حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

السبت، 5 نوفمبر 2022

من{ج111 الي ج121.}من حصر صلاح الدين الأيوبي الموصل محاولا فتحها العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182.


111. حصر صلاح الدين الأيوبي الموصل محاولا فتحها العام الهجري : 578 العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
لَمَّا ملك صلاح الدين نصيبين، سار إلى الموصل، وكان عزُّ الدين بن مسعود بن مودود صاحِبُها ومجاهد الدين قايماز قد جمعا العساكرَ الكثيرةَ ما بين فارسٍ وراجل، وأظهرا من السلاحِ وآلات الحصار ما حارت له الأبصارُ، وبذلا الأموالَ الكثيرة، وسار صلاحُ الدين حتى قارب الموصل، فرأى ما هاله وملأ صدرَه وصدور أصحابِه، فإنه رأى بلدًا عظيمًا كبيرًا، ولَمَّا رأى السور والفصيلَ، عَلِمَ أنَّه لا يقدر على أخْذِه، وأنَّه يعود خائبًا، ثم رجع إلى مُعسكَرِه وصَبَّحَ البلد، وكان نزولُه عليه في رجب، فنازله وضايقَه، ونزل محاذيَ باب كندة، وأنزل صاحِب الحصن بباب الجسر، وأنزل أخاه تاجَ الملوك عند الباب العمادي، وانشبَّ القتال، فلم يظفر، فنصَبَ منجنيقًا، فنصب عليه من البلدِ تسعة مجانيق، ثمَّ إن صلاح الدين رحل من قرب البلد، ونزل متأخِّرًا؛ خوفًا من البَياتِ، فإنه لقُربِه كان لا يأمنُ ذلك، ثم تردَّدت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصُّلحِ، فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينالُ مِن الموصل غرضًا، ولا يحصُلُ على غير العناءِ والتعب، وأنَّ مَن بسنجار من العساكر الموصليَّة يقطعونَ طريقَ مَن يَقصِدونه من عساكِرِه وأصحابه، سار من الموصِلِ إلى سنجار.
انتصار المسلمين على الفرنج واستعادة الشقيف منهم .
العام الهجري : 578 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
فتح المسلمون بالشام شقيفًا من الفرنج، وهو من أعمال طبرية، مُطِل على السواد، وسببُ فَتحِه أنَّ الفرنج لما سمعوا بمسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له، وحشدوا الفارس والراجل، واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق؛ لعَلَّهم ينتهزون فرصة، أو يظفرون بنُصرة، وربما عاقوا المسلمينَ عن المسير بأن يَقِفوا على بعض المضايق، فلمَّا فعلوا ذلك خَلَت بلادهم من ناحية الشام، فسَمِعَ عز الدين فرخشاه بن أخي صلاح الدين الخَبَر، فجمع مَن عنده من عساكِرِ الشام، ثمَّ قصد بلاد الفرنج وأغار عليها، ونهب دبورية وما يجاورها من القرى، وأسَرَ الرجال وقَتَل فيهم وأكثَرَ وسَبى النِّساء، وغَنِمَ الأموال وفتَحَ منهم الشقيف، وكان على المسلمينَ منه أذًى شديد، ففَرِحَ المسلمون بفتحه فرحًا عظيمًا، وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة، فلقيه في الطريق، ففَتَّ ذلك في عضد الفرنج، وانكَسَرت شوكتُهم.
انتصار المسلمين على الفرنجة نواحي طبرية وبيسان .
العام الهجري : 578 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
لَمَّا وصَلَ صَلاحُ الدين إلى دمشقَ مِن مصر أقام بها أيامًا يريحُ ويَستريح هو وجندُه، ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول، فقصد طبريَّةَ، فنزل بالقرب منها، وخيَّمَ في الأقحوانة من الأردن، وجاءت الفرنجُ بجموعِها فنزلت في طبريَّة، فسيَّرَ صلاح الدين فرخشاه إلى بيسان، فدخَلَها قهرًا، وغَنِمَ ما فيها، وقتل وسبى، وجحف الغورَ غارةً شعواءَ، فعَمَّ أهلَه قتلًا وأسرًا، وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية، حتى قاربوا مرج عكا، وسار الفرنجُ مِن طبرية، فنزلوا تحت جبل كوكب، فتقدم صلاحُ الدين إليهم، وأرسل العساكرَ عليهم يرمونهم بالنشاب، فلم يَبرَحوا، ولم يتحَرَّكوا للقتال، فأمَرَ ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، فحملا على الفرنجِ فيمن معهما، فقاتلوا قتالًا شديدًا، ثم إنَّ الفرنج انحازوا على حاميتهم، فنزلوا غفربلا، فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخَنَ فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق.
وفاة أحمد الرفاعي صاحب الطريقة الصوفية .
العام الهجري : 578 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
هو أبو العبَّاس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بالرفاعي، شيخُ الطائفةِ الأحمديَّة الرفاعية البطائحية الصوفيَّة المشهورة، كان أصلُه من العرب فسكن في البطائِحِ بقرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلقٌ عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقادَ فيه وتَبِعوه, حتى عُرِفوا بالطائفة الرفاعيَّة والبطائحية ويقال: إنَّه حَفِظَ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعيِّ، قال الذهبي في العِبَر: وقد كَثُرَ الزغل في بعض أصحابه وتجدَّدَت لهم أحوال شيطانيَّة... وهذا ما لم يَعرِفْه الشيخُ ولا صُلَحاءُ أصحابِه، وذكر ابن خَلِّكان: "أنَّه قال: وليس للشيخ أحمد عَقِبٌ، وإنما النسل لأخيه وذريَّته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد". مَرِضَ في آخر حياته حتى توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى. والطريقة الرفاعية من الطرُقِ الصوفيَّة المنتشرة في كثيرٍ مِن البلاد، وقد غَلَوا في الرفاعيِّ حتى استغاثوا به من دونِ الله، وزعموا أنَّ لهم أحوالًا وكرامات،كالدخول في النيران، والركوب على السِّباع، واللعب بالحيات، وما إلى ذلك مما يُدَجِّلونَ به على العوامِّ مِمَّا لم يُنزِلْ به الله سلطانًا.
ظفر صلاح الدين بسفينة كبيرة للفرنج في دمياط .
العام الهجري : 578 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
أثناء حصارِ صلاح الدين الأيوبي الفرنجَ في بيروت أتاه الخبَرُ وهو عليها، أن البحر بمصرَ قد ألقى بطسة- السفينة الكبيرة- للفرنجِ فيها جمعٌ عظيم منهم إلى دمياط، وكانوا قد خرجوا لزيارة بيت المقدس، فأَسَر المسلمون من بها وغَرِقَ منهم الكثير, وكان عِدَّةُ الأسرى ألفًا وستمائة وستة وسبعين أسيرًا، فضُرِبَت بذلك البشائرُ.
حصر صلاح الدين الأيوبي الفرنج في بيروت .
العام الهجري : 578 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1182
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين عن دمشق إلى بيروت، فنَهَب بلدها، وكان قد أمَرَ الأسطول المصري بالمجيءِ في البحر إليها، فساروا ونازَلوها، وأغاروا عليها وعلى بلدها، وسار صلاحُ الدين فوافاهم ونَهَب ما لم يصِل الأسطولُ إليه، وحصرها عدَّةَ أيام. وكان عازمًا على ملازمتِها إلى أن يفتَحَها.
انتصار المسلمين على الفرنج في الشام .
العام الهجري : 579 العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
سارت عصابةٌ كبيرة من الفرنج من نواحي الدارم إلى نواحي مصر ليُغيروا وينهبوا، فسَمِعَ بهم المسلمون، فخرجوا إليهم على طريقِ صدر وأيلة، فانتزح الفرنجُ من بين أيديهم فنزلوا بماءٍ يقال له العسيلة، وسبقوا المُسلمين إليه، فأتاهم المسلمون وهم عِطاشٌ قد أشرَفوا على الهلاك، فرأوا الفرنجَ قد ملكوا الماء، فأنشأ اللهُ سبحانه وتعالى بلُطفِه سحابةً عظيمةً فمُطِروا منها حتى رَوُوا، وكان الزَّمانُ قَيظًا، والحَرُّ شديدًا في بَرٍّ مُهلِك، فلما رأوا ذلك قَوِيَت نفوسهم، ووَثَقوا بنصر الله لهم، وقاتَلوا الفرنج، فنصرهم الله عليهم فقتلوهم، ولم يسلَمْ منهم إلَّا الشريدُ الفريدُ، وغَنِمَ المسلمون ما معهم من سلاح ودوابَّ، وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله.
ضم صلاح الدين الأيوبي قلعة حارم وإقرار أوضاع بقية قلاع حلب .
العام الهجري : 579 العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
لَمَّا ملك صلاحُ الدين حلَب كان بقلعةِ حارم- وهي من أعمالِ حلب- أحَدُ المماليك النوريَّة، واسمه سرحك، وولَّاه عليها الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فامتنع مِن تسليمها إلى صلاح الدين، فراسله صلاحُ الدين في التسليم، وقال له: اطلُبْ مِن الإقطاع ما أردت، ووعده الإحسانَ، فاشتَطَّ في الطلب، وتردَّدَت الرسلُ بينهما، فراسل الفرنجَ ليحتميَ بهم، فسَمِعَ مَن معه من الأجناد أنَّه يراسِلُ الفرنج، فخافوا أن يسَلِّمَها إليهم، فوَثَبوا عليه وقَبَضوه وحبسوه، وراسلوا صلاحَ الدين يَطلُبونَ منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسَلَّموا إليه الحصنَ، فرتب به دزدارًا: بعضَ خواصه، وأما باقي قلاعِ حلب، فإنَّ صلاح الدين أقرَّ عين تاب بيد صاحبها، وأقطع تَلَّ خالد لأميرٍ يقال له داروم الباروقي، وهو صاحِبُ تل باشر، وأمَّا قلعة إعزاز، فإنَّ عماد الدين إسماعيل كان قد خَربَها، فأقطعها صلاحُ الدين لأميرٍ يقال له دلدرم سلمان بن جندر، فعَمَرها. وأقام صلاحُ الدين بحلب إلى أن فرغ مِن تقرير قواعِدِها وأحوالِها ودِيوانِها، وأقطع أعمالَها، وأرسل منها فجمع العساكِرَ من جميع بلادِه.
ملك صلاح الدين الأيوبي آمد وتسليمها إلى صاحب الحصن .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
نزل صلاحُ الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم يَرَ لأخذها وجهًا، فسار عنها إلى آمد، على طريق البارعيَّة، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبُه في كل وقتٍ بقَصدِها وأخْذِها وتَسلِيمها إليه، على ما استقَرَّت القاعدةُ بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ونازلها، وأقام يحاصِرُها، وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيقَ، وزحف إليها، وهي الغايةُ في الحصانة والمَنَعة، بها وبسورِها يُضرَبُ المثل، وابن نيسان على حالِه من الشُّحِّ بالمال، وتصَرُّفِه تصرُّفَ مَن ولَّت سعادته وأدبَرَت دولته، فلما رأى الناسُ ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجَنَحوا إلى السلامة، وأمَرَ صلاح الدين أن يكتب على السِّهامِ إلى أهلِ البلد يَعِدُهم الخيرَ والإحسان إن أطاعوه، ويتهَدَّدُهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعدًا وتخاذلًا، وأحبُّوا مُلكَه وتركوا القتال، فوصل النقَّابون إلى السور، فنَقَبوه وعَلِقوه- حازوه- فلما رأى الجندُ وأهلُ البلد ذلك، طمعوا في ابن نيسان واشتَطُّوا في المَطالَبِ، فحين صارت الحالُ كذلك أخرج ابن نيسان نساءَه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسألُه أن يأخُذَ له الأمان ولأهلِه وماله، وأن يؤخِّرَه ثلاثةَ أيام حتى ينقُلَ ما له بالبلدِ مِن الأموال والذخائر، فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاحُ الدين إليه، فسَلَّمَ البلد في العشر الأُوَل من المحرم، فلما تسَلَّمَها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحِبِ الحصنِ.
ملك صلاح الدين الأيوبي تل خالد وعين تاب من أعمال الشام .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام، وقصَدَ تلَّ خالد، وهي من أعمالِ حلب، فحصرها ورماها بالمنجنيقِ، فنزل أهلُها وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد، وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازنَ نور الدين محمود بن زنكي وصاحبَه، وكان قد سلَّمَها إليه نور الدين، فبَقِيَت معه إلى الآن. فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلُبُ أن يُقِرَّ الحِصنَ بيده ويَنزِلَ إلى خدمته ويكون تحت حُكمِه وطاعته، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلَفَ له عليه، فنزل إليه، وسار في خدمتِه.
انتصار المسلمين على الفرنج في البحر .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
في العاشِرِ من المحرم، سار أسطولُ المسلمين مِن مِصرَ في البحر، فلقوا بُطسة- سفينة كبيرة- فيها نحو ثلاثمائة من الفرنج بالسلاح التام، ومعهم الأموالُ والسلاح متَّجهة إلى فرنج الساحل، فقاتلوهم، وصبَرَ الفريقان، وكان الظَّفَرُ للمسلمين، وأخذوا الفرنجَ أسرى، فقَتَلوا بعضهم وأبقَوا بعضَهم أسرى، وغَنِموا ما معهم وعادوا إلى مصرَ سالمين.
صلاح الدين الأيوبي يملك حلب .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
سار صَلاحُ الدين من عين تاب إلى حلب، فنزل عليها، في الميدان الأخضر، وأقام به عدَّة أيام، ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه، وأظهَرَ أنه يريد أن يبنيَ مساكِنَ له ولأصحابه وعساكِرِه، وأقام عليها أيامًا والقتالُ بين العسكرين كل َّيوم، وكان صاحِبُ حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، ومعه العسكرُ النوري، وهم مجِدُّون في القتال، فلما رأى كثرةَ الخرجِ، كأنَّه شَحَّ بالمال، فحضر يومًا عنده بعضُ أجناده، وطلبوا منه شيئًا، فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضُهم: من يريدُ أن يحفَظَ مثل حلَب يُخرِجُ الأموالَ، ولو باع حُلِيَّ نسائه، فمال حينئذٍ إلى تسليمِ حَلَب وأخْذِ العِوَض منها، وأرسل مع الأميرِ طمان الياروقي، وكان يميلُ إلى صلاح الدين وهواه معه، فلهذا أرسَلَه فقرر قاعدةَ الصُّلحِ على أن يُسَلِّمَ عماد الدين حَلَب إلى صلاح الدين ويأخذ عِوَضَها سنجار، ونصيبين، والخابور، والرقة وسروج، وأخَذَ عِوَضَها قرى ومزارع، فنزل عنها عشر صفر، وتسلَّمَها صلاح الدين.
صلاح الدين الأيوبي يغزو مدينة بيسان .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
لما فرغ صلاحُ الدين من أمرِ حَلَب جعل فيها ولده المَلِكَ الظاهِرَ غازي، وهو صبيٌّ، وجعَلَ معه الأميرَ سيف الدين يازكج، وكان أكبَرَ الأمراء الأسدية، وسار إلى دمشقَ، وتجهَّز للغزو، ومعه عساكِرُ الشام والجزيرة، وديار بكر، وسار إلى بلدِ الفرنج، فعبَرَ نهر الأردن تاسِعَ جمادى الآخرة، فرأى أهلَ تلك النواحي قد فارقوها خوفًا، فقصد بيسان فأحرقها وخَرَّبَها، وأغار على ما هناك، فاجتمَعَ الفرنج، وجاؤوا إلى قبالته، فحين رأوا كَثرةَ عساكِرِه لم يُقدِموا عليه، فأقام عليهم، وقد استندوا إلى جبلٍ هناك، وخندقوا عليهم، فأحاط بهم، وعساكِرُ الإسلام ترميهم بالسِّهامِ، وتُناوِشُهم القتال، فلم يخرُجوا وأقاموا كذلك خمسةَ أيام، وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر، لعَلَّ الفرنج يطمعون ويخرُجون، فيستدرجونَهم ليَبلُغوا منهم غرضًا، فلما رأى الفرنجُ ذلك لم يُطمِعوا أنفُسَهم في غيرِ السلامة، وأغار المسلمونَ على تلك الأعمال يمينًا وشمالًا، ووصَلوا إلى ما لم يكونوا يطمَعونَ في الوصول إليه والإقدامِ عليه، فلمَّا كَثُرَت الغنائمُ معهم رأوا العودَ إلى بلادِهم بما غَنِموا مع الظَّفَر أوَلى، فعادوا إلى بلادِهم على عزمِ الغَزوِ.
صلاح الدين الأيوبي يغزو مدينة الكرك .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1183
تفاصيل الحدث:
لَمَّا عاد صلاحُ الدينِ والمُسلِمونَ مِن غزوةِ بيسان تجَهَّزوا لغزو الكركِ، فسار إليه في العساكرِ، وكتبَ إلى أخيه العادِلِ أبي بكر بن أيوب، وهو نائبُه بمصر، يأمُرُه بالخروج بجميعِ العساكر إلى الكرك. فوصل صلاحُ الدين إلى الكرك، ووافاه أخوه العادِلُ في العَسكَرِ المصري، وكثُرَ جَمعُه، وتمكَّنَ مِن حصره، وصَعِد المسلمون إلى رَبضِه وملكه، وحصر الحِصنَ من الربض، وتحكَّم عليه في القتال، ونصب عليه سبعةَ مجانيق لا تزالُ ترمي بالحجارة ليلًا ونهارًا، وكان صلاحُ الدين يظُنُّ أن الفرنجَ لا يمكِّنونَه مِن حصر الكَركِ، وأنهم يبذُلونَ جُهدَهم في رَدِّه عنهم، فلم يستصحِبْ معه من آلاتِ الحصارِ ما يكفي لمثلِ ذلك الحِصنِ العظيمِ والمَعقِلِ المنيع، فرحَلَ عنه منتصف شعبان.
العادل بن أيوب يمتلك مدينة حلب .
العام الهجري : 579 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1184
تفاصيل الحدث:
كان العادِلُ بن أيوب قد أرسل إلى أخيه صلاحِ الدين يطلُبُ منه مدينةَ حَلَب وقلعَتَها بعد أن مَلَكَها، فأجابه إلى ذلك، وأمَرَه أن يخرج معه بأهلِه وماله فالتقى به في الكرك، ثم سيَّر صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين إلى مصرَ نائبًا عنه؛ ليتولى ما كان أخوه العادِلُ يتولاه، وبعد أن رحل صلاحُ الدين عن الكرك استصحب معه أخاه العادل إلى دمشق، وأعطاه مدينةَ حلب وقلعتها وأعمالها، ومدينة منبج وما يتعلَّقُ بها، وسيَّرَه إليها في شهر رمضان، وأحضَرَ ولده الظاهِرَ منها إلى دمشق.
جيش الموحدين يفك الحصار عن مدينة "شفترين" الأندلسية .
العام الهجري : 580 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1184
تفاصيل الحدث:
فكَّ جَيشُ الموحِّدينَ بقيادة "أبي يعقوبَ يوسف" الحصارَ عن مدينة "شفترين" الأندلسيَّة التي وقَعَت في قبضةِ النصارى، وذلك بعد أن فَشِل الموحِّدون في اقتحام أسوارِ المدينة.
غزو صلاح الدين الأيوبي الكرك .
العام الهجري : 580 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1184
تفاصيل الحدث:
سار صلاح الدين من دمشق يريدُ الغزوَ، وجمَعَ عساكِرَه، فأتَته من كل ناحية، وأتاه نورُ الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحِبُ الحصن. وكتب إلى مصرَ لِيُحضِرَ عَسكَرَها عنده على الكرك، فنازل الكركَ وحصره، وضَيَّقَ على من به، وأمَرَ بنصب المجانيق على ربضه، واشتَدَّ القتال، فملك المسلمون الربَضَ، وبقي الحصن، وهو الربضُ على سطحِ جَبَلٍ واحد، إلَّا أنَّ بينهما خندقًا عظيمًا فطَمُّوه بصعوبةٍ بالغة، وأرسَلَ مَن فيه من الفرنجِ إلى مَلِكِهم وفُرسانِهم يَستَمِدُّونَهم ويُعَرِّفونَهم عَجزَهم وضَعفَهم عن حِفظِ الحِصنِ، فاجتمعت الفرنجُ عن آخرها، وساروا إلى نجدتِهم عَجِلينَ، فلما بلغ الخبَرُ بمسيرهم إلى صلاح الدين رحَلَ عن الكرك إلى طُرُقِهم ليلقاهم ويُصافَّهم، ويعودَ بعد أن يهزِمَهم إلى الكرك، فقَرُبَ منهم وخَيَّم ونزل، ولم يمكِنْه الدنوُّ منهم لخشونةِ الأرض وصعوبةِ المَسلَك إليهم وضِيقِه، فأقام أيامًا ينتظِرُ خروجَهم من ذلك المكان ليتمَكَّنَ منهم، فلم يبرحوا منه خوفًا على نفوسِهم، فلما رأى ذلك رحل عنهم عدَّة فراسخ، وجعل بإزائِهم من يُعلِمُه بمسيرهم، فساروا ليلًا إلى الكَركِ، فلمَّا عَلِمَ صلاح الدين ذلك عَلِمَ أنَّه لا يتمكن حينئذٍ ولا يبلغُ غرَضَه، فسار إلى مدينةِ نابلس، ونهَبَ كُلَّ ما على طريقِه من البلاد، فلما وصَلَ إلى نابلس أحرَقَها وخَرَّبَها ونَهَبَها، وقَتَل فيها وأسَرَ وسَبى فأكثَرَ، وسار عنها إلى سبسطية، وبها جماعةُ أسرى من المسلمين، فاستنقَذَهم، ورحل إلى جينين فنهَبَها وخربها، وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريقِه وخَرَّبه، وبث السرايا في طريقِه يمينًا وشمالًا يَغنَمونَ ويُخَرِّبون، حتى وصل إلى دمشقَ.
وفاة قطب الدين الأرتقي صاحب ماردين وملك أولاده بعده .
العام الهجري : 580 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1184
تفاصيل الحدث:
هو قطبُ الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحِبُ ماردين، ومَلَك بعده ابنُه حسام الدين بولق أرسلان، وهو طفل، وقام بتربيته وتدبيرِ مملكته نظامُ الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحِبُ خلاط خالَ قطب الدين فحَكَم في دولته، وهو رتَّبَ البقشَ مع ولده، وكان البقشُ ديِّنًا خيرًا عادلًا حَسَن السيرة حليمًا، فأحسن تربيتَه وتزوَّجَ أمَّه. فلما كَبِرَ الولد لم يمكِنْه النظام من مملكتِه لخبطٍ وهَوجٍ فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوكٌ اسمه لؤلؤ قد تحكَّمَ في دولته وحَكَم فيها، فكان يحمِلُ النظام على ما يفعَلُه مع الولَدِ, ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن مات الولَدُ وله أخ أصغر منه لقَّبَه قطب الدين، فرَتَّبَه النظام في المُلكِ وليس له منه إلا الاسمُ، والحكمُ إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمَرِضَ النظام البقش فأتاه قطبُ الدين يعوده، فلما خرج مِن عنده خرج معه لؤلؤ وضرَبَه قطبُ الدين بسكينٍ معه فقتله، ثم دخل إلى النظامِ وبِيَدِه السكينُ فقتله أيضًا، وخرج وحده ومعه غلامٌ له وألقى الرأسينِ إلى الأجناد، وكانوا كلُّهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعةِ، فلما تمكَّنَ أخرج من أراد وتَرَك من أراد، واستولى على قلعةِ ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور، وهو إلى الآن حاكِمٌ فيها حازِمٌ في أفعالِه.
مصرع يوسف بن عبد المؤمن حاكم الموحدين بالأندلس .
العام الهجري : 580 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1184
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ الكبير، أبو يعقوبَ يوسفُ بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب, تمَلَّك بعد أخيه المخلوع محمد بن علي؛ لطَيشِه، وشُربِه الخمر، فخُلِعَ بعد شهر ونصف، وبُويع أبو يعقوب، وكان شابًّا مليحًا، أبيض بحُمرة، مستديرَ الوجه، أفوَهَ، أعيَنَ، تامَّ القامة، حُلوَ الكلام، فصيحًا، حُلوَ المفاكهةِ، عارفا باللغة والأخبار والفِقه، متفنِّنًا، عاليَ الهمة، سخيًّا، جوادًا، مَهيبًا شجاعًا، خليقًا للمُلك. قال عبد الواحد بن علي التميمي: "صحَّ عندي أنَّه كان يحفَظُ أحد (الصحيحين)، أظنُّه البخاري", وكان فقيهًا، يتكلم في المذاهب، ويقول: قولُ فلان صواب، ودليلُه من الكتاب والسنة كذا وكذا. نظر في الطبِّ والفلسفة، وجمع كُتُب الفلاسفة، وتطَلَّبَها من الأقطار، وكان يصحَبُه أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف، فكان لا يصبِرُ عنه. قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي: "لما دخلتُ على أبي يعقوب وجدتُه هو وابن طفيل فقط, فأخذ ابنُ طفيل يطريني، فكان أوَّلَ ما فاتحني أن قال: ما رأيُهم في السماء؟ أقديمةٌ أم حادثة؟ فخِفتُ، وتعَلَّلتُ، وأنكرتُ الفلسفة، ففَهِمَ، فالتفَتُّ إلى ابنِ طفيل، وذكرَ قول أرسطو فيها، وأورد حُجَجَ أهل الإسلام، فرأيتُ منه غزارة حِفظٍ لم أكن أظنُّها في عالِم، ولم يَزَلْ يبسطني، حتى تكَلَّمتُ، ثم أمر لي بخِلعةٍ ومال ومركوب". قال عبد الواحد: "لما تجهَّز أبو يعقوب لغزوِ الروم، أمَرَ العلماء أن يجمعوا أحاديثَ في الجهاد تُملى على الجند، وكان هو يُملي بنفسه، وكبارُ الموحدين يكتبونَ في ألواحهم". وكان يَسهُلُ عليه بذل الأموال لسَعةِ الخراج، فقد كان يأتيه من إفريقيَّةَ في العام مائة وخمسون وقرَ بغل, كان سديد الملوكيَّة، بعيدَ الهمَّة، جوادًا، استغنى الناسُ في أيامه. وزر له أخوه عمر أيامًا، ثم رفَعَ منزلته عن الوزارة، وولى إدريسَ بنَ جامع، إلى أن استأصله، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تولى السلطة بعده، وكان له مِن الولد ستة عشر ابنًا. قال ابن خلكان: "كان يوسفُ فقيهًا حافظًا متقنًا؛ لأن أباه هَذَّبه وقرن به وبإخوتِه أكمَلَ رجال الحرب والمعارف، فنشؤوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسانِ، وفي قراءةِ العلم بين أفاضِلِ العلماء, وكان ميلُه إلى الحكمة والفلسفة أكثَرَ مِن ميله إلى الأدب وبقيَّة العلوم، وكان جمَّاعًا منَّاعًا ضابطًا لخراجِ مملكته عارفًا بسياسة رعيته، وكان ربما يحضُرُ حتى لا يكادُ يغيبُ، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نُوَّاب وخلفاء وحكام قد فوَّضَ الأمور إليهم؛ لِمَا علم من صلاحِهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبةٌ إليه. فلما مُهِّدَت له الأمورُ واستقَرَّت قواعِدُ مُلكِه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالحِ دولته وتَفقُّد أحوالها. ثم استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج". دخل الأندلسَ في سنة سبع وستين للجهاد، وهو يضمِرُ الاستيلاء على باقي الجزيرة، فجهَّزَ الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش صاحِبِ مرسية، فالتقوا بقرب مرسية، فانكسر محمَّد، ثم ضايقه الموحِّدون بمرسية مدة، فمات، وأخذ أبو يعقوب بلاده، ثم سار فنازل مدينةَ وبذى، فحاصر فيها الفرنجَ أشهُرًا، وكادوا أن يسلِّموها من العَطَشِ، ثم استُسقُوا فسُقُوا، وامتلأت صهاريجُهم، فرحل بعد أن هادَنَهم، وأقام بإشبيليَّةَ سنتين ونصفًا، ودانت له الأندلس، ثم رجع إلى السوس، وفي سنة خمس وسبعين سار حتى أتى مدينةَ قفصة، فحاصرها، وقبضَ على ابن الرند. وهادَنَ صاحب صقلية، على أن يحمِلَ كُلَّ سنة ضريبة على الفرنج، وفي سنة تسع وسبعين استنفَرَ أهلَ السهل والجبل والعرب، فعَبَرَ إلى الأندلس، وقصد شنترين بيد ابن الريقِ فحاصر فيها الفرنجَ مُدَّةً، وجاء البرد، فقال: غدًا نترحل. فكان أوَّلَ من قَوَّض مخيمَه عليُّ بن القاضي الخطيب، فلما رآه الناسُ، قوَّضوا أخبيتهم، فكَثُر ذلك، وعَبَرَ ليلتئذ العسكر النهر، وتقدموا خوف الازدحام، ولم يَدْرِ بذلك أبو يعقوب، وعَرَفَت الروم، فانتهزوا الفرصةَ، وبرزوا، فحَمَلوا على الناس، فكشفوهم، ووصلوا إلى مخيَّم السلطان، فقُتِلَ على بابه خلقٌ من الأبطال، وخُلِصَ إلى السلطان، فطُعِنَ تحت سُرَّتِه طعنةً مات بعد أيام منها، وتدارك الناسُ، فهزموا الرومَ إلى البلد، وهرب الخطيبُ، ودخل إلى صاحِبِ شنترين، فأكرمه، واحترمه، ثم أخذ يكاتِبُ المسلمين، ويدلُّ على عورة العدو، فأحرقوه. ولما طُعِنَ أبو يعقوب ساروا به ليلتين، ثم توفِّي، فصُلِّيَ عليه، وصُيِّرَ في تابوت، ثم بعث إلى تينمل، فدُفِنَ مع أبيه، وابن تومرت. مات في سابع رجب، وكانت مدَّة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا، ومات عن غيرِ وصية بالمُلك لأحد من أولاده، فاتَّفَق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليكِ ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فمَلَّكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه؛ لئلا يكونوا بغيرِ مُلكٍ يَجمَعُ كَلِمتَهم لقُربِهم من العدُوِّ.
ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن .
العام الهجري : 580 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1184
تفاصيل الحدث:
خرج عليُّ بنُ إسحاق المعروفُ بابن غانية، وهو من أعيان الملثَّمين- المرابطين- الذين كانوا ملوك المغرب، وهو حينئذٍ صاحبُ جزيرة ميورقة، إلى بجاية فمَلَكَها، وسبب ذلك أنه لَمَّا سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عَمرَ أسطولَه، فكان عشرين قطعةً وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية، وخرجت خيلُه ورجالُه من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثَّمين وأربعة آلاف راجل، فدخل مدينةَ بجاية بغير قتالٍ؛ لأنه اتفق أنَّ واليَها سار عنها قبل ذلك بأيامٍ إلى مراكش ولم يترُكْ فيها جيشًا ولا ممانِعًا؛ لعدم عدو يحفَظُها منه، فجاء الملثَّم ولم يكن في حسابِهم أنه يُحَدِّثُ نفسَه بذلك، فأرسى بها ووافقه جماعةٌ من بقايا الدولة بني حماد وصاروا معه فكَثُرَ جَمعُه بهم وقَوِيَت نفسه، فسَمِعَ خبره والي بجاية فعاد من طريقِه ومعه من الموحِّدين ثلاثمائة فارس، فجمع من العربِ والقبائل الذين في تلك الجهاتِ نحو ألف فارس، فسَمِعَ بهم الملثم وبقربهم منه، فخرج إليهم وقد صار معه قَدرُ ألف فارس، وتواقفوا ساعة فانضاف جميعُ الجموع التي كانت مع والي بجايةَ إلى الملثم، فانهزم حينئذٍ والي بجاية ومَن معه من الموحِّدين وساروا إلى مراكش، وعاد الملثَّم إلى بجاية فجمع جيشَه وخرج إلى أعمالِ بجايةَ فأطاعه جميعُهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيشٌ من الموحدين من مراكِشَ في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر، وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحاق الملثم، فخرجا منها هاربَينِ ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقيَّةَ.
========
112.
الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل .
العام الهجري : 581 العام الميلادي : 1185
تفاصيل الحدث:
ابتدأت الفتنةُ بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصِل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقُتِلَ فيها من الخلقِ ما لا يحصى، ودامت عدةَ سِنينَ، وتقَطَّعَت الطرق، ونُهِبَت الأموال، وأُريقَت الدماء، وكان سَبَبُها أنَّ امرأة من التركمان تزوَّجَت بإنسانٍ تركماني، واجتازوا في طريقِهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلُها وطلبوا من التركمان وليمةَ العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلامٌ صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحِبُ تلك القلعة فأخذ الزوجَ فقَتَلَه، فهاجت الفِتنةُ، وقام التركمانُ على ساق، وقتلوا جمعًا كثيرًا من الأكرادِ، وثار الأكرادُ فقَتَلوا من التركمان أيضًا كذلك، وتفاقم الشرُّ ودام، ثم إن مجاهِدَ الدين قايماز، جمَعَ عنده جمعًا من رؤساءِ الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخِلَع والثيابَ وغيرها، وأخرج عليهم مالًا جمًّا، فانقطعت الفتنةُ، وكفى اللهُ شَرَّها، وعاد الناسُ إلى ما كانوا عليه من الطُّمأنينةِ والأمانِ.
انتزاع الملثمين والعرب إفريقية من الموحدين والخطبة للخليفة العباسي .
العام الهجري : 581 العام الميلادي : 1185
تفاصيل الحدث:
بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
وفاة الإمام عبد الحق الإشبيلي .
العام الهجري : 581 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1185
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ الحافِظُ، البارعُ المجَوِّد العلَّامة، الفقيهُ المحَدِّث: أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأندلسي الإشبيلي، المعروف بابن الخراط. ولد سنة 514 سكن بمدينة بجاية، ونشر بها عِلمَه، وصَنَّف التصانيف وقت الفتنة التي زالت فيها دولةُ المرابطين على يد الموحِّدين، وهو من علماء الأندلس. اشتهرَ بالتأليف في العلم وخاصَّةً في الحديثِ، له كتاب الجَمعُ بين الصحيحين، والجامعُ الكبير وله كتاب غريب القرآن والحديث، وله كتُب في اللغة والأدب مثل الواعي. اشتُهر اسمه، وسارت بـ (أحكامه الصغرى)، و (الوسطى) الركبان, وله (أحكام كبرى) في الحديث، قيل: هي بأسانيده, ووليَ خطابةَ بجاية. قال الذهبي: "ذكره الحافِظُ أبو عبد الله البلنسي الأبار، فقال: كان فقيهًا، حافظًا، عالِمًا بالحديثِ وعِلَلِه، عارفًا بالرِّجالِ، موصوفًا بالخيرِ والصَّلاحِ، والزُّهد والورع، ولزومِ السُّنَّة، والتقلل من الدنيا، مشاركًا في الأدب وقَولِ الشعر، قد صنَّف في الأحكام نسختين كبرى وصغرى. قلتُ: وعمل (الجمع بين الصحيحين) بلا إسنادٍ على ترتيب مسلم، وأتقنه وجَوَّده. قال الأبار: وله مصنَّفٌ كبير جمع فيه بين الكُتُب الستة، وله كتاب (المعتل من الحديث)، وكتاب (الرقاق)، ومصنَّفات أخر. قلت: وله كتاب (العاقبة) في الوعظ والزهد. وقال الأبار: وله في اللغة كتابٌ حافل ضاهى به كتاب (الغريبين) لأبي عبيد الهروي، حدثنا عنه جماعة من شيوخنا". توفي ببجاية، بعد محنة نالته من قِبَل دولة الموحدين، في شهر ربيع الآخر عن 71 عامًا.
ملك صلاح الدين الأيوبي ميافارقين .
العام الهجري : 581 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1185
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين إلى خلاط وجعَلَ طريقَه على ميافارقين مَطمَع ملكها، حيث كان صاحِبُه قطب الدين، صاحِبُ ماردين، قد توفِّي ومَلَك بعده ابنُه، وهو طفل، وكان حُكمُها إلى شاه أرمن، وعسكَره فيها، فلمَّا توفِّيَ طَمِعَ في أخْذِها، فلمَّا نازلها رآها مشحونةً بالرجال، وبها زوجةُ قطب الدين المتوفى، ومعها بناتٌ لها منه، وهي أختُ نور الدين محمد، صاحِبِ الحصن، فأقام صلاحُ الدين عليها يحصُرُها من أول جمادى الأولى، واشتد القتالُ عليه ونُصِبَت المجانيق والعرادات، فلم يصِلْ صلاح الدين إلى ما يريد منها، فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحَربِ إلى إعمال الحيلة، فراسل امرأةَ قطب الدين المقيمة بالبلدِ يقول لها: إنَّ أسدَ الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليمِ البلد ونحن نرعى حقَّ أخيك نور الدين فيك بعد وفاتِه، ونريد أن يكونَ لك في هذا الأمرِ نَصيبٌ، وأنا أزوِّجُ بناتِك بأولادي وتكونُ ميافارقين وغيرها لك وبحُكمِك؛ ووضَعَ مَن أرسل إلى أسد يُعَرِّفُه أن الخاتون قد مالت للمُقاربة والانقياد إلى السلطان، وأنَّ مَن بخلاط قد كاتبوه ليُسَلِّموا إليه، فخُذْ لِنَفسِك، واتَّفَق أنَّ رسولًا وصَلَه مِن خلاط، يبذلون له الطاعةَ، وقالوا له من الاستدعاءِ إليهم ما كانوا يقولونَه، فأمر صلاح الدين الرسولَ، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسدٍ: أنت عمَّن تقاتِلُ، وأنا قد جئتُ في تسليم خلاط إلى صلاحِ الدين، فسُقِطَ في يَدِه، وضَعُفَت نفسه، وأرسل يقتَرِحُ أقطاعًا ومالًا، فأُجيبَ إلى ذلك، وسَلَّمَ البلد آخر جمادى الأولى، وعَقَدَ النكاح لبعضِ أولاده على بعضِ بنات الخاتون، وأقَرَّ بيدها قلعةَ الهتاخ لتكونَ فيها هي وبناتُها.
وفاة الحافظ أبي موسى المديني الأصبهاني .
العام الهجري : 581 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1185
تفاصيل الحدث:
هو الإمام العلَّامة، الحافظُ الكبيرُ الثِّقة، شيخُ المحَدِّثين، أبو موسى محمد بن المقرئ أبي بكر عمر بن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن أبي عيسى المديني، الأصبهاني، الشافعي، صاحِبُ التصانيف، أحد حفَّاظ الدنيا الرَّحَّالين الجوَّالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، كان من علماء الحديث المشهورين، ولد في ذي القعدة سنة 501, ومولد أبيه المقرئ أبي بكر سنة 465. حرص عليه أبوه، وسَمَّعه حضورًا، ثم سماعًا كثيرًا من أصحاب أبي نعيم الحافظ، وطبقتهم. وعمل موسى لنفسه (معجمًا)، روى فيه عن أكثَرَ من ثلاثمائة شيخ. قال ابن الدبيثي: "عاش أبو موسى حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه إسنادًا وحفظًا" وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: "حصل أبو موسى من المسموعاتِ بأصبهان ما لم يحصُلْ لأحدٍ في زمانه، وانضَمَّ إلى ذلك الحِفظ والإتقان، وله التصانيف التي أربى فيها على المتقدمين، مع الثقة والعفة، كان له شيءٌ يسير يتربَّحُ به ويُنفِقُ منه، ولا يَقبَلُ مِن أحد شيئًا قَطُّ، أوصى إليه غيرُ واحد بمال، فيَرُدُّه، فكان يقال له: فَرِّقْه على من ترى، فيمتَنِعُ، وكان فيه من التواضُعِ بحيث أنه يقرئ الصغير والكبير، ويرشِدُ المبتدئ، رأيته يُحَفِّظُ الصبيان القرآنَ في الألواح، وكان يمنَعُ من يمشي معه، فعلتُ ذلك مرة، فزجَرَني، وتردَّدتُ إليه نحوًا من سنة ونصف، فما رأيتُ منه ولا سمعتُ عنه سقطةً تعاب عليه." قال الذهبي: " سمعتُ شيخنا العلامة أبا العباس بن عبد الحليم بن تيمية يُثني على حفظ أبي موسى، ويُقَدِّمُه على الحافظ ابن عساكر، باعتبار تصانيفِه ونَفْعِها".
ملك صلاح الدين الأيوبي الموصل .
العام الهجري : 581 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1185
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فَرَغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعِدَها، وقرَّرَ أقطاعها وولاياتها، أجمعَ على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقَه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمانُ شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقامِ بها وإقطاع جميع بلادِ الموصل، وأخذ غِلالَها ودَخْلَها، وإضعاف الموصل بذلك؛ إذ عَلِمَ أنه لا يمكنه التغلبُ عليها، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسُلُ بينه وبين عز الدين مسعود، صاحِبِ الموصل، وصار مجاهدُ الدين قايماز يراسِلُ ويتقرب، وكان قولُه مقبولًا عند سائر الملوك؛ لما علموا من صِحَّتِه، فبينما الرسلُ تتردد في الصلح، إذ مَرِضَ صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائدًا إلى حران، فلَحِقَه الرسل بالإجابة إلى ما طَلَب، فتقَرَّر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يُسَلِّمَ إليه عز الدين مسعود شهرزور وأعمالَها وولاية القرابلي، وجميعَ ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطُبَ له على منابِرِ بلاده، ويَضرِبَ اسمَه على السكة، فلما حَلَفَ أرسل رسُلَه فحلف عزُّ الدين له، وتسَلَّموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمِها، ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضًا، وأَمِنَت الدنيا، وسَكَنَت الدهماء، وانحسَمَت مادةُ الفِتَن.
وهن أمر الفرنج بسبب اختلافهم على الملك بالشام .
العام الهجري : 582 العام الميلادي : 1186
تفاصيل الحدث:
كان القُمُّص- كبير القساوسة- صاحِبُ طرابلس، واسمُه ريمند بن ريمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحِبةِ طبريَّة، وانتقل إليها، وأقام عندها بطبريَّة، ومات ملك الفرنج بالشام، وكان مجذومًا، وأوصى بالمُلك إلى ابن أختٍ له، وكان صغيرًا، فكفَلَه القُمُّص، وقام بسياسة الملك وتدبيره؛ لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقتَ أكبَرُ منه شأنًا، ولا أشجَعُ ولا أجود رأيًا منه، فطَمِعَ في الملك بسبب هذا الصغير، فاتفق أن الصغير توفِّيَ، فانتقل المُلكُ إلى أمه، فبطل ما كان القُمُّص يحَدِّثُ نفسه به، ثمَّ إن هذه الملكة هَوِيَت رجلًا من الفرنج الذين قَدِموا الشام من الغرب اسمُه كي، فتزوجَتْه، ونَقَلت المُلك إليه، وجعلت التاجَ على رأسه، وأحضَرَت البطريك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية، وأعلمَتْهم أنَّها قد ردت المُلكَ إليه، وأشهدَتْهم عليها بذلك، فأطاعوه، ودانوا له، فعَظُمَ ذلك على القمص، وسُقِطَ في يديه، وطُولِبَ بحساب ما جبى من الأموالِ مُدَّةَ ولاية ذلك الصبي، فادَّعى أنه أنفَقَه عليه، وزاده ذلك نفورًا، وجاهَرَ بالمُشاقة والمباينة، وراسل صلاحَ الدين وانتمى إليه، واعتضَدَ به، وطلب منه المساعدةَ على بلوغ غَرَضِه من الفرنج، ففرح صلاحُ الدين والمُسلِمون بذلك، ووعده النصرةَ والسعيَ له في كل ما يريده، وضَمِنَ له أنه يجعَلُه ملكًا مستقلًّا للفرنج قاطبةً، وكان عنده جماعةٌ من فرسان القُمُّص أسرى فأطلَقَهم، فحَلَّ ذلك عنده أعظَمَ مَحَلٍّ، وأظهَرَ طاعة صلاح الدين، ووافقه على ما فعل جماعةٌ من الفرنج، فاختلفت كلمتُهم وتفَرَّق شَملُهم، وكان ذلك من أعظم الأسبابِ الموجبة لفتح بلادِهم، واستنقاذِ بيتِ المقدسِ منهم، وسيَّرَ صلاح الدين السَّرايا من ناحيةِ طبرية، فشُنَّت الغارات على بلاد الفرنج، وخَرَجَت سالمة غانمة، فوهَن الفرنج بذلك، وضَعُفوا وتجرأ المسلمونَ عليهم وطَمِعوا فيهم.
غدر البرنس أرناط صاحب الكرك، .
العام الهجري : 582 العام الميلادي : 1186
تفاصيل الحدث:
كان البرنس أرناط، صاحب الكرك، من أعظَمِ الفِرنجِ وأخبَثِهم، وأشدِّهم عداوةً للمُسلِمينَ، وأعظَمِهم ضررًا عليهم، فلمَّا رأى صلاح الدين ذلك منه قَصَدَه بالحَصرِ مَرَّةً بعد مرة، وبالغارة على بلاده كَرَّةً بعد أخرى، فذَلَّ وخضع، وطلب الصُّلحَ من صلاحِ الدين، فأجابه إلى ذلك، وهادنه وتحالفا، وترددت القوافل من الشامِ إلى مصر، ومِن مِصرَ إلى الشام، فلما كان هذه السَّنة اجتاز به قافلةٌ عظيمة غزيرة الأموال، كثيرةُ الرِّجالِ، ومعها جماعةٌ صالحةٌ من الأجناد، فغَدَر اللعينُ بهم، وأخَذَهم عن آخِرِهم، وغَنِمَ أموالَهم ودوابَّهم وسلاحَهم، وأودع السُّجونَ مَن أسَرَه منهم، فأرسل إليه صلاحُ الدين يلومُه، ويُقَبِّحُ فِعْلَه وغَدْرَه، ويتهَدَّدُه إن لم يُطلِقِ الأسرى والأموال، فلم يجِبْ إلى ذلك، وأصرَّ على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذرًا أن يقتُلَه إن ظَفِرَ به.
وفاة البهلوان صاحب أذربيجان وعراق العجم وملك أخيه قزل .
العام الهجري : 582 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1186
تفاصيل الحدث:
هو المَلِك شمس الدين البهلوان محمَّد بن الأتابك إيلدكز صاحِب أذربيجان وعراق العجم بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد،، وهو من كبارِ الملوك كوالِدِه. تمَلَّك البهلوان بعد موت أبيه سنة 570، وأقام في السلطنةِ معه طغريل بن رسلان شاه خاتمة بقايا السلجوقية، وكان السلطانُ طغريل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان، والخطبةُ له في البلاد بالسلطنة، وليس له من الأمرِ شَيءٌ، وإنما البلادُ والأمراء والأموالُ بحُكم البهلوان يأكُلُ البلاد باسمه، وكان ظالِمًا فاتِكًا، ولما احتُضِرَ أوصى إلى أخيه لأمِّه قزل، ومات بهمذان, وكانت أيام البهلوان إحدى عشرة سنة، وخلف خمسة آلاف مملوك، ومن الدوابِّ ثلاثين ألف رأس، ومن الأموالِ ما لا يُعَبَّر عنه، فلما مات البهلوان جرى بأصفهان بين الشافعيَّة والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنَّهبِ ما يجِلُّ عن الوصف، وكان قاضي البلد رأسَ الحنفيَّة، وابن الخجندي رأسَ الشافعية، وكان بمدينةِ الري أيضًا فتنةٌ عظيمة بين السُّنة والشيعة، وتفَرَّق أهلها وقُتِلَ منهم، وخربت المدينة وغيرُها من البلاد، ثمَّ مَلَك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان،، فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حُكمِ قزل، ولحِقَ به جماعة من الأمراء والجند، فاستولى على بعضِ البلاد، وجَرَت بينه وبين قزل حروبٌ.
وفاة العلامة اللغوي ابن بري .
العام الهجري : 582 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامة اللُّغوي الكبيرُ، الحُجَّة الثقة أبو محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار، المقدسي الأصل، المصري، ابن أبي الوحش، المعروف بابن بري، من علماءِ العربية النابهين، وُلد بمصر سنة 499 وتعلم بها, وبرز في علوم اللغة، ودرس في جامع عمرِو بن العاص. اشتغل عليه جماعةٌ كثيرة وانتفعوا به، ومن جُملتهم أبو موسى الجزولي، صاحب المقدِّمة الجزولية في النحو، ووليَ رياسة الديوان المصري, وكان كثيرَ الاطلاع عالِمًا بشأن الرسائل، مُطَّرِحًا للتكلُّف في كلامِه، لا يلتَفِتُ ولا يُعَرِّجُ على الإعراب فيه إذا خاطب النَّاسَ، وله التصانيفُ المفيدة، توفِّيَ وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين، له مؤلفات كثيرة من أشهرها "حواشي ابن بري على معجم الصحاحِ للجوهري".
وفاة مجد الدين هبة الله بن علي الرافضي أستاذ دار المستضيء بأمر الله .
العام الهجري : 583 العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
هبةُ اللهِ بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب أستاذ دار المستضيء بأمر الله، انتهت إليه الرئاسةُ في زمانِه، ووليَ حجابةَ الباب في أيام المستنجدِ، وبلغ رتبةَ الوزراءِ، وولَّى وعَزَل وماج الرفض في أيامِه، وشمخت المبتدعةُ، ولَمَّا بويع الناصِرُ قَرَّبَه وحكَّمَه في الأمور، ثم إنَّ بعض النَّاسِ سعى به فاستدعيَ إلى دار الخلافة وقُتِلَ بها ثمَّ عُلِّقَ رأسُه على بابِ دارِه، وكان سيئَ الطريقة يرتكب المعاصيَ، بخيلًا خسيس النفس، ساقطَ المروءةِ، مذمومَ الأفعالِ، كان إذا رجع من متصَيَّده وقد صَحِبَه شيءٌ من لحوم الصيد، قطع راتبَه من اللَّحمِ واجتزأ بلحمِ الصَّيدِ عنه ولم يقدِرْ أحدٌ على أن يأكل له لقمةً ولا ينتَفِعَ مِن ماله بشيءٍ، ولما هلك خلَّفَ من الأموال شيئًا كثيرًا، وكان رافضيًّا محترقًا شديد التعَصُّب لهواه، معلِنًا بغُلَوائِه، ظهر بسببه سبُّ الصحابة رضي الله عنهم على ألسنة الفَسَقة الرَّافضة في الأسواق وفي المشاهد والمزارات، ولم يجسر أحدٌ من أهل السنة على إنكار ذلك، لا بِيَدِه ولا بلسانِه؛ خَوفًا من بطشِه وبأسِه! وحُكي أنه رئِيَ في المنام في الليلة التي قُتِلَ في صبيحتها كأنه يشبر عنُقَه ويقَدِّرُها بيده، فأصبح وقُصَّ منامُه على رجلٍ ضريرٍ كان يعبِّرُ الرؤيا ولم يقُلْ له إنَّه رآه بنَفسِه، فقال له: إن هذا الرائي لهذا المنام يُقتَلُ وتحَزُّ رَقَبتُه؛ لأنَّ الله تعالى يقولُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
صلاح الدين الأيوبي يهزم الصليبيين في معركة صفورية .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
أرسلَ صلاحُ الدين إلى وَلَدِه الأفضل يأمُرُه أن يرسل قطعةً صالحةً مِن الجيش إلى بلدِ عكا ينهبونَه ويخَرِّبونهَ، فسيَّرَ مُظفَّر الدين كوكبري بن زين، وهو صاحِبُ خوارزم شاه ران والرها، وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم اليارقي، وهما من أكابِرِ الأمراء، وغيرهما، فساروا ليلًا، وصَبَّحوا صفوريَّة أواخِرَ صَفَر، فخرج إليهم الفِرنجُ في جمعٍ مِن الدواية والإسبتارية وغيرهما، فالتَقَوا هناك، وجَرَت بينهم حربٌ شديدة، ثم أنزل الله تعالى نَصْرَه على المسلمين، فانهزم الفرنجُ، وقُتِلَ منهم جماعة، وأُسِرَ الباقون، وفيمن قُتِل مُقَدَّم الإسبتارية، وكان عَودُهم على طبرية، وبها القُمُّص، فلم ينكِرْ ذلك، فكان فتحًا كثيرًا، فإنَّ الداوية والإسبتارية هم جمرةُ الفرنج، وسُيِّرَت البشائر إلى البلاد بذلك.
صلاح الدين الأيوبي يهزم الصليبيين في معركة (حطين) .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
لَمَّا أتت صلاحُ الدين البِشارةَ بهزيمة الإسبتارية والدواية، وقَتْل مَن قُتِل منهم، وأسْر مَن أُسِرَ في صفوريَّة، عاد عن الكرك إلى العسكَرِ الذي مع وَلَدِه الملك الأفضل، فنزل بالأقحوانةِ بقرب طبرية، وتقَدَّم صلاح الدين حتى قارب الفرنجَ، فلم يَرَ الفرنج من يمنَعُهم من القتال، ونزل جريدةً إلى طبرية وقاتلَهم، ونقَّبَ بعض أبراجها، وأخذَ المدينة عَنوةً في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعةِ التي لها، فامتنعوا بها، وفيها صاحبتُها، فنهَبَ المدينةَ وأحرَقَها، فقَوِيَ عَزمُ الروم على التقَدُّم إلى المسلمين وقتالِهم، فرحلوا من مُعسكَرِهم الذي لَزِموه، وقَرُبوا من عساكِرِ الإسلام، فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبريَّةَ إلى عسكره، وكان قريبًا منه، وإنما كان قَصدُه بمحاصرةِ طبريَّةَ أن يفارِقَ الفرنج مكانَهم للتمكُّنِ مِن قتالهم، وكان المسلمونَ قد نزلوا على الماء، والزَّمانُ قَيظٌ شديدُ الحر، فوجد الفرنجُ العَطشَ، ولم يتمكنوا من الوصولِ إلى ذلك الماء من المسلمين، وكانوا قد أفنَوا ما هناك من ماءِ الصهاريج ولم يتمكَّنوا من الرجوع خوفًا مِن المسلمين، فبَقُوا على حالهم إلى الغد، وهو يوم السبت، وقد أخذ العطشُ منهم، وأصبح صلاحُ الدين والمسلمونَ يوم السبت لخمسٍ بَقِينَ مِن ربيع الآخر، فرَكِبوا وتقَدَّموا إلى الفرنج، فركب الفرنجُ، ودنا بعضُهم من بعضٍ إلَّا أن الفرنجَ قد اشتَدَّ بهم العَطَشُ وانخَذَلوا، فاقتتلوا، واشتَدَّ القتال، وصبر الفريقان، ورمى المسلمونَ مِن النشاب ما كان كالجراد المنتَشِر، فقَتَلوا من خيول الفرنج كثيرًا. والفرنج قد جمعوا نفوسَهم براجِلِهم وهم يقاتلون سائرينَ نحو طبرية، لعَلَّهم يردون الماء. فلما عَلِمَ صلاح الدين مَقصِدَهم صَدَّهم عن مرادِهم، وكان بعضُ المتطَوِّعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض نارًا، وكان الحشيش كثيرًا فاحترق، وكانت الريحُ على الفِرنجِ، فحَمَلت حَرَّ النار والدُّخان إليهم، فاجتمع عليهم العَطَشُ وحَرُّ الزمانِ وحَرُّ النار، والدُّخانُ، وحَرُّ القتال، فلما انهزم القُمُّص-كبير القساوسة- سُقِطَ في أيديهم وكادوا يستسلِمونَ، ثمَّ عَلِموا أنَّهم لا ينجِّيهم من الموتِ إلَّا الإقدام عليه، فحملوا حملاتٍ مُتداركة كادوا يزيلونَ بها المسلمينَ، على كثرتِهم، عن مواقِفِهم، لولا لُطفُ الله بهم، إلَّا أن الفرنجَ لا يَحمِلونَ حملةً فيَرجِعونَ إلَّا وقد قُتِلَ منهم، فوهنوا لذلك وهنًا عظيمًا، فأحاط بهم المسلمون إحاطةَ الدائرة بقُطرِها، فارتفع من بَقِيَ مِن الفرنج إلى تلٍّ بناحية حطين، وأرادوا أن ينصِبوا خيامَهم، ويجمُّوا نفوسَهم به، فاشتد القتالُ عليهم من سائر الجهات، ومنعوهم عمَّا أرادوا، ولم يتمَكَّنوا من نصب خيمةٍ غيرَ خيمةِ مَلِكِهم، وأخذ المسلمونَ صَليبَهم الأعظمَ الذي يسمُّونَه صليبَ الصلبوت، ويذكرون أنَّ فيه قطعة من الخَشَبة التي صُلِبَ عليها المسيحُ عليه السَّلامُ- بزَعمِهم- فكان أخذُه عندهم من أعظَمِ المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقَتلِ والهلاك، هذا والقَتلُ والأسرُ يَعمَلانِ في فرسانهم ورجالتِهم، فبَقِيَ الملك على التلِّ في مقدار مائة وخمسين فارسًا من الفُرسان المشهورين والشُّجعان المذكورين، وكان سبَبُ سقوط الفرنج لَمَّا حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشًا، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحَمَلاتِ مِمَّا هم فيه، فلما لم يجِدوا إلى الخلاصِ طريقًا، نزلوا عن دوابِّهم وجلسوا على الأرض، فصَعِدَ المسلمون إليهم، فألقوا خيمةَ الملك، وأسرُوهم عن بَكرةِ أبيهم، وفيهم الملِكُ وأخوه والبرنس أرناط، صاحِبُ الكرك، ولم يكن للفرنجِ أشَدُّ منه عداوةً للمسلمين، وأسَروا أيضًا صاحِبَ جبيل، وابن هنفري، ومقدم الداوية، وكان من أعظم الفرنجِ شأنًا، وأسروا أيضًا جماعةً مِن الداوية، وجماعةً من الإسبتارية، وكثُرَ القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظُنُّ أنهم أَسَروا واحدًا، ومَن يرى الأسرى لا يظُنُّ أنهم قتلوا أحدًا! فلما فرغ المسلمونَ منهم نزل صلاح الدين في خيمتِه، وأحضر مَلِكَ الفرنجِ عنده، وبرنس أرناط صاحِبَ الكرك، وأجلس المَلِك إلى جانبه وقد أهلَكَه العَطَشُ، فسقاه ماءً مثلوجًا، فشَرِبَ، وأعطى فَضْلَه برنس صاحب الكرك، فشَرِبَ، فقال صلاح الدين: إنَّ هذا الملعون لم يشرَبِ الماءَ بإذني فينالَ أماني؛ ثمَّ كلَّم البرنس، وقَرَّعه بذنوبه، وعَدَّد عليه غَدَراتِه، وقام إليه بنفسه فضَرَبَ رَقَبتَه، وقال: كنتُ نَذَرتُ دفعتَينِ أن أقتُلَه إن ظَفِرتُ به: إحداهما لَمَّا أراد المسيرَ إلى مكة والمدينة، والثانية لَمَّا أخذ القافلةَ غدرًا، فلما قتَلَه وسُحِبَ وأُخرِجَ، ارتعدت فرائص الملك، فسَكَّن جأشَه وأمَّنَه.
صلاح الدين الأيوبي يعود إلى مدينة طبرية ويمتلك قلعتها .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين من هزيمة الفرنجِ في حطِّين أقام بموضِعِه باقيَ يَومِه، وأصبحَ يومُ الأحد، فعاد إلى طبرية ونازلها، فأرسلت صاحبتُها تطلُبُ الأمانَ لها ولأولادها وأصحابِها ومالها، فأجابها إلى ذلك، فخرجت بالجميعِ، فوَفى لها، فسارت آمنةً، ثم أمر بالمَلِك وجماعةٍ مِن أعيان الأسرى فأُرسلوا إلى دمشق، وأمَرَ بمن أُسِرَ مِن الداوية والإسبتارية أن يُجمَعوا ليقتُلَهم، ثمَّ عَلِمَ أن مَن عنده أسيرٌ لا يسمَحُ به؛ لِما يرجوا من فِدائِه، فبذل في كل أسيرٍ مِن هذين الصِّنفينِ خمسينَ دينارًا مصرية، فأُحضِرَ عنده في الحال مائتا أسيرٍ منهم، فأمَرَ بهم فضُرِبَت أعناقهم، وإنَّما خَصَّ هؤلاء بالقتل لأنَّهم أشَدُّ شَوكةً مِن جميع الفرنج، فأراح الناسَ مِن شَرِّهم؛ وكتب إلى نائبه بدمشق ليقتُلَ مَن دخل البلد منهم سواءٌ كان له أو لغيره، ففعل ذلك.
صلاح الدين الأيوبي يفتح مدينة عكا .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين من طبريَّة سار عنها يوم الثلاثاء ووصَلَ إلى عكا يومَ الأربعاء، وقد صَعِدَ أهلُها على سورها يُظهِرونَ الامتناعَ والحِفظَ، وركب يوم الخميس، وقد صَمَّمَ على الزحف إلى البلَدِ وقِتالِه، فبينما هو ينظُرُ مِن أين يزحَفُ ويقاتِلُ إذ خرج كثيرٌ مِن أهلها يَضرَعونَ، ويطلبون الأمانَ، فأجابهم إلى ذلك، وأمَّنَهم على أنفُسِهم وأموالهم، وخيَّرَهم بين الإقامة والظَّعنِ، فاختاروا الرحيلَ؛ خوفًا من المسلمينَ، وساروا عنها متفَرِّقين، وحَمَلوا ما أمكَنَهم حَملُه من أموالهم، وتركوا الباقيَ على حالِه، ودخل المسلمونَ إليها يومَ الجمعة مستهَلَّ جمادى الأولى، وصَلَّوا بها الجمعةَ في جامعٍ كان للمسلمينَ قديمًا، ثمَّ جعله الفرنجُ بِيعةً، ثمَّ جعله صلاحُ الدين جامعًا، وهذه الجمعةُ أوَّلُ جمعة أُقيمَت بالساحل الشامي بعد أن مَلَكه الفرنجُ، وسلم البلد إلى ولده الأفضل، وأقام صلاحُ الدين بعكَّا عدة أيام لإصلاحِ حالِها وتقريرِ قواعِدِها.
فتح يافا وتبنين وصيدا وجبيل وبيروت .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
لَمَّا خرج العادِلُ من مصر، وفتح مجدليابة، سار إلى مدينة يافا، وهي على الساحِلِ، فحصَرَها وملَكَها عَنوةً، ونَهَبها، وأسرَ الرِّجالَ، وسبى الحريمَ، وجرى على أهلها ما لم يجرِ على أحدٍ مِن أهل تلك البلاد، فأما تبنين، فقد قام صلاح الدين بإنفاذ تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين، فلمَّا وصلها نازلها، وأقام عليها، فرأى حَصْرَها لا يتِمُّ إلا بوصول عَمِّه صلاح الدين إليه، فأرسل إليه يُعلِمُه الحالَ ويَحُثُّه على الوصولِ إليه، فرحل ثامِنَ جمادى الأولى، ونزل عليه في الحادي عشر منه، فحصرها، وضايقَها، وقاتَلَها بالزحف، وهي من القلاعِ المنيعة على جَبَلٍ، فلما ضاق عليهم الأمرُ واشتَدَّ الحَصرُ، أطلقوا مَن عندهم من أسرى المسلمين، وهم يزيدونَ على مائة رجل، فلما دخلوا العسكَرَ أحضَرَهم صلاح الدين وكساهم، وأعطاهم نَفقةً، وسَيَّرَهم إلى أهليهم، وبَقيَ الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم على أنفسهم فسَلَّموها إليه، ووفى لهم وسَيَّرَهم إلى مأمنهم، وأمَّا صيدا فإنَّ صلاح الدين لَمَّا فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا، فاجتاز في طريقِه بصرفند فأخذها صفوًا عَفوًا بغيرِ قتالٍ، وسار عنها إلى صيدا، وهي من مدن الساحلِ المعروفة، فلما سمع صاحِبُها بمَسيره نحوه سار عنها وترَكَها فارغةً من مانعٍ ومدافع. فلما وصَلَها صلاحُ الدين تسَلَّمَها ساعةَ وُصولِه وكان مِلكُها حادي عشر جمادى الأولى. وأمَّا بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزَهِها وأطيبها. فلما فتح صلاحُ الدين صيدا سار عنها من يومِه نحو بيروت ووصل إليها من الغدِ، فرأى أهلها قد صعدوا على سورها وأظهروا القُوَّةَ والجَلَدَ والعُدَّةَ، وقاتلوا على سورها عدَّةَ أيام قتالًا شديدًا واغتَرُّوا بحصانة البلد، وظنُّوا أنهم قادرون على حفظه، وزحف المسلمونَ إليهم مرَّةً بعد مرة، فبينما الفرنج على السور يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبةً عظيمةً وغَلبةً زائدةً، فأتاهم مَن أخبَرَهم أنَّ البلد قد دخله المُسلِمونَ مِن الناحية الأخرى قَهرًا وغَلبةً، فأرسلوا ينظُرونَ ما الخبَرُ، وإذا ليس له صِحَّةٌ، فأرادوا تسكينَ مَن به فلم يُمكِنْهم ذلك لكثرةِ ما اجتمعَ فيه من السَّوادِ، فلما خافوا على أنفُسِهم من الاختلافِ الواقِعِ، أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم على أنفُسِهم وأموالهم وتسَلَّمَها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فكان مدة حصرها ثمانية أيام، وأمَّا جبيل فإن صاحِبَها كان من جملة الأسرى الذين سُيِّروا إلى دمشق مع مَلِكِهم، فتحَدَّثَ مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليمِ جبيل على شَرطِ إطلاقِه، فعرف صلاح الدينِ بذلك، فأحضره مُقَيَّدًا عنده تحت الاستِظهارِ والاحتياط، وكان العسكَرُ حينئذ على بيروت، فسَلَّمَ حِصنَه وأطلَقَ أسرى المسلمين الذين به، وأطلقه صلاحُ الدين كما شرَطَ له.
صلاح الدين الأيوبي يفتح مدينة عسقلان .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
لَمَّا ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وغيرهما، سار نحو عسقلان، واجتمع بأخيه العادل ومن معه مِن عساكرِ مِصرَ، ونازلوها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، وكان صلاحُ الدين قد أحضر مَلِكَ الفرنج ومُقَدَّم الداوية إليه مِن دمشق، وقال لهما: إن سَلَّمتُما البلادَ إليَّ فلكما الأمانُ، فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنجِ يأمرانِهم بتسليم البلد، فلم يَسمَعوا أمرَهما وردُّوا عليهما أقبَحَ رَدٍّ وأجابوهما بما يسوءُهما، فلما رأى السلطانُ ذلك جَدَّ في قتال المدينة ونَصَب المجانيقَ عليها، وزحَفَ مَرَّةً بعد أخرى، وتقدم النقَّابون إلى السور، فنالوا منه شيئًا. هذا ومَلِكُهم يكَرِّرُ المراسلات إليهم بالتسليم، ويشيرُ عليهم، ويَعِدُهم أنَّه إذا أُطلِقَ مِن الأسر أضرم البلادَ على المسلمين نارًا، واستنجد الفرنجَ مِن البحر، وأجلَبَ الخَيلَ والرَّجِل إليهم من أقاصي بلاد الفرنج وأدانيها، وهم لا يُجيبونَ إلى ما يقولُ ولا يسمعون ما يشير به، ولَمَّا رأوا أنهم كل يوم يزدادون ضعفًا ووهنًا، وإذا قُتِلَ منهم الرجلُ لا يجدون له عِوَضًا، ولا لهم نجدةٌ ينتَظِرونَها، راسلوا مَلِكَهم المأسور في تسليمِ البلد على شروطٍ اقترحوها، فأجابهم صلاحُ الدين إليها، وكانوا قَتَلوا في الحصار أميرًا كبيرًا من المهرانيَّة، فخافوا عند مفارقةِ البلد أنَّ عَشيرتَه يَقتُلونَ منهم بثأره، فاحتاطوا فيما اشتَرَطوا لأنفسهم، فأُجيبوا إلى ذلك جميعِه، وسَلَّموا المدينة آخر جمادى الآخرة، وكانت مدة الحصار أربعةَ عشر يومًا، وسيَّرَهم صلاح الدين ونساءَهم وأموالَهم وأولادهم إلى بيت المقدس، ووفى لهم بالأمانِ.
صلاحُ الدِّينِ الأيوبيُّ يستعيد بيتَ المقدِسِ مِن أيدي الصليبيين .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1187
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين مِن أمر عَسقلان وما جاورها من البلاد، أرسل إلى مِصرَ؛ لطَلَبِ الأسطول الذي بها في جمَع ٍمن المُقاتِلة، ومُقَدَّمُهم حسامُ الدين لؤلؤ الحاجب، فأقاموا في البَحرِ يقطعون الطريقَ على الفرنجِ، كُلَّما رأوا لهم مركبًا غَنِموه، وشانيًا أخَذوه، فحين وصلَ الأسطول وخلا سِرُّه من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى بيت المقدس، وكان به البُطرُك المعظَّم عندهم، وهو أعظَمُ شأنًا من مَلِكِهم، وبه أيضًا باليان بن بيرزان، صاحِبُ الرملة، وكانت مرتبتُه عندهم تقارِبُ مرتبة الملك، وبه أيضًا مَن خَلَص من فُرسانِهم مِن حِطِّين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي- عسقلان وغيرها- فاجتمع به كثيرٌ مِن الخلق، وحَصَّنوه ونَصَبوا المجانيقَ على أسواره، ولَمَّا قرب صلاحُ الدين وساروا حتى نزلوا على القُدسِ مُنتصَفَ رجب، فلما نَزَلوا عليه رأى المُسلِمون على سُورِه من الرجال ما هالهم، وسَمِعوا لأهله من الجَلَبةِ والضَّجيجِ مِن وسط المدينة ما استدَلُّوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاحُ الدين خمسةَ أيام يطوف حولَ المدينة لينظُرَ مِن أين يقاتلُه؛ لأنَّه في غاية الحَصانةِ والامتناعِ، فلم يجِدْ عليه موضِعَ قتالٍ إلَّا من جهة الشَّمالِ نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحيةِ في العشرين من رجب ونزلها، ونصَبَ تلك الليلة المجانيقَ، فأصبح من الغَدِ وقد فُرِغَ مِن نصبها، ورمى بها، ونَصَب الفرنجُ على سور البلد مجانيقَ ورَمَوا بها، وقوتلوا أشَدَّ قتال رآه أحَدٌ مِن الناس، وكان خيَّالة الفرنج كلَّ يوم يخرجون إلى ظاهِرِ البلد يقاتِلونَ ويُبارِزونَ، فيُقتَلُ من الفريقين، ثم وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنَقَبوه، وزحف الرماةُ يحمونَهم، والمجانيقُ تُوالي الرميَّ لتكشِفَ الفرنجَ عن الأسوار ليتمَكَّنَ المسلمون من النَّقبِ، فلمَّا نقَبوه حَشَوه بما جرت به العادةُ، فلما رأى الفرنج شِدَّةَ قتال المسلمين، وتحكُّمَ المجانيق بالرمي المتدارِك، وتمكُّن النقَّابين من النَّقبِ، وأنهم قد أشرَفوا على الهلاكِ- اجتَمعَ مُقَدَّموهم يتشاورون فيما يأتونَ ويَذَرونَ، فاتَّفَق رأيُهم على طَلَبِ الأمان، وتسليم ِبيتِ المَقدِسِ إلى صلاحِ الدين، فأرسلوا جماعةً مِن كُبَرائِهم وأعيانِهم في طلب الأمان، فلمَّا ذكروا ذلك للسلطان امتنَعَ من إجابتِهم، وقال: لا أفعَلُ بكم إلَّا كما فعلتُم بأهلِه حين ملَكْتُموه سنة 491؛ مِن القَتلِ والسَّبيِ وجزاءُ السِّيِّئةِ بمِثلِها. فلما رجع الرسُلُ خائبين محرومين، أرسل باليان بن بيرزان وطلَبَ الأمان لنَفسِه ليَحضُرَ عند صلاح الدين في هذا الأمرِ وتحريره، فأُجيبَ إلى ذلك، وحضر عنده، ورَغِبَ في الأمان، وسأل فيه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، واستعطَفَه فلم يَعطِفْ عليه، واسترَحَمه فلم يرحَمْه، فلمَّا أيِسَ مِن ذلك هدَّد بقَتلِ أنفُسِهم وتخريبِ المسجِدِ والصَّخرةِ وكُلِّ شَيءٍ، فاستشار صلاحُ الدين أصحابَه، فأجمعوا على إجابتِهم إلى الأمان، وألَّا يُخرَجوا ويُحمَلوا على ركوبِ ما لا يُدرى عاقبةُ الأمر فيه عن أيِّ شَيءٍ تنجلي، ونحسَبُ أنَّهم أسارى بأيدينا، فنبيعُهم نفوسَهم بما يستقِرُّ بيننا وبينهم، فأجاب صلاحُ الدين حينئذ إلى بذلِ الأمان للفرنج، فاستقَرَّ أن يَزِنَ الرجُلُ عشرةَ دنانير يستوي فيه الغنيُّ والفقير، ويَزِن الطفلُ من الذكور والبنات دينارين، وتَزِن المرأة خمسة دنانير، فمن أدَّى ذلك إلى أربعين يومًا فقد نجا، ومن انقَضَت الأربعونَ يومًا عنه ولم يؤَدِّ ما عليه فقد صار مملوكًا، فبذل باليان بن بيرزان عن الفُقَراء ثلاثين ألف دينار، فأُجيبَ إلى ذلك، وسُلِّمَت المدينةُ يوم الجمعة السابع والعشرين من رجَبٍ، وكان يومًا مشهودًا، ورَفَّت الأعلامُ الإسلاميَّةُ على أسوارِها، وكان على رأسِ قُبَّة الصخرةِ صَليبٌ كبيرٌ مُذهَبٌ. فلما دخل المسلمونَ البلد يومَ الجمعة تسَلَّقَ جماعةٌ منهم إلى أعلى القبة ليقلَعوا الصليبَ، فلمَّا فعلوا وسقط صاح النَّاسُ كُلُّهم صوتًا واحدًا من البَلَدِ ومِن ظاهِرِه، المُسلِمونَ والفرنج: أمَّا المسلمون فكَبَّرُوا فرحًا، وأمَّا الفرنجُ فصاحوا تفجُّعًا وتوجُّعًا، فلما ملك البلد وفارقه الكُفَّارُ، أمر صلاح الدين بإعادة الأبنيةِ إلى حالها القديمِ، وأمر بتطهيرِ المسجِدِ والصخرةِ مِن الأقذارِ والأنجاسِ، ففُعِلَ ذلك أجمَعُ، ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمونَ فيه الجمعة، ومعهم صلاحُ الدين، وصلَّى في قبة صلاح الدين خَطيبًا وإمامًا برَسمِ الصَّلواتِ الخمس، وأمَرَ أن يُعمَلَ له مِنبَرٌ، فقيل له: إنَّ نور الدين محمودًا كان قد عَمِلَ بحَلَبٍ مِنبَرًا أمَرَ الصُّناعَ بالمبالغة في تحسينِه وإتقانه، وقال: هذا قد عَمِلْناه ليُنصَب ببيتِ المَقدِسِ! فعَمِلَه النجَّارون في عِدَّةِ سنين لم يُعمَلْ في الإسلام مثله، فأمر بإحضارِه، فحُمِلَ من حَلَب ونُصِبَ بالقدس، وكان بين عَمَلِ المنبر وحَملِه ما يزيد على عشرينَ سنة، وكان هذا من كراماتِ نور الدين وحُسنِ مقاصِدِه! رحمه الله، ولَمَّا فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعةِ تقَدَّمَ بعِمارةِ المسجد الأقصى واستنفاد الوُسعِ في تحسينِه وترصيفِه، وتدقيقِ نُقوشِه، فأحضَروا من الرُّخامِ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه، ومِن الفص المُذهَب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشَرَعوا في عمارته، ومحَوا ما كان في تلك الأبنية من الصُّورِ، فعاد الإسلامُ هناك غضًّا طريًّا، وهذه المَكرُمةُ مِن فتح بيتِ المَقدِسِ لم يفعَلْها بعدَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- رضي الله عنه- غيرُ صلاحِ الدين- رحمه الله- وكَفَاه ذلك فَخرًا وشَرَفًا!
فتح الغوريين شرستي من الهند وغيرها وانهزام المسلمين بعدها .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
سار شِهابُ الدين الغوري، مَلِك غزنة، إلى بلاد الهند، وقَصَد بلاد أجمير، وتعَرَّف بولاية السوالك، واسمُ ملكهم كولة، وكان شجاعًا شهمًا، فلما دخل المُسلِمونَ بلاده ملكوا مدينةَ تبرندة، وهي حِصنٌ منيع عامِرٌ، وملكوا شرستي، وملكوا كورام، فلما سَمِعَ مَلِكُهم كولة جمَعَ العساكِرَ فأكثَرَ، وسار إلى المسلمين، فالتقوا، وقامت الحربُ على ساق، وكان مع الهند أربعة عشر فيلًا، فلما اشتَدَّت الحربُ انهزَمَت ميمنةُ المسلمين وميسرتهم، فقال لشهاب الدين بعضُ خواصه: قد انكسرت الميمنةُ والمَيسرةُ، فانجُ بنَفسِك لا يَهلِك المُسلِمون، فأخذ شهاب الدين الرمحَ وحمل على الهنود، فوصَلَ إلى الفِيَلة، فطعن فيلًا منها في كَتِفِه، وجُرحُ الفيل لا يندَمِلُ، فلما وصل شهابُ الدين إلى الفِيَلة زَرَقه بعضَ الهنود بحَربةٍ، فوَقَعَت الحربةُ في ساعده، فنَفِذَت الحربة من الجانِبِ الآخر، فوقع حينئذٍ إلى الأرض، فقاتل عليه أصحابُه ليخلِّصوه، وحرصت الهنود على أخْذِه، وكان عنده حَربٌ لم يُسمَعْ بمِثلِها، وأخذه أصحابُه فرَكَّبوه فَرَسَه وعادوا به منهزمينَ، فلم يَتبَعْهم الهنود، فلما أبعدوا عن موضعِ الوقعة بمقدار فرسخٍ أُغمِيَ على شهاب الدين من كثرة خروج الدمِ، فحمله الرجالُ على أكتافهم في محفةِ اليد أربعة وعشرين فرسخًا، فلما وصل إلى لهاوور أخذ الأمراء الغورية، وهم الذين انهَزَموا ولم يثبتوا، وعَلَّقَ على كلِّ واحد منهم عليقَ شَعيرٍ، وقال: أنتم دوابُّ، ما أنتم أمراءُ! وسار إلى غزنة، وأمر بعضَهم فمشى إليها ماشيًا، فلمَّا وصل إلى غزنة أقام بها ليستريحَ النَّاسُ.
الفتنة بعرفات وقتل ابن المقدم .
العام الهجري : 583 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ شَمسُ الدين محمَّد بن عبد الملك المعروف بابنِ المُقَدَّم يومَ عَرَفة بعَرَفاتٍ، وهو أكبَرُ الأمراء الصلاحية، وسبَبُ قتله أنَّه لما فتَحَ المُسلِمونَ بيت المقدس طَلَب إذنًا من صلاحِ الدين ليحُجَّ ويُحرِمَ مِن القدس، ويجمَعَ في سنةٍ بين الجِهادِ والحَجِّ وزيارة الخليل- عليه السلام- وما بالشام من مشاهِدِ الأنبياء، وبين زيارةِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، فأَذِنَ له, وكان قد اجتمَعَ تلك السنة من الحُجَّاج بالشام الخَلقُ العظيم من بلاد العراق، والموصل، وديار بكر، والجزيرة، وخلاط، وبلاد الروم، ومصر وغيرها؛ لِيَجمعوا بين زيارة بيت المقدس ومكَّة، فجُعِلَ ابنُ المقدم أميرًا عليهم، فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين، ووقفوا في تلك المشاعِرِ، فلما كان عَشيَّةُ عرفةَ تجهَّزَ هو وأصحابُه ليسيروا مِن عَرَفات، فأمَرَ بضَربِ كوساته- قطعتان من نحاس تشبهان الترس الصغير، يُدَقُّ بأحدها على الآخَرِ بإيقاعٍ مخصوصٍ- التي هي أمارة الرحيل، فضربها أصحابُه، فأرسل إليه أميرُ الحاجِّ العراقي، وهو مجبر الدين طاش تكين، ينهاه عن الإفاضةِ مِن عرفات قبله، ويأمُرُه بكَفِّ أصحابه عن ضَربِ كوساته، فأرسل إليه: إني ليس لي معك تعَلُّقٌ؛ أنت أمير الحاجِّ العراقي، وأنا أميرُ الحاجِّ الشاميِّ! وكلٌّ منا يفعَلُ ما يراه ويختاره، وسار ولم يقف، ولم يسمعْ قَولَه، فلما رأى طاش تكين إصرارَه على مخالفَتِه رَكِبَ في أصحابه وأجناده، وتَبِعَه من غوغاء الحاجِّ العراقي وبطاطيهم، وطاعتهم، والعالم الكثير، والجم الغفير، وقصدوا حاجَّ الشام مهولين عليهم، فلمَّا قَرُبوا منهم خرج الأمرُ مِن الضبط، وعَجَزوا عن تلافيه، فهَجَم طماعة العراقِ على حاجِّ الشامِّ وفتَكوا فيهم، وقَتَلوا جماعةً ونُهِبَت أموالُهم وسُبِيَت جماعةٌ مِن نسائهم، إلا أنَّهن رُدِدنَ عليهم، وجُرِحَ ابنُ المقدم عِدَّةَ جراحات، وكان يكُفُّ أصحابَه عن القتال، ولو أذِنَ لهم لانتصف منهم وزاد، لكِنَّه راقب اللهَ تعالى، وحُرمةَ المكان واليوم، فلما أُثخِنَ بالجراحاتِ أخذه طاش تكين إلى خيمته، وأنزله عنده ليُمَرِّضَه ويستدرِكَ الفارِطَ في حَقِّه، وساروا تلك الليلةَ مِن عرفات، فلما كان الغدُ مات بمِنًى، ودُفِنَ بمَقبرةِ المُعلَّى.
=========
113.انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرل .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1188

تفاصيل الحدث:
جهَّزَ الخليفةُ الناصِرُ لدين الله عسكرًا كثيرًا، وجعلَ المقَدَّمَ عليهم وزيرَه جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيَّرَهم إلى مساعدة قزل أرسلان بن الأتابك إيلدكز، ليكُفَّ السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكَرُ ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصِلْ قزل إليهم، وأقبَلَ طغرل إليهم في عساكرِه، فالتقوا ثامِنَ ربيع الأول بـ (داي مرج) عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبُتْ عسكر بغداد، بل انهزموا وتفَرَّقوا، وثبت الوزيرُ قائمًا، ومعه مُصحَفٌ وسَيفٌ، فأتاه من عسكَرِ طغرل مَن أسَرَه، وأخَذَ ما معه من خزانةٍ وسِلاحٍ ودوابَّ وغير ذلك، وعاد العسكَرُ إلى بغداد متفَرِّقينَ.
غزو صلاح الدين الأيوبي بلاد الفرنج بالشام .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين عن دمشق منتصَفَ ربيعٍ الأول إلى حمص، فنزل على بحيرةِ قدس غربيَّ حمص، وجاءته العساكِرُ، فأوَّل من أتاه من أصحابِ الأطرافِ عماد الدين زنكي بن مودود بن آقسنقر. صاحِبُ سنجار، ونصيبين، والخابور، وتلاحقت العساكِرُ مِن الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتَمَعَت عليه، وكَثُرَت عنده. فسار حتى نزل تحت حِصنِ الأكراد من الجانبِ الشرقيِّ، فأقام يومينِ، وسار جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- وترك أثقالَ العسكَرِ مَوضِعَها تحت الحصن، ودخل إلى بلدِ الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلادَ، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلُكُ منها، ثم عاد إلى مُعسكَرِه سالِمًا، وقد غَنِمَ العسكر من الدوابِّ على اختلاف أنواعِها ما لا حَدَّ له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخرِ ربيع الآخر.
فتح جبلة على يد صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لَمَّا أقام صلاح الدين تحت حِصنِ الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصورُ بن نبيل، يستدعيه إليها ليسَلِّمَها إليه، حمَلَتْه الغيرةُ للدينِ على قَصدِ السُّلطان، وتكَفَّل له بفتح جبلة واللاذقية والبلاد الشماليَّة، فسار صلاح الدين معه رابِعَ جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنجَ قد أخلَوا المدينة، واحتموا في برجَينِ حَصينينِ، كلُّ واحد منهما قلعةٌ حصينةٌ ومَعقِلٌ منيع، فخرَّب المسلمونَ دُورَهم ومساكِنَهم وسورَ البلد، ونَهَبوا ما وجدوه من ذخائِرِهم، وكان الداوية بأحَدِ البرجين، فحصَرَهما صلاح الدين، فنزل إليه مَن في أحد البرجين بأمانٍ وسَلَّموه، فأمَّنَهم، وخرب البرجَ وألقى حجارتَه في البحر، وبَقِيَ الذي فيه الداوية لم يُسَلِّموه، فخَرَّب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلُها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونِهم التي لا تُرام، وهو للإسبتارية، فاجتاز المسلمونَ وعَبَروا المضيقَ ووصلوا إلى جبَلة ثامِنَ عشر جمادى الأولى. وتسَلَّمها وقت وصولِه، وكان قاضيها قد سبقَه إليها ودخلها. فلما وصل صلاح الدينِ رفَعَ أعلامَه على سورها وسلَّمَها إليه، وتحصَّنَ الفرنجُ الذين كانوا بها بحِصنِها، واحتَمَوا بقلعتها، فما زال قاضي جبَلة يُخَوِّفُهم ويُرَغِّبُهم، حتى استنزلهم بشَرطِ الأمان، وأن يأخُذَ رهائنَهم يكونون عنده إلى أن يُطلِقَ الفرنجُ رهائن المسلمين من أهلِ جبلة. وكان بيمند صاحِبُها قد أخذ رهائِنَ القاضي ومُسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكيَّةَ، فأخذ القاضي رهائِنَ الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائِنَ المسلمين فأطلق المسلمونَ رهائِنَ الفرنج، وجاء رؤساءُ أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعةِ أهله، وصار الطريقُ في هذا الوقت عليه من بلادِ الإسلام إلى العسكَرِ، وقرر صلاحُ الدين أحوالَ جَبَلة، وجعل فيها لحِفظِها الأميرَ سابق الدين عثمان بن الداية، صاحِبَ شيزر، وسار عنها.
فتح اللاذقية على يد صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة، سار عنها إلى اللاذقية، فوصل إليها في الرابعِ والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنجُ المدينة لعَجزِهم عن حِفظِها، وصَعِدوا إلى حصنينِ لها على الجبل فامتنَعوا بهما، فدخل المسلمونَ المدينة وحصروا القلعتينِ اللتين فيهما الفرنجُ، وزحفوا إليهما، ونَقَّبوا السور ستين ذراعًا، وعَلِقوه- حازوه- وعَظُمَ القتال، واشتد الأمرُ عند الوصول إلى السور، فلما أيقن الفرنجُ بالعَطَبِ، ودخل إليهم قاضي جبَلة فخَوَّفَهم من المسلمين؛ طَلَبوا الأمانَ فأمَّنَهم صلاح الدين، ورفع المسلمونَ الأعلامَ على الحصنين، وكان ذلك في اليومِ الثالث من النزول عليها، وكانت عمارةُ اللاذقية من أحسَنِ الأبنية وأكثَرِها زَخرفةً مملوءةً بالرخام على اختلافِ أنواعها، فسَلَّمَها صلاح الدين إلى ابن أخيه تقيِّ الدين عمر، فعَمَرَها، وحَصَّنَ قَلعتَها.
فتح قلعة صهيون وعدة من الحصون على يد صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين مِن أمْرِ اللاذقيَّة في السابع والعشرين من جمادى الأولى، قصد قلعة صهيون، وهي قلعة منيعةٌ شاهقة في الهواء، صعبةُ المرتقى، على قرنة جبل، يُطيفُ بها وادٍ عَميقٌ، فيه ضِيقٌ في بعضِ المواضع، فنزل صلاحُ الدين على هذا الجبَلِ الملتصق بها، ونَصَب عليه المجانيقَ ورماها، وتقَدَّم إلى ولَدِه الظاهر، صاحِبِ حلب، فنزل على المكانِ الضَّيقِّ من الوادي، ونصَبَ عليه المجانيق أيضًا، فرمى الحصنَ منه، ودام رشقُ السهام فجُرِحَ أكثَرُ مَن بالحصن، وهم يُظهِرونَ التجَلُّدَ والامتناع، وزحف المسلمونَ إليهم ثاني جمادى الآخرة، فتعَلَّقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنجُ إحكامَها، فتسلقوا منها بين الصُّخورِ، حتى التحقوا بالسُّورِ الأول فقاتلوهم عليه حتى مَلَكوه، ثم إنَّهم قاتلوهم على باقي الأسوار فمَلَكوا منها ثلاثةً وغَنِموا ما فيها من أبقارٍ ودوابَّ وذخائِرَ وغيرِ ذلك، واحتمى الفرنجُ بالقلَّة التي للقلعة، فقاتلهم المسلمونَ عليها، فنادَوا وطَلبوا الأمان، فلم يجِبْهم صلاح الدين إليه، فقَرَّروا على أنفسِهم مثل قطيعة بيت المقدس، وتسَلَّمَ الحِصنَ وسَلَّمَه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس، صاحِبِ قلعة أبي قبيس، فحَصَّنَه وجعله من أحصَنِ الحصون. ولَمَّا ملك المسلمون صهيون تفَرَّقوا في تلك النواحي، فملكوا حِصنَ بلاطنوس، وكان مَن به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفًا ورعبًا. وملك أيضًا حِصنَ العيدو، وحصن الجماهرتين، فاتسعت المملكةُ الإسلاميَّةُ بتلك الناحية، إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلاميَّة على عقبة قلعة بكسرائيل شاقٌّ شديدٌ؛ لأن الطريقَ السهلة كانت غير مسلوكةٍ، لأن بعضَها بيد الإسماعيليَّة، وبعضَها بيد الفرنجِ.
فتح صفد وحصن كوكب على يد صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
في المحَرَّم حاصَرَ صلاح الدين الحِصنَ، لكنه رآه منيعًا فكان رحيلُه عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشقَ إلى قلعة صفد فحصَرَها وقاتلها، ونصب عليها المجانيقَ، وأدام الرميَ إليها ليلًا ونهارًا بالحِجارةِ والسهام، وكان أهلُها قد قاربت ذخائرُهم وأزوادُهم أن تفنى في المدَّةِ التي كانوا فيها محاصَرينَ، فإنَّ عَسكَرَ صلاح الدين كان يحاصِرُهم مِن أول السنة، فلما رأى أهلُه جِدَّ صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلُبونَ الأمان، فأمَّنَهم وتسَلَّمَها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنينَ شَرَّهم، ثمَّ لما كان صلاح الدين يحاصِرُ صفد، اجتمع مَن بصور من الفرنج، وقالوا: إنْ فَتحَ المسلمون قلعةَ صفد لم تبقَ كوكب، ولو أنَّها مُعلَّقة بالكوكب، وحينئذ ينقَطِعُ طَمَعُنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيُهم على إنفاذِ نجدة لها سرًّا من رجال وسلاحٍ وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجلٍ مِن شجعان الفرنج وأجلادِهم، فساروا الليلَ مُستَخفين، وأقاموا النَّهارَ مُكمِنين، فاتَّفق مِن قَدَرِ الله تعالى أنَّ رجلًا من المسلمين الذين يحاصِرونَ كوكب خرج متصَيِّدًا، فلَقِيَ رجلًا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرضِ، فضَرَبه ليُعلِمَه بحاله، وما الذي أقدَمَه إلى هناك، فأقَرَّ بالحال، ودلَّه على أصحابِه، فعاد الجنديُّ المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مُقَدَّم ذلك العسكر، فأعلمه الخبَرَ، والفرنجيُّ معه، فركب في طائفةٍ مِن العسكر إلى الموضعِ الذي قد اختفى فيه الفرنجُ، فكَبَسَهم فأخَذَهم وتتبعهم في الشِّعابِ والكهوف، فلم يُفلِتْ منهم أحدٌ، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى مَن بها من الفرنج يبذُلُ لهم الأمانَ إن سَلَّموا، ويتهَدَّدُهم بالقتل والسبي والنهب إن امتَنَعوا، فلم يسمعوا قولَه، وأصروا على الامتناع، فجَدَّ في قتالهم، ونَصَب عليهم المجانيقَ، وتابَعَ رميَ الأحجارِ إليهم، وزحف مرَّةً بعد مرة، وكانت الأمطارُ كثيرة لا تنقطع ليلًا ولا نهارًا، فلم يتمكَّن المسلمونَ مِن القتال على الوجهِ الذي يريدوه، وطال مقامُهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعاتٍ مُتناوبةً في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائِطٌ ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقَّابون والرُّماة يحمونَهم بالنشاب، فلم يقدِرْ أحد منهم أن يُخرِجَ رأسَه من أعلى السور، فنقَّبوا الباشورة فسقطت، وتقَدَّموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنجُ ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، وتسلم الحِصنَ منهم منتصَفَ ذي القعدة، وسَيَّرَهم إلى صور, واجتمع للمُسلمين بفَتحِ كوكب وصفد من حدِّ أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصِلُ بينه غيرُ مدينة صور، وجميعُ أعمال أنطاكية سوى القصير. قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كلُّ صنديد، فاشتَدَّت شوكتُهم، وحَمِيَت جمرتهم، وتابعوا الرسُلَ إلى مَن بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستَغيثونَ ويَستَنجِدونَ، والأمدادُ كُلَّ قليل تأتيهم، وكان ذلك كُلُّه بتفريطِ صلاحِ الدين في إطلاقِ كُلِّ مَن حصره، حتى عَضَّ بَنانَه نَدَمًا وأسفًا حيث لم ينفَعْه ذلك".
فتح حصن بكاس والشغر على يد صلاح الدين .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فرغ صلاحُ الدينِ مِن أمرِ قلعةِ صهيون، سار في ثالث جمادى الآخرة، فوصلَ إلى قلعة بكاس فرأى الفرنجَ قد أخلَوها، وتحصَّنوا بقلعة الشغر، فمَلَك قلعةَ بكاس بغيرِ قتالٍ، وتقَدَّمَ إلى قلعة الشغر وحصَرَها، وهي وبكاس على الطريقِ السَّهلِ المسلوكِ إلى اللاذقيَّة وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاحُ الدين من بلاد الشام الإسلاميَّة، فلما نازلها رآها منيعةً حصينة لا تُرام، ولا يُوصَلُ إليها بطريقٍ من الطرق، إلَّا أنَّه أمر بمزاحفتِهم ونَصْبِ منجنيقٍ عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيقِ، فلم يَصِلْ من أحجاره إلى القلعةِ شَيءٌ إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمونَ عليه أيامًا لا يَرَونَ فيه طمعًا، وأهلُه غير مهتمِّينَ بالقتال لامتناعِهم عن ضررٍ يتطَرَّقُ إليهم، وبلاءٍ ينزل عليهم، فبينما صلاحُ الدين جالِسٌ، وعنده أصحابُه إذ أشرف عليهم فرنجيٌّ ونادى بطَلَبِ الأمان لرسولٍ يحضُرُ عند صلاح الدين، فأجيبَ إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارَهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنَعُهم وإلَّا سَلَّموا القلعةَ بما فيها من ذخائِرَ ودوابَّ وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائِنَهم على الوفاءِ به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتَّفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالتهم أنَّهم أرسلوا إلى البيمند، صاحِبِ أنطاكيَّةَ، وكان هذا الحِصنُ له، يُعَرِّفونَه أنهم محصورون، ويَطلُبونَ منه أن يدفَعَ عنهم المسلمين، فإن فعل وإلَّا سَلَّموها، وإنما فعلوا ذلك لرعبٍ قَذَفه اللهُ تعالى في قلوبهم، وإلَّا فلو أقاموا الدهرَ الطويلَ لم يصِلْ إليهم أحد، ولا بلغ المسلمونَ منهم غَرَضًا، فلمَّا تسلم صلاح الدين الحِصنَ سَلَّمه إلى أميرٍ يقال له قلج، وأمَرَه بعمارتِه ورحَلَ عنه.
فتح قلعة برزية على يد صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لَمَّا رحل صلاحُ الدين مِن قلعةِ الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وُصِفَت له، وهي تقابِلُ حِصنَ أفامية، وتناصِفُها في أعمالها، وبينهما بحيرةٌ تجتَمِعُ مِن ماءِ النهر العاصي وعيونٌ تتفَجَّرُ من جبل برزية وغيره، وكان أهلُها أضَرَّ شَيءٍ على المسلمين؛ يقطعونَ الطَّريقَ، ويبالِغونَ في الأذى، فلمَّا وصل إليها نزل شرقيَّها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم رَكِبَ من الغدِ وطاف عليها لينظُرَ مَوضِعًا يقاتِلُها منه، فلم يجِدْ إلَّا من جهةٍ، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهلُ القلعة عليها منجنيقًا بِطُولها، فلما رأى صلاح الدين أنهم لن ينتَفِعوا بالمنجنيق لارتفاعِ القلعة، عزمَ على الزَّحفِ ومكاثرةِ أهلِها بجُموعِه، فقسَّم عسكَرَه ثلاثة أقسام: يزحَفُ قِسمٌ، فإذا تَعِبوا وكلُّوا عادوا وزحف القِسمُ الثاني، فإذا تَعِبوا وضَجِروا عادوا وزحفَ القِسمُ الثَّالِثُ، ثم يدور الدورَ مَرَّةً بعد أخرى حتى يتعَبَ الفِرنجُ ويَنصَبوا، فإنَّهم لم يكن عندهم من الكثرةِ ما يتقَسَّمونَ كذلك، فإذا تَعِبوا وأعيَوا سَلَّموا القلعةَ، فلما كان الغدُ- وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة- تقَدَّم أحَدُ الأقسامِ، وخرج الفرنجُ مِن حصنهم، فقاتَلَهم على فصيلِهم، ورماهم المسلِمونَ بالسهام، ومَشَوا إليهم حتى قَرُبوا إلى الجبل، فلما قاربوا الفرنجَ عَجَزوا عن الدنوِّ منهم لخشونةِ المرتقى، وتسَلَّط الفرنجُ عليهم؛ لعُلوِّ مكانِهم، بالنشابِ والحجارةِ، فلمَّا تَعِبَ هذا القِسمُ انحدروا، وصَعِدَ القسم الثاني، وكانوا جلوسًا ينتظرونَهم، فقاتلوهم إلى قريبِ الظُّهرِ، ثمَّ تَعِبوا ورجعوا، فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقَدَّم إليهم يردُّهم، وصاح في القسمِ الثالث، وهم جلوسٌ ينتظرون نوبَتَهم، فوثبوا مُلَبِّين، وساعدوا إخوانَهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنجُ ما لا قِبَلَ لهم به، وكان أصحابُ عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضًا معهم، فحينئذٍ اشتَدَّ الأمرُ على الفرنجِ، وبلغت القلوبُ الحناجِرَ، وكانوا قد اشتَدَّ تَعَبُهم ونَصَبُهم، فظهر عجزُهم عن القتال، وضَعفُهم عن حَملِ السلاحِ؛ لشدَّةِ الحرِّ والقتال، فخالطهم المسلمونَ، فعاد الفرنجُ يدخلون الحِصنَ، فدخل المسلمون معهم، فملكوا الحِصنَ عَنوةً وقَهرًا، ودخل الفرنجُ القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نَقبَها، وكان الفرنجُ قد رفعوا مَن عندهم من أسرى المسلمينَ إلى سطحِ القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلمَّا سَمِعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبَّروا في سطحِ القلة، وظنَّ الفِرنجُ أنَّ المسلمينَ قد صعدوا على السطحِ، فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسرِ، فملكها المسلمونَ عَنوةً، ونَهَبوا ما فيها، وأسَرُوا وسَبَوا من فيها، وأخذوا صاحِبَها وأهلَها، وألقى المسلمونَ النار في بعض بيوتِهم فاحترقت، وأمَّا صاحِبُ برزية، فإنَّه أُسِرَ هو وامرأتُه وأولاده، فأطلقهم صلاحُ الدين.
فتح سرمينية على يد الظاهر غازي بن صلاح الدين .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لما كان صلاحُ الدين مشغولًا بفَتحِ القِلاعِ والحُصونِ التي بيَدِ الفِرنجِ، سَيَّرَ وَلَدَه الظاهر غازي، صاحِبَ حلب، فحصر سرمينية، وضيَّق على أهلها، واستنزلهم على قطيعةٍ قَرَّرَها عليهم، فلمَّا أنزَلَهم وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحِصنَ وعفى أثَرَه وعاليَ بنيانه، وكان فيه وفي هذه الحصونِ مِن أسارى المسلمين الجَمُّ الغفيرُ، فأُطلِقوا وأُعطوا كِسوةً ونَفقةً، وكان فَتحُه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
صلاح الدين الأيوبي يفتح قلعة درب ساك .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
بعد أن فتح صلاحُ الدين حِصنَ برزية رحل عنه من الغَدِ، فأتى جسرَ الحديد، وهو على النهرِ العاصي، بالقُربِ مِن أنطاكيةَ، فأقام عليه حتى وافاه من تخَلَّفَ عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامِنَ رجب، وهي مِن معاقِلِ الداوية الحصينةِ وقلاعِهم التي يدَّخِرونَها لحماياتهم عند نزول الشدائد، فلما نزل عليها نصَبَ المجانيقَ، وتابع الرميَ بالحجارة، فهَدَمَت من سورِها شيئًا يسيرًا، فلم يبالِ مَن فيه بذلك، فأمر بالزَّحفِ عليها ومهاجَمتِها، فبادرها العسكرُ بالزَّحفِ وقاتلوها، وكشَفوا الرجالَ عن سورها، وتقَدَّم النقَّابون فنقبوا منها برجًا وعَلِقوه- حازوه- فسَقَط واتَّسعَ المكان الذي يريد المقاتِلةُ أن يدخلوا منه، وعادوا يومَهم ذلك، ثم باكروا الزَّحفَ من الغد، وكان مَن فيه قد أرسلوا إلى صاحِبِ أنطاكية يستنجِدونَه، فصبروا، وأظهروا الجَلَد، وهم ينظرونَ وصولَ جوابه إمَّا بإنجادِهم وإزاحةِ المسلمين عنهم، وإما بالتخلِّي عنهم ليقومَ عُذرُهم في التسليم، فلمَّا عَلِموا عَجزَه عن نصرتهم، وخافوا هجومَ المُسلِمينَ عليها، وأخْذَهم بالسيف، وقَتْلَهم وأسْرَهم، ونهْبَ أموالهم، طلبوا الأمان، فأمَّنَهم على شرط أن لا يخرج أحدٌ إلَّا بثيابه التي عليه بغيرِ مالٍ ولا سلاحٍ، ولا أثاثِ بَيتٍ، ولا دابةٍ، ولا شيءٍ مما بها، ثم أخرجَهم منه وسَيَّرَهم إلى أنطاكية، وكان فتحُه تاسع عشر رجب.
صلاح الدين الأيوبي يفتح قلعة بغراس .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لَمَّا فرغ صلاحُ الدينِ مِن أمْرِ قلعةِ دَربِ ساك سار إلى قلعة بغراس، فحصرها، وجعل أكثَرَ عَسكَرِه يزكًا- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- مقابل أنطاكية، يُغيرونَ على أعمالها، وكانوا حَذِرينَ مِن الخوف من أهلِها إن غفلوا؛ لقربهم منها، وصلاحُ الدين في بعض أصحابِه على القلعة يقاتِلُها، ونصَبَ المجانيقَ، فلم يؤثِّرْ فيها شيئًا لعُلُوِّها وارتفاعها، فغلب على الظُّنونِ تعذُّرُ فَتحِها وتأخُّر مِلكِها، وشَقَّ على المسلمين قِلَّةُ الماء عندهم، إلَّا أنَّ صلاحَ الدين نَصَب الحِياضَ، وأمَرَ بحَملِ الماء إليها، فخَفَّف الأمرَ عليهم، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فُتِحَ باب القلعة، وخرجَ منه إنسانٌ يطلُبُ الأمانَ ليحضُرَ، فأُجيبَ إلى ذلك، فأذِنَ له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لِمَن في الحِصنِ حتى يسَلِّموه إليه بما فيه على قاعدة قلعةِ درب ساك، فأجابَهم إلى ما طلبوا، فعاد الرسول ومعه الأعلامُ الإسلاميَّة، فرُفِعَت على رأس القلعة، ونَزَل من فيها، وتسَلَّم المسلمون القلعةَ بما فيها من ذخائرَ وأموالٍ وسلاحٍ، وأمَرَ صلاح الدين بتخريبِه، فخُرِّبَ، وكانت مضَرَّتُه عظيمةً على المسلمين؛ فإنَّ ابن ليون صاحِبَ الأرمن خرج إليه من ولايتِه وهو مجاوِرُه، فجَدَّد عِمارَتَه وأتقَنَه، وجعل فيه جماعةً مِن عسكره يُغيرونَ منه على البلاد، فتأذَّى بهم السوادُ الذي بحلب.
الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكية .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
لما فتح صلاح الدين بغراس عزم على التوجُّهِ إلى أنطاكيَّةَ وحَصرِها، فخاف البيمند صاحِبُها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاحِ الدين يطلُبُ الهدنة، وبذَلَ إطلاقَ كُلِّ أسيرٍ عنده من المسلمين، فاستشار مَن عنده من أصحابِ الأطراف وغيرهم، فأشار أكثَرُهم بإجابته إلى ذلك؛ ليعود النَّاسُ ويستريحوا ويجَدِّدوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانيةَ أشهُرٍ، وسَيَّرَ رسولَه إلى صاحِبِ أنطاكية يستحلِفُه، ويُطلِقُ مَن عنده من الأسرى، وكان صاحِبُ أنطاكية في هذا الوقتِ أعظَمَ الفرنج شأنًا، وأكثَرَهم ملكًا، وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حَلَب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرَّق العساكِرَ الشَّرقيَّةَ، ثم رحل من حلب إلى دمشق، ودخل دمشقَ أوَّلَ شهرِ رمضان.
وفاة مؤيد الدولة أسامة بن منقذ الشيزري .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ الكبيرُ، العلَّامة فارِسُ الشام، مجدُ الدِّينِ، سلالةُ الملوك والسلاطين مؤيَّدُ الدولة، أبو المظفَّر أسامة بن الأمير مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الشيزري. وُلِدَ بشيزر سنة 488. أحد الشعراء المشهورين. قيل: كان يحفظ من شعر الجاهليَّة عشرةَ آلاف بيت. قال الذهبي: "سافر إلى مصر, وكان من أمرائِها الشيعة، ثم فارقها وجرت له أمورٌ، وحضر حروبًا ألَّفَها في مجلَّدٍ فيه عبر". قال يحيى بن أبي طيئ الشيعي في (كتابه تاريخ الشيعة): "كان ابن منقذ إماميًّا، حسن العقيدة، إلَّا أنه كان يداري عن منصبه، ويُتاقي". كان ابن منقذ عُمُره تاريخًا مستقلًّا وحده، وكانت داره بدمشق، وكانت مَعقِلًا للفضلاء ومنزِلًا للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعانٍ فائقة، ولديه عِلمٌ غزير، وعنده جُودٌ وفضل كثير، وكان من أولادِ ملوك حصن شيزر، وهذا الحِصنُ قريب من حماة، وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونَه من أيام صالح بن مرداس، ثم انتقل إلى مصر فأقام بها مُدَّةً أيام الفاطميين، في وزارة العادل ابن السلار، واتصل ابن منقذ بعبَّاس الصنهاجي، فحَسَّن له قتل زوج أمه ابن السلار، فقتله، ثم ولَّاه الظافر الوزارة فاستبد بالأمرِ, ولَمَّا علم الأمراء والأجناد أنَّ قَتلَ ابن السلار مِن فِعلِ ابن منقذ، عزموا على قتله، فخلا بعباسٍ، وقال له: كيف تصبِرُ على ما أسمع مِن قَبيحِ القول؟ قال: وما ذلك؟ قال: الناسُ يزعمون أن الظافِرَ يفعَلُ بابنك نصر، وكان نصر خصيصًا بالظافر، وكان ملازمًا له ليله ونهاره، وكان من أجملِ النَّاسِ صُورةً، وكان الظافِرُ يُتَّهَم به، فانزعج لذلك عبَّاسٌ وعَظُم عليه، وقال: كيف الحيلةُ؟ قال: تقتُلُه فيذهب عنك العار، فذكر الحالَ لولده نصر، فاتَّفقا على قتلِ الظافر فقَتَله نصر, ثم عاد ابنُ منقذ إلى الشام، فقدم على الملك صلاح الدين في سنة 570, وله نَظمٌ في الذِّروة, منه ديوانُ شعر كبير، وأشعار في مدح السلطان صلاح الدين، وله كتاب لباب الآداب، والبديع، وأخبار النساء، وغيرها، وكان صلاح الدين يفَضِّل ديوانه على سائر الدواوين، وكان في شبيبته شَهمًا شجاعًا، قتل أسدًا وَحدَه مُواجَهةً. توفِّي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان، عن عمر ست وتسعين سنة، ودُفِن شرقي جبل قاسيون.
وفاة الشاعر "سبط ابن التعاويذي" .
العام الهجري : 584 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1188
تفاصيل الحدث:
هو الشاعِرُ الكبير رئيسُ الشعراء، أبو الفتحِ مُحمَّدُ بنُ عبيد الله نشتكين بن عبد الله. الكاتِبُ المعروف بسبط ابن التعاويذي، الشاعِرُ المشهور، كان والده عبيدُ الله من غلمان بني المظفر، وكان اسمُه نشتكين فسَمَّاه ابنه أبو الفتح عبيد الله, وهو سبط أبي محمد المبارك بن علي بن نصر السراج الجوهري الزاهد المعروف بابن التعاويذي- نسبة إلى كتابته التعاويذ وهي الحروز- وإنما نُسِبَ إلى جَدِّه؛ لأنه كفله صغيرًا، ونشأ في حجره فنسب إليه. كانت ولادة أبي الفتح في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة 519, وهو أحدُ فحول شعراء العربية، وشاعِرُ العراق في عصره. ومن أهل بغداد، وقد وُلِدَ وتوفِّيَ فيها. وَلِيَ بها الكتابةَ في ديوان المقاطعات. اشتهر بالمديح وبرع فيه. قال ابن خلكان: "كان أبو الفتح شاعر وقته، لم يكُنْ فيه مثلُه، جمع شِعرُه بين جزالة الألفاظ وعذوبتِها، ورِقَّة المعاني ودقَّتها، وهو في غاية الحُسنِ والحلاوة، وفيما أعتَقِدُ لم يكن قبله بمائتين سنة من يضاهيه، ولا يؤاخِذُني من يقف على هذا الفَصلِ؛ فإن ذلك يختَلِفُ بميل الطباع، ولله القائلُ: وللنَّاسِ فيما يَعشَقونَ مذاهِبُ" عمِيَ أبو الفتح في آخر عمره سنة 579، وله في عماه أشعارٌ كثيرة يرثي بها زمان شبابه، وكان قد جمع ديوان شعره بنفسه، ورتَّبه على أربعة فصول قبل العمى، وعَمِلَ له خطبة طريفة. توفي في ثاني شوال سنة أربع، وقيل ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودُفِنَ في باب أبرز ببغداد عاش خمسًا وستين سنة.
استعداد نصارى أوربا في حملة صليبية لاسترداد بيت المقدس .
العام الهجري : 585 العام الميلادي : 1189
تفاصيل الحدث:
كان وصولُ نبأ سقوط مملكةِ بيت المقدس إلى أوروبا كنتيجةٍ لمعركة حطين صاعِقًا لنصارى أوربا. فإنَّ البابا أوربان الثامن ما إن علم بما حدث حتى توفي من وقْعِ الصدمة. ودعا خليفَتَه البابا غريغوريوس الثامن بمنشور باباوي إلى حملةٍ صليبية جديدة، وأمَرَهم بالصيام كلَّ أسبوع في يوم الجمعة على امتدادِ خمس سنوات، كما أمَرَهم بالامتناع كليًّا في هذه الحقبة من الزَّمَنِ عن أكل اللحم مرَّتينِ في الأسبوع، والدعوة إلى المشاركة في حربٍ صليبية لاسترداد بيت المقدس, وقد قام بهذه الدعوة ببالغِ الهِمَّة الكاردينال إنريكو من ألبانو، وبعد شهرين حلَّ البابا كليمنت الثالث مكانَ غريغوريوس، واستكمل المهمَّةَ، وقام الكاردينالات بالتطوافِ مَشيًا على الأقدام في عموم فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فجهَّزَ نصارى أوروبا ثلاثَ حملات ألمانية وإنكليزية وفرنسية، كل ذلك لمحاولة استرداد بيت المقدس، وصَلَت الحملتان الإنكليزية والفرنسية بحرًا سنة 586 إلى عكا، وساهمت في الحصار البحري، وكان فيهم ريتشارد المعروف بقلب الأسد، أما الحملة الألمانية فكان مَلِكُهم فريدريك الأول بربروسا، أوَّل من تحرك من ملوك أوربا لنصرة بيت المقدس وجمع عساكِرَه وسار للجهاد بزعمه. تحركت القوات الألمانية قبل غيرِها وهم من أكثر الحَمَلات عددًا، وأشدِّهم بأسًا، فكان طريقُهم على القسطنطينية، فأرسل ملكُ الروم بها إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه الخبر ويَعِدُ أنَّه لا يمَكِّنُه من العبور في بلاده، فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجَزَ مَلِكُها عن منعه من العبورِ لكثرة جموعه، لكنَّه منع عنهم الميرة، ولم يمكِّنْ أحدًا من رعيَّتِه من حمل ما يريدونَه إليهم، فضاقت بهم الأزوادُ والأقوات، وساروا حتى عَبَروا خليجَ القسطنطينية، وصاروا على أرضِ بلاد الإسلام، وهي مملكةُ الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمانُ الأوج، فما زالوا يسايرونَهم ويَقتُلونَ مَن انفرد ويَسرِقونَ ما قدروا عليه، وكان الزمانُ شتاء والبرد يكونُ في تلك البلاد شديدًا، والثلجُ متراكمًا، فأهلكهم البردُ والجوع والتُّركمانُ، فقَلَّ عَدَدُهم، فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم المَلِك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنَعَهم، فلم يكُن له بهم قوَّة، فعاد إلى قونية، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثَرِه، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هديةً وقالوا له: ما قصَدْنا بلادَك ولا أردناها، وإنما قصَدْنا بيت المقدس، وطلبوا منه أن يأذن لرعيَّتِه في إخراجِ ما يحتاجون إليه مِن قُوتٍ وغيره، فأذِنَ في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشَبِعوا، وتزوَّدوا، وساروا، وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحِبُها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمَدَّهم بالأقوات والعلوفات، وحَكَّمَهم في بلاده، وأظهر الطاعةَ لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقِهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل مَلِكُهم إليه ليغتسل، فغَرِقَ في مكانٍ منه لا يبلغ الماءُ وسَطَ الرجُل، وكفى اللهُ شَرَّه، وكان معه ولدٌ له، فصار ملكًا بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابُه عليه، فأحب بعضُهم العود إلى بلاده، فتخَلَّفَ عنه، وبعضُهم مال إلى تمليكِ أخٍ له، فعاد أيضًا، وسار فيمن صَحَّت نيتُه له، فعَرَّضَهم، وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا، ووقَعَ فيهم الوباءُ والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نُبِشوا من القبورِ، فتبَرَّمَ بهم صاحبُها، وحَسَّنَ لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكَّا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمونَ، وخرج أهلُ حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، ومات أكثَرُ مَن أُخِذَ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أيامًا، فكَثُرَ فيهم الموت، فلم يبقَ منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنجِ الذين على عكا، ولَمَّا وصولوا رأوا ما نالهم في طريقِهم وما هم فيه من الاختلافِ عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكِبُ ولم ينجُ منهم أحدٌ.
محاولات صلاح الدين الأيوبي لتحرير المناطق الساحلية من الصليبين .
العام الهجري : 585 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1189
تفاصيل الحدث:
خرج السلطانُ صلاح الدين الأيوبي من دمشق في ثالث ربيع الأول, ونازل لشقيف أرنون, وكان منزعجًا لقرب انقضاء الهدنة مع بيمند صاحِبِ أنطاكيةَ، ولاجتماع الفرنجِ بصور، واتِّصال الأمداد بهم، فكانت للمُسلمين مع الفرنجِ في بلادهم الساحليَّة عِدَّةُ وقائع، قُتِلَ فيها من الفريقين عِدَّةٌ، وكثُرَ القتل في المسلمين، واشتدت نكايةُ الفرنج فيهم، فرحل السلطانُ إلى عكا، وقد سبقه الفرنجُ ونزلوا عليها. ونزل السلطان بمرج عكا وصار محاصِرًا للفرنج، والفرنجُ محاصرين للبلد. وتلاحقت به العساكِرُ الإسلامية، والأمداد تصل إلى الفرنجِ مِن البحر. فلم يقدِر السلطانُ على الوصول إلى البلد، ولا استطاع أهلُ عكا أن يصلوا إلى السُّلطان. وشرع السلطانُ في قتال الفرنج من أول شعبان، إلى أن تمكَّنَ من عكا، ودخلها في ثانيه، فما زالت الحربُ قائمةً إلى رابع رمضان. فتحَوَّل إلى الخروبة، وأغلق مَن في عكا من المسلمين أبوابَها، وحفر الفرنج خندقًا على مُعسكَرِهم حول عكا من البحرِ إلى البحر، وأداروا حولهم سورًا مستورًا بالستائر، ورتَّبوا عليه الرجال، فامتنع وصولُ المسلمين إلى عكا. وقدم العادل بعسكرِ مِصرَ في نصف شوال، ثم قَدِمَ أسطول من مصر إلى عكا في خمسين قطعة، وعليه الحاجِبُ لؤلؤ في منتصف ذي القعدة، فبدَّدَ شمل مراكب الفرنج، وظفِرَ المسلمون بطستين- سفينتين كبيرتين- للفرنج. فاستظهر المسلمون الذين بعكا، وقَوِيَ جأشهم بالأسطول، وكانوا نحو العشرة آلاف. وبعث السلطان إلى الأطراف يحثُّ الناس على الجهاد، وأرسل إلى أخيه سيف الإسلام طغتكين باليمن، يطلب منه الإعانةَ بالمال، وإلى مظفَّر الدين قر أرسلان صاحب العجم، وكتب إلى الخليفة. ووصلت الأمدادُ إلى الفرنج، وورد الخبَرُ من حلب بخروج ملك الألمان من القسطنطينيَّة في عِدَّة عظيمة تتجاوز الألف ألف، يريدون البلاد الإسلاميَّة، فاشتد الأمرُ على السلطان ومَن معه من المسلمين.
حصار صلاح الدين حصن شقيف أرنون .
العام الهجري : 585 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1189
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين إلى شقيف أرنون، وهو من أمنَعِ الحصون، ليحصُرَه، فنزل بمرج عيون، فنزل صاحِبُ الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، وكان أرناط هذا من أعظَمِ النَّاسِ دهاءً ومكرًا، فدخل إليه واجتمع به، وأظهر له الطاعةَ والمودة، وقال إنَّه سيُسَلِّمُ له الحِصنَ، فظن صلاحُ الدين صِدقَه، فأجابه إلى ما سأل، فاستقر الأمرُ بينهما أن يسلِّمَ الشقيفَ في جمادى الآخرة، وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد، وكان أرناط في مدة الهدنة يشتري الأقواتَ مِن سوق العسكَرِ والسلاحَ وغير ذلك مما يُحصِّن به شقيف، فلما قارب انقضاءُ الهدنة تقدَّمَ صلاح الدين من مُعسكَرِه إلى القرب من شقيف أرنون، وأحضر عنده أرناط وقد بَقِيَ من الأجل ثلاثة أيام، فقال له في معنى تسليمِ الشقيف، فاعتذر بأولادِه وأهله، وأنَّ المركيس لم يمكِّنْهم من المجيء إليه، وطلب التأخيرَ مُدَّةً أخرى، فحينئذ عَلِمَ السلطان مَكْرَه وخداعه، فأخذه وحبسه، وأمَرَه بتسليم الشقيف، فطلب قسيسًا- ذكَرَه- لحَملِه رسالةً إلى من بالشقيف ليُسَلِّموه، فأحضروه عنده، فسارَّه بما لم يعلموا، فمضى ذلك القسيسُ إلى الشقيف، فأظهر أهلُه العصيان، فسيَّرَ صلاح الدين أرناط إلى دمشقَ وسَجَنَه، وتقَدَّم إلى الشقيف فحصَره وضَيَّقَ عليه، وجعل عليه من يحفَظُه ويمنَعُ عنه الذخيرة والرِّجال.
وقعة مقدمة جيش صلاح الدين الأيوبي مع الفرنج .
العام الهجري : 585 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1189
تفاصيل الحدث:
لما كان صلاح الدين بمرج عيون، وعلى الشَّقيف، جاءته كُتُبٌ مِن أصحابه الذين جعَلَهم يزكًا- مُقَدِّمة جيشه- في مقابل الفرنجِ على صور، يُخبِرونَه فيها أنَّ الفرنج قد أجمعوا على عبورِ الجِسرِ الذي لصور، وعزموا على حصارِ صيدا، فسار صلاح الدين جريدةً في شجعان أصحابه، سوى من جعَلَه على الشقيف، فوصل إليهم وقد فات الأمرُ، وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصِدِهم، فلَقِيَهم اليزك على مضيق هناك، وقاتلوهم ومنعوهم، وجرى لهم معهم حَربٌ شديدة وأسروا من الفرنجِ جماعةً، وقتلوا جماعةً، وقُتِل من المسلمين أيضًا جماعة، ولما وصل صلاح الدينِ إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعةُ أقام عندهم في خيمةٍ صغيرة، ينتظر عودةَ الفرنج لينتَقِمَ منهم، ويأخذ بثأرِ مَن قتلوه من المسلمين، ثم حصَلَت بينهم عدَّةُ وقعات.
حصار الفرنج لعكا ومشاركة قوات الألمان في الحصار .
العام الهجري : 585 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1189
تفاصيل الحدث:
لَمَّا كَثُرَ جَمعُ الفرنج بصور؛ بسَبَبِ أن صلاح الدين كان كُلَّما فتح مدينةً أو قلعةً أعطى أهلَها الأمان، وسيَّرَهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم، فاجتمع بها منهم عالَمٌ كثير، ثم إنَّ الرهبان والقسوس وخلقًا كثيرًا من مشهوريهم وفرسانهم لَبِسوا السواد، وأظهروا الحُزنَ على خروج بيت المقدس من أيديهم، وأخَذَهم البطرك الذي كان بالقُدس، ودخل بهم بلادَ الفرنج يطوفها بهم جميعًا، ويستنجدون أهلَها، ويستجيرون بهم، ويحثُّونَهم على الأخذ بثأر بيت المقدس، وصَوَّروا المسيح، عليه السلام، وجعلوه مع صورةِ عربيٍّ يَضرِبُه، وقد جعلوا الدماءَ على صورة المسيح، عليه السلام، وقالوا لهم: هذا المسيحُ يَضرِبُه محمَّدٌ نبي المسلمين، وقد جَرَحه وقتَلَه، فعَظُمَ ذلك على الفرنج، فحَشَروا وحشدوا حتى النساء، ومن لم يستطع الخروجَ استأجر من يخرُجُ عِوَضَه، أو يعطيهم مالًا على قَدرِ حالهم، فاجتمع لهم مِن الرجال والأموال ما لا يتطَرَّق إليه الإحصاء، فهذا كان سببَ خروجهم، فلما اجتمعوا بصور تموج بعضُهم في بعض، ومعهم الأموالُ العظيمة، والبحرُ يَمُدُّهم بالأقوات والذخائر، والعُدد والرِّجال من بلادهم، فضاقت عليهم صور، باطِنُها وظاهِرُها، فأرادوا قَصدَ صيدا، فعادوا واتفقوا على قصد عكَّا ومُحاصرتها ومصابرتها، فساروا إليها وكان رحيلُهم ثامن رجب، ونزولهم على عكا في منتَصَفه، ولما كانوا سائرين كانت يزك- مقدمة الجيش- المسلمين يتخطَّفونَهم، ويأخذون المنفرِدَ منهم، ولَمَّا رحلوا جاء الخبَرُ إلى صلاح الدين برحيلهم، فسار حتى قارَبَهم، وساروا على طريق كفر كنا، فسبقهم الفرنجُ، وكان صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنجِ جماعةً مِن الأمراء يسايرونَهم ويناوشونَهم القتالَ ويتخطَّفونَهم، ولم يُقدِم الفِرنجُ عليهم مع قِلَّتِهم، ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنجَ قد نزلوا عليها من البَحرِ إلى البحر من الجانب الآخر، ولم يبق للمسلمينَ إليها طريق، وسَيَّرَ الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكِرِ، فأتاه عسكر الموصل، وديار بكر، وسنجار وغيرها من بلد الجزيرة، وأتاه تقيُّ الدين ابن أخيه، وأتاه مظفر الدين بن زين الدين، وهو صاحِبُ حران والرها، وكانت الأمدادُ تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنجَ في البحر، وكان بين الفريقين مُدَّة مُقامِهم على عكا حروبٌ كثيرةٌ ما بين صغيرة وكبيرة، منها اليومُ المشهور، ومنها ما هو دون ذلك، ولما نزل السلطانُ عليهم لم يقدِرْ على الوصول إليهم، ولا إلى عكا، حتى انسلخ رجَب، ثم قاتَلَهم مُستهَلَّ شعبان، فحمل عليهم تقيُّ الدين وأخلوا نصف البلد، وملك تقيُّ الدين مكانهم، والتصق بالبلد، وصار ما أخلَوه بيده، ودخل المسلمونَ البلد، وخرجوا منه، واتَّصَلت الطرق، وزال الحَصرُ عَمَّن فيه، وأدخل صلاحُ الدين إليه من أراد من الرِّجال وما أراد من الذخائر والأموال والسلاحِ وغير ذلك، ثم إن جماعةً مِن العرب بلغهم أن الفرنجَ تَخرُجُ مِن الناحية الأخرى إلى الاحتطابِ وغَيرِه من أشغالِهم، فكَمَنوا لهم في معاطِفِ النهر ونواحيه سادس عشر شعبان، فلما خرج جمعٌ مِن الفرنج على عادتِهم حَمَلَت عليهم العرب، فقتلوهم عن آخِرِهم، وغَنِموا ما كان معهم، وحملوا الرؤوسَ إلى صلاح الدين، أمَّا الوقعة الكبرى على عكا ففي العشرين من شعبان، كل يوم يُغادون القتال مع الفرنج ويروحونه، والفرنجُ لا يَظهَرونَ مِن معسكرهم ولا يفارِقونَه، وكان كثيرٌ من عسكر صلاح الدين غائبًا عنه، وكان هذا مما أطمَعَ الفرنج في الظهورِ إلى قتال المسلمين، فخرج الفرنجُ مِن معسكرهم كأنَّهم الجرادُ المنتَشِر، يدبُّون على وجه الأرض، قد ملؤوها طولًا وعرضًا، وطلبوا ميمنةَ المسلمين وعليها تقيُّ الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلما رأى الفرنجَ نحوه قاصدين حَذِرَ هو وأصحابه، فتَقَدَّموا إليه، فلما قَرُبوا منه تأخَّرَ عنهم، فلما رأى صلاحُ الدين الحالَ، وهو في القَلبِ، أمَدَّ تقي الدين برجالٍ مِن عنده ليتقَوَّى بهم، وكان عسكَرُ ديار بكر وبعض الشرقيين في جناحِ القلب، فلما رأى الفرنجُ قِلَّةَ الرجال في القلب، وأن كثيرًا منهم قد سار نحوَ الميمنة مَدَدًا لهم، عطفوا على القلب، فحَمَلوا حملة رجل واحد، فاندفعت العساكِرُ بين أيديهم منهزمينَ، وثَبَت بعضهم، ولم يبقَ بين أيديهم في القَلبِ مَن يرُدُّهم، فقصدوا التلَّ الذي عليه خيمةُ صلاح الدين، فقَتَلوا من مَرُّوا به، ونهبوا، وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعةً، وانحدروا إلى الجانِبِ الآخر من التل، فوضعوا السيفَ فيمن لقوه، وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أنَّ الفرنجَ لم يلقوا خيمةَ صلاح الدين، ولو لَقُوها لَعَلِمَ الناس وصولهم إليها، وانهزم العساكِرُ بين أيديهم، فكانوا انهزموا أجمعون، ثم إن الفرنج نظروا وراءَهم، فرأوا أمدادَهم قد انقَطَعت عنهم، فرجعوا خوفًا أن ينقَطِعوا عن أصحابهم، وكان سَبَبُ انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلَتَهم، فاحتاج بعضُهم أن يقفَ مُقابِلَها، وحملت ميسرةُ المسلمين على الفرنج، فاشتغل المَدَدُ بقتال من بها عن الاتصالِ بأصحابهم، وعادوا إلى طرفِ خنادِقِهم، فحملت الميسرةُ على الفرنج، الواصلين إلى خيمة صلاح الدين، فصادفوهم وهم راجِعونَ، فقاتلوهم، وثار بهم غلمان العسكر، وكان صلاح الدين لما انهزم القلبُ قد تبعهم يناديهم، ويأمُرُهم بالكَرَّة، ومعاودة القتال، فاجتمع معه منهم جماعةٌ صالحة، فحَمَل بهم على الفرنج من وراء ظهورِهم وهم مشغولون بقتال الميسرة، فأخذتهم سيوفُ اللهِ مِن كلِّ جانب، فلم يُفلِتْ منهم أحد، بل قُتِلَ أكثرهم، وأُخِذَ الباقون أسرى، وأما المنهَزِمون من المسلمين، فمنهم من رجعَ مِن طبرية، ومنهم من جاز الأردن وعاد، ومنهم من بلغ دمشق، أمَّا رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكُّنُهم من حصر عكا، فلما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير، جافت الأرضُ مِن نتن ريحِهم، وفسد الهواء والجو، وحَدَث للأمزجة فساد، وانحرف مزاجُ صلاح الدين، وحدث له قولنج مُبرح كان يعتاده، فحضر عنده الأمراءُ، وأشاروا عليه بالانتقالِ مِن ذلك الموضع، ووافقهم الأطباءُ على ذلك، فأجابهم إليه فرحلوا إلى الخروبة رابِعَ شهر رمضان، وأمر من بعكا من المسلمين بحِفظِها، وإغلاق أبوابها، والاحتياط، وأعلمَهم بسبب رحيله. ثم وصلت عساكِرُ مِصرَ والأسطول المصري في البَحرِ في منتصف شوال، ومُقَدَّمُها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، فلما وصل قَوِيَت نفوس الناس به وبمن معه، واشتَدَّت ظهورهم، وأحضَرَ معه من آلات الحصار، من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس، شيئًا كثيرًا، ومعهم من الرجَّالة الجمُّ الغفير، وجمع صلاحُ الدين من البلاد الشامية راجلًا كثيرًا، وهو على عزمِ الزحف إليهم بالفارِسِ والراجل، ووصَلَ بعده الأسطولُ المصري، ومُقَدَّمه الأمير لؤلؤ، فوصل بغتةً، فوقع على سفينة كبيرة للفرنج، فغَنِمَها، وأخذ منها أموالًا كثيرةً وميرةً عظيمة، فأدخلها إلى عكا، فسَكَنت نفوسُ من بها بوصولِ الأسطول وقَوِيَ جنانُهم.
وصول الحملة الصليبية الثالثة إلى مدينة عكا .
العام الهجري : 586 العام الميلادي : 1190
تفاصيل الحدث:
قامت الحملةُ الصَّليبيَّةُ الثالثة من سنة 586 إلى سنة 588، واشترك فيها بوجهِ الخصوص الإقطاعيُّون الكبار والفُرسان من بلدان أوروبا الغربية، قاد الجيوشَ الصليبية كُلٌّ مِن ملكِ فرنسا: فيليب أوغست الثاني، ملك إنجلترا: ريتشارد الذي لُقِّبَ لاحقًا بقلب الأسد، وملك الجرمان (ألمانيا): فريدريك الأول بربروسا، وصلت القوات الألمانية قبل غيرها سنة 585, لكن بربروسا غَرِقَ في نهر اللامس؛ مِمَّا أحدث ربكةً في صفوف الصليبيين، فعاد بعضُهم وجحد بعضهم الآخَرُ بالمسيحيَّة فاعتنق الوثنيَّة، وأكمل الباقون حتى هلك معظم جيشه. أما الفرنسيون والإنجليز، فلم ينتهوا من الاستعدادِ للحملة حتى سنة 586، فعبَرَ ريتشارد وحاشيته مضيقَ المانش، واجتمعت الفصائِلُ الإنجليزية والفرنسية في مدينةِ فيزليه، ولكن القواتِ انفصَلَت وتوجَّه الفرنسيون إلى جنوة والإنجليز إلى مرسيليا حيث كان أسطول ريتشارد المكون من 200 سفينة ينتَظِرُ بعد التفافه حول إسبانيا، ومن هناك انطلق الجيشان إلى صقلية، حيث وصلوا شتاء، فقَرَّروا قضاء الشتاء هناك، وفي تلك الفترة، كان ريتشارد يعمَلُ لأجل توسيع نفوذِه بالسيطرة على صقليَّة؛ مما أدى إلى تردِّي العلاقات بين قائدي الجيشين. بعد حوالي ستة أشهر في صقلية أبحر فيليب الثاني من مسينا, ولحق به حليفُه الذي لم يعُدْ رفيق طريقه بعد 10 أيام، فمضى الفرنسيون إلى صور، أما ريتشارد فاحتَلَّ في طريقه جزيرة قبرص، الأمر الذي أصبح ذا أهميَّة كبرى فيما بعد، فإنَّ ممالك الصليبيين لم تكُنْ لتصمُدَ لِمِئة سنة أخرى إلا بفَضلِ الدعم العسكري من قُبرُص. قام الصليبيون بحصار عكَّا، فكان الفرنسيون وفصائل الأسياد المحليِّين والألمان والدينماركيون والفلمنكيون الإيطاليون، واستمر حصار هذه القلعة المنيعة أشهُرًا، ساهم في طولِ هذا الحصار الخلافُ الداخلي في صفوف الصليبيِّين، ووصل ريتشارد إلى عكَّا، فبدأ الصليبيُّونَ بهجوم عام، كان ريتشارد من اقترحه، وفي اليوم التالي استسلمت المدينةُ التي أنهكها الحصارُ المديد، وجَرَت مذبحةٌ بأمر ريتشارد وتحت قيادتِه في عكَّا، قتل فيها رجالُه أكثَرَ مِن ألفي مسلم أخذوهم مِن صلاح الدين بعد فَتحِ عكا كرهائِنَ. وتلا ذلك محاولاتٌ قادها ريتشارد لاحتلالِ مُدُن أخرى، باءت بالفَشلِ وجسَّدت ريتشارد في صورةٍ بنَزعِه إلى سَفكِ الدماء.
=========
114.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
ملك البرتغال مدينة شلب بالأندلس وعودها إلى المسلمين .
العام الهجري : 586 العام الميلادي : 1190
تفاصيل الحدث:
مَلَك ابن الرنك، وهو من ملوك الفرنج البرتغال، غَربَ بلاد الأندلس، مدينة شلب، وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس، واستولى عليها، فوصَلَ الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحِبِ المغرب والأندلس، فتجهَّزَ في العساكِرِ الكثيرة وسار إلى الأندلس، وعبَرَ المجاز، وسيَّرَ طائفة كثيرةً مِن عسكره في البحر، ونازلها وحصَرَها، وقاتَلَ مَن بها قتالًا شديدًا، حتى ذَلُّوا وسألوا الأمانَ، فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم، وسَيَّرَ جيشًا من الموحِّدينَ ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج، ففتحوا أربَعَ مُدُن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة، وفتكوا في الفرنج، فخافَهم مَلِكُ طليطلة من الفرنج، وأرسل يطلُبُ الصلح، فصالحه خمسَ سنين، وعاد أبو يوسف إلى مراكش، وامتنع مِن هذه الهدنة طائفةٌ من الفرنج لم يَرضَوها ولا أمكَنَهم إظهارُ الخلاف، فبَقُوا متوقِّفينَ حتى دخَلَت سنة تسعين وخمسمائة، فتحَرَّكوا.
الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسان .
العام الهجري : 586 العام الميلادي : 1190
تفاصيل الحدث:
كان سُلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعَرَّض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين مَلِكَي الغورية، من خراسان، فتجهَّزَ غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبَقِيَ يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجدة، ومرو، وغيرها يريد حربَ سلطان شاه، فلم يزَلْ كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكِرَه وقصد غياث الدين، فتصافَّا واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعضَ بلاده وعاد إلى غزنة.
وقعة الفرنج ويزك- مقدمة الجيش- المسلمين عند أسوار عكا .
العام الهجري : 586 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1190
تفاصيل الحدث:
بعد رحيلِ صلاح الدين عن عكَّا إلى الخروبة لِمَرَضِه، سمع الفرنج أنَّ صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أنَّ عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- عندهم قليلًا، وأنَّ الوحل الذي في مرج عكا كثيرٌ يمنع من سلوكه من أراد أن ينجدَ اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندَقِهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمونَ، وقُتِلَ من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنجُ إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سَمِعَ خبر الوقعة، فندب الناسَ إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكِرُ من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكَّا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنجَ كُلَّ يومٍ لِيَشغَلَهم عن قتال من بعكَّا من المسلمين، فكانوا يقاتِلون الطائفتَينِ ولا يسأمون، وكان الفرنجُ، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخَشَب عالية جدًّا، وعملوا كل برج منها خمسَ طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغَشُوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنَعُ النار من إحراقها، وأصلحوا الطرُقَ لها، وقدَّموها نحو مدينة عكا من ثلاثِ جِهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرَفَت على السور، وقاتَلَ من بالأبراج العالية مِن على السور، فانكشف المُسلمون، وشرع الفرنجُ في طم خندق المدينة، فأشرف البلدُ على أن يملِكَه الفرنج عَنوةً وقهرًا، فأرسل أهلُ عكا إلى صلاح الدين إنسانًا سبَحَ في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيقِ، وما قد أشرفوا عليه من أخْذِهم وقَتْلِهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنجِ وقاتلوهم من جميعِ جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغَلُهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنجُ فرقتين: فرقةٌ تقاتل صلاح الدين، وفِرقةٌ تقاتل أهل عكا، إلَّا أنَّ الأمر قد خَفَّ عمن بالبلد، ودام القتالُ ثمانية أيام متتابعة، آخِرُها الثامن والعشرون من الشهر، وسَئِمَ الفريقان القتال، وملُّوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا، والمسلمون قد تيقَّنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لِما رأوا من عَجزِ مَن فيه عن دفع الأبراج، فإنَّهم لم يتركوا حيلةً إلَّا وعملوها، فلم يُفِدْ ذلك ولم يُغنِ عنهم شيئًا، وتابَعوا رميَ النفطِ الطيار عليها، فلم يؤثِّرْ فيها، فأيقنوا بالبوارِ والهلاك، فأتاهم الله بنصرٍ مِن عنده وإذنٍ في إحراقِ الأبراج، فلما احترق البرجُ الأوَّلُ انتقل إلى الثاني، وقد هَرَب مَن فيه لخوفِهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاحُ الدين يطلب العساكِرَ الشرقيَّة، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحِبُ سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيَّرَه أبوه مقدَّمًا على عسكره وهو صاحِبُ الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحِبُ إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقَدَّم إلى الفرنج بعسكره، وينضَمُّ إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سَمِعَ الفرنج بقُربِه منهم جَهَّزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتِلُه، فركب صلاح الدين في العساكر جميعِها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتَغِلوا بقتاله عن قتالِ الأسطول ليتمَكَّنَ مِن دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قَصدِه بشيء، فكان القتالُ بين الفريقين برًّا وبحرًا، وكان يومًا مشهودًا لم يؤرَّخْ مِثلُه، وأخذ المسلمونَ من الفرنج مركبًا بما فيه من الرِّجالِ والسلاح، وأخذ الفرنجُ من المسلمين مثلَ ذلك، إلا أن القتلَ في الفرنج كان أكثَرَ منه في المسلمين، ووصل الأسطولُ الإسلاميُّ- بحمد الله- سالِمًا.
وقعة للمسلمين مع الفرنج حول عكا .
العام الهجري : 586 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1190
تفاصيل الحدث:
خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.
قتال المسلين للصليبين في شواطئ الشام .
العام الهجري : 587 العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
دخلت سنة سبع وثمانين والسلطان بالخروبة على حصارِ الفرنج، وقَدِمَت عساكر المسلمين من الشرق ومِن بقية البلاد، فرَحَل من الخروبة لاثنتي عشرة بقيت من ربيع الأول إلى تل كيسان وتتابع مجيءُ العساكر. وكملت أبراجُ الفرنج الثلاثة، التي بَنَوها تجاه عكا في مدة سبعة أشهر، وكانت غايةً في القوة والمتانة والارتفاع حتى علت على أسوار البلد، وامتلأت بالعَدَد والعُدَّة، وطَمُّوا كثيرا من الخندق، وضايقوا البلد. واشتَدَّ خَوفُ المسلمين، واشتدت الحربُ بين الفريقين، حتى تمكَّن المسلمون مِن حَرقِ الأبراج الثلاثة بمن فيها من الفرسان، ثم خرج أهل عكا منها، فنَظَّفوا الخندق، وسَدُّوا الثغر، وغَنِموا ما كان في الأبراجِ مِن الحديد، فتَقَوَّوا به، والفرنجُ في غاية الذهول مِمَّا حدث لأبراجهم الثلاثة. وكان بين أسطولِ المصريين وبين مراكب الفرنج عِدَّة معارك، قُتِلَ فيها كثير من الفرنج. ودخل مَلِك الألمان بجيوشه إلى حدود بلاد الإسلام، وقد فَنِيَ منهم كثير، فواقَعَهم عز الدين قلج بن أرسلان السلجوقي، فانكسر منهم، فلَحِقَ به الفرنج إلى قونية وهاجَموها، وأحرقوا أسواقَها، وساروا إلى طرسوس يريدون بيت المقدس، واسترجاع ما أخَذَه منهم السلطان صلاح الدين الأيوبي من البلاد والحصون، فمات بها ملك الألمان, وقام مِن بَعدِه ابنه، فسار إلى أنطاكية. وندب السلطانُ كثيرًا مِمَّن كان معه على حربِ عكا إلى جهة أنطاكية، ووقع فيمن بَقِيَ معه مرض كثير، وأمَرَ بتخريب أسوار طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، فخرب ذلك كله، ونَقَل من كان فيها إلى بيروت وطمع الفرنجُ في السلطان لقِلَّةِ من بقي معه، فركبوا لحَربِه, فكانت للمسلمين معهم حربٌ، انكسر فيها الفرنجُ إلى خيامهم، وقُتِلَ منهم آلاف، فوَهَنَت قواهم. غيرَ أن المدد أتاهم، ونَصَبوا المجانيقَ على عكا، فتحول السلطانُ إلى الخروبة، وسار ابنُ ملك الألمان عن أنطاكية إلى طرابلس في جيوشِه، وركب منها البحرَ إلى عكا، فوصَلَ إليها سادس رمضان، فأقام عليها إلى أن هَلَك ثاني عشر ذي الحجة، بعدما حارب المسلمينَ، فلم ينَلْ منهم كبيرَ غَرَض. ودخل الشتاءُ وقد طالت مدة- البيكار- الحرب، وضجِرَت العساكر من كثرة القتال، فرحل صاحِبُ سنجار وصاحِبُ الجزيرة وصاحِبُ الموصل.
الفرنج يسيطرون على مدينة عكا ويقتلون معظم المسلمين .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
في يومِ الجُمُعة سابِعَ عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنجُ على مدينة عكا، وكان أوَّل وَهَن دخل على مَن بالبلد أنَّ الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثَلَهم وأكبَرَهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليمَ البلدِ بما فيه على أن يُطلِقَ المسلمين الذين فيه، ويُمَكِّنَهم من اللَّحاق بسلطانهم، فلم يجِبْه إلى ذلك، فعاد عليُّ بن أحمد إلى البلد، فوَهَن من فيه، وضَعُفَت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمَّتْهم أنفُسُهم، ثمَّ إن أميرين ممن كانا بعكَّا، لَمَّا رأيا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنجَ لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليلَ جَمَلًا، وركبوا في شيني صغيرٍ، وخرجوا سرًّا من أصحابهم، ولَحِقوا بعسكر المسلمين، وهم عزُّ الدين أرسلان الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناسُ ورأوا ذلك ازدادوا وهنًا إلى وهنِهم، وضعفًا إلى ضَعفِهم، وأيقنوا بالعطب، ثم إنَّ الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليمِ البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشَّرطُ بينهم أن يُطلِقَ مِن أسراهم بعَدَدِ مَن في البلد ليُطلِقوا هم مَن بعكا، وأن يسَلِّمَ إليهم صليبَ الصلبوت، فلم يَقنَعوا بما بذل، فأرسل إلى مَن بعكا من المسلمين يأمُرُهم أن يَخرُجوا مِن عكا يدًا واحدةً ويسيروا مع البحرِ ويَحمِلوا على العدوِّ حملةً واحدة، ويتركوا البلدَ بما فيه، ووعَدَهم أنه يتقَدَّمَ إلى تلك الجهة التي يخرجونَ منها بعساكره، يقاتِلُ الفرنج فيها ليلحقوا به، فلم يدركوا ذلك، وحملوا على الفرنجِ مِن جميع جهاتهم ظنًّا منهم أن الفرنجَ يَشتَغِلونَ عن الذين بعكا، وصلاح الدين يُحَرِّضُهم، وهو في أوَّلِهم، وكان الفرنجُ قد زحفوا من خنادِقِهم ومالوا إلى جهة البلد، فقَرُبَ المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويَضَعونَ السيف فيهم، فوقع الصوتُ فعاد الفرنجُ ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتِلُهم، فاتفقوا على تسليمِ البلد، فلما ملكه الفرنج غَدَروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحَبَسوهم، وأظهروا أنَّهم يفعلون ذلك ليَصِلَ إليهم ما بُذِلَ لهم بالتسليم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يُطلِقوا من عندهم، فعَلِمَ النَّاسُ غَدْرَهم، وإنما يُطلِقونَ غِلمانَ العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبَهُ له، ويمسكون عندهم الأمراءَ وأرباب الأموال، يَطلُبونَ منهم الفداءَ، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهِرِ البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقَصَدوهم، وحملوا عليهم، فانكشَفوا عن موقِفِهم، وإذا أكثَرُ من كان عندهم من المسلمينَ قتلى قد وَضَعوا فيهم السيفَ وقتلوهم واستبقَوا الأمراءَ والمُقَدَّمين ومن كان له مال، وقَتَلوا مَن سواهم من سوادِهم وأصحابِهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصَرَّفَ في المال الذي كان جَمَعَه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
وفاة الفقيه الحنفي أبي بكر بن مسعود الكاساني .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
هو الفقيهُ الحنفي علاءُ الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني أو الكاشاني، وكاسان، ويقال قاشان: بلدة وراء الشاس بها قلعة حصينة، وقد لقب بملك العلماء؛ لبراعته في الفقه. ألَّفَ كتابه "بدائع الصنائع وترتيب الشرائع". تفَقَّه صاحب "البدائع" على محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي المنعوت علاء الدين، وقرأ عليه معظم تصانيفه، مثل "التحفة في الفقه" وغيرها من كتب الأصول، وزوَّجه شيخُه ابنته الفقيهة العالِمة، فقال الفقهاء في عصره: شرَحَ تُحفَتَه وزَوَّجه ابنته, واتَّفق أن علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني سُيِّرَ رسولًا من الروم إلى نور الدين فعرض عليه المقام بحلب والتدريس بالحلوية، فأجابه إلى ذلك ووعده أن يعود إلى حلب بعد رد جواب الرسالة، فعاد إلى الروم. ثم قدم حلب. فولاه التدريس بالحلوية. ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الأحد بعد الظهر عاشر رجب من هذه السنة.
وفاة الفيلسوف شهاب الدين السهروردي .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
هو الفيلسوف أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السَّهروردي الحلبيُّ المقتولُ. وُلِدَ السهروردي سنة 549 في بلدةِ سهرورد الواقعةِ في شمال إيران بين قزوين وسلسلة جبالِ البرز ونشأ في مدينةِ مراغة، كان شابًّا فاضِلًا، متكَلِّمًا مناظِرًا، يتوقَّدُ ذكاءً. كان أوحَدَ في العلوم الحكميَّة، جامعًا لفنون الفلسفة، بارعًا في أصول الفقه، مُفرِطَ الذكاءِ، فصيح العبارة، لم يناظر أحدًا إلا أربى عليه، وكان عِلمُه أكثَرَ مِن عقله. قال فخر الدين المارديني: "ما أذكى هذا الشابَّ وأفصَحَه إلَّا أني أخشى عليه لكثرةِ تهَوُّرِه واستهتارِه تَلافَه" قرأ الحِكمةَ والأصول على مجد الدين الجيلي شيخ الفخر الرازي بمراغة، كان شافعيَّ المذهَبِ، وله في النظم والنثر أشياءُ، وكان يُتَّهَمُ بانحلالِ العقيدة والتعطيل، ويعتَمِدُ مذهب الحكماء المتقَدِّمين، وقد اشتهر ذلك عنه، وقيل: إنه تأثر بعقيدة الإسماعيليَّة الباطنية. قال السيف الآمدي: "اجتمعْتُ بالسهروردي بحلب، قال لي: لا بدَّ أن أملِكَ الأرضَ، رأيت كأني قد شَرِبتُ ماء البحرِ. فقلت: لعلَّ هذا يكونُ اشتهارَ العِلمِ وما يناسِبُ هذا، فرأيته لا يرجِعُ عمَّا وقع في نفسه، ورأيتُه كثيرَ العِلمِ قَليلَ العقل" كان السهروردي لا يلتَفِتُ إلى ما يلبَسُه، ولا يحتَفِلُ بأمور الدنيا. وله شعرٌ رائق حسن، وله مصنفات منها كتاب " التلويحات اللوحيَّة والعرشيَّة "، وكتاب " اللمحة "، وكتاب " هياكل النور "، وكتاب " المعارج " وكتاب " المطارحات "، وكتاب " حكمة الإشراق". قال الذهبي: "سائِرُ كُتُبِه فلسفةٌ وإلحادٌ، نسأل الله السَّلامةَ في الدين". قَدِمَ الشام فناظر فُقَهاءَ حلب، ولم يجارِه أحَدٌ، فاستحضره الملك الظاهر بن صلاح الدين، وعقد له مجلسًا، فبان فَضلُه، وبهر علمُه، وحَسُن مَوقِعُه عند السلطان، وقَرَّبه واختص به، فشَنَّعوا عليه فأفتى علماء حلب بإباحة دَمِه. وكان أشَدُّهم عليه زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل، وعملوا محاضر بكفره، وسيَّروها إلى السلطان صلاح الدين، وخوَّفوه من أن يُفسِدَ اعتقادَ وَلَدِه، وزادوا عليه أشياءَ كثيرة، فبعث إلى وَلَدِه الملك الظاهر بخطِّ القاضي الفاضل يقول فيه: لا بدَّ مِن قتله، ولا سبيلَ إلى أن يُطلَقَ ولا يبقى بوجهٍ، فلما لم يبقَ إلَّا قتْلَه اختار هو لنفسِه أن يُترَكَ في بيتٍ حتى يموتَ جوعًا، ففُعِلَ به ذلك, فقُتِلَ زنديقًا بقلعة حلب, وقيل قُتِلَ خَنقًا, وقد عاش ثماني وثلاثين سنة. وهو يختلف عن شهاب الدين عمر السهروردي الذي توفي سنة 632، صاحِب الطريقة السهروردية، ومؤلِّف كتاب عوارف المعارف في التصوُّف.
رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.
مقتل قزل أرسلان بن إيلدكز صاحب أذربيجان .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
هو المَلِك قزل أرسلان، واسمُه عثمان بن الأتابك إيلدكز، صاحب أران، وأذربيجان، وهمذان، وأصفهان، والري، وما بينها، وقد مَلَك البلاد بعد وفاة أخيه البهلوان، وأطاعه صاحبُ فارس وخوزستان، واستولى على السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل، فاعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلادُ، وفي آخِرِ أمره سار إلى أصفهان، والفِتَن بها متَّصِلة من وفاة البهلوان إلى هذا الوقت، فتعَصَّب على الشافعية، وأخذ جماعةً مِن أعيانهم فصَلَبَهم، وعاد إلى همذان، وخطب لنَفسِه بالسلطنة، ثم إنه دخل ليلةَ قُتِلَ إلى منزله لينام، وتفَرَّق أصحابه، فدخَلَ إليه مَن قَتَلَه على فراشه، ولم يُعرَفْ قاتله، فأخَذَ أصحابُه صاحِبَ بابِه ظنًّا وتخمينًا. كانت دولته سبع سنين، وكان فيه كرم وعدل وحلم في الجملة.
عزم الفرنج على قصد بيت المقدس .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
لما رأى صلاح الدين أنَّ الفِرنجَ قد لزموا يافا ولم يفارِقوها، وشَرَعوا في عمارتها. رحَلَ مِن مَنزله إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيَّمَ به، فراسله ملكُ الإنكليز يطلُبُ المهادنة، فكانت الرسُلُ تتردَّدُ إلى المَلِك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقَرَّت القاعدة أنَّ مَلِكَ الإنكليز يزوجُ أختَه من العادل، ويكون القُدسُ وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحِلِ للعادل، وتكون عكَّا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملكِ الإنكليز، مضافًا إلى مملكةٍ كانت لها داخِلَ البحر قد وَرِثَتها مِن زَوجِها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاقُ عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبَرُ اجتمع القسيِّسون والأساقفة والرهبان إلى أخت ملك الإنكليز، وأنكروا عليها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانِعُ منه غير ذلك، ولم يتِمَّ بينهما صلح، وكان ملك الإنكليز يفعَلُ ذلك خديعةً ومكرًا، ثم إن الفرنج أظهروا العزمَ على قصد بيت المقدس، فسار صلاحُ الدين إلى الرملة، جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- وترك الأثقالَ بالنطرون، وقَرُب من الفرنج، وبقي عشرين يومًا ينتَظِرُهم، فلم يبرحوا، فكان بين الطائفتين، مُدَّة المُقام، عدة وقعات، انتصر فيها كلها المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنجُ من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عَزمِ قَصدِ بيت المقدس، فقَرُب بَعضُهم من بعضٍ، فعَظُم الخَطبُ واشتَدَّ الحذر، فكان كلَّ ساعة يقع الصوتُ في العسكرين بالنَّفيرِ، فلقوا من ذلك شدَّةً شديدة، وأقبل الشتاءُ وحالت الأوحال والأمطارُ بينهما.
وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1191
تفاصيل الحدث:
هو الملك المظَفَّر: تقي الدين عمر بن الأمير نور الدولة شاهنشاه بن أيوب بن شاذي صاحِب حماة، كان بطلًا شجاعًا فاتِكًا مِقدامًا جوادًا مُمَدَّحًا، له مواقِفُ مشهودة مع عَمِّه السلطان صلاح الدين، وكان عزيزًا على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماة ومدنًا كثيرة حولها في بلاد الجزيرة، وكان مع عَمِّه صلاح الدين على عكا، ثم استأذنه أن يذهب ليُشرِفَ على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات، فلما صار إليها اشتغَلَ بها وامتَدَّت عينه إلى أخذِ غَيرِها من أيدي الملوك المجاورين له، فقاتَلَهم فاتَّفَق موتُه وهو كذلك، والسلطان عَمُّه غضبان عليه؛ بسبب اشتغاله بذلك عنه، وحُمِلَت جنازته حتى دُفِنَت بحماة، وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، وقد أقام بالمُلكِ بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد، فأقره صلاحُ الدين على ذلك بعد جَهدٍ جهيدٍ، ووعدٍ ووعيدٍ، ولولا السلطانُ العادل أخو صلاح الدين تشفَّعَ فيه لَمَّا أقَرَّه في مكان أبيه، توفِّيَ يوم الجمعة تاسع عشر رمضان.
توجه الفرنجة لبيت المقدس لاحتلالها .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
سار صلاحُ الدين إلى بيت المقدس فيمن بَقِيَ معه من العساكر، فنزلوا جميعًا داخِلَ البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونَزَل هو بدار الأقسا مجاوِر بيعة قمامة، وقَدِمَ إليه عسكر من مصر مُقَدَّمُهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقَوِيَت نفوس المسلمين بالقُدس، وسار الفرنجُ من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزمِ قَصدِ القدس، فكانت بينهم وبين يزك- مقدِّمة جيش- المسلمينَ وقَعات، أَسَرَ المسلمون في وقعةٍ منها نيفًا وخمسينَ فارسًا من مشهوري الفرنجِ وشُجعانِهم، وكان صلاحُ الدين لَمَّا دخل القُدسَ أمَرَ بعمارة سوره، وتجديدِ ما رث منه، فأحكم الموضِعَ الذي مَلَك البلد منه، وأتقَنَه، وأمر بحفر خندقٍ خارِجَ الفَصيلِ، وسلَّمَ كُلَّ برج إلى أمير يتولى عمَلَه.
عود الفرنج إلى الرملة .
العام الهجري : 587 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبَبُ عودهم أنَّهم كانوا ينقلون ما يريدونَه مِن الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجونَ على مَن يجلِبُ لهم الميرةَ فيَقطَعونَ الطريق ويَغنَمونَ ما معهم، ثم إنَّ ملك الإنكليز قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صَوِّروا لي مدينةَ القدس؛ فإني ما رأيتُها، فصوروها له، فرأى الواديَ يُحيطُ بها ما عدا موضِعًا يسيرًا من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عُمقِه، فأُخبِرَ أنه عميق، وَعرَ المسلك، فقال: هذه مدينةٌ لا يُمكِنُ حَصرُها ما دام صلاح الدين حيًّا وكَلِمةُ المسلمين مجتمعةً، فأشاروا عليه بالعَودِ إلى الرملة، فعادوا خائبينَ خاسرين.
ملك شهاب الدين الغوري أجمير وغيرها من الهند .
العام الهجري : 588 العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
في سنة ثلاث وثمانين غزا شهاب الدين الغوري بلد الهند، وانهزم أمامَ أحد ملوكها وبَقِيَ إلى الآن في نفسه غَضَبٌ عظيمٌ على الجند الغورية الذين انهزموا، فألزَمَهم من الهوان، حتى هذه السَّنة فخرج من غزنة وقد جمع عساكِرَه وسار منهم يطلُبُ عَدُوَّه الهندي الذي هزمه تلك النوبةَ، قال ابن الأثير: " لما وصل الغوري إلى برشاوور تقَدَّمَ إليه شيخ من الغورية كان يدُلُّ عليه، فقال له: قد قَرُبنا من العدو، وما يعلَمُ أحد أين نمضي، ولا من نَقصِدُ، ولا نَرُدُّ على الأمراء سلامًا، وهذا لا يجوز فِعلُه. فقال له السلطان: اعلَمْ أنَّني منذ هزمني هذا الكافِرُ، ما نمت مع زوجتي، ولا غيَّرْتُ ثياب البياضِ عني، وأنا سائِرٌ إلى عدوي، ومعتَمِدٌ على الله تعالى لا على الغوريَّة، ولا على غيرهم، فإن نَصَرَني الله سبحانه ونَصَرَ دينَه، فمِن فَضلِه وكَرَمِه، وإن انهَزَمْنا فلا تطلبوني فيمن انهَزَم، ولو هَلكْتُ تحت حوافِرِ الخيل, فقال له الشيخ: سوف ترى بني عَمِّك من الغورية ما يفعلونَ، فينبغي أن تكَلِّمَهم وتَرُدَّ سلامهم. ففعل ذلك وبَقِيَ أمراء الغورية يتضَرَّعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعَلُ" ثم سار إلى أن وصل إلى موضع المصافِّ الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عِدَّةَ مواضِعَ مِن بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهَّزَ وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقِيَ بين الطائفتين مرحلةٌ عاد شهاب الدين وراءه والكافِرُ في أعقابه أربع منازل، وتمَّ على حاله عائدًا إلى أن بَقِيَ بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافِرُ في أثره يتبعه، حتى لحقه قريبًا من مرندة فجَرَّدَ شهاب الدين من عسكَرِه سبعين ألفًا، وقال: أريدُ هذه الليلة تدورونَ حتى تكونوا وراء عسكَرِ العدو، وعند صلاة الصبحِ تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية، ففعلوا ذلك، وطلع الفجرُ، ومن عادة الهنود أنَّهم لا يبرحون مِن مضجعهم إلى أن تطلُعَ الشَّمسُ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكَرُ المسلمين من كل جانب، والقَتلُ قد كَثُرَ في الهنود، والنصرُ قد ظهر للمسلمين، فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسًا له سابقًا، وركب ليهرُبَ، فقال له أعيان أصحابه: إنَّك حلفت لنا أنَّك لا تُخَلِّينا وتهرُب، فنزل عن الفرس وركِبَ الفيل ووقَفَ مَوضِعَه، والقتالُ شديد، والقَتلُ قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمونَ إليه وأخذوه أسيرًا، وحينئذ عَظُمَ القتلُ والأسر في الهنود، ولم ينجُ منهم إلا القليلُ، وغَنِمَ المُسلِمونَ مِن الهنود أموالًا كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعةَ عشر فيلًا، فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحِصنِ الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
نهب بني عامر البصرة .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
اجتمع بنو عامر في خلقٍ كثير، وأميرُهم اسمُه عميرة، وقَصَدوا البصرةَ، وكان الأميرُ بها محمد بن إسماعيل، ينوبُ عن مُقطِعِها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، فوصلوا إليها يومَ السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأميرُ محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحربُ بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتالُ إلى آخر النهار، فلما جاء الليلُ ثَلَم العربُ في السور عدَّةَ ثُلَم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهلُ البلد، فقُتِلَ بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونَهَبَت العرب الخانات بالشاطئ وبعضَ محالِّ البصرة، وعبَرَ أهلُها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العربُ البلد في يومهم وعاد أهله إليه، وكان سببُ سرعة العرب في مفارقة البلد أنَّهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشدَّ قتال، فظَفِرَت عامر وغَنِمَت أموالَ خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرةِ بكرة الاثنين، وكان الأميرُ قد جمع من أهل البصرةِ والسواد جمعًا كثيرًا، فلما عادت عامر قاتَلَهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعربِ وانهزموا، ودخل العربُ البصرة ونهبوها، وفارق البصرةَ أهلُها، ونُهِبَت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونُهِبَت القسامل- وهي محلة بالبصرة - وغيرها في يومين، وفارقها العرب وعاد أهلُها إليها.
مقتل المركيس صاحب صور وملك الكند هري بعده صور .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
استيلاء الفرنج على حصن الداروم ومسيرهم إلى بيت المقدس .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
في تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنجُ على حصن الداروم، فخَرَّبوه، ثمَّ ساروا إلى بيت المقدس وصلاحُ الدين فيه، فبَلَغوا بيت نوبة، وكان سَبَبُ طمعهم أن صلاح الدين فَرَّقَ عساكره الشرقية وغيرَها؛ لأجل الشتاء ليستريحوا، ولِيَحضُرَ البَدَل عِوَضَهم، وبَقِيَ من قواته الخاصة بعض العساكر المصريَّة، فظنوا أنهم ينالون غَرَضًا، فلما سمع صلاح الدين بقُربِهم منه فَرَّقَ أبراجَ البلد على الأمراء، وسار الفِرنجُ مِن بيت نوبة إلى قلونية، آخِرَ الشهر، وهي على فرسخين من القُدس، فصَبَّ المسلمون عليهم البلاءَ، وتابعوا إرسالَ السرايا فبُلِيَ الفرنج منهم بما لا قِبَلَ لهم به، وعَلِموا أنهم إذا نازلوا القدسَ كان الشرُّ إليهم أسرعَ والتسَلُّطُ عليهم أمكَنَ، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمونَ أكتافَهم بالرِّماح والسهام، ولما أبعد الفرنجُ عن يافا سيَّرَ صلاح الدين سرية من عسكَرِه إليها، فقاربوها، وكَمَنوا عندها، فاجتاز بهم جماعةٌ من فرسان الفرنج مع قافلة، فخَرَجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسَروا وغَنِموا، وكان ذلك آخِرَ جمادى الأولى.
استيلاء الفرنج على عسكر المسلمين المصريين .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
في تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنجَ الخبَرُ بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل- حِمل كبير- فأسرى الفرنجُ إليهم، فواقعوهم بنواحي الخليل، فانهزم الجندُ، ولم يُقتَلْ منهم رجل من المشهورينَ، إنما قُتِلَ مِن الغلمان والأصحاب، وغَنِمَ الفرنج خيامَهم وآلاتِهم، وأما القفل فإنه أُخِذَ بَعضُه، وصَعِدَ من نجا جبل الخليل، فلم يُقدِم الفرنج على اتِّباعهم، وتمَزَّقَ من نجا من القفل، وتقَطَّعوا، ولَقُوا شدة إلى أن اجتَمَعوا.
غزو صلاح الدين الأيوبي يافا .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتَلَ مَن بها منهم، وملَكَها في العشرين من رجب بالسَّيفِ عَنوةً، ونَهَبها المسلمون، وغَنِموا ما فيها، وقتلوا الفرنجَ وأسَروا كثيرًا، وكان بها أكثَرُ ما أخذوه من عسكرِ مِصرَ والقفل -حِمل كبير- الذي كان معهم، وكان جماعةٌ من المماليك الصلاحيَّة قد وقفوا على أبوابِ مدينة يافا، وكلُّ مَن خرج من جند الفرنجِ ومعه شيء من الغنيمةِ أخذوه منه، فإن امتَنَع ضَرَبوه وأخذوا ما معه قهرًا، ثم زَحَفَت العساكر إلى قلعة يافا، فقاتلوا عليها آخِرَ النهار، وكادوا يأخُذونَها، فطلب مَن بالقلعة الأمان على أنفُسِهم، وخرج البطرك الكبيرُ الذي لهم، ومعه عِدَّةٌ من أكابر الفرنج، في ذلك، وترَدَّدوا، وكان قَصدُهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليلُ، وواعدوا المسلمينَ أن ينزلوا بكرةَ غَدٍ ويسَلِّموا القلعة، فلما أصبح الناسُ طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحِصنِ، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدةٌ مِن عكَّا، وأدركهم ملك الإنكليز، فأخرج مَن بيافا من المسلمين، وأتاه المدَدُ مِن عكا وبرز إلى ظاهِرِ المدينة، واعترض المسلمينَ وَحدَه، وحمل عليهم، فلم يتقَدَّم إليه أحد، وعاد عن الفرنجِ. ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتَمَعَت العساكر، وجاء إليه ابنُه الأفضل وأخوه العادل وعساكرُ الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظُرَ ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنجُ يافا ولم يبرَحوا منها.
=========
115.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
وفاة قلج أرسلان صاحب قونية من جهة الروم .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
هو السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي التركماني، ملك الروم. فيه عَدلٌ في الجملة، وسداد وسياسة، وهو والدُ زوجة الخليفة الناصر لدين الله الست سلجوقي خاتون المعروفة بالخلاطية. كان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وقد امتَدَّت أيام ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وقيل: بضعًا وثلاثين سنة, وغزواته كثيرة في بلاد الروم، ولما كَبِرَ فَرَّق بلاده على أولاده، فاستَضعَفوه، ولم يلتَفِتوا إليه، وحَجَر عليه ولَدُه قطب الدين، وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلًا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غَلَب قُطبُ الدين على الأمرِ قَتَلَ حَسنًا، ثم أخذ والِدَه وسار به إلى قيسارية ليأخُذَها من أخيه الذي سَلَّمَها إليه أبوه، فحصرها مدَّة، فوجد والِدُه قلج أرسلان فرصةً، فهرب ودخل قيسارية وحدَه، فلما عَلِمَ قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصرا فمَلَكَهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحوَّلْ من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبَرَّم منه، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فَرِحَ به، وخَدَمَه، وجمع العساكِرَ، وسار هو معه إلى قونية، فمَلَكَها، وسار إلى أقصرا ومعه والِدُه قلج أرسلان، فحصرها، فمَرِضَ أبوه، فعاد به إلى قونية, وتوفِّيَ ودفن بها في منتصف شعبان، وبَقِيَ ولده غياث الدين في قونية مالكًا لها، حتى أخَذَها منه أخوه ركن الدين سليمان.
صلح الرملة بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد .
العام الهجري : 588 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1192
تفاصيل الحدث:
في العشرين من شعبان عُقِدَت بين المسلمين والفرنج هدنةٌ لِمُدَّة ثلاث سنين وثمانية أشهر، ويوافِقُ أوَّلَ أيلول 1192م، وكان سبب الصلح أن ملك الإنكليز المعروف بريتشارد قلب الأسد لَمَّا رأى اجتماع العساكر، وأنَّه لا يُمكِنُه مفارقةُ ساحِلِ البحر، وليس بالساحِلِ للمسلمين بلدٌ يَطمَعُ فيه، وقد طالت غيبتُه عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصُّلحِ، وأظهر من ذلك ضِدَّ ما كان يطلبُ منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجيُّ رُسُلَه مَرَّةً بعد مرَّة، ونزل عن تَتِمَّة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقريرِ هذه القاعدة، فأشار هو وجماعةُ الأمراء على صلاح الدين بالإجابة إلى الصُّلح، وعرفوه ما عند العسكَرِ مِن الضَّجَرِ والملل، وما قد هلك من أسلحتِهم ودوابِّهم، ونَفِدَ مِن نفقاتهم، وقالوا: إنَّ هذا الفرنجي إنما طلب الصلحَ ليركَبَ البَحرَ ويعود إلى بلاده، فإن تأخَّرَتْ إجابته إلى أن يجيءَ الشتاء وينقَطِع الركوبُ في البحر، نحتاج للبقاء هاهنا سنةً أخرى، وحينئذٍ يَعظُمُ الضَّررُ على المسلمين، وأكثَروا القول له في هذا المعنى، فأجاب السلطانُ صلاح الدين حينئذٍ إلى الصلح، فحضر رسلُ الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدةِ، وبعد أن تمت الهدنة سار صلاح الدين إلى بيت المقدس، وأمَرَ بإحكام سوره، وعَمِلَ المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوفَ، وصام رمضان بالقُدسِ، وعزم على الحَجِّ والإحرام منه، فلم يُمكِنْه ذلك، فسار عنه خامِسَ شوال نحو دمشق، واستناب بالقُدسِ الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، ولَمَّا سار عنه جعل طريقَه على الثغور الإسلامية، كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وتعهد هذه البلادَ، وأمر بإحكامها، فدخل دمشقَ في الخامس والعشرين من شوال، وكان يومُ دُخولِه إليها يومًا مشهودًا، وفَرِحَ النَّاسِ به فرحًا عظيمًا لطول غيبتِه، وذَهابِ العَدُوِّ عن بلاد الإسلامِ.
وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 589 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ الكبيرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ: صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الكردي الدُوِيني، ثم التِكريتي المولد. صاحِبُ الدِّيارِ المصريَّة والبلادِ الشاميَّة والفُراتيَّة واليمنيَّة، واسطة عقدِ آل أيوب، وشُهرتُه أكبَرُ مِن أن تحتاج إلى التنبيهِ عليه. اتَّفَق أهل التاريخ على أن أباه وأهلَه من دُوِين؛ بلدةٍ في آخِرِ عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكرادٌ رَواديِّة، والرَوَاديَّة: بطن من الهَذَبانِيَّة، وهي قبيلةٌ كبيرة من الأكراد. قال ابنُ خَلِّكان: "قال لي رجلٌ فقيه عارِفٌ بما يقول، وهو من أهل دُوِين: إنَّ على باب دوين قريةً يقال لها أجدانقان، وجميع أهلها أكراد رَوَاديَّة، ومولد أيوب بن شاذي والد صلاح الدين وعمه شيركوه بها، ثم أخذ شاذي ولَدَيه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخَرَجَ بهما إلى بغداد، ومِن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، ولقد تتبعت نِسبَتَهم كثيرًا فلم أجِدْ أحدًا ذَكَرَ بعد شاذي أبًا آخر، حتى إنِّي وقفتُ على كتب كثيرة بأوقافٍ وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أرَ فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير" ثم خَدَم أيوب وشيركوه مجاهِدَ الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنةً بالعراق- الشحنة: القَيِّم لضَبطِ أمن البلد- فلما رأى مجاهِدُ الدين في نجم الدين أيوب عقلًا ورأيًا حسنًا وحُسنَ سيرة، جعله دُزدَار تكريت، أي: حافظ القلعة، وواليها, ثم انتقل أيوب وشيركوه لخدمة عماد الدين زنكي بالموصل، فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين أيوب واليًا عليها. قال ابن خلكان: " اتفق أربابُ التواريخ أنَّ صلاح الدين وُلِدَ سنة 532 بقلعة تكريت لَمَّا كان أبوه بها، ولم يَزَل صلاح الدين تحت كَنَف أبيه حتى ترعرع, ولما مَلَك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشقَ لازم نجم الدين أيوب خِدمَتَه، وكذلك وَلَدُه صلاح الدين، وكانت مخايلُ السعادة عليه لائحةً، والنجابةُ تُقَدِّمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويُؤثِرُه، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائِقَ الخيرِ وفِعلَ المعروف والاجتهادِ في أمور الجهاد، حتى تجهَّزَ للمَسيرِ مع عمه شيركوه إلى الديار المِصريَّة" قال الذهبي: "سَمِعَ صلاح الدين من أبي طاهر السِّلَفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري، وحدَّث". أمَّر نورُ الدين صلاحَ الدين، وبَعَثَه في عسكره مع عَمِّه أسد الدين شيركوه، فحَكَم شيركوه على مصر، فما لَبِثَ أن توفي، فقام بعدَه صلاح الدين، ودانت له العساكِرُ، وقَهَر بني عُبَيد، ومحا دولَتَهم، واستولى على قصرِ القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت, وخلا القصرُ مِن أهله وذخائره، وأقام الدعوة العباسية. وكان خليقًا للإمارة مَهيبًا، شُجاعًا حازِمًا مجاهِدًا، كثيرَ الغزو، عاليَ الهِمَّة، كانت دولتُه نيفًا وعشرين سنة. قال ابن خلكان: " قال شيخُنا ابن شداد (في سيرة صلاح الدين): "سمعتُ صلاح الدين يوسف بن أيوب يقول: لَمَّا يَسَّرَ لي الله الديارَ المصرية عَلِمتُ أنه أراد فتح الساحِلِ؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي, ثم قال ابن شداد: ومِن حينِ استتَبَّ له الأمر ما زال يشُنُّ الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغَشِيَ الناس من سحائِبِ الإفضال والإنعام ما لم يُؤَرَّخْ من غير تلك الأيام، وهذا كلُّه وهو وزيرٌ متابِعُ القوم، لكنه يقومُ بمَذهَبِ أهل السنة، غارسًا في البلاد أهلَ الفقه والعِلمِ والتصوف والدين، والناس يُهرَعون إليه من كلِّ صَوبٍ ويَفِدون عليه من كل جانب، وهو لا يخَيِّب قاصدًا ولا يعدِمُ وافدًا ". تملك بعد نور الدين، واتَّسَعَت بلاده. ومنذ تسلطَنَ طَلَّقَ الخَمرَ واللَّذَّات، وأنشأ سورًا على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثمَّ فتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق مِن ابن نور الدين. وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه. وفي سنة ثلاث وسبعين كسَرَته الفرنج على الرملة، وفَرَّ في جماعة ونجا, وفي سنة خمس التقاهم وكَسَرهم, وفي سنة ستٍّ أمر ببناء قلعة الجبل, وفي سنة ثمانٍ عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصَرَ الموصل، ثم تمَلَّك حلب، وعَوَّضَ صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانيًا وثالثًا، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج, وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين سنة 585 بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا، فحال بينهم وبين الماء على تَلٍّ، وسلموا نفوسَهم وأسر ملوكهم وأمراءَهم، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر بيت المقدس، وجَدَّ في ذلك فأخذه بالأمان، ثم إن الفرنج قامت قيامتُهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطيعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بَرًّا وبحرًا وأحاطوا بعكا ليستردُّوها وطال حصارُهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقًا، فأحاط بهم السلطانُ، ودام الحصار لهم وعليهم نيفا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحِمُ وحروب تَشيبُ لها النواصي، وما فكُّوا حتى أخذوها، وجَرَت لهم وللسلطان حروب وسِيَر. وعندما ضرس الفريقان، وكلَّ الحِزبان، تهادن المِلَّتان في صلح الرملة سنة 588. وكانت لصلاح الدين هِمَّة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضدادِ ما سُمِعَ بمِثلِها لأحدٍ في دهر. قال الموفق عبد اللطيف: "أتيتُ وصلاح الدين بالقُدسِ، فرأيتُ مَلِكًا يملأ العيون روعةً، والقلوبَ مَحبَّةً، قَريبًا بعيدًا، سَهلًا مُحَبَّبًا، وأصحابه يتشَبَّهون به، يتسابقونَ إلى المعروف، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأوَّلَ ليلة حضرتُه وجدت مجلِسَه حافِلًا بأهلِ العلم يتذاكرون، وهو يُحسِنُ الاستماع والمشاركة، ويأخُذُ في كيفيَّة بناء الأسوار، وحَفْر الخنادق، ويأتي بكلِّ معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحَفْرِ خَندقِه، ويتولى ذلك بنَفسِه، وينقُل الحجارةَ على عاتِقِه، ويتأسى به الخَلقُ حتى القاضي الفاضِلُ، والعمادُ إلى وقت الظهر، فيمُدُّ السماط ويستريح، ويركبُ العَصرَ، ثم يرجع في ضوء المشاعِلِ، وكان يحفَظُ (الحماسة)، ويظُنُّ أنَّ كلَّ فقيه يحفَظُها، فإذا أنشَدَ وتوقَّفَ، استطعَمَ فلا يُطعَمُ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكُن يحفَظُها، وخرج فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين دينارًا في الشهر، وأطلق أولادُه لي رواتِبَ، وكان أبوه ذا صلاحٍ، ولم يكن صلاحُ الدين بأكبَرِ أولاده، وكان محبَّبًا إلى نور الدين يلاعِبُه بالكُرةِ". لما قَدِمَ الحجيجُ إلى دمشق في يوم الاثنين حادي عشر صفر من هذه السنة خرج السلطانُ لتَلَقِّيهم، ثم عاد إلى القلعةِ فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخِرَ ما رَكِبَ في هذه الدنيا، ثمَّ إنه اعتراه حُمَّى صفراوية ليلةَ السبت سادس عشر صفر، فلما أصبَحَ دخل عليه القاضي الفاضِلُ وابن شداد وابنُه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرةَ قلَقِه البارحة، وطاب له الحديثُ، وطال مجلِسُهم عنده، ثم تزايدَ به المرضُ واستمَرَّ، وقَصَده الأطباءُ في اليوم الرابع، ثم اعتراه يَبسٌ وحصَلَ له عَرَقٌ شَديدٌ بحيث نَفَذ إلى الأرض، ثم قَوِيَ اليبس فأحضَرَ الأمراءَ الأكابِرَ فبُويعَ لولده الأفضَل نور الدين علي، وكان نائبًا على دمشق، وذلك عندما ظَهَرت مخايل الضَّعفِ الشديد، وغيبوبة الذِّهنِ في بعض الأوقاتِ، وكان الذين يدخُلونَ عليه في هذه الحال الفاضِلُ وابنُ شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتَدَّ به الحال ليلةَ الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخَ أبا جعفر إمامَ الكلاسة ليبيتَ عنده يقرأُ القرآن ويُلَقِّنَه الشهادة إذا جَدَّ به الأمرُ، فلما أُذِّنَ الصبحُ جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخِرِ رمقٍ، فلما قرأ القارئُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فتبَسَّمَ وتهَلَّلَ وَجهُه، وأسلَمَ رُوحَه إلى ربِّه سبحانه وتعالى، ثم أخَذوا في تجهيزه، وحَضَر جميعُ أولاده وأهله، وكان الذي تولَّى غُسلَه خطيب البلد الفقيهُ الدولعي، وكان الذي أحضَرَ الكفَنَ ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل مِن صُلبِ مالِه الحلال، هذا وأولادُه الكبار والصغار يتباكَون وينادون، وأخذ الناسُ في العويل والانتحاب والدُّعاء له والابتهال، ثم أُبرِزَ جِسمُه في نعشِه في تابوتٍ بعد صلاة الظهر، وأمَّ النَّاسَ عليه القاضي ابنُ الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شَرَع ابنُه في بناء تربةٍ له ومدرسة للشافعيَّة بالقرب من مسجدِ القدم؛ لوصيته بذلك قديمًا، فلم يكمل بناؤها، ثم اشترى له الأفضَلُ دارًا شماليَّ الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربةً، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلَّى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي بن الزكي، عن إذنِ الأفضل، ودخل في لحْدِه ولَدُه الأفضلُ فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطانُ الشام، ويقالُ إنه دَفَن معه سَيفَه الذي كان يحضُرُ به الجهادَ، ويُذكَرُ أنَّ صَلاحَ الدين- رحمه الله تعالى- لم يخَلِّفْ في خزائِنِه غيرَ دينار واحدٍ صوري، وأربعين درهمًا ناصريَّة، ثمَّ تولى ابنُه الأفضل مُلكَ دِمشق، والساحل، وبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم، وكان وَلَدُه الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميعِ أعمالِها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصارَ معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع المَلِكَ الأفضل.
مقتل بكتمر صاحب بخلاط .
العام الهجري : 589 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:
هو المَلِك سيف الدين بكتمر, صاحِبُ خلاط، مملوك الملك ظهير الدين شاه أرمن. استولى على أرمينية، وكان محاربًا للسلطان صلاح الدين، فلما بلغه مَوتُه، أسرف في إظهارِ الشَّماتة بموته, فأمر بضَربِ البشائر، وفَرِحَ فرحًا كثيرًا، وعمل تختًا جَلَس عليه، ولَقَّبَ نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقَبُه سيف الدين، فغَيَّرَه، وسمى نفسه عبد العزيز، فلم يُمهِلْه الله تعالى، وظهر منه اختلالٌ وتخليط، وتجهز ليقصِدَ ميافارقين يحصُرُها، فأدركته منيَّتُه، قُتِلَ بكتمر أول جمادى الأولى، وكان بين قَتلِه وموت صلاح الدين شهران، وكان سبب قتله أنَّ هزار ديناري زوج ابنَتِه, وهو من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قَوِيَ وكَثُرَ جَمعُه، وتزوج ابنةَ بكتمر، فطَمِعَ في الملك، فوضع عليه مَن قَتَله، فلما قُتِلَ ملك بعده بلادَ خلاط وأعمالَها.
وفاة أتابك عز الدين مسعود صاحب الموصل .
العام الهجري : 589 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:
هو أتابك أبو المظفر عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر التركي، صاحِبُ الموصل، وكان عزُّ الدين مُقَدَّم الجيوش في أيام أخيه سيف الدين غازي, وكان يزور الصالحينَ، وفيه حِلمٌ وحياءٌ ودينٌ وقيامُ ليل، وفيه عَدلٌ. ولما توفي أخوه سيف الدين استقَلَّ عز الدين بالمُلك من بعده، وعمل المصافَّ مع صلاح الدين على قرونِ حماة، فانكسر مسعودٌ سنة سبعين، ثم ورث حلب، أوصى له بها ابن عمه الصالح إسماعيل، فساق وطلع إلى القلعة، وتزوج بوالدة الصالح، فحاربه صلاحُ الدين، وحاصر الموصِلَ ثلاث مرات، ولَمَّا بلغ صلاح الدين أن مسعودًا راسل الفرنج يحثُّهم على حرب صلاح الدين، غضب وسار، فنازل حلب جمادى الأولى سنة ثمان، ثم ترحَّل بعد ثلاث، وجرت بينهما أمور، ثم تصالحا، وكان موتُهما متقاربًا, وتمكن حينئذ مسعود، واطمأن، إلى أن مات بعد صلاحِ الدين بأشهر بعلة الإسهالِ، فعاد إلى الموصل مريضًا، فبَقِيَ في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان، فتوفي بالموصل، ودُفِنَ بالمدرسة التي أنشأها مقابِلَ دار الملكة، وقيل: إنه كان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلَّا بالشهادتين، وتلاوة القرآن، وإذا تكَلَّم بغيرها استغفَرَ الله، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرُزِقَ خاتمة خَيِّرة، وقد خلَّفَه بعد موته أخوه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود. مات عن ابنين: القاهر مسعود، والمنصور زنكي.
ملك السلطان خوارزم شاه بلاد الري .
العام الهجري : 589 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:
خرج السلطانُ طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي في سنة ثمان وثمانين من الحبس، وملك همذان وغيرها، وكان قد جرى بينه وبين قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحِبِ البلاد، حربٌ انهزم فيها قتلغ إينانج، وتحصَّنَ بالري، وسار طغرل إلى همذان فمَلَكَها، فأرسل قتلغ إينانج إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش يستنجِدُه، فسار إليه في سنة ثمان وثمانين، فلما تقاربا نَدِمَ قتلغ إينانج على استدعاء خوارزم شاه، وخاف على نفسِه فمضى من بين يديه وتحصَّنَ في قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الري وملَكَها، وحصر قلعةَ طبرك ففتحها في يومينِ، وراسله طغرل، واصطلحا، وبَقِيَت الري في يد خوارزم، فجَدَّ في السير خوفًا عليها، فأتاه الخبَرُ، وهو في الطريق، أنَّ أهل خوارزم منعوا سلطان شاه عنها، ولم يقدِرْ على القرب منها، وعاد عنها خائبًا، فشتى خوارزم شاه بخوارزم، فلما انقضى الشتاءُ سار إلى مرو لقصدِ أخيه سنة تسع وثمانين، فترددت الرسلُ بينهما في الصلح، فبينما هم في تقرير الصلح ورد على خوارزم شاه رسولٌ مِن مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسَلِّمَ إليه القلعة؛ لأنه قد استوحش من صاحِبِه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجِدًّا، فتسَلَّمَ القلعة وصار معه، وبلغ ذلك سلطان شاه ففتَّ في عَضُده، وتزايد كمَدُه، فمات آخر رمضان سنة 589؛ فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعتِه إلى مرو فتسَلَّمَها، وتسَلَّمَ مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه، وأرسل إلى ابنه علاء الدين محمد، وكان يلقب حينئذ قطب الدين، وهو بخوارزم، فأحضره فولَّاه نيسابور، وولَّى ابنَه الأكبَرَ ملكشاه مرو، وذلك في ذي الحجة.
حصر العزيز عثمان بن صلاح الدين مدينة دمشق .
العام الهجري : 590 العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:
وصل المَلِكُ العزيزُ عُثمانُ بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ مصر، إلى مدينةِ دِمشقَ، فحَصَرَها وبها أخوه الأكبَرُ الملك الأفضل عليُّ بن صلاح الدين، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضَلُ إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحِبُ الديار الجزرية، يستنجِدُه، فسار الملك العادِلُ إلى دمشق هو والمَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحِبُ حلب، وناصِرُ الدين محمد بن تقي الدين، صاحِبُ حماة، وأسدُ الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحِبُ حمص، وعسكَرُ الموصل وغيرها، كُلُّ هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتَّفَقوا على حفظها، علمًا منهم أنَّ العزيزَ إن مَلَكَها أخذ بلادَهم، فلما رأى العزيزُ اجتماعَهم عَلِمَ أنَّه لا قدرة له على البلد، فترَدَّدَت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقَرَّت القاعدة على أن يكون بيتُ المقدس وما جاوره من أعمالِ فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضَلِ، على ما كانت عليه، وأن يعطيَ الأفضَلُ أخاه المَلِك الظاهر جبلة واللاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادِلِ بمصر إقطاعُه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيزُ إلى مصر، ورجع كُلُّ واحدٍ من الملوكِ إلى بلده.
وقعة عظيمة بين شهاب الدين الغوري ملك غزنة وبين الملك بنارس .
العام الهجري : 590 العام الميلادي : 1193
تفاصيل الحدث:
كان شهابُ الدين الغوري، ملك غزنة، قد جهَّز مملوكَه قطب الدين أيبك، وسيَّرَه إلى بلد الهند للغزو، فدخلها فقَتَل فيها وسبى وغَنِم وعاد، فلما سَمِعَ به ملك بنارس، وهو أكبَرُ ملك في الهند، ولايتُه من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولًا، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضًا، وهو مَلِكٌ عظيم، فعندها جمع جيوشَه وحشرها، وسار يطلُبُ بلاد الإسلام، ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكِرِه نحوه، فالتقى العسكرانِ على ماجون، وهو نهرٌ كبير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبعمائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجلٍ، ومن جملةِ عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلادِ أبًا عن جَدٍّ، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظِبونَ على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمونَ والهنود اقتتلوا، فصبر الكُفَّارُ لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكُفَّار، ونُصِرَ المسلمون، وكَثُرَ القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرضُ وجافت، وكانوا لا يأخذون إلَّا الصبيانَ والجواري، وأمَّا الرجال فيُقتَلون، وأخَذ منهم تسعين فيلًا، وباقي الفيلةِ قُتِلَ بَعضُها، وانهزم بعضها، وقُتِلَ ملك الهند، ولم يَعرِفْه أحد إلَّا أنه كانت أسنانُه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريطِ الذَّهَبِ، فبذلك عرفوه، فلما انهزم الهنودُ دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحَمَل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفِيَلة التي أخذها من جُملِتها فيلٌ أبيضُ.
وفاة السلطان طغرل بن ألب أرسلان ونهاية الدولة السلجوقية الكبرى .
العام الهجري : 590 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، آخر الملوك السلجوقية. وكان طغرل من أحسَنِ الناس صورةً، فيه إقدامٌ وشجاعةٌ زائدة, وقد انهارت دولةُ بني سلجوق بوفاته, وكانت عوامِلُ ضَعفِ سلطان السلاجِقةِ قد بدأت بوفاة آخِرِ سلاطينِهم الأقوياء السُّلطان سنجر سنة 552, والذي جلس على سريرِ الملك قريبًا من ستين سنة. وقد كان من أعظمِ الملوك همَّةً، ولم يزَلْ في ازدياد إلى أن ظَهَرَت عليه الغُزُّ سنة 548, في وقعة مشهورةٍ, ولَمَّا كسروه فيها انحلَّ نظام ملكه، ومَلَك الغزُّ نيسابور، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وأخذوا السلطانَ، وضربوا رقابَ عَدَدٍ مِن أمرائه، فنَزَل عن المُلْك، ودخل إلى خانقاه مَرْو، وعَمِلَت الغُزُّ ما لا تعمَلُه الكُفَّارُ من العظائِمِ، فملَّكوا مملوك سنجر أيَبَه، وجرت مصائبُ على خراسان، وزال بموتِه ملك بني سلجوق عن خراسان، واستولى خوارزم شاه على أكثَرِ مملكته. أخذت الدولةُ السلجوقيَّةُ في الضَّعفِ والتضعضعِ ثم الانهيار، وكان ذلك في عهد الخليفة الناصر لدين الله، فقد استقَرَّ رأي الخليفة على الاستعانة بعلاء الدين تكش خوارزم شاه ضد آخِرِ سلاطين السلاجقة طغرل بن ألب أرسلان، فأرسل إلى خوارزم شاه شاكيًا من السُّلطان طغرل، ويطلُبُ منه أن يساعدَه عليه، وأرفَقَ الرسالة بمنشور يقضي بإقطاعِ خوارزم شاه كلَّ البلاد التي كانت آنذاك تحت نفوذِ السلاجقة، فلبى خوارزم شاه رغبةَ الخليفة العباسي, وسار بعساكِرِه، وقَصَد طغرل، فلمَّا سَمِعَ السلطان طغرل بوصول خوارزم شاه كانت عساكِرُ طغرل متفَرِّقة، فلم يقِفْ ليجمعها، بل سار إليه فيمن معه، فالتقى العسكران بالقُربِ من الري، فحمَلَ طغرل بنفسِه في وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقَوه عن فَرَسِه وقتلوه، وقطعوا رأسَه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، ثم حُمِلَ رأسه إلى خوارزم شاه، فسَيَّرَه من يومه إلى بغداد، فدخلوا به على رمحٍ، فنُصِبَ رأسه بباب النوبي عدَّة أيام، وسار خوارزم شاه إلى همذان، وملك تلك البلادَ جَميعَها. وبهذا زالت الدولةُ السلجوقية تمامًا.
وفاة الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية .
العام الهجري : 590 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد". سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.
مسير وزير الخليفة ابن القصاب إلى خوزستان وملكها .
العام الهجري : 590 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:
خلع الخليفةُ الناصر لدين الله على النائبِ في الوزارة: مؤيدِ الدينِ أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ علي- المعروف بابن القصَّاب- خِلَعَ الوَزارةِ، وحَكَم في الولايةِ، وبرز في رمضانَ، وسار إلى بلاد خوزستان، وولي الأعمالَ بها، وصار له فيها أصحابٌ وأصدقاء ومعارف، وعَرَف البلادَ ومِن أيِّ وَجهٍ يُمكِنُ الدخول إليها والاستيلاءُ عليها، فلمَّا وَلِيَ ببغدادَ نيابةَ الوزارة أشار على الخليفةِ بأن يُرسِلَه في عسكر إليها ليملِكَها له، وكان عَزمُه أنَّه إذا ملك البلادَ واستقَرَّ فيها أقام مُظهِرًا للطاعة، مستقِلًّا بالحكم فيها، ليأمَنَ على نفسه، فاتَّفَق أنَّ صاحِبَها ابن شملة توفِّيَ، واختَلَف أولادُه بَعدَه، فراسل بعضُهم مؤيِّدَ الدين يستنجِدُه لِمَا بينهم من الصُّحبة القديمة، فقَوِيَ الطمعُ في البلاد، فجُهِّزَت العساكِرُ وسُيِّرَت معه إلى خوزستان، فوصلها سنةَ إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحابِ البلاد مراسَلاتٌ ومحاربةٌ عَجَزوا عنها، ومَلَك مدينةَ تستر في المحرم، ومَلَك غيرها من البلاد، ومَلَك القلاع، وأنفذ بني شملةَ أصحابَ بلادِ خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.
غارة الملثم الميورقي على إفريقية .
العام الهجري : 591 العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:
لَمَّا عَبَرَ أبو يوسف يعقوب، صاحِبُ المغرب، إلى الأندلُسِ، وأقام مجاهدًا ثلاثَ سنين، انقطعت أخبارُه عن إفريقية، فقَوِيَ طَمَعُ علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبريَّة مع العرب، فعاود قَصْدَ إفريقية، فبَثَّ جنوده في البلاد فخَرَّبوها، وأكثروا الفسادَ فيها، فمُحِيَت آثارُ تلك البلاد وتغَيَّرَت، وصارت خاليةً من الأنيس، خاويةً على عروشها، وأراد المسيرَ إلى بجاية ومحاصَرتَها لاشتغالِ يعقوب بالجهاد، وأظهَرَ أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب، فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك فصالح الفرنج، وعاد إلى مراكش عازمًا على قَصْدِه، وإخراجِه من البلادِ.
حصر العزيز عثمان بن صلاح الدين مدينة دمشق ثانية .
العام الهجري : 591 العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:
خرجَ المَلِكُ العزيزُ عُثمانُ بنُ صلاح الدين من مِصرَ في عساكره إلى دمشقَ يريدُ حَصْرَها مرَّةً أخرى، فعاد عنها مُنهَزِمًا، وسبب ذلك أنَّ مَن عنده من مماليكِ أبيه، وهم المعروفون بالصلاحيَّة، كانوا لا يزالون يخوِّفونَ العزيزَ مِن أخيه، وبيَّنوا له أنَّ المصلحةَ أخْذُ دمشق، فخرج من العام الماضي وعاد، فتجَهَّزَ هذه السنة ليخرُجَ، فبلغ الخبَرُ إلى الأفضل، فسار من دمشقَ إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعةِ جعبر، ودعاه إلى نُصرَتِه، وسار مِن عندِه إلى حلب، إلى أخيه المَلِك الظاهر غازي، فاستنجدَ به، وسار الملك العادِلُ من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبقَ الأفضلَ إليها ودخلها، وكان الأفضَلُ لثِقَتِه به قد أمر نوَّابه بإدخالِه إلى القلعة، ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق، ووصل الملك العزيز إلى قُربِ دمشق، ثم استقَرَّت القاعدة أنَّ الأفضَلَ يملك الديارَ المصريَّة، ويُسَلِّم دمشقَ إلى عَمِّه الملك العادل، فلم يُمكِن العزيزَ المقامُ، بل عاد منهزمًا يطوي المراحِلَ خَوفَ الطَّلَبِ، ولا يصدق بالنجاة، وتساقَطَ أصحابُه عنه إلى أن وصل إلى مصر، ورَكِبَ وراءه العادِلُ والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتَّفَقا على أن يكون ثُلُثُ مصر للعادل وثُلثاها للأفضل، ثمَّ بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يُثَبِّتُه، وأقبل على الأفضَلِ يُثَبِّطُه، وأقاما على بلبيس أيامًا حتى خرج إليهما القاضي الفاضِلُ مِن جهة العزيز، فوقع الصُّلحُ على أن يُرجِعَ القدسَ ومُعاملَتَها للأفضل، ويستقِر العادِلُ مقيمًا بمصر على إقطاعِه القديم، فأقام العادِلُ بها طمعًا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعد ما خرج العزيز لتوديعِه، وهي هُدنةٌ على قذا، وصُلحٌ على دَخَن، فلما استقرَّ الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضَلُ إلى دمشقَ وبَقِيَ العادلُ بمصرَ عند العزيز.
ملك عسكر الخليفة الناصر لدين الله أصفهان .
العام الهجري : 591 العام الميلادي : 1194
تفاصيل الحدث:
جهَّز الخليفةُ النَّاصِرُ لدين الله جيشًا وسَيَّرَه إلى أصفهان، ومُقَدَّمُهم سيف الدين طغرل، مُقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكَرٌ لخوارزم شاه مع ولده، وكان أهلُ أصفهان يكرهونَهم، فكاتب صَدرُ الدين الخجندي رئيسُ الشافعية بأصفهان الديوانَ ببغداد يبذُلُ من نفسِه تسليمَ البلد إلى من يَصِلُ الديوان من العساكر، وكان هو الحاكِمَ بأصفهان على جميعِ أهلها، فسُيِّرَت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهِرِ البلد، وفارقه عسكَرُ خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتَبِعَهم بعض عسكر الخليفة، فتخَطَّفوا منهم، وأخذوا مِن ساقةِ العَسكَرِ مَن قَدَروا عليه، ودخل عسكَرُ الخليفة إلى أصفهان ومَلَكوها.
انتصار الموحدين على نصارى الأسبان بمرج الحديد في الأندلس .
العام الهجري : 591 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1195
تفاصيل الحدث:
غزا أبو يوسُفَ يعقوبُ بنُ عبد المؤمن، صاحِبُ بلاد المغرب والأندلس، بلادَ الفِرنجِ بالأندلُسِ، وسبَبُ ذلك أنَّ ألفونسو مَلِك الفرنج بها، ومَقَرُّ مُلكِه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوبَ كتابًا فحواه أنَّه يريد الإغارةَ على البلادِ والقَتلَ، وأنَّه لا مانع له من ذلك ويستهزئُ بقوة المسلمين ويتَّهِمُهم بالضَّعفِ مع أنَّهم- أي المسلمين- مأمورون بالجهاد، حتى لو كان العدوُّ ضِعفَ العَدَد، واستهزأ بالمَلِك أبي يوسف يعقوب، فلمَّا وصل كتابُه وقرأه يعقوبُ، كتب في أعلاه هذه الآية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]، وأعاده إليه، وجمع العساكِرَ العظيمةَ من المسلمينَ وعبَرَ المجاز إلى الأندلس، وقيل: كان سبَبُ عبوره إلى الأندلس أن يعقوبَ لَمَّا قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بَقِيَ طائفة من الفرنج لم تَرْضَ الصلح، فلما كان الآن جَمَعت تلك الطائفة جمعًا من الفرنجِ، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقَتَلوا وسَبَوا وغَنِموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكِرَ، وعبَرَ المجاز إلى الأندلس في جيشٍ يضيقُ عنهم الفضاء، فسَمِعَت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيَهم ودانيهم، فالتقوا تاسِعَ شعبان شماليَّ قُرطبةَ عند قلعة رياح، بمكانٍ يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكانت الدائرة أولًا على المسلمين، ثمَّ عادت على الفرنج، فانهزموا أقبحَ هزيمةٍ، وانتصر المسلمون، وغَنِمَ المسلمون منهم شيئًا عظيمًا، ولَمَّا انهزم الفرنج اتَّبَعهم أبو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعةَ رياح، وساروا عنها من الرُّعبِ والخوف، فمَلَكَها وجعل فيها واليًا وجندًا يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية، وأما ألفونسو فإنه لما انهزم حَلَقَ رأسَه، ونكَّسَ صليبَه، ورَكِبَ حمارًا، وأقسَمَ أنْ لا يركب فرسًا ولا بغلًا حتى تُنصَرَ النَّصرانيَّة.
ملك شهاب الدين الغوري قلعة بهنكر وغيرها من بلاد الهند .
العام الهجري : 592 العام الميلادي : 1195
تفاصيل الحدث:
سار شِهابُ الدين الغوري، صاحِبُ غُزنةَ، إلى بلد الهند، وحصَرَ قلعة بهنكر، وهي قلعةٌ عظيمةٌ منيعةٌ، فطلب أهلُها منه الأمان على أن يُسَلِّموها إليه، فأمَّنَهم وتسَلَّمها، وأقام عندها عشرة أيام حتى رتَّب جندَها وأحوالها، وسار عنها إلى قلعة كوالير، وبينهما مسيرةُ خمسة أيام، وفي الطريق نهرٌ كبيرٌ، فجازه، ووصل إلى كوالير، وهي قلعةٌ منيعة حصينة على جبلٍ عالٍ لا يَصِلُ إليها حَجَرُ منجنيق ولا نشاب، وهي كبيرة، فأقام عليها صَفرًا جميعَه يُحاصِرُها، فلم يبلغ منها غَرَضًا، فراسله مَن بها في الصُّلحِ، فأجابهم إليه على أن يُقِرَّ القلعةَ بأيديهم على مالٍ يحمِلونَه إليه، فحَمَلوا إليه فيلًا حِملُه ذَهَب، فرحل عنها إلى بلاد آي وسور، فأغار عليها ونَهَبها، وسبى وأسر ما يعجِزُ العادُّ عن حصره، ثم عاد إلى غُزنةَ سالِمًا.
انتصار أبي يوسف يعقوب على الفرنج وفتح عدد من حصونهم .
العام الهجري : 592 العام الميلادي : 1195
تفاصيل الحدث:
لَمَّا انتصر أبو يوسفَ يعقوب الموحِّدي على نصارى الأسبان السَّنةَ الماضية, حَلَقَ ألفونسو رأسه، ونكَّس صليبه، وركب حمارًا، وأقسم أنْ لا يركب فرسًا ولا بغلًا حتى تُنصر النصرانيَّة, فجمع جموعًا عظيمة، وبلغ الخبَرُ بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد المغربِ مراكش وغيرها يستنفِرُ النَّاسَ مِن غير إكراه، فأتاه من المتطوِّعة والمرتزقين جمعٌ عظيم، فالتَقَوا في ربيع الأول من هذه السنة، فانهزم الفرنجُ هزيمة قبيحة، وغَنِمَ المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجَّه إلى مدينة طليطلة فحصرها، وقاتلها قتالًا شديدًا، وقطَعَ أشجارها، وشنَّ الغارةَ على ما حولها من البلاد، وفتَحَ فيها عِدَّةَ حصون، فقتل رجالَها، وسبى حريمَها، وخَرَّب دُورَها، وهَدَم أسوارها، فضَعُفَت النصرانية حينئذٍ، وعَظُمَ أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوبُ إلى إشبيلية فأقام بها، فلمَّا دخَلَت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا واجتمَعَ ملوكها، وأرسلوا يطلُبونَ الصُّلحَ، فأجابهم إليه بعد أن كان عازمًا على الامتناعِ مريدًا لملازمة الجهادِ إلى أن يفرغَ منهم، فأتاه خبَرُ علي بن إسحق الملثم الميورقي أنَّه فعل بإفريقيَّة من الأفاعيل الشنيعة، فتَرَك عزمه، وصالَحَهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخِرَ سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
بناء مسجد الكتيبة الجامع بمدينة مراكش بالمغرب الأقصى .
العام الهجري : 592 العام الميلادي : 1195
تفاصيل الحدث:
تبدأُ قِصَّةُ بناء مسجد الكتيبة منذ الأيامِ الأولى لانتصارِ الموحِّدين على المرابطين؛ فقد أبى كثيرٌ من الموحِّدين دخولَ البلدة أو الاستقرار فيها؛ لأنهم كانوا يسمعون مُؤَسِّسَ دولتهم المهدي (ابن تومرت) يقول لهم دائمًا: لا تدخلوا مراكش حتى تُطَهِّروها، ولما التمسوا معنى تطهيرِها لدى فقهائِهم أجابوهم أنَّ مساجد مراكش فيها انحرافٌ قليلٌ في القبلة عن الجهةِ الصَّحيحةِ، فعليكم أن تبنوا مسجِدًا دقيق الاتجاه، صحيحَ القبلة فيها. وهكذا قام عبدُ المؤمن بن علي أمير الموحِّدين بهدم مسجدِ قَصرِ الحجر ذي القبلة الخطأ، وهدم الجامِعَ الذي كان قد بناه علي بن يوسف أميرُ المرابطين بأدنى المدينة، ثم شرع في بناءِ جامعٍ عظيم مكانه. أُطلِقَ على هذا الجامِع اسمُ جامع الكتيبة الذي ابتدأ بناؤه سنة 548 ويعتبر واحدًا من ثلاثة آثار معمارية كبرى في دولة الموحِّدين، وهذه الآثار هي: رباط تازا، وجامع تيمنلل، وجامع الكتيبة. ويذهَبُ بعض الباحثين إلى أنَّ الموحِّدينَ وَقَعوا أوَّلَ الأمرِ رَغمَ حِرصِهم في نفس خطأ المرابطين؛ حيث لم يُصَوِّبوا مسجِدَهم الجديد نحو القبلة بالدقة التي كانوا يرجونَها؛ مِمَّا حمَلهم على بناءِ جامعٍ آخَرَ إلى جواره صحيحِ المحراب دقيق الاتجاه؛ ولهذا فجامع الكتيبة أنشئَ في ظن هؤلاء مرَّتين لا مرة واحدة.. وما تزال آثارُ الجامع الأول ظاهرة، وارتفاعُ المنارة إلى أعلى يصل إلى 67.5 مترًا، أي: ما يوازي عمارةً مِن عشرين طابقًا. وجُدرانُها مَطليَّة كُلُّها بالجصِّ الأبيض المائِلِ إلى الأصفر.
ملك العادل مدينة دمشق من الأفضل .
العام الهجري : 592 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1196
تفاصيل الحدث:
مَلَك المَلِكُ العادِلُ أبو بكر بنُ أيوب مدينة دمشقَ مِن ابن أخيه الأفضَلِ عليِّ بن صلاح الدين، وكان أبلَغُ الأسباب في ذلك وثوقَ الأفضل بالعادل، فلما أقام العادِلُ عند العزيز بمصر استمالَه، وقَرَّرَ معه أنَّه يخرج معه إلى دمشقَ ويأخُذُها من أخيه ويُسَلِّمُها إليه، فسار معه من مصرَ إلى دمشق، وحَصَروها، واستمالوا أميرًا من أمراءِ الأفضَلِ يقال له العزيزُ بن أبي غالب الحمصي، فسَلَّمَ إليه بابًا من أبواب دمشقَ يُعرَفُ بالباب الشرقي ليحفَظَه، فمال إلى العزيزِ والعادل، ووعَدَهما أنه يفتَحُ لهما الباب، ويُدخِل العسكر منه إلى البلدِ غِيلةً، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب وقتَ العصر، وأدخَلَ المَلِك العادِلَ منه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فلم يشعُرِ الأفضَلُ إلَّا وعَمُّه معه في دمشق، ورَكِبَ الملك العزيز ووقف بالميدان الأخضَرِ غربيَّ دمشق، ثمَّ أرسلا إلى الأفضَلِ وأمَراه بمفارقةِ القلعة وتسليمِ البلد على قاعدةِ أن تُعطى قلعة صرخد له، ويُسَلَّم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضَلُ ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربيَّ دمشق، وتسلَّم العزيزُ القلعة ودخلها، وأقام بها أيامًا، ثمَّ لم يزل به عَمُّه العادل حتى سَلَّمَ البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضَلُ إلى صرخد، وكان العادِلُ يَذكُرُ أنَّ الأفضَلَ سعى في قَتلِه؛ فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضَلُ يُنكِرُ ذلك ويتبرَّأُ منه، وقيل: بل كان سبَبُ ذلك سوء تدبير وزير الأفضَلِ ضياء الدين بن الأثير الجزري، الذي هرب بعد إخراجِ الأفضَلِ مِن دمشق، وقيل: إن العزيز استناب عمَّه العادِلَ على دمشق وبَقِيَت الخطبة له والسكَّة باسمِه.
محاولة العزيز عثمان بن صلاح الدين ملك مصر هدم الأهرامات .
العام الهجري : 592 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1196
تفاصيل الحدث:
عزم العزيزُ عُثمانُ بنُ صلاح الدين الأيوبي على نَقضِ الأهرام، ونَقْل حجارتها إلى سورِ دمياط لبنائه، فقيل له: إن المؤنةَ تَعظُمُ في هَدمِها، والفائدةَ تَقِلُّ مِن حَجَرِها، فانتقل رأيُه من الهَرَمين الكبيرين إلى الهرم الصغيرِ، وهو مبنيٌّ بالحجارة الصوان، فشرع في هدمه، وأراد كذلك إخراجَ الكنوز من تحته فبَقِيَ العمال شهورًا، ثم تركوه بعد أن عَجَزوا عن هَدمِه أيضًا.
========
116. تطوير الموحدين بناء مدينة الرباط بالمغرب الأقصى العام الهجري : 593 العام الميلادي : 1196
تفاصيل الحدث:
يرجِعُ تاريخُ مدينةِ الرِّباط إلى فتراتٍ تاريخية مختلفة، إلَّا أنَّ التأسيس الأوَّلي للمدينة يعودُ إلى عهد المرابطين الذين أنشؤوا رباطًا مُحَصَّنًا؛ ذلك أنَّ هاجِسَ الأمن كان أقوى العوامِلِ التي كانت وراء هذا الاختيار؛ ليكون نقطةً لتجَمُّع المجاهدين، ورَدِّ الهَجَمات خلالَ عهد الموحدين، عرفَت المدينة إشعاعًا تاريخيًّا وحضاريًّا؛ حيث تمَّ تحويلُ الرباط (الحصن) على عهدِ عبد المؤمن الموحِّدي إلى قصبة مُحصَّنة لحماية جيوشِه التي كانت تَنطلِقُ في حملات جهادية صَوبَ الأندلس، وفي عهد حفيدِه يعقوب المنصور، أراد أن يجعَلَ مِن رباط الفتح عاصِمةً لدولته، وهكذا أمرَ بتَحصينِها بأسوارٍ مَتينةٍ، وشَيَّدَ بها عِدَّةَ بنايات من أشهرِها مسجِدُ حسان بصومعتِه الشَّامخة.
فتح ملك العادل يافا عنوة .
العام الهجري : 593 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1197
تفاصيل الحدث:
مَلَك العادِلُ أبو بكرِ بنُ أيوبَ مدينةَ يافا من الساحِلِ الشاميِّ وهي بيد الفرنج، وسَبَبُ ذلك أنَّ الفرنجَ كان قد مَلَكَهم الكند هري، وكان الصُّلحُ قد استقَرَّ بين المسلمين والفرنج أيَّامَ صلاح الدين الأيوبي، فلما توفِّيَ ومَلَك أولادُه بعده، جَدَّد المَلِكُ العزيزُ عثمان بن صلاح الدين الهُدنةَ مع الكند هري وزاد في مُدَّة الهدنة، وبَقِيَ ذلك إلى هذه السَّنة، وكان بمدينةِ بيروت أميرٌ يُعرَفُ بأسامة، وهو مقطِعُها، فكان يُرسِلُ الشواني تقطَعُ الطريقَ على الفرنج، فاشتكى الفرنجُ مِن ذلك غيرَ مَرَّةٍ إلى الملك العادل بدمشق، وإلى المَلِك العزيز بمصر، فلم يمنعا أسامةَ مِن ذلك، فأرسلوا إلى مُلوكِهم الذين داخِلَ البحر يَشتَكون إليهم ما يفعَلُ بهم المسلمون، ويقولون: إن لم تُنجِدونا، وإلَّا أخَذَ المسلمون البلاد، فأمَدَّهم الفرنجُ بالعساكِرِ الكثيرة، وكان أكثَرُهم مِن مَلِك الألمان، وكان المقَدَّم عليهم قسيس يُعرَفُ بالخنصلير، فلما سَمِعَ العادل بذلك أرسل إلى العزيزِ بمصرَ يَطلُبُ العساكِرَ، وأرسل إلى ديارِ الجزيرة والموصل يَطلُبُ العساكر، فجاءته الأمدادُ واجتمعوا على عين جالوت، فأقاموا شَهرَ رمضان وبعضَ شوال، ورحلوا إلى يافا، وملكوا المدينةَ، وامتنع مَن بها بالقلعةِ التي لها، فخَرَّب المُسلِمونَ المدينة، وحَصَروا القلعةَ، فمَلَكوها عَنوةً وقهرًا بالسَّيفِ في يومها، وهو يومُ الجمعة، وأُخِذَ كلُّ ما بها غنيمةً أسرًا وسَبيًا، ووصل الفرنجُ من عكَّا إلى قيسارية؛ ليَمنَعوا المسلمين عن يافا، فوصلهم الخبَرُ بها بمِلكِها فعادوا، وكان سبَبُ تأخُّرِهم أنَّ مَلِكَهم الكندي هري سَقَط من موضعٍ مُرتفعٍ بعكَّا فمات، فاختَلَّت أحوالُهم فتأخَّروا لذلك.
وفاة سيف الإسلام صاحب اليمن أخو السلطان صلاح الدين .
العام الهجري : 593 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1197
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ سَيفُ الإسلام أبو الفوارِسِ طغتكين بن أيوب بن شاذي بن مروان المنعوتُ بالملك العزيز ظهير الدين، صاحِب اليمن بزبيد، أخو صلاح الدين الأيوبي، لَمَّا ملك صلاحُ الدين الدِّيارَ المصريَّةَ سَيَّرَ أخاه شمسَ الدولة توران شاه إلى بلادِ اليمن، فمَلَكَها واستولى على كثيرٍ مِن بلادها، ورجع عنها، ثمَّ سَيَّرَ السلطان إليها بعد ذلك أخاه سيفَ الإسلام، وذلك في سنة 577, وكان رجلًا شجاعًا شديدَ السيرة، مُضَيِّقًا على رعيَّتِه، يشتري أموالَ التجار لنفسه ويبيعُها كيف شاء، وأراد مِلكَ مَكَّةَ، فأرسل الخليفةُ الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمَنَعَه من ذلك، وجمعَ مِن الأموال ما لا يحصى، حتى إنَّه مِن كثرته كان يَسبِكُ الذهب ويجعلُه كالطاحون ويدَّخِرُه، لما قدم للديارِ المصرية وسلطانها يومئذٍ ابنُ أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن السلطان صلاح الدين، ألزمه أربابُ ديوان الزكاة بدَفعِ الزكاة من المتاجِرِ التي وصلت بصُحبتِه، حارب الزيدية في اليمن، وبعد أعوامٍ أخَذَ صنعاء, وكانت دولتُه أربع عشرة سنة، ولَمَّا توفي مَلَكَ اليَمنَ بعده ابنُه المعز إسماعيل، وكان أهوج كثير التخليط، بحيث إنَّه ادَّعى أنه قُرَشيٌّ من بني أمية، وخَطَب لنفسه بالخلافة، وتلقَّبَ بالهادي، فلمَّا سَمِعَ عمُّه الملك العادل ذلك ساءه وأهمَّه، وكتب إليه يلومُه ويوبِّخُه، ويأمُرُه بالعود إلى نسَبِه الصحيح، وبتَرْك ما ارتكبه ممَّا يُضحِكُ الناس منه، فلم يلتَفِت إليه ولم يرجِعْ، وبقي كذلك، وحارب رأسَ الزيديَّة وهزمه، وأنشأ بزبيد مدرسة، ولَمَّا أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، وثَبَوا عليه فقتلوه، وملَّكوا عليهم بعده أميرًا من مماليك أبيه.
احتلال الفرنج بيروت .
العام الهجري : 593 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1197
تفاصيل الحدث:
بعد فراغ الملك العادل من فتح يافا عاد المسلمون إلى عين جالوت، فوصَلَهم الخبَرُ بأن الفرنج على عَزمِ قصد بيروت، فرحل العادِلُ والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريبِ بيروت، فسار إليها جمعٌ مِن العسكر، وهَدَموا سور المدينة سابِعَ ذي الحجة، وشَرَعوا في تخريب دورها وتخريبِ القلعة، فمَنَعَهم أسامة من ذلك، وتكَفَّل بحِفظِها، ورحل الفرنجُ مِن عكَّا إلى صيدا، وعاد عسكَرُ المسلمين من بيروت، فالتَقَوا بالفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقُتِلَ من الفريقين جماعةٌ، وحَجَزَ بينهم الليل، وسار الفرنجُ تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هَرَب منها أسامة وجميعُ من معه من المسلمين، فملكها الفرنج صفوًا عَفْوًا بغيرِ حَربٍ ولا قتال، فكانت غنيمةً باردةً، فأرسل العادل إلى صيدا من خرَّبَ ما كان بَقِيَ منها؛ فإن صلاح الدين كان قد خَرَّبَ أكثَرَها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارَها، وخَرَّبوا ما لها من قُرًى وأبراج، فلما سَمِعَ الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها، ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذِنَ العادل للعساكر الشرقيَّة بالعود ظنًّا منه أن الفرنجَ يقيمونَ ببلادِهم.
انهزام الخطا الترك من الغورية .
العام الهجري : 594 العام الميلادي : 1197
تفاصيل الحدث:
عبَرَ كُفَّارُ الخطا الترك نهرَ جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثُوا في البلاد وأفسَدوا، فلَقِيَهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلَهم فانهزم الخطا، وكان سَبَبُ ذلك أنَّ خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلادِ، ومَلَكَها وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طَلَبَ السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفةُ إلى غياث الدين ملك الغور وغُزنة يأمُرُه بقَصدِ بلاد خوارزم شاه ليعودَ عن قَصدِ العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسَلَه غياث الدين يُقَبِّحُ له فِعْلَه، ويتهَدَّدُه بقَصدِ بلاده وأخْذِها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا الكُفَّار يشكو إليهم من غياثِ الدين، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاءً، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكِرُ معه، وغياث الدين به من النقرسِ ما يمنَعُه من الحركة، إنما يُحمَلُ في محفَّة، والذي يقود الجيشَ ويباشِرُ الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا الترك إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازمًا على قَصدِ هراة ومحاصَرتِها، وعبَرَ الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور وقَتَلوا وأسروا ونهبوا وسَبَوا كثيرًا لا يحصى، فاستغاث النَّاسُ بغياث الدين، فلم يكُنْ عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونَه بالإفراج عن بلخ، أو أنَّه يَحمِلُ ما كان مِن قبَلِه يحمِلُه من المالِ، فلم يجِبْهم إلى ذلك، وعظُمَت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدبَ الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قِبَل غياث الدين، وكان شجاعًا، وكاتب الحُسَين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأميرُ حروش الغوري، وساروا بعساكِرِهم إلى الخطا، فبَيَّتوهم، وكبسوهم ليلًا، فأتاهم هؤلاء الغوريَّة وقاتلوهم، وأكثروا القتلَ في الخطا، وانهزم مَن سَلِمَ منهم من القتل، ثم قَوِيَت قلوبهم، وثَبَتوا واقتتلوا عامَّةَ نَهارِهم، فقتل من الفريقين خلقٌ عظيم، ولَحِقَت المتطوعة بالغوريِّينَ، وأتاهم مَدَدٌ من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمونَ، وعَظُمَت نكايتُهم في الكفار.
فتح خوارزم شاه بخارى .
العام الهجري : 594 العام الميلادي : 1197
تفاصيل الحدث:
لَمَّا ورد رسولُ ملك الخطا التُّرك الكُفَّار على خوارزم شاه، أعاد الجوابَ: إنَّ عَسكَرَك إنَّما قَصَد انتزاعَ بلخ، ولم يأتُوا إلى نصرتي، ولا اجتَمَعْتُ بهم، ولا أمرتُهم بالعبور، إن كنتُ فعلْتُ ذلك، فأنا مقيمٌ بالمال المطلوب مني، ولكِنْ حيث عجزتم أنتم عن الغوريَّة عُدتُم عليَّ بهذا القول وهذا المطلب، وأمَّا أنا فقد صلحت مع الغورية، ودخلت في طاعتِهم، ولا طاعةَ لكم عندي، فعاد الرسولُ بالجواب، فجَهَّزَ ملك الخطا جيشًا عظيمًا وسَيَّرَه إلى خوارزم فحصروها، فكان خوارزم شاه يخرجُ إليهم كل ليلة، ويقتُلُ منهم خلقًا، وأتاه من المتطوِّعة خلقٌ كثير، فلم يَزَلْ هذا فِعْلَه بهم حتى أتى على أكثَرِهم، فدخل الباقون إلى بلادِهم، ورحل خوارزم شاه في آثارهم، وقَصَد بخارى فنازلها وحَصَرها، وامتنع أهلُها منه، وقاتلوه مع الخطا، فلم يَزَلْ هذا دأبَهم حتى ملك خوارزم شاه البلدَ بعد أيام يسيرة عَنوةً، وعفا عن أهله، وأحسَنَ إليهم، وفَرَّقَ فيهم مالًا كثيرًا، وأقام به مُدَّةً ثم عاد إلى خوارزم.
وفاة السلطان عماد الدين زنكي بن قطب الدين مودود .
العام الهجري : 594 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1197
تفاصيل الحدث:
هو أبو الفَتحِ وأبو الجود عِمادُ الدين زنكي بنُ قُطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن اقسنقر، صاحِبُ سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، كان قد مَلَك حلب سنة 577 بعد ابنِ عَمِّه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ومَلَك بعدَه ابنُه قطب الدين محمد، وتولَّى تدبير دولته مجاهِدُ الدين يرنقش مملوكُ أبيه، كان يحِبُّ أهل العلم والدين، ويحتَرِمهم ويجلس معهم ويرجع إلى أقوالهم، وكان شديد التعَصُّب لمذهب الحنفية، كثيرَ الذَّمِّ للشافعيَّة، فمِن تعَصُّبِه أنه بنى مدرسة للحنفيَّة بسنجار، وشَرَط أن يكون النظَرُ للحنفيَّةِ مِن أولاده دونَ الشافعيَّة، وشَرَطَ أن يكون البوَّاب والفراش على مذهب أبي حنيفةَ، وشَرَط للفُقَهاءِ طبيخًا يُطبَخُ لهم كلَّ يَومٍ.
حصار الفرنج حصن تبنين .
العام الهجري : 594 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
في مُنتَصَف المحَرَّم، بلغ المَلِكَ العادِلَ أنَّ الفرنج قد نازلوا حِصنَ تبنين، فسَيَّرَ إليه عسكرًا يحمونَه ويَمنَعون عنه، ورحلَ الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أوَّلَ صفر وقاتلوا من به، وجدُّوا في القتال، ونَقَبوه من جهاتهم، فلمَّا عَلِمَ العادل بذلك أرسل إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين بمصرَ يطلُبُ منه أن يَحضُرَ هو بنفسه، فسار العزيزُ مُجِدًّا فيمن بَقِيَ معه من العساكر، وأمَّا مَن بحصنِ تبنين فإنَّهم لَمَّا رأوا النقوبَ قد خَرَّبَت تل القلعة، ولم يبقَ إلَّا أن يَملِكوها بالسَّيفِ، نزل بعضُ من فيها إلى الفرنجِ يَطلُبُ الأمانَ على أنفُسِهم وأموالِهم لِيُسَلِّموا القلعة، وكان المرجِعُ إلى القسيس الخنصلير من أصحابِ مَلِك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمينَ بَعضُ الفرنج الذين مِن ساحِلِ الشامِ: إنْ سَلَّمتُم الحِصنَ استأسَرَكم هذا وقتَلَكم؛ فاحفَظوا نُفوسَكم، فعادوا كأنَّهم يُراجِعونَ مَن في القلعةِ لِيُسَلِّموا، فلما صَعِدوا إليها أصرُّوا على الامتناع، وقاتلوا قتالَ من يحمي نفسَه، فحَمَوها إلى أن وصل المَلِكُ العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنجُ بوصوله واجتماعِ المُسلِمين، وأنَّ الفرنجَ ليس لهم مَلِكٌ يَجمَعُهم، وأنَّ أمْرَهم إلى امرأة، وهي المَلِكة؛ اتفقوا وأرسلوا إلى مَلِك قبرص واسمُه هيمري، فأحضروه فزَوَّجوه بالمَلِكة زوجة الكند هري، فلمَّا مَلَكَهم لم يَعُدْ إلى الزَّحفِ على الحِصنِ، ولا قاتَلَه، واتَّفَق وصول العزيز أوَّل شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكِرُ إلى جبل الخليل الذي يُعرَفُ بجبل عاملة، فأقاموا أيامًا، والأمطارُ متداركة، فبَقِيَ إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنجَ، وأرسل رماةَ النشاب، فرموهم ساعةً وعادوا، ورَتَّب العساكر ليزحَفَ إلى الفرنج ويجِدَّ في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر ربيع الآخر ليلًا، ثم رَحَلوا إلى عكَّا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصُّلحِ، وتطاول الأمرُ، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصالِ الحال، وبقي العادلُ وترَدَّدَت الرسلُ بينه وبين الفرنج في الصُّلحِ، فاصطَلَحوا على أن تبقى بيروت بِيَدِ الفرنج، وكان الصُّلحُ في شعبان، فلما انتَظَم الصلح عاد العادِلُ إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين من أرضِ الجزيرة.
حصار الملك العادل قلعة ماردين .
العام الهجري : 594 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
حاصر المَلِكُ العادل أبو بكر بن أيوب قلعةَ ماردين في شهر رمضان، وقاتَلَ مَن بها، وكان صاحِبُها حسام الدين يولق أرسلان, وكان صبيًّا والحاكِمُ في بلده ودولته مملوكَ أبيه النظام يرنقش، وليس لصاحِبِه معه حُكمٌ البتَّةَ في شيء من الأمور، ولَمَّا حصر العادل ماردين ودام عليها سَلَّمَ إليه بعضُ أهلها الربض بمخامرةٍ بينهم، فنهب العسكَرُ أهلَه نهبًا قبيحًا، وفَعَلوا بهم أفعالًا عظيمة لم يُسمَعْ بمِثلِها، فلما تسَلَّمَ الربض تمكنَ من حصر القلعة وقَطَع الميرةَ عنها، وبَقِيَ عليها إلى أن رحل عنها سنة خمس وتسعين.
قتال خوارزم شاه الإسماعيلية .
العام الهجري : 595 العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
لما استقَرَّت أمورُ خوارزم شاه في الريِّ اشتغَلَ بقتالِ الملاحدة، فافتتح قلعةً على باب قزوين تسمَّى أرسلان كشاه، وانتقل إلى حصارِ قلعة ألموت، فقُتِلَ عليها صدرُ الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالري، وكان قد تقَدَّم عنده تقدمًا عظيمًا، قَتَله الملاحدة، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم، فوثَب الملاحِدةُ على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقَتَلوه في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، فأمر تكش ولَدَه قطب الدين بقَصدِ الملاحدة، فقَصَد قلعة ترشيش وهي من قلاعِهم، فحصرها فأذعنوا له بالطاعة، وصالحوه على مائة ألف دينار، ففارَقَها، وإنما صالحهم لأنَّه بلَغَه خبَرُ مَرَضِ أبيه، وكانوا يراسِلونَه بالصلح فلا يفعَلُ، فلما سمع بمرض أبيه لم يرحَلْ حتى صالَحَهم على المال المذكور والطاعة ورحل.
عصيان أهل المهدية على يعقوب وطاعتها لولده محمد .
العام الهجري : 595 العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
كان أبو علي يونُس بنُ عمر وَلِيَ المهديَّةَ، وجَعَل قائِدَ الجيش بالمهدية محمَّد بن عبد الكريم، وهو شجاعٌ مشهور، فعَظُمَت نكايته في العرب، فلم يَبقَ منهم إلَّا من يخافه، فاتَّفَق أنه أتاه الخبَرُ بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعَدَل عنهم حتى جازهم، ثم أقبَلَ عائدًا يطلُبُهم، وأتاهم الخبَرُ بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلَقُوه أمامهم، فهربوا وتركوا المالَ والعيال من غيرِ قتال، فأخذ الجميعَ ورجع إلى المهديَّة، وسَلَّم العيالَ إلى الوالي، وأخَذَ مِن الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسَلَّمَ الباقيَ إلى الوالي وإلى الجند، ثمَّ إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيدِ بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حِزبِ الموحِّدين، واستجاروا به في رَدِّ عيالهم، فأحضَرَ محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادةِ ما أخذ لهم من النَّعَم، فقال: أخَذَه الجُندُ، ولا أقدِرُ على رده، فأغلظ له في القَولِ، وأراد أن يبطِشَ به، فاستمهَلَه إلى أن يرجِعَ إلى المهديَّة ويسترِدَّ مِن الجند ما يجِدُه عندهم، وما عَدِمَ منه غُرِّمَ العِوَضَ عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهديَّة وهو خائف، فلما وصلها جمَعَ أصحابَه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقتِه، فحَلَفوا له، فقَبَضَ على أبي علي يونس، وتغلَّب على المهديَّة ومَلَكَها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاقِ أخيه يونس، فأطلَقَه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسَلَها إليه أبو سعيد فَرَّقَها في الجند وأطلق يونس، وجمَعَ أبو سعيد العساكرَ، وأراد قَصْدَه ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى عليِّ بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضَدَ به، فامتنع أبو سعيدٍ مِن قصده، ومات يعقوبُ وولي ابنه محمد، فسير عسكرًا مع عَمِّه في البحر، وعسكرًا آخَرَ في البر مع ابنِ عَمِّه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصلَ عسكر البحر إلى بجاية، وعسكَرُ البَرِّ إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثَّم ومن معه من العرب من بلاد إفريقيَّة إلى الصحراء، ووصل الأسطولُ إلى المهديَّة، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لَقِيَ من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعةِ أمير المؤمنين محمد، ولا أسَلِّمُها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يَصِلُ من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمَّد مَن يتَسَلَّمُها منه، وعاد إلى الطاعةِ.
فتنةٌ عَظيمةٌ بين غياث الدين، مَلِك الغور وغزنة بمدينة فيروزكوه .
العام الهجري : 595 العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
كانت فتنةٌ عَظيمةٌ بعَسكَرِ غياث الدين، مَلِك الغور وغزنة، وهو بفيروزكوه، عَمَّت الرعية والملوك والأمراء، وسَبَبُها أن الفخر محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الإمامُ المشهور، الفقيهُ الشافعيُّ، فارق بهاءَ الدين صاحِبَ باميان وقَصَد غياثَ الدين الغوري خال بهاء الدين، فالتقاه وبجَّلَه وأنزله، وبنى له مدرسةً، وقَصَده الفُقَهاءُ من النواحي، فعظم ذلك على الكرَّامية، وهم خلقٌ بهراة، وكان أشد الناس عليه ابنَ عم غياث الدين وزَوج بنته، الملك ضياء الدين، فاتفق حضورُ الفُقَهاء الكرَّامية والحنفية والشافعيَّة، وفيهم فخر الدين الرازي، والقاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة، وهو من الكرَّامية الهيصمية، وله عندهم محلٌّ كبير لزُهدِه وعِلمِه وبيته، فلمَّا اجتمعوا عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة. فتكلَّم الرازي، فاعترض عليه ابن القدوة، وطال الكلامُ، فقام غياث الدين فاستطال عليه الفَخرُ، وسَبَّه وشَتَمَه، وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقولَ: لا يفعل مولانا إلا وأخذك الله، أستغفر الله؛ فانفصلوا على هذا، وقام ضياءُ الدين في هذه الحادثة وشكا إلى غياثِ الدين، وذَمَّ الفخرَ، ونسبه إلى الزندقة ومَذهَب الفلاسفة، فلم يُصْغِ غياث الدين إليه، فلما كان الغدُ وعظ ابن عم المجد بن القدوة بالجامِعِ، فلما صَعِدَ المنبرَ قال بعد أن حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا اللهُ، ربَّنا آمَنَّا بما أنزلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسولَ فاكتُبْنا مع الشَّاهِدينَ، أيُّها الناسُ، إنَّا لا نقولُ إلا ما صَحَّ عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عِلمُ أرسطاطاليس، وكفريَّات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلَمُها، فلأيِّ حالٍ يُشتَمُ بالأمس شيخٌ من شيوخ الإسلام يَذُبُّ عن دين الله، وعن سُنة نبيه؟! وبكى وضَجَّ النَّاسُ، وبكى الكرَّامية واستغاثوا، وأعانهم مَن يُؤثِرُ بُعدَ الفخر الرازي عن السلطان، وثار النَّاسُ من كل جانب، وامتلأ البلدُ فِتنةً، وكادوا يَقتَتِلون، ويجري ما يَهلِكُ فيه خلقٌ كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعةً مِن عنده إلى الناسِ وسَكَّنَهم، ووعدهم بإخراجِ الفَخرِ الرازي من عندهم، وتقَدَّمَ إليه بالعَودِ إلى هراة، فعاد إليها.
وفاة الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 595 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ الملك العزيز أبو الفتح عماد الدين عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب ديار مصر، وُلِدَ سنة 567، جمادى الأولى. وحدَّث عن أبي طاهر السِّلَفي، وابنِ عوف. قال الذهبي: "وتمَلَّك بعد أبيه، وكان لا بأسَ بسيرتِه، قَدمَ دمشق وحاصَرَ أخاه الأفضل. نَقَلْتُ من خط الضياء الحافظ، قال: خرجَ إلى الصيد، فجاءته كُتُبٌ مِن دمشق في أذيَّة أصحابِنا الحنابلةِ في فِتنةِ الحافظ عبد الغني المقدسي, فقال: إذا رَجَعْنا من هذه السَّفرةِ، كُلُّ مَن كان يقولُ بمقالتهم أخرجناه مِن بلَدِنا. قال: فرماه فَرَسٌ، ووقع عليه، فخسَف صَدرَه، كذا حدثني يوسف بن الطفيل، وهو الذي غسَّلَه"وقيل: كان سبب موته أنَّه خرج إلى الصيد، فوصل إلى الفيومِ متصَيِّدًا، فرأى ذئبًا فركَضَ فرَسَه في طَلَبِه، فعثر الفرسُ فسَقَطَ عنه في الأرض ولَحِقَته حُمَّى، فعاد إلى القاهرة مريضًا، فبَقِيَ كذلك إلى أن توفي، عاش ثمانيًا وعشرين سنة، ومات في العشرين من المحرم، ودُفِنَ بقبة الشافعي, وأُقيمَ بعده ولدٌ له صبيٌّ, فلم يَتِمَّ له ذلك, وقيل: لَمَّا مات العزيز كان الغالِبُ على أمره مملوكَ والده فخر الدين جهاركس، وهو الحاكِمُ في بلده، فأحضَرَ إنسانًا كان عندهم من أصحابِ الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وأراه العزيزَ ميِّتًا، وسَيَّرَه إلى العادل وهو يحاصِرُ ماردين، ويستدعيه ليمَلِّكَه البلاد، وكان الأفضَلُ مُحَبَّبًا إلى الناس يريدونه، فراسله الأمراءُ مِن مِصرَ يَدعونَه إليهم ليُمَلِّكوه، فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر، متنكرًا في تسعة عشر نَفسًا؛ لأن البلادَ كانت للعادل، ويَضبِطُ نُوَّابُه الطرق؛ لئلَّا يجوز إلى مصرَ ليجيءَ العادِلُ ويَملِكَها، ثم دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول، وأصلَحَ الأمور، وقَرَّرَ القواعِدَ والمرجِعَ في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج.
وفاة ابن رشد الحفيد الفيلسوف الأندلسي .
العام الهجري : 595 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1198
تفاصيل الحدث:
هو العلَّامةُ فيلسوف الوقت، أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن شيخ المالكيَّة أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي. حفيدُ العلَّامة ابن رشد الفقيه المتوفى سنة 520، وُلِدَ سنة عشرين قبل وفاة جده العلامة بشهر واحد. درس الفقه والأصول حتى برَعَ فيه وأقبل على عِلمِ الكلام والفلسفة وعلوم الأوائل، حتى صار يُضرَبُ به المثَلُ فيها. واشتغل بالطبِّ والرياضيات. كان ذكيًّا رَثَّ البَزَّة، قَوِيَّ النفس، أوحَدَ زمانه في علم الفقه والخلاف. نُفِيَ إلى بلاد المغرب بسبب اشتغالِه بالفلسفة، وله كُتُب في الفقه والأصول واللغة، كان شديدَ الإعجاب بأرسطو. ألفَّ ابن رشد كتابًا رَدَّ فيه على كتابِ الغزالي (تهافُت الفلاسفة) مدافعًا فيه عن آراء الفلاسفة، وله كتابُ جوامع كتب أرسطوطاليس، وله في الطب كتاب الكليَّات في وظائف الجسم ومنافعها، وكتاب شرح أرجوزة ابن سينا في الطب، وله كتب أخرى في الفقه، مثل التحصيل، وله الكتاب المشهور بداية المجتهد ونهاية المقتصد، قال عنه الذهبي: "كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه، عَلَّلَ فيه ووَجَّه، ولا نعلَمُ في فنه أنفَعَ منه، ولا أحسَنَ مَساقًا"، وله كتابُ الكشف عن الأدلة في عقائد الملة، الذي رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. نقل الذهبي عن ابن الأبار الأندلسي أنه قال: "لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعِلمًا وفَضلًا. قال: وكان متواضِعًا، منخفِضَ الجناح، عُنِيَ بالعلم حتى حُكِيَ عنه أنه لم يترك النظَرَ والقراءة مذ عَقِلَ إلَّا ليلة وفاة أبيه وليلة عُرسِه، وأنه سوَّدَ فيما صَنَّف وقَيَّد, واختصر نحوًا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الأوائل، فكانت له فيها الإمامةُ دون أهل عصره. وكان يُفزَعُ إلى فُتياه في الطب كما يُفزَعُ إلى فتياه في الفقه، مع الحظِّ الوافِرِ مِن العربية, وقيل: كان يحفَظُ ديوان حبيب والمتنبي". قال الذهبي: قال ابن بشكوال: "كان ابن رشد فقيهًا عالِمًا، حافِظًا للفقهِ، مُقَدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرًا بأقوالهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسةِ في العلم والبراعة والفهم، مع الدِّينِ والفضل والوَقار والحلم، والسَّمت الحَسَن والهَدْي الصالح" وليَ قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث، فحُمِدَت سيرته وعَظُم قَدْرُه. قال شيخ الشيوخ تاج الدين: "لَمَّا دخلتُ إلى البلاد سألتُ عنه، فقيل: إنه مهجورٌ في داره من جهةِ المنصور يعقوب الموحدي، ولا يدخُلُ أحَدٌ عليه، ولا يخرج هو إلى أحَدٍ. فقيل: لم ؟ قالوا: رُفِعَت عنه أقوالٌ رَدِيَّة، ونُسِبَ إليه كثرةُ الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل. ومات وهو محبوسٌ بداره بمراكش ". اعتقله السلطانُ المنصور يعقوب وأهانه، ثم أعاده إلى الكرامةِ، استدعاه واحتَرَمه وقَرَّبَه، حتى تعدى به الموضِعَ الذي كان يجلِسُ فيه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي، ثم بعد ذلك نَقِمَ عليه لأجل الحِكمة واشتغالِه بالفلسفة, ومات محبوسًا بداره بمراكش، ومات السلطان المنصورُ بعده بشهر.
مسير خوارزم شاه إلى مدينة الري .
العام الهجري : 595 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1199
تفاصيل الحدث:
سار خوارزم شاه علاء الدين تكش إلى الريِّ وغيرها من بلاد الجَبَل، لَمَّا بلَغَه أنَّ نائِبَه بها مياجق قد تغيَّرَ عن طاعته، فسار إليه فخافه مياجق، فجعل يفِرُّ مِن بين يديه، وخوارزم شاه في طَلَبِه يدعوه إلى الحضورِ عنده، وهو يمتَنِعُ، فاستأمن أكثَرُ أصحابه إلى خوارزم شاه، وهرب هو، فدخل قلعةً من أعمال مازندران فامتنع بها، فسارت العساكِرُ في طلبه فأُخذَ منها وأُحضِرَ بين يدي خوارزم شاه فأمَرَ بحَبسِه بشفاعة أخيه أقجة, وسُيِّرَت الخِلَع من الخليفة لخوارزم شاه ولِوَلَدِه قطب الدين محمد، وتقليد ما بيده من البلاد، فلَبِسَ الِخلعةَ.
وفاة يعقوب المنصور حاكم الموحدين بالمغرب وولاية ابنه بعده .
العام الهجري : 595 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1199
تفاصيل الحدث:
هو المنصور أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي، صاحِبُ المغرب والأندلس. ولِدَ في ربيع الأول سنة 554كان صافي السمرةِ جدًّا، ليس بالطَّويلِ، جميل الوجه، أفْوَهَ أعيْنَ، شديدَ الكَحَل، ضخم الأعضاءِ جَهْوريَّ الصوتِ، جَزْلَ الألفاظ، مِن أصدَقِ الناس لهجةً وأحسَنِهم حديثًا وأكثَرِهم إصابةً بالظن، مجرِّبًا للأمور، ولِيَ وَزارة أبيه، فبحث عن الأحوالِ بحثًا شافيًا وطالع مقاصِدَ العُمَّال والولاة وغيرهم مطالعةً أفادته معرفةَ جزئيات الأمور. ولَمَّا مات أبوه اجتمع رأيُ أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمِه فبايعوه وعَقَدوا له الولايةَ ودَعَوه أميرَ المؤمنين كأبيه وجَدِّه، ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسنَ قيامٍ، وهو الذي أظهَرَ أبَّهةَ مُلكِهم، ورفع رايةَ الجِهاد ونَصَب ميزانَ العَدلِ وبَسَط أحكامَ النَّاسِ على حقيقةِ الشَّرعِ، ونظر في أمور الدينِ والوَرَعِ والأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المنكر، وأقام الحدودَ حتى في أهلِه وعشيرته الأقربين كما أقامَها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوالُ في أيامه وعَظُمت الفتوحات, ولَمَّا مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكةِ من هناك، وأوَّلُ ما رَتَّب قواعِدُ بلاد الأندلس، فأصلحَ شأنَها وقَرَّر المقاتلينَ في مراكزها ومَهَّد مصالحَها في مدة شهرين, ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسيُّ ملكهم. بلغ الأميرَ يعقوبَ خَبَرُ مسير الفرنج وكثرةُ جموعهم لبلاد المسلمين في الأندلس، فما هاله ذلك، وجدَّ في السير نحوَهم حتى التَقَوا في شمال قرطبة على قُربِ قلعة رياح في مرج الحديد، وصافَّهم سنة 591، وانهزم الفرنجُ وعَمِلَ فيهم السيف فاستأصلهم قتلًا، وما نجا مَلِكُهم إلَّا في نفر يسير، ولولا دخولُ الليل لم يبقَ منهم أحد، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا عظيمة, ولم يُسمعْ في بلاد الأندلس بكسرةٍ مثلها. وكان المنصورُ ملكًا جوادًا عادلًا متمَسِّكًا بالشرع المطَهَّر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما ينبغي، مِن غير محاباة، ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبَسُ الصوف، ويَقِفُ للمرأة وللضعيفِ، ويأخُذُ لهم بالحَقِّ. وأوصى أن يُدفَنَ على قارعة الطريقِ؛ ليترحم عليه من يمُرُّ به. توفِّيَ ثامن عشر ربيع الآخر، وقيل جمادى الأولى، بمدينة سلا، وكان قد سار إليها من مراكش، وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا، وسمَّاها المهدية، مِن أحسن البلاد وأنزَهِها، فسار إليها يشاهِدُها، فتوفِّيَ بها، وكانت ولايته خمس عشرة سنة، وكان ذا جهاد للعَدُوِّ، وكان يتظاهَرُ بمذهَبِ الظاهريةَّ، فعَظُمَ أمرُ الظاهرية في أيامه، ثم في آخِرِ أيامه استقضى الشافعيَّةَ على بعض البلاد ومال إليهم، ولما مات قام ابنُه أبو عبد الله محمد بالملك بعده، وكان أبوه قد ولَّاه عهده في حياته، فاستقام المُلكُ له وأطاعه الناسُ، وجَهَّزَ جمعًا من العرب وسيَّرَهم إلى الأندلس احتياطًا من الفرنجِ.
حصر الأفضل مدينة دمشق .
العام الهجري : 595 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1199
تفاصيل الحدث:
لَمَّا مَلَك الأفضَلُ مِصرَ، واستَقَرَّ بها، واجتمعت الكلمةُ على الأفضَلِ بها، وصَلَ إليه رسولُ أخيه الملك الظاهر غازي، صاحِبِ حلب، ورُسُلُ ابنِ عَمِّه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحِبِ حمص، يحثَّانِه على الخروج إلى دمشق، واغتنام الفرصةِ بغَيبةِ العادل عنها، وبَذَلا له المساعدةَ بالمال والنَّفسِ والرجال، فبَرَز من مصر، فوصل إلى دمشقَ ثالث عشر شعبان، وكان العادِلُ قد أرسل إليه نوَّابُه بدمشق يعَرِّفونَه قَصْدَ الأفضل لهم، ففارق ماردين وخَلَّفَ ولده الملِكَ الكامِلَ مُحمَّدًا في جميع العساكِرِ على حصارها، فسَبَق الأفضَلَ، فدخل دمشقَ قبل الأفضَلِ بيومين، وأمَّا الأفضَلُ فإنَّه تقَدَّمَ إلى دمشقَ مِن الغد، وهو رابعَ عشر شعبان، ودخل ذلك اليومَ بعينه طائفةٌ يسيرةٌ مِن عسكَرِه من عسقلان إلى دمشقَ من باب السلامة، فلمَّا رآهم عامَّةُ البلد نادَوا بشِعارِ الأفضَلِ واستسلَمَ مَن به من الجُندِ، ونَزَلوا عن الأسوار، وبلَغَ الخَبَرُ إلى الملك العادل، فكاد يستسلِمُ، وتماسَكَ، فلما رأى عسكَرُ العادل بدمشق قِلَّةَ عدَدِهم، وانقطاعَ مَدَدِهم، وثَبُوا بهم وأخرجوهم منه، ثمَّ وصَلَ بعده المَلِكُ الظاهر، صاحِبُ حلب، ثاني عشر شهر رمضان، وأرادوا الزَّحفَ إلى دمشق، فمَنَعَهم الملك الظاهر مكرًا بأخيه وحَسَدًا له، ولم يشعُرْ أخوه الأفضَلُ بذلك، وأما الملك العادل فإنَّه لما رأى كثرةَ العساكِرِ وتتابعَ الأمدادِ إلى الأفضَلِ، عظم عليه، فأرسلَ إلى المماليكِ الناصريَّةِ ببيت المَقدِسِ يستدعيهم إليه، فساروا آخر شعبان، فوصل خبَرُهم إلى الأفضل، فسَيَّرَ أسد الدين، صاحِبَ حمص، ومعه جماعةٌ مِن الأمراء إلى طريقِهم ليمنعوهم، فسَلَكوا غيرَ طَريقِهم، فجاء أولئك ودخلوا دمشقَ خامس رمضان، فقَوِيَ العادل بهم قُوَّةً عظيمة، وأَيِسَ الأفضَلُ ومَن معه من دمشق، وخرج عسكَرُ دمشق في شوال، فكَبَسوا العسكرَ المصري، فوَجَدوهم قد حَذِروهم، فعادوا عنهم خاسرينَ، وأقام العسكَرُ على دمشق ما بين قُوَّة وضَعفٍ، وانتصارٍ وتخاذُل، حتى أرسل المَلِك العادل خلْفَ ولده الملك الكامل محمد، وكان قد رحل عن ماردين، وهو بحران، فاستدعاه إليه بعسكره، فسار على طريقِ البَرِّ، فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فعند ذلك رحل العسكَرُ عن دمشق وعاد الأفضَلُ إلى مصر.
انتزاع ملك العادل الديار المصرية من الأفضل بن صلاح الدين .
العام الهجري : 596 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1200
تفاصيل الحدث:
في سَنةِ خَمسٍ وتسعين حَصَر الأفضَلُ والظاهِرُ وَلَدا صلاح الدين دمشقَ؛ لأخذها مِن عَمِّهما الملك العادل ورحلا عنها، على عَزمِ المقام بحوران إلى أن يخرُجَ الشتاء، فلمَّا أقاموا برأس الماء وجد العسكَرُ بردًا شديدًا، لأنَّ البَردَ في ذلك المكان في الصَّيفِ موجود، فكيف في الشِّتاءِ، فتغَيَّرَ العزم عن المقام، واتَّفَقوا على أن يعود كلُّ إنسانٍ منهم إلى بلده، ويعودوا إلى الاجتماعِ، فتفَرَّقوا تاسع ربيع الأول، فعاد الظاهِرُ وصاحب حمص إلى بلادِهما، وسار الأفضَلُ إلى مصر، فوصل بلبيس، فأقام بها، ووصَلَتْه الأخبارُ بأنَّ عَمَّه الملك العادل قد سار من دمشقَ قاصِدًا مصر ومعه المماليكُ الناصريَّة، وكان عسكَرُه بمصر قد تفَرَّقَ عن الأفضل، فسار كلٌّ منهم إلى إقطاعِه ليربعوا دوابهم، فرام الأفضَلُ جَمْعَهم من أطراف البلاد، فأعجَلَه الأمر عن ذلك، ولم يجتَمِعْ منهم إلا طائفة يسيرة ممَّن قَرُب إقطاعه، ووصل العادل، فسار عن بلبيس، ونزل موضعًا يقال له السائحُ إلى طرف البلاد، ولقاء العادل قبل دخول البلادِ سابع ربيع الآخر، فانهزم الأفضَلُ، ودخل القاهرةَ ليلًا، وسار العادِلُ فنزل على القاهرة وحَصَرَها، فجمع الأفضَلُ مَن عنده من الأمراء واستشارهم، فرأى منهم تخاذلًا، فأرسل رسولًا إلى عَمِّه في الصلحِ وتسليم البلاد إليه، وأخْذِ العوض عنها، وطَلَب دمشق، فلم يجِبْه العادل، فنزل عنها إلى حرَّان والرَّها فلم يُجِبْه، فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور، فأجابه إلى ذلك، وتحالَفوا عليه، وخرج الأفضَلُ مِن مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، واجتمع بالعادِل، وسار إلى صرخد، ودخل العادِلُ إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ولَمَّا وصل الأفضل إلى صرخد أرسل مَن تسَلَّمَ ميافارقين وحاني وجبل جور، فامتنع نجمُ الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين، وسَلَّمَ ما عداها، فتردَّدَت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك، والعادِلُ يزعم أنَّ ابنَه عصاه، فأمسك عن المُراسلة في ذلك؛ لعِلمِه أن هذا فِعلٌ بأمر العادل، ولَمَّا ثبتت قدم العادل بمصرَ قَطَعَ خطبة الملك المنصور بن الملك العزيز في شوال وخَطَب لنفسه، وحاقَقَ الجندَ في إقطاعاتهم، واعتراضهم في أصحابِهم ومن عليهم من العسكر المقَرَّر، فتغَيَّرَت لذلك نياتُهم.
مقتل نظام الملك مسعود بن علي على يد الملاحدة الإسماعيلية .
العام الهجري : 596 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1200
تفاصيل الحدث:
هو نظام الملك مسعود بن علي، وزير خوارزم شاه تكش، وكان صالحًا كثيرَ الخير، حَسَن السِّيرة، شافعيَّ المذهب، بنى للشافعية بمرو جامعًا مُشرفًا على جامع الحنفيَّة، وبنى أيضًا مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعًا، وجعل فيها خزانة كتب، وله آثارٌ حسنة بخراسان باقية، وثب الملاحدة الإسماعيليَّة عليه فقتلوه، ولَمَّا مات خلَّف ولدًا صغيرًا، فاستوزره خوارزم شاه رعايةً لحق أبيه، فأشيرَ على الصبيِّ أن يَستعفيَ، فأرسل يقول: إنني صبيٌّ لا أصلُحُ لهذا المنصب الجليل، فيولِّي السلطانُ فيه من يَصلُحُ له إلى أن أكبر، فإن كنتُ أصلُحُ فأنا المملوكُ، فقال خوارزم شاه: لستُ أُعفيك، وأنا وزيرُك، فكُن مراجعي في الأمورِ؛ فإنه لا يقِفُ منها شيءٌ، فاستحسن النَّاسُ هذا، ثمَّ إن الصبي لم تَطُل أيَّامُه، فتوفي قبل خوارزم شاه بيسيرٍ.
وفاة السلطان علاء الدين خوارزم شاه .
العام الهجري : 596 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1200
تفاصيل الحدث:
هو خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان، صاحِبُ خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها من البلاد الجبالية، بشهرستانة بين نيسابور وخوارزم، وكان قد سار من خوارزم إلى خراسان، وكان به خوانيق، فأشار عليه الأطباءُ بترك الحركة، فامتنع، وسار، فلما قارب شهرستانة اشتَدَّ مَرَضُه فأرسل إلى ابنِه قطب الدين محمد يستدعيه، ويعَرِّفُه شدة مرضه، فوصل بعد موتِ أبيه، فولِيَ الملك بعده، ثم تلقَّبَ بعلاء الدين، لَقَب أبيه، وكان لقَبُه قطب الدين، وأمَرَ فحُمِلَ أبوه ودُفِنَ بخوارزم في تربةٍ عَمِلَها في مدرسة بناها كبيرةٍ عظيمةٍ، وكان عادلًا حسن السيرة، له معرفةٌ حَسَنةٌ وعِلمٌ، يَعرِفُ الفِقهَ على مذهب أبي حنيفة، ويَعرِفُ الأصولَ.
=======
117. محاولة انقلاب على ابن سيف الإسلام الأيوبي في اليمن .العام الهجري : 597 العام الميلادي : 1200
تفاصيل الحدث:
جمع عبد الله بن حمزة العلوي المتغَلِّب على جبال اليمن جموعًا كثيرةً فيها اثنا عشر ألف فارس، ومن الرجَّالة ما لا يحصى كثرةً، وكان قد انضاف إليه من جندِ المعز بن إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، صاحِب اليمن، خوفًا منه، وأيقَنوا بمُلك البلاد، واقتَسَموها، وخافَهم ابنُ سيف الإسلام خوفًا عظيمًا، فاجتمع قوَّاد عسكر ابنِ حمزة ليلًا ليتَّفِقوا على رأيٍ يكون العمَلُ بمقتضاه، وكانوا اثني عشر قائدًا فنَزَلت عليهم صاعقةٌ أهلكَتْهم، فأتى الخبرُ ابنَ سيف الإسلام في باقي الليلةِ بذلك، فسار إليهم مجِدًّا فأوقع بالعسكَرِ المجتمع، فلم يَثبُتوا له، وانهزموا بين يديه، ووضع السيفَ فيهم، فقَتَل منهم ستةَ آلاف قتيل أو أكثر من ذلك، وثَبَت مُلكُه واستقَرَّ بتلك الأرض.
قحط ووباء بمصر وغيرها .
العام الهجري : 597 العام الميلادي : 1200
تفاصيل الحدث:
تعَذَّرت الأقواتُ بديار مصر، وتزايدت الأسعارُ، وعَظُم الغلاءُ، حتى أكل النَّاسُ الميتاتِ، وأكَلَ بَعضُهم بعضًا، وتَبِعَ ذلك فناءٌ عظيم، وابتدأ الغلاءُ من أول العام، وتمادى الحالُ ثلاث سنين متواليةً، لا يَمُدُّ النيلُ فيها إلا مدًّا يسيرًا، حتى عَدِمَت الأقوات، وخرج من مصرَ عالمٌ كثيرٌ بأهليهم وأولادهم إلى الشام، فماتوا في الطُّرُقاتِ جُوعًا، وشَنع الموتُ في الأغنياء والفقراء، وأُكِلَت الكلابُ بأسرِها، وأُكِلَ من الأطفال خلقٌ كثير، ثم صار الناس يحتالُ بعضُهم على بعض، ويؤخَذُ مَن قَدَر عليه فيُؤكَل، وإذا غَلَب القويُّ ضعيفًا ذبَحَه وأكله، وفُقِدَ كثيرٌ مِن الأطباء لكثرةِ مَن كان يستدعيهم إلى المرضى، فإذا صار الطبيبُ إلى داره ذبَحَه وأكله، وخَلَت مدينة القاهرة ومِصرُ أكثَر أهلها، وصار من يموتُ لا يجِدُ من يواريه، فيصير عِدَّة أشهر حتى يؤكَلَ أو يبلى، واتَّفَق أن النيل توقَّفَ عن الزيادة في سنة ست وتسعين، فخاف النَّاسُ، وقَدِمَ إلى القاهرةِ ومِصرَ من أهل القرى خلقٌ كثير، فإنَّهم لم يجدوا شيئًا من القُوتِ، لا الحبوب ولا الخضروات، وكان الناس قد فَنُوا بحيث بَقِيَ من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر، إمَّا نفرانِ أو ثلاثة، فلم تجِدِ الجسورُ من يقوم بها، ولا القُرى من يعمل مصالحُها، وعَدِمَت الأبقار وجافت الطرقاتُ بمصر والقاهرة وقراهما، ثم أكلَت الدودةُ ما زُرِعَ، فلم يوجَدْ مِن التقاوى ولا من العقر ما يمكن به رَدُّه، ولم يبقَ بمصرَ عامِرٌ إلا شَطُّ النيل، وكانت أهل القرى تخرج للحَرثِ فيموتُ الرجلُ وهو ماسِكٌ المحراثَ، ثمَّ وقع في بني عنزة بأرضِ الشراة- بين الحجاز واليمن- وباءٌ عظيمٌ، وكانوا يسكُنونَ في عشرين قرية، فوقعَ الوباء في ثماني عشرة قريةً، فلم يبقَ منهم أحد، وكان الإنسانُ إذا قرب من تلك القرى يموت ساعةَ ما يقاربها، فتحاماها النَّاسُ، وبقيت إبلُهم وأغنامُهم لا مانع لها، وأمَّا القريتان الأخريان فلم يمُتْ فيهما أحد، ولا أحسُّوا بشيءٍ مِمَّا كان فيه أولئك, فسُبحانَ مُقَدِّرِ الأقدارِ!!
وفاة الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي .
العام الهجري : 597 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1201
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامةُ المفَسِّر، شيخُ الإسلام، مَفخَر العراق، الحافِظُ الواعِظُ جمالُ الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي- نسبة إلى فرضة نهر البصرة- المشهور بابن الجوزي، القُرَشي التيمي البكري البغدادي الفقيهُ الحنبلي. ينتهي نسبُه إلى أبي بكر الصديقِ رَضِيَ الله عنه. كان علَّامة عصره وإمامَ وَقتِه في الحديث وصناعة الوعظ. ولد سنة تسع- أو عشر- وخمسمائة، كان والده واعظًا ويعمَلُ في الصفر بنهر القلايين. برز أبو الفرج في علوم كثيرة. وقد جمع من المصنَّفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلَّدة وتفَرَّد بفن الوعظ الذي لَمْ يُسْبَقْ إليه ولا يُلحَق شأوُه فيه، وفي طريقتِه وشَكلِه، وفي فصاحته وبلاغتِه وعذوبتِه وحلاوةِ ترصيعِه ونفوذِ وعظِه، وغَوصِه على المعاني البديعة، وتقريبِه الأشياءَ الغريبة، هذا وله في العلومِ كُلِّها اليدُ الطولى، والمشاركاتُ في سائِرِ أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم، والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو. قال الذهبي: "كان رأسًا في التذكير بلا مُدافعة، يقول النَّظمَ الرائق، والنثرَ الفائق بديهةً، ويُسهِب ويعجب ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثلُه، فهو حامِلُ لواء الوعظ، والقَيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحُسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علَّامةً في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيِّدَ المشاركة في الطب، ذا تفنُّن وفَهمٍ وذكاء وحِفظٍ واستحضار، وإكبابٍ على الجمع والتصنيف، مع التصوُّن والتجمُّل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحُرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفتُ أحدًا صَنَّفَ ما صنف". ومن مصنفاته كتابُه في التفسير المشهور بزاد المسير، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله جامع المسانيد استوعب فيه غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب المنتظم في تواريخِ الأُمَم من العرب والعَجَم، وله الأحاديث الموضوعة، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وغير ذلك، وبالجملة فكُتُبه أكثر من أن تُعَدُّ, وكَتَب بخطه شيئًا كثيرًا. كانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان الجمعُ كثيرًا جِدًّا، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد، وكان يومًا مشهودًا. كان له من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز- وهو أكبرهم- مات شابًّا في حياته سنة 554، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقًّا له إلبًا عليه في زمن المحنةِ وغيرها، وقد تسَلَّط على كتُبِه في غيبته بواسط فباعها بأبخَسِ الأثمان، ثمَّ محيي الدين يوسف، وكان أنجَبَ أولادِه وأصغَرَهم، جلس للوعظ بعد أبيه، واشتغل وحَرَّر وأتقن وساد أقرانه، ثم باشر محيي الدين الحِسبةَ ببغداد، وتولى التدريسَ بالمدرسة المستنصريَّة لطائفة الحنابلة، ثم صار رسولَ الخلفاء إلى الملوك بأطرافِ البلاد، ولا سيما بني أيوب بالشام، وصار أستاذ دار الخلافة، وتوفي في وقعة التتر قتيلًا سنة 653. وكان لابنِ الجوزي عدة بنات منهن رابعة أم سبطِه شمس الدين أبي المظفر بن قزغلي الواعظ المشهور والمعروف بسبط ابن الجوزي، وهو حنفي المذهب، وله صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم، وصنف تاريخًا كبيرًا في أربعين مجلدًا سماه مرآة الزمان.
وفاة الأمير سقمان صاحب آمد ومُلك أخيه محمود بعده .
العام الهجري : 597 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1201
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ قُطبُ الدين سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان، صاحب آمد وحصن كيفا، ملك بعد والده، وتلقَّبَ بقطب الدين، وكان صغيرًا فقام بتدبيره القوَّام بن سماقا الأسعدي, ثم بادر سقمان إلى خدمة السلطان صلاح الدين وهو يحاصِرُ ميافارقين، فأقرَّه على ملك بلاده، وأنْ يَصدُرَ عن أمْرِه ونهيه, وكان سقمان شديدَ الكراهةِ لأخيه محمود، والنفور عنه، قد أبعده وأنزله حِصنَ منصور في آخِرِ بلادهم، واتخذَ مملوكًا اسمه إياس، فزوَّجَه أخته، وأحبَّه حبًّا شديدًا، وجعله وليَّ عهده، وفي رمضان من هذه السنة سَقَط سقمان من سطح جوسق كان له بظاهِرِ حِصنِ كيفا فمات، فلمَّا توفي مَلَك بعده مملوكُه إياس عِدَّة أيام، وتهدَّد وزيرًا كان لقطب الدين، وغيرَه من أمراء الدولة، فأرسلوا إلى أخيه محمود سرًّا يستدعونه، فسار مجِدًّا، فوصل إلى آمد وقد سبَقَه إليها إياس مملوكُ أخيه، فلم يقدِرْ على الامتناع، فتسَلَّم محمود البلادَ جميعَها ومَلَكَها، وحبسَ المملوك فبَقِيَ مدة محبوسًا، ثم شَفَع له صاحِبُ بلاد الروم، فأُطلِقَ مِن الحبس، وسار إلى الروم، فصار أميرًا من أمراءِ الدَّولةِ.
حصار دمشق ومحاولة أخذها من العادل .
العام الهجري : 597 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1201
تفاصيل الحدث:
بعد مِلكِ الملك العادل ديارَ مِصرَ، وقَطعِه خطبة الملك المنصور ولد الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي، فلمَّا فعل ذلك لم يَرْضَه الأمراء المصريون، وخَبُثَت نيَّاتُهم في طاعته، فراسلوا أخوَيِ العزيزِ: الظاهر بحلب، والأفضل بصرخد، يدعونَها إلى قصد دمشقَ وحَصرِها ليخرُجَ المَلِكُ العادل إليهم، فإذا خرج إليهم من مِصرَ أسلموه، وصاروا معهما، فيَملِكانِ البلاد، وكَثُرَ ذلك حتى فشا الخبَرُ واتصل بالملك العادل، فأرسل العادِلُ إلى ولده الذي بدِمشقَ يأمُرُه بحصر الأفضَلِ بصرخد، وكتَبَ إلى إياس جركس وميمون القصري، صاحب بلبيس، وغيرهما من الناصريَّة، يأمُرُهم الاجتماعَ مع ولده على حَصرِ الأفضل، وسَمِعَ الأفضل الخبر، فسار إلى أخيه الظاهرِ بحَلَب مستهَلَّ جمادى الأولى، ووصل إلى حلب عاشر الشهرِ، وكان الظاهِرُ قد جمع عَسكَرَه وقصَدَ منبج فمَلَكَها للسادس والعشرين من رجب، وسار إلى قلعةِ نجم وحصرها، فتسَلَّمَها آخر رجب، أما ابنُ العادل المقيم بدمشق فإنَّه سار إلى بصرى، وأرسل إلى جركس ومن معه، وهم على بانياس يحصُرونَها، يدعوهم إليه، فلم يجيبوه إلى ذلك بل غالطوه، فلما طال مُقامُه على بصرى عاد إلى دمشقَ، واجتمع عند المَلِك الظافر خضر بن صلاح الدين، وأنزلوه من صرخد، وأرسلوا إلى الملك الظاهِرِ والأفضل يحثونَهما على الوصولِ إليهم، وساروا منها إلى حمص، ثم سارا منها إلى دمشق على طريق بعلبك، فنزلوا عليها عند مسجِدِ القدم، فلما نزلوا على دمشق أتاهم المماليكُ الناصريَّة مع الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وكانت القاعدةُ استقَرَّت بين الظاهر وأخيه الأفضَلِ أنَّهم إذا ملكوا دمشق تكون بيَدِ الأفضل، ويسيرونَ إلى مصرَ، فإذا مَلَكوها تسَلَّمَ الظاهِرُ دمشق، فيبقى الشامُ جميعه له، وتبقى مصر للأفضَلِ، وكان الملك العادل قد سار من مِصرَ إلى الشام، فنزل على مدينةِ نابلس وسيَّرَ جمعًا من العسكر إلى دمشق ليحفَظَها، فوصلوا قبل وصولِ الظاهرِ والأفضل، وحضر فخرُ الدين جركس وغيره من الناصريَّة عند الظاهر، وزحفوا إلى دمشقَ وقاتلوها رابع عشر ذي القعدة، واشتَدَّ القتال عليها، فعادوا وقد قَوِيَ الطمع في أخْذِها، ثمَّ زحفوا إليها مرَّةً ثانية وثالثة، فلم يبقَ إلَّا مِلكُها، فحسد الظاهِرُ أخاه الأفضَلَ، فأرسلَ إليه يقول له: تكون دمشق له وبيده، ويُسَيِّرُ العساكر معه إلى مصر، فقال له الأفضلُ: قد علمْتَ أنَّ والدتي وأهلي، وهم أهلُك أيضًا، على الأرضِ، ليس لهم مَوضِعٌ يأوون إليه، فأحسِبُ أنَّ هذا البلد لك تُعيرُناه ليسكُنَه أهلي هذه المدَّة إلى أن يَملِكَ مصر، فلم يجبْه الظاهر إلى ذلك، ولَجَّ، فلما رأى الأفضَلُ ذلك الحال قال للناصريَّة وكل من جاء إليهم من الجند: إن كنتم جئتُم إليَّ فقد أذِنْتُ لكم في العَودِ إلى العادل، وإن كنتم جئتُم إلى أخي الظاهرِ فأنتم وهو أخبَرُ، وكان الناس كلهم يريدون الأفضَل، فقالوا: ما نريدُ سواك، والعادِلُ أحبُّ إلينا من أخيك؛ فأذِنَ لهم في العود، فهَرَب فخر الدين جركس وزين الدين قراجة الذي أعطاه الأفضل صرخد، فمنهم من دخل دِمشقَ، ومنهم من عاد إلى إقطاعِه، فلما انفسخ الأمرُ عليهم عادوا إلى تجديدِ الصُّلحِ مع العادل، فتردَّدَت الرسلُ بينهم واستقَرَّ الصلح على أن يكون للظاهِرِ منبج، وأفامية وكفر طاب، وقرى معينة من المعرة، ويكون للأفضل سميساط، وسروج، ورأس عين، وحملين، ورحلوا عن دمشقَ أوَّلَ المحرَّم سنة ثمان وتسعين.
ملك خوارزم شاه ما كان أخذه الغورية من بلاده .
العام الهجري : 598 العام الميلادي : 1201
تفاصيل الحدث:
في سنةِ سبع وتسعين مَلَك غياث الدين وأخوه شهابُ الدين ما كان لخوارزم شاه محمَّد بنِ تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها، وعادا عنها بعد أن أقطعا البلادَ، فلمَّا بلغ خوارزم شاه خبَرُ عودة العساكر الغوريَّة عن خراسان، ودخول شهاب الدين الهندَ، أرسل إلى غياثِ الدين يعاتِبُه ويُهَدِّدُه، فغالَطَه غِياثُ الدين في الجواب لتمديدِ الأيامِ بالمُراسلاتِ، ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكِرِ؛ فإن غياث الدين كان عاجزًا بسَبَبِ إصابته بداء النقرس، فلما وقفَ خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسَلَ إلى علاء الدين الغوري، نائب غياث الدين بخراسان، يأمُرُه بالرحيل عن نيسابور، ويتهَدَّدُه إن لم يفعل، فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك، ويُعَرِّفُه ميل أهلِ البلد إلى الخوارزميين، فأعاد غياث الدين جوابَه يقوِّي قَلْبَه، ويَعِدُه النصرةَ والمنع عنه، وجمع خوارزم شاه عساكِرَه وسار عن خوارزم نصفَ ذي الحجة سنة 597، ومَلَك خوارزم شاه مدينةَ مرو، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين، فحصره، وقاتله قتالًا شديدًا، وطال مقامُه عليها، وراسله غيرَ مَرَّة في تسليم البلد إليه، وهو لا يُجيبُ إلى ذلك انتظارًا للمَدَدِ مِن غياث الدين، فبقي نحو شهرين، فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلُبُ الأمانَ لِنَفسِه ولمن معه من الغوريَّة، وأنه لا يتعَرَّضُ إليهم بحَبسٍ ولا غيره من الأذى، فأجابه إلى ذلك، وحَلَف لهم، وخرجوا من البلد وأحسَنَ خوارزم شاه إليهم، ووصَلَهم بمال جليل وهدايا كثيرة، وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصُّلحِ بينه وبين غياث الدين وأخيه، فأجابه إلى ذلك. ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس، وبها الأمير زنكي، فحصره أربعين يومًا، وجرى بين الفريقينِ حروبٌ كثيرة، فضاقت الميرةُ على أهل البلد، لا سيما الحَطَب، فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلُبُ منه أن يتأخَّرَ عن باب البلد حتى يخرُجَ هو وأصحابه ويترك البلَدَ له، فراسله خوارزم شاه في الاجتماعِ به ليُحسِنَ إليه وإلى من معه، فلم يجِبْه إلى ذلك، واحتج بقُربِ نَسَبِه مِن غياث الدين، فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكِرِه، فخرج زنكي فأخذ من الغَلَّات وغيرها التي في المعسكَرِ ما أراد لا سيما من الحَطَب، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمرُ، فنَدِمَ حيث لم ينفَعْه الندم؛ ورحل عن البلد، وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونَه، فلما أبعد خوارزم شاه سار محمَّد بن جربك من الطالقان، وهو من أمراء الغوريَّة، وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يُعَرِّفُه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعِجَ إذا سَمِعَ الغلبة، وسمع الخوارزميون الخبَرَ، ففارقوا سرخس، وخرج زنكي ولقِيَ محمد بن جربك وعسكر في مرو الروذ، وأخذ خراجَها وما يجاورها، فسَيَّرَ إليهم خوارزم شاه عسكرًا مع خاله، فلَقِيَهم محمد بن جربك وقاتَلَهم، فلمَّا سَمِعَ خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى غياثِ الدين في الصلح، فأجابه عن رسالتِه مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني، ومرغن من قرى الغور، فقبض عليه خوارزم شاه.
الحملة الصليبية الرابعة واحتلال الصليبيين القسطنطينية .
العام الهجري : 598 العام الميلادي : 1201
تفاصيل الحدث:
قام البابا أنوسنت الثالث بالدعوة لحرب صليبية رابعة فاستجاب لدعوتِه عدَدٌ مِن أمراء أوربا أغلَبُهم من فرنسا، وكانت هذه الحملة حملةَ أمراء كاثوليك، وقد قرروا أن تكون وجهةُ هذه الحملة إلى مصرَ، ومنها إلى بيت المقدس، لكن الحملة تحوَّلَت إلى القسطنطينية، فلما وصلوها احتلُّوها احتلالَ المنتقم لما بين الأرثوذكس والكاثوليك من العداء، فقتلوا النساءَ والأطفال والرجال وأكثَروا النَّهبَ والسَّلبَ حتى الكنائس لم تَسلَمْ منهم فنَهَبوها حتى كنيسة أيا صوفيا، وحتى جوامِع المسلمين التي أشعلوا فيها النيرانَ، ثم إنهم اختاروا مِن بينهم أميرًا هو بودوان التاسع أمير فلاندر إمبراطورًا على الدولة البيزنطية، واختاروا راهبًا هو توماس مورسيني لرئاسة الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية، ووافق البابا أنوسنت الثالث على الاتحاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية، لكِنَّ هذه الحملة لم تُحَقِّقْ غايَتَها حيث عاد مُعظَمُ أفرادها إلى أوطانِهم بالغنائم التي أخذوها، ولم يصل منهم إلى فلسطين إلَّا شرذمة قليلةٌ لم تفعَلْ شَيئًا.
وفاة أبي القاسم سيد الأهل هبة الله البوصيري .
العام الهجري : 598 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1201
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ العالمُ المعَمَّر، مُسنِدُ الديار المصرية، أمين الدين: أبو القاسم سيد الأهل هبة الله بن علي بن سعود بن ثابت بن هاشم بن غالب الأنصاري، الخزرجي، المنستيري الأصل، المصري المولِد والدار، المعروف بالبوصيري، الكاتب الأديب. كانت ولادته سنة 506 بمصر، وقيل: بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة 500, وله سماعاتٌ عاليةٌ وروايات تفَرَّد بها وألحَقَ الأصاغِرَ بالأكابرِ في علُوِّ الإسناد، ولم يكنْ في آخر عصره في درجتِه مِثلُه، وعاش اثنتين وتسعين سنة. وكان مُسنِدَ دِيارِ مِصرَ في وقتِه، سمع مع السِّلَفي، وبقراءته من أبي صادق المديني، وأبي عبد الله محمد بن بركات السعيدي، وأبي الحسن علي بن الحسين الفراء، وسلطان بن إبراهيم، والخفرة بنت مبشر بن فاتك، وغيرهم. وانفرد بالسَّماع منهم. وأجاز له أبو الحسن الفرَّاء، وابن الخطَّاب الرازي، وقد سمع منهما، وسمع من أبي طاهر السِّلَفي, وحدَّث بمصر والإسكندرية، ورحل إليه المحدِّثون، وقُصد من البلاد. فسمع عليه النَّاسُ وأكثروا، وكان جده مسعود قَدِمَ من المنستير إلى بوصير، فأقام بها إلى أن عُرِفَ فَضلُه في دولةِ المصريِّينَ، فطُلِبَ إلى مصر، وكُتِبَ في ديوان الإنشاء، ووُلِدَ له علي والد أبي القاسم بمصر، واستقَرُّوا بها وشُهِروا. وكان أبو القاسمِ يسمى سيدَ الأهل أيضًا، لكِنَّ هبة الله أشهر، وتوفِّيَ في الليلة الثانية من صفر سنة 598، ودُفِنَ بسَفحِ المقطم. وهذا البوصيري غيرُ البوصيري صاحب البردة المتوفى سنة 697.
مقتل المعز بن سيف الإسلام صاحب اليمن على يد مماليك أبيه .
العام الهجري : 598 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1202
تفاصيل الحدث:
هو المعزُّ إسماعيلُ بنُ سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن نجم الدين أيوب. وسَبَبُ قتله قِلَّةُ عَقلِه، وما كان ادَّعاه من الدعاوى الكاذبة بعد تملُّكِه اليمن بعد أبيه. جَرَت له بها حروبٌ، منها: أنه خرج عليه الشريفُ عبد الله بن عبد الله الحسنى، وضرب معه مصافًّا، فانكسر الشريف, ثم خرج عليه مِن مماليك أبيه نحو ثمانمائة مملوك، وحاربوه، واعتصموا بصنعاء، فكَسَرهم، وأخذها منهم, ثم ادَّعى بعد ذلك الخلافة، وانتسب إلى بنى أميَّة، وجعل شعاره الخُضرةَ، وقطع خُطبةَ بنى العباس، وخطب لنفسه بالخلافةِ على منابر اليمن، وخطب بنَفسِه على المنبر يوم الجمعة.
وادَّعى الربوبيَّة، وأمَرَ كاتِبَه أن يكتُبَ: «من مقر الإلهية»، ثم نهى عن ذلك، خوفًا من القَتلِ، ولما بلغ عمَّه الملكَ العادِلَ دعواه النسبَ إلى بنى أمية، أنكره وساءه فِعلُه، وجحد أن يكونَ لبنى أيوب نَسَبٌ يتصل ببنى أمية, وخافته مماليكُ أبيه لهَوجِه وسَفَهه، ففارقوه وتحَزَّبوا عليه وحاربوه، ووافقهم على ذلك جماعةٌ مِن أمراء الأكراد، فاتفقوا كلُّهم على قتله، وضربوا معه مصافًّا، فكسروه وقتلوه، ونَصَبوا رأسَه على رمحٍ، وداروا به ببلادِ اليمن، ونهبوا زبيدَ تسعة أيامٍ, وكان له أخٌ صغير يلقَّب بالملك الناصر، فجعلوا له اسم السَّلطنة، ورُتِّبَ له سيف الدين سنقر كان مملوكًا لوالده, ثم اضطربت الأمور على سيف الدين سنقر، وتحزَّبَت عليه العساكر وقاتلوه، وجرَت بينهم حروب كثيرة، انتصر في آخِرِها وقتل جماعةً من الأكراد والأتراك، وحَبَس جماعة، وصَفَت له اليمنُ. ثم مات بعد أربع سنين.
استيلاء الكرج (الجورجيون، سكان جورجيا) الكفار على دوين .
العام الهجري : 599 العام الميلادي : 1202
تفاصيل الحدث:
استولى الكرجُ على مدينة دوين، من أذربيجان، ونَهَبوها، واستباحوها، وأكثَروا القتلَ في أهلها، وكانت هي وجميعُ بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان على عادته مشغولًا بالشُّربِ، ولا ينظُرُ في أمرِ مملَكتِه ورعِيَّتِه وجُندِه، قد ألقى الجميعَ عن قلبه، وكان أهلُ تلك البلاد قد أكثَرَت الاستغاثة به، وإعلامَه بقصد الكرج بلادَهم بالغارةِ مَرَّةً بعد أخرى، فلما حصر الكرجُ هذه السنة مدينةَ دوين، سار منهم جماعةٌ يستغيثون، فلم يُغِثْهم وخوَّفَه جماعةٌ من أمرائه عاقبةَ إهمالِه وتوانيه وإصراره على ما هو فيه، فلم يصْغِ إليهم، فلما طال الأمر على أهلِها ضَعُفوا، وعجزوا، وأخَذَهم الكرج عَنوةً بالسَّيفِ، وفعلوا ما فعلوه، ثم إنَّ الكرجَ بعد أن استقَرَّ أمرُهم بها أحسنوا إلى من بَقِيَ مِن أهلِها.
حصر عسكر الملك العادل ماردين وصلحه مع صاحبها .
العام الهجري : 599 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1202
تفاصيل الحدث:
سيَّرَ الملكُ العادل أبو بكر بن أيوب، صاحِبُ دمشق ومصر، عسكرًا مع وَلَدِه الملك الأشرف موسى إلى ماردين، فحصروها، وشَحَنوا على أعمالها، وانضاف إليه عسكَرُ المَوصِل وسنجار وغيرهما، ونزلوا بخرزم تحت ماردين، ونزل عسكَرٌ من قلعة البارعية، وهي لصاحب ماردين، يقطعون الميرةَ عن عسكر العادل، فسار إليهم طائفةٌ من عسكر العادل، فاقتتلوا، فانهزم عسكَرُ البارعية، وثار التركمانُ وقطعوا الطريقَ في تلك الناحية، وأكثروا الفساد، فتعذَّرَ سُلوكُ الطريق إلى الجماعةِ مِن أرباب السلاح، فسار طائفةٌ مِن عسكر العادل إلى رأسِ عين لإصلاح الطرق، وكفِّ عادية الفساد، وأقام ولَدُ العادل، ولم يحصُلْ له غرض، فدخل المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، صاحِبُ حلب، في الصلح بينهم، وأرسل إلى عَمِّه العادل في ذلك، فأجاب إليه على قاعدةِ أن يحمِلَ أهل ماردين مائة وخمسين ألف دينار، فجاء صرفُ الدينار أحد عشر قيراطًا من أميري، ويُخطَب له ببلاده، ويُضرَبُ اسمه على السكة، ويكون عسكَرُه في خدمته أيَّ وَقتٍ طلبه، وأخذ الظاهِرُ عشرين ألف دينار من النقد المذكور، وقرية القرادي من أعمال شيختان، فرحل ولد العادل عن ماردين.
وفاة السلطان غياث الدين ملك الغور .
العام الهجري : 599 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
هو السلطان غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين بن الحسن الغوري، صاحِبُ غزنة وبعض خراسان وفيروزكوه ولهاوور ودهلي من الهند. كان ملِكًا عادِلًا، وللمال باذِلًا، محسِنًا إلى رعيته، رؤوفًا بهم في حُكمِه وسياسته. قَرَّبَ العلماء، وأحَبَّ الفضلاء، كان غياثُ الدين مظفرًا منصورًا في حروبِه، لم تنهَزِمْ له رايةٌ قط، وكان قليلَ المباشرة للحروب، وإنما كان له دَهاءٌ ومَكرٌ، وكان جَوادًا، كثيرَ الصَّدَقاتِ والوقوفِ بخراسان؛ بنى المساجِدَ والمدارِسَ بخراسان لأصحابِ الشافعي، وبنى الخانكاهات في الطُّرُق، وأسقط المكوس، وكان رَحِمه الله، ينسَخُ المصاحف بخَطِّه ويَقِفُها في المدارس التي بناها، ولم يَظهَرْ منه تعصب على مذهب، ويقول: "التعصب في المذاهِبِ مِن المَلِك قَبيحٌ" إلَّا أنه كان شافعيَّ المذهب، فهو يميلُ إلى الشافعيةِ مِن غَيرِ أن يُطمِعَهم في غيرِهم، ولا أعطاهم ما ليس لهم، لم يتعرضْ لمالِ أحدٍ. وكان مَن مات بلا وارث تصَدَّق بما خَلَّفَه. وكان فيه فَضلٌ وأدب. امتدت أيامُه، وأسَنَّ ومَرِضَ بالنقرس مُدَّة. توفي في السابع والعشرين من جمادى الأولى، ودُفِنَ بتربة له إلى جانبِ جامع هراة, وأُخفِيَت وفاته، وكان أخوه شهاب الدين بطوس، عازمًا على قَصدِ خوارزم شاه، فأتاه الخبَرُ بوفاة أخيه، فسار إلى هراة، فلما وصل إليها جلَسَ للعزاء بأخيه في رجب، وأظهرت وفاته حينئذٍ، وخَلَّف غياث الدين من الولد ابنًا اسمُه محمود، لُقِّبَ بعد موت أبيه غياثَ الدين.
الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي يأخذ قلعة نجم من أخيه الأفضل .
العام الهجري : 599 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
أخذَ الظاهِرُ غازي قلعةَ نجمٍ مِن أخيه الأفضل، وكانت في جملةِ ما أخذ من العادِلِ لَمَّا صالَحَه سنة سبع وتسعين، فلما كان هذه السَّنة أخذ العادِلُ من الأفضل سروج وحملين ورأس عين، وبَقِيَ بيده سميساط، وقلعة نجم، فأرسل الظاهِرُ إليه يطلُبُ منه قلعةَ نجم، وضَمِنَ له أنه يشفَعَ إلى عَمِّه العادل في إعادةِ ما أخذ منه، فلم يعُطِه، فتهَدَّدَه بأن يكون إلبًا عليه، ولم تَزَلِ الرسُلُ تترَدَّدُ حتى سَلَّمَها إليه في شعبان، وطلب منه أن يعَوِّضَه قُرًى أو مالًا، فلم يفعَلْ، ولما رأى الأفضَلُ عَمَّه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى رُكنِ الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحِب ملطية وقونية، وما بينهما من البلادِ، يَبذُلُ له الطاعةَ، وأن يكون في خِدمتِه، ويخطُبُ له ببلده، ويَضرِب السكَّة باسمه، فأجابه ركن الدين إلى ذلك، وأرسل له خِلعةً فَلِبَسها الأفضَلُ، وخَطَب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملتِه.
مقتل طائفة من الإسماعيلية بخراسان .
العام الهجري : 600 العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
وصل رسولٌ إلى شهاب الدين الغوري من عند مُقَدَّم الإسماعيليَّة بخراسان برسالةٍ أنكَرَها، فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغور بالمسيرِ في عساكر إليهم ومحاصرةِ بلادهم، فسار في عساكر كثيرةٍ إلى قهستان، وسَمِعَ به صاحب زوزن، فقصده وصار معه وفارق خدمةَ خوارزم شاه، ونزل علاء الدين على مدينة قاين، وهي للإسماعيليَّة، وحَصَرها، وضَيَّق على أهلها، ووصل خَبَرُ قتل شهاب الدين، فصالح أهلَها على ستين ألف دينار ركنية، ورحل عنهم، وقَصَد حصن كاخك فأخذه وقتل المقاتِلة، وسَبى الذريَّة، ورحل إلى هراة ومنها إلى فيروزكوه.
خروج الفرنج للشام لاحتلال بلاد الإسلام والصلح معهم .
العام الهجري : 600 العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
خرج كثيرٌ من الفرنج في البحر إلى الشام، وسَهَّلَ الأمرَ عليهم بذلك مُلْكُهم للقُسطنطينيَّة، فأرسوا بعكَّا، وعزموا على قَصدِ بيت المقدس، واستنقاذه من المسلمين، فلما استراحوا بعكَّا ساروا فنهبوا كثيرًا من بلادِ الإسلام بنواحي الأردن، وسَبَوا، وفتكوا في المسلمين، وكان الملك العادل بدمشقَ، فأرسل في جمع العساكِرِ مِن بلاد الشام ومصر، وسار فنزل عند الطور بالقربِ مِن عَكَّا؛ لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام، ونزل الفِرنجُ بمرج عكا، وأغاروا على كفركنا، فأخذوا كلَّ من بها وأموالهم، والأمراء يحثُّون العادِلَ على قصد بلادِهم ونَهْبِها، فلم يفعل، فبَقُوا كذلك إلى أن انقَضَت السنة.
تملُّك محمود الحميري مرباط وظفار وغيرها من حضرموت .
العام الهجري : 600 العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
تمَلَّك إنسانٌ اسمُه محمود بن محمد الحميري على مدينة مرباط وظفار وغيرهما من حضرموت, وكان ابتداء أمره أنَّ له مَركبًا يَكريه في البحر للتجار، ثم وزر لصاحبِ مرباط، وفيه كرمٌ وشجاعة وحُسن سيرة، فلما توفِّيَ صاحب مرباط مَلَك المدينة بعده، وأطاعه الناسُ محبَّةً له لكَرَمِه وسيرته، ودامت أيامُه بها، فلما كان سنة تسع عشرة وستمائة خرب مرباط وظفار، وبنى مدينة جديدةً على ساحل البحر بالقرب من مرباط، وعندها عينٌ عذبة كبيرة أجراها إلى المدينة، وعَمِلَ عليها سورًا وخندقًا، وحَصَّنَها وسمَّاها الأحمديَّة، وكان يحِبُّ الشِّعرَ، ويُكثِرُ الجائزةَ عليه.
قتل ملاحدة الباطنية بمدينة واسط .
العام الهجري : 600 العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
ورد إلى واسط رجلٌ يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصلُه من القارب، مِن قُرى واسط، وكان باطنيًّا ملحدًا، ونزل مجاورًا لدور بني الهروي، وغَشِيَه الناس، وكَثُر أتباعه، وكان ممَّن يغشاه رجلٌ يُعرَف بحسن الصابوني، فاتَّفَق أنه اجتاز بالسويقة، فكَلَّمه رجل نجَّار في مذهبهم، فرَدَّ عليه الصابوني ردًّا غليظًا، فقام إليه النجَّار وقتَلَه، وتسامع الناسُ بذلك، فوثبوا وقتلوا مَن وَجَدوا ممَّن يَنتَسِبُ إلى هذا المذهب، وقَصَدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلقٌ من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصَعِدوا إلى سطحها، ومنعوا النَّاسَ عنهم، فصَعِدوا إليهم من بعضِ الدور مِن على السطح، وتحصَّنَ مَن بقي في الدارِ بإغلاق الأبواب والممارق، فَكَسَروها، ونزلوا فقَتَلوا من وجدوا في الدارِ وأحرقوها، وقُتِلَ ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعةٌ فقُتِلوا؛ وبلغ الخبَرُ إلى بغداد، وانحدر فخرُ الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاحِ الحال، وتسكينِ الفِتنةِ.
تيموجين (جنكيز خان) بن بسوكاي يؤسس إمبراطورية المغول .
العام الهجري : 600 العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
في هذه السنة كان ابتداءُ ملك تيموجين (جنكيز خان) ملك التتار، وهو صاحِبُ الياسق وَضَعَه ليتحاكَمَ إليه التتارُ ومن معهم من أمراء الترك, وهو والِدُ تولي، وجَدُّ هولاكو بن تولي. وُلِدَ تيموجين في غُرَّة محرم سنة 550 في منغوليا على الضفة اليمنى لنهر الأونون في مقاطعة دولون بولداق، وهذه المقاطعةُ توجَدُ اليوم في الأراضي الروسيَّة، وكان أبوه بسوكاي رئيسًا لقبيلة قيات المغولية الذي كان وقت ولادة ابنه غائبًا في قتال مع قبيلة أخرى، واستطاع أن يقتُلَ زَعيمَها واسمه تيموجين، وحينما عاد منتصرًا فَرِحَ بمولوده واستبشر به فسَمَّاه باسم القائد الذي صرعه؛ لأنَّه كان معجبًا به؛ لفرط شجاعتِه، ولما بلغ تيموجين من العمر حوالي ثلاثة عشر عامًا مات أبوه بسوكاي سنة 563 فحَلَّ محَلَّه في رئاسة القبيلة إلَّا أن رجال قبيلته استصغروا سِنَّه واستضعفوه فانفَضُّوا عنه وتفَرَّقوا ورفضوا طاعتَه. ولكن حينما بلغ السابعة عشرة من عمره استطاع بقُوَّةِ شَخصيَّتِه وحِدَّة ذكائه أن يعيدَ رِجالَ قبيلته إلى طاعتِه وأن يُخضِعَ المناوئين له، حتى تمت له السيطرةُ عليها, واصل تيموجين خطَّتَه في التوسُّعِ على حساب جيرانه، فبَسَط سيطرتَه على منطقة شاسعة من إقليم منغوليا، تمتَدُّ حتى صحراء جوبي، حيث مَضارِبُ عدد كبير من قبائل التتار، ثم دخل في صراع مع حليفِه رئيس قبيلة الكراييت، وكانت العلاقات قد ساءت بينهما بسبب الدسائس والوشايات، وتوجَّس "أونك خان" زعيمُ الكراييت من تَنامي قوَّة تيموجين وازديادِ نفوذِه؛ فانقلب حُلَفاءُ الأمس إلى أعداء وخصوم، واحتكما إلى السيف، وكان الظَّفَرُ في صالح تيموجين سنة 600, فاستولى على عاصمتِه "قره قورم" وجعَلَها قاعدةً لملكه، وأصبح تيموجين بعد انتصارِه أقوى شخصيَّة مغولية، فنودي به خاقانا، وعُرِفَ باسم "جنكيز خان" أي: إمبراطور العالم.
وفاة الإمام العلامة الحافظ عبدالغني المقدسي .
العام الهجري : 600 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1203
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ الكَبيرُ، الصادِقُ القدوة، العابد الأثَري المتَّبع، عالِم الحفاظ: تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي، صاحب التصانيف المشهورة، ولد سنة 541 بجماعيل, وهي قرية من أعمال نابلس وكان أكبَرَ مِن الشيخ موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي بأربعة أشهر، وهما ابنا خالة، كان إمامًا حافظًا متقنًا مصنفًا ثقة، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وكتب الكثير، وسيرته مذكورة في جزأين، ألفها الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله المقدسي. كان الحافظ عبد الغني ليس بالأبيض بل يميل إلى السمرة، حسن الشَّعر، كثَّ اللحية، واسِعَ الجبين، عظيمَ الخَلقِ، تامَّ القامة، كأنَّ النور يخرج من وجهه. هاجر صغيرًا إلى دمشق بعد الخمسين، فسمع بها ثم ارتحَلَ إلى بغداد فالإسكندرية ثم أصبهان. قال ابن كثير: " كان قدوم الحافظِ وابن خالته الموفَّق مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجِدِ أبي صالح أولًا بدمشق، ثم انتقلوا إلى السفح فعُرِفَت المحلة بهم، فقيل لها الصالحية، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن، وسمع الحديث" قال السبط ابن الجوزي: "كان عبد الغني ورعًا زاهدًا عابدًا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة، كَوِردِ الإمامِ أحمد بن حنبل، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريمًا جوادًا لا يدَّخِرُ شيئا، ويتصَدَّقُ على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يُرَقِّعُ ثوبه ويؤثِرُ بثَمَن الجديد، وكان قد ضَعُف بصره من كثرة المطالعة والبكاءِ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ", وهو أحد أكابر أهل الحديث وأعيان حُفَّاظهم، قال ضياء الدين: "كان شيخُنا الحافظ لا يكاد يُسألُ عن حديث إلا ذكَرَه وبينه، وذكَرَ صِحَّته أو سَقَمَه، ولا يُسأل عن رجلٍ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكُرُ نَسَبَه، فكان أميرَ المؤمنين في الحديث، سمعته يقول: كنتُ عند الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين رجلٍ منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري. فقلتُ: ليس هو فيه. قال: فكَتَبَه في رقعة، ورفَعَها إلى أبي موسى المديني يسألُه، قال: فناولني أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول؟ فقلتُ: ما هو في البخاري، فخَجِلَ الرجُل" وقال ابنه عبد الرحمن: "سمعت بعضَ أهلنا يقول: إنَّ الحافِظَ سُئل: لم لا تقرأُ مِن غير كتاب؟ قال: أخاف العُجبَ". كان مجتهدًا على الطلب، يُكرِم الطلبة، ويُحسِنُ إليهم، وإذا صار عنده طالبٌ يفهَمُ، أمَرَه بالرِّحلةِ، ويفرح لهم بسماع ما يحَصِّلونه. وقَعَت له محن على الاعتقادِ ونُفِيَ إلى مصر بسَبَبِ ذلك فاستقبله فيها أهلُ الحديث وأكرموه. قال ابن كثير: "رحل إلى أصبهان فسَمِعَ بها الكثير، ووقف على مصَنَّف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته في أماكِنَ مِن الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فأبَغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في إزار. ولما دخلَ في طريقه إلى الموصل سَمِع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفيَّةُ بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفًا يترقَّبُ، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديثَ بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلةِ مِن جامع دمشق، فاجتمعَ الناس عليه وإليه، وكان رقيقَ القلب سريع الدمعة، فحصل له قَبولٌ مِن الناس جدًّا، فحَسَده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشِقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجَهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكَلَّم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهَرَ بصَوتِه مهما أمكنه، حتى يشَوِّشَ عليه، فحَوَّل عبد الغني ميعادَه إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدتَه على الكرسيِّ، فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين. وتكلموا معه في مسألةِ العلو ومسألة النزول، ومسألة الحَرفِ والصوت، وطال الكلامُ وظهر عليهم بالحُجَّة، فقال له برغش نائب القلعة: كلُّ هؤلاء على الضلالةِ وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغَضِبَ برغش من ذلك وأمره بالخروجِ من البلد، فارتحل بعد ثلاثٍ إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديثَ بها فثار عليه الفُقَهاءُ بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودُفِنَ بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق". قال تاج الدين الكندي: هو أعلم من الدارقطني والحافظ أبي موسى المديني" ولعبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال، وكتاب أشراط الساعة، وغير ذلك. قال ابن كثير: "وقد هَذَّب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي كتابه الكمال في أسماء الرجال- رجال الكتب الستة- بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوًا من ألف موضع، وذلك الإمام المِزِّي الذي لا يُمارى ولا يُجارى، وكتابه التهذيب لم يُسبَق إلى مثله، ولا يُلحَق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادِرَين في زمانهما في أسماء الرجال حِفظًا وإتقانًا، وسماعًا وإسماعًا وسَردًا للمتون وأسماء الرجال، والحاسِدُ لا يُفلحُ ولا ينال منالًا طائلًا." قال الذهبي: " ولم يَزَل يطلب ويسمَع، ويكتب ويسهر، ويدأب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتقي الله ويتعبد ويصوم، ويتهجد وينشر العلم، إلى أن مات. رحل إلى بغداد مرتين، وإلى مصر مرتين، سافر إلى بغدادَ هو وابن خاله الشيخ الموفق في أول سنة إحدى وستين، فكانا يخرجان معًا، ويذهب أحدهما في صحبة رفيقِه إلى درسه وسماعه، كانا شابَّين مختطَّين- يعني: أول ظهور الشعر في وجهيهما- وخوَّفهما الناس من أهل بغداد، وكان الحافظ مَيلُه إلى الحديث، والموفَّق يريد الفقه، فتفَقَّه الحافظ، وسَمِعَ الموفَّق معه الكثير، فلما رآهما العُقَلاء على التصَوُّن وقلة المخالطة أحبوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا عِلمًا جَمًّا، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، ونزلا أولًا عند الشيخ عبد القادر الجيلي- وكان لا يترك أحدًا ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما النجابة- فأحسن إليهما، ثم مات بعد قدومهما بخمسين ليلة، ثم اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المني". قال موفق الدين: "كان الحافظ عبد الغني جامعًا للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، ورفيقي في طلب العلم، وما كنا نستَبِقُ إلى خير إلَّا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورُزِقَ العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّر, وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيتُ أحدًا أشد محافظة على وقته من أخي". قال الحافظ: "أضافني رجلٌ بأصبهان، فلما تعشَّينا، كان عنده رجلٌ أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يُصَلِّ، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجلٌ شمسي- أي من عبدة الشمس- فضاق صدري، وقلتُ للرجل: ما أضفتَني إلا مع كافر! قال: إنَّه كاتبٌ، ولنا عنده راحة، ثم قمتُ بالليل أصلي، وذاك يستَمِعُ، فلما سمع القرآن تزفَّرَ، ثم أسلَمَ بعد أيَّام، وقال: لَمَّا سمعتك تقرأ، وقع الإسلامُ في قلبي". كان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَه بيده أو بلسانه، وكان لا تأخُذُه في الله لومة لائم. أهرق مرةً خَمرًا، فجَبَذ صاحِبُه السيفَ فلم يَخَف عبد الغني منه، وأخذ السيفَ مِن يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق يُنكِرُ ويكسِرُ الطنابير والشبَّابات, فقد كان لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. قال الضياء قال الحافظ: "كنت يومًا مع عبد الهادي عند حمام كافور، إذا قومٌ كثيرٌ معهم عِصِيٌّ، فخفَّفتُ المشي، وجعلت أقولُ: حسبي الله ونعم الوكيل، فلمَّا صرت على الجسر، لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كَسَرتُ لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر. قال: فإذا فارسٌ يركض، فترجَّلَ، وقبَّل يدي، وقال: الصبيانُ ما عرفوك, وكان قد وضع اللهُ له هيبةً في النفوس". دخل الحافظ على العادل، فقام له، فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ، فقالوا: آمَنَّا بكراماتِك يا حافظ. وذكروا أن العادِلَ قال: ما خِفتُ مِن أحد ما خِفتُ من هذا. فقلنا: أيُّها الملك، هذا رجلٌ فقيه. قال: لَمَّا دخل ما خُيِّلَ إليَّ إلا أنَّه سَبُع. قال الضياء: رأيتُ بخط الحافظ: "والملك العادِلُ اجتمعْتُ به، وما رأيتُ منه إلا الجميل، فأقبل عليَّ وقام لي والتزمني، ودعوتُ له، ثم قلت: عندنا قصورٌ هو الذي يوجِبُ التقصير. فقال: ما عندك لا تقصيرٌ ولا قصورٌ، وذكَرَ أمْرَ السُّنَّة، فقال: ما عندك شيءٌ تعاب به لا في الدين ولا الدنيا، ولا بُدَّ للناس من حاسِدينَ.
وبلغني بعدُ عنه- قاله الضياء- أن العادل قال: ما رأيتُ بالشامِ ولا مصر مثلَ الحافظ؛ دخَلَ عليَّ فخُيِّلَ إليَّ أنه أسد، وهذا ببركة دعائِكم ودعاء الأصحاب. ثم قال الضياء: كانوا قد وغروا عليه صدر العادل، وتكَلَّموا فيه، وكان بعضُهم أرسل إلى العادل يبذُلُ في قتل الحافِظِ خمسة آلاف دينار. قلتُ-الضياء: جرَّ هذه الفتنةَ نَشرُ الحافظ أحاديث النزول والصفات، فقاموا عليه، ورموه بالتجسيم، فما دارى كما كان يداريهم الشيخُ الموفَّق". قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن الطحان، يقول: كان في دولة الأفضَلِ جعلوا الملاهيَ عند الدَّرَج، فجاء الحافِظُ فكسَّرَ شيئًا كثيرا، ثم صَعِدَ يقرأ الحديث، فجاء رسولُ القاضي يأمره بالمشيِ إليه ليناظره في الدفِّ والشبابة، فقال: ذاك عندي حرامٌ، ولا أمشي إليه، ثم قرأ الحديث. فعاد الرَّسولُ، فقال: لا بدَّ مِن المشي إليه، أنت قد بَطَّلتَ هذه الأشياء على السلطان. فقال الحافظ: ضَرَبَ الله رقبَتَه ورقبة السلطان. فمضى الرسولُ وخفنا، فما جاء أحدٌ". مات عبد الغني يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة.
تحول الملك من الروم إلى الفرنجة بالقسطنطينية .
العام الهجري : 600 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1204
تفاصيل الحدث:
مَلَك الفرنجُ مدينة القسطنطينيَّةِ مِن الروم، وأزالوا مُلكَ الروم عنها، وكان سَبَبُ ذلك أنَّ مَلِكَ الروم حينها ثار عليه ابن أخيه وقيل ابنه، ففشل في ذلك فالتجأ للفرنج، ووعدهم إن ساعدوه أن يعينَهم على إخضاعِ الكنيسة للبابوية ويُعينَهم على حملتِهم الصليبيَّة، فاتَّفَق ذلك وقد اجتمع كثيرٌ من الفرنج ليخرجوا إلى بلاد الشامِ لاستنقاذ بيت المقدس من المسلمين، فأخذوا ولدَ الملك معهم، وجعلوا طريقَهم على القسطنطينيَّة؛ قصدًا لإصلاح الحال بينه وبين عَمِّه، ولم يكن له طمعٌ في سوى ذلك، فلمَّا وصلوا خرج عمه في عساكِرِ الروم محاربًا لهم، فوقع القتالُ بينهم في رجب سنة 599، فانهزمت الرومُ، ودخلوا البلد، فدخله الفرنجُ معهم، فهرب مَلِكُ الروم إلى أطراف البلاد، وقيل: إن ملك الروم لم يقاتِل الفرنج بظاهِرِ البلد، وإنما حَصَروه فيها، وكان بالقسطنطينيَّة من الروم من يريد تمليك صبي، فألقى الفرنج النار في البلد، فاشتغل الناسُ بذلك، ففتحوا بابًا من أبوابِ المدينة، فدخلها الفرنجُ، وخرج مَلِكُها هاربًا، وجعل الفرنجُ الملك في ذلك الصَّبي، وليس له من الحُكمِ شَيءٌ، إنما الفرنج هم الحُكَّام في البلد، فنهبوا وقَتَلوا وأساؤوا، فعَمَد الروم إلى ذلك الصبي الملك فقَتَلوه، وأخرجوا الفرنجَ مِن البلد، وأغلَقوا الأبواب، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ستمائة، فأقام الفرنجُ بظاهره محاصرين للروم، وقاتلوهم، ولازموا قتالَهم ليلًا ونهارًا، وكان الرومُ قد ضعفوا ضعفًا كبيرًا، فأرسلوا إلى السلطانِ ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان، صاحب قونية وغيرها من البلاد، يستنجدونه، فلم يجِدْ إلى ذلك سبيلًا، وكان بالمدينةِ كثيرٌ من الفرنج، مقيمين، يقاربون ثلاثين ألفًا، ولِعِظَمِ البلد لا يظهَرُ أمرُهم، فتواضعوا هم والفرنجُ الذين بظاهر البلد، ووَثَبوا فيه، وألقَوا النَّارَ مَرَّةً ثانية، فاحترق نحوُ ربع البلد، وفتحوا الأبوابَ فدخلوها ووضعوا السيفَ ثلاثة أيام، وفتكوا بالروم قتلًا ونهبًا، فأصبح الرومُ كلهم ما بين قتيلٍ أو فقيرٍ لا يملك شيئًا، ودخل جماعةٌ من أعيان الروم الكنيسةَ العظيمة التي تُدعى أياصوفيا، فجاء الفرنج إليها، فخرج إليهم جماعةٌ من القسيسين والأساقفة والرُّهبان، بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسَّلون بهما إلى الفرنجِ لِيُبقوا عليهم، فلم يلتَفِتوا إليهم، وقَتَلوهم أجمعينَ ونَهَبوا الكنيسة، فلما استولوا على القسطنطينيَّة اقتَرَعوا على الملك، فخَرَجَت القرعة على كند أفلند.
=======
118.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان وملك ابنه بعده .
العام الهجري : 600 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1204
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ رُكن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، صاحب ديار الروم، ما بين ملطية وقونية، وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية (أنقرة) وهي مدينة منيعة، وكان مُشاقًّا لركن الدين، فحصَرَه عِدَّة سنين حتى ضَعُفَ وقَلَّت الأقوات عنده، فأذعن بالتسليمِ على عِوَضٍ يأخذه، فعَوَّضَه قلعة في أطراف بلده وحَلَفَ له عليها، فنزل أخوه عن مدينة أنقرة، وسَلَّمَها، ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين عليه مَن أخَذَه، وأخذ أولادَه معه، فقَتَلَه، فلم يمضِ غيرُ خمسة أيام حتى أصابه القولنج، فمات في سادس ذي القعدة، واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان، وكان صغيرًا، فبَقِيَ في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة، وأُخِذَ منه، وكان ركنُ الدين شديدًا على الأعداءِ، قيِّمًا بأمرِ المُلك، إلَّا أنه فاسِدُ الاعتقاد. قال ابن كثير: "المَلِك ركن الدين بن قلج أرسلان، كان يُنسَبُ إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفًا لِمَن يُنسَبُ إلى ذلك، وملجأً لهم"
غارة الكرج (الجورجيون، سكان جورجيا) على بلاد الإسلام من ناحية أذربيجان .
العام الهجري : 601 العام الميلادي : 1204
تفاصيل الحدث:
أغارت الكرج على بلاد الإسلامِ من ناحية أذربيجان، فأكثَروا العَيثَ والفَسادَ والنَّهبَ والسَّبيَ، ثمَّ أغاروا على ناحيةِ خلاط من أرمينية، فأوغلوا في البلاد حتى بَلَغوا ملازكرد، ولم يخرُجْ إليهم أحَدٌ من المسلمين يمنَعُهم، فجاسوا خلالَ البلادِ يَنهَبون ويأسِرونَ ويَسْبُون، وكلَّما تقَدَّموا تأخَّرَت عساكِرُ المسلمين عنهم، ثم رجَعوا عنهم، وأغارت الكرجُ على بلاد خلاط، فأتوا إلى أرجيش ونواحيها، فنَهَبوا، وسَبَوا، وخَرَّبوا البلاد، وساروا إلى حِصنِ التين، من أعمالِ خلاط، وهو مجاوِرُ أرزن الروم، فجمع صاحِبُ خلاط عسكَرَه وسار إلى ولد قلج أرسلان، صاحِبِ أرزن الروم، فاستنجَدَه على الكرج، فسيَّرَ عسكَرَه جميعَه معه، فتوجَّهوا نحو الكرج، فلَقُوهم، وتصافُّوا، واقتَتَلوا، فانهزمت الكرج، وقُتِلَ زكري الصغير، وهو من أكابِرِ مُقَدَّميهم، وهو الذي كان مُقَدَّمَ هذا العسكر من الكرج والمقاتِل بهم، وغَنِمَ المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والكراع وغير ذلك، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأسَروا كذلك.
الحرب بين أمير مكة وأمير المدينة .
العام الهجري : 601 العام الميلادي : 1204
تفاصيل الحدث:
وقَعَت الحربُ بين الأميرِ قتادةَ الحسني، أميرِ مكة، وبين الأمير سالم بن قاسم الحُسيني، أميرِ المدينة، ومع كل واحدٍ منهما جمعٌ كثير، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الحربُ بذي الحُلَيفة بالقُرب من المدينة، وكان قتادة قد قصد المدينةَ لِيَحصُرَها ويأخُذَها، فلَقِيَه سالم، فسار فلَقِيَه، فانهزم قتادةُ، وتَبِعَه سالم إلى مكة فحَصَرَه بها، فأرسل قتادةُ إلى من مع سالم من الأمراء، فأفسَدَهم عليه، فمالوا إليه وحالَفوه، فلما رأى سالمٌ ذلك رحل عنه عائدًا إلى المدينةِ، وعاد أمر قتادةَ قويًّا.
كيخسرو بن قلج أرسلان يمتلك بلاد الروم من ابن أخيه .
العام الهجري : 601 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
مَلَك غياثُ الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلادَ الرومِ التي كانت بيد أخيه رُكن الدين سليمان وانتَقَلَت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين، وكان سبَبُ مِلك غياث الدين لها أنَّ ركنَ الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين، وهي مدينةُ قونية، فهَرَب غياث الدين منه، وقَصَد الشامَ إلى المَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولًا، وقصر به، فسار مِن عنده، وتقَلَّب في البلاد إلى أن وصل إلى القُسطنطينيَّة، فأحسن إليه مَلِكُ الروم وأقطَعَه وأكرَمَه، فأقام عنده، وتزوجَ بابنةِ بعض البطارقة الكبارِ، فأقام عنده، فلما مات أخوه ركن الدين سليمان سنة ستمائة، اجتمع الأمراءُ على ولده قلج، وخالَفَهم الأتراك الأوج، وهم كثيرٌ بتلك البلاد، وأنِفَ مِن اتباعهم، أرسل قلج إلى عَمِّه غياث الدين كيخسرو يستدعيه إليه ليُمَلِّكَه البلاد، فسار إليه، فوصَلَ في جمادى الأولى، واجتمع به، وكَثُرَ جَمعُه، وقصد مدينة قونيَّة ليَحصُرَها، وكان قلج والعساكرُ بها، فأخرجوا إليه طائفةً من العسكر، فلَقُوه فهزموه، فبَقِيَ حيران لا يدري أين يتوجَّهُ، فقصد بلدةً صغيرة يقالُ لها أوكرم بالقُربِ من قونية، فقَدَّرَ الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادَوا بشعار غياثِ الدين، فلَمَّا سَمِعَ أهل قونية بما فعله أهل أقصر قالوا: نحن أولى مَن فعل هذا؛ لأنَّه كان حَسَنَ السيرة فيهم لَمَّا كان مالكهم، فنادوا باسمِه أيضًا، وأخرجوا مَن عِندَهم، واستدعوه، فحضَرَ عندهم، ومَلَك المدينةَ وقبض على ابن أخيه ومَن معه.
وقوع فتن بين أهل بغداد .
العام الهجري : 601 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
في تاسع رمضان وقعت فتنةٌ بين أهل سوق السلطان والجعفرية، منشؤها أنَّ رَجُلَينِ مِن المحلَّتَينِ اختصما وتوعَّدَ كُلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، فاجتمع أهلُ المحلَّتَينِ، واقتتلوا في مقبرةِ الجعفرية، فسَيَّرَ إليهم مِن الديوان من تلافى الأمرَ وسَكَّنَه، وفي سابع عشر رمضان جرت فتنةٌ ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونيَّة، وسبَبُها أنَّ أهل باب الأزج قتلوا سَبُعًا وأرادوا أن يطوفوا به، فمنَعَهم أهل المأمونية، فوَقَعت الفتنةُ بينهما فجُرِحَ منهم خلق كثير، وقُتِلَ جماعة، وركِبَ صاحب الباب لتسكينِ الفتنة فجُرِحَ فَرَسُه، فعاد، فلما كان الغدُ سار أهل المأمونية إلى أهل باب الأزج، فوقَعَت بينهم فتنةٌ شديدةٌ وقِتالٌ بالسيوف والنشاب، واشتدَّ الأمر، فنُهَبَت الدور القريبة منهم، وسعَى الركن بن عبد القادر ويوسف العقاب في تسكينِ الناس، ورَكِبَ الأتراك، فصاروا يَبِيتون تحت المنظرة، فامتنَعَ أهل الفتنة من الاجتماع، فسَكَنوا، وفي العشرين منه جرَت فتنة بين أهل قطفتا والقرية، من محالِّ الجانب الغربي، بسبب قَتْلِ سَبُع أيضًا، أراد أهل قطفتا أن يجتَمِعوا ويطوفوا به، فمنَعَهم أهل القرية أن يَجوزوا به عندهم، فاقتتَلوا، وقَتَلَ بينهم عدة قتلى، فأرسل إليهم عسكَرٌ من الديوان لتلافي الأمر ومَنْع الناس عن الفتنة، فامتنعوا، فلمَّا كَثُرَت الفتن رُتِّبَ أميرٌ كبير من مماليك الخليفة، ومعه جماعة كثيرة، فطاف في البلد، وقَتَل جماعةً ممن فيه شبهة، فسكن الناس.
استيلاء الأمير عماد الدين الغوري صاحب بلخ على مدينة ترمذ .
العام الهجري : 601 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
سار الأميرُ عِمادُ الدين عُمَر بن الحسين الغوري، صاحبُ بلخ، إلى مدينةِ ترمذ، وهي للأتراكِ الخطا الكُفَّار، فافتتحها عَنوةً، وجعل بها ولَدَه الأكبر، وقَتَل مَن بها من الخطا، ونقل العَلَويينَ منها إلى بلخ، وصارت ترمذ دارَ إسلام، وهي من أمنَعِ الحُصونِ وأقواها.
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية .
العام الهجري : 602 العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
بعد مُكاتَبةِ الحُسَينِ بنِ خرميل، والي هراة، خوارزمَ شاه، ومراسَلَتِه في الانتماءِ إليه والطاعة له، تَرَكَ طاعةَ الغورية، وخِداعه لغياث الدين، ومغالطته له بالخُطبة له والطاعة؛ انتظارًا لوصولِ عسكر خوارزم شاه، ووصل عسكَرُ خوارزم شاه، فلَقِيَهم ابن خرميل، وأنزلهم على بابِ البلد، فقالوا له: قد أَمَرنا خوارزم شاه ألَّا نُخالِفَ لك أمرًا، فشَكَرَهم على ذلك، وكان يخرج إليهم كلَّ يَومٍ، وأقام لهم الوظائِفَ الكثيرةَ.
خوارزم شاه يمتلك مدينة ترمذ وتسليمها إلى الخطا الكفار .
العام الهجري : 602 العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
لما أخذ خوارزم شاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجِدًّا، وبها ولدُ عماد الدين صاحب بلخ، فأرسل إليه محمَّد بن علي بن بشير يقولُ له: إن أباك قد صار من أخصِّ أصحابي وأكابِرِ أمراء دولتي، وقد سَلَّمَ إليَّ بلخ، وإنما ظهَرَ لي منه ما أنكَرْتُه، فسَيَّرْتُه إلى خوارزم مُكرَمًا محترمًا، وأمَّا أنت فتكون عندي أخًا ووعَدَه، وأقطعه الكثيرَ، فخدعه محمد بن علي، فرأى صاحِبُها أنَّ خوارزم شاه قد حصره مِن جانبٍ والخطا قد حصره من جانبٍ آخر، وأصحابُه قد أسرهم الدز بغُزنة، فضَعُفَت نفسه، وأرسل من يستحلِفُ له خوارزم شاه، فحلَفَ له، وتسَلَّم منه ترمذ وسَلَّمَها إلى الخطا الكفار، فلقد اكتسَبَ بها خوارزم شاه سُبَّةً عظيمة، وذِكرًا قبيحًا في عاجِلِ الأمر، ثم ظهر للناس بعد ذلك أنَّه إنما سلمها إليهم ليتمكَّنَ بذلك مِن مُلكِ خراسان، ثم يعود إليهم فيأخُذُها وغيرَها منهم؛ لأنَّه لَمَّا مَلَكَ خراسان وقصد بلاد الخطا وأخَذَها وأفناهم؛ عَلِمَ النَّاسُ أنَّه فعل ذلك خديعةً ومكرًا.
الغارة من ابن ليون على أعمال حلب .
العام الهجري : 602 العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
توالت الغارةُ من ابن ليون الأرمني، صاحِبِ الدروب، على ولايةِ حَلَب، فنَهَب وحرق، وأسر وسبى، فجمع المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح اِلدين الأيوبي، صاحِبُ حلب، عساكِرَه واستنجد غيرَه من الملوك، فجمع كثيرًا من الفارِسِ والراجِل، وسار عن حَلَب نحو ابن ليون، وكان ابنُ ليون قد نزل في طرف بلادِه مما يلي بلد حلب، فليس إليه طريقٌ؛ لأن جميع بلاده لا طريقَ إليها إلَّا مِن جبال وعرة، ومضايق صعبة، فلا يقدِرُ غيره على الدخول إليها، لا سيما من ناحية حَلَب؛ فإن الطريق منها متعَذِّرٌ جدًّا، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حَلَب، وجعل على مقَدِّمَته جماعةً مِن عسكره مع أميرٍ كبير من مماليك أبيه اسمُه ميمون، فأنفذ الظاهِرُ ميرةً وسلاحًا إلى حِصنٍ له مجاور لبلاد ابنِ ليون، اسمُه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسِلَ طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك، وسيَّرَ جماعة كثيرة من عسكَرِه، وبَقِيَ في قلة، فبلغ الخبَرُ إلى ابن ليون، فجَدَّ فوافاه وهو مخِفٌّ من العسكرِ، فقاتله واشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهِرِ يُعَرِّفُه، وكان بعيدًا عنه، فطالت الحربُ بينهم، وحمى ميمون نفسَه وأثقالَه على قِلَّةٍ مِن المسلمين وكثرةٍ مِن الأرمن، فانهزم المسلمون، ونال العدوُّ منهم، فقتل وأسَر، وكذلك أيضًا فَعَل المسلمون بالأرمن مِن كثرةِ القَتلِ، وظَفِرَ الأرمنُ بأثقال المسلمين فغَنِموها وساروا بها، فصادَفَهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذَّخائِرِ إلى دربساك، فلم يَشعُروا بالحال، فلم يَرُعْهم إلَّا العدو وقد خالطهم ووضع السيفَ فيهم، فاقتتلوا أشَدَّ قتال، ثم انهزم المسلمون أيضًا، وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غَنِموا، واعتصموا بجبالهم وحصونهم.
ثورة ابن غانية على دولة الموحدين بشمال أفريقيا .
العام الهجري : 602 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1205
تفاصيل الحدث:
بعد أن استطاع الموحِّدون إخراجَ عليِّ بنِ أحمد من بني خراسان من إفريقيا وطرَدوا النورماند من المهديَّة ووصلوا إلى بُرقةَ، واستَخلَفَ عليها عبدُ المؤمن أبا محمد عبد السلام الكورميَّ، وجعل العاصمة تونس، ثم جاء الأميرُ يعقوب المنصور الذي خرج عليه يحيى بن إسحاق المنورقي المعروف بابن غانية، فقام بالثورة عليه حتى كاد يُنهي دولةَ الموحِّدينَ إلَّا قليلا خلال الفترة من 580 إلى 604 حتى اضطُرَّ السلطان الموحدي للحضورِ ومعه أبو محمد عبد الواحد الحفصي سنة 602؛ لإخماد ثورة ابن غانية حيث استطاع إخمادَها وهرب ابن غانية إلى أسبانيا، وكان هذا أيضًا بدءًا لظهور قوة الدولة الحَفصيَّة.
وفاة الأمير طاشتكين مجير الدين أمير الحاج بتستر .
العام الهجري : 602 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1206
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ مجيرُ الدين طاشتكين بن عبد الله المقتفوي المستنجدي, أميرُ الحاج وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخًا غاليًا في التشَيُّع، وكانت الحلة الشيعيَّة إقطاعَه، وكان شجاعًا قليلَ الكلام، يمضي عليه الأسبوعُ لا يتكلم فيه بكلمةٍ، وذُكِرَ أنَّه حج بالناس ستًّا وعشرين سنة، كان يكونُ في الحجاز كأنَّه مَلِكٌ، وقد رماه الوزيرُ ابن يونس بأنه يكاتب صلاحَ الدين فحبَسَه الخليفة، ثم تبيَّنَ له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان، ثم أعاده إلى إمرة الحَجِّ،‏ توفي بتستر ثاني جمادى الآخرة وحُملَ تابوتُه إلى الكوفة فدُفِنَ بمشهد عليٍّ لوصيَّتِه بذلك.
عدوان الكرج (الجورجيون، سكان جورجيا) على ولاية خلاط من أرمينية .
العام الهجري : 602 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1206
تفاصيل الحدث:
قَصَدت الكرجُ في جموعها ولايةَ خلاط من أرمينيَّة، ونهبوا وقتلوا، وأسَروا وسَبَوا أهلَها كثيرًا، وجاسُوا خلالَ الديار آمنين، ولم يخرُجْ إليهم من خلاط من يمنَعُهم فبَقُوا متصرفين في النهب والسبي، والبلادُ شاغرة لا مانع لها، لأنَّ صاحِبَها صبيٌّ، والمدبِّر لدولتِه ليست له تلك الطاعة على الجُندِ، فلما اشتَدَّ البلاء على الناس تذامَروا، وحَرَّض بعضُهم بعضًا، واجتمعت العساكِرُ الإسلاميَّة التي بتلك الولاية جميعها، وانضاف إليهم من المتطوِّعة كثيرٌ، فساروا جميعُهم نحو الكرج وهم خائفونَ، فوصلت الأخبارُ إلى الكرج، فعزموا على كبسِ المسلمين، فانتقلوا من موضِعِهم بالوادي إلى أعلاه، فنزلوا فيه ليكبِسوا المسلمين إذا أظلَمَ اللَّيلُ، فأتى المسلمين الخبَرُ، فقصدوا الكرج وأمسكوا عليهم رأسَ الوادي وأسفَلَه، وهو وادٍ ليس إليه غيرُ هذين الطريقين، فلما رأى الكرجُ ذلك أيقنوا بالهلاك، وسُقِطَ في أيديهم، وطَمِعَ المسلمون فيهم، وضايقوهم، وقاتلوهم، فقَتَلوا منهم كثيرًا، وأسَروا مِثلَهم، ولم يُفلِتْ مِن الكرجِ إلَّا القليلُ، وكفى الله المسلمينَ شَرَّهم بعد أن كانوا أشرفوا على الهَلاكِ.
مقتل السلطان شهاب الدين الغوري ملك غزنة .
العام الهجري : 602 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1206
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ شِهابُ الدين أبو المظفَّر محمَّد بن سام الغوري، مَلِكُ غزنة وبعض خراسان. كان ملكًا شجاعًا غازيًا، عادلًا حَسَنَ السيرة، يحكُمُ بما يوجِبُه الشرع، يُنصِفُ الضعيفَ والمظلوم، وكان يَحضُرُ عنده العُلَماءُ. لما مات أخوه السلطان غياث الدين، قَبَضَ شهاب الدين على جماعةٍ مِن خواصِّ أخيه وأتباعه وصادرهم. قُتِلَ شهاب الدين بعد عودته من لهاوور، بمنزلٍ يقال له دميل، وقتَ صلاة العشاء، وكان سبَبُ قتله أن نفرًا من الكُفَّار الكوكرية لَزِموا عسكره عازمينَ على قتله، كما فعَلَ بهم من القَتلِ والأسر والسَّبيِ، فلما كان هذه الليلة تفَرَّق عنه أصحابُه، وكان معه من الأموالِ ما لا يُحصى، فإنَّه كان عازمًا على قصد الخطا والاستكثار مِن العساكِرِ، وتفريق المال فيهم، وكان على نيَّةٍ جيدة من قتال الكُفَّار، وبقي وحده في خركاه، فثار أولئك النفر، فقَتَل أحَدُهم بعضَ الحُرَّاس بباب سرادق شهاب الدين، فلما قَتَلوه صاح، فثار أصحابُه من حول السرادق لينظُروا ما بصاحِبِهم، فأخلَوا مواقِفَهم، وكَثُرَ الزحام، فاغتَنَم الكوكرية غفلَتَهم عن الحفظ، فدخلوا على شهابِ الدين وهو في الخركاه، فضَرَبوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربةً فقتلوه، فدخل عليه أصحابُه، فوجدوه على مصلَّاه قتيلًا وهو ساجِدٌ، فأخذوا أولئك الكُفَّار فقتلوهم، وقيل: إنما قتَلَه الإسماعيليَّةُ؛ لأنهم خافوا خروجه إلى خراسان، فلمَّا قُتِلَ اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك بن خوجا سجستان، فتحالَفوا على حِفظِ الخزانة والملك، ولزوم السَّكينة إلى أن يظهَرَ من يتولاه، وتقَدَّمَ الوزير إلى أمير داذ العسكر بإقامةِ السياسة، وضَبط العسكر. وصيَّروا السلطان في محفَّة، وحَفُّوها بالجسم والصناجق يوهمون أنه حيٌّ, وكانت الخزانةُ على ألفين ومائتي جَمَل، وساروا إلى أن وصلوا إلى كرمان، وكاد يتخَطَّفُهم أهلُ تلك النواحي، فخرج إليهم الأميرُ تاج الدين ألدز، فجاء ونزل وقَبَّل الأرض، وكَشَف المحَّفة، فلما رأى السلطان ميتًا، شَقَّ ثيابه وبكى، وبكى الأمراءُ وكان يومًا مشهودًا. وكان ألدز من أكبَرِ مماليكه وأجَلِّهم، فلمَّا قُتِلَ شهاب الدين طَمِعَ أن يَملِكَ غزنة، وحُمِل السلطان إلى غزنة، فدُفِن في التربة التي أنشأها.
ملك خوارزم شاه الطالقان .
العام الهجري : 603 العام الميلادي : 1206
تفاصيل الحدث:
لَمَّا سَلَّم خوارزم شاه ترمذَ إلى الخطا سار عنها إلى ميهنة وأندخوي، وكتب إلى سونج أمير أشكار، نائب غياث الدين محمود بالطالقان يستميلُه، فعاد الرسول خائبًا لم يجِبْه سونج إلى ما أراد منه، وجمع عسكَرَه وخرج يحارِبُ خوارزم شاه، فالتَقَوا بالقرب من الطالقان، فلما تقابل العسكرانِ حمل سونج وحده مجِدًّا حتى قارب عسكرَ خوارزم شاه، فألقى سونج نفسَه إلى الأرض، ورمى سلاحه عنه، وقَبَّلَ الأرضَ، وسأل العَفْوَ، فظَنَّ خوارزم شاه أنَّه سَكرانُ، فلمَّا عَلِمَ أنه صاح ذَمَّه وسَبَّه، وقال: من يثِقُ بهذا وأشباهِه، ولم يلتفت إليه، وأخذ خوارزم شاه ما بالطالقانِ مِن مالٍ وسلاح ودوابَّ وأنفَذَه إلى غياث الدين مع رسولٍ، وحمَّله رسالةً تتضَمَّنُ التقَرُّبَ إليه والملاطفة له، واستناب بالطالقان بعضَ أصحابه، وسار إلى قلاع كالوين وبيوار، فخرجَ إليه حسام الدين عليُّ بن أبي علي، صاحب كالوين، وقاتله على رؤوس الجبال، فأرسل إليه خوارزمُ شاه يتهَدَّدُه إن لم يسَلِّمْ إليه، فقال: أمَّا أنا فمملوك، وأمَّا هذه الحصونُ فهي أمانةٌ بيدي، ولا أسَلِّمُها إلَّا إلى صاحبها، فاستحسن خوارزم شاه منه هذا، وأثنى عليه، وذمَّ سونج, ولَمَّا بلغ غياث الدين خَبَرُ سونج، وتسليمُه الطالقان إلى خوارزم شاه، عَظُمَ عِندَه وشَقَّ عليه، فسَلَّاه أصحابه، وهوَّنوا الأمر، ولَمَّا فرغ خوارزم شاه من الطالقان سار إلى هراة، فنزل بظاهِرِها.
وفاة حسام الدين أردشير صاحب مازندران والخلاف بين أولاده .
العام الهجري : 603 العام الميلادي : 1206
تفاصيل الحدث:
توفِّيَ حُسامُ الدين أردشير، صاحِبُ مازندران، وخَلَّفَ ثلاثة أولاد، فمَلَك بعده ابنُه الأكبَرُ، وأخرج أخاه أسامةَ وهو الأوسَطُ مِن البلاد، فقَصَد جرجان، وبها المَلِك علي شاه بن خوارزم شاه تكش، أخو خوارزم شاه محمد، وهو ينوبُ عن أخيه فيها، فشكا إليه ما صنَعَ به أخوه من إخراجِه مِن البلاد، وطَلَب منه أن يُنجِدَه عليه، ويأخُذَ له البلاد؛ ليكون في طاعته، فكتَبَ علي شاه إلى أخيه خوارزم شاه في ذلك، فأمر بالمسيرِ معه إلى مازندران، وأخْذ البلاد له، وإقامة الخُطبة لخوارزم شاه فيها، فساروا عن جرجان، فاتَّفق أن ابن حسام الدين، الأخَ الأكبر صاحب مازندران، مات في ذلك الوقت، وملك البلادَ بعده أخوه الأصغَرُ، واستولى على القلاعِ والأموال، فدخل علي شاه البلادَ، ومعه أسامةُ الأخ الأوسط، فنَهَبوها وخَرَّبوها، وامتنع منهم الأخُ الصغير بالقلاع، وأقام بقلعةِ كور، وهي التي فيها الأموالُ والذخائر، وحصروه فيها بعد أن ملَّكوا أسامة البلادَ، مثل: سارية وآمل وغيرهما من البلاد والحصون، وخُطِبَ لخوارزم شاه فيها جميعها، سوى القلعة التي فيها أخوه الأصغَرُ، وهو يراسله، ويستميله، ويستعطِفُه، وأخوه لا يردُّ جوابًا، ولا يَنزِلُ عن حِصنِه.
امتلاك الكرج (الجورجيون، سكان جورجيا) لمدينة قرس وموت ملك الكرج .
العام الهجري : 603 العام الميلادي : 1206
تفاصيل الحدث:
ملك الكرج حصن قرس من أعمال خلاط، وكانوا قد حصروه مدةً طويلة، وضيَّقوا على من فيه، وأخذوا دخلَ الولاية عدة سنين، وكل من يتولى خلاط لا ينجِدُهم، ولا يسعى في راحة تصل إليهم، وكان الوالي بها يواصل رسله في طلب النجدة، وإزاحة من عليه من الكرج، فلا يجاب له دعاء، فلما طال الأمرُ عليه ورأى أنْ لا ناصر له، صالح الكرجَ على تسليم القلعة على مالٍ كثير وإقطاع يأخذُه منهم، وصارت دار شرك بعد أن كانت دار توحيد! ثمَّ إن الله تعالى نظر إلى قلة ناصر الإسلام، فتولاه هو، فأمات ملكة الكرج، واختلفوا فيما بينهم، وكفى الله شرهم إلى آخر السنة.
غياث الدين كيخسرو يمتلك مدينة أنطاكية .
العام الهجري : 603 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1207
تفاصيل الحدث:
في الثالث من شعبان ملك غياث الدين كيخسرو، صاحِبُ قونية وبلد الروم، مدينةَ أنطاكية بالأمان، وهي للرومِ على ساحِلِ البحر، وسَبَبُ ذلك أنَّه كان حَصَرَها قبل هذا التاريخ، وأطال المقامَ عليها، وهَدَّمَ عِدَّةَ أبراج من سورها، ولم يبقَ إلَّا فَتْحُها عَنوةً، فأرسل مَن بها من الروم إلى الفرنجِ الذين بجزيرة قبرص، وهي قريبةٌ منها، فاستنجدوهم، فوصل إليها جماعةٌ منهم، فعند ذلك يَئِسَ غياث الدين منها، ورَحَلَ عنها، وتَرَك طائفةً مِن عسكره بالقُربِ منها، بالجبالِ التي بينها وبين بلاده، وأمَرَهم بقَطعِ الميرة منها، فاستمَرَّ الحالُ على ذلك مُدَّةً حتى ضاق بأهلِ البلد، واشتَدَّ الأمر عليهم، فطَلَبوا من الفرنج الخروج لدفعِ المسلمين عن مضايقَتِهم، فظَنَّ الفرنجُ أنَّ الروم يريدون إخراجهم من المدينةِ بهذا السبب، فوقع الخلافُ بينهم، فاقتتلوا، فأرسل الرومُ إلى المسلمين، وطَلَبوهم ليسَلِّموا إليهم البلدَ، فوصلوا إليهم، واجتمعوا على قتالِ الفِرنجِ، فانهزم الفرنجُ ودخل المسلمون الحِصنَ فاعتَصَموا به، ثم أرسلوا يطلُبونَ غياثَ الدين، وهو بمدينةِ قونيَّة، فسار إليهم مجِدًّا في طائفةٍ مِن عسكره، فوصلها ثاني شعبان، وتقَرَّرَ الحالُ بينه وبين الروم، وتسَلَّمَ المدينة ثالثة، وحَصَر الحِصنَ الذي فيه الفرنج، وتسَلَّمَه وقَتَلَ كُلَّ من كان به مِن الفرنجِ.
الحرب بين عسكر الخليفة الناصر لدين الله وصاحب لرستان .
العام الهجري : 603 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1207
تفاصيل الحدث:
سار عسكر الخليفة الناصر لدين الله من خوزستان مع مملوكه سنجر، إلى جبال لرستان، وصاحبها يعرف بأبي طاهر، وهي جبال منيعة بين فارس وأصبهان وخوزستان، فقاتلوا أهلها وعادوا منهزمين، وسبب ذلك أن مملوكًا للخليفة اسمه قشتمر من أكابر مماليكه كان قد فارق الخدمة لتقصير رآه من الوزير نصير الدين العلوي الرازي، واجتاز بخوزستان، وأخذ منها ما أمكنه ولحق بأبي طاهر صاحب لرستان، فأكرمه وعظَّمه وزوجه ابنته، ثم توفِّي أبو طاهر فقوي أمر قشتمر، وأطاعه أهل تلك الولاية، فأمر سنجر بجمع العساكر وقصْده وقتاله، ففعل سنجر ما أمر به، وجمع العساكرَ وسار إليه، فأرسل قشتمر يعتذر، ويسأل ألا يقصد ولا يخرج عن العبودية، فلم يقبل عذره، فجمع أهل تلك الأعمال، ونزل إلى العسكر، فلَقيَهم، فهزمهم، وأرسل إلى صاحب فارس بن دكلا وشمس الدين إيدغمش، صاحب أصبهان وهمذان والري، يعرِّفُهما الحال، ويقول: إنني لا قوة لي بعسكر الخليفة، وربما أضيف إليهم عساكر أخرى من بغداد وعادوا إلى حربي، وحينئذٍ لا أقدر بهم، وطلب منهما النجدة، وخوَّفهما من عسكر الخليفة إن ملكوا تلك الجبال، فأجاباه إلى ما طلب، فقوي جنانه، واستمرَّ على حاله.
محمد خوارزم شاه يمتلك بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة .
العام الهجري : 604 العام الميلادي : 1207
تفاصيل الحدث:
عبر علاء الدين محمد خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا، وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان، وما وراء النهر، وثقُلت وطأتُهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال، فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى، أنف وضجر من تحكُّم الكفار على المسلمين، فراسل خوارزم شاه يقول له: إن اللهَّ عزَّ وجلَّ قد أوجب عليك بما أعطاك مِن سَعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقِذَ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، فسيَّرَ إليه صاحبُ سمرقند وجوه أهل بخار وسمرقند، بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه، وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما بذل، وجعلوا عند خوارزم رهائن، فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، وجمع عساكره جميعها، وسار إلى خوارزم، وتجهَّزَ منها، وعبر جيحون، واجتمع بسلطان سمرقند، ولَمَّا سمع الخطا به حشدوا وجمعوا وجاؤوا إليه، فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات، فتارة له وتارة عليه، ثم دخل خوارزم شاه نيسابور، وأصلح أمرها، وجعل فيها نائبًا، وسار إلى هراة، فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه، وزحف إليه بعسكره، فلم يكن فيه حيلة، فاتفقَ جماعة من أهل هراة وقالوا: هلك الناسُ من الجوع والقلة، وقد تعطلت علينا معايشنا، وقد مضى سنة وشهر، وكان الوزير يعِدُ بتسليم البلد إلى خوارزم شاه إذا وصل إليه، وقد حضر خوارزم شاه ولم يسَلِّم، ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها، فانتهى ذلك إلى الوزير، فبعث إليهم جماعة من عسكره، وأمرهم بالقبضِ عليهم، فمضى الجند إليهم، فثارت فتنة في البلد عظُمَ خَطبُها، فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه، فمضى لذلك، فكتب من البلد إلى خوارزم شاه بالخبر، وزحف إلى البلد وأهله مختلطون، فخربوا برجين من السور، ودخلوا البلد فملكوه، وقبضوا على الوزير، فقتله خوارزم شاه، وملَكَ البلد، وذلك سنة 605، وأصلح حاله، وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من أعيان أمرائه، فلم يزل بيده حتى هلك خوارزم شاه.
ملك نجم الدين بن الملك العادل خلاط .
العام الهجري : 604 العام الميلادي : 1207
تفاصيل الحدث:
ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب مدينةَ خلاط، وسبب ذلك أنَّه كان بمدينة ميافارقين مع أبيه، فلما كان من مُلك سيف الدين بلبان خلاط قصَدَ نجم الدين مدينة موش، وحصرها وأخذها، وأخذ معها ما يجاورها، وطَمِعَ في خلاط، فسار إليها فهزمه بلبان، فعاد إلى بلده وجمع وحشد، وسيَّرَ إليه أبوه جيشًا، فقصد خلاط، فسار إليه بلبان، فتصافَّا واقتتلا، فانهزم بلبان، وتمكن نجم الدين من البلاد وازداد منها، ودخل بلبان خلاط واعتصم بها، وأرسل رسولًا إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان، وهو صاحب أرزن الروم، يستنجده على نجم الدين، فحضر بنفسه ومعه عسكره، فاجتمعا وهَزَما نجم الدين، وحصرا موش، فأشرف الحصن على أن يُملَك، فغدر ابن قلج أرسلان بلبان وقتَلَه طمعًا في البلاد، فلما قتله سار إلى خلاط، فمنعه أهلُها عنها، فسار إلى ملازكرد، فردَّه أهلها أيضًا، وامتنعوا عليه، فلما لم يجِدْ في شيء من البلاد مطمعًا عاد إلى بلده، فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونَه إليهم ليُمَلِّكوه، فحضر عندهم، وملك خلاط وأعمالَها سوى اليسير منها، وكره الملوك المجاورون له ملكَه لها؛ خوفًا من أبيه، وكذلك أيضًا خافه الكرج وكرهوه، فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، ونجم الدين مقيمٌ بخلاط لا يقدِرُ على مفارقتِها.
=======
119.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
غارات الفرنج بالشام .
العام الهجري : 604 العام الميلادي : 1207
تفاصيل الحدث:
كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد، وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها، ونازلوا مدينة حمص، وكان جمعهم كثيرًا لم يكن لصاحبها أسدِ الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوَّةٌ ولا يقدر على دفعِهم ومنعِهم، فاستنجد الظاهِرَ غازي، صاحِبَ حلب، وغيره من ملوك الشام، فلم ينجده إلا الظاهر؛ فإنه سيَّرَ له عسكرًا أقاموا عنده، ومنعوا الفرنجَ عن ولايته، ثمَّ إن الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة، وقصد مدينةَ عكا، فصالحه صاحبُها الفرنجي على قاعدة استقرت من إطلاق أسرى من المسلمين وغير ذلك، ثم سار إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس، وجاءته عساكرُ الشرق وديار الجزيرة، ودخل إلى بلادِ طرابلس، وحاصر موضعًا يسمَّى القليعات، وأخذه صلحًا، وأطلق صاحِبَه، وغنم ما فيه من دواب وسلاح، وخرَّبه، وتقدَّمَ إلى طرابلس، فنهب وأحرق وسبى، وغنم وعاد، وكانت مدَّة مقامه في بلد الفرنج اثني عشر يومًا، وعاد إلى بحير قدس، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصُّلح، فلم تستقِرَّ قاعدة، ودخل الشتاء، وطلبت العساكر الشرقيَّة العودَ إلى بلادهم قبل البرد الشديد، فنزل طائفةٌ من العسكر بحمص عند صاحبها، وعاد إلى دمشق فشتى بها، وعادت عساكر ديار الجزيرة إلى أماكنها.
حدوث زلزلة بالموصل .
العام الهجري : 604 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1208
تفاصيل الحدث:
حدثت زلزلة بالموصل في وقت السَّحَر، ولم تكن بها شديدة، وجاءت الأخبارُ من كثير من البلاد بأنها زلزلت ولم تكن بالقويَّة.
مقتل السلطان غياث الدين محمود صاحب الغور .
العام الهجري : 605 العام الميلادي : 1208
تفاصيل الحدث:
هو السلطان غياث الدين محمود بن السلطان الكبير غياث الدين محمد بن سام الغوري, صاحب غزنة والغور وفيروزكوه, وهو مِن كبار ملوك الإسلام، اتَّفق أن خوارزم شاه علاء الدين هزم الخطا مرات، ثم وقع في أسرِهم مع بعض أمرائه، فبقي خوارزم شاه يخدُم ذلك الأمير كأنَّه مملوكه، ثم قال الأميرُ للذي أسرهما: نفِّذْ غلمانك إلى أهلي ليفتَكُّوني بمال. فقال: فابعث معهم غلامَك هذا ليدُلَّهم، فبعثه ونجا علاء الدين بهذه الحيلة، وقَدِمَ، فإذا أخوه علي شاه نائبه على خراسان قد هم بالسلطنة، ففزع منه، فهرب خوارزم شاه إلى غياث الدين محمود، فبالغ في إكرامه. لما سلَّم خوارزم شاه هراة إلى خاله "أمير ملك" سنة 605، وسار إلى خوارزم، أمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث، وأن يقبِضَ عليه وعلى أخيه علي شاه بن خوارزم شاه، ويأخذ فيروزكوه من غياث الدين، فسار أميرُ ملك إلى فيروزكوه، وبلغ ذلك إلى محمود، فأرسل يبذُلُ الطاعة ويطلُب الأمان، فأعطاه ذلك، فنزل إليه محمود، فقبض عليه أمير ملك، وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه، فسألاه أن يحمِلَهما إلى خوارزم شاه ليرى فيهما رأيَه، فأرسل إلى خوارزم شاه يعرفه الخبَرَ، فأمره بقتلِهما، فقُتلا في يوم واحد معا بغيًا وعدوانًا، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه، وغياث الدين محمود هو آخر ملوك الغورية، وقد كانت دولتُهم من أحسن الدول سيرةً، وأعدَلِها وأكثَرِها جهادًا.
مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وملك ابنه محمود .
العام الهجري : 605 العام الميلادي : 1208
تفاصيل الحدث:
هو سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وهو ابن عم نور الدين، صاحب الموصل، قتله ابنه غازي، وسبب ذلك أن سنجر كان سيئَ السيرة غشومًا ظلومًا لرعيته وجندِه وحَرَمِه وولَدِه، كثيرَ القهر لهم والانتقام منهم، فاقِدَ الشفقة على بنيه حتى غرَّب ابنيه محمودًا ومودودًا إلى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهُّمٍ توهَّمه فيهما, ثم أخرج ابنه غازي إلى دار بالمدينة, ووكل به فساءت حاله، وكانت الدار كثيرة الخشاش فضَجِرَ من حاله, فأعمل غازي الحيلة حتى نزل من الدار التي كان قد حبسه أبوه بها واختفى، ثمَّ إن غازي بن سنجر تسلَّقَ إلى دار أبيه، واختفى عند بعضِ سراريِّه، وعلم به أكثَرُ من بالدار، فسَتَرت عليه بغضًا لأبيه، وتوقعًا للخلاصِ منه لشِدَّتِه عليهن، فبقي كذلك، وترك أبوه الطَّلبَ له ظنًّا منه أنَّه بالشام، فاتفق أنَّ أباه، في بعض الأيام شرب الخمر بظاهرِ البلد مع نُدَمائه، فلم يزل كذلك إلى آخر النهار، وعاد إلى داره، فلما دخل الخلاءَ، دخل عليه ابنه غازي فضربه بالسكينِ أربع عشرةَ ضربةً، ثم ذبحَه، وتركه مُلقًى، فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى البابِ وأعلم أستاذ دار سنجر الخبَرَ، فأحضر أعيان الدولة وعرَّفَهم ذلك، وأغلق الأبوابَ على غازي، واستحلف الناسَ لمحمود بن سنجر شاه، وأرسل إليه فأحضره من قلعةِ فرح ومعه أخوه مودود، فلما حلفَ الناس وسكنوا فتحوا باب الدارِ على غازي، ودخلوا عليه ليأخُذوه، فمانعهم عن نفسِه، فقتلوه وألقَوه على باب الدار، فأكلت الكلابُ بعضَ لحمه، ثم دُفِنَ باقيه، ووصل محمودٌ إلى البلد ومَلَكَه، ولُقِّبَ بمعز الدين، لَقَب أبيه، فلما استقَرَّ عمد الى الجواري اللواتي واطأنَ على قتل أبيه فغرَّقَهن في دجلةَ.
ملك العادل الخابور ونصيبين ومحاولة أخذ سنجار .
العام الهجري : 606 العام الميلادي : 1209
تفاصيل الحدث:
ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين، وحصر مدينة سنجار، والجميع من أعمال الجزيرة، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود، وسببُ ذلك أن قطب الدين كان بينه وبين ابنِ عَمِّه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عداوةٌ مستحكمة، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم، فحسَّنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون مُلك قطب الدين للعادل، وتكون الجزيرةُ لنور الدين، فوافق هذا القولُ هوى نور الدين، فأرسل إلى العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشرًا، فبادر العادلُ إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه، فلما سمع نور الدين بوصوله كأنَّه خاف واستشعر، هذا والعادل قد ملك الخابورَ ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، فبينما الأمرُ على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذُلُ من نفسه المساعدةَ على منع العادل عن سنجار، وأنَّ الاتفاق معه على ما يريده، فوصل الرسولُ ليلًا فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبَرَ إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلًا وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلفَ له على ذلك، وعاد الوزيرُ من ليلته، فسار مظفر الدين، واجتمع هو ونور الدين، ونزلا بعساكِرِهما بظاهر الموصل، ولما وصل مظفر الدين إلى الموصل، واجتمع بنور الدين، أرسلا إلى الملك الظاهرِ غازي بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ حلب، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، بالاتِّفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، فتواعَدوا على الحركة وقصْد بلاد العادل إن امتنع من الصلحِ والإبقاء على صاحب سنجار، وأرسلا أيضًا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسِلَ رسولًا إلى العادل في الصلح أيضًا، فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسلُ الخليفة إلى العادل وهو يحاصر سنجار، فأجاب أولًا إلى الرحيل، ثم امتنع عن ذلك، وغالط، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضًا، فلم ينلْ منها ما أمَّله، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها، واستقرَّت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على هذا كلُّهم، وعلى أن يكونوا يدًا واحدة على الناكثِ منهم؛ ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، وبقي كل واحد من الملوك في بلده.
وفاة الفخر الرازي .
العام الهجري : 606 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1210
تفاصيل الحدث:
هو العلَّامة فخر الدين, إمام الدنيا في عصره، أبو المعالي وأبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي القرشي التيمي البكري، الطبرستاني الأصل, الرازي المعروف بالفخرِ الرازي، ويقال له خطيبُ الريِّ، الفقيهُ الشافعي، المفسِّر المتكَلِّم, صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولين وغيرهما، أحد فقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار، له نحو من مائتي مصنَّف. ولد سنة 543, وقيل سنة أربعة وأربعين. حادَّ الذهن، كثير البراعة، قويَّ النظر في صناعة الطب، عارفًا بالأدب، له شعر بالفارسي والعربي، وكان ضخمَ البدن ربْعَ القامة، كبير اللحية، في صوته فخامة. اشتغل على والده الإمام ضياء الدين عمر، وبعد وفاة والده قصد الكمال السمناني، واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم، فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والعقيدة، فأُخرِجَ من البلد، فقصد ما وراء النهر، فجرى له أيضًا ما جرى بخوارزم، فعاد إلى الريِّ، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وله بنتان، ولفخر الدين ابنان، فمَرِضَ الطبيب فزوج بنتيه بابني الفخر، ولما مات الطبيب حصل الفخر على جميع أموالِه". وقد كان معظَّمًا عند ملوك خوارزم وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء، والأمراء، والفقراء والعامة، وله في الوعظِ مرتبةٌ عالية يعظ باللسانين الفارسي والعربي، وكان يلحقه الوجدُ حالَ وعظه، ويحضُرُ مجلِسَه أرباب المقالات والمذاهب ويسألونه. ورجع بسببِه خلق كثير من الكرَّاميَّة وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقَّب في هراة بشيخ الإسلام. وقد وقع بينه وبين الكرَّاميَّة وقائع في أوقات متفرقة، وكان يبغضهم ويبغضونه، ويبالغون في الحطِّ عليه، ويبالغ هو أيضًا في ذمهم، وكان مع غزارة علمِه في فن الكلام يقول: من لزم مذهبَ العجائِز كان هو الفائز، وقد قيل في وصيته عند موته أنَّه رجع عن مذهب الكلامِ فيها إلى طريقةِ السَّلَف وتسليم ما ورد على وجهِ المراد اللائقِ بجلالِ الله سبحانه، وقد كان يصحب السلطانَ ويحب الدنيا ويتَّسِعُ فيها اتساعًا عظيمًا، حتى قيل: ملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والأثاث والملابس، وكان له خمسون مملوكًا من الترك، وحشم وتجمل زائد، وعلى مجلسه هيبة شديدة. وليس ذلك من صفة العلماء؛ ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه، كما قامت عليه شناعات عظيمةٌ بسبب كلمات كان يقولها. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي، وأبو شامة: "اعتنى الفخرُ الرازي بكتب ابن سيناء وشَرحِها. وكان يعظ وينال من الكرَّامية، وينالون منه سبًّا وتكفيرا، وقيل: إنهم وضعوا عليه من سقاه السمَّ فمات، وكانوا يرمونه بالكبائر. ولا كلامَ في فضله، وإنما الشناعاتُ قائمة عليه بأشياء؛ منها: أنه قال: قال محمد التازي، وقال محمد الرازي، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه، والتازي: هو العربي- وقيل كان يقول محمد البادي يعني العربي يريد به النبيَّ صلى الله عليه وسلم نسبة إلى البادية. ومنها أنه كان يقرر مسائل الخصوم وشبههم بأتمِّ عبارة، فإذا جاء بالأجوبة، قنع بالإشارة. ولعله قصد الإيجاز، ولكن أين الحقيقة من المجاز", ومن مصنفاته: وتفسيره الكبير في اثنتي عشرة مجلدة كبار سماه " "فتوح الغيب" أو "مفاتيح الغيب". وفسر الفاتحة في مجلد مستقل. وشرح نصف "الوجيز" للغزالي. وله كتاب " المطالب العالية " في ثلاثة مجلدات، ولم يتمه، وهو من آخر تصانيفه، وله كتاب "عيون الحكمة " فلسفة، وكتاب في الرمل، وكتاب في الهندسة، وكتاب " الاختبارات العلائية " فيه تنجيم، وكتاب " الاختبارات السماوية " تنجيم، وكتاب " الملل والنحل "، وكتاب في النبض، وكتاب " الطب الكبير "، وكتاب " التشريح " لم يتمه، وصنف ترجمة الشافعي في مجلد مفيد، وفيه غرائب لا يوافَق عليها، ويُنسَب إليه أشياء عجيبة، وغيرها من المصنفات وهي كثيرة. قال ابن خلكان: "وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفُه في البلاد ورُزِقَ فيها سعادة عظيمة؛ فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتبَ المتقدمين، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبِه، وأتى فيها بما لم يُسبَق إليه". قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة في " تاريخه:"انتشرت في الآفاق مصنفات فخر الدين وتلامذته، وكان إذا ركب مشى حوله نحو ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء، وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه، وكان شديدَ الحرص جدًّا في العلوم الشرعية والحكمية، وكان طلاب العلم يقصدونَه من البلاد على اختلاف مطالبِهم في العلوم وتفنُّنِهم، فكان كلٌّ منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه منه. قرأ الحكمة على المجد الجيلي بمراغة، وكان المجد من كبار الفضلاء وله تصانيف. قلت (الذهبي): يعني بالحكمة: الفلسفة". ومن تلامذته مصنف " الحاصل " تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي، وشمس الدين عبد الحميد بن عيسى الخسروشاهي، والقاضي شمس الدين الخويي، ومحيي الدين قاضي مرند, ولَمَّا أثرى الفخر الرازي، لازم الأسفارَ والتجارة، وعاملَ شهاب الدين الغوري في جملةٍ من المال، ومضى إليه لاستيفاء حقِّه، فبالغ في إكرامه، ونال منه مالًا طائلًا، ثم اتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتبِ، ولم يبلغ أحد منزلتَه عنده, وكان الفخر الرازي خطيبَ الري، وكان أكثَرُ مُقامه بها، وتوجه إلى خوارزم ومرض بها، وامتد مرضه أشهرًا، وتوفي يوم عيد الفطر بهراة بدار السلطنة. وكان علاء الملك العلوي وزير خوارزم شاه قد تزوج بابنته, ومن كلام فخر الدين قال: " فاعلموا أنني كنت رجلًا محبًّا للعلم، فكنت أكتبُ في كل شيء شيئًا؛ لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقًّا أو باطلًا، ولقد اختبرت الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفيةَ، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآنِ؛ لأنَّه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنَعُ عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات؛ فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءتِه عن الشركاء في القِدَم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقولُ به، وألقى الله به. وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح، المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنَّك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مدَّ به قلمي، أو خطر ببالي فأستشهد وأقول: إن علمتَ مني أني أردتُ به تحقيق باطل، أو إبطالَ حَقٍّ، فافعل بي ما أنا أهلُه، وإن علمتَ مني أني ما سعيتُ إلا في تقرير اعتقدت أنه الحق، وتصورتُ أنه الصدق، فلتكن رحمتُك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهدُ المُقِلِّ، فأغثني وارحمني، واستر زلتي وامح حوبتي، وأقول: ديني متابعةُ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، وأمَّا الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالحِ دعائه، على سبيل التفَضُّل والإنعام، وإلَّا فليحذف القولَ السيئَ، فإني ما أردت إلا تكثير البحثِ، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله".
وفاة ابن الأثير الجزري صاحب جامع الأصول .
العام الهجري : 606 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1210
تفاصيل الحدث:
هو مجد الدين أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري كانت ولادته بجزيرة ابن عمر سنة 544 ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل سنة خمس وستين, ثم عاد إلى الجزيرة، ثم الموصل، وتنقل في الولايات بها واتصل بخدمة الأمير مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الخادم الزيني، فكتب له, ثمَّ اتصل بخدمة عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل، وتولى ديوان رسائله وكتب له إلى أن توفي، ثم اتصل بولده نور الدين أرسلان شاه فحَظِيَ عنده، وتوفَّرت حرمتُه لديه، وكتب له مدة, ثم عرض له مرض كفَّ يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقًا، وأقام في داره يغشاه الأكابرُ والعلماء، وأنشأ رباطًا بقرية من قرى الموصل ووقفَ أملاكَه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل، وقيل: إنه صنف كتبه كلَّها في مدة العطلة، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة. كان ابن الأثير عالِمًا في عدة علوم مبرزًا فيها، منها: الفقه، والأصولان، والنحو، والحديث، واللغة، وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث، والنحو، والحساب، وغريب الحديث، وله رسائل مدوَّنة، وهو صاحب جامع الأصول في الحديث، وله كتاب غريب الحديث والأثر، وغيرها من المصنفات، وهو غير صاحب الكامل في التاريخ، فهذا أخوه. قال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل في حقه: أشهر العلماء ذِكرًا، وأكبر النبلاء قدرًا، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرْد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، أخذ النحوَ عن شيخه أبي محمد سعيد بن المبارك الدهان، وسمع الحديث متأخرًا، ولم تتقدَّم روايته. وله المصنَّفات البديعة والرسائل الوسيعة " توفي في آخر ذي الحجة.
وفاة السلطان أرسلان شاه بن مسعود وقيام ولده بعده .
العام الهجري : 607 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1211
تفاصيل الحدث:
هو السلطانُ الملك العادل نور الدين أبو الحارث، أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب الموصل, وابنُ صاحبها، كان ملكًا شَهمًا، عارفًا بالأمور، جبارًا سافكًا للدماء بخيلًا. انتقل إلى مذهب الشافعي، ولم يكن في بيته شافعيٌّ سواه. وبنى المدرسة المعروفة به بالموصل للشافعية، قل أن توجد مدرسة في حسنها. كان سريع الحركة في طَلَبِ الملك، إلَّا أنه لم يكن له صبرٌ؛ فلهذا لم يتَّسِع ملكه، ولما احتُضِرَ أمر أن يرتب في الملك ولده الملك القاهر مسعود، وأعطى ولده عماد الدين زنكي قلعتين، وجعل تدبيرَ مملكتهما إلى فتاه بدر الدين لؤلؤ. وكان مرضه قد طال، ومزاجه قد فسد، وكانت مُدَّة ملكه سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرًا، وكان شهمًا شجاعًا، ذا سياسة للرعايا، شديدًا على أصحابه، فكانوا يخافونه خوفًا شديدًا، وكان ذلك مانعًا من تعدي بعضِهم على بعض، وكان له همة عالية، أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهَه وحُرمَتَه، بعد أن كانت قد ذهبَت، وخافه الملوك؛ ولما اشتد مرضه وأيس من نفسه أمره الأطباء بالانحدار إلى الحامة المعروفة بعين القيارة، وهي بالقرب من الموصل، فانحدر إليها، فلم يجِدْ بها راحة، وازداد ضعفًا، فأخذه بدر الدين وأصعده في الشبارة إلى الموصل، فتوفي في التاسع والعشرين من رجب. في الطريق ليلًا ومعه الملاحون والأطباء بينه وبينهم ستر، وكان مع بدر الدين عند نور الدين مملوكان، فلما توفي نور الدين قال لهما: لا يسمع أحدٌ بموته، وقال للأطباء والملاحين: لا يتكلم أحد، فقد نام السلطانُ، فسكتوا، ووصلوا إلى الموصل في الليل، فأمر الأطباءَ والملاحين بمفارقة الشبارة؛ لئلَّا يَرَوه ميتًا، وأبعدوا، فحمله هو والمملوكان، وأدخله الدار، وتركه في الموضع الذي كان فيه ومعه المملوكان، ونزل على بابه من يثقُ به لا يمكِّن أحدًا من الدخول والخروج، وقعد مع الناس يمضي أمورًا كان يحتاجُ إلى إتمامها، فلما فرغَ مِن جميع ما يريدُه أظهَرَ موتَه وقت العصر، ودُفِنَ ليلًا بالمدرسة التي أنشأها مقابلَ داره، وضبط البلدَ تلك الليلة ضبطًا جيدًا واستقَرَّ الملك لولده، وقام بدر الدين بتدبير الدولة والنظر في مصالحِها.
اعتداءات الفرنج على البلاد المسلمين في الشام ومصر .
العام الهجري : 607 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1211
تفاصيل الحدث:
توجَّهت مراكب من عكا فيها ملك قبرص المسمَّى إليان إلى ثغر دمياط، فدخله ليلًا وأغار على بعض البلاد، فقتل وسبى وكر راجعًا، فركب مراكبه ولم يدركه الطلبُ، وقد تقدمت له غارة مثلُها قبل هذه، وهذا شيءٌ لم يتَّفِق لغيره، وفيها عاثت الفرنجُ بنواحي القدس، فبرز إليهم الملك المعظم شرف الدين بن الملك العادل، وعمل أبو المظفر سبط ابن الجوزي ميعادًا بنابلس وحثَّ على الجهاد، وكان يومًا مشهودًا، ثم سار هو ومن معه وبصحبته المعظَّم نحو الفرنج، فقتلوا خلقًا وخربوا أماكن كثيرة، وغَنِموا وعادوا سالمين، وشرع المعظَّم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكونَ إلبًا على الفرنج، فغرم أموالًا كثيرة في ذلك، فبعث الفرنجُ إلى العادل يطلُبونَ منه الأمان والمصالحة، فهادنهم وبطلت تلك العمارةُ وضاع ما كان المعظَّمُ غرم عليها.
هزيمة الفرنج بطليطلة ببلاد الأندلس .
العام الهجري : 608 العام الميلادي : 1211
تفاصيل الحدث:
جاءت الأخبار من بلاد الأندلس بأنَّ الموحِّدينَ قد كسروا الفرنجَ بطُليطِلة كسرةً عظيمة، وربما فتحوا طليطلةَ عَنوةً وقَتل منهم خلقًا كثيرًا.
إظهار الإسماعيلية توبتهم من اعتقادات الباطنية .
العام الهجري : 608 العام الميلادي : 1211
تفاصيل الحدث:
أظهر الإسماعيليَّةُ- ومقَدَّمُهم جلالُ الدين الإسماعيليُّ، تولى بعد أبيه, وقيل: إنه كان غير راضٍ عن ممارساتِ أبيه أعلى محمد وسياستِه العدوانيَّة- الانتِقالَ عن فعل المحرَّمات واستحلالِها، وأمَرَ بإقامة الصلواتِ وشرائِعِ الإسلامِ ببلادهم من خراسان والشام، وأرسل مقدُّمُهم رسلًا إلى الخليفة، وغيره من ملوك الإسلام، يخبِرُهم بذلك، وأرسل والدتَه إلى الحجِّ، فأُكرِمَت ببغدادَ إكرامًا عظيمًا، وكذلك بطريقِ مكَّةَ.
وفاة العلامة محمد بن يونس بن منعة الفقيه الشافعي .
العام الهجري : 608 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1211
تفاصيل الحدث:
هو العلَّامةُ عماد الدين أبو حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك الإربلي الأصل الموصلي، الفقيه الشافعي، وُلِدَ سنة 535 بمدينة الموصل وتفَقَّه بها على والده، ثم سار إلى بغداد، وتفقَّه بها بالنظامية على السديد محمَّد السلماسي، وأبي المحاسن يوسف بن بندار الدمشقي، وسمِعَ الحديثَ من أبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وعبد الرحمن بن محمد الكشميهني. وعاد إلى الموصل، ودرَّس بها في عدة مدارس، وعلا صيتُه، وشاع ذكرُه، وقصَدَه الفقهاء من البلاد، وتخرَّجَ به خلقٌ، انتهت إليه رياسةُ الشافعية، وكان حسَنَ الأخلاق، كثيرَ التجاوز عن الفقهاء، كثيرَ الإحسان إليهم. كان إمامًا فاضلًا، وإمامَ وَقتِه في المذهب والأصول والخِلاف، وكان له صيتٌ عظيم في زمانه، صنف " المحيط " وجمع فيه بين "المهذب" و"الوسيط"، وشرح "الوجيز"، وصنف جدلًا، وعقيدة، وغير ذلك وتوجَّه رسولًا إلى الخليفة غير مرة، ووليَ قضاءَ الموصل خمسة أشهر ثم عُزِل، وذلك في صفر سنة ثلاث وتسعين، قال ابن خلكان: "كان شديدَ الورع والتقشُّف، لا يلبس الثوب الجديد حتى يغسِلَه، ولا يمسُّ القلَمَ للكتابة إلا ويغسِلُ يده، وكان دمثَ الأخلاق لطيف الخلوة ملاطفًا بحكايات وأشعار، وكان كثيرَ المباطنة لنور الدين أرسلان صاحب الموصل يُرجَع إليه في الفتاوى ويُشاوَر في الأمور, ولم يزل معه حتى انتقل أرسلان عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي" فلما توفي نور الدين توجَّه الشيخ عماد الدين إلى بغداد، وأخذ السلطنة للملك القاهر مسعود بن نور الدين، وأتى بالتقليدِ والخِلعة.
استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان .
العام الهجري : 608 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1212
تفاصيل الحدث:
قدم إيدغمش، صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد إلى بغداد، هاربًا من منكلي، وسببُ ذلك أن إيدغمش كان قد تمكَّنَ في البلاد، وعظم شأنُه، وانتشر صيتُه، وكثُرَ عَسكَرُه، حتى إنَّه حصر صاحبه أبا بكر البهلوان، صاحب هذه البلاد: أذربيجان وأران، فلما كان هذا العام خرج عليه مملوكٌ اسمه منكلي، ونازعه في البلادِ، وكثر أتباعه، وأطاعه المماليكُ البهلوانية، فاستولى عليها، وهرب منه شمس الدين إيدغمش إلى بغداد، فلما وصل إليها أمر الخليفة بالاحتفالِ له في اللقاء، فخرج الناسُ كافة، وكان يومُ وصوله مشهودًا، ثمَّ قَدِمَت زوجتُه في رمضان في محمل، فأُكرِمَت وأُنزِلَت عند زوجها، وأقام ببغدادَ إلى سنة عشر وستمائة، فسار عنها.
نهب أمير مكة حجاج العراق بمنى .
العام الهجري : 608 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1212
تفاصيل الحدث:
وثب أحدُ الباطنية على بعض أهلِ الأمير قتادة، صاحِبِ مكة، فقتله بمنًى ظنًّا منه أنه قتادة، فلما سمع قتادةُ ذلك جمع الأشراف والعربَ والعبيد وأهلَ مكَّة، وقصدوا الحاجَّ، ونزلوا عليهم من الجبَلِ، ورموهم بالحجارة والنبل وغير ذلك، وكان أميرُ حجاَّج العراق ولد الأمير ياقوت وهو صبي لا يَعرِفُ كيف يفعَلُ، فخاف وتحيَّرَ، وتمكن أمير مكة من نهب الحاجِّ، فنَهَبوا منهم من كان في الأطراف، وأقاموا على حالهم إلى الليلِ، فاضطرب الحاجُّ، وباتوا بأسوأ حال من شدة الخوفِ مِن القتل والنهب، فقال بعضُ الناس لأمير الحاج لينتقل بالحجَّاج إلى منزلة حجَّاج الشام، فأمر بالرحيل، فرفعوا أثقالَهم على الجمال تؤخَذُ بأحمالها، والتحَقَ مَن سَلِمَ بحجاج الشام، فاجتمعوا بهم، ثم رحلوا إلى الزاهر، ومُنعوا من دخولِ مكة، ثم أذِنَ لهم في ذلك، فدخلوها وتمَّموا حجَّهم وعادوا، ثم أرسل قتادةُ ولده وجماعة من أصحابه إلى بغداد، فدخلوها ومعهم السيوفُ مسلولةً والأكفان، فقَبَّلوا العتبةَ، واعتذروا ممَّا جرى على الحُجَّاج.
وفاة الملك الأوحد صاحب خلاط .
العام الهجري : 609 العام الميلادي : 1212
تفاصيل الحدث:
توفي الملك الأوحد نجم الدين والدنيا أيوب بن السلطان الملك العادل أبي بكر، صاحب خلاط بتركيا في أيام أبيه الملك العادل، مَلَكَ خلاط ونواحيها، فظلم وعسَف وسفك الدماء بها, وقيل إنه قتل ثمانية عشر ألف نَسَمة بخلاط عندما أخذها، فابتُلي بأمراضٍ مزمنة، فتمنى الموتَ، فمات قبل الكهولة, وكان قد استزار أخاه الملك الأشرف موسى من حران، فأقام عنده أيامًا، واشتد مرضُه فطلب الأشرف الرجوع إلى حران، فقال له الأوحدُ: يا أخي لم تلِحُّ في الرواح، والله إني ميت وأنت تأخذ البلادَ مِن بعدي، فكان كذلك! وملك الأشرف بعد موته خلاط وأحبَّه أهلُها، كلُّ ذلك في حياة أبيهما الملك العادل، فكانت مدَّة تملك الأوحد خلاط أقلَّ من خمس سنين.
محاولة الأمير أسامة الجبلي الاستيلاء على دمشق .
العام الهجري : 609 العام الميلادي : 1212
تفاصيل الحدث:
اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج، فاغتنم غيبتَهم أسامة الجبلي أحدُ أكابر الأمراء، وكانت بيدِه قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعًا إلى دمشق ليتسلم البلدين، فأرسل العادلُ في إثره ولَدَه المعَظَّم فسبقه إلى القدسِ وحملَ عليه في كنيسة صهيون، وكان الجبلي شيخًا كبيرًا قد أصابه النقرس، فشرع المعظَّمُ يرده إلى الطاعة بالملاطفةِ فلم ينفَعْ فيه، فاستولى على حواصله وأملاكِه وأموالِه، وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتُقِلَ فيها، ثم أمر العادل بقتله فقُتِلَ بها، وكان قيمة ما أخذ من الجبلي قريبًا من ألف ألف دينار، من ذلك داره وحمَّامه داخل باب السلامة، ودارُه هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية، وخُرِّب حِصنُ كوكب ونُقِلَت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده العادِلُ وولده المعظم.
قدوم ابن منكلي بغداد .
العام الهجري : 609 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1212
تفاصيل الحدث:
قدم محمد بن منكلي المستولي على بلاد الجبل إلى بغداد، وسببُ ذلك أنَّ أباه منكلي لَمَّا استولى على بلاد الجبل وهرب إيدغمش صاحبها منها إلى بغداد خاف أن يساعِدَه الخليفة، ويرسِل معه العساكر، فيَعظُم الأمر عليه؛ لأنَّه لم يكن قد تمكَّن في البلاد، فأرسل ولده محمدًا ومعه جماعةٌ من العسكر، فخرج النَّاسُ ببغداد على طبقاتِهم يلتقونَه، وأُنزِلَ وأُكرِمَ، وبَقِيَ ببغداد إلى أن قُتِلَ منكلي إيدغمش بهمذان سنة عشر، فخلع الخليفةُ على ابن منكلي وعلى من معه، وأُكرِموا، وسيَّرَهم إلى بلاد الجبل.
هزيمة الموحدين في موقعة العقاب بالأندلس .
العام الهجري : 609 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1212
تفاصيل الحدث:
انهزم الموحِّدون في وقعةِ العقاب أمام جيوشِ الأسبان من قشتالة وليون ونافار المتحالفة بقيادة ألفونسو الثامن ملك قشتالة، وهذه المعركة وقَعَت قُربَ حِصنِ العقاب في الخامسَ عشَر مِن صفر. لَمَّا انتهت الهدنة مع الفرنج، عبَرَ السلطان الناصر بجيوشه إلى إشبيلية, ثم تحرَّك في سنة 608 لجهادهم، فنازل حصنًا لهم فأخذه، فسار ألفونسو في أقاصي الممالك يستنفر عبَّاد الصليب، فاجتمَعَت له جيوش ما سُمِعَ بمِثلِها، ونجدته فرنج الشام، وعساكر القسطنطينية، وملك أرغن البرشلوني، واستنفر السلطانُ الناصر الناس، والتقى الجمعانِ في وقعة تُعرَف بالعقاب، بالقربِ من حصنِ سالم، فتحَمَّل ألفونسو حملةً شديدة، فهزم المسلمين، واستشهد خلقٌ كثير. وكان أكبر أسباب الكسرة غضبَ الجند من تأخُّر عطائهم، وخصوصًا في هذه السفرة، فنَسَبوا ذلك إلى الوزراء، وخرجوا وهم كارهون، فلم يَسُلُّوا سيفًا ولا شرعوا رمحًا ولا أخذوا في شيءٍ مِن أهبة القتال؛ بل انهزموا لأوَّلِ حَملةِ الإفرنج عليهم قاصدين لذلك. وثبت السلطانُ ثباتًا عظيمًا، وكانت الملحمة في صفر سنة 609، ورجع العدوُّ بغنائم لا توصف، وأخذوا بياسة عنوةً، فلما وجدها شبه خالية، حرق دورها وخرَّب مسجدها الكبير؛ ثم نزل ألفونسو على أبذة وقد اجتمع فيها من المسلمين عدد كثير من المنهزمة وأهل بياسة وأهل البلد نفسه، فأقام عليها ثلاثة عشر يومًا، ثم دخلها عَنوةً فقتل وسبى وغنم، وأخذ هو وأصحابه من السبيِ مِن النساء والصبيان ما مَلَؤوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشدَّ على المسلمين من الهزيمة, وقد ترتَّبَ على هذه الهزيمة انحسارُ المسلمين في الأندلس بغرناطة وتفكُّك وحدة الشمال الإفريقي، وقيام ثلاث دول إسلامية مغربية، هي دولة بني حفص شرقًا، ودولة بني زيان من بني عبد الواد بالمغرب الأقصى، ودولة بني مرين غربًا، فاستقَلَّت هذه الدولُ عن دولة الموحِّدين.
قتل إيدغمش صاحب همذان .
العام الهجري : 610 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1213
تفاصيل الحدث:
هو شمسُ الدين إيدغمش صاحب همذان وأصبهان والري. كان قد تمكن وعَظُم أمرُه، وبَعُد صيتُه، وكثُرَ جَيشُه إلى أن حصر ابن أستاذه أبا بكر بن البهلوان صاحب أذربيجان، فلما كان في سنة ثمان وستمائة خرج عليه أحدُ مماليكه اسمه منكلي ونازعه في البلاد، وأطاعته المماليكُ البهلوانية. فهرب أيدغمش سنة ثمانٍ إلى بغداد وأقام بها، فأنعم عليه الخليفةُ، وشَرَّفه بالخِلَع، ثمَّ سَيَّرَه إلى همذان، فسار إيدغمش في جمادى الآخرة عن بغداد قاصدًا همذان، فوصل إلى بلاد سليمان بن ترجم واجتمعا، وأقام ينتظر وصولَ عساكر بغداد إليه ليسيرَ معه على قاعدة استقَرَّت بينهم، وكان الخليفة قد عزل ابن ترجم عن الإمارة على عشيرته من التركمان الإيوانية، وولى أخاه الأصغر، فأرسل ابن ترجم إلى منكلي يعَرِّفُه بحال إيدغمش، ومضى هو على وجهِه، فأرسل منكلي من أخَذَه وقَتَلَه، وحمل رأسَه إليه، وتفَرَّق أصحاب إيدغمش في البلاد، ووصل الخبَرُ بقتله إلى بغداد، فعظُم ذلك على الخليفة، وأرسلَ إلى منكلي ينكِرُ عليه ما فعل، فأجاب جوابًا شديدًا، وتمكَّن من البلاد، وقَوَيَ أمرُه، وكثرت جموعُ عساكِرِه.
وفاة الناصر حاكم الموحدين بالمغرب والأندلس .
العام الهجري : 610 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
هو السلطانُ أبو عبد الله الملك الناصر محمد بن يعقوب المنصور بالله يوسف بن عبد المؤمن بن علي القيسي, أميرُ الموحدين، وأمُّه رومية اسمها زهر. بويعَ له بعد أبيه سنة 595 بعهدٍ من أبيه، وكان أشقَرَ أشهَلَ أسيل الخَدِّ مليح الشكل، كثير الصمتِ والإطراق، شجاعًا مَهيبًا بعيدَ الغور، حليمًا عفيفًا عن الدماء، وفي لسانه لثغةٌ، وكان بخيلًا، وله عِدَّة أولاد. استوزر أبا زيد بن يوجان، ثم عزله، واستوزر الأمير إبراهيم أخاه، وكتب سرَّه ابن عياش، وابن يخلفتن الفازازي، وولي قضاءَه غير واحد. وكان قد استرد تونس والمهدية وما كان استولى عليه عليُّ بن غانية من إفريقيا، كما استولى على طرابلس الغرب وانتزعها من الأميرِ بهاء الدين قراقوش قائد الأيوبيين المصري، كما انتزع جزيرة ميورقة وما حولها من الجزر جزر الباليار من بني غانية، وكانوا نواب المرابطين فيها، وقاتل الأسبان فهزموه في وقعة العقاب عام 609, ولما عاد الناصرُ إلى مراكش أخذ البيعة لولده يوسف الملقب بالمستنصر بالله، ثمَّ احتجب في قصره إلى أن مات في هذا العامِ بعد أن أصيب بمرضٍ أيامًا، ومات في شعبانَ مِن هذه السنة، وكانت أيامُه خمسة عشر عامًا، وقام بعده ابنه المستنصرُ يوسف عشرة أعوام.
=======
12.0.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
خوارزم شاه يمتلك مدينة كرمان ومكران والسند .
العام الهجري : 611 العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش والد خوارزم شاه محمد, أميرٌ اسمُه أبو بكر، ولقَبُه تاج الدين، وكان في ابتداءِ أمرِه جمَّالًا يكري الجمالَ في الأسفار، ثم جاءته السعادة، فاتصل بخوارزم شاه، وصار سيروانَ جمالِه، فرأى منه جلدًا وأمانةً، فقَدَّمَه إلى أن صار من أعيانِ أمراءِ عَسكَرِه، فولَّاه مدينة زوزن، وكان عاقلًا ذا رأي وحزمٍ وشجاعة، فتقَدَّم عند خوارزم شاه تقدمًا كثيرًا، فوَثِقَ به أكثَرَ مِن جميع أمراء دولتِه، فقال أبو بكر لخوارزم شاه: إنَّ بلاد كرمان مجاورةٌ لبلدي، فلو أضاف السلطانُ إليَّ عسكرًا لملكتُها في أسرع وقت، فسيَّرَ معه عسكرًا كثيرًا فمضى إلى كرمان، وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحِبَ سجستان أيَّامَ السلطان سنجر، فقاتَلَه، فلم يكُنْ له به قوة، وضَعُفَ، فملك أبو بكر بلادَه في أسرع وقت، وسار منها إلى نواحي مكرانَ فملكها كلها إلى السند، من حدودِ كابل، وسار إلى هرمز، مدينةٍ على ساحلِ بحر مكران، فأطاعه صاحبُها، واسمه ملنك، وخطَبَ بها لخوارزم شاه، وحملَ عنها مالًا، وخطبَ له بقلهات، وبعض عمان؛ لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحِبَ هرمز. وقيل إنَّ ملك خوارزم شاه لكرمان ومكران والسند كان في السنةِ التي قبلها أو بعدها بقليلٍ.
تبليط داخل الجامع الأموي .
العام الهجري : 611 العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
شُرِعَ في تبليطٍ داخل الجامع الأموي وبدؤوا من ناحيةِ السبع الكبير، وكانت أرضُ الجامع قبل ذلك حُفرًا وجورًا، فاستراح النَّاسُ بتبليطِه.
أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا .
العام الهجري : 611 العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
أخذ المُعظَّم قلعة صرخد من ابن قراجا وعَوَّضَه عنها وسَلَّمَها إلى مملوكه عز الدين أيبك المعظمي، فثبَتَت في يده إلى أن انتزعها منه نجمُ الدين أيوب سنة 644.
طرد الملك العادل أمير مكة منها .
العام الهجري : 611 العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
حجَّ الملك المعَظَّم بنُ العادلِ فرَكِبَ مِن الكرك على الإبل في حادي عشر ذي القعدة، ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين أستاذ داره وخَلْقٌ، فلما قدم المدينةَ النبويَّةَ تلقَّاه صاحبُها سالم وسَلَّمَ إليه مفاتيحَها وخَدَمه خدمةً تامَّةً، وأمَّا صاحب مكة قتادةُ فلم يرفَعْ به رأسًا؛ ولهذا لما قضى نسُكَه، وكان قارنًا، وأنفق في المجاورين ما حمَلَه إليهم من الصَّدَقاتِ، وكَرَّ راجعًا؛ استصحب معه سالِمًا صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند رأسِ الماء ما لقيه من صاحب مكةَ، فأرسل العادِلُ، مع سالم جيشًا يطرُدونَ صاحِبَ مكَّةَ، فلمَّا انتهوا إليها هرب منهم في الأوديةِ والجبالِ والبراري.
تملك أضسيس اليمن بعد وفاة أيوب بن طغتكين .
العام الهجري : 611 العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
لما مات صاحب اليمن أيوب بن طغتكين تولى بعده سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتِّفاق الأمراء عليه، فأرسل العادِلُ إلى ولده الكامِلِ أن يرسِلَ إليها ولده أضسيس (ومعناه ما له اسم) وتسمَّى بالمسعودِ صلاح الدين يوسف، فخرج في جيش كثيفٍ من مصر، وسار إلى بلاد اليمن، فاستولى على معاقلِها، وظَفِرَ بصاحبها الملك سليمان شاهنشاه, فسَيَّرَه تحت الحوطة إلى مصر، فتمَلَّك أضسيس اليمن فظَلَم بها وفتك وغشم، وقتَلَ من الأشراف نحوًا من ثمانمائة، وأمَّا من عداهم فكثير، وكان من أفجَرِ الملوك وأكثَرِهم فِسقًا وأقلِّهم حياءً ودينًا، وقد ذكروا عنه ما تقشَعِرُّ منه الأبدانُ وتُنكِرُه القلوبُ.
عدوان فرنج قبرص وعكا وطرابلس وأنطاكية على المسلمين .
العام الهجري : 611 العام الميلادي : 1214
تفاصيل الحدث:
تجمع فرنج قبرص وعكا وطرابلس وأنطاكية، وانضم إليهم عسكرُ ابن ملك الأرمن؛ لقصد بلاد المسلمين، فخافهم المسلمون، وكان أول ما بدؤوا به بلاد الإسماعيلية، فنازلوا قلعةَ الخوابي وجدُّوا في حصارها، وكانوا حانقين على الإسماعيلية؛ بسبب قتلهم ابن البرنس صاحب أنطاكية؛ شابٍّ في الثامنة عشرة من العمر، وثبوا عليه العام الماضي فقتلوه، فخرج الملك الظاهر بعسكَرِه ليدافِعَ عن القلعة، فترحَّلت الفرنجُ ثم ساروا عنها إلى أنطاكية.
القتال بين أمير المدينة النبوية وبين أمير مكة .
العام الهجري : 612 العام الميلادي : 1215
تفاصيل الحدث:
حاصر الأمير قتادة أميرُ مكَّةَ المدينةَ ومن بها وقطع نخلًا كثيرًا، فقاتَلَه أهلُها فكَرَّ خائبًا خاسرًا حسيرًا، وكان صاحب المدينة بالشام فطلب مِن العادل نجدةً على أمير مكة، فأرسل معه جيشًا فأسرع في الأوبة، فمات أمير المدينة في أثناء الطريق، فاجتمع الجيشُ على ابن أخيه جماز فقصَدَ مكة فالتقاه أميرُها بالصفراء فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهرب المكيُّون وغَنِمَ منهم جماز شيئًا كثيرًا، وهربَ قتادةُ إلى ينبع، فساروا إليه فحاصروه بها وضيَّقوا عليه.
مناوشات بين الفرنج والمسلمين .
العام الهجري : 612 العام الميلادي : 1215
تفاصيل الحدث:
أغارت الفرنج على بلاد الإسماعيلية فقتلوا ونهبوا ثم اصطلحوا، وأخذ مَلِكُ بلاد الروم عزُّ الدين كيكاوس بن كيخسرو مدينة إنطاكية من أيدي الفرنجِ، ثم أخَذَها منه ابنُ لاون ملك الأرمن، ثم منه إبريس طرابلس، وسار عزُّ الدين إلى بلاد الأرمن، وحاصرَ قلعة جابان، وهزم عندها جيوش الأرمن، ورجع إلى قيصريَّة قبل أن يستوليَ على قلعة جابان، ثم طلب الأرمنُ الصلحَ، وأجابهم إليه عزُّ الدين، فأخذ في مقابلِ الصلح من بلاد الأرمن قلعةَ لؤلؤة ولوزاد.
وفاة ولي العهد الملك المعظم أبي الحسن علي بن الخليفة الناصر .
العام الهجري : 612 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1215
تفاصيل الحدث:
هو أبو الحسَنِ عليُّ بن الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله، وهو الأصغر، وكان يلقَّب الملك المعظم، وكان أحبَّ ولدي الخليفة إليه، وقد رشَّحه لولاية العهد بعده، وعزَلَ ولده الأكبر عن ولاية العهدِ؛ لأجل أبي الحسن علي, وكان كريمًا كثير الصدقة والمعروف، حَسَن السيرة، محبوبًا إلى الخاص والعام، وكان سببُ موتِه أنَّه أصابه إسهالٌ فتوفِّيَ، وحَزِنَ عليه الخليفةُ حُزنًا لم يُسمَعْ بمثله، حتى إنه انقطع، ثم أُخرجَ نهارًا، ومشى جميعُ الناس بين يدي تابوتِه إلى تربة جدَّتِه عند قبر معروف الكرخي، فدُفِنَ عندها، ولما أُدخِل التابوت أُغلِقَت الأبواب، وسُمِعَ الصراخ العظيم من داخل التربة، فقيل إن ذلك صوتُ الخليفة, وأمَّا العامة ببغداد فإنَّهم وجدوا عليه وجدًا شديدًا، ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلًا ونهارًا، ولم تبق امرأةٌ إلَّا وأظهرت الحزن، وما سُمِعَ ببغداد مثل ذلك في قديمِ الزمانِ وحديثه. وتَرَك أبو الحسن ولدينِ أحدهما المؤيَّد أبو عبد الله الحسين، والموفَّق أبو الفضل يحيى.
مقتل منكلي وولاية أغملش .
العام الهجري : 612 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1215
تفاصيل الحدث:
انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد، ومضى هاربًا، فقُتِلَ، وسَبَبُ ذلك أنَّه كان قد ملكَ البلاد، وقتل إيدغمش فأُرسلَ إليه من الديوان الخليفي رسولٌ ينكِرُ ذلك عليه، وكان قد أوحش الأمير أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان، فأرسل الخليفةُ إليه يحَرِّضُه على منكلي ويَعِدُه النصرةَ، وأرسل أيضًا إلى جلال الدين الإسماعيلي، صاحِبِ قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم، ألموت وغيرها، يأمرُه بمساعدة أوزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفةِ بعضُ البلاد، ولأوزبك بعضُها، ويعطى جلال الدين بعضَها، فلما استقَرَّت القواعد بينهم على ذلك جهَّزَ الخليفة عسكرًا كثيرًا، وجعل مُقَدَّمَهم مملوكَه مُظفَّر الدين سنقر، الملقب بوجه السبع، فساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكرُ كلها فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلَّق بالجبال، وتبعوه، فنزلوا بسفحِ جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج، وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعِه ومن معهم، فحَمَلوا عليه، فلم يثبُت أوزبك، ومضى منهَزِمًا، فعاد أصحابُ منكلي وصَعِدوا الجبَلَ، وعاد أوزبك إلى خيامِه، فطَمِعَ منكلي حينئذ، ونزل من الغدِ في جميع عسكرِه، واصطَفَّت العساكر للحرب، واقتتلوا أشدَّ قتال يكون، فانهزم منكلي وصعد الجبل، واستولى عسكرُ الخليفة وأوزبك على البلاد، فأعطى جلال الدين، ملك الإسماعيلية، من البلاد ما كان استقَرَّ له، وأخذ الباقي أوزبك، فسَلَّمَه إلى أغلمش مملوكِ أخيه. أمَّا منكلي فإنَّه مضى منهزمًا إلى مدينة ساوة، وبها شحنة هو صديقٌ له، فأرسل إليه يستأذنُه في الدخول إلى البلد، فأذن له، وخرج إليه فلقيه وقبَّل الأرضَ بين يديه، وأدخله البلد، وأنزله في داره، ثم أخذ سلاحَه، وأراد أن يقيِّدَه ويُرسِلَه إلى أغلمش، فسأله أن يقتُلَه هو ولا يرسلَه، فقتله، وأرسل رأسَه إلى أوزبك، وأرسله أوزبك إلى بغداد، وكان يومُ دخولها يومًا مشهودًا, ولم يتمَّ فرحة الخليفة ذلك اليوم لموت ولَدِه وولي عهده أبو الحسَنِ علي.
خوارزم شاه يمتلك مدينة غزنة وأعمالها .
العام الهجري : 612 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1215
تفاصيل الحدث:
ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها، وسببُ ذلك أنَّ خوارزم شاه لَمَّا استولى على عامَّة خراسان وملك باميان وغيرها، أرسلَ إلى تاج الدين، صاحبِ غزنة، يطلُبُ منه أن يخطُبَ له، ويضرِبَ السِّكَّة باسمه، ويرسِلَ إليه فيلًا واحدًا ليصالِحَه ويقِرَّ بيده غزنة، ولا يعارِضه فيها، فأحضر الأمراءَ وأعيانَ دولته واستشارهم، فخطب لخوارزم شاه، وضَرَب السكة باسمِه، وأرسل إليه فيلًا، وأعاد رسولَه إليه، ومضى إلى الصيدِ، فأرسل قتلغ تكين، والي غزنة، إلى خوارزم شاه يطلبه ليسلم إليه غزنة، فسار مجِدًّا، وسبق خبَرُه، فسلم إليه قتلغ تكين غزنةَ وقلعتها، فلمَّا دخلها خوارزم شاه قتَلَ من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك، وقيل: إنَّ مِلكَ خوارزم شاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة.
وقوع بَرَد شديد بالبصرة وهبوب ريح سوداء شديدة ببغداد .
العام الهجري : 613 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1216
تفاصيل الحدث:
وقع بالبصرة بَرَد كثير، وهو مع كثرتِه عظيمُ القَدرِ، قيل: كان أصغرُه مثل النارنجة- نوع من الليمون- الكبيرة، وقيل في أكبرِه ما يستحي الإنسانُ أن يذكُرَه، فكسر كثيرًا من رؤوسِ النخيل. وفي صفَر من نفس العام هبَّت ببغداد ريحٌ سوداءُ شديدة، كثيرةُ الغبار والقتام، وألقت رملًا كثيرًا، وقلعت كثيرًا من الشَّجَر، فخاف الناسُ وتضَرَّعوا، ودامت من العشاءِ الآخرة إلى ثلث الليل ثم انكشَفَت.
وفاة الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب .
العام الهجري : 613 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1216
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو صاحِبُ مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام، وكان مرضُه إسهالًا، وكان شديد السيرة، ضابطًا لأموره كلِّها، ولَمَّا اشتدت علتُه عهد بالملك بعده لولد له صغيرٍ اسمه محمد، ولقَّبَه الملك العزيز غياث الدين، عُمُره ثلاثُ سنين، وعدَلَ عن ولد كبير لأنَّ الصغيرَ كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد، فعَهِدَ بالملك له ليبقى عمُّه البلاد عليه، ولا ينازعه فيها، ولَمَّا عهد الظاهر إلى ولده بذلك جعل أتابكه ومربِّيَه خادمًا روميًّا، اسمه طغرل، ولقَّبَه شهاب الدين، وهو من خيارِ عبادِ الله، كثيرُ الصدقة والمعروف، ولما توفي الظاهر أحسن الأتابك شهاب الدين السيرةَ في الناس، وعدل فيهم، وأزال كثيرًا من السُّنَن الجارية، وأعاد أملاكًا كانت قد أُخذَت من أربابهِا، وقام بتربية الطفلِ أحسَنَ قيامٍ، وحَفِظَ بلاده، واستقامت الأمورُ بحُسنِ سيرته وعَدلِه.
خوارزم شاه يمتلك بلد الجبل .
العام الهجري : 614 العام الميلادي : 1217
تفاصيل الحدث:
سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجَبَل فمَلَكَها، وكان سببُ حركتِه في هذا الوقت عِدَّة أمور؛ أحدها: أنه كان قد استولى على ما وراء النهر، وظَفِرَ بالخطا، وعَظُم أمره، وعلا شأنه، وأطاعه القريبُ والبعيد، ومنها: أنه كان يهوى أن يُخطَبَ له ببغداد، ويُلَقَّب بالسلطان، ومنها: أن أغلمش لَمَّا ملك بلاد الجبل خطب له فيها جميعِها، فلما قتَلَه الباطنية غَضِبَ له، وخرج لئلا تخرُجَ البلاد عن طاعته، فسار مجدًّا في عساكر تطبقُ الأرض، فوصل إلى الريِّ فملكها، وكان أتابك سعد بن دكلا، صاحِبُ بلاد فارس، لَمَّا بلغه مقتل أغلمش جمع عساكِرَه وسار نحو بلاد الجبل طمعًا في تملكها لخلوِّها عن حامٍ وممانع، فوصل إلى أصفهان، فأطاعه أهلُها، وسار منها يريد الري، ولم يعلم بقدوم خوارزم شاه، فلَقِيَه مقدمة خوارزم شاه فظَنَّها عساكر تلك الديار قد اجتمعت لقتاله ومنْعِه عن البلاد، فقاتلهم، وجَدَّ في محاربتهم حتى كاد يهزِمُهم، ثم انهزم وملك خوارزم شاه البلدَ.
قدوم خوازم شاه إلى بغداد طالبا السلطنة .
العام الهجري : 614 العام الميلادي : 1217
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ السلطانُ علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدًا بغداد في أربعمائة ألف مقاتل، وقيل في ستمائة ألف، فاستعَدَّ له الخليفة واستخدم الجيوَش وأرسل إلى الخليفةِ يطلُبُ منه أن يكون بين يديه على قاعدةِ مَن تقَدَّمه من الملوك السلاجقة، وأن يَخطُبَ له ببغداد، فلم يجِبْه الخليفة إلى ذلك، وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي، فلما وصل شاهدَ عند خوارزم شاه من العظمةِ وكثرة الملوك بين يديه وأخذَ السهروردي في خطبةٍ هائلة فذكر فيها فضلَ بني العباس وشرَفَهم، والترجمان يعيد على السلطانِ خوارزم شاه، فقال السلطانُ أمَّا ما ذكرتَ مِن فضل الخليفة فإنَّه ليس كذلك، ولكني إذا قَدِمتُ بغداد أقمتُ من يكون بهذه الصِّفة، وانصرف السهروردي راجعًا، وأرسل الله تعالى على خوارزم شاه وجنده ثلجًا عظيمًا ثلاثة أيام حتى طَمَّ الخيامَ والخراكي -لفظ فارسيٌّ يعني بيتًا من الخشب- ووصل إلى قريب رؤوس الأعلام، وتقطَّعت أيدي رجالٍ وأرجُلُهم، وعَمَّهم من البلاء ما لا يُحَدُّ ولا يوصف، فمات كثيرٌ من الدواب والرجال، فلم يحقِّق خوارزم شاه ما جاء لأجلِه، وخاف أن يتغلَّب التَّترُ على بلاده؛ إذ قد بدأوا بالتحرُّك، فرجع إلى بلاده!
انقضاء الهدنة مع الفرنج وغزوهم بلاد الشام .
العام الهجري : 614 العام الميلادي : 1217
تفاصيل الحدث:
وصلت أمداد الفرنج في البحر من روميَّة الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال، إلَّا أن المتولي لها كان صاحب رومية؛ لأنَّه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمةٍ، لا يرون مخالفةَ أمره ولا العُدولَ عن حُكِمهِ فيما سَرَّهم وساءهم، فجهَّز العساكرَ مِن عنده مع جماعةٍ مِن مقَدَّمي الفرنج، وأمَرَ غيرَه من ملوكِ الفرنج إمَّا أن يسير بنفسِه، أو يرسِلَ جيشًا، ففعلوا ما أمَرَهم، فاجتمعوا بعكَّا من ساحل الشام، وكان الملك العادلُ أبو بكر بن أيوب بمصر، فسار منها إلى الشامِ، فوصل إلى الرملة، ومنها إلى لد، وبرز الفرنج من عكَّا ليقصدوه، فسار العادلُ نحوَهم، فوصل إلى نابلس عازمًا على أن يسبِقَهم إلى أطراف البلاد ممَّا يلي عكا ليحميَها منهم، فساروا هم فسَبَقوه، فنزل على بيسان من الأردن، فتقدَّم الفرنجُ إليه في شعبان عازمينَ على محاربته؛ لعلمهم أنَّه في قلة من العسكر، لأنَّ العساكِرَ كانت متفرقةً في البلاد، فلمَّا رأى العادلُ قُربَهم منه لم يرَ أن يلقاهم في الطائفةِ التي معه، خوفًا من هزيمة تكونُ عليه، وكان حازمًا كثير الحذر، ففارق بيسان نحو دمشق ليُقيمَ بالقرب منها، ويرسِلَ إلى البلاد ويجمعَ العساكر، فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه، فأخذ الفرنجُ كلَّ ما في بيسان من ذخائِرَ قد جُمِعَت، وكانت كثيرةً، وغنموا شيئًا كثيرًا، ونَهَبوا البلاد من بيسان إلى بانياس، وبثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين، ونوى وأطراف البلاد، ونازلوا بانياس، وأقاموا عليها ثلاثة أيام، ثم عادوا عنها إلى مرج عكا، ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرةً، سوى ما قتلوا وأحرقوا وأهلكوا، فأقاموا أيامًا استراحوا خلالها، ثم جاؤوا إلى صور، وقَصَدوا بلد الشقيف، ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين، فنهبوا البلاد: صيدا والشقيف، وعادوا إلى عكا، وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد، والذي سَلِمَ من تلك البلاد كان متخفيًا حتى قَدَر على النجاة، ولما نزل العادِلُ على مرج الصفر سيَّرَ ولده الملك المعظم عيسى، وهو صاحِبُ دمشق في قطعةٍ صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنَعَ الفرنجَ عن بيت المقدس.
حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبها .
العام الهجري : 614 العام الميلادي : 1217
تفاصيل الحدث:
لما نزل الفرنج بمرج عكَّا تجَّهزوا، وأخذوا معهم آلةَ الحصار من مجانيقَ وغيرها، وقصدوا قلعةَ الطور، وهي قلعةٌ منيعة على رأس جبلٍ بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريبٍ، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها، وصَعِدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها، وكادوا يملِكونه، فاتَّفق أن بعض المسلمين ممَّن فيها قتَل بعضَ ملوكهم، فعادوا عن القلعة فتركوها، وقصدوا عكَّا، وكانت مدة مُقامهم على الطور سبعة عشر يومًا، ولَمَّا فارقوا الطور أقاموا قريبًا، ثم ساروا في البحرِ إلى ديار مصر، فتوجَّه الملك المعظَّم إلى قلعة الطورِ فخَرَّبها إلى أن ألحَقَها بالأرض؛ لأنَّها بالقُربِ مِن عكا ويتعَذَّر حِفظُها.
قيام فتنة ببغداد بين أهل المأمونية وبين أهل باب الأزج .
العام الهجري : 614 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1217
تفاصيل الحدث:
وقعت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبين أهل باب الأزج بسبب قتل سبع؛ وزاد الشرُّ بينهم، واقتتلوا، فجُرح بينهم كثير، فحضر نائبُ الباب وكفَّهم عن ذلك، فلم يقبلوا ذلك، وأسمعوه ما يكرَهُ، فأُرسِل من الديوان أميرٌ من مماليك الخليفة، فرَدَّ أهل كل محلَّة إلى محلَّتِهم، وسكنت الفتنةُ.
قصد كيكاوس ولاية حلب .
العام الهجري : 615 العام الميلادي : 1218
تفاصيل الحدث:
سار عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ملك بلاد الروم إلى ولاية حلب؛ قصدًا للتغلُّب عليها، ومعه الأفضلُ بن صلاح الدين يوسف، حيث كان أشار عليه ذوو الرأيِ من أصحابه، وقالوا له: لا يتِمُّ لك هذا إلا بأن يكون معك أحدٌ من بيت أيوب لِيسهلَ على أهل البلاد وجُندِها الانقياد إليه؛ وهذا الأفضَلُ بن صلاح الدين هو في طاعتك، فأحضر الأفضل من سميساط إليه، واستقَرَّت القواعد بينهما أن يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل، وهو في طاعة كيكاوس، والخطبة له في ذلك أجمع، ثم يقصِدون ديارَ الجزيرة، فما يفتحونَه مِمَّا بيد الملك الأشرف مثل: حران والرَّها من البلاد الجزرية، تكون لكيكاوس، وجرت الأيمانُ على ذلك، وجمعوا العساكِرَ وساروا، فملكوا قلعة رغبان، فتسَلَّمَها الأفضل، فمال الناسُ حينئذ إليهما، ثم سارا إلى قلعةِ تل باشر، وفيها صاحِبُها ولَدُ بدر الدين دلدرم الياروقي، فحصروه، وضَيَّقوا عليه، وملكوها منه، فأخذها كيكاوس لنفسِه، ولم يسَلِّمها إلى الأفضل، فاستشعر الأفضَلُ من ذلك، وقال: هذا أوَّلُ الغدر، وخاف أنَّه إن ملك حلب يفعل به هكذا، فلا يحصُلُ إلَّا أن يكون قد قلع بيتَه لغيره، ففترت نيَّتُه، وأعرض عمَّا كان يفعله، وكذلك أيضًا أهل البلاد، وأما صاحِبُ حلب فلما حدث هذا الأمر خاف أن يحصُروه، وربَّما سَلَّم أهلُ البلد والجند المدينةَ إلى الأفضل لمَيلِهم إليه، فأرسل إلى المَلِك الأشرف بن الملك العادل، صاحبِ الديار الجزرية وخلاط وغيرها، يستدعيه إليه لتكونَ طاعتُهم له، ويخطُبون له، ويجعل السكةَ باسمه، ويأخُذ من أعمال حلب ما اختار، فجمع عسكَرَه وأحضر إليه العربَ من طيئ وغيرهم، ونزل بظاهِرِ حلب، ولما أخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضَلُ يشير بمعاجلة حلب قبل اجتماعِ العساكر بها، وقبل أن يحتاطوا ويتجَهَّزوا، فعاد عن ذلك، وصار يقولُ: الرأي أننا نقصد منبج وغيرها؛ لئلا يبقى لهم وراء ظهورِنا شيء، قصدًا للتمادي فتوجَّهوا من تل باشر إلى جهة منبج، وتقدَّم الأشرف نحوهم، وسارت العربُ في مقدِّمته، وكان طائفة من عسكر كيكاوس، نحو ألف فارس، قد سبقت مقدمته له، فالتقوا هم والعربُ ومن معهم من العسكر الأشرفي، فاقتتلوا، فانهزم عسكر كيكاوس، وعادوا إليه منهزمينَ، وأكثر العرب الأسرَ منهم والنهبَ؛ لجودة خيلهم ودبر خيل الرومِ، فلما وصل إليه أصحابُه منهزمين لم يثبت، بل ولى على أعقابِه يطوي المراحِلَ إلى بلاده خائفًا يترقَّبُ، فلما وصل إلى أطرافها أقام، فسار حينئذ الأشرف، فملك رغبان، وحصر تل باشر، وبها جمعٌ مِن عسكر كيكاوس، فقاتلوه حتى غُلِبوا، فأُخِذَت القلعة منهم، وأطلَقهم الأشرف، وسَلَّم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهابِ الدين أتابك، صاحب حلب، وكان عازمًا على اتباعِ كيكاوس، ودخول بلاده، فأتاه الخبَرُ بوفاة أبيه الملك العادل، فاقتضت المصلحةُ العودَ إلى حلب.
حصر الفرنج دمياط .
العام الهجري : 615 العام الميلادي : 1218
تفاصيل الحدث:
لما عاد الفرنجُ من حصار الطور أقاموا بعكَّا إلى أن دخلت هذه السَّنةُ، فساروا في البحرِ إلى دمياط، فوصَلوا في صفر، فأرسوا على بر الجيزة، بينهم وبين دمياط النيل، فإنَّ بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، وقد بني في النيل برجٌ كبير منيع، وجعلوا فيه سلاسِلَ من حديد غلاظ، ومدُّوها في النيل إلى سورِ دمياط لتَمنَعَ المراكِبَ الواصلة في البحرِ المالح أن تصعَدَ في النيل إلى ديار مصر، ولولا هذا البرجُ وهذه السلاسل لكانت مراكِبُ العدو لا يقدِرُ أحَدٌ على مَنعِها عن أقاصي ديارِ مِصرَ وأدانيها، فلمَّا نزل الفرنجُ على بر الجيزة، وبينهم وبين دمياط النيل، بَنَوا عليه سورًا، وجعلوا خندقًا يمنعُهم من يريدهم، وشرعوا في قتال من بدمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى البرج الذي في النيل ليقاتلوه ويملكوه، وكان البرجُ مشحونًا بالرجال، وقد نزل الملك الكامِلُ بن الملك العادل، وهو صاحِبُ ديار مصر، بمنزلة تُعرَفُ بالعادلية، بالقرب من دمياط، والعساكِرُ متصلة من عنده إلى دمياط، ليمنع العدُوَّ من العبور إلى أرضهم، وأدام الفرنجُ قتال البرج وتابعوه، فلم يظفروا منه بشيءٍ، وكُسِرَت مرماتهم وآلاتهم، ومع هذا فهم ملازمون لقتاله، فبَقُوا كذلك أربعة أشهر، ولم يقدروا على أخذه، ثم تمكنوا من أخذه فقطعوا السلاسِلَ لتدخُلَ مراكبُهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر، فنصب الملك الكامِلُ عِوَضَ السلاسلِ جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوكِ النيل، ثم إنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا، كثيرًا، متتابعًا حتى قطعوه، فلما قطع أخذ الملكُ الكامل عدَّةَ مراكب كبار وملأها وخرَقَها وغَرَقها في النيل، فمَنَعت المراكِبَ من سلوكه، فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك يُعرَف بالأزرق، كان النيل يجري فيه قديمًا، فحفروا ذلك الخليج وعَمَّقوه فوق المراكبِ التي جُعِلَت في النيل، وأجروا الماء فيه إلى البحر المالحِ، وأصعدوا مراكِبَهم فيه إلى موضعٍ يقال له بورة، على أرض الجيزة أيضًا، مقابل المنزلةِ التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك، فإنَّهم لم يكن لهم إليه طريقٌ يقاتلونه فيها، كانت دمياط تحجز بينهم وبينه، فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء، وزحفوا غيرَ مَرَّة، فلم يظفروا بطائل، ولم يتغيَّرْ على أهل دمياط شيءٌ؛ لأن الميرة والأمداد متَّصلة بهم، والنيلُ يحجُز بينهم وبين الفرنج، فهم ممتَنِعون لا يصلُ إليهم أذى، وأبوابُها مفتحة، وليس عليها من الحَصرِ ضِيقٌ ولا ضرر.
============
121.

اللغة
الموسوعة التاريخية
الرئيسة
الموسوعة التاريخية
تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل
وفاة الملك القاهر صاحب الموصل وتملك ولده بعده .
العام الهجري : 615 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1218
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ القاهر عزُّ الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، صاحِبُ الموصل، توفِّيَ ليلة الاثنين لثلاثٍ بقِينَ من شهر ربيع الأول، وكانت ولايتُه سبع سنين وتسعة أشهر، وكان سبب موته أنَّه أخذته حمى، ثم فارقته الغد، وبقي يومينِ موعوكًا، ثم عاودته الحُمَّى مع قيءٍ كثير، وكربٍ شديد، وقلق متتابعٍ، ثم برد بدَنُه، وعَرقَ، وبَقِيَ كذلك إلى وسط الليل، ثم توفِّيَ، وقيل مات مسمومًا، وكان لما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولدِه الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وعُمُره حينئذ نحو عشر سنين، وجعل الوصيَّ عليه والمدبِّر لدولته بدر الدين لؤلؤًا، وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله، فلما قضى نحبَه قام بدر الدين بأمر نور الدين، وأجلسه في مملكةِ أبيه، وأرسل إلى الخليفةِ يطلب له التقليدَ والتشريف، وأرسل إلى الملوك، وأصحاب الأطراف المجاورين لهم، يطلبُ منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدةِ التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يصبِحْ إلَّا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه، وجلس للعزاء، وحَلَف الجند والرعايا، وضبط المملكة، وبعد أيامٍ وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية، ولبدر الدين بالنظرِ في أمر دولته، والتشريفات لهما أيضًا، وأتتهما رسلُ الملوك بالتعزية، وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقَرَّت القواعد لهما. ثم تغلب بدر الدين لؤلؤ على الموصِلِ، وملكها 40 سنة، وكان من قبلُ نائبًا بها ثم استَقَلَّ بالسلطنة وتلَقَّب بالملك الرَّحيم.
وفاة أم المؤيد زينب بنت الشعري .
العام الهجري : 615 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1218
تفاصيل الحدث:
هي أم المؤيد زينبُ بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجاني الأصل النيسابوري الدار، الصوفي المعروف بالشعري- وتدعى حرة- وُلِدَت سنة 524 بنيسابور، وكانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة. سمعت من أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم ابن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين، وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وغيرهم، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري صاحب " الكشاف " وغيرهما من السادات الحُفَّاظ. قال ابن خلكان: "ولنا منها إجازة كتبتها في بعض شهور سنة 610، ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة 608 بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين" توفيت الحرة سنة 615 في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور" قال الذهبي: "حدثت أم المؤيد أكثر من ستين سنة، روى عنها: عبد العزيز بن هلالة، وابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن الصلاح، والشرف المرسي، والصريفيني، والصدر البكري، ومحمد بن سعد الهاشمي، والمحب ابن النجار، وجماعة كثيرة. وسمعت بإجازتها على التاج بن عصرون، والشرف بن عساكر، وزينب الكندية. وكانت شيخة صالحة، عالية الإسناد معمرة، مشهورة، انقطع بموتها إسناد عال". قال ابن خلكان: "الشَّعْري بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم".
وفاة الملك العادل سيف الدين أبو بكر الأيوبي .
العام الهجري : 615 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1218
تفاصيل الحدث:
هو الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أبي الشكر أيوب بن شاذي بن يعقوب بن مروان الدويني، ثم التكريتي، ثم الدمشقي. وُلِدَ ببعلبك في سنة 534، وهو أصغَرُ من أخيه السلطان صلاح الدين بسنتين. وقيل: وُلِدَ بدمشق سنة ثمان وثلاثين. وقيل: ولد سنة أربعين. وهو أحد ملوك الدولة الأيوبية. لما ملك صلاح الدين الديار المصرية كان العادل ينوب عنه في حال غيبته في الشام، ويستدعي منه الأموال للإنفاق على الجند وغيرهم. ولَمَّا ملك صلاح الدين مدينة حلب سنة 579 أعطاها لولده الملك الظاهِرِ غازي، ثم أخذها منه، وأعطاها للملك العادل، ثم نزل عنها للملك الظاهر غازي لمصلحةٍ وقع الاتِّفاقُ عليها بينه وبين أخيه صلاح الدين. وآخر الأمر استقل العادل بمصر سنة 596 واستقَرَّت له القواعد، ثم خُطِبَ له بحلب سنة 598, وملك معها البلادَ الشامية والشرقيَّة، ثم ملك اليمن سنة 612، وسيَّرَ إليها ابنه الملك المسعود صلاح الدين. قال أبو شامة: "عاش العادلُ ستا وسبعين سنة. نشأ في خدمة نور الدين محمود مع أبيه، وإخوته. وحضر مع أخيه صلاح الدين فتوحاتِه. وقام أحسنَ قيام في الهدنة مع ملك الفرنج بعد أخذهم عكَّا. وكان صلاح الدين يعَوِّلُ عليه كثيرًا، واستنابه بمصر مدة" ملك العادِلُ من بلاد الكرج إلى قريب همذان، والشام، والجزيرة، ومصر، والحجاز، واليمن، إلى حضرموت. وقد أبطل كثيرًا من الظلم والمكوس. ولما تمهدت له البلاد قسمَها بين أولاده، فأعطى الملك الكامل الديار المصريَّة، والملك المعظم البلاد الشامية، والملك الأشرف البلاد الشرقية، والملك الأوحد نجم الدين أيوب ميافارقين وتلك النواحي، وكان يتردد بينهم وينتقل إليهم من مملكةٍ إلى أخرى, وقد كان ملكًا عظيمًا ذا رأي ومعرفة تامةٍ قد حنكته التجاربُ، حسن السيرة، جميل الطوية، فيه حِلمٌ وأناة وصبر على الشدائد، وكان سعيد الجد، عاليَ الكعب، مظفرًا بالأعداء وافِرَ العقل، حازمًا في الأمور صالحًا محافظًا على الصلوات في أوقاتها، مائلًا إلى العلماء. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: "كان خليقًا بالملك، حسنَ التدبير، حليمًا، صفوحًا، مجاهدًا، عفيفًا، دَيِّنًا، متصدقًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر طهر جميع ولايته من الخمور، والخواطئ، والمكوس، والمظالم". قال الموفق عبد اللطيف في سيرة العادل: "كان أصغر إخوته، وأطولهم عمرًا، وأعمقهم فكرًا، وأنظرهم في العواقب، وأشدهم إمساكًا، وأحبهم للدرهم". قال ابن كثير: "كان العادل حليمًا صفوحًا صبورًا على الأذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه، حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج، وكانت له في ذلك اليد البيضاء، وكان ماسك اليد، وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالًا كثيرة على الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئًا كثيرًا جِدًّا، ثم إنه كفل بعد عام الغلاء مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء، وكان كثير الصدقة في أيام مرضه، حتى كان يخلع جميع ما عليه ويتصَدَّق به وبمركوبه، وكان كثير الأكل ممتعًا بصحة وعافية مع كثرة صيامِه" لما ظهر الفرنج، سنة أربع عشرة وستمائة، قصد هو مرج الصفر، فلما سار الفرنج إلى ديار مصر انتقل هو إلى عالقين، فأقام به، ومرض، وتوفي في سابع جمادى الآخرة، وحمل إلى دمشق، فدُفن بالتربة التي له بها، وكانت مدة ملكه عشرين سنة إلا ثلاثة أشهر، وكان العادل قد قسم البلاد في حياته بين أولاده، فلما توفي ثبت كلٌّ منهم في المملكة التي أعطاه أبوه، واتفقوا اتفاقًا حسنًا لم يجرِ بينهم من الاختلاف شيءٌ، ثم إن ابنه الكامل محمد تملك مصر بعده وقد كان أبوه أعطاه إياها وأكمل بعده قتال الفرنج.
القتال بين جنكيزخان وخوارزم شاه في بلاد ما وراء النهر .
العام الهجري : 616 العام الميلادي : 1219
تفاصيل الحدث:
كان سبب غزو جنكيز خان لِما وراءَ النَّهرِ هو أن خوارزم شاه محمد قد بدأ يأخذ أموال التجار الذين من طرف جنكيز خان ثم زاد الأمرُ أن قتل سفير جنكيز نفسه الذي جاء من أجل إعادة تلك الأموال، فأثار ذلك غضب جنكيز الذي جهز العساكِرَ من فوره، وانطلق إلى خوارزم شاه فوقع بينهما ما وقع.
هزيمة عماد الدين زنكي بن مودود من العسكر البدري .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1219
تفاصيل الحدث:
كان عسكر البدري يحاصر العماديَّة وبها عمادُ الدين زنكي بن مودود، فلمَّا عاد العسكرُ عنها قَوِيَت نفسُه وفارقها، وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسَلَّط على أعمال المَوصِل بالصحراء، فإنَّه كان قد فرغ من بلدِ الجبل، وأمدَّه مظفر الدين بطائفةٍ كثيرة من العسكَر. ولَمَّا اتَّصل الخبَرُ ببدر الدين لؤلؤ أتابك صاحِبِ الموصل سيَّرَ طائفةً من عسكره إلى أطراف الموصِل يحمونَها، فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثمَّ إنهم اتَّفقوا بينهم على المسير إلى زنكي، وهو عند العقر في عسكره، ومحاربته، ففعلوا ذلك، ولم يأخذوا أمرَ بدر الدين بل أعلموه بمسيرِهم جريدة ليس معهم إلَّا سلاحهم، ودواب يقاتلون عليها، فساروا ليلتَهم، وصبَّحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة 616، فالتقوا واقتتلوا تحت العقر، وعظُم الخطب بينهم، فانتصر العسكرُ البدري، وانهزم عماد الدين وعسكرُه، وسار إلى إربل منهزمًا، وعاد العسكرُ البدري إلى منزلته التي كان بها، وحضرت الرسلُ من الخليفة الناصر لدين الله ومِن المَلِك الأشرف في تجديد الصلح، فاصطلحوا، وتحالفوا بحضور الرسُل.
ظهور المغول التتر وقتالهم مع المسلمين .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1219
تفاصيل الحدث:
ظهر التترُ إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنُهم جبالُ طمغاج من نحو الصين، وكان السبب في ظهورِهم أنَّ مَلِكَهم- ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين- كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسيَّرَ جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيءٌ كثير من النقرة- قطع مذابةُ من الذَّهب أَو الفِضَّة- وغيرِها، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى؛ ليشتروا له ثيابًا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخرُ ولاية خوارزم شاه محمد، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفةُ مِن التَّتَر أرسل إلى خوارزم شاه يُعلِمُه بوصولهم ويذكُرُ له ما معهم من الأموالِ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمُرُه بقتلِهم وأخْذِ ما معهم من الأموالِ وإنفاذِه إليهم، فقتلهم، وسيَّرَ ما معهم، وكان شيئًا كثيرًا، فلمَّا وصل إلى خوارزم شاه فرَّقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمَنَه منهم، وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سدَّ الطرقَ عن بلاد تركستان وما بعدها من البلادِ، وإنَّ طائفةً من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلادُ للخطا، فلمَّا ملك خوارزم شاه البلادَ بما وراء النهر من الخطا، قتَلَهم. استولى التتَرُ على تركستان: كاشغر، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربونَ عساكِرَ خوارزم شاه، فلذلك منعَ الميرة عنهم من الكسوات وغيرها، فلما قتَلَ نائبُ خوارزم شاه أصحابَ جنكيزخان أرسل جواسيس إلى جنكيزخان لينظُرَ ما هو، وكم مقدارُ ما معه من الترك، وما يريدُ أن يعمل، فمضى الجواسيسُ، وسلكوا المفازةَ والجبال التي على طريقِهم، حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدَّةٍ طويلة وأخبَروه بكثرةِ عَدَدِهم، وأنَّهم يخرجون عن الإحصاء، وأنَّهم من أصبر خلقِ الله على القتال لا يعرفونَ هزيمةً، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاحِ بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قَتلِ أصحابهم وأخْذِ أموالهم، وكان جنكيزخان قد سار إلى تركستان، فملكها، وأزال عنها التترَ الأولى، فلم يظهر لهم خبَرٌ، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وتجهز خوارزم شاه، وسار مبادرًا ليسبِقَ خبره ويكبِسَهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم يرَ فيها إلا النِّساءَ والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية، وكان سببُ غيبة الكفار عن بيوتهم أنَّهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغَنِموا أمواله وعادوا، فلَقِيَهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخَلَّفيهم، فجدُّوا السير، فأدركوه قبل أن يخرجَ عن بيوتهم، وتصافُّوا للحرب، واقتتلوا قتالًا لم يُسمَعْ بمثله، فبَقُوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقُتِلَ من الطائفتين ما لا يُعَدُّ، ولم ينهزم أحد منهم، أما المسلمون فإنهم صبروا حميَّةً للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبقَ للمسلمين باقية، وأنهم يؤخَذون لبُعدِهم عن بلادهم، وأما الكفَّار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتدَّ بهم الأمر، حتى إنَّ أحدهم كان ينزل عن فرسِه ويقاتل قرنَه رَجِلًا، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدمُ على الأرض، حتى صارت الخيلُ تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وُسعَهم في الصبر والقتال، هذا القتالُ جميعه مع ابن جنكيزخان ولم يحضُر أبوه الوقعة، ولم يشعرْ بها، فأحصِيَ من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا، وأما من الكفَّار فلا يحصى من قُتِل منهم، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضُهم مقابل بعض، فلما أظلم الليلُ أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضًا، كل منهم سَئِمَ القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى مَلِكهم جنكيزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعدَّ صاحبها للحصار لعلمه بعجزه؛ لأنَّ طائفة عسكره لم يقدر على أن يظفَرَ بالتتر، فكيف إذا جاؤوا جميعُهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمعَ الذخائرَ للامتناع، وجعلَ في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونَها، وفي سمرقند خمسين ألفًا، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
وفاة الملك المنصور قطب الدين محمد بن زنكي وملك ابنه .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1219
تفاصيل الحدث:
هو الملك المنصور قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وكان كريمًا، حسنَ السيرة في رعيته، حسَنَ المعاملة مع التجَّار، كثيرَ الإحسان إليهم، وأمَّا أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش؛ يعُمُّهم بإحسانه، ولا يخافون أذاه، وكان عاجزًا عن حفظ بلده، مسلِّمًا الأمورَ إلى نوابه, ولما توفِّيَ قطب الدين مَلَك بعده ابنُه عماد الدين شاهنشاه، وركب الناسُ معه، وبقي مالكًا لسنجار عدةَ شهور، وسار إلى تل أعفر، وهي له، فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي، ومعه جماعة، فقتلوه، وملك أخوه عمر بعده فبَقيَ كذلك إلى أن سَلَّم سنجار إلى الملك الأشرف، ولم يمتَّع بملكه الذي قطع رحمه، وأراق الدم الحرام لأجله, ولَمَّا سلم سنجار أخذ عِوَضَها الرقَّةَ، ثم أُخِذَت منه عن قريب، وتوفِّيَ بعد أخذها منه بقليلٍ.
وفاة الحافظ أبو الحسن بن عساكر .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1219
تفاصيل الحدث:
هو أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي، الحافِظُ بن الحافظ بن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسانَ وسَمِعَ بها الحديثَ فأكثر، وعاد إلى بغداد، وكان قد وقع على القفل- الحمل- الذي هو فيه، في الطريق حرامية، وجرحوا ابن عساكر، ووصل على تلك الحال إلى بغداد، وبقي بها حتى توفي في هذه السنة في جمادى الأولى.
الصليبيون يحتلون دمياط (الحملة الصليبية الخامسة) .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1219
تفاصيل الحدث:
تعتبر هذه الهجمة هي الحملة الصليبية الخامسة على المسلمين؛ حيث اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملُّكِها، فأقلعوا في البحر، وأرسَوا على دمياط، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول سنة 515 على بر جيزة دمياط، وصار الفرنجُ في غربي النيل، فأحاطوا على معسكَرِهم خندقًا، وبنوا بدائره سورًا، وأخذوا في محاربة أهل دمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكَّنوا من البلد، والملك العادل يجهِّز عساكر الشام شيئًا بعد شيء إلى دمياط، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عددُه، هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط، فمَرِضَ من ساعته، فرحل من المرج إلى عالقين، وقد اشتد مرضه، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس من هذه السنة، وكان الكاملُ قد بعث إلى الآفاق سبعين رسولًا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج، فقَدِمَت النجدات من حماة وحلب، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمعُ في الملك الكامل، وثار العربُ بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضَرَرُهم، وصار من الخلاف ما حرض الفرنجَ على التحرك، فضعفت نفوس الناس لأنَّه السلطان حقيقة، وأولاده وإن كانوا ملوكًا إلا أنه يحكُمُهم، والأمر إليه، وهو ملك البلاد، فاتفق موته والحالُ هكذا من مقاتلة العدو، وكان من جملة الأمراء بمصر أميرٌ يقال له عماد الدين أحمد بن علي، ويعرف بابن المشطوب، وهو من الأكراد الهكارية، وهو أكبر أميرِ بمصر، وله لفيف كثير، وجميع الأمراء أرادوا أن يخلعوا الملكَ الكامل من المُلك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصيرَ الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الكامل، ففارق المنزلة التي كان فيها ليلًا جريدة، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح، فنزل عندها، وأصبح العسكَرُ وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذِ شَيءٍ من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلَّا اليسير الذي يخِفُّ حمله، وتركوا الباقيَ بحاله من ميرة، وسلاح، ودواب، وخيام وغير ذلك، ولحقوا بالكامِلِ، وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد، فلم يروا من المسلمين أحدًا على شاطئِ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، حتى أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته، فعبروا النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازعٍ ولا ممانع، فغَنِموا ما في معسكر المسلمين، فكان عظيمًا يُعجِز العادِّين. وكاد الملك الكامل يفارق الديار المصرية؛ لأنه لم يثق بأحد من عسكره، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى وصل إلى أخيه الكامل بعد الهزيمة بيومين، والناسُ في أمر مريج، فقَوِيَ به قلبه، واشتد ظهرُه، وثبت جنانه، وأقام بمنزلته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جندِه، قال ابن خلكان: "فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العربُ على اختلاف قبائلها، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط، وقطعوا الطريق، وأفسدوا، وبالغوا في الإفسادِ، فكانوا أشدَّ على المسلمين من الفرنج، وكان أضرَّ شيءٍ على أهل دمياط أنَّها لم يكن بها من العسكر أحدٌ؛ لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدُوَّ عنها، فأتتهم هذه الحركة بغتة، فلم يدخلها أحدٌ من العسكر، وكان ذلك من فِعلِ ابن المشطوب؛ لا جَرَم لم يمهِلْه الله، وأخذه أخذةً رابيةً"، أحاط الفرنج بدمياط، وقاتلوها برًّا وبحرًا، وعملوا عليهم خندقًا يمنعهم من يريدهم من المسلمين، وهذه كانت عادتهم، وأداموا القتال. اشتد قتالُ الفرنج، وعَظُمَت نكايتهم لأهل دمياط، كان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراضُ، وغلت عندهم الأسعار، وامتلأت الطرقاتُ من الأموات، وعدمت الأقوات، وسئموا القتالَ وملازمته؛ لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتِهم، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتالَ بينهم مناوبة، ومع هذا فقد صبروا صبرًا لم يُسمَع بمِثلِه، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض، ودام الحصارُ عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة 616، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلَّتِهم، وتعذر القوت عندهم، فسَلَّموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ، بالأمان، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة. وعندما أخذ الفرنج دمياط وضعوا السيَف في الناس، فلم يُعرَف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطانُ بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيَّم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحَصَّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا جامِعَها كنيسةً.
وفاة السلطان كيكاوس صاحب بلاد الروم وملك كيقباذ أخيه .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
هو صاحب بلاد الروم السلطان الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن السلطان كيخسرو بن قلج رسلان السلجوقي التركماني القتلمشي، صاحب قونية وأقصرا وملطية. وهو أخو السلطان كيقباذ. كان جبارًا، سفاكًا للدماء، كسره المَلِك الأشرف لَمَّا قدم ليأخذ حلب وقت الملك الظاهر غازي، فاتهم أمراءه أنهم ما نصحوا في القتال. وسلقَ جماعةً في القدورِ، وحرقَ آخرين، فأخذه الله فُجاءةً وهو مخمورٌ، وقيل: ابتلي وتقطَّعَ بَدَنُه. وكان أخوه علاء الدين كيقباذ في سجنه، فأخرجوه ومَلَّكوه.
إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهم .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معدًّا، متولي بلاد واسط، أن يسير إلى قتال بني معروف، فتجهز وجمع معه من الرجَّالة من تكريت، وهيت، والحديثة، والأنبار، والحلة، والكوفة، وواسط، والبصرة، وغيرها، خلقًا كثيرًا، وسار إليهم، ومُقَدَّمهم حينئذ معلى بن معروف، وهم قوم من ربيعة, وكانت بيوتهم غربي الفرات، تحت سوراء، وما يتَّصل بذلك من البطائح، وكثُرَ فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى، وقطعوا الطريقَ، وأفسدوا في النواحي المقارِبة لبطيحة العراق، فشكا أهلُ تلك البلاد إلى الديوان منهم، فأمر معدًّا أن يسير إليهم في الجموع، فسار إليهم، فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضعٍ يعرف بالمقبر، وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق، وكثر القتل بينهم، ثم انهزم بنو معروف، وكثُرَ القتل فيهم، والأسر والغرق، وأُخِذَت أموالهم، وحُمِلَت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة.
وفاة الأميرة ست الشام بنت أيوب أخت الناصر صلاح الدين الأيوبي .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
هي الست الجليلة المصونُ خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي، واقفةُ المدرستين البرَّانية والجُوَّانية, وهي أختُ الملوك وعمَّةُ أولادهم، وأمُّ الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكًا، منهم أشقاؤها: الملك الناصر صلاح الدين، والملك العادل، والمعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن، وكانت قد تزوجت ابن عمِّها ناصرَ الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي صاحب حمص بعد عمر بن لاجين والد ابنها حسام، وكان ابنها حسام الدين من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين، وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانًا إلى الفقراء والمحاويج، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربةً وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفَرِّقه على الناس، وكانت وفاتُها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة، في دارها التي جعلتها مدرسةً، عن المارستان وهي الشامية الجوانية، ونُقِلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية، وكانت جنازتها حافلة.
المغول يغيرون على بخارى ويذبحون أهلها .
العام الهجري : 616 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
لما نشب القتالُ مع المغول أمر خوارزم شاه بتحصين بخارى وسمرقند, ثم قفل ليجمع العساكِرَ من الأنحاء لقتال المغول، فلما فرغ من ذلك رحل عائدًا إلى خراسان، فعبر جيحون، ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك، وأمَّا الكُفَّار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر، فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزم شاه، وحصروها، وقاتلوها ثلاثة أيام قتالًا شديدًا متتابعًا، فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة، ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان، فلما أصبح أهلُ البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضَعُفَت نفوسهم، فأرسلوا القاضي، وهو بدر الدين قاضي خان، ليطلب الأمانَ للناس، فأعطَوهم الأمان، وكان قد بقي من العسكر طائفةٌ لم يمكِنْهم الهرب مع أصحابهم، فاعتصَموا بالقلعة، فلما أجابهم جنكيزخان إلى الأمان فُتِحَت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة، فدخل الكفَّار بخارى، ولم يتعرضوا لأحدٍ بل قالوا لهم: كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيره أخرِجوه إلينا، وساعِدونا على قتال مَن بالقلعة؛ وأظهروا عندهم العَدلَ وحسن السيرة، ودخل جنكيزخان بنفسِه وأحاط بالقلعة، ونادى في البلدِ بأن لا يتخلف أحدٌ ومن تخلَّف قتل، فحضروا جميعُهم، فأمرهم بطم الخندق، فطمُّوه بالأخشاب والتراب وغير ذلك، حتى إن الكفار كانوا يأخذونَ المنابر وربعات القرآن فيلقونهم في الخندقِ- فإنا لله وإنا إليه راجعون- وبحَقٍّ سمَّى الله نفسَه صبورًا حليمًا، وإلا كان خسف بهم الأرض عند فِعل ِمثل هذا، ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربعمائة فارس من المسلمين، فبذلوا جهدهم، ومنعوا القلعة اثني عشر يومًا يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد، فقتل بعضهم، ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم، ووصل النقَّابون إلى سور القلعة فنَقَبوه، واشتد حينئذ القتال، ومن بها من المسلمين يرمونَ ما يجدون من حجارة ونار وسهام، فغَضِبَ اللعين، ورد أصحابَه ذلك اليوم، وباكرهم من الغد، فجَدُّوا في القتال، وقد تعب مَن بالقلعة ونصبوا، وجاءهم ما لا قِبَل لهم به، فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة، وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قُتِلوا عن آخرهم، فلما فرغ من القلعة نادى أن يُكتَبَ له وجوه الناس ورؤساؤهم، ففعلوا ذلك، فلما عرضوا عليه أمَرَ بإحضارهم فحضروا، فقال: أريد منكم النقرةَ -قطع مذابةٌ من الذَّهب أَو الفِضَّة- التي باعكم خوارزم شاه، فإنَّها لي، ومن أصحابي أُخِذَت، وهي عندكم، فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه، ثم أمرهم بالخروج من البلد، فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم، ليس مع أحد منه غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاط بالمسلمين، فأمر أصحابه أن يقتَسِموهم، فاقتَسَموهم، وكان يومًا عظيمًا من كثرة البكاءِ مِن الرجال والنساء والولدان، وتفَرَّقوا وتمزقوا كل ممزق، واقتسموا النساء أيضًا، وأصبحت بخارى خاويةً على عروشها كأنْ لم تغنَ بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم، والناس ينظرون ويبكون، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسِهم شيئًا مما نزل بهم، فمنهم من لم يرضَ بذلك، واختار الموت على ذلك فقاتل حتى قُتِل، ومن استسلم أخذ أسيرًا، وألقوا النار في البلد، والمدارس، والمساجد، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المالِ.
ذكر خروج التتار إلى بلاد الإسلام وإهلاكهم الحرث والنسل ووصف ابن الأثير لأفعالهم .
العام الهجري : 617 العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
في هذه السنة عمَّ البلاء وعظُمَ العزاء بجنكيزخان المسمى بتموجين وقيل (تمرجين) لعنه الله تعالى، ومن معه من التتر قبَّحهم الله أجمعين، واستفحل أمرُهم واشتد إفسادُهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فمَلَكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك المشرق، وقهروا جميع الطوائفِ التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة ما لا يحَدُّ ولا يُوصَفُ، وبالجملة فلم يدخُلوا بلدًا إلا قتلوا جميعَ من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرًا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنَّهبِ إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى إنهم كانوا يجمعون الحريرَ الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عَجَزوا عن تخريبه يحرقونه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتِلون بهم ويحاصِرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قَتَلوهم. وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطًا حسنًا مفصلًا، فقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهونُ عليه ذكرُ ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن، لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادثِ ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما بيتُ المقدس بالنسبة إلى ما خرَّب هؤلاء الملاعين من البلاد؟ ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنَّ قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها الأفاعيل، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يجاوزونَها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصِدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون أكثَرَ أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنَه، ولم يسلَمْ غير قلعته التي بها مُلكُهم، وعبَروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماعَ مثلُه، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملِكْها في سنة واحدة، إنما ملَكَها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلًا وأعدلهم أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يتَّفِق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقِّب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومَها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفِرُ الأرض بحوافرها، وتأكل عروقَ النبات لا تعرفُ الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيءٍ مِن خارجه. وأمَّا ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمسِ عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميعَ الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غيرُ واحد من الرجال، فإذا جاء الولدُ لا يَعرِف أباه. وإنما استقام لهم هذا الأمرُ لعدم المانع؛ لأن السلطان خوارزم شاه محمدًا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك، واستقَرَّ في الأمور، فلما انهزم من التتر في العام الماضي وضَعُف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدرى أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلادُ ولم يبق لها من يحميها؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] وإلى الله تُرجَع الأمور."
المغول يغيرون على سمرقند ويذبحون أهلها .
العام الهجري : 617 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
بعد استيلاء المغول على بخارى وما كان فيها منهم رحلوا نحو سمرقند وقد تحقَّقوا عجز خوارزم شاه عنهم، وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ، واستصحبوا معهم من سَلِمَ من أهل بخارى أسارى، فساروا بهم مشاةً على أقبح صورة، فكلُّ من أعيا وعجز عن المشي قتلوه، فلما قاربوا سمرقند قدَّموا الخيَّالة، وتركوا الرجَّالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى تقدموا شيئًا فشيئًا، ليكون أرعبَ لقلوب المسلمين؛ فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه، فلما كان اليومُ الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرةٍ من الأسارى عَلَم، فظن أهل البلد أن الجميعَ عساكر مقاتلة، وأحاطوا بالبلدِ وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله، وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحدٌ؛ لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجَّالة بظاهر البلد، فلم يزل التتر يتأخَّرون، وأهل البلد يَتبَعونهم، ويطمعون فيهم، وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينًا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولًا، فبَقُوا في الوسط، وأخذهم السيفُ من كل جانب، فلم يسلَمْ منهم أحد، قتلوا عن آخرهم، وكانوا سبعين ألفًا على ما قيل، فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضَعُفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك، فقال الجند: وكانوا أتراكًا: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، ففتحوا أبوابَ البلد، ولم يقدِر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفَّار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفار: ادفعوا إلينا سلاحَكم وأموالكم ودوابَّكم ونحن نسيركم إلى مأمنِكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخِرِهم، وأخذوا أموالَهم ودوابَّهم ونساءهم، فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم، ومن تأخَّرَ قتلوه، فخرج جميعُ الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلِهم مع أهل بخارى من النهب، والقتل، والسبي، والفساد، ودخلوا البلدَ فنهبوا ما فيه، وأحرقوا الجامِعَ وتركوا باقي البلد على حاله، وافتضُّوا الأبكار، وعذَّبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرَّم، وكان خوارزم شاه بمنزلته كلمَّا اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند، فيرجعون ولا يقدرون على الوصولِ إليها.
محاولة الفرنج التوسع في احتلال أراضي مصر بعد احتلالهم دمياط .
العام الهجري : 617 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
لَمَّا ثبت الفرنج في دمياط بثُّوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظُم الخطب واشتدَّ البلاء، وندب السلطانُ الملك الكامل الناسَ وفَرَّقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون النَّاسَ لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع الكاملُ في بناء الحور –خيام من جلد أبيض- والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورةِ، وجهَّزَ الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحرِ إلى عكا وبرزوا من مدينةِ دمياط يريدون أخذَ مصرَ والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، واجتمع الناسُ من أهل مصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ونودِيَ بالنفير العام، وألَّا يبقى أحد, وذكروا أن مَلِكَ الفرنج قد أقطع ديارَ مصر لأصحابه, وأنزل الكامِلُ على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين مرادِهم، وسارت الشواني- ومعها حراقة كبيرة- إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأميرُ بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرةُ عن الفرنج من البر والبحر، وقَدِمَت النجدات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدَدَ الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائفُ لا يحصى لهم عدد فلما تكاملَ جمعُهم بدمياط خرجوا منها، وقد زُيِّنَ لهم سوءُ عمَلِهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليكِ البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات من المسلمين هال الفرنجَ ما رأوا، وكان قدومُ هذه النجدات في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفًا، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة- سفن حربية ضخمة- وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضًا بثلاث قطائع فتضعضع الفرنجُ لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصُّلحِ.
وفاة السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه .
العام الهجري : 617 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1220
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش بن إيل أرسلان بن آتسز بن محمد بن نوشتكين. نسبه ينتهي إلى إيلتكين أحد مماليك السلطان ألب أرسلان بن جغر بيك السلجوقي. أباد ملوك العالم، ودانت له الممالك واستولى على الأقاليم. كان صبورًا على التعب وإدمان السير، غير متنَعِّم ولا مقبل على اللذات، إنما نهمتُه في المُلك وتدبيره وحِفظِه وحِفظِ رعيَّتِه. كان فاضِلًا، عالِمًا بالفقه والأصول، وغيرهما. وكان مكرمًا للعلماء محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يحب مناظرتَهم بين يديه. ويُعظِّم أهل الدين ويتبَرَّك بهم. أفنى ملوك خراسان، وما وراء النهر، وقتل صاحب سمرقند، وأخلى البلاد من الملوك- ولم يبقَ لها من يحميها- واستقلَّ بها، فكان ذلك سببًا لهلاكه, فلما نزل خوارزم شاه محمد همذان، كاتب الوزير مؤيد الدين محمد بن القمي نائب وزير الخليفة عساكرَ خوارزم شاه، ووعدهم بالبلاد، فاتفقوا مع الخطا على قتل علاء الدين، وبعث القميُّ إليهم بالأموال والخيول سرًّا، فكان ذلك سببًا لوهنه، وعَلِمَ بذلك، فسار من همذان إلى خراسان ونزل مرو، فصادف في طريقه الخيول والهدايا والكُتُب إلى الخطا، وكان معه منهم سبعون ألفًا، فلم يمكنه الرجوعُ لفساد عسكره. وكان خالُه من أمراء الخطا، وقد حلَّفوه أن لا يطلع خوارزم شاه على ما دبروا عليه، فجاء إليه في الليل، وكتب في يده صورة الحال، ووقف بإزائه، فنظر إلى السطورِ وفَهِمَها، وهو يقول: خُذْ لنفسِك، فالساعةَ تُقتَلُ، فقام وخرج من تحت ذيل الخيمةِ، ومعه ولداه جلال الدين والآخر، فركب، وسار بهما، ثم دخل الخطا والعساكر إلى خيمته، فلم يجدوه، فنهبوا الخزائن والخيول، فيقال: إنه كان في خزائنه عشرة آلاف ألف دينار وألف حمل قماش أطلس وغيره. وكانت خيله عشرين ألف فرس وبغل، وله عشرة آلاف مملوك. فهرب ورَكِب في مركب صغير إلى جزيرة فيها قلعة ليتحصَّن بها، فأدركه الأجَلُ، فدفن على ساحل البحر، وهرب ولداه، وتفرقت الممالك بعده، وأخذت التتار البلاد, وقيل بعد فراغ جنكيزخان من سمرقند أرسل وراء خوارزم شاه، وكانوا عشرين ألفا فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه، فلم يجدوا سفنًا فعملوا لهم أحواضًا يحملون عليها الأسلحة ويُرسِل أحدهم فرسه ويأخذ بذنَبِها فتجرُّه الفرس بالماء وهو يجر الحوضَ الذي فيه سلاحُه، حتى صاروا كلُّهم في الجانب الآخر، فلم يشعُرْ بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه، فهرب منهم إلى نيسابور ثم منها إلى غيرها وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدًا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم، حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه، فكانت فيها وفاته، وقيل إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب، ولا إلى أي مفر هرب، وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته ما لا يحصى، وقبل وفاة علاء الدين خوارزم شاه أوصى لابنه جلال الدين منكبرتي بالسلطة.
استيلاء التتار على كثير من البلدان وما صنعوا فيها من الفظائع .
العام الهجري : 618 العام الميلادي : 1221
تفاصيل الحدث:
بعد ما فعل المغول في سمرقند ما فعلوه أخذ جنكيزخان يرسِلُ السَّرايا إلى البلدانِ فأرسل سريةً إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنَعِ القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلَّا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسَرِ مُدَّة ونهبوا ما فيها وقتَلوا أهاليها كلَّهم وسَبَوا وأحرقوا، ثمَّ ترحلوا عنها نحو الريِّ فدخلوها على حينِ غفلةٍ مِن أهلها فقَتَلوهم وسَبَوا وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فمَلَكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقَتَلوا من أهلها نحوًا مِن أربعين ألفًا، ثم تيمَّموا بلاد أذربيجان فصالحَهم مَلِكُها أزبك بن البهلوان على مالٍ حَمَله إليهم لشُغلِه بما هو فيه من السُّكرِ وارتكابِ السيئات والانهماك على الشَّهواتِ، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل، فلم يقفوا بين أيديهم طرفةَ عين حتى انهزمت الكرج, ثم أقبَلوا إليهم مرَّةً أخرى بحدِّهم وحديدِهم، فكسرَتْهم التتار في وقعة ثانية أقبَحَ هزيمة وأشنَعَها، وانقضت هذه السنةُ وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعةً ومقاتلة يطول عليهم بها المقام عَدَلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحَهم أهلها بمال، ثم ساروا إلى مراغة فحَصَروها ونصبوا عليها المجانيقَ وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأةٌ ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقًا لا يعلم عدتَهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئًا كثيرًا، وسَبَوا وأسروا على عادتهم, ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعًا، وقال أهل تلك النواحي هذا أمر عصيب، وكتب الخليفةُ إلى أهل الموصل والمَلِك الأشرف صاحب الجزيرة يقول: إني قد جهَّزتُ عسكرًا فكونوا معه لقتالِ هؤلاء التتار، فأرسل الأشرفُ يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجِّه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخْذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، فكتب الخليفة إلى مظفَّر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل، فلم يَقدَم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفَرَّقوا قبل أن يجتمعوا، ولكنَّ الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحَهم أهلُها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتلِ شحنتِهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرًا وقتلوا أهلَها عن آخرهم، ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجُرون بالنساء ثم يقتلونهنَّ ويشقون بطونهنَّ عن الأجنَّة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضًا كسرة فظيعة، ثم فتحوا بلدانًا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجالِ ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونَهم بين أيديهم ترسًا يتقون بهم الرميَ وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالًا عظيمًا فكسروهم وقصدوا أكبَرَ مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر شيءٌ كثير جدًّا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتَقَوا معهم فكسرتهم التتار كسرةً فظيعةً جدًّا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود سنة620, ففرغوا من ذلك كلِّه ورجعوا نحو مَلِكهم جنكيزخان، هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكيزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشًا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلُها، وكذلك صالحوا مدنًا كثيرة أخرى، حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها وكانت حصينةً فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكيزخان فقَدِمَ بنَفسِه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرًا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصةً وعامة، ثم قصدوا مدينةَ مرو مع جنكيزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالًا عظيمًا حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعةً ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغَنِموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهدَ علي بن موسى الرضا، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابًا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسَرَهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكيزخان، وأرسل جنكيزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرًا فقتلوا من فيها قتلًا ذريعًا، ونهبوها وسبوا أهلها وكسروا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكيزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقًا من أسارى المسلمين، ثم كتب إلى جنكيزخان يطلب منه أن يبرز بنفسِه لقتاله، فقصده جنكيزخان فتواجَها وقد تفَرَّق على جلال الدين بعضُ جيشه ولم يبق بدٌّ من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يُعهَد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضَعُف أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة.
وفاة قتادة أمير مكة وملك ابنه الحسن .
العام الهجري : 618 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1221
تفاصيل الحدث:
هو أميرُ مكة، قتادة بن إدريس العلوي، الحسني. كان في أول ملكه، لَمَّا ملك مكة، حرسها الله، حسنَ السيرة أزال عنها العبيد المفسِدين، وحمى البلاد، وأحسن إلى الحُجَّاج، وأكرمهم، وبقي كذلك مدة، ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة، وجدد المكوسَ بمكة، وفعل أفعالًا شنيعة، ونهب الحاجَّ في بعض السنين، وقيل في موت قتادة إن ابنه حسنًا خنقه فمات، وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعًا كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة، فنزل بوادي الفرع وهو مريض، وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة، فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند: إن أخي مريض، وهو ميت لا محالة، وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة، فحضر الحسن عند عمه، واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذين لأبيه، فقال الحسن لعمه: قد فعلتَ كذا وكذا، فقال: لم أفعل؛ فأمر حسن الحاضرين بقتلِه، فلم يفعلوا، وقالوا: أنت أميرٌ وهذا أمير، ولا نمد أيدينا إلى أحدكما، فقال له غلامان لقتادة: نحن عبيدُك، فمُرْنا بما شئت؛ فأمرهم أن يجعلا عمامةَ عمِّه في عنقه، ففعلا، ثمَّ قتَلَه، فسمع قتادة الخبر، فبلغ منه الغيظُ كُلَّ مبلغ، وحلف ليقتُلَنَّ ابنه، وكان على ما كان من المرض، فكتب بعض أصحابه إلى الحسَنِ يعرفه الحال، ويقول له: ابدأ به قبل أن يقتُلَك، فعاد الحسن إلى مكة، فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير فوجد على باب الدار جمعًا كثيرًا، فأمرهم بالانصرافِ إلى منازلهم، ففارقوا الدارَ وعادوا إلى مساكِنِهم، ودخل الحسَنُ إلى أبيه، فلما رآه أبوه شَتَمه، وبالغ في ذمِّه وتهديده، فوثب إليه الحسن فخنقه لوقتِه، وكان عمره نحو تسعين سنة، ثم خرج الحسن إلى الحرم الشريف، وأحضر الأشرافَ، وقال: إن أبي قد اشتد مرضه، وقد أمركم أن تحلِفوا لي أن أكونَ أنا أميركم، فحلفوا له، ثم إنه أظهر تابوتًا ودفنه ليظُنَّ الناسُ أنه مات، وكان قد دفنه سرًّا، فلما استقرت الإمارةُ بمكة له أرسل إلى أخيه الذي بقلعة ينبع على لسان أبيه يستدعيه، وكتم موتَ أبيه عنه، فلما حضر أخوه قتَلَه أيضًا، واستقَرَّ أمره، وثَبَت قدمُه، فارتكب عظيمًا: قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرةٍ.
اقتتال أمير مكة الحسن وأخيه وقتل أمير الحجاج .
العام الهجري : 618 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1221
تفاصيل الحدث:
لما مات أمير مكة قتادة، وملك بعده ابنه الحسن، وكان له ابن آخر اسمه راجح، مقيم في العرب بظاهر مكة، يُفسِد وينازع أخاه في ملك مكة، فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكًا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق، كثير الحماية، فقصده راجح بن قتادة، وبذل له وللخليفة مالًا ليساعده على ملك مكة، فأجابه إلى ذلك، ووصلوا مكة، ونزلوا بالزاهر، وتقدم أقباش إلى مكة مقاتلًا لصاحِبِها الحسن، وكان الحسَنُ قد جمع جموعًا كثيرة من العرب وغيرها، فخرج إليه من مكة وقاتله، وتقدم أميرُ الحاج من بين يدي عسكره منفردًا، وصعد الجبل إدلالًا بنفسِه، وأنه لا يقدم أحدٌ عليه، فأحاط به أصحابُ الحسن، وقتلوه، وعلقوا رأسه، فانهزم عسكر أمير المؤمنين، وأحاط أصحابُ الحسن بالحاجِّ لينهبوهم، فأرسل إليهم الحسنُ عمامته أمانًا للحُجَّاج، فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئًا وسكن النَّاسُ، وأذِنَ لهم الحسن في دخول مكة وفِعْل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك، وأقاموا بمكَّةَ عشرة أيام، وعادوا، فوصلوا إلى العراق سالمين، وعظُمَ الأمر على الخليفة، فوصلت رسل الحسنِ يعتذرون، ويطلبون العفوَ عنه، فأجيبَ إلى ذلك.
========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...