قيمة أو معنى .


=======


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (97-103)
ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ
غريب الكلمات:

نَبَذَهُ: ترَكه ولم يعمل به، أو طرَحه لقلَّة اعتداده به، وأصل النبذ: طَرْح الشيء وإلقاؤه
.
بِبَابِلَ: اسم بلد، قيل: الكوفة، وقيل: بلد من سواد الكوفة، وقيل: نصيبين، وقيل غير ذلك . وينسب إليها السحر والخمر . وتوجد حاليًّا محافظة بالعراق تسمى بابل.
لَمَثُوبَةٌ: أي: جزاء ثابت، أو ثواب، وهو عبارة عن المنفعة الخالِصة المقرونة بالتعظيم، والمثوبة مختصَّة بالخير، كما أن العقوبة مختصَّة بالشر

.
المعنى الإجمالي:

حين أعلن اليهودُ عداوتَهم لجبريلَ عليه السَّلام، وزعَموا أنَّ الذي منَعَهم من الإيمان بالنبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم هو ولايتُه لجبريلَ عليه السَّلام- أَمَر الله سبحانه نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُخبرهم بأنَّ جبريل أنزل القرآن بأمْر الله، ولم يَنزل من تلقاء نفْسه، فعداوتهم له إنَّما هي عداوةٌ لله في الواقع، كما أنَّ القرآن الذي نزل به يُصدِّق ما سبقه من الكتُب السماويَّة، وهو دليلٌ على الحق، وفيه الإخبارُ بموعود الله للمؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنَّ مَن عادَى اللهَ تعالى، أو ملَكًا من الملائكة، أو رسولًا من الرُّسُل فهو كافر، والله تعالى يُعادي كلَّ كافر.
ثم قال لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّه قد أنزل إليه دلائلَ واضحةً على صِدق نبوَّته، وإنَّها- لشدَّة وضوحها- لا يَجحدها إلَّا مَن هو خارجٌ عن الإيمان.
ثمَّ أخبَر الله تعالى أنَّ نقض العهود هو عادةٌ لدى اليهود؛ فكلَّما التزموا بعهدٍ، قام بنقضه جماعةٌ منهم؛ ذلك لأنَّ أكثر اليهود غير مُقرِّين بالحقِّ، ولا يُطبِّقونه قولًا ولا عَملًا.
ولَمَّا بُعث محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من عند الله، وقد وافقتْ صِفتُه ما هو موجودٌ عندهم في التوراة، ترك جماعةٌ من اليهود العملَ بالتوراة التي تحضُّ على الإيمان بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، متجاهلين تعاليمَها، وكأنَّهم لا يعلمون ما تضمَّنتْه من صفاته، والحثِّ على متابعته.
واتَّبع هؤلاء اليهودُ ما اختلقتْه الشياطين في عهد نبيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام من السِّحر، ونَسَبوه إليه، زاعمين أنَّه حصَل على مُلك عظيم بهذا السِّحر، واتَّبعوا أيضًا السِّحرَ المنزَّلَ على الملَكين: هاروت وماروت، في بابل بأرض العراق. ولا يقوم هذان المَلَكان بتعليم السحر لأحدٍ من الناس حتَّى يُقدِّما له النصيحةَ بأنَّهما مجرَّد ابتلاء لبني آدم، ويُحذِّراه من الإقدام على الكُفر بالله بتعلُّم السِّحر وممارسته. فمَن لم يَقبَل بنصحهما يتعلَّم السِّحرَ منهما، ويقدر من خلاله على التفريق بين الزَّوجين، ولكن لا يستطيع أن يضرَّ أحدًا إلَّا بمشيئة الله سبحانه، ويتعلَّم هؤلاء من المَلَكينِ ما هو ضررٌ عليهم ولا يعود عليهم بالنَّفع البتَّةَ، وقد علِم اليهودُ أنَّ مَن سلَك هذا الطريق، فليس له في الآخرةِ من نَصيب، ولبئسَ هذا العمل لو كانوا يعلمون مدَى ضررِه عليهم! ولو اختاروا طريقَ الإيمان والتقوى بدَلَ السِّحر، لأثابهم الله تعالى ثوابًا يكون خيرًا لهم من حظوظ الدُّنيا الفانية.
تفسير الآيات:

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97).
سبب النُّزول:
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((أقبلتْ يهودُ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسم، إنَّا نسألُك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتْنا بهنَّ، عرَفْنا أنَّك نبيٌّ واتبعناك، فأخَذ عليهم ما أخَذ إسرائيلُ على بنيه؛ إذ قالوا: اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قال: هاتوا، قالوا: أخبِرْنا عن علامة النبيِّ، قال: تنام عيناه ولا ينام قلبُه، قالوا: أخبِرْنا كيف تؤنِّث المرأة وكيف تُذكِّر؟ قال: يَلتقي الماءانِ، فإذا علَا ماءُ الرجُل ماءَ المرأة أذْكَرت، وإذا علَا ماءُ المرأة ماءَ الرجُل آنثَتْ، قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيل على نفْسه؟ قال: كان يَشتكي عِرق النَّسا فلم يجِد شيئًا يلائمه إلَّا ألبانَ كذا وكذا، قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: قال بعضُهم: يعني الإبل، قال: فحرَّم لحومها، قالوا: صدقتَ، قالوا: أخبِرْنا ما هذا الرَّعد؟ قال: ملَكٌ من ملائكة الله عزَّ وجلَّ موكَّل بالسَّحاب، بيده أو في يده مِخراق من نار، يزجُر به السحاب يسوقُه حيث أمر الله، قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقتَ، إنَّما بقِيَتْ واحدةٌ، وهي التي نبايعك إنْ أخبرتَنا بها، فإنَّه ليس من نبيٍّ إلَّا له مَلَك يأتيه بالخبَر، فأخبِرْنا من صاحبك؟ قال: جبريلُ عليه السَّلام، قالوا: جبريل! ذاك الذي يَنزل بالحَرْب والقِتال والعذاب! عدوُّنا! لو قلت: ميكائيل، الذي يَنزل بالرحمةِ والنَّبات والقَطر، لكان! فأنزل الله عزَّ وجلَّ: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ إلى آخِر الآية ))
.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله.
أي: قلْ يا محمَّد، لهؤلاء اليهود الذين زعَموا أنَّ الذي منَعَهم من الإيمان برسالتك، أنَّ وليَّك جبريلُ عليه السَّلام، وأنَّه لو كان وليُّك أحدًا سواه من الملائكة لآمَنوا بك- قل لهم: مَن عادى جبريلَ عليه السَّلام، فليعلمْ أنه هو الذي نزَل بالقرآن على قلبِك، وجبريل لا يَنزل بالأمر من تِلقاء نفْسه، وإنَّما ينزل بأمْر الله تعالى، وهذا يَعني أنَّهم بقولهم ذلك يُعادُون الله تعالى في الحقيقة؛ أمَّا جبريل فهو رسولٌ محضٌ .
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 192 - 194] .
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
أي: إنَّ القرآن نزَل والحال أنَّه متطابق مع الكتُب الإلهيَّة الأخرى التي سبقتْه كالتوراة، وموافِق لها، ومن ذلك ما فيها من الأمر باتِّباع محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو دَلالة على الحقِّ، وبُشرى من الله تعالى للمؤمنين خاصَّةً، وفيه أنواعٌ من البِشارات لهم، ومن ذلك ما أعْلمَهم الله تعالى فيه بما أعدَّ لهم في الآخِرة من النَّعيم المقيم .
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98).
سبب النُّزول:
عن ابنِ أَبي لَيْلَى قال: ((إنَّ يهوديًّا لقِي عُمرَ فقال: إنَّ جبريل الذي يذكُر صاحبُكم عدُوٌّ لنا، فقال عمرُ: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهْ إلى لِلْكَافِرِين قال: فنزلتْ على لسان عُمرَ)) .
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98).
أي: إنَّ مَن عادى الله تعالى، أو أحدًا ممَّن ذُكروا من الملائكة عمومًا، أو جِبريل وميكال خصوصًا، أو مِن بقيَّة رُسل الله الكِرام من البَشر كمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مَن عاداهم أو أحدًا منهم فإنَّه كافر، والله تعالى يتَّخذه عدوًّا له؛ لأنَّه سبحانه يُعادي كلَّ كافر .
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ قال: منَ عادَى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحَربِ )) .
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99).
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.
أي: قد أنزلنا إليك- يا محمَّد- فيما أُوحي إليك من القُرآن، آياتٍ هي دلائل واضحة، دالَّةٍ على صِدق نبوَّتك .
وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ.
أي: هذه الآيات البيِّنات قد بلَغتْ من الوضوح والدَّلالة على الحقِّ، مَبلَغًا عظيمًا، ووصلتْ إلى حال لا يَجحدها ويمتنع من قَبولها إلَّا مَن خرَج عن دائرة الإيمان، والالتزام بشريعة الرَّحمن .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100).
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ.
هذا توبيخٌ وتعجُّبٌ من الله تعالى، مِن صنيع اليهود الذين لا يلتزمون بما عَهِد الله تعالى إليهم، وهو التمسُّك بأوامره سبحانه في التوراة، ومن ذلك الإيمانُ بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ واتِّباعه؛ فكلَّما وعَدوا بالالتزام بعهدٍ من عهود التوراة، نقَضَه جماعةٌ منهم وطرَحوه، تاركين الوفاءَ به .
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّ أكثرَ اليهود غير مصدِّقين بالحقِّ اعتقادًا وقولًا وعملًا، وعدَم إيمانهم هو الذي حمَلَهم على نبْذ العهود .
لو صَدَق إيمانهم، لكانوا مِثل مَن قال الله فيهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] .
قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ [الأنفال: 55-56] .
وقال سبحانه: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة: 13] .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101).
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ.
أي: ولَمَّا أتى اليهودَ رسولٌ مرسَلٌ من قِبل الله عزَّ وجلَّ، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وقد جاءهم بصفته الموافقة لِما في التوراة من صِفاته وإثبات رِسالته، والتي يزعمون أنَّهم متمسِّكون وملتزمون بما فيها .
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ترَك طائفةٌ من اليهود أصحابِ التوراة، العملَ بالتوراة التي أنزلها الله تعالى عليهم، بالدُّخول في دِين محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ترَكوا ذلك متجاهلين، وكأنَّهم لا يعلمون ما في التوراة من البشارة بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وذِكر صِفاته، والأمر باتِّباعه .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
مَن ترَك ما يَنفعُه مع إمكانيةِ الانتفاعِ به، فإنَّه يُبتُلى بالاشتغال بما يضرُّه، فكذلك هؤلاء اليهودُ؛ فلَمَّا ذكَر الله تعالى أنَّهم نبَذوا كتابَ الله، ذكَر اشتغالَهم بما يضرُّهم، فقال :
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ .
أي: اتَّبع اليهود ما تختلقُه الشياطينُ وتتقوَّلُه، من السِّحر على عهد سليمان، وتَنسُبه إليه، حيث أخرجت الشياطين للناس السِّحر، وزعَموا كذبًا أنَّ سليمان عليه السَّلام كان يستعمله، وأنه حصَل له به المُلك العظيم .
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
أي: إنَّ سليمانَ عليه السَّلام بريءٌ من تُهمة السِّحر التي أَلْصَقَها به اليهود، فلم يكُن كافرًا يمارس السِّحر، أو يُعلِّمه للآخرين؛ وذلك لأنَّ السِّحر كُفر، بل الذين كفروا بسبب السِّحر في الحقيقة هم الشياطين الذين يُعلِّمونه للناس؛ إضلالًا لهم .
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ.
أي: واتَّبع اليهود أيضًا السِّحرَ، الذي أُنزل على الملَكين: هاروت وماروت، في بابل من أرضِ العِراق .
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ.
أي: وما يعلِّم هذانِ الملَكانِ السِّحرَ لأحدٍ من الناس، حتى يَنصحاه فيقولَا له: إنَّما نحن هنا لتعليم السِّحر؛ اختبارًا وابتلاءً لبني آدم، فلا تَكفُرْ بالله؛ بسبب تعلُّم السِّحر وممارسته .
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ.
أي: فيتعلَّم الناسُ السِّحرَ من المَلَكينِ بما يَتصرَّفون به تصرُّفاتٍ مذمومةً، من أعظمِها التفريقُ بين الزَّوجين، مع ما بينهما من المودَّة والرَّحمة .
عن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ إبليسَ يَضَعُ عرشَه على الماءِ ثمَّ يبعثُ سَراياهُ، فأدْناهم منهُ منزلةً أعظمُهم فِتنةً، يجيءُ أحدُهم فيقولُ: فعلتُ كذا وَكذا، فيقولُ: ما صنعتَ شيئًا! قال: ثمَّ يجيءُ أحدُهم، فيقولُ: ما ترَكتُه حتَّى فرَّقتُ بينَه وبينَ امرأتِه، قال: فيُدنيهِ منهُ، ويقولُ: نِعمَ أنتَ! )) .
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ.
أي: وما هؤلاء المتعلِّمون السِّحرَ من الملَكيْن، وفاعِلو تلك الأفعال القَبيحة، بضارِّين بذلِك أحدًا من الخَلْق، إلَّا بإذن الله تعالى الكوني، أي: بقُدرته ومشيئته سبحانه .
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ.
أي: إنَّ السِّحرَ الذي يتعلَّمه هؤلاء المشتغِلون به ضررٌ محضٌ عليهم في الدنيا، ليس فيه نفْعٌ مطلقًا .
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
أي: قد علِم أولئك اليهودُ أنَّ مَن استبدل السِّحرَ بكتاب الله تعالى ومتابعةِ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، أنَّه ليس له في الآخِرة حظٌّ ولا نصيبٌ من الجَنَّة .
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: ولبئس البديلُ السِّحرُ الذي تعلَّموه، بديلًا عن كِتاب الله تعالى، ومتابعة رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام، لو كانوا يَعلمون أنَّهم إنَّما باعُوا أنفسَهم، وحظَّهم من الآخِرة بما يَضرُّهم في الدُّنيا أيضًا، ولا ينفعهم .
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103).
أي: إنَّهم لو اختاروا الإيمانَ والتقوى بدلَ السِّحرِ، لكان اللهُ يثيبُهم على ذلك ما هو خيرٌ لهم ممَّا طلبوه في الدُّنيا لو كانوا يَعلمون، فيَحصُل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير، الذي هو جَلْب المنفعة ودفْع المضرَّة، ما هو أعظمُ ممَّا يُحصِّلونه بالسِّحر من خير الدُّنيا، مع ما يُدَّخَرُ لهم من الثَّواب في الآخِرة

.
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص: 80] .
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ الله تعالى قد يُيسِّر أسباب المعصية؛ امتحانًا للناس؛ لقوله تعالى: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ
.
2- أنَّه يجب على الإنسان أن يَبذُلَ نُصحَه للناس، وإنْ أوجب ذلك إعراضَهم عنه؛ لقوله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ .
3- أنَّ الأسباب وإن عظُمت لا تأثيرَ لها إلَّا بإذن الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله، فينبغي اللجوءُ إلى الله دائمًا، سواء في جلْب المنافع، أو دفْع المضارِّ .
4- في قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، دلالةٌ على أنَّ مَن ترَك ما ينفعه، ابتُلي بالاشتغال بما يضرُّه؛ فمَن ترَك عبادة الرحمن، ابتُلي بعبادة الأوثان، ومَن ترك محبَّة الله وخوفَه ورجاءَه، ابتُلي بمحبة غير الله وخوفِه ورجائِه، ومن لم يُنفق مالَه في طاعة الله، أنفقه في طاعة الشَّيطان، ومَن ترَك الذلَّ لربِّه، ابتُلي بالذلِّ للعبيد، ومَن ترَك الحقَّ، ابتُلي بالباطل

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قد وعَى القرآنَ وعيًا كاملًا، لا يتطرَّق إليه شكٌّ؛ لقوله تعالى: نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ؛ لأنَّ ما نفذ إلى القلب، حلَّ في القلب؛ وإذا حلَّ في القلب، فهو في حِرز مكين
.
2- أنَّ نبْذَ مَن عِنده كتاب وعِلم أقبحُ ممَّن ليس عنده ذلك؛ كما نبذ في قوله تعالى: فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ؛ لإظهار شدَّة القُبح من هؤلاء في نبْذِهم .
3- أنَّ هذا النَّبذ الذي كان منهم لا يُرجى بعدَه قَبول؛ لقوله تعالى: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ لأنَّ النبذ لو كان أمامهم ربَّما يتلقَّونه بعدُ؛ كذلك لو كان عن اليمين والشِّمال، لكن إذا كان وراءَ الظَّهر، فمعناه استبعادُ القَبول منهم .
4- إثبات الجَزاء، وأنَّه مِن جِنس العمل؛ فإنَّ الكافر لَمَّا لم يجعلْ لله نصيبًا في دُنياه، لم يجعل اللهُ له نصيبًا من نعيم الجَنَّة في أُخراه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ .
5- أنَّ صاحب العِلم الذي يَنتفِع بعِلمه هو الذي يَحذَر ما يضرُّه؛ لقوله تعالى: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فلو كانوا ذَوي عِلم نافع، لَمَا اشترَوا هذا العِلم الذي يضرُّهم، ولا ينفعُهم

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ فيه إضمار ما لم يَسبق ذكرُه؛ لأنَّه كالمعلوم؛ للدلالة على فخامة شأن صاحبِه؛ حيث يُجعل لفَرط شهرته كأنَّه يدلُّ على نفسه، ويُكتفَى عن اسمه الصريح بذِكر شيء من صفاته، فالهاء في قوله: فَإِنَّهُ تعود على جبريل، والهاء الثانية في: نَزَّلَهُ تعود على القرآن
.
2- قوله: وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
فيه وضْع المصدر (هدى وبشرى) موضعَ اسم الفاعل (هاديًا ومبشِّرًا)، على سبيل المبالغة، كأنَّه لَمَّا حصل به الهُدى والبُشرى، جُعِل نفْسَ الهدى والبشرى. أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذا هُدًى .
وقدَّم (الهدى) على (البشرى)؛ لوجود الهُدَى قبْل البُشْرى، ولسببيَّته فيها؛ لأنَّ البُشرى عبارة عن الخبر الدال على حُصولِ الخير العظيم، وهذا لا يحصُل إلَّا في حقِّ المؤمنين المهتدين .
3- في قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ صُدِّر الكلام بذِكر الجليل سبحانه؛ تفخيمًا لشأنهم، وإيذانًا بأن عداوتهم عداوةٌ للهِ عزَّ وجلَّ. وقدم الملائكة على الرسل، كما قدم الله على الجميع؛ لأنَّ عداوة الرسل بسبب نزول الوحي، ونزوله بتنزيل الملائكة، وتنزيلهم لها بأمر الله، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب .
4- قوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فيه عطف الخاص على العام، ويُسمَّى عند البعض (التجريد) ، حيث أُفرد جبريل وميكال بالذِّكر بعد ذكر الملائكة مع أنَّهما من جُملتهم؛ تشريفًا لهما، ولبيان فَضلهما ورفعة شأنهما، كأنَّهما من جنس آخر، تنزيلًا للتغاير الوصفيِّ، منزلة التغاير الذاتي، أو للاعتناء بهم؛ لأنَّ الآية إنما نزلت بسببهما، ودفعًا لإشكال: أنَّ الموجبَ للكُفر عداوة جميع الملائكة، فنبَّه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكُفر .
5- قوله: فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ
فيه وضع الظاهر موضعَ المضمر في موضعين: الأول: في قوله فَإِنَّ اللهَ ولم يقل: (فإنِّي)؛ لأجل حمل العباد على الامتثال لأمره بذكر ما هو أدعى لحصول خشيته ومهابته في نفوسهم. والثاني: في قوله: لِلْكَافِرِينَ ولم يقل: (لهم)؛ للدلالة على أنَّه تعالى عاداهم بسبب كفرهم، وللدَّلالةِ على أنَّ عداوة الملائكة والرُّسل كُفرٌ، وأن هذا الحكم يشمل كلَّ كافر .
6- في قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فيه التِفات من الغَيبة إلى الخِطاب لرَسوله عليه الصلاة والسلام في قوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ؛ إشعارًا بالقرب، وتسليةً له بأنَّ عادةَ هؤلاء نكثُ عُهودهم؛ فلا تبالِ بمَن طريقتُه هذه، وأنَّهم سلَكوا هذه الطريقةَ معك .
7- في قوله: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ
استفهام، غرضُه الإنكار، وإعظامُ ما يُقدِمون عليه، وهذا أبلغُ في النكير عليهم، والتبكيت لهم .
وفي التعبير بقوله: أَوَكُلَّمَا دلالة على أنَّ ذلك كالعادة فيهم، وفيه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عند كُفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأنَّ ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيَّتهم وعادتهم وعادة سلفهم .
وجاء تنكير (عهدًا)؛ للدَّلالة على التَّكثير، أو للجِنس .
8- في قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ نُكِّر الرسول للتفخيم، والجار بعده (من عند) متعلِّق بجاء، أو بمحذوف وقَع صِفة لرسول، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكيرُ من الفخامة .
9- في قوله: مُصَدِّقٌ لِمَا أدخلت لام التقوية على مفعول مصدق (ما)؛ للدَّلالة على تقوية ذلك التصديق، أي: هو تصديق ثابت محقَّق لا يشوبه شيءٌ من التكذيب ولا التخطئة .
10- قوله: وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فيه تمثيلٌ للإعراض؛ لأنَّ مَن أعرض عن شيء تجاوزه، فخلَّفه وراء ظهره، وإضافة الوراء إلى الظهر؛ لتأكيد بُعْد المتروك بحيث لا يلقاه بعدَ ذلك، فجَعل للظهر، وراءَ وإن كان هو هنا بمعنى الوراء، فالإضافة كالبيانية .
11- قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا فيه تقديم نفي كفر سليمان على إثبات كفر الشياطين؛ لأنَّه الأهمُّ تعجيلًا لإثبات نزاهته وعِصمته عليه السَّلام .
12- في قوله: مَا تَتْلُو يُعَلِّمُونَ ووَمَا يُعَلِّمَانِ ويَقُولَا وفَيَتَعَلَّمُونَ ويُفَرِّقُونَ ووَيَتَعَلَّمُونَ ويَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ جاء التعبير فيها بالمضارع مع أنَّه حِكاية للحال الماضية؛ لأنَّه أدْعى لاستحضار ذلك وتصويره في النَّفْس، وللدَّلالة على الاستمرار، وإشارة إلى كثرته وفشوِّه .
13- قوله: حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ
فيه إفرادُ الفتنة مع أنَّ قائل ذلك اثنان، فلم يقل (فتنتان)؛ لكونها مصدرًا، وحملُها عليهما من باب المبالغة كأنَّهما نفسُ الفتنة .
وفيه: القصرُ بـ(إِنَّما)؛ لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيَانِه شأنٌ سواها؛ لينصرِفَ الناسُ عن تعلُّم السحر .
14- قوله: مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ فيه تأكيد ضَرَر السِّحر بعطف جُملة وَلَا يَنْفَعُهُمْ على جملة مَا يَضُرُّهُمْ عطف تأسيس لا توكيد .
15- في قوله: مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ تنكير الخلاق، مع تأكيد النَّفي بـ(مِن) الاستغراقيَّة؛ للدَّلالة على عِظم جُرم تَعاطي هذا السِّحر؛ فلذلك لم يكن لمتعاطيه أي حظٍّ من الخير في الآخرة .
16- قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ... لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
فيه: تأكيد بالقَسَم؛ لتقرير المعنى المقصود من الآية، أو لتنزيلهم منزلةَ المنكرين؛ لعدم جريهم على مُقتضَى العِلم .
وفيه: تكرير (علموا) (يعلمون)، وفائدته: التَّسجيلُ عليهم بأنَّهم لا يَعلمون ما هو النَّفْع الحق .
وفيه: تنزيل العالم منزلةَ الجاهل؛ فصدر الآية يدلُّ على ثبوت العلم بعدم نفع اشتراء السِّحر، وآخر الآية يَنفي عنهم العلمَ .
17- قوله: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ فيه التعبير بالجملة الاسميَّة؛ للدَّلالة على ثبات المثوبة، والجزم بخيريتها، وحذف المُفضَّل عليه (السحر)؛ إجلالًا للمفضَّل (الإيمان والتقوى) من أن يُنسب إليه .


=====


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (104-113)
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
غريب الكلمات:

رَاعِنَا: من رعيتُ الرجل: إذا تأمَّلته، وتعرَّفْت أحواله. وكانت اليهود تقوله للنبي صلَّى الله عليه وسلم، على سبيل التَّهكُّم والسبِّ، يقصدون به رميه بِالرُّعُونَة من رعن، وأصلها هوج واضطراب
.
نَنْسَخْ: ننقل ونزيل ونُبطل، وأصل النَّسخ: رفْع شيءٍ وإثباتُ غيرِه مكانَه، أو تحويلُ شيءٍ إلى شيء .
وَاصْفَحُوا: الصَّفح: ترْك التثريب واللومِ، والإِعراضُ عن الذَّنب؛ لأنَّه إذا أعرض عنه فكأنَّه قد ولَّاه صَفْحتَه، أي: عُرْضَه، وأصل الصفح: عرض الشَّيء وجانبُه، فصفحة العنق جانبها .
بُرْهَانَكُمْ: حُجَّتكم ودَلالتكم، وأصله: وضوح الشَّيء

.
المعنى الإجمالي:

نهى اللهُ المؤمنين أن يقولوا لنبيهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ كلمة (رَاعِنَا)، التي كانت اليهود تقولها، تقصِد بها السُّخريةَ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ونسبته إلى الرعونة، وإنْ لم يكُن مرادُ المؤمنين كمراد اليهود، وأبدلَهم لفظةَ (انْظُرْنَا) التي لا تحتمل ما تحتمله كلمة (رَاعِنَا) من معنى سيِّئ، وأمَرَهم أن يستجيبوا لِمَا يأمرهم به، وأعْلَمهم أنَّ للكافرين عذابًا مُوجِعًا.
ثم يُخبر سبحانَه عبادَه المؤمنين أنَّ الكافرين عمومًا سواء من الكتابيِّين أو المشركين، لا يُحبُّون أن يُنزِّل الله على عباده المؤمنين خيرًا، ومن ذلك القرآنُ الكريم، لكنَّ الله سبحانه يختصُّ برحمته- والتي منها النبوَّة والرِّسالة- مَنْ أراد مِن عبادِه، كما منَحَها نبيَّنَا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
ثم أخبر الله عزَّ وجلَّ أنَّ ما يرفعه من حكم آيةٍ، أو ما يزيله من الآيات فيُمْحى من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، أو ما يؤخِّر نزوله منها، أنَّه في جميع هذه الحالات يأتِـي سبحانه ببديلٍ عنها يكون أفضلَ لعباده، أو مثلَه، وذلك من تمام قُدرته سبحانه، ومُلكِه النافذ على جميعِ خَلْقه؛ فهو يَحكُم في عبادِه بما يشاء، وليس لهم مَن يَجلِب لهم خيرًا، أو يَدفَع عنهم شرًّا أو ينصرهم دون الله.
ثم حذَّر سبحانه جميعَ الناس؛ مؤمنهم وكافِرهم من سؤال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ تعنُّتًا،كطلبهم رؤيةَ بعض الآيات، كما فعَل اليهودُ مع موسى عليه السَّلام؛ فإنَّ مَن يختار الكفرَ فقد انحرَفَ عن الطريق القويم.
ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ كثيرًا من اليهود والنَّصارى يتمنَّوْن أن يترُك المسلمون دِينهم؛ وذلك لحسدِهم المؤمنين على ما مَنَّ اللهُ به عليهم من الهِداية التي جاء بها محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وذلك بعد أن اتَّضح لأهل الكِتاب يقينًا أنَّ ما جاء به هو الحقُّ.
ثمَّ أمرَ اللهُ المؤمنين أن يُعرِضوا عنهم، ويَعْفوا ويَصفحوا حتى يأتيَ الله بحُكمه فيهم، وقد جاء أمرُ الله لاحقًا، بأنْ أمرَ المؤمنين بقِتالهم، إنْ لم يدفعوا الجزيةَ.
ثم حثَّ اللهُ المؤمنين على عِبادته، فأمَرهم أن يؤدُّوا الصَّلاة تامَّة بأركانها وواجباتها، ويؤتوا الزكاة المشروعة، ووعَدهم سبحانه بأنَّ كلَّ ما يفعلونه من خير سيجدونه عند الله، فهو سبحانه لا يَخفَى عليه شيءٌ، فهو مطَّلع على جميعِ أفعالهم.
ثم أخبرَ سبحانه أنَّ اليهود يدَّعُون أنَّ الجنة لن يَدخُلَها إلَّا من كان يهوديًّا، وأنَّ النصارى يدَّعون أيضًا أنَّ الجنة لن يَدخُلَها إلَّا مَن كان نصرانيًّا، وأخْبَر جلَّ وعلا أنَّ تلك الادعاءاتِ إنَّما هي مجرَّد أمانيَّ كاذبةٍ، وأمَر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يَطلُب منهم الحُجَّة على ما يَدَّعون إنْ كانوا مُحقِّين.
بل إنَّ الأمر ليس كما يدَّعون ويتمنَّوْن، بل الحقيقة أنَّ مَن أخلصَ العمل لله تعالى وحده، سائرًا على نهجِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فله ثوابُه عند الله، ولا خوفٌ عليه ممَّا يستقبله من أمور الآخِرة، ولا يحزنُ على ما فاته في الدُّنيا.
ثم أخْبَر الله تعالى أنَّ اليهود والنَّصارى يدَّعي كلٌّ منهم أنَّ دِين الآخَر ليس فيه شيءٌ من الحقِّ، مع أنَّهم يتلون كُتُبهم، والتي تتضمَّن تكذيبهم فيما زعَموا، فالإنجيل يتضمَّن صِدق موسى وتقريرَ التوراة، والتوراةُ فيها التبشير بعيسى وصحَّة نبوَّته، وكذا قال بمِثل قولهم أُناسٌ من أهل الجَهل ليس لديهم عِلمُ مَن يتلون الكتاب.
ثم أخبر اللهُ تعالى أنَّه سيَقضي يوم القِيامة بين هؤلاء المختلِفين، والذين قال بعضُهم لبعض: لستُم على شيءٍ من الحقِّ، وسيَجزي اللهُ تعالى كلَّ مُبطِل على باطلِه.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا.
أي: نُهِي المسلمون عن قول هذه الكلِمة التي كانتِ اليهود تقولُها- وإنْ كانت من اليهودِ قبيحةً، ومِن المسلمين ليستْ كذلك- لما فيها من مُشابهةِ الكفَّار، ولكونها وسيلة إلى بلوغ غرَضهم، فالمسلمون يَعنُون بها طلبَ المراعاة، واليهود يعنون بها الرُّعونةَ؛ سخريةً من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ
.
وَقُولُوا انْظُرْنَا.
أي: أمَر الله تعالى عبادَه المؤمنين بلفظةٍ لا تحتمِل إلَّا معنًى حسنًا، بديلًا عن قولهم: راعِنا، للنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهي: انظُرْنا، أي: انتظرنا وأمهِلْنا حتى نفهم عنك ونتعلم منك .
وَاسْمَعُوا.
أي: أمَرَهم الله تعالى أن يَسمعوا لأوامره سَماعَ استجابةٍ وطاعةٍ .
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: أخبَر سبحانه عمَّن جحَد آياتِ الله تعالى من اليهود ومِن غيرهم، أنَّ لهم في الآخرة عذابًا مؤلِمًا موجِعًا .
قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 46] .
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105).
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: لا يحبُّ الكفَّارُ من أهل الكتاب، أو مِن المشركين أن يُنزِّل الله تعالى على المؤمنين أيَّ خيرٍ منه سبحانه، ومِن ذلك الوحيُ المنزَّل على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ: القرآن الكريم .
وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
أي: إنْ كان الكفَّارُ لا يودُّون لأحدٍ من المؤمنين خيرًا ينزل عليه من الله تعالى، فاللهُ يُريد ذلك؛ فهو الذي يُؤثِر برحماته مَن شاء مِن عباده بعِلمه وحِكمته، ومن ذلك منْح النبوَّة والرِّسالة لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فهو رحمة له ولغيره، وهو سبحانه ذو العَطاء الواسِع الكثير .
كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106).
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
أ- في قوله تعالى: نَنْسَخْ قِراءتان
1- (نُنْسِخْ) من أنسختُ الكتاب إنساخًا، أي: وجدته منسوخًا .
2- (نَنْسَخْ) من نَسَخَ، بمعنى أزال، وغيَّر .
ب- وفي قوله تعالى: نُنْسِهَا قِراءتان
1- (نَنْسَأْها) من التأخير؛ لأنَّ نَسَأَ أي أخَّر .
2- (نُنْسِهَا) من النِّسيان .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أي: ما نرفع من حكم آيةٍ فنبدِّله ونغيِّره .
أَوْ نُنْسِهَا
أي: أو ما نُزِلْه من الآيات؛ فنَمْحُه من قلبِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه رضي الله عنهم .
وعلى قراءة: أَوْ نَنْسأهَا يكون المعنى: أو ما نؤخِّر نزوله منها .
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا.
أي نأتِ بخيرٍ من الذي نسخناه أو محوناه من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أو بمثله في خيريَّته ووجوه نفْعه .
وعلى قراءة ننسأها يكون المعنى: نأتِ بخيرٍ من الذي نسخناه أو أخَّرنا نزوله أو بمثله في خيريَّته ووجوه نفْعه .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ الله تعالى يَنْسَخُ ما يشاء، ويُثبت ما يشاء، ويَحكُم بما يشاء، فهو القويُّ والقادِر على ذلك، ولا يُعجزه شيءٌ أبدًا، والخطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأُمَّتُه تبعٌ له فيه .
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107).
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ما دام أنَّ الله تعالى مالكٌ لجميع خلْقه، ومتصرِّف فيهم بما يَشاء؛ إذ له الخَلْق والأمر، فكذلك يحكُم في عباده بما يَشاء، فيُحلُّ ما يشاء، ويُحرِّم ما يشاء، ويُبيح ما يشاء، ويحظُر ما يشاء، وهو الذي يحكُم ما يريد ولا مُعقِّب لحُكمه .
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
أي: ما لكم سوى الله عزَّ وجلَّ أيُّ أحدٍ يتولَّاكم، فيَجلِب لكم الخير، وليس لكم سوى الله تعالى أيُّ أحدٍ ينصرُكم، فيدفع عنكم الشرَّ .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108).
سبب النُّزول:
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((قال رافعُ بن حُرَيمِلةَ ووهْبُ بن زيدٍ لرسولِ الله: يا محمَّد، ائتنا بكتاب تُنزله علينا من السَّماء نَقرؤه، أو فجِّر لنا أنهارًا، نَتَّبعْك ونُصدِّقك، فأنزل اللهُ في ذلك: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ إلى قوله: سَوَاءَ السَّبِيلِ)) .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ.
نَهى الله تعالى في هذه الآيةِ الناسَ، مؤمنهم وكافرهم، عن سؤال رسولِهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- الذي أُرسل للناس كافَّةً- أسئلةَ تعنُّتٍ أو اعتراض، أو اقتراحٍ للآيات، كما كان سلَف اليهود يَسألون موسى عليه السَّلام أسئلةً من هذا القَبيل .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة: 101- 102] .
وقال سبحانه: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 89 - 93] .
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت المسائلُ المنهيُّ عنها مذمومةً؛ فبعضها كفر، وبعضها قد تصِل بصاحبها إلى الكُفر، حذَّر الله تعالى من ذلك فقال :
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
أي: مَن أخذ الكفر عِوضًا عن الإيمان، فقد حادَ عن وسَط الطريق، وانحرَف إلى جوانبه التي تُفضِي به إلى طُرق الهلاك .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109).
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا.
أي: إنَّ كثيرًا من اليهود والنَّصارى يتمنَّون بكلِّ قلوبهم أن يرتدَّ المؤمنون عن دِينهم، فيَكفروا .
وقد سعَوا في ذلك، وأعمَلوا المكايد، كما قال تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: 72] .
وقال سبحانه عن المنافقين: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء: 89] .
حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.
أي: إنَّ تلك الأمنيةَ الصادرة عن كثيرٍ من أهل الكتاب؛ سببُها الحسدُ المتمكِّن والمتأصِّل في نفوسهم، للمؤمنين على ما آتاهم اللهُ تعالى من فَضلِه، بالهداية إلى دِينه القويمِ، وهذا الحسَد إنَّما صدَر منهم بعدَ أن تبيَّن لهم الحقُّ المبِين .
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا.
أي: اتركوا عِقابَ أهلِ الكِتاب على مساوئ كلامِهم، وغلِّ قلوبهم، ومكْر أعمالهم؛ واترْكُوا لَومَهم ومعاتبتهم، وأَعْرِضوا عن ذلك كلِّه، وكأنَّ شيئًا لم يكُن .
قال تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] .
حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.
أي: حتى يُحدِث اللهُ تعالى لكم من أمْره فيكم ما يشاء، ويَقضي فيهم ما يُريد، بما يَشفِي غليلَكم، ويُذهِب غيظَ قلوبِكم .
وقد أتَى هذا الأمرُ لاحقًا، بقتال الكفَّار مِن أهل الكِتاب، أو أخْذ الجِزيةِ منهم؛ ونُسِخ الأمرُ بالعفو والصَّفح بقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] .
عن أُسامةَ بنِ زيد رضي الله عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ركِب على حِمارٍ، عليه قَطيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ ، وأسامةُ وَراءَه، يعودُ سعدَ بنَ عُبادَةَ في بني حارثِ ابنِ الخَزرَجِ، قبلَ وَقعةِ بدرٍ، فسارَا حتى مرَّا بمجلسٍ فيه عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ، وذلك قبلَ أن يُسلِمَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، فإذا المجلسُ أخلاطٌ منَ المسلمينَ والمشركينَ؛ عبَدَةِ الأوثانِ، واليهودِ، وفي المسلمينَ عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ، فلمَّا غَشِيَتِ المجلسَ عَجاجَةُ الدابَّةِ، خمَّر ابنُ أُبَيٍّ أنفَه برِدائِه وقال: لا تُغَبِّروا علينا، فسلَّم رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ عليهم، ثم وقَف، فنزَل فدَعاهم إلى اللهِ، وقرَأ عليهمُ القرآنَ، فقال له عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ: أيُّها المرءُ، لا أحسَنَ ممَّا تقولُ إنْ كان حقًّا، فلا تؤذِنا به في مجالسِنا، فمَن جاءك فاقصُصْ عليه. قال عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ: بَلى يا رسولَ اللهِ، فاغشَنا في مجالسِنا؛ فإنَّا نُحِبُّ ذلك، فاستَبَّ المسلمونَ والمشرِكونَ واليهودُ حتى كادوا يتَثاوَرونَ، فلم يزَلْ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُخَفِّضُهم حتى سكَتوا، ثم ركِب رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ دابَّتَه، فسار حتى دخَل على سعدِ بنِ عُبادَةَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((أيْ سعدُ، ألم تَسمَعْ ما قال أبو حُبابٍ- يريدُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ- قال كذا وكذا)). فقال سعدُ بنُ عُبادَةَ: أيْ رسولَ اللهِ، بأبي أنت، اعفُ عنه واصفَحْ، فوالذي أنزَل عليك الكتابَ، لقد جاء اللهُ بالحقِّ الذي أَنزَل عليك، ولقدِ اصطَلَح أهلُ هذه البَحرَةِ على أن يُتَوِّجوه ويُعَصِّبوه بالعِصابَةِ، فلمَّا رَدَّ اللهُ ذلك بالحقِّ الذي أعطاك شرِق بذلك، فذلك فعَل به ما رأيتَ. فعَفا عنه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابُه يَعفُونَ عنِ المشركينَ وأهلِ الكتابِ كما أمَرهمُ اللهُ، ويَصبِرونَ على الأَذى؛ قال اللهُ تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الآية. وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فكان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يتَأَوَّلُ في العفوِ عنهم ما أمَره اللهُ به، حتى أذِن له فيهم، فلمَّا غَزا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بدرًا، فقتَل اللهُ بها مَن قتَل من صَناديدِ الكفَّارِ وسادَةِ قريشٍ، فقفَل رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأصحابُه منصورينَ غانِمينَ، معَهم أُسارى من صَناديدِ الكفارِ، وسادَةِ قريشٍ، قال ابنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ ومَن معَه منَ المشركينَ عَبَدَةِ الأوثانِ: هذا أمرٌ قد تَوَجَّهَ، فبايَعوا رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على الإسلامِ، فأسلَموا )) .
إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ الله تعالى يَفعَل ما يشاء، فهو القويُّ والقادِر على ذلك، ولا يُعجِزه شيءٌ أبدًا .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110).
أي: حثَّ الله تعالى عِباده المؤمنين على الاشتغال بما ينفعُهم أكثرَ، وهو أداءُ الصَّلاة بحدودها وفروضها تامَّةً كما أمَر الله عزَّ وجلَّ، وإيتاء الزَّكاة كما شُرعت، ووعدهم بأنَّهم مهما فعَلوا من خير، فلن يَضيعَ، بل هو محفوظٌ ومدَّخَرٌ لهم عند البصير العليم، الذي لا تَخفى عليه خافيةٌ من أعمالهم الظاهِرة والباطِنة .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء: 77] .
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111).
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى.
أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا مَن كان يهوديًّا، وقالت النَّصارى: لن يَدخُل الجَنَّةَ إلَّا مَن كان نصرانيًّا .
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ.
أي: إنَّ تلك الدَّعاوى التي يُطلقها اليهودُ والنَّصارى، إنَّما هي مجرَّدُ أباطيل وأمانيِّ نفوسٍ كاذبة، يتمنَّونها على الله تعالى بغير حقٍّ .
كما قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 123] .
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أي: هذا أمرٌ من الله تعالى لرسوله محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بدعاء أصحاب تلك الدَّعوى من اليهود والنَّصارى، إلى إحضار الحُجَّة على دَعواهم تلك، إنْ كانوا محقِّين فيما يزعمون .
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112).
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ.
أي: ليس الأمرُ كما قال الزَّاعمون بأمانيِّهم: لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، ولكن مَن أخلص العملَ لله تعالى وحْدَه لا شريكَ له، وهو مع إخلاصه فيه مُتَّبِع لشريعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: إنَّ للمسلمِ وجهَه لله تعالى مُحسِنًا، ثوابَه على ذلك عند الله عزَّ وجلَّ، فهم أهل الجَنَّة وحْدهم، آمِنون؛ فلا خوفَ عليهم ممَّا يستقبلونه من أمور الآخِرة، وهم في سُرور دائم؛ فلا يَحزنون على ما فاتهم من أمور الدُّنيا، فحصَل لهم المرغوب، ونجَوْا من المرهوب .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113).
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ.
أي: ضلَّل وكفَّر بعضُهم بعضًا، فادَّعى أهلُ كلِّ دِينٍ منهم، أنَّ دِين الآخَر باطل، ليس فيه شيءٌ من الحقِّ مطلقًا .
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ.
أي: والحال أنَّ هؤلاء المدَّعين من اليهود والنصارى، يَقرؤون كتُبَهم ويعلمون ما فيها من الحقِّ، فيقرأ اليهود التوراة، ويقرأ النَّصارى الإنجيل، وكِلا الكِتابينِ شاهدانِ عليهما؛ فهما يقولان بخِلاف ما يقولون؛ فالإنجيل يَتضمَّن صِدقَ موسى وتقريرَ التوراة، والتَّوراة تتضمَّن التبشيرَ بعيسى وصِحَّة نبوَّته، وكِلاهما يتضمَّنان صِدقَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فكيف يدَّعي كلٌّ منهما أنه ليس في دِين الآخر شيءٌ من الحقِّ مطلقًا ؟!
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.
أي: أخبَر الله تعالى عن قوم نفَى عنهم العِلم بما كانت اليهودُ والنصارى به عالِمين، أنَّهم قالوا -بسبب جهلِهم- نظيرَ ما قاله اليهودُ والنَّصارى بعضُهم لبعض، من أنَّهم ليسوا على شيءٍ من الحقِّ، وهذا تعريضٌ من الله تعالى بهؤلاء اليهود والنَّصارى؛ زيادةً في التشنيع على ما قالوه لبعضهم، حيث اشتَركوا وهم أهلُ كتاب، مع أهلِ الجَهالة في المقالة نفْسها .
فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أي: إنَّ الحَكَم العدل سبحانه وتعالى، يتوعَّد هؤلاءِ المختلِفين- القائِلِ بعضُهم لبعض: لستُم على شيء من الحقِّ- بأن يقضيَ ويَفصِل بينهم يومَ تقومُ الساعة، ويقومُ الناس من قُبورهم، وأنَّه سيَجزي كلَّ مبطل على باطله؛ فإنَّه لا نجاةَ لِمَن لم يؤمِن بجميع الأنبياء والمرسَلين عليهم الصَّلاة والسَّلام

.
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ الإيمان مقتضٍ للأخلاق الفاضِلة؛ لأنَّ مراعاة الأدب في اللَّفظ من الأخلاق الفاضِلة، وقد أمَر الله تعالى بها، مخاطبًا بذلك أهلَ الإيمان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا
.
2- من الأدَب الحِرصُ على اختيار الألفاظ الحسَنة، ومِن ذلك تجنُّب الألفاظ التي تُوهِم سبًّا، وشتمًا؛ لقوله تعالى: لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا .
3- أنَّ خيرَ الله تعالى لا يَجلِبه ودُّ وادٍّ، ولا يردُّه كراهةُ كارهٍ؛ لقوله: وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ .
4- يجب على المسلم الحذرُ من كلِّ تصرُّف يصدُر عن اليهود والنصارى، والمشركين عمومًا، مع اتِّخاذهم أعداءً؛ ولذا يحرُم على المسلمين أن يُوَلُّوا الكفَّارَ أيَّ قيادة؛ لأنَّهم ما داموا لا يودُّون للمسلمين الخيرَ، فلن يقودوهم له، مهما كان الأمرُ، كما قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 105] .
5- مراعاةُ الأحوال، حيثُ قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ .
6- في قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ بِشارةٌ للمؤمنين بأنَّ الله سبحانه وتعالى سيغيِّر حالَهم المقتضية للعفو والصَّفح، إلى قوَّةٍ يَستطيعون بها جهادَ العدوِّ .
7- إقام الصلاة لا يعني مجرَّد أدائها، وإنما هو القيام بحقوقها الرُّوحيَّة في صورتها العَمليَّة، وذلك بالتوجُّه إلى الله سبحانه، ومناجاتِه، والانقطاعِ إليه عمَّا عداه، وإشعار القلْب بعظمته وكبريائه، فبهذا الشُّعور ينمو الإيمان، وتَقوى الثقةُ بالله تعالى، وتتنزَّه النَّفسُ عن أن تأتيَ الفواحش والمُنكَرات، وتستنير البصيرةُ؛ فتكون أقوى نفاذًا في الحق، وأشدَّ بُعدًا عن الأهواء، فنفوس المصلِّين جديرة بالنَّصر؛ لِمَا تُعطيها الصَّلاة من القوَّة المعنويَّة، ومن الثِّقة بقُدرة الله عزَّ وجلَّ .
8- أنَّ إقامة الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة من أسباب النَّصر؛ لأنَّ الله ذكَرها بعد قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] ؛ وقد جاء ذلك صريحًا في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40-41] .
9- أنَّ مَن اغترَّ بالأماني، وطمِع في المنازل العالية بدون عملٍ لها، ففيه شَبَهٌ من اليهود، والنَّصارى، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
10- في قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ... التحذير من التعصب في الدين والترامي بالكفر، وتفريق كلمة المسلمين، والله تعالى قد أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعما مضى عليه المسلمون

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ أحكام الله سبحانه وتعالى تختلفُ في الخيريَّة من زمانٍ إلى زمان؛ فقد يكون الحُكم خيرًا للعباد في وقت، ويكون غيرُه خيرًا لهم في وقتٍ آخَرَ، كما قال سبحانه وتعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
.
2- أنَّ القادر على تغيير الأمور الحِسيَّة قادرٌ على تغيير الأمور المعنويَّة كذلك؛ فكما أنَّ الله تعالى قادرٌ على تغيير الأمور الكونيَّة، فهو كذلك قادرٌ على تغيير الأمور الشرعيَّة؛ لقوله تعالى بعد ذِكر النَّسخ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
3- ذِكر ما يَطمئنُّ به الإنسان حين يُخشى أن يُقلِق الأمرُ فِكرَه ويَشغل قلبَه؛ لقوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا .
4- تأكيد ذمِّ الأسئلة المتعنِّتة؛ لقوله تعالى: رَسُولَكُمْ؛ فكأنَّه يعني أنَّه لَمَّا كان رسولكم، فالذي ينبغي منكم تُجاهَه عدمُ إعْناته بالأسئلة .
5- عِلم اليهود والنصارى بأنَّ الإسلام مَنقبةٌ عظيمة لمتَّبعه؛ لقوله تعالى: حَسَدًا؛ لأنَّ الإنسان لا يُحسد إلَّا على شيء يكون خيرًا، ومنقبةً عظيمة، ويدلُّ على ذلك، قوله تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 105] .
6- بيان خُبث طويَّة هؤلاء الذين يودُّون وقوعَ المسلمين في الكُفر؛ لقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، فليس هذا صادرًا من كتاب، ولا مِن إساءة المسلمين إليهم، ولكنَّه من عند أنفسهم؛ فهي أنفُسٌ خبيثة تودُّ الكفرَ للمسلمين حسدًا .
7- عدلُ الله عزَّ وجلَّ في مخاطبة عِبادِه، حيث قال سبحانه: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ؛ لأنَّ هذا من باب مراعاة الخَصم، وأنَّه إنْ كان لكم بيِّنة فهاتوها؛ وهذا- لا شكَّ- من أبلغِ ما يكون من العدْل، وإلَّا فالحُكم لله العليِّ الكبير، وهؤلاء لا بُرهان لهم على ما ادَّعَوه بدليل أنَّهم لم يأتوا به .
8- أنَّ أهلَ الجنة هم الذين جمَعوا بين وصفينِ؛ الأوَّل: الإخلاص لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ؛ والثاني: اتِّباع شرْعه؛ لقوله تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ .
9- عِظم الثواب؛ لإضافته إلى الله الوهَّاب، في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِ .
10- انتفاء الخوفِ والحزن لِمَن عبَدَ اللهَ عزَّ وجلَّ بهذين الوصفين؛ وهما الإخلاص والمتابعة، كما قال تبارك وتعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: فيه الافتتاح بحسن النِّداء، وإثبات وصْف الإيمان لهم؛ للإعانة على الاستجابة للأمر بعد النِّداء
.
2- في قوله: لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا بُدِئ بالنهي؛ لأنَّه أسهل؛ لأنَّه من باب التروك، ثم أُتي بالأمر بعده الذي هو أشقُّ؛ لحصول الاستئناسِ قبلُ بالنَّهي .
3- قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
فيه: الإظهار في موضع الإضمار في قوله وَلِلْكَافِرِينَ؛ للدَّلالة على سبَب العذاب، وأنَّ سبَّ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم كُفرٌ، ولبيان أنَّ هذا العذاب يعمُّ كلَّ كافر .
وفيه: تقديم الجار والمجرور وَلِلْكَافِرِينَ؛ للتَّخصيص أو التقوية .
وفيه جاء تنكير (عذاب) للتهويل والتخويف، وجاء وصفه بصيغة فعيل أَلِيمٌ؛ للدَّلالة على شدَّته، والمبالغة في الوصف .
4- قوله: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ
- فيه تقديم الجار والمجرور عَلَيْكُمْ؛ للاختصاص، وتقوية المعنى، ولإظهار كامل العناية بشأن المُنزَل والمُنزَل عليه .
5- في قوله: وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
فيه تأكيدُ الخبر بالجملة الاسميَّة (وَاللهُ يَخْتَصُّ - وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ) التي تدلُّ على الثُّبوت، والتعبير بالمضارع (يختصُّ) لتحقيقِ الوُقوع واستمراره أيضًا .
وفيه: وضْع الظاهر وَاللهُ ذُو موضِعَ الضمير (وهو ذو)؛ للتعظيم، ولتحصل خشيةُ الله تعالى، وتقَع هيبتُه في نفوس عباده .
6- في قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ...
الاستفهام في الآيتَينِ دخَل على النَّفي؛ لذا فهو للتقرير .
والخِطاب في (تعلم) ظاهره للواحِد - وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم - والمراد إمَّا خطاب لغير معيَّن، بتَشبيه مَن ليس حاضرًا للخطاب (الغائب) منزلةَ المخاطَب، بحيث يصير مخاطبًا؛ لشهرة هذا الأمر، وليعمَّ كلَّ مخاطَب صالح له، فيشمل هذا الخطاب ابتداءً اليهودَ والمشركين، ومَن عسى أن يشتبه عليه الأمر، وتروج عليه الشبهة من ضعفاء المسلمين، وإمَّا المراد به ظاهِره وهو الواحِد، فيكون المخاطَبُ هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لكنَّ المقصودَ منه المسلمون، فينتقل من خِطاب النبيِّ إلى مخاطبة أمَّته على طريق الانتقال الكِنائيِّ، والمقصد من تلك الكِناية التعريضُ باليهود، وهذا أبلغُ وأوجزُ في لفظ الضَّمير من أن يُؤتَى بضمير الجماعة المخاطبين .
وفيه التفاتان: أحدُهما: خروجٌ من خِطاب جماعةٍ في قوله: مِنْ رَبِّكُمْ إلى خطاب الواحد في قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ، والثاني: خروجٌ من ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفسَه في قوله: مَا نَنْسَخْ... نُنْسِهَا نَأْتِ...: إلى الغَيْبَةِ بالاسمِ الظاهر في قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ... فلم يقل: (ألم تعلموا أننا) .
وفيه وضْع الاسمِ الجليلِ في قوله تعالى: (أنَّ الله) موضعَ الضَّميرِ في (أنَّه)؛ لتربية المهابة .
7- قوله: إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبر فيه من الوعيد والتهديد ما لا يَخفى . مع ما فيه من تأكيد الخبر بإنَّ، واسميَّةِ الجملة، وتقديمِ ما حقُّه التأخيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ .
8- قوله: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى فيه لَفٌّ ونَشْر؛ إذ المعنى: وقالت اليهود: لن يَدخُل الجنة إلا مَن كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلَّا مَن كان نصارى، فلفَّ بين القولين .
9- قوله: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ جمعَ الخبر (أمانيهم)، مع أن قولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنية واحدة؛ لأنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية، ومعاودتهم لها، وتأكدها في نفوسهم جُمِعت، ونظيره قولهم: معًا جياع، فجمَعوا الصفة ومؤدَّاها واحد؛ لأنَّ موصوفها واحد، وهذا من نفائس صناعة البيان . وقيل: لأنَّ (تلك) كناية عن المقالةِ، والمقالةُ في الأصلِ مصدرٌ، والمصدرُ يقع بلفظِ الإِفرادِ للمفردِ والمثنَّى والمجموعِ، فالمرادُ بـ(تلك) الجمعُ من حيث المعنى .
10- قوله: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُه عِنْدَ رَبِّهِ في كلمة رَبِّهِ وضع اسم الربِّ مضافًا إلى ضمير (مَن أسلمَ) موضِعَ ضمير لفظ الجلالة (الله)؛ لإظهار مزيد اللطف، وتقرير مضمون الجملة .
11- قوله: وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فيه التأكيد باسميَّة الجملة، وبذكر ضَمير الفْصل هُمْ، وفيه اختصاصٌ وتقويةٌ للحُكم .
12- قوله: فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ خبرٌ مرادٌ به التوبيخ والوعيد، وناسب المجيء بالفاء فَاللهُ؛ لأنَّ التوعُّد بالحكم بينهم يوم القيامة، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والحسد- متفرِّع عن هذه المقالات ومسبَّب عنها، والجملة تذييل .
وفيه: تقديم الظرف فِيهِ على متعلِّقه يَخْتَلِفُونَ؛ للاهتمام به، ولمراعاة فواصل الآيات .


======


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (114-119)
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
غريب الكلمات:

فَثَمَّ: أي: هنالك
.
بَدِيعُ: مُبدِع، ومبتدئ، وأصله: ابتداء الشيء وصُنعه لا عن مِثال سابق .
بَشِيرًا: أي: مبشِّرًا، وأصل (بشر) يدلُّ على ظهور الشَّيء مع حُسن وجمال، ومنه البِشارة، ولا تكونُ البشارة عند إطلاق الكلام إلَّا بالخَير، وقد تُقيَّد وتُحمَل على الشرِّ .
نَذِيرًا: أي: مُنذِرًا، وأصل (نذر) يدلُّ على تخويف

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِر الله تعالى أنَّه لا أحدَ أشدُّ تعدِّيًا على حدوده ممَّن منَع ذِكرَه في بيوته، وبذَل جهدًا في إفسادها، وهؤلاء جعَل الله سبحانه وتعالى عقابَهم بأنْ حرَمَهم من دخولها، إلَّا على وجه الخوف من الله، أو من عِباده المؤمنين، ولهم مع ذلك ذلٌّ وعارٌ في الدنيا، وأمَّا في الآخِرة، فلهم عقوبةٌ عظيمة.
ثمَّ أخبَر سبحانه عن عظيم مُلكه، وأنَّ له مُلكَ الدنيا كلها مشرقها ومغربها ومُلك ما بينهما؛ فأينما حوَّل الإنسانُ وجهَه فهناك وجه الله.
ثم ذكَر سبحانه النَّصارى الذين يزعمون أنَّ المسيح ابن الله، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، بل له جميعُ ما في السَّموات والأرض، وكلُّهم بلا استثناء عبيدٌ له، مدبَّرون منقادون؛ فكيف يكون له ولدٌ منهم؟! تنزَّهَ عن ذلك وتقدَّسَ.
ثم أخبر أنَّه هو سبحانه مَن أوجد السَّمواتِ والأرضَ على غير مثال سابقٍ؛ فالذي قدَرَ على إيجادهما من العدم مع عظمتِهما، قادرٌ على إيجادِ ما دونهما؛ فكيف يُخرِجون عيسى عن قُدرته وإبداعه، ويَجعلونه جزءًا منه سبحانه؟!
ومِن صِفاته جلَّ وعلا أنَّه إذا أراد شيئًا، فإنَّما يقول له: كن فيكون، فمَنْ يدبِّر الأشياءَ بكلمته جلَّ وعلا لا يحتاجُ إلى توليد الأشياءِ منه؛ فكيف يجعلون عيسى ولدًا له؟! وإنَّما عيسى عليه السَّلام من مخلوقاته التي خلقَها بكلمة «كن».
ثمَّ أخبر تعالى عن مشركِي العرب الأميِّين، الذين ليس لديهم ما لدى أهل الكِتاب من العِلم، أنَّهم قالوا: هلَّا يكلِّمنا الله، أو تأتينا معجزةٌ؟! وذلك ليصدِّقوا بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فشابهوا بهذا القول الأُممَ السابقةَ من اليهود والنصارى؛ فقد قالوا كقولهم، وذلك نتيجة تشابُه قلوب الكفَّار في ردِّهم الحقَّ وتعنُّتهم، ثم أخبر الله تعالى أنه قد أظْهَر العلاماتِ الدالَّةَ على صِدق رُسله- ومنهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- بما لا يُحتاج معه إلى سؤال آخَر، لكن ذلك التبيِّين لا يستفيد منه إلَّا الذين يوقِنون.
ثمَّ خاطَب اللهُ عزَّ وجلَّ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، بأنَّه قد أرسله بالحقِّ، مبشرًا مَن أطاع بالفلاح والسَّعادة في الدَّارين، ومنذِرًا مَن عصى بالشقاء فيهما، وأعْلَمه أنَّه -بعدَ بيان ما أُمِر ببيانه من الحقِّ- ليس مؤاخذًا بمَنْ بقِي منهم على كُفره.
تفسير الآيات:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114).
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا.
أي: لا أحدَ من المانعين شيئًا، أشدُّ جَراءةً وتعدِّيًا على حدود الله عزَّ وجلَّ ممَّن منَعَ العبادة في بيوت الله تعالى، واجتهد وبذَل وُسعَه في إفسادها حسيًّا ومعنويًّا
.
أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ.
أي: قد منَع اللهُ تعالى أولئك الذين يسعَون في خراب بيوت الله تعالى حسيًّا ومعنويًّا، منْ أنْ يدخلوها إلَّا وقلوبهم وجِلة؛ خوفًا من عقوبة إلهيَّة تحلُّ بهم، أو خوفًا من المؤمنين أن يعاقبوهم تسليطًا من الله تعالى لهم .
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
أي: لأولئك الذين تقدَّمت صِفتُهم في هذه الآية، ذلٌّ وعارٌ يحلُّ بهم في الدُّنيا، من قَتْلٍ، أو سَبيٍ، أو جزيةٍ، أو فضيحةٍ، أو غير ذلك، أمَّا في الآخرة فلهم عقوبةٌ عظيمة .
وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115).
وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
أي: إنَّ لله تبارك وتعالى مُلكَ الجِهة التي تطلُع منها الشَّمس، ومُلك الجِهة التي تَغيب منها، وله مُلك جميع ما بينهما من الجِهات والمخلوقات .
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله.
أي: إنَّكم حيثما كنتم وتوجَّهتم في صلاتكم نحو الجهة التي شرعها الله تعالى، فإنكم تتَّجهون إلى الله عزَّ وجلَّ في الحقيقة؛ لأنَّ المصلِّي إذا توجَّه إلى القبلة، فقد استقبل وجه الله سبحانه حقيقةً .
وقيل المعنى: إنَّكم مهما حوَّلتم وجوهَكم إلى ناحيةٍ ما، فهنالك وجهُ الله تعالى، وسواء كان ذلك لأجْل استقبال القِبلة في الصَّلاة أو لا، في الحضَر أو السَّفر، أو لغير ذلك من أحوال .
إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: ختَم الله سبحانه هذه الآيةَ باسمين دالَّين على الإحاطة، فالله عزَّ وجلَّ واسعُ الرَّحمة والمغفرة والعِلم، واسع الجُود والعطاء، وغير ذلك من صِفاته الحُسنى، وهو ذو عِلمٍ محيطٍ بكلِّ شيء، لا يَغيب عن عِلمه شيء أبدًا .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116).
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا.
أي: قالت النصارى بزعمهم: المسيح ابن الله .
سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: يتنزَّه الله ويتعالى علوًّا كبيرًا عن أن يكون له ولد، وليس الأمر كما افتروا، فهو سبحانه مالك جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض، وهو خالقهم ومصرفهم كيف شاء، هو الغني وهم الفقراء، والجميع عبيد له بلا استثناء، فكيف يكون له ولد منهم؟! والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، كما أن الولد بعض الوالد وشريكه، فلا يكون مخلوقًا ومملوكًا له؛ لأن المخلوق مملوك مربوب، والابن نظير الأب، فكيف يكون مخلوقه ومملوكه بعضه ونظيره؟ والله تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه، فكيف يكون له ولد ؟!
كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ.
أي: إنَّ كلَّ أحد لا يخرُج عن مشيئته وقُدرته ومُلكه سبحانه، بل الجميع- حتى مَن ادُّعِيت بُنوَّتُه لله تعالى كعيسى عليه السَّلام- عبيدٌ مقهورون مُدبَّرون، وهم منقادون وخاضِعون للنواميس الإلهيَّة في أبدانهم وغيرها، طوعًا أو كرهًا .
كما قال تعالى: قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [يونس: 68-69] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [النساء: 171] .
وقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 1-2] .
بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117).
أي: إنَّ مَن أوجد هذه السَّمواتِ والأرضَ مِن العدم، وأحْسَن خلقهما على غيرِ مِثالٍ سابقٍ مع عِظمهما وآياتهما الباهِرة، فهو قادرٌ على خَلْق ما دونهما؛ فكيف يُخرجون عيسى عليه السَّلام عن قُدرته وإبداعه، ويجعلونه نظيرًا وشريكًا وجزءًا مِنه سُبحانه جلَّ شأنُه؟! فإنَّ مبدِع العالَم العُلويِّ والسُّفليِّ لا يُعجزه أن يخلُق عبدَه بقدرته، من غير أبٍ؛ فكيف يدَّعون أنَّه ولدُه ؟!
كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 100-101] .
وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أي: إنَّه سبحانه إذا أراد شيئًا، فحسبُه أن يقول له: كن، فيكون ذلك الشيء على وَفقِ ما يُريد الله تبارك وتعالى، ومن ذلك خَلْق المسيح عيسى عليه السَّلام، فقد خلَقَه بكلمة كن، وهذا منافٍ للتوليد؛ فمَن يدبِّر الأشياء بمجرَّد كلمته، ليس كمَن يحتاج إلى توليدِ الأشياء منه، فكيف يُوصَف بالتولُّد سبحانه، وهو في جميع ما يَقضيه إنَّما يقول له: كن، فيكون ؟!
كما قال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم: 34-35] .
وقال سبحانه: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
وقال جلَّ وعلا: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 81-82] .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118).
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ.
أي: قال مُشرِكو العرب: هلَّا أَوحى الله عزَّ وجلَّ إلينا كما أَوحى إلى رُسله؟ أو يكلِّمنا بتصديق رسوله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؟ أو تأتينا معجزةٌ دالَّة على صِدق ما جاء به؟ وهذا الطَّلب قد صدَر منهم على سبيل التعنُّت والعِناد، وإلَّا فقد جاءتْهم آيات كثيرة دالَّة على صِدق بِعثة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومنها القرآن الكريم .
كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124] .
وقال سبحانه: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.
أي: قولهم ذلِك مطابقٌ لقول مَن قَبلهم من الأُمم السابقة من اليَهود والنصارى وغيرِهم .
قال الله تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً [النساء: 153] .
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.
أي: قلوبُ الكفَّار متشابهةٌ في ردِّ الحق، والعِناد والتعنُّت؛ ولذا جاءتْ أقوالهم متوافقةً، وإن اختلفت مذاهبُهم وأساليبهم في ذلك .
كما قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 52-53].
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أي: قد أَظهَرْنا ووضَّحنا العلاماتِ الدالَّاتِ على صِدق الرُّسل عليهم السَّلام- ومنهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- بما لا يُحتاج معها إلى سؤالٍ آخَر، ولكنْ ذلك لِمَن كان اليقين من خِصالهم الدَّائمة؛ فهم يَتثبَّتون ويستوثقون، ويطلُبون معرفةَ حقائق الأشياء إلى درجة اليقين .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119).
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.
أي: يُخاطب الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مؤكِّدًا له بأنَّه قد أرسله بالحقِّ، فبِعثتُه حقٌّ، وما جاء به من عند الله عزَّ وجلَّ حقٌّ، وقد أرسله تعالى لعموم المكلَّفين من الإنس والجن، والحال أنَّه مبشِّر مَن أطاعه بنيل السَّعادة في الدنيا والآخِرة، ومحذِّر ومُخوِّف مَن عصاه بالشَّقاوة في الدُّنيا والآخِرة .
وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: تُسْأَل قِراءتان:
1- (تَسْأَلْ) بفتح التاء، وجزْم اللام، على النهي عن السُّؤال عن ذلك أي: لا تَسألْ يا محمَّدُ، عنهم؛ فقد بَلَغوا غاية العذاب .
2- (تُسْأَلُ) بضمِّ التاء والرَّفْع، أي: إنَّك لا تُسأل عن الكفَّار: ما لهم لم يُؤمِنوا؛ لأنَّ ذلك ليس إليك .
وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ.
أي: إنَّك لستَ مؤاخَذًا يا محمَّد، على بقاء الكفَّار -أصحاب النار الملازِمين لها- على كُفرهم؛ فلن تُسألَ عنهم بعد أنْ بلَّغتَهم بالحقِّ؛ فإنَّما عليك البلاغ فحسبُ، وحِسابهم على الله عزَّ وجلَّ. ولا تَسأَلْ يا محمَّد، عمَّ لأولئك من العذاب؛ فإنَّهم في حالٍ من الفظاعة والشَّناعة لا يتصوَّرها عقلُ إنسان؛ وذلك لشدَّةِ ما أُعِدَّ لهم من العذاب العظيم

.
كما قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 20-21] .
الفوائد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، إشارةٌ إلى أنَّ ذِكر الله تعالى باللِّسان لا بدَّ أن يكون باسمِه، أمَّا ذِكرُه بالضمير المفرَد فبِدعة، وليس بذِكر، مِثل طريقة بعض الصوفيَّة، الذين يقولون: أفضل الذِّكر أن تقول: (هو، هو، هو)
.
2- تَسليةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ الإنسان المصاب إذا رأى أنَّ غيره أُصيب، فإنَّه يتسلَّى بذلك، وتخفُّ عليه المصيبة؛ فالله تعالى يُسلِّي رسوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّ هذا القول الذي قِيل له قد قِيل لِمَن قبْله، كما قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- في قوله سبحانه: مَسَاجِدَ اللهِ [البقرة: 114] ، دلالةٌ على شرَف المساجد؛ لإضافتِها إلى الله تعالى
.
2- أنَّه لا يجوز أن يُوضَع في المساجد ما يكون سببًا للشرك؛ لأنَّ مَسَاجِدَ اللهِ معناها: موضع السُّجود له؛ فإذا وُضِع فيها ما يكون سببًا للشرك، فقد خرجَتْ عن موضوعها، مثل أن يُقبَر فيها الموتى، فهذا محرم؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى الشِّرك .
3- وجوب تطهير المساجد؛ وذلك لإضافتِها إلى الله عزَّ وجلَّ، وهي إضافة تشريف وتعظيم؛ ولذا قال تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .
4- أنَّ الناس في المساجد سواءٌ؛ لأنَّ الله تعالى أضافَها إلى نفْسه: مَسَاجِدَ الله .
5- في قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى .
6- أنَّه ليس بين أمْر الله تعالى بتكوين شيءٍ، وتكوُّنه تراخٍ، بل يكون على الفوريَّة؛ لقوله تعالى: فَيَكُونُ: بالفاء، والفاء تدلُّ على التَّرتيب، والتعقيب .
7- أنَّ المشركين يُقرُّون بأنَّ الله تعالى يتكلَّم بحرفٍ، وصوتٍ مسموع؛ لقوله تعالى: لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ .
8- أنَّ الأقوال تابعةٌ لِما في القلوب؛ لقوله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ؛ فلتشابُهِ القلوبِ تَشابهت الأقوالُ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ استفهامٌ يراد به النفي والإنكار والاستبعاد
.
2- قوله: أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
فيه: بِناء الفِعل (يُذْكَر) للمفعول وحذْف الفاعِل؛ للاختصار؛ لأنَّ الذاكرين كثيرون جدًّا .
وتقديم الجار والمجرور (فيها) على نائب الفاعل (اسمُه)؛ لأنَّ مساجدَ الله مذكورةٌ في اللفظ قبل اسم الله؛ فناسب تقديم المجرور لذلك .
3- قوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
فيه تنكير (خِزي)؛ للتعظيم والتهويل، ويدلُّ على أنَّ الذمَّ واقعٌ في النِّهاية العظمى .
وتنكير (عذاب)؛ للتعظيم والتهويل، ووصفه بصيغة فعيل (عظيم)؛ للمبالغة .
وفيه: تقديم الجار والمجرور في قوله: لَهُمْ... وَلَهُمْ... في الموضعيْن مع تَكراره؛ للتوكيد، وبيان شِدَّة العذاب .
4- في قوله: وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
التنصيصُ على ذِكْرِ (المَشْرقِ والمَغْرِبِ) دونَ غيرِهما؛ لشرَفِهما حيث جُعِلا لله تعالى، أو يكون مِن حَذْفِ المعطوفِ للعِلم، أي: لله المشرقُ والمغربُ وما بينهما، كقوله: تَقِيكم الحَرَّ، أي: والبردَ .
5- قوله: إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ تعليل مقرِّر لمضمون ما قَبلَه، وفيه تأكيدٌ بإنَّ، واسميَّة الجملة .
6- قوله: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا في لفظ (اتخذ) تعريض بالاستهزاء بهم بأنَّ كلامهم لا يلتئم؛ لأنَّهم أثبتوا ولدًا لله تعالى، ويقولون: اتَّخذه الله؛ والاتخاذ الاكتساب، وهو ينافي الولدية؛ إذ الولدية تأتي بدون صُنع، فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة .
7- في قوله: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ
جَمَعَ (قانِتون) حَمْلًا على المعنى لأنَّ (كُل) إذا قُطِعَتْ عن الإِضافة جاز فيها مراعاةُ اللفظِ ومراعاةُ المعنى، وحَسُنَ الجمعُ هنا؛ لتواخِي رؤوسِ الآي ومراعاة فواصلِها .
وفيه: تأكيد الخبر باسميَّة الجملة، وتقديم له على قانتون فيه تأكيدٌ كذلك .
8- في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ جاء تقديم الضمير في يُكَلِّمُنَا على الفاعل لفظ الجلالة اللهُ؛ لبيان إمعانهم في المكابرة والعِناد، وعدم الطاعة والانقياد .
9- في قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا جيء بالتأكيد (إِنَّا) وإنْ كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يتردَّد في ذلك؛ لمزيد الاهتمام بهذا الخبر، وتنويهًا بشأن الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام .
========


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (120-123)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
غريب الكلمات:

مِلَّتَهُمْ: أي: دينهم، وطريقتهم، ثم نُقِلت على أصول الشرائع، مشتقَّة من أمللت (أي أمليت)؛ لأنَّها تُبنَى على مسموع ومتلوٍّ، فإذا أريد الدين باعتبار الدُّعاء إليه قيل: ملة، وإذا أريد باعتبار الطاعة والانقياد له قيل (دين)

.
مشكل الإعراب :

قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ:
(الَّذِينَ): مبتدأ أوَّل. و(أُولَئِكَ). مبتدأ ثانٍ، و(يُؤْمِنُونَ بِهِ): خبَرُ المبتدأ الثاني، وجُملة (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) خبَر للمبتدأ الأوَّل (الَّذِينَ). و(يَتْلُونَه): جملة في محل نصب حال من (الكِتَاب)، أو مِن الضَّمير المنصوب في (آتَيْنَاهُمُ). ولا يجوز أن تكون جملة (يَتْلُونَه) خبَر (الَّذِينَ)؛ لأنَّ هذا يُوجِب أن يكونَ كلُّ مَن أوتي الكتاب يتلوه حقَّ تلاوته، وليس هم كذلك، إلَّا إذا كان المقصود بـ(الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ) هم الأنبياء، فيجوز ذلك، وقيل غير ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يُخبر اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّ أهلَ الكتاب من اليهود والنَّصارى لن يرضَوْا عنه حتى يَعتنِقَ دِينَهم؛ لأنَّهم يرَوْن أنَّهم على هُدًى، فأعْلَمه الله تعالى بما يردُّ به على هذا الزَّعم، وهو أنَّ الهُدى الحقيقيَّ هو هدى الله، الذي جاء به مِن عند الله عزَّ وجلَّ.
ثمَّ خاطَب اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّتُه تبعٌ له- محذِّرًا من اتِّباع أهواء أهل الكِتاب، من بعد أنْ آتاه اللهُ من العِلم ما يدلُّه على الحقِّ، فإنَّه إنْ فعَل ذلك واتَّبع أهواءَهم، فلن يجدَ حِينها أيَّ أحدٍ يتولَّاه، فيَجلِب له خيرًا، أو أيَّ أَحدٍ ينصُره، فيَدفع عنه شرًّا.
ثم أخْبَر تعالى أنَّ مَن اتَّبع كتابه حقَّ الاتِّباع مِن أهل الكِتاب- ومِن اتِّباعه أنَّه لا يُحرِّفه ولا يبدِّل شيئًا ممَّا فيه- فإنَّه يعدُّ مؤمنًا به حقَّ الإيمان، وسيؤدِّي به ذلك الاتِّباعُ إلى الإيمان بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ في كتبهم تَصديقًا به، وذِكرًا لصفاته صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأمَّا مَن يكفُر بكتابه منهم- ومِن كُفره به تحريفُه وتبديلُه، وجحْدُ ما ثبَت فيه من نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فأولئك هم الخاسِرون.
ثمَّ خاطَب الله تعالى بني إسرائيل وذكَّرهم بنِعمه التي أسْبَغها عليهم، ويعني بها النِّعمَ التي أنعم بها على آبائهم، وأنَّه فضَّلهم على سائرِ الأمم من أهل زَمانهم، ثم بعد أنْ ذكَّرهم بنِعمه وفَضْله عليهم، حذَّرهم وخوَّفهم بأن يتقوا عذاب يوم القيامة، الذي لا تَقضي فيه نفْسٌ عن نفس حقًّا وجَب عليها، ولا يُقبل منها فِداء، ولا تُفيدها شفاعةٌ إذا كانت كافِرة، ولا أحَد يُنقذهم من عذابِ الله تعالى.
تفسير الآيات:

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120).
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبعَ مِلَّتَهُمْ.
أي: ولن تَرضى عنك اليهودُ، حتى تترُكَ دِينَ الإسلام وتعتنقَ دِينَهم، ولن ترضَى عنك النَّصارى، حتى تترُكَ دِينَ الإسلام وتعتنقَ دِينهم
.
قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَى.
أي: قل يا محمَّد- إجابةً لهم في عدَم اتِّباع ملَّتهم-: ليس الهُدى ما أنتم عليه كما تدَّعون، بل الذي أُرسلتُ به هو هُدَى الله الحقيقيُّ؛ فإنَّه الدِّينُ المستقيم، والصَّحيح، والكامِل .
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.
أي: يُخاطِب اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ- والأمَّة تبَعٌ له في ذلِك- محذِّرًا من اتِّباع أهواء اليهود والنَّصارى، خاصَّةً من بعد إكرام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأمَّته بالوحي المُنزَّل عليه، وفيه العِلمُ بطريق الحقِّ، والعلمُ بطُرق الضَّلالة والكُفر .
مَا لَكَ مِنَ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
أي: إنِ اتبعتَ أهواءَهم يا محمَّد، فاعلمْ بأنَّه ليس لك حينذاك أيُّ أحدٍ يتولَّى أمرَك؛ فيجلِب لك خيرًا، أو أيُّ نصيرٍ ينصرُك من الله تعالى؛ فيَدفَع عنك شرًّا .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121).
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
هذا مدحٌ لمن أقام كتابَه من أهل الكتاب، فآمن به واتَّبَعه حقَّ الاتباع، ولم يجترئ على تحريفه، وإنكار ما يحمله من البشارة بمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، المذكور فيه بصفته ونعته، فآمن به واتبعه.
وهو مدحٌ لمؤمني أهل الكتاب، في مقابل ذمِّ أولئك الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه منهم .
قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة: 68] .
وقال سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا [القصص: 52-53] .
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أي: إنَّ مَن يكفُر من أهل الكتاب بكتابه الذي أُوتيه من عند الله عزَّ وجلَّ- ومِن ذلك تحريفُه وتبديلُه، وجَحْد نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ الثابتة فيه- فإنَّه قد بخَس نفْسَه حظوظَها من رحمة الله عزَّ وجلَّ .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122).
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.
أي: يا بَنِي يعقوب كونوا مثلَ أبيكم في متابعة الحقِّ، واذكُروا نِعمه تعالى على آبائكم ذِكرًا يحملكم على شُكرها بالخضوع لله تعالى، وذلك بالدُّخول في دِينه، واتِّباع رسولِه الكريم صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومنها النِّعم المذكورة في هذه السُّورة الكريمة .
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ.
أي: واذكُروا تفضيلي لكم على سائرِ الأمم من أهل زَمانِكم، بإرسال الرُّسُل منكم، وإنزال الكتُب عليكم، وغير ذلك من النِّعم الخاصَّة .
كما قال تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32] .
وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 20] .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَّرهم الله تعالى بنِعمه، عطَف على ذلك التحذيرَ من حلول نِقَمه بهم يومَ القِيامة ، فقال:
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا.
أي: أمَرهم الله تعالى أن يعتقدوا ويَفعلوا ما يكونُ حاجزًا يَقِيهم من عذابِه سبحانه، في يوم القِيامةِ الذي لا تَقضِي فيه نفْسٌ عن نفْسٍ حقًّا وجَب عليها لغيرها، ولا يُغني فيه أحدٌ- كائنًا من كان- عن أيِّ أحدٍ شيئًا، ولو كان من عَشيرته الأقرَبِين، أو كان الشيءُ قليلًا ويسيرًا جدًّا .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان: 33] .
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ.
أي: لا يُقبَل منها فِداءٌ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران: 91] .
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 36] .
وقال تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام: 70] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية [الحديد: 15] .
وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ.
أي: لا تنفعُ من أيِّ نفْسٍ شفاعةٌ لنفْسٍ أخرى إذا كانت كافرةً على الإطلاق.
كما قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] .
وقال سبحانه عن أهل النار: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100-101] .
أمَّا المؤمنة فتُقبل منها، إنْ كانت الشفاعةُ بإذن الله تعالى، مع رِضاه سبحانه عن المشفوعِ له .
كما قال تعالى:وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ.
أي: ليس لهم أحدٌ يُنقِذهم من عذابِ الله تعالى

.
كما قال تعالى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق: 10] .
وقال سبحانه: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 25-26] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ [الأحقاف: 28] .
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ المرء إذا اتَّبع غير شريعة الله، فلا أحدَ يحفظه من الله؛ ولا أحدَ يَنصُره من دونه، حتى لو كثُر أعوانه وجُندُه، واشتدَّت قوته؛ لأنَّ النصر والولاية تكون باتِّباع هُدى الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
.
2- في قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ، دلالةٌ على أنَّه يجب تعلُّق القلب بالله تعالى وحْده؛ خوفًا، ورجاءً؛ لأنَّ المرء متى ما علِم أنَّه ليس له وليٌّ ولا نصيرٌ من دون الله تعالى؛ فلا يتعلَّق إلَّا بالله تعالى وحده .
3- أنَّ للإيمان علامةً، وعلامتُه العمل؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ بعدَ قوله عزَّ وجلَّ: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ الكُفر مِلَّة واحدة؛ لقوله تعالى: مِلَّتَهُمْ، وهو باعتبار مضادَّة الإسلام مِلَّةٌ واحدة، أمَّا باعتبار أنواعه، فإنَّه مِلل
.
2- أنَّ ما عَدا هُدى الله ضلال؛ قال الله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 32] ؛ فكلُّ ما لا يُوافق هُدى الله -كالبِدع- فإنَّه ضلال، وليس ثَمَّة واسطةٌ بين هدى الله، والضَّلال .
3- أنَّ ما عليه اليهود والنصارى ليس دِينًا، بل هو هوى؛ لقوله تعالى: أَهْوَاءَهُمْ، ولم يقُل: مِلَّتهم كما في الأوَّل، ففي الأوَّل قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ؛ لأنَّهم يعتقدون أنهم على مِلَّة ودِين، ولكن بيَّن الله تعالى أنَّ هذا ليس بدِين، ولا مِلَّة، بل هو هوى، وهم ليسوا على هدًى .
4- أنَّ مَن اتَّبع الهوى بعد العِلم، فهو أشدُّ ضلالةً؛ لقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ... الآية .
5- أنَّ الكافر بالقرآن مهما أصاب من الدُّنيا فهو خاسر؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ، فيكون خاسرًا، ولو نال من الدُّنيا ما نال من زِينتها وزخرفها .
6- علوُّ مرتبة مَن يتَّبعون الكتاب حقَّ الاتِّباع؛ للإشارة إليهم بلفظ البعيد: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
جاء النفي بلن؛ مبالغةً في التأييس
.
ووُحِّدت لفظة المِلَّة (مِلَّتهم)، وإنْ كان لهم ملَّتان؛ لأنَّهما يجمعهما الكُفر، فهي واحدة بهذا الاعتبار، أو للإيجاز! فيكون من باب الجمْع في الضمير؛ لأنَّ النصارى لن ترضى حتى تتبع ملتهم، واليهود لن ترضى حتى تتبع ملتهم .
وإيراد (لا) النافية بين المعطوفَيْن؛ لتأكيد النفي .
2- في قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى
الضمير (هو) ضمير فصل، والتعريف في (الهدى) تعريف الجِنس الدالُّ على الاستغراق؛ ففيه حصرٌ من طريقين: هما ضمير الفصل وتعريف الجنس، والجمع بينهما يفيد تحقيق معنى القصر وتأكيده؛ للعناية به، فأيُّهما اعتُبر طريق قصرٍ، كان الآخَر تأكيدًا للقَصر وللخبر أيضًا .
وفيه: توكيد آخر بـ(إنَّ)؛ جاء اهتمامًا بتأكيد هذا الحكم، ولتحقيق الخبر، وإبطال تردُّد المتردِّد .
3- قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ... مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ اشتمل على كثيرٍ من المؤكِّدات؛ تحذيرًا من الطمع في استرضاء اليهود أو النصارى بشيء، فأكَّد ذلك التحذير بعدة مؤكِّدات، وهي :
القَسَم المدلول عليه باللام الموطِّئة للقَسم في (وَلَئِن).
الإجمال ثم التفصيل بذِكر اسم الموصول، وتبيينه بقوله مِنَ الْعِلْمِ.
جعْل (الذي جاء)، أي: (الذي أنزل إليه) هو العِلم كلُّه؛ لعدم الاعتداد بغيره لنُقصانه.
اسمية جملة الجزاء ما لَكَ مِن اللهِ....
تأكيد النفي بـ(مِن) في قوله مِن وَليٍّ.
تأكيد النفي بـ(لا) النافية بين المعطوفَيْن.
تأكيد مِن وَلِيٍّ بعطْف وَلَا نَصِيرٍ، الذي هو آيِلٌ إلى معناه العام.
4- في قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ فَذْلَكةٌ لِمَا تقدَّم، وجوابٌ قاطعٌ لمعذرتهم المتقدِّمة، وهو من باب ردِّ العَجُز على الصدر؛ ولأحد هذين الوجهين جاء الفصل بيْن الجمل، ولم تُعطَف بالواو .
5- في قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ... وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
إعادةٌ للتحذير؛ مبالغةً في النصح، وللإيذان بأنَّ ذلك فذلكةُ القضية، والمقصودُ من القصة؛ وهو أنَّ نِعم الله عزَّ وجلَّ عليهم أعظمُ، وكفرَهم بها أشدُّ وأقبحُ .
6- قوله تعالى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ اختلف الترتيب بين العدل والشَّفاعة في آيتَي سورة البقرة، فهنالك قال: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة: 48] ، فقدَّم لفظ الشفاعة، وأخَّر لفظ العدل، وهنا قال: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 123] ، فقدَّم العدل، وأخَّر الشفاعة، مسندًا إليه (تنفعها)، وفائدته نفي سآمة الإعادة بالتفنن في الخطاب، مع حصول التأكيد من التكرير، وأيضًا كل تعبير جاء أنسب لسياقه الوارد فيه لنكتةٍ لطيفة؛ أو أكثر .

=================


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (124-134)
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ
غريب الكلمات:

إِمَامًا: هو الذي يأتمُّ به الناس، فيتبعونه، ويأخذون عنه، من أَمَّ، وأصله: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين
.
مَثَابَةً: أي: مرجعًا لهم، يرجعُون إليه في حجِّهم وعُمرتهم كلَّ عَام، وأصل الثوب: العَودُ والرجوع، وأصل المثابة: الموضِع الذي يُرجَع إليه مرَّةً بعدَ أخرى، ويُقال للمنزل: مثابة. وقيل: مَثابَةً من الثواب، أي: يَحجُّون فيُثابون عليه .
سَفِهَ: أصل السفه: ضد الحلم. والسفه، خِفَّة في البدن، واستُعمل في خِفَّة النفس؛ لنقصان العقل

.
المعنى الإجمالي:

ذكَّرَ الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما ابتَلى به خليلَه إبراهيم عليه السَّلام، من تكاليفَ فرَضَها عليه، فقام بها حقَّ القيام، فأعْلَمه الله تعالى بأنَّه سيجعله قُدوةً يأتمُّ به الناس، فسأله إبراهيمُ أن يكون مَن بعده مِنَ الأئمَّة من ذُريَّته، فأجابه الله تعالى بأنَّ الإمامةَ في الدِّين لا تُعطى لظالِم.
ثم ذَكَّر الله سبحانه نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما جعَل للبيت الحرام من مكانةٍ، وذلك بأن جعَلَه محلًّا يشتاق إليه الناسُ دائمًا، ولو زاروه مرَّاتٍ عديدةً؛ فإنَّهم يَرجعون إليه، وجعَله سبحانه مكانًا يأمَن فيه البشرُ على أنفسهم وأموالهم، بل أمانُه شمِل حتَّى الحيواناتِ والجمادات.
وأمَر الله تعالى باتِّخاذ مقاماتِ إبراهيمَ عليه السَّلام التي هي شعائرُ الحجِّ -كعَرفة، والمزدلفة- أماكنَ للعبادة.
ثم أخبَر الله تعالى أنَّه أوصى إبراهيمَ وإسماعيل وصيةً مؤكَّدةً، بالقيام بتطهير البيتِ طهارةً حِسيَّةً ومعنويَّة؛ من الشِّرك، والكفر، والأوثان، ومن الرِّجس، والنَّجاسات، وهذا التطهير مِن أجْل مَن يطوفون بالكعبة، ومَن يُقيمون في البيت للعبادة، وللمُصلِّين فيه.
ثم أخبر تعالى عن مسألةِ إبراهيمَ رَبَّه أن يجعل مكَّةَ بلدًا يَحُلُّ فيها الأمنُ الدائم، ويَرزق اللهُ المؤمنين فيها مِن أنواع الثِّمار، فأعْلَمه تعالى أنَّ الرِّزق الدُّنيوي للجميع؛ المؤمِن والكافِر، وليس مقصورًا على عبادِه المؤمنين فحسبُ، لكن هذا الرِّزق الذي سيُرزَقه الكفرةُ، رِزقٌ قليلٌ من حيثُ زمنُه وكميَّتُه، مقارنةً بنعيم الآخِرة الموعودِ به أهلُ الإيمان، ثم سيُلجِئُ الله سبحانه مَن كفَر إلى عذاب النار، وساء مستقرُّه ومصيرُه.
ثم يُذكِّر سبحانه نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ برفْع إبراهيمَ وإسماعيلَ لأُسُسِ الكعبة، وإعلائها؛ لتصيرَ جدارًا، وهما يَدْعُوانِ ربَّهما أن يتقبَّل منهما هذا العمل؛ فهو السَّميع لدُعائهما، والعليم بعملهما ونيَّتهما، وكذلك دعَوَا ربَّهما أنْ يجعلهما خاضعَيْنِ له سبحانه دومًا، ومستسلمَينِ لأمره، وأنْ يُنشِئَ من سُلالتهم جماعةً منقادةً لأوامِره، مُستسلمةً له، وقد أجاب الله عزَّ وجلَّ تلك الدَّعوةَ في المسلمين من العرب.
ودَعوَا ربَّهما أيضًا أنْ يُبيِّن لهما مواضعَ عِبادةِ الحجِّ، ومشاعره، وأنْ يتوبَ عليهما؛ فإنَّه هو الموفِّق للتوبة، والمتقبِّل لها، وهو الرَّحيم الذي يخصُّ برحمته مَن يشاء من عباده.
ودَعوَا ربَّهما أن يُرسل رسولًا إلى ذُريَّتهما من العرب، يقرأ عليهم القرآن، ويقوم بتعليمهم القرآن، والسُّنة، ويُطهِّرهم من أدران الشِّرك، وقد أجاب الله هذه الدعوةَ، فبَعَث محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
ثم أخبَر سبحانه أنَّه لا يَتركُ الحَنيفيَّةَ دِينَ الخليل إبراهيم راغبًا عنها؛ إلَّا مَن كانت له نفسٌ متَّصفة بالجَهل والطيش، وعدم الرشد؛ فقد اختار اللهُ إبراهيمَ واجتباه في الدُّنيا، وهو في الآخِرة من المفلِحين السُّعداء؛ فقد أمره ربُّه حين اصطفاه أن ينقاد إليه، ويُوحِّده ويُخلصَ له الدِّين، فأجاب هذ الأمرَ فورًا، ووصَّى إبراهيمُ بَنِيه بالإسلامِ لربِّ العالمين، وكذلك فعَل حفيدُه يعقوبُ عليه السَّلام، فوصَّى به أبناءه، وأعْلَمهم أنَّ الله اختار لهم هذا الدِّينَ؛ فلْيلتزموا به في حياتهم، حتى يأتيَهم الموتُ وهم متمسِّكون به.
ثم توجَّه الخِطابُ من اللهِ جلَّ وعلا إلى اليهود والنَّصارى المكذِّبين بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فسألهم: هل كانوا حاضِرين حين أوْشكَ يعقوبُ على الموت، حين سأل بَنِيه إلى مَن سيتوجَّهون بالعبادة مِن بعد موته؟ فأجابوه بأنَّهم سيعبدون الله وحْدَه، الذي هو معبودُ والدِهم يعقوب، ومعبودُ آبائه من قبله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ولن يُشرِكوا في عبادته أحدًا، وهم له خاضعون مُستسلِمون.
ثم أخبَر الله تعالى اليهودَ والنصارى المكذِّبين بنبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أنَّ هؤلاء الآباءَ والأجدادَ الصالِحين قد مضَوْا لسبيلهم، ولن ينفعَكم الانتسابُ إليهم، ولن يعودَ عليكم من هُداهم وعمَلِهم الصالح شيءٌ؛ فإنَّما لكم ما عملتُم، ولن تُجازَوْا على ما عمِلوه.
تفسير الآيات:

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124).
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ.
أي: واذكُر يا محمَّد، ابتلاءَ الله تعالى لعبده وخليله إبراهيمَ عليه السَّلام بتكاليفَ فرَضها عليه ربُّه سبحانه، فأدَّاها إبراهيمُ عليه السَّلام على وجهٍ تامٍّ، موفِّيًا جميعَ ذلك
.
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.
أي: إنِّي مُصيِّرك يا إبراهيم، إمامًا يأتمُّ بك الناسُ، ويَقتدون بك .
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.
أي: لَمَّا جعَل الله تعالى إبراهيم إمامًا، سأل ربَّه عزَّ وجلَّ أن تكون الأئمَّةُ من بعده من ذُريَّته .
قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
أي: أجاب الله تعالى عن سؤال خليله إبراهيمَ عليه السَّلام، بأنَّه لا يَمنح مرتبةَ الإمامة في الدِّين أحدًا من الظالِمين من ذريَّته؛ لأنَّ الإمامة تُعطَى لأوليائه، وأهلِ طاعته، دون أَعدائِه .
قال تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 113] .
وقال سبحانه: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ [النساء: 54-55] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 26] .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان من إمامة إبراهيمَ عليه السَّلام اتِّباع الناس له في حجِّ البيت، الذي شرَّفه الله سبحانه ببنائِه- قال سبحانه إثرَ ذلك ناعيًا على أهل الكتاب مخالفتَه وترْكَ دِينه، وموطِّئًا لأمر القِبلة :
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا.
أي: واذكُر يا محمَّد، هذا الأمرَ؛ فقد جعل الله تعالى البيت الحرام محلًّا يَشتاقُ إليه الناسُ على الدوام، فيَرجعون إليه، ولو تردَّدوا إليه عِدَّةَ مرَّات، وهو معاذٌ لهم يأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم، وحتى الحيوانات والجمادات تكون آمنةً فيه .
قال سبحانه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126] .
وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
وقال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97] .
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا قراءتان:
1- (اتَّخَذوا) بفتح الخاء، على الخبَر عمَّن كان قبلنا من المؤمنين، أنَّهم اتخَذوا من مقام إبراهيم مصلًّى .
2- (اتَّخِذوا) بكسر الخاء، والمعنى: اتَّخِذوا- أيُّها الناس- من مقام إبراهيم مصلًّى تُصلُّون عنده .
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
أي: اجعَلوا من مقامات إبراهيمَ عليه السَّلام، وهي شعائرُ الحجِّ، كعرفةَ ومزدلفةَ، ورمْي الجمرات، وغيرها- اجعلوها أماكنَ للعِبادة كالدُّعاء، وقد اتَّخذ الناسُ ذلك مقتدِين بإبراهيم عليه السَّلام، ويدخُل في ذلك، أداءُ ركعتَي الطَّواف خَلْفَ المقام المشهور بمقام إبراهيمَ عليه السَّلام .
قال عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه: ((وافقتُ ربي في ثَلاثٍ: فقلتُ: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا من مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى، فأُنزِلتْ: واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...)) .
وفي حديثِ جابرٍ الطويل: (... حتى إذا أتَيْنا البيتَ معه، استلم الرُّكنَ فرمَل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ. فقرأ: واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فجعَل المقامَ بَينه وبين البيتِ- فكان أبي يقول: (ولا أعْلَمُه ذَكرَه إلَّا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ )- كان يقرأ في الرَّكعتَينِ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وقُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ)) .
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ.
أي: أوْحَيْنا إليهم بوصيةٍ مؤكَّدة، أمرناهما فيها بتطهير بيت الله تعالى من الشِّرك، والكُفر والأوثان، ومِن الرِّجس والنَّجاسات، وأنْ يَبْنِياه بِنيَّةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجلَّ .
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
أي: أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ بتطهير البيت لأجْل مَن يطوفون بالكعبة، ومَن يُقيمون في البيت مجاورين للعِبادة- فيما يُعرف شرعًا بالاعتكاف- وللمُصلِّين فيه .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126).
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا.
أي: واذكُروا دعوة إبراهيم عليه السَّلام بحلول الأمْن الدَّائم للبلد الأمين: مكَّةَ .
عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إِنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مكةَ ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المدينةَ ما بينَ لابَتَيْها ، لا يُقْطَعُ عِضاهُهَا ، ولا يُصادُ صيدُها)) .
وعن عبدالله بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إن إبراهيمَ حرَّم مكةَ ودعا لها، وحَرَّمت المدينةَ كما حرَّم إبراهيمُ مكةَ، ودعوت لها في مُدِّها وصاعِها مثلَ ما دعا إبراهيمُ عليه السَّلامُ لمكةَ )) .
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: سأل إبراهيمُ عليه السَّلام ربَّه سبحانه بأن يرزق مؤمني أهل مكة من أنواع الثمار المختلفة .
قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] .
قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا خصَّ إبراهيم عليه السَّلام في دعائه بالرزق، المؤمنين، وكان رزق الله عزَّ وجلَّ شاملا للمؤمن والكافر ، قال تعالى:
قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا.
أي: إنَّ الكافر ينال رزقه الدنيويَّ أيضًا لكنَّه قليلٌ زمنًا ووصفًا، بالنسبة لنعيم الآخرة الكامل، والدائم بلا انقطاعٍ ولا نهاية .
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: أُلجئه وأَدفعه وهو مُكرَه إلى النار، وساء المصيرُ عذابُ النار بعدَ الذي كانوا فيه من متاعِ الدُّنيا .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127).
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.
أي: واذكر رفْعَ إبراهيم لقواعد الكعبةِ، وإسماعيلُ يُعاونه بنقْل الحجارة، ورفعُ القواعِد يكون بإبرازها من الأرض وإعلائها؛ لتصير جِدرًا، فالبِناء إذا اتَّصل بعضُه ببعض، صار كالشيء الواحد، والجدار إذا اتَّصل بالأساس صار الأساسُ مرتفعًا .
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما سبحانه وتعالى، بأنْ يَتلقَّى بِناءَهما البيتَ بالقَبول والرِّضا عنه؛ فهو الذي يَسمع أقوالهما، ويَعلم أعمالَهما ونيَّاتِهما .
قال عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما: ((... ثم جاء بعدَ ذلك، وإسماعيلُ يَبْرِي نَبْلًا لهُ تحتَ دَوْحَةٍ قريبًا من زمزمَ، فلمَّا رآهُ قام إليهِ، فصنَعَا كما يصنعُ الوالدُ بالولدِ، والولدُ بالوالدِ، ثم قال: إنَّ اللهَ أمرني بأمْرٍ، قال: فاصنعْ ما أمَرَ ربُّكَ، قال: وتُعينني؟ قال: وأُعينُكَ، قال: فإنَّ اللهَ أمَرني أن أبنيَ هاهنا بيتًا، وأشار إلى أَكَمَةٍ مرتفعةٍ على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعَا القواعدَ من البيتِ، فجعَل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يَبني، حتى إذا ارتفعَ البناءُ، جاء بهذا الحَجرِ، فوضعَهُ لهُ فقام عليهِ، وهو يَبني، وإسماعيلُ يُناوِلُه الحجارةَ، وهما يقولانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، قال: فجعلَا يَبنيانِ حتى يدورَا حول البيتِ وهما يقولانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) .
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128).
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ.
أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام بأن يجعلهما على الدَّوام، خاضعَينِ له سبحانه بطاعته، ومنقادَينِ لحُكمه، ومستسلمَينِ لأمْره .
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.
أي: دَعَوَا اللهَ ربَّهما أن يَجعلَ من بعض ذريَّتهم جماعةً مستسلمة لله تعالى، طائعةً لأمره، وخاضعةً لحُكمه جلَّ وعلا، وقد استُجِيبت هذه الدعوةُ في المسلمين من العرَب .
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا.
أي: بيِّن لنا مشاعرَ الحجِّ، ومواضعَ العبادة فيه، وعرِّفها لنا؛ فنراها .
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: وفِّقنا للتوبة، فنرجع من معصيتك إلى طاعتك؛ فأنت وحْدَك سبحانك التوَّاب؛ بتوفيقِ عبدك للتوبة أولًا، وقَبولها منه ثانيًا، وأنت وحْدَك الرَّحِيم؛ فتختصُّ برحمتك عبادَك المؤمنين .
كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] .
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129).
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ.
أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما، بأنْ يبعث رسولًا من ذُريتهما، أي: من العرَب.
وقد استجاب الله تعالى دُعاءَهما، فبعث محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2] .
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.
أي: يقرأ عليهم كتابَك الذي تُوحيه إليه، ويُعلِّمهم معاني القرآن، ويُعلِّمهم السُّنة؛ فهي التي تبيِّن معاني القرآن وأحكامَه، وتُعين على فَهمِه .
قال سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] .
وَيُزَكِّيهِمْ.
أي: ويُطهِّرهم من الشِّرك بالله، ويُنمِّيهم ويُكثِّرهم بتوحيد الله تعالى وطاعته .
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: أنت وحْدَك العزيز الذي لا يُعجِزه شيءٌ أراده، فأعطِنا وذُريِّتَنا ما طلبناه منك، وأنت وحْدَك الحكيم، الذي يَضعُ كلَّ شيء في موضعه اللائِق به، فأعطِنا ما يَنفعُنا وينفع ذُريتَنا .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130).
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.
أي: لا أحدَ يعدِل عن الحنيفيَّة؛ دِينِ إبراهيم الخليل عليه السَّلام، إلَّا مَن كانت نفسُه سفيهةً، أي: جاهلة، طائشةً، غير راشدة .
قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 67-68] .
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا.
أي: يؤكِّد الله تعالى اختيارَه واجتباءَه لإبراهيمَ عليه السَّلام في الدُّنيا؛ فقد هداه ووفَّقه للإيمانِ والأعمالِ التي صار بها خليلَ الرحمن، وإمامَ الحنيفيَّة للناس .
قال سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120-123] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: إنَّ إبراهيمَ عليه السَّلام من الفائزين السُّعداء في الدار الآخِرة، وفي الرَّفيق الأعلى مع إخوانه المرسَلين والأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام .
كما دعَا إبراهيمُ عليه السَّلام بذلك، فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] .
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131).
أي: أمَر الله تعالى خليلَه إبراهيمَ عليه السَّلام حين اصطفاه، بأن يُخلص دِينَه وتوحيدَه له سبحانه، وينقادَ إليه بكل ذلٍّ وخضوعٍ ومَحبَّة، فأجاب إبراهيمُ إلى ذلك على الفور .
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132).
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ.
أي: عهِد إبراهيمُ عليه السَّلام بهذه الكلمة أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، والتي تمثِّل الملَّةَ الحنيفيَّة، عهِد بها إلى أبنائه، وكذلك فعَل حفيدُه يعقوب بن إسحاق، فعهِد بها إلى أبنائه .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26-28] .
يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد اجتبَى لكم هذا الدِّين الذي تعرِفونه، فلا تُفرِّطوا فيه، ولا تُفارقوه في حياتِكم، بل الْزَموه وقُوموا به؛ ليرزقَكم الله تعالى الوفاةَ عليه، فمَن عاش على شيءٍ مات عليه .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قرَّر سبحانه لبني إسرائيل أنَّ أباهم يعقوبَ ممَّن أوصى بنيه بالإسلام، قال مبكِّتًا لهم :
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ.
أي: هل كنتم يا معشرَ اليهود، المكَذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، شهودًا حاضرين حين أتتْ أباكم يعقوبَ عليه السَّلام مقدِّماتُ الموت .
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي.
أي: هل شهدتُم يعقوب، وهو يسأل أبناءَه مختبرًا لهم: أيَّ شيءٍ ستعبُدون من بعد وفاتي ؟
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا.
أي: أجاب أبناءُ يعقوبَ عليه السَّلام أباهم بأنَّهم يعبُدون معبودَه ومعبودَ آبائه- وهم: جَدُّه إبراهيم، وعمُّه إسماعيل، وأبوه إسحاق- وهو الذي لا مَعبودَ بحقٍّ سواه، لا يُشرِكون به في عبادته أحدًا من دونه .
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
أي: مُستسلِمون ومنقادون لأمْره، خاضِعون لعبادتِه .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134).
أي: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، دَعُوا ذِكر الآباء والأجداد، كإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ، والمسلمين من أولادِهم؛ إذ لا يَنفعُكم الانتسابُ إليهم وإلى أعمالهم الصالِحة، فخيرُهم لا ينفعُكم إنْ كسبتم شرًّا؛ فإنَّهم جماعةٌ قد مضَتْ لسبيلها، وكلٌّ منكم له عملُه الذي يخصُّه، وتَبِعَتُه، من خيرٍ أو شر، ولا يَلحق الآخَر من ذلك شيءٌ، ولا السُّؤال عنه، فلا تُحاسَبون بأعمال سَلفِكم، وإنَّما تُحاسَبون بأعمالكم

.
الفوائد التربويَّة :

1- أنَّه يَنبغي للإنسان أن يَدعوَ لذريَّته بالصَّلاح؛ لقوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
.
2- أهميَّة القَبول، وأنَّ المدار في الحقيقة عليه؛ وليس على مجرَّد العَمل، كما قال تبارك وتعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا .
3- شدَّة افتقار الإنسان إلى ربِّه؛ حيث كرَّر إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلام كلمة: رَبَّنَا؛ وأنَّهما بحاجة إلى ربوبيَّة الله الخاصَّة، التي تقتضي عنايةً خاصَّة، وممَّا يفتقر إليه الإنسانُ دائمًا تثبيت الله، وإلَّا هلَك؛ لقوله تعالى: وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ؛ فإنَّهما مسلمان بلا شكٍّ، ولكن لا يدوم هذا الإسلامُ إلَّا بتوفيق الله تعالى .
4- أهميَّة الإخلاص؛ لقوله تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام: مُسْلِمَيْنِ لَكَ: فقولهما: لَكَ يدلُّ على إخلاص الإسلام لله عزَّ وجلَّ .
5- أنَّه يَنبغي التلطُّفُ في الخِطاب؛ لقول إبراهيمَ ويعقوبَ عليهما السَّلام لأبنائهما: يَا بَنِيَّ؛ فإنَّ نداءهم بالبُنوَّة أدْعى لقَبولِ ما يُلقى إليهم .
6- أنَّه يَنبغي للإنسان أن يتعاهَدَ نفسه دائمًا حتى لا يأتيَه الموتُ وهو غافل؛ لقوله تعالى: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
7- أنَّ الأعمال بالخواتيم؛ لقوله تعالى: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

.

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- فضيلة إبراهيمَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لقوله تعالى: رَبُّهُ؛ حيث أضاف رُبوبيَّته إلى إبراهيم، وهي ربوبيَّة خاصَّة، ولقوله تعالى: فَأَتَمَّهُنَّ؛ ولقوله سبحانه: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
.
2- أنَّ الله سبحانه وتعالى يُثيب العاملَ بأكثر من عمله؛ فإبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّمَ لَمَّا أتمَّ الكلمات، جعَله الله تعالى إمامًا للناس، وأمَر الناس أن يتَّخذوا من مقامِه مصلًّى .
3- أدَبُ إبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ حيث لم يُعمِّم في هذا الدعاء؛ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ؛ خوفًا من أن يقول الله له: (مَن آمَن فأرْزُقه)، كما قال تعالى حين سأله إبراهيمُ أن يجعل مِن ذُريَّته أئمَّة: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، فتأدَّب في طلب الرِّزق: أن يكون للمؤمنين فقط من أهل هذا البَلد، لكن المسألة صارتْ بعكس الأُولى: ففي الأولى خصَّص الله دعاءَه، وهنا عمَّم .
4- التوسُّل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائِه وصِفاته المناسبة لِمَا يدعو به المرء؛ لقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ .
5- في قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، جاء الإتيان بصِفتي العِزة والحِكمة في الدعاء ببَعْثِ الرسول؛ لأنَّ ما يجيء به الرسولُ كلُّه حِكمة، وفيه العِزَّة .
6- أنَّ الأصل في العبادات أنَّها توقيفيَّة، أي: إنَّ الإنسان لا يتعبَّد للهِ بشيءٍ إلَّا بما شرَع؛ لقوله تعالى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا .
7- أنَّ المخالفين للرُّسُل سفهاء؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وقوله في المنافقين: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة: 13] ، وقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 142] ؛ فإنَّهم وإن كانوا أذكياءَ، وعندهم علمٌ بالصناعة، والسِّياسة، إلَّا أنَّهم في الحقيقةِ سُفهاء؛ لأنَّ العاقلَ هو الذي يتَّبع ما جاءتْ به الرُّسُلُ فقط .
8- في قوله تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلام: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، مناسبةٌ بين أَسْلَمْتُ ورَبِّ، وكأنَّ ذِكر الربوبيَّة هنا عِلَّةٌ لقوله تعالى: أَسْلَمْتُ؛ فإنَّ الربَّ هو وحده الذي يستحقُّ أن يُسْلَم له .
9- في قوله تعالى: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ، إشارةٌ إلى الوصية عند حضور الأجَل، ويُشترَط أن يكون الموصِي على وعيٍ بما يقول .
10- جواز إطلاق اسم الأبِ على العمِّ تغليبًا؛ لقوله تعالى: وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ، وإسماعيل هو عمُّ يعقوب عليهما السلام .
11- بيانُ عدْل الله سبحانه وتعالى، وأنَّه لا يُؤاخِذ أحدًا بما لم يعملْه؛ لقوله تعالى: وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ قُدِّم المفعول (إبراهيم) للاهتمام بمَن وقع عليه الابتلاء، ولتشريف إبراهيمَ بإضافة اسم الربِّ إلى اسمه
.
2- قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا في هذه الآية نوعٌ طريفٌ من أنواع الفصاحة يُقال له: المراجعة، وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرَت بينه وبين محاور في الحديث، أو بين اثنين غيره، بأوْجَز عبارة، وأبلغ إشارة، وأرشق محاورة، مع عذوبة اللفظ وجزالته، وسهولة السَّبك، وقد جمعت هذه الآية- التي عِدة ألفاظها ثلاث عشرة لفظة- معانيَ الكلام، من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي والوعد والوعيد .
3- في قوله: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة؛ لأنه أقربُ إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون، أي يُجدِّدون الطواف؛ للإشعار بعِلَّة من علل تطهير البيت، وهو قُرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود، فإنَّه لا يلزم أن يكونَا في البيت ولا عنده؛ فلذلك لم يُجمعَا جمع سلامة .
وقدَّم الطائفين على العاكفين؛ لقُرب الطَّواف من البيت واختصاصه به، بخِلاف العكوف؛ فإنه يكون فيه وفي غيره .
4- في قوله: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
خصَّ الركوع والسجود بالذِّكر من جميع أحوال المصلي؛ لأنَّهما أقرب أحواله إلى الله .
وقُدِّم الركوع على السجود؛ لتقدُّمه عليه في الزمان .
وتَرْك حرف العطف بينهما؛ لتقاربهما ذاتًا وزمانًا؛ ولأنَّ المقصود بهما المصلُّون، والرُّكَّعُ والسُّجود، وإنِ اختلفت هيآتهما، فيقابلهما فِعلٌ واحد وهو الصَّلاة، فناسب أنْ لا يُعطف؛ لئلَّا يتوهم أنَّ كلَّ واحد منهما عبادة على حيالها، وليستَا مجتمعتينِ في عبادة واحدة، وليس كذلك، وهذا بخلاف الطَّائِفينَ والعاكفينَ فقد ناسَب معهما العطفُ؛ لفرط التبايُن بينهما .
وجُمعَا جمْعَ تكسير؛ لمقابلتهما ما قبلهما لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ من جمَعْي السَّلامة، فكان ذلك تنويعًا في الفصاحة، وخالف بين وزْنَي تكسيرهما؛ تنويعًا في الفصاحة أيضًا، وكان آخرهما السُّجود على فعول، لا على فُعَّل، لأجل كونها فاصلةً .
5- قوله: بَلَدًا آمِنًا في هذه السورة قال: (بلدًا) على التنكير، وقال في سورة إبراهيم: (البلد)؛ وهذا إمَّا لأنَّ الدَّعوة الأولى وقعتْ ولم يكُن المكان قد جُعل بلدًا، والدعوة الثانية وقعتْ وقد جعل بلدًا، فكأنَّه قال: اجعل هذا المكان الذي صيَّرته بلدًا ذا أمْنٍ وسلامة، فيكون كل لفظ مناسبًا لمقامه .
وإمَّا أن تكون الدعوتانِ وقعتَا بعدَما صار المكانُ بلدًا، إلَّا أنَّه تفنَّن في الموضعين، فحَذَف من كلٍّ ما أثبته في الآخَر احتباكًا، والأصْل: ربِّ اجعل هذا البلد بلدًا آمنًا، ويكون التنكيرُ للطلب مع المبالغة .
6- في قوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ عبَّر بالمضارع في يَرْفَعُ مع أنه حكاية عن الماضي؛ لاستحضار الحالة .
- وتأخير عطف وَإِسْمَاعِيلُ عن المفعول الْقَوَاعِدَ؛ لعلَّه للإيذان بأنَّ الأصلَ في الرَّفْع هو إبراهيم، وإسماعيل تبعٌ له .
7- قوله: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
في ندائهما بلفظ رَبَّنَا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي .
وفيه: تأكيدُ الجملة بـ(إنَّ)؛ لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها، وقصرُ نعْتيِ السمع والعلم عليه تعالى؛ لإظهار اختصاصِ دُعائهما به تعالى، وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية .
وفيه: الإتيان بضمير الفصل (أنت)؛ لبيان كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدَم، ويجوز أن يكون قصرًا حقيقيًّا باعتبار متعلِّقٍ خاصٍّ، أي السميع العليم لدعائنا، لا يعلمه غيرك، وهذا قصرٌ حقيقيٌّ مقيَّد .
8- في قوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
تَكرار النداء بقوله: رَبَّنَا، وفائدته: إظهار الضراعة إلى الله تعالى، وإظهار أنَّ كلَّ دعوى من هاته الدعوات مقصودةٌ بالذات؛ ولذلك لم يُكرر النداء إلَّا عند الانتقال من دعوةٍ إلى أخرى .
وقوله: لك يُفيد الحَصر، أي نكون مسلمين لك لا لغيرك، وهذا يدلُّ على أنَّ كمال سعادة العبد في أنْ يكون مسلمًا لأحكام الله تعالى وقضائه وقدَره، وأنْ لا يكون ملتفتَ الخاطِر إلى شيءٍ سواه .
9- وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيه التأكيد باللام في الجملة الأولى (ولقد)، وبـ(إنَّ) وباللام في الثانيَّة (وإنه - لَمِن)؛ وذلك لأجل الاهتمام بالخبر الأخير، ولأنَّ الإخبار عن حالة مغيبة في الآخرة، يحتاج إلى مزيد تأكيد، بخلاف حال الاصطفاء في الدُّنيا؛ فإنه يُشاهد ويُنقل جيلًا بعد جيل .
10- قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيبة، ولو جرى على الكلام السابق، لكان: (إذ قلنا له أسلم) . والالتفاتُ مع التعرُّض لعنوان الربوبيَّةِ والإضافةِ إليه عليه السلام رَبُّه؛ لإظهارِ مزيدِ اللُّطفِ به، والاعتناءِ بتربيته .
11- قوله: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ... فيه مؤكِّداتٌ عديدةٌ للدَّلالة على شِدَّة الاهتمام بهذا الأمر:
فالتعبير بالماضي وصَّى لتحقيق الوقوع .
ولفظ الوصية أوكد من الأمْر؛ ولذلك جاء هنا في هذا المقام الذي يكون احتياط الإنسان لدينه أشدَّ وأتمَّ؛ ترغيبًا في قَبول الدِّين .
وتخصيص بنيه بذلك؛ لأن اهتمامه بذلك كان أشدَّ من اهتمامه بغيره .
وتعميم الوصية لجميع بنيه؛ يدل أيضًا على شدة الاهتمام .
وإطلاق هذه الوصية غير مقيَّدةٍ بزمانٍ معيَّن ومكانٍ معيَّن .
والزَّجر البليغ عن أن يموتوا غير مسلمين؛ للدلالة أيضًا على شدَّة الاهتمام .
12- في قوله: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
جاء إدخال حرف النَّهي على ما ليس بمنهيٍّ عنه؛ لنكتةٍ لطيفة، وهي: إظهار أنَّ موتهم على غير الإسلام موتٌ لا خير فيه، وأنه ليس بموت السُّعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحلُّ فيهم، وهذا نهيٌ عن تعاطي الأشياء التي تكون سببًا للموافاة على غير الإسلام، فتضمن هذا الكلام إيجازًا بليغًا، ووعظًا وتذكيرًا .
وفيه: توكيدٌ لمعنى النهي بنون التوكيد المشدَّدة في تَمُوتُنَّ .
13- قوله: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ ... الآية
في الآية: نوعٌ من أنواع البلاغة يُسمَّى الاطِّراد ، وهو أن يَطَّرِدَ للمتكلِّم أسماءُ الآباء مُرتَّبةً على حُكم ترتيبها في الميلاد .
وفيها: ما يسمى بـ(الاحتراس) ؛ لأنَّه لو وقف عند آبَائِك لما اتَّضح صِحَّة المعنى؛ لأن مطلق الآباء يتناول من الأب الأدْنى إلى آدَم وفي آباء يعقوب عليه السلام مَن لا يجب اتباعُ ملته، فاحترس بذكر البدل عمَّا يرد على المُبدَل منه، لو وقْع الاختصار عليه .
14- قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
فيه: التعبير بالجملة الاسمية؛ للتأكيد، ولإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه، بعد أن أُفيد بالجملة الفعليَّة المعطوف عليها، معنى التجدُّد والاستمرار .
وفيه: تقديمُ الجار والمجرور لَهُ على الخبَر مُسْلِمُونَ؛ لتقوية المعنى وزيادة توكيده ، ومراعاةً لفواصل الآيات.


============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (135-141)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
غريب الكلمات:

حَنِيفًا: أي: مائلًا عن الدِّين الباطل إلى الدِّين الحقِّ، أي: مسلمًا مستقيمًا، وأصل الحنف: الميل
.
الْأَسْبَاطِ: هم ولد يعقوب عليه السلام، سُمُّوا بالأسباط؛ لأنَّه كان من كلِّ واحد منهم سِبط، والسِّبط بمنزلة القبيلة. والسِّبط في اللُّغة: الجماعة يَرجِعون إلى أبٍ واحد، وأصل السِّبط يدلُّ على امتدادِ شيءٍ .
شِقَاقٍ: عَداوة ومباينة، ومخالفة، وأصل الشِّقاق: الانصِداع في الشيء .
صِبْغَةَ الله: دِينه، وفِطرته لخلقه، وأصل الصِّبغة: تلوين الشيء بلونٍ ما

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا:
مِلَّةَ: منصوبة بفعل مُقدَّر، تقديره: نتبع أو اتَّبعوا، أو الزموا مِلةَ، أو على نزْع الخافض، والتقدير: نقْتدي -أو اقتدوا- بملَّةِ إِبْراهيمَ، فلمَّا حُذِف حرْف الجرِّ انتصب.
حنيفًا: منصوب بفِعل محذوف أيضًا، تقديره: أعني. أو منصوب على الحال مِن مِلَّة، وذُكِّر حنيفًا مع أنَّ مِلَّة مؤنَّث؛ لأنَّ صيغة (فَعيل) يستوي فيها المذكَّر والمؤنَّث، أو أنَّ الملَّة بمعنى الدِّين. وقيل: حنيفًا حالٌ من إبراهيم
.
2- قوله: صِبغةَ اللهِ: منصوبة على أنَّه مفعولٌ مطلَق نائِبٌ عن عاملِه، أي: صبغنا صِبغةَ الله- كما انتصب (وعْدَ الله) بعد قوله: يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ... [الروم: 5 - 6] بتقدير: وعَدَهم النَّصرَ- أو على أنَّ (صبغة) بدلٌ من قوله: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، أي: الملة التي جعَلها الله شعارَنا كالصِّبغةِ عند اليهود والنصارى، أو منصوبًا وصفًا لمصدر محذوف دلَّ عليه فِعل آمنَّا بِاللهِ، والتقدير: آمنَّا إيمانًا صِبغةَ الله. وقيل: منصوبة على الإغراء، أي: اتَّبِعوا صِبغةَ الله. وقيل: صبغة منصوبة على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِر الله تعالى عن قولِ اليهودِ لأهل الإيمان: اتَّبعوا اليهوديَّةَ، تهتدوا. وعن قول النَّصارى لهم: اتَّبعوا النصرانيَّة، تهتدوا. فأمَر الله تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقول لأصحاب المِلَّتينِ: إنَّ الهداية الحقيقيَّة ليستْ في دِياناتكم المحرَّفة، بل هي في اتِّباع دِين إبراهيمَ عليه السَّلام، الذي هو استقامةٌ على التوحيد، وميلانٌ عن الشِّرك.
ثمَّ أمَر الله سبحانه عبادَه المؤمنين أن يَصْدَعوا بإيمانهم به، وبما أنزله إليهم، وبالذي أُنزل على الرُّسُل الذين كانوا من قبلُ: إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب، وعلى الأنبياء من ذريَّة يعقوب، وأنْ يُؤمنوا بما آتاه اللهُ عزَّ وجلَّ موسى وعيسى من الكتُب المُنزلة إليهما، والمعجزاتِ المؤيِّدة لهما، وأن يؤمنوا بما أعطاه الله لبقيَّة الأنبياء والرُّسُل عليهم السَّلام، من دون أن يُفرِّقوا بين أحد منهم، ولْيُعلنوا خضوعَهم التامَّ له جلَّ وعلا، وإذعانَهم وانقيادهم له سبحانه.
فإنْ آمَن اليهودُ والنَّصارى إيمانًا مِثل إيمانكم من جميع الوجوه، فقدْ سلَكوا سبيلَ الرُّشد، والتوفيق، وحقَّقوا الهداية، وإنْ أعْرَضوا فلْتعلموا أنَّهم إنما يقصدون مُنازعتَكم وعداوتَكم، لكن الله متكفِّلٌ بدفْع أذاهم عنكم، وسيَكفيكم أمرهم، فهو سبحانه يَسمعُ ما يقولون، ويَعلم ما يُخفون وما يُعلنون.
فاتَّبِعوا دِين الله والْزموه؛ فلا أحدَ أحسنُ من الله تعالى دِينًا، وكونوا له خاضِعين متذلِّلين.
ثم أمَر الله سبحانه نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لأولئك اليهودِ والنَّصارى- الذين يُجادلونه والمؤمنين بغير حقٍّ- مُنكِرًا عليهم: أتُجادلوننا في الله بزَعْمِكم أنَّكم أَوْلى به منَّا؟! فكيف يكون ذلك وربُّ الجميع واحد، ولكلٍّ منَّا أعمالُه التي سيُجازَى عليها؟! فأنتم لستُم بأفضلَ منَّا، بل نحن أَوْلى بالله منكم؛ لأنَّنا لا نُشرِك به شيئًا، وأنتم تُشرِكون.
ثمَّ أنكر الله تعالى على اليهود والنصارى، ووبَّخَهم في زعمِهم أنَّ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا على اليهوديَّة، أو النصرانيَّة، مع أنَّ هاتيْن الدِّيانتيْنِ قد حدَثَتا بعد هؤلاء الرُّسُل المذكورين، فأمَر الله نبيَّه أن يسألَهم: أهُمْ أعلمُ بما كان عليه هؤلاء الرُّسُلُ، أمِ اللهُ؟!
ولا أحدَ أشدُّ ظلمًا في كِتمان الشَّهادة؛ ممَّن يَكتُم ما أنزل الله في كُتبه، والله سبحانه وتعالى ليس بسَاهٍ عن هؤلاء اليهودِ والنَّصارى، بل هو على عِلمٍ بجميع أعمالِهم، ولا يَخفَى عليه منها شيء.
ثم أخْبَر اللهُ عزَّ وجلَّ اليهودَ والنَّصارى المكذِّبين بنُبوَّة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّ هؤلاء الآباءَ والأجدادَ الصالحين، الذين تنتسبون إليهم، قد مضَوْا لسبيلهم، ولن ينفعَكم الانتسابُ إليهم، ولن يعودَ إليكم من صلاحِهم وعملِهم الصالح شيءٌ؛ فإنَّما لكم ما عملتُم، ولن تُحاسَبوا على ما عمِلوه.
تفسير الآيات:

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135).
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا.
أي: قالت اليهود للمؤمنين: كونوا هودًا، تَهتدوا، وقالت النَّصارى لهم: كونوا نصارى، تَهتدوا؛ فكلٌّ منهم حصَر الهدى في دِينه، بزعم أنَّ مُعتنقَه يصيب طريقَ الحقِّ
.
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: يا محمَّد، قلْ لهؤلاء اليهود والنصارى: إنَّ الهداية ليستْ في دِينكم من اليهوديَّة، أو النصرانيَّة، وإنَّما الهداية الحقيقيَّة في اعتناق دِين إبراهيم عليه السَّلام، الذي حقيقتُه الاستقامةُ على طريق التوحيد، والميلُ عن طريق الشِّرك، أي: عِبادة الله وحده لا شريكَ له. وإبراهيمُ عليه السَّلام لم يكُن من عبَّاد الأصنام، ولم يكُن يهوديًّا ولا نصرانيًّا .
كما قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 67] .
وقال سبحانه: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .
قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا.
أي: أعْلِنوا- أيُّها المؤمنون- أنَّكم مُقرُّون بقلوبكم وجوارحكم بالله تعالى، وبكلامه، الذي أنزله إليكم .
عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((كان أهلُ الكتابِ يَقرؤُون التوراةَ بالعَبرانيةِ، ويُفسِّرونها بالعَربيَّةِ لأهلِ الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: لا تُصدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولوا : آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا)) .
وعن عبدِ الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقرأ في ركعَتيِ الفجرِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، والتي في آل عمرانَ : تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم)) .
وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ.
أي: صَدَّقْنا وأقرَرْنا بألسنتنا وقلوبِنا بما أنزله الله تعالى على رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام- من قبلِ أن يُبدَّل ويُحرَّف-: إبراهيمَ، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوب، وعلى الأنبياء من ذريَّة يعقوب، وبما أعطاه اللهُ تعالى لموسى من التوراة والمعجِزات، وما أعطاه لعيسى من الإنجيل والمعجِزات كذلك، وما أُعطيَه بقيَّةُ الأنبياء عليهم السَّلام .
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
أي: لا نُؤمِن ببعضٍ ونكفُر ببعض، بل نحن بالجميعِ مؤمنون .
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
أي: ونحن للهِ تعالى وحْدَه دون مَن سواه، مستسلِمون ظاهرًا وباطنًا، فله خاضِعون بالطَّاعة، ومذعِنون بالعبوديَّة .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137).
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا.
أي: فإنْ آمَن اليهودُ والنَّصارى إيمانًا مماثلًا من كلِّ الوجوه لإيمانكم- أيُّها المسلمون- ومِن ذلك الإيمانُ بجميعِ كتُب الله تعالى، وبجميع رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام- فقد رَشَدوا ووُفِّقوا للحقِّ والخير .
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ.
أي: فإنْ أعرَض أولئك اليهودُ والنَّصارى عن الحقِّ بعد إقامة الحُجَّة عليهم، فلم يُؤمِنوا بمِثل إيمانكم، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّهم يَقصِدون المخالفةَ والمنازعةَ والعداوةَ لكم .
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: فإنَّ الله تعالى سيَكفيك يا محمد أمْرَ أولئك اليهود والنصارى، الذين يقصدون عداوتَك؛ فإنَّ الله تعالى يَدفع أذاهم عنك وينصُرك عليهم؛ فهو سبحانه السميعُ لِمَا يقولون، والعالِمِ بما يُبطنون وما يُظهرون، من المكائدِ وأنواع الشُّرور .
صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138).
صِبْغَةَ الله.
أي: اتَّبعوا الحَنيفيَّةَ مِلَّة إبراهيم عليه السَّلام، والْزَموا دِينَ الله تعالى الإسلام، وقوموا به خيرَ قِيام .
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً.
أي: لا أحَدَ أحسنُ من الله تعالى دِينًا .
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ.
أي: ونحن له سبحانه دون مَن سواه، مخلِصون، خاضِعون، ومتذلِّلون، مع المحبَّةِ الواجِبة له سبحانه .
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي الله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139).
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ.
أي: قل يا محمَّد، لهؤلاء اليهودِ والنصارَى -الذين يُجادِلونكم بغير حقٍّ- مُنكرًا عليهم صنيعَهم هذا: هل تُجادِلوننا وتُخاصموننا في توحيدِ الله تعالى لإبطالِ دِين الإسلام، بزعْم أنَّكم أَوْلَى بالله منَّا؟! وكيف تدَّعون ذلك وربُّ الجميعِ واحد ؟!
وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ.
أي: وبالإضافةِ إلى أنَّ ربَّنا واحدٌ، ليس ربًّا لكم دُوننا، فلكلٍّ منا أعمالُه التي اكتسبها وسيُجازيه الله تعالى بها؛ فأنتم لستم بأفضلَ منَّا، بل نحن أَوْلى بالله منكم؛ لأنَّنا لا نُشرِك به شيئًا في عبادته، وأنتم تُشرِكون؛ فكيف تدَّعون زُورًا ما نحن أَوْلى به منكم ؟!
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140).
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى.
أي: يُوبِّخ الله تعالى ويُنكِر على اليهود والنَّصارى الذين يحاجُّون في رُسل الله عزَّ وجلَّ بعد محاجَّتهم في دِين الله تعالى، فيَزعُمون أنَّ الرسل المذكورين كانوا على مِلَّتهم، إمَّا اليهوديَّة وإمَّا النصرانيَّة، زاعمين بذلك أنَّهم أَوْلى بأولئك الرُّسُل الكِرام من المسلمين، وهذا مِن سفَههم؛ فكيف يكون هؤلاء هودًا أو نصارى، واليهوديَّة والنصرانيَّة إنَّما حدَثتْ بعدَهم ؟!
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ.
أي: قل لهم: يا محمَّد -إنِ ادَّعوا أنَّ إبراهيمَ، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، والأسباطَ كانوا هودًا أو نصارى-: هل أنتم أعلمُ بالدِّين الذي كانوا عليه، أم اللهُ ؟!
كما قال الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 65-68] .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله.
أي: لا أحدَ أشدُّ ظلمًا في كتمان الشهادة، ممَّن كتَموا ما أنزله الله تعالى في كتُبه، من أنَّ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مُسلِمين، فكتموا ذلك ونَحَلوهم اليهوديَّةَ والنصرانيَّة ، وقيل: ما كتموه ممَّا جاء في كتُبهم من العِلم بصِفات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وإثبات نبوَّته .
وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: هذا تهديدٌ، ووعيدٌ شديدٌ لأولئك اليهود والنَّصارى، الذي يَكتُمون ما أُنزل إليهم من العِلم، بمجازاتِهم على ذلك؛ فاللهُ تعالى ليس بساهٍ عنهم، بل هو مُطَّلعٌ على أعمالِهم، وقد أحصاها صغيرَها وكبيرَها، لا تخفَى عليه منهم خافيةٌ .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141).
أي: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، دَعُوا ذِكر الآباء والأجداد، كإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ، والمسلمين من أولادِهم؛ إذ لا يَنفعُكم الانتسابُ إليهم وإلى أعمالهم الصالِحة، فخيرُهم لا ينفعُكم إنْ كسبتم شرًّا؛ فإنَّهم جماعة قد مضَتْ لسبيلها، وكلٌّ منكم له عملُه الذي يخصُّه، وتَبِعَتُهُ، من خيرٍ أو شر، ولا يَلحق الآخَر من ذلك شيءٌ، ولا السُّؤال عنه، فلا تُحاسَبون بأعمال سَلفِكم، وإنَّما تُحاسَبون بأعمالكم

.
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ أهلَ الباطل يَدْعون إلى ضلالِهم، ويدَّعون فيه الخير؛ لقوله تعالى حِكايةً عن بعضهم أنَّهم يقولون: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى وهذه دعوةٌ إلى ضلال، وقولهم: تَهْتَدُوا فيه ادِّعاء أنَّ ذلك خير.
فمَثلًا دعاة التبرُّج والسُّفور يقولون: اتركوا المرأةَ تتحرَّر، أعطوها الحُرية، اتركوها تبتهج في الحياة، لا تُقيِّدوها بالغطاءِ، وتركِ التبرُّج، ونحو ذلك، وكذا كلُّ داعٍ إلى ضلالةٍ يزيِّن هذه الضَّلالة بما يَغرُّ البليد
.
2- أنَّه ينبغي للمؤمن أن يَشعُرَ أنه وإخوانه كنفْسٍ واحدة؛ لقوله تعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فأتى بضمير الجمْع: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ... وَنَحْنُ... .
3- في قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ [البقرة: 137] ، إشارةٌ إلى التوكُّل على الله عزَّ وجلَّ في الدَّعوة إليه، وفي سائرِ الأمور؛ لأنَّه إذا كان وحده سبحانه وتعالى هو الكافي، فيجب أن يكونَ التوكُّلُ والاعتمادُ عليه وحده؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَوكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] ، أي: كافيه .
4- عِظَم ذَنب كتْمِ العِلم؛ لقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ؛ فإنَّ العالِم بشريعة الله عنده شهادةٌ من الله بهذه الشَّريعة، كما قال الله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران: 18] ؛ فكلُّ إنسان يكتُم علمًا، فقد كتَم شهادةً عنده من الله

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ اليهوديَّة والنصرانيَّة المحرَّفتَينِ نوعٌ من الشِّرك؛ لأنَّ مجيءَ قولِه تعالى: وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ في مقابل دَعوتهم إلى اليهوديَّة والنصرانيَّة، يدلُّ على أنَّهما نوعٌ من الشرك
.
2- الإشارة إلى البَداءة بالأهمِّ وإن كان متأخِّرًا؛ لقوله تعالى: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ مع أنَّ ما أُنزل إلينا متأخِّرٌ عمَّا سبق .
3- أنَّه لا حُجَّةَ لِمَن تولَّى عن شريعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلَّا الشِّقاق، والمجادلة بالباطل؛ لقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ .
4- وقوع الشِّقاق بين أهل الكِتاب والمسلمين؛ وعليه فلا يمكن أن يتَّفق المسلمون وأهلُ الكتاب؛ فتبطُل دعوة أهلِ الضَّلال الذين يَدْعون إلى توحيدِ الأديان؛ لقوله تعالى: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ .
5- وجوبُ البَراءة من أعمال الكفَّار؛ لقوله تعالى: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ .
6- ثبوت الصِّفات المنفيَّة؛ وهي ما نفاه اللهُ سبحانه وتعالى عن نفْسِه؛ لقولِه تعالى: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ فإنَّ هذه صفةٌ منفيَّة، وليست ثبوتيَّة، والصِّفات المنفيَّة متضمِّنة لإثبات كمال ضدِّها؛ فلكمالِ مُراقبتِه، وعِلمه سبحانه وتعالى، فليس بغافلٍ عمَّا نعمل .
7- الردُّ على الجَبريَّة الذين يزعُمون بأنَّ الإنسان مُجبَرٌ على عَمَله؛ حيث أضاف سبحانه العملَ إلى العامِل في قوله تعالى: عَمَّا تَعْمَلُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا
فيه التِفاتٌ من الخطاب في قوله: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ إلى الغَيبة في هذه الآية: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا...؛ فائدته إبعادهم من مقام المخاطبةِ إعراضًا عنهم، وتعديدُ جناياتهم عند غيرهم
.
و(أو) ليستْ للتخيير؛ فكل فريق يدعو إلى دِينه، ويزعم أنه الهدى؛ فهي تقسيم بعد الجمع؛ لأنَّ السامع يردُّ كلًّا إلى مَن قاله، وموزَّعة عليهما على وجه خاصٍّ يَقتضيه حالُهما اقتضاءً مُغنيًا عن التصريح؛ ففيه لَفٌّ ونَشْر، مثل ما في قوله: وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجنةَ إلَّا من كان هُودًا أَوْ نصارى؛ اعتمادًا على ظهور المرام .
2- قوله: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيه تعريضٌ بأهل الكتاب، وإيذانٌ ببُطلان دعواهم اتباعَه عليه السلام، مع إشراكهم بقولهم: عُزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وهو احتراس؛ لئلَّا يغترَّ المشركون الذين يزعُمون أنَّهم على ملَّة إبراهيم عليه السلام .
3- في قوله: قُلْ آمَنَّا وقوله: قُولُوا آمَنَّا مناسبة حسنة، حيث أفرد الضَّمير في الكلام الذي للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لمزيدِ الاختصاص بمباشرة الردِّ على اليهود والنصارى؛ لأنَّه مبعوث لإرشادِهم وزجرهم، وجمَع الضمير في الكلام الذي للأمَّة؛ لمزيدِ الاختصاص بمضمون المأمور به في سِياق التعليم .
4- قوله: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ فيه تنزيل المفرد فيها منزلةَ الجمْع في تناوله الآحاد مطابقةً؛ لأنَّ لفظ أَحَدٍ في معنى الجَماعة؛ ولذلك صحَّ دخول بَيْنَ عليه، ولأنَّ النكرة الواقعة في سِياق النفي تُفيد العموم لفظًا. ولأنَّ أَحَدٍ اسم موضوع لمن يصلُح أن يُخاطب ويستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث- إذا كانت همزته أصليَّة، وعلى أنَّها مُبدَلة من الواو فهو بمعنى (واحد)، وعمومُه لوقوعه في حيِّز النفي .
5- قوله: فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ
فيه تأكيد الجملة الواقعة شرطًا بـ(إنَّ)، وتأكُّد معنى الخبَر بحيث صار ظرفًا لهم، وهم مظروفون له؛ كأنَّ الشقاق مستولٍ عليهم من جميع جوانبهم، ومحيطٌ بهم إحاطةَ البيت بمَن فيه .
وقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ عطف الجملة بالفاء مشعِرٌ بتعقُّب الكفاية عقيبَ شقاقهم، والمجيء بالسِّين يدلُّ على قُرب وقوع الكفاية؛ لأنَّها أقرب في التنفيس من (سوف) .
6- في قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً
الاستفهام هنا معناه النَّفي والإنكار، أي: ولا أحدَ أحسن من الله صبغةً .
وأَحْسَنُ هنا لا يُراد بها حقيقة التفضيل؛ إذ صِبغة غير الله منتفٍ عنها الحسن، أو يُراد بها التفضيل، باعتبار مَن يظن أنَّ في صِبغةِ غير الله حسنًا، وأنَّ التفضيل إنَّما يَجري بين الصِّبغتين، لا بين الصَّابغين .
7- قوله: وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ
فيه تقديم الجار والمجرور لَهُ على عامله عابِدون؛ للاهتمام، ورعايةِ الفواصل .
وفيه: إفادة قصر إضافي، وتعريض بالنَّصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية، وعبدوا المسيح .
على تقدير الجملة اسميَّة؛ ففيه: إشْعارٌ بدَوام العبادةِ. وإذا قدِّرت الجملة فعليَّةً بتقدير فِعل الإغراء (الزموا) بتقدير القول، أي: (الزمَوا صِبغة الله، وقولوا: نحن له عابدون)؛ فقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً حينئذٍ يَجري مَجرَى التَّعليل للإغراء .
8- قوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
فيه: تقديم الجار المجرور (لنا) و(لكم)؛ للاختصاص، أي: لنا أعمالنا لا أعمالكم .
وعطف وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ فيه: احتراس؛ لدفع توهُّم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم، مثل عطْف قوله تعالى: وَلِيَ دِينِ على قوله: لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون: 6] .
والتعبير بالجملة الاسميَّة ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ فيه: دَلالة على الدَّوام على الإخلاص، مع ما في تقديم الظرف (له) من الاختصاص وتقوية المعنى وتأكيده، ومراعاة فواصل الآيات .
9- في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ جاء الاستفهام للنفي والإنكار، والمعنى: لا أحدَ أظلمُ ممَّن كتَم... .
وفيه كنايةٌ عن عدَم اغترار المسلمين بقول اليهود والنصارى: إنَّ إبراهيم وأبناءه كانوا هودًا أو نصارى، وليس هذا احتجاجًا عليهم .
10- قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ خبرٌ تضمَّن معنى التخويف والتهديد؛ لأنَّ القادر إذا لم يكن غافلًا، لم يكُن له مانع من العَمل بمقتضى عِلمه .
11- قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
فيه: حُسن الختام، مع حُسن التَّقْسيم والاتِّساق .
وفيه: تَكرار هذه الجُملة، والتكرار إمَّا لاختِلاف السِّياق؛ لأنَّ ذلك ورد إثْرَ شيءٍ مخالِف لِمَا وردتِ الجُمل الأولى بإِثْرِه، فالتَّكرار حَسَنٌ؛ لاختلاف الأقوال والسِّياق، وإمَّا أن يكون التَّكرار للمبالغة في الزَّجر عمَّا هُم عليه من الافتخار بالآباء والاتِّكال على أعمالهم ، أو يكون تكريرًا لنظيره الذي تقدَّم آنفًا؛ لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السَّامعين؛ اهتمامًا بما تضمَّنه؛ لكونه معنًى لم يَسبقْ سماعُه للمخاطبين؛ فلم يُقتنَع فيه بمرَّةٍ واحدة .


====================================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...