حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأحد، 6 نوفمبر 2022

من {142 الي152.} اي من السلطان المخلوع كتبغا يستبد بدمشق ثم تؤخذ منه . العام الهجري : 696 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1296.

ج142.السلطان المخلوع كتبغا يستبد بدمشق ثم تؤخذ منه
العام الهجري : 696 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1296
تفاصيل الحدث:
بعد أن هرب السلطانُ العادِلُ كتبغا من حسام الدين لاجين وأمرائِه الذين حاولوا قتْلَه، كان قد قَدِمَ قبله إلى دمشق أميرُ شكاره وهو مجروح، ليُعلِمَ الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع، فوصَلَ في يوم الأربعاء آخر المحرم، فكثُرَ بدمشق القالُ والقيل، وألبس أغرلو العسكرَ السلاح ووقفوا خارجَ باب النصر، فوصل كتبغا في أربعةِ أنفس قبل الغروبِ وصَعِدَ القلعة، وحضر إليه الأمراءُ والقُضاة وجُدِّدَت له الأيمان، ثم أوقَعَ الحوطة على أموالِ لاجين، وقَدِمَ في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفةٍ مِن المماليك العادليَّة، وجلس شهابُ الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعةِ، ورتَّبَ الأمور وأحوال السلطنةِ، فاشتهرت بدمشقِ سلطنةُ الملك المنصور حسام الدين لاجين في اليومِ الثالث عشر من محرَّم، وأنَّ البشائِرَ دُقَّت بصفد ونابلس والكرك، فصار كتبغا مقيمًا بقلعة دمشق لا ينزِلُ منها، وبعث الأميرُ سيف الدين طقصبا الناصري في جماعةٍ لكشف الخبر، فعادوا وأخبروا بصِحَّةِ سلطنة لاجين، فأمر كتبغا جماعةً من دمشق، وأبطل عدَّةَ مكوس في يومِ الجمعة السادس عشر صفر، وكتب بذلك توقيعًا قُرِئَ بالجامع، فبعث المَلِكُ المنصور لاجين من مصرَ الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمتِه، فوصل إلى ظاهِرِ دمشق في الرابع عشر صفر، وأقام ثلاثةَ أيام، فرَّقَ عِدَّةَ كُتُبٍ على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبةَ عنها، وحلف الأمراءُ، وسار إلى قارا وكان بها عِدَّةُ أمراء مجرَّدين فحَلَّفَهم وحلَّف عدَّةً من الناس، وكتب بذلك كلِّه إلى مصر، وسار إلى لد، فأقام بها في جماعةٍ كبيرة لحفظ البلاد، ولم يعلَمْ كتبغا بشيءٍ من ذلك، وكان قد وصل الأميرُ سيف الدين كجكن وعِدَّةٌ من الأمراء كانوا مجرَّدينَ بالرَّحبة، فلم يدخلوا دمشق، ونزلوا بميدان الحصا قريبًا من مسجد القدم، فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، وراسلوا الأمراءَ بدمشق فخرجوا إليهم طائفةً بعد طائفة، وانحَلَّ أمر كتبغا، فتدارك نفسَه وقال للأمراء: السلطانُ الملك المنصورُ لاجين خوشداشي- زميل مهنتي- وأنا في خِدمتِه وطاعتِه، وأنا أكونُ في بعض القاعات بالقلعةِ إلى أن يكاتِبَ السُّلطانَ ويَرِدَ جوابُه بما يقتضيه في أمري فأدخله الأميرُ جاغان الحسامي مكانًا من القلعة، واجتمع الأمراءُ بباب الميدان، وحَلَفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك، وحفظ جاغان القلعةَ ورَتَّبَ بها من يحفَظُ كتبغا، وغُلِّقَت أبواب دمشق كلُّها إلا باب النصر، ورَكِبَ العسكر بالسلاح ظاهِرَ دمشق، وأحاط جماعةٌ بالقلعةِ خَوفًا من خروج كتبغا وتحيُّزه في جهةٍ أخرى، وكثُرَ كلام الناس واختلفت أقوالُهم، وعظم اجتماعُهم بظاهر دمشق حتى إنَّه سقط في الخندقِ جماعةٌ لشدة الزحام فيما بين باب النصرِ وباب القلعة، فمات نحوُ العشرة، واستمر الحالُ على هذا ذلك اليوم، ثم دُقَّت البشائر بعد العصر على القلعةِ، وأعلن بالدعاء للملك المنصور لاجين، ودُعِيَ له على المآذِنِ في ليلة الأحد، وضُرِبَت البشائر على أبواب الأمراء، وفُتِحَت الأبواب في يوم الأحد، وحضر الأمراءُ والقضاة بدار السعادة وحلف الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام، وحلف هو وأظهر السرور، وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر، وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد، فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس التاسِعَ عشر، وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع، وأتاه الأعيان، ونودي من له مَظلمةٌ فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وفي يوم الجمعةِ أوَّل شهر ربيع الأول خُطِبَ بدمشق للملك المنصور، فلما كان يومُ الجمعة ثامنه: وصل الأميرُ حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلِّفَ الأمراء، فحَلَفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسِعَه، وقرئ عليهم كتابُ الملك المنصور باستقراره في المُلك وجُلوسِه على تخت الملك بقلعة الجبل، واجتماعِ الكلمة عليه وركوبه بالتشاريفِ الخليفيَّة والتقليد بين يديه من أمير المؤمنينَ الحاكِم بأمر الله أبي العباس أحمد.
وفاة محمد بن سعيد الصنهاجي البوصيري صاحب قصيدة البردة .
العام الهجري : 697 العام الميلادي : 1297
تفاصيل الحدث:
شرفُ الدين أبو عبد الله محمَّدُ بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري المصري، وبوصيرُ هي بين الفيوم وبني سويف بمصرَ، وُلِدَ البوصيري ببني سويف في مصرَ سنة 608 من أسرةٍ ترجع أصولُها إلى قبيلةِ صِنهاجةَ التي كانت تسكُنُ شَمالَ أفريقية, فهو شاعِرٌ صنهاجي له شعرٌ غايةٌ في الحسن واللطافة عذب الألفاظ منسجم التركيب. تنقَّل بين القدس والمدينة ومكَّة، ثم عاد إلى مصر وعَمِلَ كاتبًا في الدولةِ ثم أصبح يعلِّمُ الصبيانَ القرآن، وكان صوفيًّا على الطريقة الشاذليَّة، اشتهر بقصيدته المشهورة بالبُردة، واسمها (الكواكِبُ الدُّرِّيَّة في مدح خير البَريَّة)، ويقال إنَّ سَبَبَ نَظمِها أنَّه مَرِضَ مَرَضًا شديدًا فرأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامه فشكا له مرضَه فألقى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم البُردةَ، فقام من نومِه وقد شُفِيَ، فعَمِلَ القصيدة، ولكنَّ هذه القصيدة فيها كثيرٌ مِن الأبيات المخالِفةِ للعقيدةِ الصحيحةِ وغُلوٌّ في الثناءِ النَّبَويِّ حتى وصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم ببعضِ أوصاف الربوبيَّة! وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمامُ البخاريُّ في صحيحِه: عن ابنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رضي الله عنه يقولُ على المنبر: سمعتُ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم يقولُ: ((لا تُطرُوني، كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريمَ؛ فإنَّما أنا عبدُه، فقولوا عبدُ اللهِ ورَسولُه)).
وفاة الغازي أرطغرل بك والد الغازي عثمان مؤسس الدولة العثمانية .
العام الهجري : 697 العام الميلادي : 1297
تفاصيل الحدث:
هو الغازي أرطغرل بك بن سليمان شاه القايوي التركماني كان مع والده سليمانَ شاه عندما انتقلَ من موطنهم الأصلي باتجاه الغربِ على أثر الاجتياحِ التتري إلى أن غَرِقَ والده سليمان في الفراتِ فرجع أخويه سنقور تكين وكون طوغدي إلى الشرق, ومكث أرطغرل في ذلك الموضِعِ يجاهِدُ الكُفَّار، ثم أرسل ابنَه صارو بالي إلى علاء الدين السلجوقي يستأذِنُه في الدخول إلى بلادِه، ويطلب منه موضعًا ينزِلُ فيه فأذِنَ له وعَيَّنَ له جبالَ طومالج وأرمنك وما بينهما، فأقبل أرطغرل مع أربعمائة خركاه- خيمة- من قومِه فتوطَّنوا في قرة جه طاغ، وكان أرطغرل شجاعًا فشَمَّرَ ساعد الجِدِّ في خدمة السلطانِ علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي، ولَمَّا قصد علاءُ الدين غزوَ الكُفَّارِ أقبل أرطغرل إليه نجدةً له، فازداد عند السلطان مكانةً وقربًا, فأقطعه جزءًا كبيرًا من الأرضِ مقابِلَ الروم مكافأةً له مِن جهةٍ، ومن جهة أخرى يكون ردءًا له من الروم، فاستقَرَّت هذه الأسَرُ التركمانيَّةُ في تلك الناحية قريبًا من بحر مرمرة التابع للبحر الأسود قريبًا من مدينة بورصة، فلما نازل السلطانُ علاء الدين سنة 685 قلعةَ كوتاهيه وقد كانت للكُفَّار، فلما قرب مِن أخذِ القلعة بلغه أنَّ التَّتارَ يَطرُقُ بعضَ بلاده، فنهض إلى طرَفِ العدو وفوَّضَ أمرَ القلعة إلى أرطغرل بك وتركه بها مع بعضِ العسكَرِ. ولم يزل حتى فتحها عَنوةً وغَنِمَ شيئًا كثيرًا، ولم يزَلْ بعد ذلك يجاهد، وفُتِحَت على يديه بلادٌ كثيرة من بلاد الكُفَّارِ حتى توفِّيَ في شهور هذه السنة، فلمَّا سمع علاء الدين بوفاتِه تأسَّفَ عليه, وكتب لعثمانَ بنِ أرطغرل بالسَّلطنةِ، وأرسل إليه خِلعةً وسَيفًا ونقارةً، وخَصَّه بالغزوِ على الكُفَّار.
خروج عساكر السلطان لاجين لاسترداد سيس من التتار .
العام الهجري : 697 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1297
تفاصيل الحدث:
استشار السلطان حسام الدين لاجين الأمراءَ في أخذ سيس، وكان ذلك الوقتُ وقتَ اختلاف المغول، ثم عرض الجيشَ وجَرَّد في مصر تجريدةً فيها مجموعةٌ من الأمراء وكَتَب كتابًا لنائِبِ الشام سيف الدين قبجق بأن يتجَرَّد ويجَرِّدَ معه مجموعةً من الأمراء، وكتب إلى نائب طرابلس أيضًا أن يتجَرَّد بعساكرها، وإلى نائبِ حماة كذلك، وإلى نائبِ صفد فارس الدين اليكي الظاهري كذلك. فاجتمع هؤلاء مع الأميرِ سَيفِ الدين بلبان الطباخي نائبِ حلب، وتوجهوا إلى سيس، وكان وصولُهم إليها في شهر رجب، فشَنُّوا الإغارةَ على أهلِها، وأوقعوا بخيلِها ورجالِها، ودوَّخوا أرجاءَ حَزْنِها وسَهلِها، وفَتَحوا تَلَّ حمدون والمصيصة وحموص وقلعة نجم وسروندكار وحَجَر شعلان والنقير وقلعة الهارونية.
السلطان لاجين يقر بأنه مؤقت في الملك حتى يكبر الملك الناصر .
العام الهجري : 697 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1297
تفاصيل الحدث:
استدعى السلطانُ حسام الدين لاجين قاضيَ القضاة زينَ الدين علي بن مخلوف المالكي، وصِيَّ المَلِك الناصرِ محمد بن قلاوون، وقال له: الملِكُ الناصر ابنُ أستاذي، وأنا قائِمٌ في السلطنة كالنائِبِ عنه إلى أن يُحسِنَ القيامَ بأمرها، والرأيُ أن يتوجَّهَ إلى الكرك وأمَرَه بتجهيزِه، ثم قال السلطانُ للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو عَلِمتُ أنَّهم يخلونَك سلطانًا واللهِ ترَكْتُ المُلكَ لك، لكِنَّهم لا يخلونه لك وأنا مملوكُك ومملوكُ والدِك، أحفَظُ لك المُلكَ، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرعَ وترتجِلَ وتتحَرَّج وتجرِّبَ الأمور وتعود إلى مُلكِك، بشرط أنك تعطيني دمشقَ وأكونَ بها مثل صاحِبِ حماة فيها، فقال له الناصر: فاحلِفْ لي أن تبقيَ على نفسي وأنا أروحُ، فحَلَفَ كلٌّ منهما على ما أراده الآخَرُ، فخرج الناصِرُ في أواخر صفر، ومعه الأميرُ سيف الدين سلار أمير مجلس، والأمير سيف الدين بهادر الحموي، والأمير أرغون الدوادار، وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية، فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول، فقام لخدمته الأميرُ جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك.
وفاة أحمد بن عثمان بن قايماز والد الإمام الذهبي .
العام الهجري : 697 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1298
تفاصيل الحدث:
هو شِهابُ الدين أحمد بن عثمان بن قايماز بن الشيخ عبد الله التركماني الفارقي الأصل ثم الدمشقي الذهبي. قال الذهبي: "والدي أحسَنَ اللهُ جزاءه ولد سنة 641 تقريبًا، وبرع في دقِّ الذَّهَب، وحصل منه ما أعتق منه خمسَ رقاب، وسَمِعَ الصحيح في سنة 666 من المقداد القيسي، وحجَّ في أواخر عمره، كان يقومُ مِن الليل". توفِّي في آخر جمادى الأولى ليلة الجمعة، وصلى عليه الخلقُ يؤُمُّهم قاضي القضاة ابنُ جماعة.
غزو سيس لتحريرها من الأرمن .
العام الهجري : 697 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1298
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ البريدُ مِن حَلَب بوقوع الخلاف بين الملك طقطاي بن منكوتمر ملك التتار وطائفة الأمير نغيه حتى قُتل منهم كثيرٌ من المغول، وانكسر طقطاي، وأنَّ غازان قَتَل وزيره نيروز وعِدَّةً ممن يلوذ به، فاتَّفق الرأي على أخذ سيس ما دام الخلافُ قائمًا بين المغول، وأن يخرُجَ الأمير بدر الدين بكتاش أميرُ سلاح ومعه ثلاثةُ أمراء وعشرةُ آلاف فارس، وكتب لنائب الشامِ بتجريد الأمير بيبرس الجالق وغيرِه من أمراءِ دِمشقَ وصفد وطرابلس، وعُرض الجيش في جمادى الأولى، فلما تجهَّزوا سار الأميرُ بدرُ الدين بكتاش الفخري إلى غزاةِ سيس، ومعه مِن الأمراءِ حسامُ الدين لاجين الرومي الأستادار وشمس الدين أقسنقر كرتاي ومضافيهم، فدخلوا دمشق في خامس جمادى الآخرة، وخرج معهم منها الأميرُ بيبرس الجالق العجمي والأميرُ سيف الدين كجكن والأمير بهاء الدين قرا أرسلان ومضافيهم في ثامنه، وساروا بعسكرِ صفد وحمص وبلاد الساحِلِ وطرابلس، والملك المظَفَّر تقي الدين محمود صاحب حماة، فلما بلغ مسيرُهم متمَلِّكَ سيس بعث إلى السلطانِ يسأله العفوَ، فلم يجِبْه، ووصلت هذه العساكِرُ إلى حلب، وجهَّز السلطانُ الأميرَ علم الدين سنجر الدواداري بمضافيه من القاهرة ليلحَقَ بهم، فأدرك العساكِرَ بحلب، وخرجوا منها بعسكرِ حلب إلى العمق، وهم عشرةُ آلاف فارس، فتوجَّه الأميرُ بدر الدين بكتاش في طائفةٍ مِن عقبة بغراس إلى إسكندرونة، ونازلوا تل حمدون، وتوجَّه الملك المظَفَّر صاحب حماة والأمير علم الدين سنجر الدوادراي والأمير شمس الدين أقسنقر كرتاي في بقيَّةِ الجيشِ إلى نهر جهان، ودخَلوا جميعًا دربند سيس في يوم الخميسِ رابع رجب، وهناك اختلفوا، فأشار الأميرُ بكتاش بالحصار ومنازلةِ القلاع، وأشار سنجر الدواداري بالغارةِ فقط، وأراد أن يكونَ مُقَدَّم العسكر، ومنَعَ الأمير بكتاش من الحصارِ ومنازلةِ القِلاعِ فلم ينازِعْه، فوافقه بكتاش وقطَعوا نهرَ جهان للغارة، ونزل صاحِبُ حماة على مدينة سيس، وسار الأميرُ بكتاش إلى أذنة، واجتمَعَت العساكِرُ جميعُها عليها بعد أن قتَلوا من ظَفِروا به من الأرمن، وساقوا الأبقار والجواميس، ثم عادوا من أذنة إلى المصيصة بعد الغارة، وأقاموا عليها ثلاثة أيام حتى نصبوا جسرًا مرَّت عليه العساكِرُ إلى بغراس، ونزلوا بمرجِ أنطاكية ثلاثة أيام، ثم رحلوا إلى جسرِ الحديدِ يريدونَ العودةَ إلى مصر، فعادت العساكرُ من الروج إلى حلب وأقاموا بها ثمانية أيام، وتوجَّهوا إلى سيس من عقبة بغراس، وسار كجكن وقرا أرسلان إلى أياس وعادا شبه منهزمَينِ؛ فإنَّ الأرمن أكمنوا لهم في البساتين، فأنكر عليهما الأمير بكتاش، فاعتذروا بضيقِ المسلك والتفاف الأشجارِ وعدم التمكُّن من العدُوِّ.
فتح تل حمدون ومرعش .
العام الهجري : 697 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1298
تفاصيل الحدث:
بعد غزو سيس رحل الأمير بكتاش بجميع العساكِرِ إلى تل حمدون، فوجدوه خاليًا وقد نزح من كان فيه من الأرمن إلى قلعةِ نجيمة فتسَلَّمَها في سابع رمضان وأقام بها من يحفَظُها، وسيَّرَ الأمير بلبان الطباخي نائِبُ حلَب عسكرًا، فملكوا قلعةَ مرعش في رمضانَ أيضًا.
تحرير قلعة نجيمة .
العام الهجري : 697 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1298
تفاصيل الحدث:
جاء الخبرُ إلى الأمير بكتاش وهو على تل حمدون بأن واديًا تحت قلعة نجيمة وحميص قد امتلأ بالأرمن، وأنَّ أهل قلعة نجيمة تحميهم، فبعث طائفةً مِن العسكر إليهم فلم ينالوا غرَضًا، فسَيَّرَ طائفةً ثانيةً فعادت بغير طائل، فسار الأمراءُ في عِدَّة وافرة وقاتلوا أهلَ نجيمة حتى ردُّوهم إلى القلعة، وزحفوا على الوادي وقتَلوا وأسَروا مَن فيه، ونازلوا قلعةَ نجيمة ليلةً واحدة، وسار العسكَرُ إلى الوطأة، وبقي الأميرُ بكتاش والمَلِك المظفَّر في مقابلة مَن بالقلعة خشيةَ أن يخرُجَ أهل نجيمة فينالوا من أطرافِ العسكر، حتى صار العسكَرُ بالوطأة، ثم اجتمعوا بها، فقَدِمَ البريد من السلطان بمنازلةِ قلعة نجيمة حتى تُفتَح، فعادوا إلى حصارها، واختلف الأميرُ بكتاش والأمير سنجر الدواداري على قتالها، فقال الدواداري: متى نازلها الجيشُ بأسْرِه لا يُعلَمُ من قاتل ممَّن عجَز وتخاذلَ، والرأي أن يقاتِلَ كُلَّ يومٍ أميرٌ بألفه، وأخذ يُدِلُّ بشجاعتِه، ويصَغِّرُ شأن القلعة، وقال: أنا آخُذُها في حجري فسَلَّموا له واتَّفَقوا على تقديمه لقتالها قبل كلِّ أحد، فتقدم الدواداري إليها بألفِه حتى لاحف السور، فأصابه حجَرُ المنجنيقِ فقطع مشطَ رِجلِه، وسقط عن فَرَسِه إلى الأرض، وكاد الأرمن يأخذونَه، إلَّا أن الجماعة بادرت وحمَلَته على جنوبة إلى وطاقه، ولَزِمَ الفراش، فعاد إلى حلب، وسار منها إلى القاهرة، وقُتِلَ في هذه النوبة الأميرُ علم الدين سنجر طقصبا الناصري، وزحف في هذا اليومِ الأمير كرتاي ونَقَب سور القلعة وخَلَّصَ منه ثلاثة أحجار، واستُشهد معه ثلاثة عشر رجلًا، ثم زحف الأميرُ بكتاش وصاحِبُ حماة ببقية الجيش طائفة بعد طائفة، وكلٌّ منهم يُردِفُ الآخر حتى وصلوا إلى السورِ، وأخذوا في النَّقب وأقاموا الستائر، وتابعوا الحصار واحدًا وأربعين يومًا، وكان قد اجتمع بها من الفلَّاحين ونساءِ القرى وأولادِهم خلقٌ كثيرٌ، فلمَّا قلَّ الماءُ عندهم أخرجوا مرَّةً مائتي رجلٍ وثلاثَمائة امرأة ومائةً وخمسين صبيًّا، فقتَلَ العسكر الرجال واقتسموا النساءَ والصبيان، ثم أخرجوا مرَّةً أخرى مائة وخمسين رجلًا ومائتي امرأة وخمسة وسبعين صبيًّا، ففعلوا بهم مثلَ ما فعلوا بمن تقَدَّم، ثم أخرجوا مرةً ثالثة طائفة أخرى، فأتوا على جميعِهم بالقتلِ والسَّبي، حتى لم يتأخَّرْ بالقلعةِ إلَّا المقاتِلة، وقَلَّت المياه عندهم حتى اقتتلوا بالسيوفِ على الماء، فسألوا الأمانَ فأُمِّنوا، وأُخِذَت القلعة في ذي القعدة، وسار مَن فيها إلى حيث أراد، وأخذ أيضًا أحد عشر حصنًا من الأرمن، ومنها النقير، وحجر شغلان، وسرقندكار، وزنجفرة، وحميص، وسَلَّمَ ذلك كُلَّه الأميرُ بكتاش إلى الأميرِ سيف الدين أسندمر كرجي من أمراء دمشقَ، وعيَّنه نائبًا بها، فلم يزَلْ أسندمر بها حتى قَدِمَ التتارُ، فباع ما فيها من الحواصِلِ ونزح عنها، فأخذَها الأرمن، ولما تم هذا الفتحُ عادت العساكرُ إلى حلب وكان الشتاء شديدًا، فأقاموا بها، وبعث السلطانُ إليهم الأميرَ سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأميرَ عز الدين طقطاي، والأميرَ مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأميرَ علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، في ثلاثة آلاف فارسٍ مِن عساكر مصر، فدخلوا دمشقَ يوم الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، وساروا منها إلى حلب، وأقاموا بها مع العسكَرِ، وبعث متمَلِّكُ سيس إلى السلطانِ يسأل العفوَ.
بعض أمراء المماليك يلجؤون إلى المغول .
العام الهجري : 698 العام الميلادي : 1298
تفاصيل الحدث:
لَمَّا رجعت طائفةٌ مِن الجيش من بلاد سيس بسَبَبِ المرض الذي أصاب بعضَهم، فجاء كتابُ السلطان بالعَتبِ الأكيدِ والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعًا صحبةَ نائِبِ السلطنة قبجق إلى هناك، ونصَبَ مَشانِقَ لِمن تأخر بعُذرٍ أو غيره، فخرج نائبُ السلطنة الأميرُ سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش، وخرج أهل البلد للفرجة على الأطلابِ على ما جرت به العادة، فبرز نائبُ السَّلطنة في أبَّهة عظيمة، فدعت له العامة وكانوا يحبُّونَه، واستمَرَّ عسكر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلمَّا وصلوا إلى حمص بلغ الأميرَ سيفَ الدين قبجق وجماعةً من الأمراء أنَّ السلطانَ قد تغَلَّت خاطرُه بسببِ سَعيِ منكوتمر فيهم؛ فإن السلطان لاجين لَمَّا تولى السلطنة خلَفَ بوَعدِه للأمراء أنَّه لن يلي مملوكُه منكوتمر شيئًا، ولكنه أمَّرَه بل جعَلَه نائبَه الأوَّلَ، بل انقاد لرأيِه في الأمراءِ؛ حيث إنَّ منكوتمر أمَّلَ أن يكونَ وليَّ عهد السلطان لاجينَ خاصَّةً أن السلطان كان قد مَرِضَ ولم يكن له ولَدٌ ذكَرٌ وليًّا لعهده، فعَمِلَ على إبعاد مُنافِسيه من الأمراء الذين بمصرَ، وتمكَّنَ من السعي بهم والقَبض ِعليهم، وبدا أنَّ السلطانَ يميلُ إلى الاحتجاب وتفويضِ أمورِ السلطنة إلى منكوتمر، وبَقِيَ عليه إزاحةُ أمراء الشامِ وإقامةِ غَيرِهم من مماليك السلطانِ في مصر والشام ليتمكَّنَ مِن مراده، وعَلِموا أن السُّلطانَ لا يخالفه لمحبَّتِه له، فاتفق جماعةٌ منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاةِ بأنفُسِهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار (رتبة عسكرية) والأيلي، واستمرُّوا ذاهبين، فرجع كثيرٌ من الجيش إلى دمشق، وتخبَّطَت الأمور وتأسَّفَت العوامُّ على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخِر من هذه السَّنة.
تأسيس الدولة العثمانية على يد الغازي عثمان بن أرطغرل بك .
العام الهجري : 698 العام الميلادي : 1298
تفاصيل الحدث:
كان الأميرُ علاء الدين السلجوقي قد أقطع أرطغرل جزءًا كبيرًا من الأرضِ مقابِلَ الرومِ مكافأةً له مِن جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يكون ردءًا له من الروم، فاستقَرَّت هذه الأسَرُ التركمانية في تلك الناحية قريبًا من بحرِ مرمرة التابع للبحر الأسودِ قريبًا من مدينة بورصة، إلى أن توفي أرطغرل سنة 697 فخَلَفَه ابنُه عثمانُ أكبَرُ أولاده، الذي حَظِيَ أيضًا بقَبولِ الأمير علاء الدين السلجوقي، ويُعَدُّ عُثمانُ هذا هو أوَّلَ مؤسِّسٍ للدَّولةِ العثمانية؛ حيث بدأ يتوسَّعُ بإمارته فتمَكَّنَ سنة 698 من ضَمِّ قلعة حصار أو القلعة السوداء ممَّا زاد من إعجابِ الأمير علاء الدين به، فمنحه لقَبَ بيك، وأقَرَّه على الأراضي التي ضَمَّها إليه، كما أقرَّه على ضَربِ عُملةٍ باسمِه بالإضافة إلى ذِكرِ اسمِه في الخُطَبِ يوم الجمعة، ثم زاد من أمرِ عثمانَ أنَّ المغول لما أغاروا على علاء الدين سنة 699 ففَرَّ منهم وتوفِّيَ في العامِ نَفسِه وخُلِعَ ابنُه غياث الدين الذي قتلَتْه المغولُ أيضًا، فلم يَعُدْ أمام عثمان أيُّ سلطةٍ أعلى منه، فبدأ بالتوسُّعِ، فاتخذَ مِن مدينة يني شهر- أي: المدينة الجديدة- قاعدةً له، ولقَّبَ نفسَه باديشاه آل عُثمان، واتخذ رايةً (وهي نفسُ عَلَمِ تركيا اليومَ).
اغتيال المنصور لاجين سلطان المماليك وتنصيب محمد بن قلاوون .
العام الهجري : 698 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1299
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ السلطانُ المَلِكُ المنصورُ حسام الدين لاجين ونائبُه سيف الدين منكوتمر، ليلةَ الجمعة حادي عشر ربيع الآخر، على يدِ الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي ومَن وافقه من الأمراء، وذلك بحضورِ القاضي حسامِ الدين الحنفي وهو جالسٌ في خدمته يتحَدَّثان، وقيل كانا يلعبانِ بالشطرنج، فلم يشعُرا إلَّا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطانِ بسُرعةٍ جَهرةً ليلةَ الجمعة فقَتَلوه وقُتِلَ نائبُه منكوتمر صبرًا صبيحة يوم الجمعةِ وألقِيَ على مزبلة، واتفق الأمراءُ على إعادة ابنِ أستاذهم المَلِك النَّاصر محمدِ بنِ قلاوون، فأرسلوا وراءَه، وكان بالكرك ونادَوا له بالقاهرة، وخُطِبَ له على المنابر قبل قدومِه، وجاءت الكتُبُ إلى نائِبِ الشامِ قبجق فوجدوه قد فَرَّ خَوفًا من غائلة لاجين، فسارت إليه البريديَّةُ فلم يدركوه إلا وقد لحِقَ بالمغول عند رأسِ العين، من أعمال ماردين، وتفارط الحالُ ولا قُوَّة إلَّا بالله، وكان سَبَبُ قتل لاجين ونائبه منكوتمر هو ما بدر منهما تجاهَ الأمراءِ؛ فإن لاجين كان قد حَلَف لهم يوم أن نَصَبوه سلطانًا بعد قتْلِه كتبغا أنَّه لن يولي منكوتمر شيئًا بل سيقَدِّمُهم فَهُم الأمراءُ, ولكِنَّ هذا ما لم يكُنْ، فقَدَّمَ مَملوكَه وجعَلَه نائبَه وأصبح يعتَقِلُ الأمراء ويقتُلُ بَعضَهم، حتى إنه في أسبوعٍ واحد قتل خمسةً مِن الأمراء، والذي لم يُقتَل أو يُعتَقَل أُبعِدَ في الولاياتِ السخيفةِ التي لا تليقُ بهم في الأماكِنِ البعيدة، وكُلُّ ذلك بتدبيرِ النائب منكوتمر؛ طمعًا منه أن يليَ السلطنة؛ لأنَّ لاجين لا ذريَّةَ له من الذكور، فأفعالُه تلك أوغَرَت عليه صدورَ الأمراء ممَّا حدا بهم إلى قتلِهما جميعًا، ثم كان دخولُ الملك الناصر إلى مصرَ يوم السبتِ رابِعَ جمادى الأولى، وكان يومًا مشهودًا، ودُقَّت البشائِرُ ودخل القضاةُ وأكابِرُ الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرةِ عَلَم الدين أرجواش، وخُطِبَ له على المنابر بدِمشقَ وغيرها بحضرةِ أكابر العلماء والقُضاة والأُمراءِ.
وفاة الشيخ رسلان الصوفي .
العام الهجري : 699 العام الميلادي : 1299
تفاصيل الحدث:
هو الشيخُ الزَّاهِدُ العابدُ، رسلان بن يعقوب بن عبد الله بن عبد الرحمن الجعبري، ثم الدمشقي، صوفي مشهورٌ تعتقد فيه العامَّةٌ كراماتٍ كما هو شأنُهم في المتصَوِّفة، فنَسَبوا له الطيرانَ في الهواء وأنه ما جلس تحت شجرةٍ يابسةٍ إلَّا اخضَرَّت، بل نسب جهلةُ العوامِّ إليه أنه هو السَّبَبُ في انحسار التتار عن دمشق وأنه هو حامي البَرِّ والشام، بل إن بعُضهم إلى اليوم يذكُرُ ذلك عنه!! توفي في دمشق ودُفِنَ فيها وقَبرُه فيها معروفٌ، وله عنده مسجدٌ يُعرَفُ به.
المغول يهزمون المماليك في موقعة سلمية بالشام .
العام الهجري : 699 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1299
تفاصيل الحدث:
دارت مَعركةٌ بين "محمود غازان" سلطانِ الدولةِ الإيلخانية المغوليَّة, والذي أعلن هو وكثيرٌ من التتار دخولَهم في الإسلام سنة 694, و"النَّاصر قلاوون" سلطانُ دولة المماليك، وكانت معركةً هائلةً أسفرت عن انتصار غازان وجنودِه؛ بسَبَبِ تفَوُّقِهم في العِدَّة والعتاد، وتعَرَّض السلطانُ الناصر محمد قلاوون لمؤامرةٍ لخَلعِه, فقد تحرَّك غازان متَّجِهًا إلى بلاد الشام فقَطَع الفرات، وكانت الأخبارُ قد وصلت إلى السلطنةِ وتجهَّزَ العسكرُ مِن مصر ووصل إلى دمشقَ وتجهز عسكر دمشق، ووصلت الأخبارُ أن غازان قد وصل قريبًا من حلب في جيشٍ عظيم، حتى هرب كثيرٌ من أهل حلب وحماة إلى دمشق، ووصل العسكرُ المصري إلى دمشق، ثم خرج السلطانُ بالجيش من دمشق يوم الأحدِ سابع عشر ربيع الأول، ولم يتخَلَّف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلقٌ كثير من المتطَوِّعة، فلما وصل السلطانُ إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية قريبًا من حمص، التقى مع التَّتَر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول وتصادما، وقد كَلَّت خيولُ السلطان وعساكِرُه مِن السَّوْق؛ والتحم القتالُ بين الفريقين، وحمَلَت ميسرةُ المسلمين عليهم فكسَرتَهم أقبحَ كَسرةٍ، وقَتَلوا منهم جماعة كثيرة نحو خمسةِ آلاف أو أكثر، ولم يُقتَل من المسلمين إلا اليسير، ثم حملت القلبُ أيضًا حملةً هائلة وصَدَمت العدوَّ أعظمَ صَدمةٍ، وثبت كلٌّ من الفريقين ثباتًا عظيمًا، ثم حصل تخاذلٌ في عسكَرِ الإسلام بعضُهم في بعضٍ؛ بلاءً مِن الله تعالى، - فانهزمت ميمنةُ السلطان بعد أن كان لاح لهم النصرُ، فلا قوةَ إلا بالله، ولما انهزمت الميمنةُ انهزم أيضًا من كان وراء السناجق- الرايات- السلطانية من غير قتالٍ، وألقى الله تعالى الهزيمةَ عليهم فانهزم جميعُ عساكر الإسلام بعد النصر، وساق السلطان في طائفة يسيرةٍ من أمرائه ومدبري مملكتِه إلى نحو بعلبك وترَكوا جميع الأثقال مُلقاةً، فبقيت العُدَد والسِّلاح والغنائم والأثقالُ ملأت تلك الأراضي حتى بقيت الرماحُ في الطرقِ كأنَّها القَصَبُ لا ينظر إليها أحدٌ، ورمى الجندُ خُوذَهم عن رؤوسِهم وجواشنَهم وسلاحَهم تخفيفًا عن الخيلِ لتنجيَهم بأنفسهم، وقصد الجميعُ دمشق، وكان أكثَرُ من وصل إلى دمشق من المنهزمين من طريق بعلبك، ولما بلغ أهلَ دمشق وغيرها كسرةُ السلطانِ عَظُمَ الضجيج والبكاء، وخرجت المخَدَّراتُ حاسراتٍ لا يعرفن أين يذهبن والأطفالُ بأيديهن، وصار كل واحد في شغلٍ عن صاحِبِه إلى أن ورد عليهم الخبَرُ أن ملك التتار قازان مسلِمٌ، وأن غالِبَ جَيشِه على ملَّة الإسلام، وأنهم لم يتْبَعوا المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا ممن وجَدوه، وإنما يأخذونَ سلاحَه ومركوبَه ويُطلِقونه، فسكن بذلك روعُ أهل دمشق قليلًا، ثم صار من وصل إلى دمشق أخذَ أهلَه وحواصِلَه بحيث الإمكان وتوجَّه إلى جهة مصر، وبقي من بقيَ بدمشق في خمدةٍ وحَيرةٍ لا يدرون ما عاقبةُ أمرهم؛ فطائفةٌ تغَلَّب عليهم الخوفُ، وطائفةٌ يترجَّونَ حَقنَ الدماء، وطائفةٌ يترجَّون أكثَرَ من ذلك من عَدلٍ وحُسنِ سيرة.
دخول قازان وجيشه المغول إلى دمشق .
العام الهجري : 699 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
بعد أن انهزم جيشُ المماليك من التتار في موقعةِ السلمية في ربيع الأول، وبعد ما حصل لأهل دمشق من الخوفِ الشديد، زاد الأمر أنَّه في ليلة الأحد ثاني ربيع الآخر كسر المحبوسون بحَبسِ أبي الصغير الحبسَ وخرجوا منه على حميةٍ، وتفرقوا في البلدِ، وكانوا قريبًا من مائتي رجل فنَهَبوا ما قدروا عليه وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفالَ الباب البراني وخرَجوا منه إلى بر البلد، فتفَرَّقوا حيث شاؤوا لا يقدِرُ أحد على رَدِّهم، وعاثت الحرافشة- كالشُّطَّار والعيَّارين في بغداد- في ظاهرِ البلد، فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبوابِ والشبابيك شيئًا كثيرًا، وباعوا ذلك بأرخَصِ الأثمان، هذا وسلطانُ التتار قد قصد دمشقَ بعد الوقعة، فاجتمع أعيانُ البلد والشيخ تقي الدين ابنُ تيميَّةَ في مشهدِ عليٍّ، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلَقِّيه، وأخْذِ الأمانِ منه لأهل دمشق، فتوجَّهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتَمَعوا به عند النبك، وكلَّمَه الشيخُ تقي الدين كلامًا قويًّا شديدًا فيه مصلحةٌ عظيمةٌ عاد نفعُها على المسلمين. ذكر ابن كثير: "أنَّ شَيخَ الإسلامِ تقيَّ الدينِ ابن تيميَّةَ قال لترجمانِ قازان: قل للقان: أنت تزعُمُ أنَّك مسلِمٌ ومعك مؤذِّنونَ وقاضٍ وإمامٌ وشَيخٌ على ما بلَغَنا، فغزَوْتَنا وبلَغْتَ بلادَنا على ماذا؟! وأبوك وجَدُّك هولاكو كانا كافرينِ وما غزَوَا بلادَ الإسلام، بل عاهَدوا قومَنا، وأنت عاهَدْتَ فغَدَرْتَ وقُلْتَ فما وفَيْتَ! قال: وجَرَت له مع قازان وقطلوشاه وبولاي أمور ونُوَب، قام ابن تيمية فيها كُلِّها لله، وقال الحَقَّ ولم يخشَ إلا الله عزَّ وجَلَّ. قال: وقَرَّب إلى الجماعةِ طَعامًا فأكلوا منه إلَّا ابنَ تيميَّةَ، فقيل له: ألا تأكُلُ؟ فقال: كيف آكُلُ مِن طعامِكم وكلُّه مما نهَبْتُم من أغنامِ النَّاسِ وطَبَختُموه بما قطَعْتُم من أشجارِ النَّاسِ؟! قال: ثمَّ إن قازان طلَبَ منه الدعاءَ، فقال في دعائه: "اللهم إن كان هذا عبدُك محمود إنَّما يقاتِلُ لتكونَ كَلِمَتُك هي العُليا وليكونَ الدِّينُ كُلُّه لك، فانصُرْه وأيِّدْه ومَلِّكْه البِلادَ والعبادَ، وإن كان إنما قام رياءً وسُمعةً وطَلبًا للدنيا ولتكونَ كَلِمتُه هي العليا ولِيُذِلَّ الإسلامَ وأهلَه، فاخذُلْه وزلزِلْه ودَمِّرْه واقطَع دابِرَه" قال: وقازان يؤمِّنُ على دعائه، ويَرفَعُ يديه. قال: فجعَلْنا نجمَعُ ثيابَنا خوفًا من أن تتلوَّثَ بدَمِه إذا أمَرَ بقَتلِه!! قال: فلمَّا خرجنا من عنده قال له قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وغيره: كدتَ أن تُهلِكَنا وتُهلِكَ نَفسَك، واللهِ لا نَصحَبُك من هنا، فقال: وأنا واللهِ لا أصحَبُكم. قال: فانطلَقْنا عُصبةً وتأخَّرَ هو في خاصَّةِ نَفسِه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فتسامَعَ به الأمراءُ من أصحاب قازان فأتوه يتبَرَّكونَ بدعائه، وهو سائِرٌ إلى دمشق، وينظُرونَ إليه، قال: والله ما وصل إلى دمشقَ إلَّا في نحو ثلثمائةِ فارسٍ في رِكابِه، وكنت أنا من جملةِ مَن كان معه، وأمَّا أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعةٌ من التتر فشَلحوهم عن آخِرِهم!!"، ودخل المسلمونَ ليلتئذٍ مِن جهة قازان فنزلوا بالبدرانيَّة وغُلِّقَت أبوابُ البلد سوى باب توما، وخَطَب الخطيبُ بالجامع يوم الجمعةِ، ولم يَذكُرْ سُلطانًا في خُطبتِه، وبعد الصلاةِ قَدِمَ الأمير إسماعيل ومعه جماعةٌ مِن الرسُلِ فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن، وحضر الفرمان بالأمان وطِيفَ به في البلد، وقرئ يومَ السبتِ ثامِنَ الشهر بمقصورة الخطابة، ونُثِرَ شَيءٌ من الذهب والفضة، وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طُلِبَت الخيولُ والسلاح والأموال المخبَّأة عند الناس من جهةِ الدولة، وجلس ديوان الاستخلاصِ إذ ذاك بالمدرسة القيمريَّة، وفي يوم الاثنين عاشِرَ الشهر قَدِمَ سيف الدين قبجق المنصوري الذي كان هرب إلى التتارِ، فنزل في الميدان واقترب جيشُ التتر وكَثُرَ العَيثُ في ظاهر البلد، وقُتِلَ جماعةٌ وغَلَت الأسعارُ بالبلد جِدًّا، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسَلِّمَها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشدَّ الامتناع، فجمع له قبجق أعيانَ البلد فكَلَّموه أيضًا فلم يجبهم إلى ذلك، وصَمَّمَ على ترك تسليمِها إليهم وبه عَينٌ تَطرفُ؛ فإنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدين ابن تيمية أرسل إلى نائب القلعةِ يقول له ذلك، لو لم يبقَ فيها إلَّا حَجَرٌ واحِدٌ فلا تسَلِّمْهم ذلك إن استطعْتَ، وكان في ذلك مصلحةٌ عظيمة لأهل الشامِ؛ فإن الله حَفِظَ لهم هذا الحِصنَ والمَعقِلَ الذي جعله الله حِرزًا لأهل الشام التي لا تزال دارَ إيمانٍ وسُنَّةٍ، حتى ينزِلَ بها عيسى بنُ مريم، وفي يوم دخول قبجق إلى دمشقَ دخل السلطانُ ونائبُه سلار إلى مصرَ، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودُقَّت البشائرُ بها، فقَوِيَ جأش الناس بعضَ قُوَّةٍ، وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خُطِبَ لقازان على منبر دمشقَ بحضور المغول بالمقصورةِ ودُعِيَ له على السُّدَّة بعد الصلاة، وقرئ عليها مرسومٌ بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنَّؤوه بذلك، فأظهر الكرامةَ وأنه في تعَبٍ عظيمٍ مع التتر، وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتارُ وصاحب سيس في نهب الصالحيَّة ومسجدِ الأسديَّة ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفيَّة بها، واحترق جامعُ التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهةِ الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التَّتارِ قَبَّحَهم الله، وسَبَوا من أهلِها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، وجاء أكثَرُ الناس إلى رباط الحنابلة، فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخُ الشيوخ، وأعطى في الساكِنِ مال له صورة ثم اقتحموا عليه فسَبَوا منه خلقًا كثيرًا من بنات المشايخ وأولادِهم، ولما نُكِب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقًا من الرجال وأسَروا من النساء كثيرًا، ونال قاضيَ القضاةِ تقيَّ الدين ابنَ تيميَّةَ أذًى كثيرٌ، ويقال إنَّهم قتلوا من أهل الصالحية قريبًا من أربعمائة، وأسَروا نحوًا من أربعة آلاف أسير، ونُهِبَت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباعُ وهي مكتوبٌ عليها الوقفيَّة، وفعلوا بالمزَّة مثل ما فعلوا بالصالحية، وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصَّن الناسُ منهم في الجامِعِ بداريا ففتحوه قسرًا وقتلوا منهم خلقًا وسَبَوا نساءَهم وأولادهم، وخرج الشيخُ ابنُ تيمية في جماعةٍ مِن أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إلى مَلِك التتر قازان، وعاد بعد يومينِ ولم يتَّفِق اجتماعُه به، حجَبَه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاءِ الشغلِ، وذكرَا له أن التَّتر لم يحصل لكثيرٍ منهم شيءٌ إلى الآن، ولا بُدَّ لهم من شيءٍ، واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخولَ دمشقَ، فانزعج الناسُ لذلك وخافوا خوفًا شديدًا، وأرادوا الخروجَ منها والهرب على وجوههم، وأين الفرارُ ولات حينَ مَناصٍ!! وقد أُخِذَ من البلد فوق العشرةِ آلاف فرس، ثمَّ فُرِضَت أموال كثيرة على البلدِ مُوزَّعةً على أهل الأسواقِ، كلُّ سوقٍ بحَسَبِه من المال، وشرع التتر في عمل مجانيقَ بالجامِعِ لِيَرموا بها القلعةَ مِن صحن الجامِعِ، وغُلِّقَت أبوابُه ونزل التتار في مشاهِدِه يحرسونَ أخشاب المجانيق، وينهَبونَ ما حوله من الأسواقِ، وأهلُ البلدِ قد أذاقَهم اللهُ لباسَ الجوعِ والخَوفِ بما كانوا يصنعونَ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، والمصادراتُ والتراسيمُ والعقوباتُ عمالة في أكابِرِ أهلِ البلدِ ليلًا ونهارًا، حتى أُخِذَ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامِعِ وغيره، ثم جاء مرسومٌ بصيانة الجامِعِ وتوفيرِ أوقافه وصَرْف ما كان يؤخذُ من خزائن السلاحِ إلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسومُ بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى، وفي ذلك اليوم توجَّه السلطان قازان وترك نوَّابَه بالشام في ستين ألف مقاتلٍ نحو بلاد العراق، وجاء كتابُه: إنا قد تركنا نوَّابَنا بالشامِ في ستين ألف مقاتلٍ، وفي عَزْمنا العودُ إليها في زمن الخريف، والدخولُ إلى الديار المصرية وفَتْحُها، وقد أعجَزَتْهم القلعةُ أن يصلوا إلى حجَرٍ منها، وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضُرِبَت البشائر بالقلعة فرحًا لرحيلهم، ولم تُفتَح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يومٍ من خروج قبجق إلى الجامعِ، فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبةِ به، وعادوا إلى القلعةِ سريعًا سالمين، واستصحبوا معهم جماعةً ممَّن كانوا يلوذون بالتتر قهرًا إلى القلعة، منهم الشريفُ القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي، وجاءت الرسلُ من قبجق إلى دمشق، فنادوا بها: طَيِّبوا أنفُسَكم وافتَحوا دكاكينَكم وتهيَّؤوا غدا لتلقِّي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناسُ إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفسادِ والدَّمارِ، وانفَكَّ رؤساء البلد من التراسيمِ بعد ما ذاقوا شيئًا كثيرًا!!
رحيل المغول من دمشق وتركهم قبجق نائبا لهم فيها .
العام الهجري : 699 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
رحل المغولُ مِن دمشق على أنَّهم سيعودون زمن الخريف ليدخلوا مصر أيضًا، وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشقَ يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوفُ مُسَلَّلة وعلى رأسه عصابةٌ، فنزل بالقصر ونودي بالبَلَدِ: نائبُكم قبجق قد جاء فافتَحوا دكاكينَكم واعملوا معاشَكم، ولا يغرر أحدٌ بنفسه هذا الزَّمان والأسعارُ في غاية الغلاءِ والقِلَّة، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرُجَ الناس إلى قُراهم، وأمر جماعة وانضاف إليه خلقٌ من الأجناد، وكَثُرت الأراجيف على بابه، وعَظُم شأنه ودُقَّت البشائر بالقلعة، وركب قبجق بالعصائبِ في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوًا من ألف فارس نحو خربة اللصوصِ، ومشى مشيَ الملوك في الولاياتِ وتأمير الأمراءِ والمراسيم العالية النافذة، ثم إنَّه ضمن الخماراتِ ومواضِعَ الزنا من الحاناتِ وغيرها، وجُعِلَت دارُ ابن جرادة خارج من باب توما خمارةً وحانة أيضًا، وصار له على ذلك في كلِّ يومٍ ألفُ درهم، وهي التي دمَّرَتْه ومحقت آثارَه، وأخذ أموالًا أخرى من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الأغوار وقد عاث في الأرض فسادًا، ونهب البلادَ وخَرَّب ومعه طائفةٌ من التتر كثيرة، وقد خربوا قرًى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسَبَوا خلقًا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضًا جباية أخرى، وخرج طائفةٌ من القلعة فقَتَلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقُتِلَ جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفةً ممن كان يلوذ بالتتر، ورَسَمَ قبجق لخطيبِ البلَدِ وجماعة من الأعيان أن يدخُلوا القلعة فيتكَلَّموا مع نائِبِها في المصالحةِ، فدخلوا عليه يومَ الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلَّموه وبالغوا معه فلم يجِب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيَّضَ اللهُ وَجهَه، وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاةَ والأعيان فحَلَّفَهم على المناصحة للدولة المحمودية- يعني قازان- فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية إلى مخيَّم بولاي فاجتمع به في فكاكِ مَن كان معه من أسارى المُسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثةَ أيامٍ ثم عاد، ثم راح إليه جماعةٌ من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشُلحوا عند باب شرقي وأخَذَ ثيابَهم وعمائِمَهم ورجعوا في شرِّ حالة، ثم بعَثَ في طلبهم فاختفى أكثَرُهم وتغيَّبوا عنه.
خروج التتار من دمشق وعودتها لحكم الناصر بمصر .
العام الهجري : 699 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
في ثالث رجب نودي بجامِعِ دمشق بعد الصلاةِ مِن جهة نائب القلعةِ بأنَّ العساكِرَ المِصريَّة قادِمةٌ إلى الشام، وفي عشيَّة يوم السبت رحل بولاي وأصحابُه من التتر وانشمروا عن دمشق، وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر، فعاثوا في تلك النواحي فسادًا، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحدٌ، وقد أزاح الله عز وجل شَرَّهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناسِ: قد أَمِنَت الطرقاتُ ولم يبقَ بالشَّامِ مِن التتر أحد، وصلى قبجق يومَ الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعةٌ عليهم لَأْمةُ الحرب من السيوفِ والقِسِيِّ والتراكيش فيها النشَّاب، وأَمِنَت البلاد، وخرج الناسُ للفرجة في غيضِ السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفةٌ مِن التتر، فلمَّا رأوهم رجعوا إلى البلدِ هاربين مُسرِعينَ، ونهب بعضُ النَّاسِ بَعضًا، ومنهم من ألقى نفسَه في النَّهرِ، وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلَّقَ قبجق من البلَدِ ثمَّ إنَّه خرج منها في جماعةٍ مِن رؤسائها وأعيانِها، منهم عز الدين بن القلانسي ليتلَقَّوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب وجاءت البريديَّة بذلك، وبقي البلدُ ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد: احفَظوا الأسوارَ وأخرِجوا ما كان عندكم من الأسلحةِ، ولا تهملوا الأسوارَ والأبواب، ولا يبيتَنَّ أحدٌ إلا على السور، ومن بات في داره شُنِقَ، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخُ تقي الدين ابن تيمية يدورُ كُلَّ ليلة على الأسوارِ يُحَرِّضُ النَّاسَ على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آياتِ الجهادِ والرِّباطِ، وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبةُ بدمشق لصاحب مِصرَ، ففرح الناسُ بذلك، وكان يُخطَبُ لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائةَ يومٍ سواء، وفي بكرةِ يوم الجمعة المذكور دار الشيخُ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وأصحابُه على الخَمَّارات والحانات، فكَسَّروا آنيةَ الخُمورِ وشَقَّقوا الظروفَ وأراقوا الخمورَ، وعَزَّروا جماعةً مِن أهل الحانات المتَّخَذة لهذه الفواحِشِ، ففرح الناسُ بذلك، ونودي يوم السبتِ ثامِنَ عشر رجب بأن تُزَيَّن البلد لقدوم العساكِرِ المصرية، وفُتِحَ باب الفرج مضافًا إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح النَّاسُ بذلك وانفرجوا.
وفاة الإمام المفتي الزاهد جمال الدين الباجربقي .
العام الهجري : 699 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ المفتي الزاهِدُ جمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عبد المنعم بن عمر بن عثمان الباجربقي الموصلي الشافعي شيخٌ فقيهٌ محَقِّقٌ نقَّال طويل مهيب ساكِنٌ، كثيرُ الصلاة يلازم الجامِعَ، له حلقة تحت النسر إلى جانب البرادة، منقبض عن الناس، اشتغل بالموصل وأفاد وخطَبَ بجامِعِ دمشق نيابةً، ودرس بالغزالية نيابةً، وولي تدريس الفتحية، وحدَّث بجامع الأصول لابن الأثير عن واحد عن المصنَّف، وله نظم ونثر ووعظٌ، وقد نظم كتابَ التعجيز وعَمِلَه برموز, وقد وَلِيَ قَضاءَ غَزَّة سنة تسع وسبعين. وهو والدُ الزاهد محمد الباجربقي المنحرفِ صاحِبِ الملحمة الباجربقيَّة الذي حكم المالكيُّ بقَتلِه لزندقتِه وضَلالِه، توفي الشيخُ جمال الدين في خامس شوال وصُلِّيَ عليه عقيبَ الجمعة
مسير الجيش الشامي برفقة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جبال الجرد .
العام الهجري : 699 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
في يومِ الجمعة العشرين من شوَّالٍ ركِبَ نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشقَ إلى جبال الجرد وكسروان (وهي من مناطق الساحل اللبناني كان يسكنُها الدروز والروافض) وخرج الشيخُ تقي الدين ابن تيميَّة ومعه خلقٌ كثير من المتطَوِّعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية؛ بسبب فساد نيَّتِهم وعقائدِهم وكُفرِهم وضَلالِهم، وما كانوا عامَلوا به العساكِرَ لَمَّا كسرهم التَّتَرُ، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم، ووثَبوا عليهم ونهَبوهم وأخذوا أسلحتَهم وخيولهم، وقتلوا كثيرًا منهم، فلما وصلوا إلى بلادِهم جاء رؤساؤُهم إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستتابَهم وبيَّنَ للكثيرِ منهم الصوابَ وحصل بذلك خيرٌ كثيرٌ، وانتصارٌ كبير على أولئك المُفسِدين، والتزموا بردِّ ما كانوا أخَذوه من أموال الجيش، وقَرَّر عليهم أموالًا كثيرة يحملونَها إلى بيت المال، وأُقطِعَت أراضيهم وضياعُهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخُلونَ في طاعة الجُندِ ولا يلتَزِمونَ أحكام المِلَّة، ولا يدينونَ دينَ الحَقِّ، ولا يحَرِّمونَ ما حرم اللهُ ورسوله، وعاد نائبُ السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة وتلقاه الناسُ بالشموع إلى طريق بعلبك وسطَ النَّهار.
اقتتال العربان فيما بينهم بمصر .
العام الهجري : 700 العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
اختلف عربانُ البحيرة واقتَتَل طائفتا جابر وبرديس حتى فني بينهما بشرٌ كثير، واستظهرت برديس، فخرج الأميرُ بيبرس الدوادار في عشرين أميرًا من الطبلخاناه إلى تروجة، فانهزم العربُ منهم، فتَبِعوهم إلى الليونةِ وأخذوا جمالَهم وأغنامَهم، واستدعوا أكابِرَهم ووفَقَّوا بينهم وعادوا، فخرج الوزيرُ شمس الدين سنقر الأعسر في عدة مائة من المماليك السلطانية إلى الوجهِ القبلي لحَسمِ العربانِ، وقد كان كَثُرَ عَيثُهم وفسادُهم، ومَنَع كثيرٌ منهم الخراج لِما كان من الاشتغالِ بحركات قازان التتري، فأوقع الوزيرُ شمس الدين بكثير من بلاد الصعيد الكَبَساتِ، وقتل جماعاتٍ مِن المفسدين، وأخذ سائِرَ الخيول التي ببلاد الصعيد، فلم يَدَعْ بها فرسًا لفلاحٍ ولا بدويٍّ ولا قاضٍ ولا فقيهٍ ولا كاتب، وتتَّبَع السلاحَ الذي مع الفلاحين والعربان فأخذه عن آخِرِه، وأخذ الجِمالَ، وعاد من قوص إلى القاهرة، ومعه ألف وستون فرسًا، وثمانمائة وسبعون جملًا، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتا سيف، وسبعمائة درقة، وستة آلاف رأسٍ من الغنم، فسكن ما كان بالبلادِ مِن الشَّرِّ، وذَلَّ الفلاحون، وأعطوا الخراجَ.
=======ج=143.
تثبيت شيخ الإسلام بن تيمية للأمراء والناس في مواجهة التتار .
العام الهجري : 700 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1300
تفاصيل الحدث:
في مستهَلِّ صَفَر وردت أخبارٌ بقَصدِ التتر بلادَ الشام، وأنهم عازمونَ على دخول مصر، فانزعج الناسُ لذلك وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وشرعَ الناسُ في الهرب إلى بلادِ مِصرَ والكرك والشوبك والحصون المنيعة، وجلس الشيخُ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلِسِه في الجامع وحَرَّضَ الناسَ على القتال، وساق لهم الآياتِ والأحاديثَ الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراعِ في الفرار، ورغَّبَ في إنفاق الأموال في الذَّبِّ عن المسلمين وبلادِهم وأموالِهم، وأنَّ ما يُنفَقُ في أجرةِ الهَرَبِ إذا أُنفِقَ في سبيل الله كان خيرًا، وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكَرَّة، وتابع المجالِسَ في ذلك، ونودِيَ في البلادِ لا يسافِرْ أحدٌ إلا بمرسومٍ وورقةٍ، فتوقَّفَ النَّاسُ عن السير وسكَنَ جأشُهم، وتحَدَّث الناس بخروج السلطانِ مِن القاهرة بالعساكرِ، وفي أول ربيع الآخر قَوِيَ الإرجاف بأمر التتر، وجاء الخبَرُ بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودِيَ في البلد أن تخرج العامَّةُ من العسكر، وجاء مرسومُ النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشَّهرِ فعرض نحو خمسةِ آلاف من العامة بالعُدَّة والأسلحة على قدر طاقتِهم، وأشاع المرجفونَ بأن التتر قد وصلوا إلى حَلَب وأن نائب حلب تقهقَرَ إلى حماة، ونودي في البلد بتطييبِ قُلوبِ الناس وإقبالِهم على معايِشِهم، وأن السلطانَ والعساكر واصلةٌ، وأُبطلَ ديوان المستخرج, وكانوا قد استخرجوا أكثَرَ مِمَّا أمروا به، وبقيت بواقٍ على الناس الذين قد اختَفَوا، فعُفي عما بَقِي، ولم يَرُدَّ ما سَلف، لا جرم أن عواقِبَ هذه الأفعال خَسَرٌ ونُكرٌ، وأن أصحابها لا يُفلِحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائدًا إلى مصر بعد أن خرج منها قاصدًا الشام، فكثر الخوفُ واشتد الحال، وكثرت الأمطار جدًّا، وخرج كثير من الناس خفافًا وثِقالًا يتحمَّلونَ بأهليهم وأولادهم، واستهَلَّ جمادى الأولى والناسُ على خطَّة صعبة من الخوف، وتأخَّرَ السلطان واقترَبَ العدُوُّ، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مستهَلِّ هذا الشهرِ وكان يوم السبت إلى نائبِ الشامِ في المرج فثَبَّتَهم وقَوَّى جأشَهم وطَيَّبَ قلوبهم ووعَدَهم النصرَ والظَّفَرَ على الأعداء، وتلا قولَه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] وبات عند العسكَرِ ليلةَ الأحد ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائِبُ والأمراء أن يركَبَ على البريدِ إلى مِصرَ يستَحِثُّ السلطانَ على المجيءَ، فساق وراء السلطانِ، وكان السلطانُ قد وصل إلى الساحِلِ فلم يدرِكْه إلَّا وقد دخل القاهرةَ وتفارط الحال، ولكنَّه استحَثَّهم على تجهيز العساكر إلى الشامِ إن كان لهم به حاجةٌ، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتُم عن الشامِ وحمايتِه أقَمْنا له سلطانًا يحوطُه ويحميه ويستغِلُّه في زَمَنِ الأمن، ولم يَزَلْ بهم حتى جُرِّدَت العساكِرُ إلى الشام، ثم قال لهم: لو قُدِّرَ أنكم لستُم حكامَ الشَّامِ ولا ملوكَه واستنصركم أهلُه، وجب عليكم النصرُ، فكيف وأنتم حكَّامُه وسلاطينُه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولونَ عنهم؟! وقَوَّى جأشَهم وضَمِنَ لهم النصر هذه الكَرَّةَ، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصَلَت العساكِرُ إلى الشام فرح الناسُ فَرَحًا شديدًا بعد أن كانوا قد يَئِسوا من أنفُسِهم وأهليهم وأموالهم، ثمَّ قَوِيت الأراجيف بوصول التتر، وتحقُّقِ عَودِ السلطان إلى مصر، ونادى ابنُ النحاس متولي البلد في الناسِ: من قَدَرَ على السَّفَرِ فلا يقعُدْ بدمشق، فتصايح النِّساءُ والوِلدان، ورهق الناسَ ذِلَّةٌ عظيمةٌ وخَمدةٌ، وزُلزِلوا زلزالًا شَديدًا، وغُلِّقَت الأسواقُ وتيَقَّنوا أنْ لا ناصِرَ لهم إلا اللهُ عزَّ وجَلَّ، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقِفار والمغر بأهاليهم من الكبارِ والصغار، ونودي في الناسِ من كانت نيتُه الجهادَ فليلتَحِقْ بالجيش؛ فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشقَ مِن أكابرها إلا القليل، وجاءت الأخبارُ بوصول التتر إلى سرقين، وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين ابن تيمية وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم، فقَوَّوا عَزمَه على ملاقاةِ العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحَرَّضوه على قتال العدو، فأجابهم بالسَّمعِ والطاعة، وقَوِيَت نياتهم على ذلك، وخرج طلبُ سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحَربِ والقتال بنيَّات صادقة، ورجع الشيخُ تقي الدين ابن تيمية من الديارِ المِصريَّة في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصرَ ثمانيةَ أيَّامٍ يَحُثُّهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطانِ والوزير وأعيان الدولة فأجابوه إلى الخروجِ، وقد غلت الأسعار بدمشقَ جِدًّا، ثم جاءت الأخبار بأن مَلِكَ التتار قد خاض الفراتَ راجِعًا عامَه ذلك لِضَعفِ جَيشِه وقِلَّةِ عَدَدِهم، فطابت النفوسُ لذلك وسكن النَّاسُ، وعادوا إلى منازِلِهم منشرحين آمنينَ مُستبشرينَ، ولَمَّا جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشامِ في جمادى الآخرة تراجعت أنفُسُ الناس إليهم وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشق، وكان مخيمًا في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظَمِ الرباط، وتراجَعَ النَّاسُ إلى أوطانهم.
وقعة أهل الذمة بمصر والشام في إلزامهم بالشروط العمرية .
العام الهجري : 700 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1301
تفاصيل الحدث:
في هذا الشَّهرِ كانت وقعةُ أهلِ الذِّمَّة، وهي أنهم كانوا قد تزايد تَرَفُهم بالقاهرة ومصر، وتفَنَّنوا في ركوب الخَيلِ المُسَوَّمة والبَغلات الرائعة بالحُليِّ الفاخرة، ولَبِسوا الثيابَ السريَّة، ووُلوا الأعمالَ الجليلة، فاتفق قدومُ وزير ملك المغرب يريدُ الحَجَّ، واجتمع بالسلطانِ والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجلٍ راكب فرسًا وحَولَه عِدَّةٌ من الناس مشاةٌ في ركابِه، يتضَرَّعونَ له ويسألونه ويقَبِّلون رجليه، وهو مُعرِضٌ عنهم لا يعبأُ بهم، بل ينهَرُهم ويصيح في غِلمانِه بطَردِهم، فقيل للمغربي: إنَّ هذا الرَّاكِبَ نصرانيٌّ، فشَقَّ عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدَّثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاءً كثيرًا، وشَنَّعَ في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النَّصرَ والنصارى تركَبُ عندكم الخيول وتلبَسُ العمائِمَ البِيضَ، وتُذِلُّ المسلمين وتُشبِهُهم في خدمتِكم؟! وأطال القولَ في الإنكار وما يلزَمُ وُلاةَ الأمور من إهانةِ أهل الذِّمَّة وتغيير زيِّهم، فأثَّرَ كلامُه في نفوس الأمراء، فرَسَم أن يُعقَدَ مَجلِسٌ بحضور الحُكَّام، واستُدعِيَت القضاة والفُقَهاء، وطُلِبَ بطرك النصارى، وبرز مرسومُ السلطان بحَملِ أهل الذمة على ما يقتضيه الشَّرعُ المحَمَّدي، فاجتمع القضاةُ بالمدرسةِ الصالحية بين القصرين، ونُدِبَ لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطُلِبَ بطرك النصارى، وجماعةٌ من أساقفتهم وأكابر قِسِّيسِيهم وأعيان مِلَّتِهم، وديَّان اليهود وأكابِر مِلَّتِهم، وسُئِلوا عما أقَرُّوا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه مِن عَقدِ الذِّمَّة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب، وطال الكلامُ معهم إلى أن استقَرَّ الحالُ على أنَّ النصارى تتميَّزُ بلباس العمائِمِ الزُّرقِ، واليهودَ بلُبسِ العمائم الصُّفر، ومُنِعوا من ركوبِ الخَيلِ والبِغالِ، ومِن كُلِّ ما منعهم منه الشارِعُ صَلَّى الله عليه وسلم، وأُلزِموا بما شَرَطَه عليهم أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالتزموا ذلك وأُشهِدَ عليه البطرك أنَّه حَرَّم على جميع النصرانية مخالفةَ ذلك والعُدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكَلِمةَ على سائِرِ اليهود في مخالفةِ ذلك والخروج عنه وانفَضَّ المجلس، وطُولِعَ السلطان والأمراء مما وقع، فكتب إلى أعمالِ مِصرَ والشام به، ولَمَّا كان يوم خميس العهدِ وهو العشرون من شهر رجب جُمِعَ النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهِرِها، ورُسِمَ ألَّا يُستخدَمَ أحَدٌ منهم بديوانِ السُّلطانِ ولا بدواوينِ الأمراءِ، وألَّا يَركَبوا خيلًا وبغالًا، وأن يلتَزِموا سائِرَ ما شُرِطَ عليهم، ونودِيَ بذلك في القاهرةِ ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه، فانحصر النصارى من ذلك، وسَعَوا بالأموال في إبطالِ ما تقَرَّر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاءِ ما ذُكِرَ قيامًا محمودًا، وصَمَّم تصميمًا زائدًا، فاضطر الحالُ بالنصارى إلى الإذعان، وأسلَمَ أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبةِ وخَلقٌ كثيرٌ، حرصًا منهم على بقاءِ رياستِهم، وأنفةً مِن لُبسِ العمائِمِ الزُّرقِ وركوب الحَميرِ، وخرج البريدُ بحَملِ النصارى واليهود فيما بين دنقلة من النوبة والفرات على ما تقَدَّمَ ذِكرُه، وامتَدَّت أيدي العامَّة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهَدَموها بفتوى الشَّيخِ الفَقيهِ نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة، فطَلَب الأمراءُ القُضاةَ والفقهاءَ للنَّظَرِ في أمر الكنائس، فصَرَّحَ ابن الرفعة بوجوب هَدمِها، وامتنع من ذلك قاضي القضاةِ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتَجَّ بأنَّه إذا قامت البيِّنةُ بأنها أُحدِثَت في الإسلامِ تُهدَمُ، وإلَّا فلا يُتعَرَّض لها، ووافَقَه البقيَّةُ على هذا وانفَضُّوا، وكان أهلُ الإسكندريةِ لما ورد عليهم مرسومُ السلطان في أمر الذمَّة ثاروا بالنَّصارى وهَدَّموا لهم كنيستين، وهَدَّموا دُورَ اليهود والنصارى التي تعلو على دُورِ جيرانِهم المُسلِمينَ، وحَطُّوا مساطِبَ حوانيتِهم حتى صارت أسفَلَ مِن حوانيت المسلمين، وهُدِمَ بالفيومِ أيضًا كَنيستانِ، وقَدِمَ البريد في أمر الذمَّة إلى دمشق يوم الاثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاةُ والأعيان عند الأمير أقش الأفرم، وقرئ عليهم مرسومُ السلطان بذلك، فنودي في الخامس عشر أن يَلبَسَ النصارى العمائِمَ الزُّرقَ، واليهودُ العمائمَ الصُّفرَ، والسَّامرةُ العمائِمَ الحُمر، وهُدِّدوا على المخالفة، فالتزم النصارى واليهود بسائِرِ مملكة مصر والشام ما أُمِروا به، وصَبَغوا عمائِمَهم إلَّا أهل الكركِ؛ فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائبُ بها رأى إبقاءَهم على حالتِهم، واعتذَرَ بأنَّ أكثَرَ أهل الكرك نصارى، فلم يغَيِّرْ أهلُ الكرك والشوبك من النصارى العمائِمَ البيض، وبَقِيَت الكنائسُ بأرض مصر مدة سنةٍ مُغَلَّقة حتى قَدِمَت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفَعُ في فتحِها، ففُتِحَت كنيسةُ المُعَلَّقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكيَّة، ثم قدمت رسل ملوك أخر، ففُتِحَت كنيسةُ حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.
مقتل فتح الدين البققي على الزندقة بمصر .
العام الهجري : 701 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1301
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
وفاة الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله وتولى الخلافة ابنه أبو الربيع .
العام الهجري : 701 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
هو أميرُ المؤمنينَ الخليفةُ الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويِعَ بالخلافة بالدَّولةِ الظاهرية في أول سنة 661، فاستكمل أربعينَ سنةً في الخلافة، وتوفِّيَ ليلة الجمعةِ ثامن عشر جمادى الأولى، وصُلِّيَ عليه بجامع ابن طولون، ودُفِنَ بجوار المشهد النفيسي وقتَ صلاةِ العَصرِ بسوق الخيل، وحَضَر جنازته الأعيانُ والدولةُ كُلُّهم مُشاةً، وكان قد عَهِدَ بالخلافة إلى وَلَدِه أبي الربيع سليمان، وتلقَّبَ بالمستكفي باللهِ، وقرئ كتاب تقليدِه بالخلافة بحَضرةِ السلطان المَلِك الناصر محمد بن قلاوون والدَّولة يوم الأحد عشرين من ذي الحجة مِن هذه السنة، وخُطِبَ له على المنابِرِ بالبلادِ المصريَّة والشاميَّة، وسارت بذلك البريديَّةُ إلى جميع البلاد الإسلاميَّة.
فتنة الأعراب في صعيد مصر .
العام الهجري : 701 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
كثُرَ فَسادُ العُربان بالوجه القبلي، وتعَدَّى شَرُّهم في قَطعِ الطَّريقِ إلى أن فَرَضوا على التجَّار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائِضَ جَبَوها شبه الجماليَّة، واستخَفُّوا بالولاة ومنعوا الخراجَ، وتَسَمَّوا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرينِ أحدهما سَمَّوه بيبرس، والآخر سلار، ولبسوا الأسلحةَ وأخرجوا أهلَ السُّجونِ بأيديهم، فاستدعى الأمراءُ القُضاةَ والفُقَهاءَ، واستفتَوهم في قتالِهم، فأفتَوهم بجواز ذلك، فاتَّفَق الأمراء على الخروج لقتالِهم وأخْذِ الطرق عليهم، لئلا يمتَنِعوا بالجبالِ والمفاوزِ فيَفوتَ الغَرَضُ فيهم، فاستدعَوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية, وغيرَه من ولاة العمل، وتقَدَّموا إليه بمنع الناسِ بأَسرِهم من السفر إلى الصعيدِ في البَرِّ والبحر، ومَن ظَهَر أنه سافر كانت أرواحُ الولاة قبالةَ ذلك، فاشتَدَّ حِرصُهم، وأشاع الأمراءُ أنَّهم يريدون السَّفَرَ إلى الشام، وكُتِبَت أوراق الأمراء المسافرين، وهم عشرونَ مُقَدَّمًا بمضافيهم، وعيَّنوا أربعة أقسام: قسمٌ يتوَجَّهُ في البر الغربي من النيلِ، وقِسمٌ في البَرِّ الشرقي، وقِسمٌ يركب النيل، وقِسمٌ يمضى في الطريق السالكةِ، وتوجه الأميرُ شمس الدين سنقر الأعسر إلى جهة ألواح في خمسةِ أمراء، وقرر أن يتأخَّرَ مع السلطان أربعةُ أمراء من المقَدَّمين، وتقَدَّمَ إلى كُلِّ مَن تعَيَّنَ لجهة أن يضَعَ السَّيفَ في الكبير والصَّغيرِ والجليل والحقير، ولا يُبقُوا شيخًا ولا صبيًّا، ويحتاطوا على سائِرِ الأموال، وسار الأميرُ سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعةٌ من الأمراء في البر الغربي، وسار الأميرُ بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأميرُ بكتاش أميرُ سلاحٍ بمن معه إلى الفيوم وسار الأميرُ بكتمر الجوكندار بمن معه في البرِّ الشرقي، وسار قتالُ السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأميرُ قبجق ومن معه إلى عقبةِ السَّيل، وسار طقصبا والي قوص بعرب الطاعةِ وأخذ عليهم المفازاتِ، وضَرَبَ الأمراءُ على الوجه القبلي حلقةً كحلقةِ الصيدِ، وقد عُمِّيَت أخبارُهم على أهل الصعيد، فطَرَقوا البلادَ على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها، ووضَعوا السيفَ في الجيزيَّة بالبر الغربيِّ والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحدًا حتى قَتَلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجلٍ، وما منهم إلَّا من أخذوا مالَه وسَبَوا حريمه، فإذا ادَّعى أحدٌ أنَّه حَضَريٌّ قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العَرَبِ قُتِلَ، ووقع الرعبُ في قلوبِ العُربان حتى طَبَّق عليهم الأمراءُ، وأخَذوهم مِن كُلِّ جِهةٍ فَرُّوا إليها، وأخرَجوهم من مخابِئِهم حتى قَتَلوا مَن بجانبي النيلِ إلى قوص، وجافت الأرضُ بالقتلى، واختفى كثيرٌ منهم بمغائِرِ الجبالِ، فأُوقِدَت عليهم النيرانُ حتى هلكوا عن آخِرِهم، وأُسِرَ منهم نحوُ ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحَصَل من أموالهم شيءٌ عَظيمٌ جدًّا تفَرَّقَتْه الأيدي، وأُحضِرَ منه للديوان ستة عشر ألف رأسٍ من الغنم، من جملةِ ثمانين ألف رأسٍ ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعةِ آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غيرَ ما أُرصِدَ في المعاصر، ومن السِّلاحِ نحو مائتين وستين حملًا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموالِ على بغالٍ مُحَمَّلة مائتين وثمانين بغلًا، ثم عاد العسكَرُ في سادس عشر رجب، وقد خلت البلادُ بحيث كان الرجلُ يمشي فلا يجِدُ في طريقه أحدًا، وينزِلُ بالقرية فلا يرى إلا النِّساءَ والصِّبيانَ والصِّغارَ، فأفرجوا عن المأسورينَ وأعادوهم لحِفظِ البلاد، وكان الزَّرعُ في هذه السنة بالوجه القبلي عظيمًا إلى الغاية، تحصَّلَ منه ما لم يُقدَرْ قَدرُه كَثرةً.
اتهام شيخ الإسلام ابن تيمية بالتعدي على حدود السلطان .
العام الهجري : 701 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
وفي هذا الشَّهرِ ثار جماعةٌ مِن الحَسَدةِ على الشيخِ تَقيِّ الدين بن تيمية وشَكَوا منه أنَّه يقيمُ الحُدودَ ويُعَزِّرُ ويَحلِقُ رؤوس الصبيان، وتكلَّمَ هو أيضًا فيمن يشكو منه ذلك، وبيَّنَ خَطأَهم، فسَكَنَت الأمورُ.
اليهود بدمشق يزورون كتابا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم .
العام الهجري : 701 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
عُقِدَ مجلِسٌ لليهود الخيابرة وأُلزِموا بأداءِ الجزية أسوةَ أمثالهم من اليهود، فأَحضروا كتابًا معهم يزعُمونَ أنَّه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بوضعِ الجِزيةِ عنهم، فلما وقف عليه الفُقَهاءُ تَبَيَّنوا أنَّه مكذوب مُفتَعَلٌ لما فيه من الألفاظِ الركيكة، والتواريخِ المحبطة، واللَّحنِ الفاحش، وحاقَقَهم عليه شيخُ الإسلام ابن تيميَّةَ، وبيَّنَ لهم خطأَهم وكَذِبَهم، وأنَّه مُزَوَّرٌ مكذوب، فأنابوا إلى أداءِ الجزية، وخافوا من أن تُستعادَ منهم الشؤون الماضية، وقال ابن كثير: "وقد وقفتُ أنا على هذا الكتابِ فرأيتُ فيها شهادةَ سَعدِ بن معاذٍ عام خيبر، وقد توفِّيَ سعد قبل ذلك بنحوٍ مِن سنتين، وفيه: وكتَبَ عليُّ بن أبي طالب، وهذا لحنٌ لا يَصدُرُ عن أميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه".
تمرد أهل سيس ومحاربتهم .
العام الهجري : 701 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
ورد الخبَرُ من حلب بأن تكفور الأرمني متمَلِّكَ سيس منع الحَملَ وخرَجَ عن الطاعةِ وانتمى لغازان، فرسم بخروجِ العسكر لمحاربته، وخرج الأميرُ بدر الدين بكتاش الفخري أميرُ سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراءِ والمفاردة في رمضانَ وساروا إلى حماة، فتوجَّهَ معهم العادل كتبغا في الخامِسَ عشر من شوال، وقَدِموا حلب في أوَّلِ ذي القَعدةِ ورحَلوا منها في ثالِثِه، ودخلوا دربند بغراس في سابعه، وانتَشَروا في بلاد سيس، فحَرَقوا المزروع وانتهبوا ما قدروا عليه، وحاصروا مدينةَ سيس وغَنِموا مِن سَفحِ قَلعتِها شيئًا كثيرًا من جفال الأرمن، وعادوا من الدربند إلى مرج أنطاكية، فقَدِموا حلب في السابع عشر، ثم نزلوا حماة في التاسع عشر.
وفاة العلامة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد .
العام الهجري : 702 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامةُ شَيخُ الإسلام تقيُّ الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المصري المنفلوطي، المالكيُّ الشافعي، أحَدُ الأعلام وقاضي القضاة, المعروفُ بابن دقيق العيد. وُلِدَ يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة 625 بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز، تفقَّهَ على والده بقوص, وكان والِدُه مالكيَّ المذهب، ثم تفقَّه على الشيخ عزِّ الدِّين بن عبد السلام الشافعي، فحقَّق المذهبَين، وأفتى فيهما، سَمِعَ الكثير ورحل في طلب الحديثِ وخرج وصَنَّفَ فيه إسنادًا ومتنًا مُصَنَّفات عديدة، فريدةً مفيدة، وانتهت إليه رياسةُ العلم في زمانه، وفاقَ أقرانه ورحل إليه الطَّلَبةُ ودرَّسَ في أماكن كثيرة، ولي قضاءَ الديار المصرية، وكان وقورًا قليل الكلام غزيرَ الفوائِدِ كثيرَ العُلومِ، فيه ديانةٌ ونزاهة، وله شعرٌ رائق، كما كان بارعًا في الفقه والأصول، له مصنَّفاتٌ عديدة، منها: الإلمام في أحاديث الأحكام، وله إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، وله شرح الأربعين النووية، وغيرها، وله خُطَبٌ بليغة مشهورة، أنشأها لَمَّا كان خطيبًا بقوص. قال الذهبي في معجمه: "هو قاضي القضاة بالدِّيارِ المصرية، وشيخُها وعالِمُها، الإمامُ العلَّامة، الحافِظُ القدوة الوَرِع، شيخُ العصر. كان علَّامةً في المذهبين، عارفًا بالحديثِ وفنونه، سارت بمصنَّفاته الرُّكبان. ولي القضاءَ ثمانيَ سنين", وبسط السبكيُّ ترجمته في الطبقاتِ الكبرى قال: "لم ندرِكْ أحدًا من مشايخنا يختَلِفُ في أنَّ ابنَ دقيق العيد هو العالمُ المبعوثُ على رأس السَّبعمائة". وقال عنه ابنُ كثير في طبقاته: "أحدُ عُلماء وقته، بل أجلُّهم وأكثَرُهم عِلمًا ودِينًا، وورَعًا وتقشُّفًا، ومداومةً على العلم في ليلِه ونهاره، مع كِبَرِ السِّنِّ والشُّغلِ بالحكم. وله التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. برع في علومٍ كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه على أقرانِه وبرز على أهل زمانِه، رحلت إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على عِلمِه ووَرَعِه وزُهدِه الاتِّفاق". توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر، وصُلِّيَ عليه يوم الجمعة بسوق الخيل، وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء، ودفن بالقرافة الصغرى.
فتح الناصر قلاوون جزيرة أرواد وطرد الصليبيين منها .
العام الهجري : 702 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1302
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ البريد من طرابلس بأن الفرنجَ أنشؤوا جزيرةً تجاه طرابلس تُعرَفُ بجزيرة أرواد، وعَمَروها بالعدد والآلات وكثُرَ فيها جمعُهم، وصاروا يركَبونَ البحر ويأخذون المراكِبَ، فرسم للوزير بعمارةِ أربعة شواني حربية، فشرَعَ في ذلك، ثمَّ في صفر هذه السنة توجَّهَ كهرداش إلى جزيرة أرواد، وهى بقُرب طرطوس، وصبَّحَهم في غفلةٍ وأحاط بهم وقاتلَهم ساعةً، فنصره اللهُ عليهم وقَتَلَ منهم كثيرًا، وسألوا الأمانَ فأُخِذوا أسرى في يوم الجمعة ثامِنَ عشرى صفر، واستولى كهرداش على سائِرِ ما عندهم، وعاد إلى طرابلس وأخرجَ الخُمُسَ من الغنائم لتُحمَلَ إلى السلطان، وقَسَمَ ما بَقِيَ فكانت عِدَّةُ الأسرى مائتينِ وثمانينَ، فلَمَّا قَدِمَ البريد من طرابلس بذلك دُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وكان فتحُها من تمام فتح السواحِلِ، وأراح اللهُ المسلمينَ مِن شَرِّ أهلِها.
وقعة عرض بين التتار والمماليك .
العام الهجري : 702 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1303
تفاصيل الحدث:
وقعة عَرض- وهي من أعمال حلب بين الرصافة وتدمر- وذلك أنَّه التقى جماعةٌ من أمراء الإسلام فيهم استدمر وبهادر أخي وكجكن وغرلو العادلي، وكلٌّ منهم سيفٌ من سيوف الدين في ألفٍ وخمسمائة فارس، وكان التتارُ في سبعةِ آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرًا جيدًا، فنصرهم الله وخذلَ التَّتَر، فقتلوا منهم خلقًا وأسروا آخرينَ، ووَلَّوا عند ذلك مُدبِرينَ، وغَنِمَ المسلمون منهم غنائِمَ، وعادوا سالمين لم يُفقَدْ منهم إلا القليلُ مِمَّن أكرمه الله بالشهادة، ووقعت البطاقةُ بذلك، ثم قَدِمَت الأسارى يوم الخميس نصفَ شعبان.
وقعة شقحب بين التتار والمسلمين ومعهم شيخ الإسلام ابن تيمية .
العام الهجري : 702 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1303
تفاصيل الحدث:
في ثامِنَ عشر رجب قَدِمَت طائفة كبيرة من جيش المصريِّين فيهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأميرُ حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري، والأميرُ سيف الدين كراي المنصوري، ثم قدمت بعدهم طائفةٌ أخرى فيهم بدر الدين أمير سلاح وأيبك الخزندار فقَوِيَت القلوبُ واطمأنَّ كثير من الناس، وكان الناسُ في حفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيشُ الحلبي والحموي إلى حمص، ثم خافوا أن يدهَمَهم التتر فجاؤوا فنزلوا المرجَ يوم الأحد خامس شعبان، ووصل التتارُ إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الأراضي فسادًا، وقَلِقَ الناس قلقًا عَظيمًا، وخافوا خوفًا شديدًا، واختبطَ البَلَدُ لتأخُّرِ قدوم السلطان ببقيَّة الجيش، وقال النَّاسُ: لا طاقة لجيشِ الشام مع هؤلاء المصريين بلقاءِ التتار لكثرَتِهم، وإنما سبيلُهم أن يتأخَّروا عنهم مرحلةً مرحلة، وتحَدَّث الناسُ بالأراجيف فاجتمع الأمراءُ في يوم الأحد خامس شعبان بالميدان وتحالَفوا على لقاء العدو، وشَجَّعوا أنفُسَهم، ونودِيَ بالبلد أنْ لا يرحل أحدٌ منه، فسكن النَّاسُ وجلس القضاةُ بالجامِعِ وحَلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامَّة على القتال، وتوجَّهَ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة إلى العسكَرِ الواصِلِ من حماة فاجتمع بهم في القطيعةِ فأعلَمَهم بما تحالف عليه الأمراءُ والنَّاسُ من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحَلَفوا معهم، وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يَحلِفُ للأمراءِ والنَّاسِ إنَّكم في هذه الكَرَّة منصورون، فيقولُ له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقولُ: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب اللهِ منها قَولُه تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60] ولَمَّا كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكِرُ الشاميَّة فخَيَّمَت على الجسورة من ناحية الكسوة، ومعهم القضاةُ، فصار الناسُ فيهم فريقين: فريقٌ يقولونَ إنَّما ساروا ليختاروا موضِعًا للقتالِ؛ فإنَّ المرج فيه مياهٌ كثيرة فلا يستطيعون معها القتال، وقال فريق: إنما ساروا لتلك الجهة لِيَهرَبوا وليلحقوا بالسلطان، فلما كانت ليلةُ الخميس ساروا إلى ناحية الكسوة فقَوِيَت ظنون الناسُ في هَرَبِهم، وقد وصلت التتارُ إلى قارة، وبلغ الأمراءَ قُدومُ السلطانِ فتَوَجَّهوا إليه من مَرجِ راهط، فلَقُوه على عقبة الشحورا في يومِ السبت ثانيَ عَشَر رمضان، ثمَّ وَرَدَ عند لقائِهم به الخبَرُ بوصول التتار في خمسينَ ألفًا مع قطلوشاه نائب غازان، فلبس العسكَرُ بأجمعه السلاح، واتَّفَقوا على قتال التتار بشقحب تحت جبل غباغب (وهي من الطرف الشمالي لمرج الصفر)، فلما تمَّ الترتيبُ زَحَفت كراديس التتار كقِطَع الليل، وكان ذلك وقتَ الظهر من يوم السبتِ ثاني رمضان, وأقبل قطلوشاه بمن معه من الطوامين، وحملوا على الميمنة فثَبَتَت لهم الميمنة وقاتلوهم أشدَّ قِتالٍ، ثم قُتِلَ مِن الميمنة الكثيرُ فأدركَتْهم الأمراءُ مِن القَلبِ ومِن المَيسَرة واستمَرُّوا في القتال إلى أن كَشَفوا التتارَ عن المسلمينَ واستمَرَّ القتالُ بين التتار والمسلمينَ إلى أن وقفَ كل من الطائفتينِ عن القتال، ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبَلٍ قريب منه، وصَعِدَ عليه وفي نفسه أنَّه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمينَ مِن المسلمين، فلمَّا صَعِدَ الجبَلَ رأى السَّهلَ والوَعرَ كُلَّه عساكِرَ، والميسرةَ السُّلطانيةَ ثابتةً وأعلامها تخفُق، فبُهِتَ قطلوشاه وتحيَّرَ واستمَرَّ بمَوضِعِه حتى كَمُلَ معه جمعُه وأتاه مَن كان خلف المنهزمينَ مِن الميمنةِ السُّلطانيَّة ومعهم عِدَّةٌ من المسلمينَ قد أسروهم، فعند ذلك جمَعَ قطلوشاه أصحابَه وشاوَرَهم فيما يفعَلُ، وإذا بكوسات- قطعتان من نحاس تشبهان الترسَ الصغير يدقُّ بأحدها على الآخِرِ بإيقاعٍ مخصوص- السُّلطانِ والبوقات قد زَحَفَت وأزعجت الأرضَ وأرجفت القلوبَ بحِسِّها، فلم يثبت بولاي وخرج من تجاهِ قطلوشاه في نحوِ العشرين ألفًا من التتار، ونزل مِن الجَبَل بعد المغرب ومَرَّ هاربًا، وبات السلطانُ وسائِرُ عساكره على ظهور الخيل والطبولُ تُضرَبُ، وتلاحقَ بهم من كان انهَزَمَ شيئًا بعد شيءٍ، وهم يَقصِدونَ ضَربَ الطبول السلطانيَّة والكوسات؛ وأحاط عسكَرُ السُّلطانِ بالجبَلِ الذي بات عليه التتارُ وشرع قطلوشاه في ترتيبِ مَن معه، ونزلوا مشاةً وفرسانًا وقاتلوا العساكِرَ، فبرزت المماليكُ السلطانية بمقَدَّميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعمِلوا في قتالهم عملًا عظيمًا، فصاروا تارةً يرمونهم بالسِّهامِ وتارة يواجهونَهم بالرماح، واشتغل الأمراء أيضًا بقتال من في جهتِهم، وصاروا يتناوبون في القتال أميرًا بعد أمير، وألحَّت المماليك السلطانيَّةُ في القتال وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعةِ والفروسية ما لا يوصَفُ، حتى إن بعضَهم قُتِلَ تحته الثلاثةُ من الخيل، وما زال الأمراءُ على ذلك حتى انتصف نهارُ الأحد، صعد قطلوشاه الجبل وقد قُتِلَ من عسكره نحو ثمانين رجلًا، وجُرح الكثير واشتَدَّ عَطَشُهم، واتفق أنَّ بعضَ من كان أسَرَه التتار هرب ونزل إلى السلطان، وعَرَّفه أنَّ التتارَ قد أجمعوا على النزولِ في السَّحَرِ لمصادمة العساكرِ السُّلطانية، وأنَّهم في شدة من العَطَشِ، فاقتضى الرأيُ أن يُفرِجَ لهم عند نزولِهم ويركَبَ الجيشُ أقفيتَهم، فلما باتوا على ذلك وأصبحوا نهارَ الاثنين، ركب التتارُ في الرابعة من النَّهارِ ونزلوا من الجبل فلم يتعَرَّض لهم أحدٌ وساروا إلى النهر فاقتَحَموه، فعند ذلك رَكِبَهم بلاءُ الله من المسلمين وأيَّدَهم الله تعالى بنَصرِه حتى حَصَدوا رؤوسَ التتار عن أبدانِهم ووضعوا فيهم السَّيفَ ومَرُّوا في أثرهم قتلًا وأسرًا إلى وقت العصر، وعادوا إلى السُّلطانِ وعَرَّفوه بهذا النصر العظيم، واستمَرَّت الأمراء وبَقِيت العساكرُ في طلب التتار إلى القريتينِ، وقد كَلَّت خيولُ التتار وضَعُفَت نفوسُهم وألقَوا أسلحَتَهم واستسلموا للقَتلِ، والعساكِرُ تقتلُهم بغير مدافعةٍ، حتى إن أراذِلَ العامَّة والغِلمان قتلوا منهم خلقًا كثيرًا وغَنِموا عندئذ غنائِمَ، وقتل الواحِدُ من العسكر العشرينَ من التتار فما فوقها، ثم أدركت عُربانُ البلاد التتارَ وأخذوا في كيدهم، فيجيء منهم الاثنانُ والثلاثة إلى العِدَّة الكثيرة من التتار، كأنهم يهدونَهم إلى طريقٍ قريبةٍ مفازة، فيوصلونهم إلى البَرِّيَّة ويتركونهم بها فيموتون عطشًا، ومنهم من دار بهم وأوصلوهم إلى غوطة دمشق، فخرجت إليهم عامَّةُ دِمشقَ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبَشَّروا النَّاسَ بالنصرِ.
وفاة الأمير زين الدين كتبغا المنصوري .
العام الهجري : 702 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1303
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ زين الدين كتبغا المنصوري، نائِبُ السَّلطنة بحماة، كان من مماليكِ السلطان المَلِك المنصور سيف الدينِ قلاوون الصالحي, وأصلُه من أسرى التَّتار اشتراه السلطانُ قلاوون ثمَّ ترقَّى حتى تسلطنَ، وتلقَّب بالمَلِك العادل، وملَك ديارَ مِصرَ والشام في سنة 694، ثم خلَعَه نائبُه لاجين، وأعطاه صرخد في سنة ستٍّ وتسعين، واستمَرَّ مُقيمًا بصرخد إلى أن اندفَعَ المسلمون من التَّتَر على حمص، فوصل كتبغا من صرخد إلى مصر، وخرج مع سلار والجاشنكير إلى الشام، فقَرَّره نائبًا بحماة، في سنة تسع وتسعين وستمائة، ثم أغار على بلاد سيس، فلمَّا عاد إلى حماة مَرِضَ قبل دخوله إلى حماة، وطال مرَضُه، ثمَّ حَصَل له استرخاءٌ، وبقي لا يستطيعُ أن يحَرِّكَ يديه ولا رِجلَيه، وبَقِيَ كذلك مُدَّةً، وسار من حماة إلى قريبِ مِصر جافلًا بين يدَي التتر، لما كان المصاف على مرج الصفر، ثم عاد إلى حماة وأقام بها مدةً يسيرة، وتوفِّيَ في هذه السنة.
غزو سيس وتل حمدون .
العام الهجري : 703 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1304
تفاصيل الحدث:
سارت العساكِرُ من القاهرة للغارة على الأرمن في بلاد سيس، وعليهم الأميرُ بدر الدين بكتاش أمير سلاح، ومعه الأميرُ علم الدين سنجر الصوابي والأميرُ شمس الدين سنقر شاه المنصوري ومضافيهم، وكتب إلى طرابلس وحماة وصفد وحلب بخروج العساكِرِ إليها، فوصل الأميرُ بدر الدين بكتاش إلى دمشقَ في ثاني عشر رمضان، وخرج منها بعسكرِ دمشق، فسار إلى حَلَب وأتته عساكِرُ البلاد، فافتَرَقوا فرقتينِ فِرقةً سارت صحبة قبجق إلى ناحية ملطية، وقلعة الروم، والفِرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربنداتِ وحاصروا تلَّ حمدون فتسَلَّموه عَنوةً في ثالث ذي القعدة بعد حصارٍ طويل، وحرقوا مزارعَ سيس وخَرَّبوا الضياعَ وأسَروا أهلَها، ونازلوا تلَّ حمدون وقد امتنع بقلعَتِها جماعةٌ كثيرة من الأرمن، فقاتلوهم حتى فُتِحَت بالأمان، وأخذوا منها ستةَ ملوك من ملوك الأرمن، فشَقَّ ذلك على تكفور ملك سيس، وقصد نكايةَ الملوك على تسليمِهم قلعة تل حمدون بالأمان، وكتب إلى نائِبِ حلب بأنَّ ملوك القلاع هم الذين كانوا يمنعون مِن حَملِ الخراج، فلا تُفرِجوا عن أحدٍ منهم، فليس عندي من يَزِنُ المال سواهم، فأمر النائِبُ بقَتلِهم، فضُرِبَت رقابُ ملوك خمسة منهم، وسَلِمَ منهم صاحب قلعة نجيمة والتزم بأخذ سيس ووقع مع صاحِبِ سيس على أن يكون للمسلمينَ مِن نهر جيهان إلى حَلَب وبلاد ما وراء النهر إلى ناحيتهم لهم، وأن يعَجِّلوا حملَ سَنَتين، ووقعت الهدنةُ على ذلك، فحمل إلى مصر وكتب صحبته بعودِ العساكر بالغنائم، فسُرَّ الأمراءُ والسلطان بذلك، وأكرم صاحب قلعة نجيمة، وكتب بعَودِ العساكر.
وفاة قازان محمود بن أرغون بن أبغا ملك التتار وتولي أخيه خدابندا .
العام الهجري : 703 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1304
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ محمود غازان ويقال (قازان) بن القان أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكزخان المغولي ملك التتار العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم؛ ولد سنة 670. كان شابًّا عاقلًا شجاعًا مهيبًا مليحَ الشكلِ، وكان جلوسه على تخت الملك سنة 693. ذكر الذهبي إسلامَه فقال: "دخل قازان الإسلامَ بوساطة نوروز التركي وزيرِه ونائِبِه ومدبِّر مملكته وزَوجِ عَمَّتِه. أسلم في شعبان سنة694 بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين بن حمويه الجويني. وذلك بقُربِ الري بعد خروجه من الحمام، وجلس مجلسًا عامًّا فتلَفَّظ بشهادة الحق وهو يبتَسِمُ ووجهه يستنير ويتهَلَّل, وكان شابًّا أشقر مليحا، له إذ ذاك بضعٌ وعشرون سنة. وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجَّةً عَظيمةً مِن المغول والعجم وغيرهم، ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ. وكان يومًا مشهودًا. وفشا الإسلامُ في جيشه بحصر نوروز؛ فإنَّه كان مسلمًا خَيِّرًا صحيح الإسلام، يحفظُ كثيرًا من القرآن والرقائق والأذكار, ثم شرع نوروز يلقِّن الملك غازان شيئًا من القرآن ويجتهد عليه. ودخل رمضان فصامه، ولولا هذا القَدرُ الذي حصل له من الإسلام وإلَّا كان قد استباح الشامَ لَمَّا غلب عليه، فلله الحمد والمنَّة" كان لقازان خبرةٌ بسياسة الأمور وتدبير الملك، وكان قد التحق في أفعالِه بجَدِّه الأكبر هولاكو، لكِنْ كانت هيبته قويَّةً ورعيتُه في زمانه آمنةً، أظهر غازان العدل، وتسمى بمحمود، ومَلَك العراقين وخراسان وفارس والجزيرة والروم، وتسمَّى بالقان، وأفرد نفسَه بالذِّكرِ في الخطبة، وضرب السكَّة، ولم يسبِقْه أحد من آبائه إلى هذا، فاقتدى به من جاء بعده، وكان من أجَلِّ ملوك بيت هولاكو، إلَّا أنه كان يبخَلُ بالنسبة إليهم, وطرد نائِبَه نوروز من بلادِه ثمَّ أمر بقَتلِه. مات بقرب همذان، ولم يتكَهَّل، ونقل إلى تبريز، ودفن بتربته، ويقال إنه مات مسمومًا، واشتهر أنَّه سُمَّ في منديل تمسَّحَ به بعد الجِماعِ، فتعلَّ ومات, ثم قام في المُلكِ بعده أخوه خدبندا محمد بن أرغون، وخُطِبَ له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد، وتلقَّب بغياث الدين محمد، وكتب إلى السلطان بجلوسِه، وطلبه للصُّلحِ وإخماد الفتنة، وسَيَّرَ إليه رسله.
نزوح كثير من عائلات التتار المسلمة إلى مصر .
العام الهجري : 704 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1304
تفاصيل الحدث:
حضر جماعةٌ من المغول وافدينَ إلى بلاد الإسلام بعد إسلامِهم، نحو مائتي فارس بنسائِهم وأولادهم، وفيهم عِدَّةٌ من أقارب غازان وبعض أولاد سنقر الأشقر، الذي كتب يحُثُّ على إكرامهم، فقَدِموا إلى القاهرة في جمادى الأولى وقَدِمَ معهم أخوا سلار، وهما فخر الدين داود، وسيف الدين جبا، وقَدِمَت أيضًا أم سلار، فرُتِّبَت لهم الرواتب، وأُعطوا الإقطاعات، وفُرِّق جماعةٌ منهم على الأمراء، وأنشأ سلار لأمِّه دارًا بإسطبل الجوق الذي عَمِلَه العادل كتبغا ميدانًا، ثم عرف بحكر الخازن، ورقَّى أخويه وأعطاهما الإمريات، وقدم الأمير حسام الدين أزدمر المجيري، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن معرف بن السكري، من بلاد الشرق إلى دمشقَ في الرابع عشر من شعبان، ودخلا القاهرةَ أول رمضان، ومعهما كتابُ خربندا وهديته، فتضَمَّن كتابُه جلوسَه على تخت الملك بعد أخيه محمود غازان، وخاطب السلطانَ بالأخوة، وسأل إخماد الفتن، وطلب الصلحَ، وقال في آخر كلامه: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، فأُجيبَ وجُهِّزَت له الهَديَّةُ، وأُكرِمَ رَسولُه.
شيخ الإسلام ابن تيمية يهدم الصخرة المزعوم أن فيها أثر النبي صلى الله عليه وسلم .
العام الهجري : 704 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1305
تفاصيل الحدث:
سار الشيخُ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجدِ النارنج وأمر أصحابَه ومعهم حجَّارونَ بقَطعِ صَخرةٍ كانت هناك بنهر قلوط تزارُ ويُنذَرُ لها، ويقولون إن الأثَرَ الذي بها هو قَدَمُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم، فبَيَّنَ أن ما يفعَلُه الناس من التبرك به وتقبيلِه لا يجوز، فقَطَع الصخرةَ في سادس عشر رجب، وقد أنكر عليه الناسُ ما فعله فأُجيبَ إن كان الأمرُ على ما زعم فقد فعل الخيرَ وأزال بدعة، وإن كان الأمرُ بخلاف ما قال فإذا تبيَّنَ صِحَّتُه يقابَلُ على ما فَعَله، فقطعها وأراح المسلمينَ منها ومن الشِّركِ بها، فأزاح عن المسلمينَ شُبهةً كان شَرُّها عظيمًا، وبهذا وأمثالِه حَسَده بعضُ العلماءِ وأبرزوا له العداوة، وكذلك كلامُه في ابن عربي وأتباعِه، فحُسِدَ على ذلك وعُودِي، ومع هذا لم تأخُذْه في اللهِ لومة لائمٍ، ولا بالى، ولم يَصِلوا إليه بمكروهٍ، وأكثَرُ ما نالوا منه الحبسُ، مع أنه لم ينقَطِعْ في بحثٍ لا بمصرَ ولا بالشامِ!
مسير شيخ الإسلام ابن تيمية مرة ثانية إلى كسروان الدروز والروافض .
العام الهجري : 704 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1305
تفاصيل الحدث:
في مستهَلِّ ذي الحجَّة ركبَ الشيخ تقي الدين ابن تيمية ومعه جماعةٌ من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيبُ الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقًا من الرافضة والدروز وألزَموهم بشرائِعِ الإسلامِ، ورجع مُؤيَّدًا منصورًا.
مدينة سبتة بين بني مرين وبين بني الأحمر .
العام الهجري : 705 العام الميلادي : 1305
تفاصيل الحدث:
استولى السلطانُ محمد الثالث الملَقَّب بالمخلوع بن محمد الثاني الملقَّب بالفقيه على مدينة سبتة، ولكنَّ السلطانَ محمد بن الأحمر توجَّه بأسطول فاسترَدَّ سبتة من بني مرين.
محاربة الأرمن أهل سيس .
العام الهجري : 705 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1305
تفاصيل الحدث:
أخَّر متمَلِّكُ سيس الحملَ الجاريَ به العادة، فبعث إليه نائِبُ حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحدَ مقدَّمي حلب على عسكرٍ نحو الألفين، وفيهم الأميرُ شمس الدين أقسنقر الفارسي والأميرُ فتح الدين صبرة المهمندار- الذي يتلقَّى الرسُلَ والمبعوثين- والأمير قشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، فشنوا الغاراتِ على بلاد سيس، ونهبوا وحَرَّقوا كثيرًا من الضياع، وسَبَوا النساءَ والأطفال في المحَرَّم، وكان قد وصل إلى سيس طائفةٌ من التتار في طلب المال، فركِبَ التتار مع صاحِبِ سيس، وملَكوا رأس الدربند، فركب العسكرُ لقتالهم وقد انحصروا، فرمى التتارُ عليهم بالنشاب والأرمن بالحجارة، فقُتِلَ جماعةٌ وأُسِرَ من الأمراءِ ابن صبرة، وقشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في آخرينَ مِن أهل حلب، وخَلُصَ قشتمر مُقَدَّم العسكر، وآقسنقر الفارسي، وتوجَّه التتار بالأسرى إلى خربندا بالأردن، فرسم عليهم, وبلَغَ نائبَ حلب خبَرُ الكسرة، فكتب بذلك إلى السلطانِ الناصر والأمراء، فرسم بخروجِ الأمير بكتاش أمير سلاح، وبيبرس الدوادار وأقوش الموصلي فتال السبع، والدكن السلاح دار، فساروا من القاهرة في نصف شعبان على أربعة آلاف فارس، فبعث متمَلِّك سيس الحمل، واعتذر بأنَّ القتالَ لم يكن منه وإنما كان من التتر، ووعده بالتحَيُّل في إحضار الأمراء المأسورين، فرجع الأميرُ بكتاش بمن معه من غَزَّة.
======
ج 144.
محاربة أهل الكسروان والجرد .
العام الهجري : 705 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1305
تفاصيل الحدث:
خرج نائِبُ السلطنة بمن بقي من الجيوشِ الشاميَّة، وقد كان تقَدَّمَ بين يديه طائفةٌ من الجيش مع ابن تيميَّة في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرَّفضِ والتيامنة والدروز فخرج نائبُ السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروجِ الشيخ لغزوهم، فنصَرَهم الله عليهم وأبادوا خلقًا كثيرًا منهم ومِن فِرقَتِهم الضالَّة، ووَطِئوا أراضيَ كثيرةً مِن صُنعِ بلادهم، وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشقَ في صحبته الشَّيخُ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبَبِ شهود الشيخ هذه الغزوةَ خَيرٌ كثيرٌ، وأبان الشيخ علمًا وشجاعةً في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوبُ أعدائه حسدًا له وغَمًّا.
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للصوفية .
العام الهجري : 705 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1305
تفاصيل الحدث:
حضر جماعةٌ كثيرة من الفقراء الأحمدية في يوم السبت تاسع جمادى الأولى إلى نائب السَّلطنةِ بالقصر الأبلق وحضر الشيخُ تقي الدين ابن تيمية فسألوا من نائب السلطنةِ بحَضرةِ الأمراء أن يكُفَّ الشيخ تقي الدين إمارتَه عنهم، وأن يسَلِّمَ لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكِنُ، ولا بُدَّ لكل أحد أن يدخُلَ تحت الكتاب والسنة، قولًا وفعلًا، ومن خرج عنهما وجب الإنكارُ عليه، فأرادوا أن يفعلوا شيئًا من أحوالِهم الشيطانيَّة التي يتعاطَونَها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوالٌ شيطانيَّةٌ باطلة، وأكثَرُ أحوالهم من باب الحِيَل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخُلَ النارَ فليدخُلْ أوَّلًا إلى الحَمَّامِ وليغسل جسَدَه غَسلًا جَيِّدًا ويَدلكَه بالخَلِّ والأُشنان ثم يدخُل بعد ذلك إلى النَّارِ إن كان صادقًا، ولو فرض أن أحدًا من أهل البِدَعِ دخل النار بعد أن يغتَسِلَ فإن ذلك لا يدُلُّ على صلاحِه ولا على كرامتِه، بل حالُه من أحوال الدَّجاجِلة المخالِفة للشريعة إذا كان صاحِبُها على السُّنَّة، فما الظنُّ بخلاف ذلك؟! فابتدر شيخُ المنيبع الشيخُ الصالح وقال: نحن أحوالُنا إنما تَنفُق عند التتر ليست تَنفُق عند الشرع، فضبط الحاضرونَ عليه تلك الكلمة، وكثُرَ الإنكار عليهم من كل أحدٍ، ثم اتفق الحالُ على أنهم يخلعون الأطواقَ الحديدَ مِن رقابهم، وأنَّ من خرج عن الكتابِ والسنة ضُرِبَت عنقه، وصنَّف الشيخُ جزءًا في طريقة الأحمدية، وبيَّنَ فيه أحوالهم ومسالِكَهم وتخيُّلاتِهم، وما في طريقتِهم من مقبولٍ ومَردودٍ بالكتاب، وأظهر اللهُ السنة على يديه وأخمد بدعتَهم، ولله الحمدُ والمِنَّة.
محنة شيخ الإسلام ابن تيمية وحبسه في القاهرة بسبب الاعتقاد .
العام الهجري : 705 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1306
تفاصيل الحدث:
حضر القضاةُ والعُلَماءُ وفيهم الشيخُ تقيُّ الدين ابن تيمية في يوم الاثنين ثامِنَ رجب عند نائب السلطنةِ بالقَصرِ، وقُرئت عقيدةُ الشيخ تقي الدين ابن تيمية الواسطيَّة، وحصل بحثٌ في أماكِنَ منها، وأُخِّرَت مواضِعُ إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يومَ الجمعة بعد الصلاة في الثاني عشر من هذا الشهر, وحضر الشيخُ صفي الدين الهندي، وتكلَّمَ مع الشيخِ تقيِّ الدين كلامًا كثيرًا، ولكِنَّ ساقِيَتَه لاطمت بحرًا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاقِقُه من غيرِ مُسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر النَّاسُ من فضائل الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني وجَودةِ ذِهنِه وحُسنِ بحثِه حيث قاومَ ابن تيميَّة في البحث، وتكَلَّم معه، ثم انفصل الحالُ على قبول العقيدة، وعاد الشيخُ إلى منزله مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وكان الحامِلُ على هذه الاجتماعات كتابًا ورد من السلطان في ذلك، كان الباعِثُ على إرسالِه قاضي المالكيَّة ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أنَّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكَلَّم في المنبجي وينسِبُه إلى اعتقادِ ابن عربي، وكان للشيخِ تقي الدين من الفُقَهاءِ جماعة يحسُدونَه لتقَدُّمِه عند الدولة، وانفرادِه بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وطاعةِ الناس له ومحبَّتِهم له، وكثرةِ أتباعِه، وقيامه في الحق، وعِلمِه وعَمَلِه، ثم وقع بدمشقَ خَبطٌ كثير وتشويشٌ بسبب غيبةِ نائب السلطنة، وطَلَب القاضي جماعةً من أصحاب الشيخ وعَزَّرَ بَعضَهم ثمَّ اتفق أن الشيخ جمال الدين المِزِّي الحافظ قرأ فصلًا بالردِّ على الجهميَّة من كتابِ أفعال العباد للبخاريِّ تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعضُ الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدوًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية, فسَجَن المزِّي، فبلغ الشيخَ تقي الدين فتألَّم لذلك وذهب إلى السجنِ فأخرجه منه بنَفسِه، وراح إلى القصرِ فوجد القاضيَ ابن صصرى هنالك، فتقاولا بسبب الشيخِ جمالِ الدين المزِّي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيدَه إلى السجن وإلَّا عزل نفسَه فأمر النائِبُ بإعادتِه تطييبًا لقلب القاضي فحَبَسه عنده في القوصيَّة أيامًا ثم أطلقه، ولما قدم نائبُ السلطنة ذكر له الشيخُ تقي الدين ابن تيمية ما جرى في حقِّه وحَقِّ أصحابه في غيبته، فتألم النائِبُ لذلك ونادى في البلدِ ألَّا يتكلم أحدٌ في العقائِدِ، ومن عاد إلى تلك حَلَّ مالُه ودَمُه ورُتِّبَت داره وحانوته، فسكنت الأمور، ثم عُقِدَ المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصرِ واجتمع جماعةٌ على الرضا بالعقيدة الواسطية, وفي هذا اليوم عزلَ ابنُ صصرى نفسَه عن الحكم بسبب كلامٍ سمعه من بعض الحاضرينَ في المجلس، وهو من الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتابُ السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادةُ ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارةِ المنبجي، وفي الكتابِ: إنا كنا سمعنا بعقدِ مَجلِسٍ للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلَغَنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأنه على مذهب السَّلَفِ، وإنما أردنا بذلك براءةَ ساحتِه مِمَّا نسب إليه، ثم جاء كتابٌ آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشفُ عن ما كان وقع للشيخِ تقي الدين ابن تيمية في أيَّام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني، وأن يُحمَلَ هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجَّها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخِ خَلقٌ من أصحابه وبَكَوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائبُ السلطنة ابن الأفرم بترك الذَّهابِ إلى مصر، وقال له: أنا أكاتِبُ السلطان في ذلك وأصلِحُ القضايا، فامتنع الشيخُ من ذلك، وذكَرَ له أن في توجُّهِه لمصر مصلحةً كبيرة، ومصالحَ كثيرة، فلما كان يومُ السبت دخل الشيخُ تقيُّ الدين غزَّةَ فعَمِلَ في جامعها مجلسًا عظيمًا، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلِّقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنَّهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يومُ الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاةُ وأكابر الدولة وأراد أن يتكَلَّم على عادته فلم يتمكَّن من البحث والكلامِ، وانتدب له الشَّمسُ ابن عدنان خصمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنَّ الله فوق العَرشِ حَقيقةٌ، وأنَّ الله يتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، فسأله القاضي جوابَه فأخذ الشيخُ في حمد اللهِ والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومن الحاكِمُ فيَّ؟! فقيل له: القاضي المالكي، فقال له الشَّيخُ: كيف تحكمُ فيَّ وأنت خصمي، فغضب غضبًا شديدًا وانزعج وأقيمَ مَرسمٌ عليه وحُبِسَ في برج أيامًا، ثم نقِلَ منه ليلة العيد إلى الحبس المعروفِ بالجُبِّ، هو وأخوه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، وأما ابن صصرى فإنه جُدِّدَ له توقيعٌ بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشقَ يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوسُ منه نافرة، وقرئ تقليدُه بالجامع، وبعده قرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشاميَّة، وألزِمَ أهلُ مذهبه بمخالفتِه، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخُه نصر المنبجي، وساعدهم جماعةٌ كثيرةٌ من الفقهاء والصوفيَّة وجرت فِتَنٌ كثيرة منتشرة، نعوذُ بالله من الفتن، وحصل للحنابلةِ بالديار المصرية إهانةٌ عظيمة كثيرة، وذلك أنَّ قاضِيَهم كان قليلَ العِلمِ مُزجَى البضاعةِ، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابُهم ما نالهم، وصارت حالُهم حالًا مؤلمة.
قدوم وفد من الصوفية من التتار إلى دمشق .
العام الهجري : 706 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1306
تفاصيل الحدث:
وَفَدَ لدمشق رجلٌ من بلاد التتار يقال له الشيخُ براق الرومي- كان في الأصل مريدًا لبعض الشيوخِ في البلاد الروميَّة- في تاسع جمادى الأولى، ومعه جماعةٌ من الفقراء نحو المائة لهم هيئةٌ عجيبةٌ، وعلى رؤوسِهم كلاوت لباد مقصَّصة بعمائِمَ فوقها، وفيها قرونٌ من لباد شبه قرون الجاموس فيها أجراسٌ، ولِحاهم مُحَلَّقة دون شواربهم خلافًا للسنَّة، ولُبسُهم لبابيدُ بيضاء، وقد تَقَلَّدوا بحبالٍ منظومة بكعاب البقر، وكلٌّ منهم مكسور الثنية العُليا، وشيخُهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدامٌ وجرأة وقوَّةُ نفس وله صولة، ومعه طبلخاناه- فرقة الطبول والأبواق- تدق له نوبة، وله محتَسِبٌ على جماعته يؤدِّبُ كُلَّ من ترك شيئًا من سُنَّتِه بضرب عشرينَ عصًا تحت رجلَيه، وهو ومن معه ملازِمونَ التعبُّدَ والصلاة، وأنه قيل له عن زِيِّه، فقال: أردتُ أن أكونَ مَسخرةَ الفُقراءِ، وذكر أن غازان لما بلغه خَبَرُه استدعاه وألقى عليه سَبُعًا ضاريًا، فزجره فهرب منه السَّبُع، فجَلَّ في عين غازان ونثر عليه عشرة آلاف دينار، وطلب دخولَ مصرَ لكِنَّه مُنِعَ من ذلك، فسار إلى القدسِ، ثم رجع إلى بلاده لأنَّه لم يلقَ قَبولًا في دمشق، وبراق هذا أصلُه من الروم.
وفاة أبي يعقوب يوسف المريني ملك المغرب .
العام الهجري : 706 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1307
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ أبو يعقوب يوسُفُ بن يعقوب بن عبد الحَقِّ بن محيو بن أبي بكر بن حمامة ملك المغرب. وثب عليه سعادةُ الخَصِيُّ أحدُ مواليه في بعضِ حُجَرِه، وقد خَضَّب رجلَيه بالحنَّاء وهو مُستلقٍ على قَفاه، فطعنه طعناتٍ قطَعَ بها أمعاءه، وخرج فأُدرِكَ وقُتِلَ، فمات السلطانُ آخِرَ يوم الأربعاء سابع ذي القعدة، وأقيم بعده حفيدُه أبو ثابت عامر ابن الأمير أبي عامر بن السلطان أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، وكانت مُدَّةُ حُكمِه إحدى وعشرين سنةً.
قتل برلغوا المغولي المسلم ملك سيس هيتوم .
العام الهجري : 707 العام الميلادي : 1307
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ هيتوم متمَلِّكُ سيس على يد بعضِ أمراء المغول؛ وذلك أنَّ هيتوم كان يحمِلُ القطعيَّة إلى المغول كما يحمِلُها إلى مصر، ويحضُر إلى كلِّ سنة أميرٌ من أمرائهم حتى يتسَلَّم الحَملَ، فحضر إليه من أمراء المغول برلغوا، وقد أسلَم وحَسُن إسلامُه، فعزم على بناءِ جامعٍ بسيس يعلَنُ فيه بالأذان، كما تجهَرُ هناك النصارى بضرب النواقيس، فشَقَّ ذلك على هيتوم، وكتب إلى خدبندا بأنَّ برلغوا يريد اللَّحاقَ بأهلِ مصر، وبناء جامع بسيس، فبعث خدبندا بالإنكارِ على برلغوا، وتهدَّدَه وألزمه بالحضورِ، فغضب برلغوا من هيتومِ، وصنع طعامًا ودعاه، ولم يكُنْ عنده عِلمٌ بأنَّ برلغوا اطَّلَع على شكواه منه لخدبندا، فحضر وهو آمِنٌ في جماعةٍ مِن أكابر الأرمنِ وإخوان له، فعندما مدُّوا أيديهم إلى الطعام أخذَتهم السيوفُ مِن كُلِّ جانب، فقُتِلوا عن آخِرِهم، ولم ينجُ سوى أخوه ليفون في نفَرٍ قليل، فلَحِقَ بخدبندا وأعلَمَه بقتل برلغوا لأخيه هيتوم وأمرائِه، وقَدِمَ عليه أيضًا برلغوا، فقَتَله بقَتلِه هيتوم.
حرب بين التتار وبين أهل كيلان .
العام الهجري : 707 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1307
تفاصيل الحدث:
وقعت حربٌ بين التتار وبين أهلِ كيلان غربي طبرستان؛ وذلك أنَّ مَلِكَ التتار خربندا طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقًا إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل خربندا جيشًا كثيفًا ستين ألفًا من المقاتِلة؛ أربعين ألفًا مع قطلوشاه وعشرين ألفًا مع جوبان، فأمهلهم أهلُ كيلان حتى توسَّطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجًا من البحرِ ورَموهم بالنِّفطِ فغَرِقَ كثيرٌ منهم واحترق آخرونَ، وقَتَلوا بأيديهم طائفةً كثيرة، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا القليل، وكان فيمن قُتِلَ أميرُ التتار الكبيرُ قطلوشاه، فاشتد غضَبُ خربندا على أهل كيلان، ولكنه فَرِحَ بقتل قطلوشاه فإنَّه كان يريدُ قَتلَ خربندا، فكفى أمره عنهم، ثمَّ قُتِلَ بعده بولاي، ثمَّ إن خربندا أرسل الشيخَ براق الرومي الصوفي الخرافي إلى أهلِ كيلان يبلِغُهم عنه رسالةً فقَتَله أهلُ كيلان وأراحوا الناسَ منه ومن ضلالاتِه، وبلادُهم من أحصَنِ البِلادِ وأطيبِها لا تُستطاعُ، وهم أهلُ سُنَّة وأكثَرُهم حنابلةٌ لا يستطيعُ مُبتَدِعٌ أن يسكُنَ بين أظهُرِهم.
وقوع خلاف بين السلطان الناصر وبين الأميرين بيبرس وسلار .
العام الهجري : 707 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1307
تفاصيل الحدث:
في أوائل المحَرَّم أظهر السلطانُ المَلِكُ الناصر الغَضَبَ على الأمير سيف الدين سلار المغولي وبيبرس الجاشنكير، وامتنع من العلامة- العلامة: هي ما يكتُبُه السلطانُ بخطِّه على صورة اصطلاحيَّة، وكان لكل سلطانٍ علامة وتوقيع- وأغلق القلعةَ وتحَصَّن فيها، ولزمَ الأميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعةٌ من الأمراء وحُوصِرَت القلعة، وغُلِّقَت الأسواق، ثم راسلوا السلطانَ فتأطَّدت الأمور وسكنت الشرور على دخَنٍ وتنافُرِ قلوبٍ، وقوي الأميران أكثَرَ مما كانا قبل ذلك. وركب السلطانُ ووقَعَ الصلحُ على دخَنٍ.
خروج الشيخ تقي الدين ابن تيمية من السجن .
العام الهجري : 707 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1307
تفاصيل الحدث:
اجتمع القضاةُ بالشيخِ تقي الدين ابن تيميَّة في دار الأوحدي من قلعةِ الجبل بمصر، وطال بينهما الكلامُ ثمَّ تفَرَّقا قبل الصلاة، والشيخُ تقيُّ الدين مُصَمِّمٌ على عدم الخروجِ من السجن، فلما كان يومُ الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأوَّل جاء الأميرُ حسام الدين مهنا بن عيسى مَلِك العرب إلى السجنِ بنَفسِه وأقسم على الشيخِ تقي الدين ليخرجَنَّ إليه، فلما خرجَ أقسَمَ عليه ليأتيَنَّ معه إلى دار نائبِ السلطانِ الأميرِ سيف الدين سلار المغولي، فاجتمعَ به بعضُ الفقهاء بدار سلار وجَرَت بينهم بحوثٌ كثيرة، ثم فَرَّقَت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغربِ وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يومَ الأحد بمرسومِ السلطان جميعَ النهار، ولم يحضُرْ أحدٌ من القضاة بل اجتمع من الفقهاءِ خلقٌ كثير، أكثَرُ من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان، وجماعة من الفقهاء، وطلبوا القضاةَ فاعتذروا بأعذار، بعضُهم بالمرض، وبعضُهم بغيره؛ لمعرفتهم بما ابنُ تيميَّة منطوٍ عليه من العلومِ والأدلَّةِ، وأنَّ أحدًا من الحاضرين لا يطيقُه، فقَبِلَ عذرَهم نائِبُ السلطنةِ ولم يكَلِّفْهم الحضورَ بعد أن رسم السلطانُ بحضورهم أو بفَصلِ المجلس على خير، وبات الشيخُ عند نائب السلطنة، وجاء الأميرُ حسام الدين مهنا يريد أن يستصحِبَ الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامةِ الشيخِ بمصر عنده ليرى الناسُ فَضلَه وعِلمَه، وينتَفِعَ الناسُ به ويشتغلوا عليه، فكتب الشيخُ كتابًا إلى الشام يتضَمَّنُ ما وقع له من الأمورِ.
حبس شيخ الإسلام ابن تيمية مرة أخرى بمصر .
العام الهجري : 707 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1308
تفاصيل الحدث:
وفي شوال مِن هذه السنة شكا الصوفيَّةُ بالقاهرة على الشيخِ تقيِّ الدين ابن تيميَّةَ, وكلامه في ابنِ عربي وغيرِه إلى الدولة، فردُّوا الأمرَ في ذلك إلى القاضي الشافعيِّ ابن صصرى، فعُقِد له مجلسٌ وادعى عليه ابنُ عطاء بأشياءَ فلم يثبُتْ عليه منها شيءٌ، لكنَّه قال: لا يُستغاثُ إلَّا بالله، لا يُستغاثُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالاستغاثةُ بمعنى العبادة، فبعضُ الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شَيءٌ, ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنَّ هذا فيه قِلَّةُ أدَبٍ!! فحضرت رسالةٌ إلى القاضي أن يعملَ معه ما تقتضيه الشريعةُ، فقال القاضي: قد قلتُ له ما يقالُ لِمِثله، ثمَّ إنَّ الدولة خيَّروه بين أشياء إمَّا أن يسيرَ إلى دمشقَ أو الإسكندريةِ بشُروطٍ أو الحبسِ، فاختار الحبسَ فدخل عليه جماعةٌ في السَّفَرِ إلى دمشق ملتَزِمًا ما شُرِط، فأجاب أصحابَه إلى ما اختاروا جبرًا لخواطِرِهم، فركب خَيلَ البريد ليلة الثامِنَ عشر من شوال ثم أرسلوا خلفَه من الغَدِ بريدًا آخرَ، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابنِ جماعة وعنده جماعةٌ مِن الفقهاء، فقال له بعضُهم: إن الدولةَ ما ترضى إلا بالحبسِ، فقال القاضي: وفيه مَصلحةٌ له، واستناب شمسُ الدين التونسي المالكي وأذِنَ له أن يحكُمَ عليه بالحبسِ فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيءٌ، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحَيَّرَ، فلما رأى الشيخُ توقُّفَهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبسِ وأتَّبِعُ ما تقتضيه المصلحةُ، فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضعٍ يصلُحُ لمِثلِه، فقيل له: الدولة ما ترضى إلا بمسمَّى الحبس، فأُرسِلَ إلى حبس القضاةِ في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعزِّ حين سُجن، وأُذِنَ له أن يكون عنده من يخدُمُه، وكان ذلك كلُّه بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولةِ، فإنَّه كان قد استحوذ على عَقلِ بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعدُ، وغيرِه من الدولة، والسلطانُ مقهورٌ معه، واستمر الشيخُ في الحبس يُستفتى ويقصِدُه الناسُ ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المُشكِلة التي لا يستطيعُها الفُقَهاءُ من الأمراءِ وأعيانِ النَّاسِ، فيكتُب عليها بما يحيرُ العُقولَ من الكتاب والسنَّة، ثم عُقِدَ للشيخ مجلسٌ بالصالحية بعد ذلك كُلِّه، ونزل الشيخُ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكَبَّ الناس على الاجتماعِ به ليلًا ونهارًا.
فتنة العبيد بمكة مع الأمير سيف الدين نوغاي القبجاقي .
العام الهجري : 707 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1308
تفاصيل الحدث:
قام الأميرُ سيف الدين نوغاي القبجاقي التتري أميرُ ركب الحاجِّ بمحاربة العبيدِ بمكَّةَ، وذلك أنهم كثُرَ تخطُّفُهم أموالَ التجَّار، وأخْذُهم من الناسِ بالغَصبِ ما أرادوا، فلما وقف بعضُهم على تاجرٍ ليأخُذَ قماشَه منَعَه، فضربه ضربًا مُبَرِّحًا، فثار الناسُ وتصايحوا، فبعث نوغاي مماليكَه إلى العبيد فأمسَكوا بعضَهم وفَرَّ باقيهم بعدما جُرِحوا، فرَكِبَ الشريفُ حميضة بن أبي نُمَي بالأشراف والعبيد للحَربِ، وركب نوغاي بمن معه، ونادى ألا يخرُجَ أحدٌ من الحاجِّ ولْيحفَظْ متاعَه، وساق فإذا طائفةٌ من السرويين قد فرُّوا من الخوف إلى الجبل، فقَتَل نوغاي منهم جماعة ظنًّا أنهم من العبيد، فكفَّ حميضة عن القتال.
ورود الخبر بتحرك الفرنج لغزو دمياط وبناء جسر هائل عليها .
العام الهجري : 708 العام الميلادي : 1308
تفاصيل الحدث:
ورد الخبَرُ بأن متمَلِّكَ قُبرُص اتَّفق مع جماعة من ملوك الفرنج على عمارةِ ستين سفينة لغزو دمياط، فجمع السلطانُ الناصر بن قلاوون الأمراءَ وشاوَرَهم، فاتَّفَقوا على عمل جسرٍ مادٍّ مِن القاهرة إلى دمياط خوفًا من نزولِ الفرنج أيَّامَ النيل، وندب لذلك الأمير جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، وأمر ألا يراعي أحدًا من الأمراءِ في تأخيرِ رجالِ بلاده، ورسَمَ للأمراء أن يُخرِجَ كُلٌّ منهم الرجالَ والأبقار، وكتب إلى الولاةِ بالمساعدة والعمل، وأن يخرُجَ كُلُّ والٍ برِجاله، وكان أقوش مَهيبًا عبوسًا قليلَ الكلام، له حُرمةٌ في قلوب الناس، فلم يصل إلى فارس كور حتى وجد ولاةَ العَمَل قد نصبوا الخِيَم وأحضروا الرجالَ، فاستدعى المهندسينَ ورَتَّب العمل، فاستقَرَّ الحال على ثلاثمائة جرَّافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وأحضر إليه نوَّابُ جميع الأمراء، فكان يركب دائمًا لتفقُّد العمل واستحثاث الرِّجال، بحيث إنَّه فقد بعضَ الأيام شادي الأمير بدر الدين الفتاح ورجالَه، فلما أتاه بعد طَلَبِه ضَرَبه نحو الخمسمائة عصاةً، فلم يغِبْ عنه بعد ذلك أحَدٌ، ونكَّلَ بكثيرٍ مِن مشايخ العربان، وضَرَبهم بالمقارعِ وخَزَم آنافَهم وقطَعَ آذانهم، ولم يكَدْ يسلَمُ منه أحد من أجناد الأمراءِ ومنشدي البلاد، وما زال يجتَهِدُ في العمل حتى أُنجِزَ الجسر في أقَلَّ مِن شهر، وكان ابتداؤُه من قليوب وآخره بدمياط، يسيرُ عليه الراكِبُ يومين، وعَرضُه من أعلاه أربعُ قَصَبات، ومن أسفَلِه ستُّ قصبات، يمشي ستة فرسان صَفًّا واحدًا، وعَمَّ النفع به، فإنَّ النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقَطِعَ الطُّرُقاتُ ويمتَنِعَ الوصول إلى دمياط، وحضَرَ بعد فراغه الأميرُ أقوش إلى القاهرة، وخُلِعَ عليه وشُكِرَت هِمَّتُه، ووقع الاتفاقُ على عمل جسر آخَرَ بطريق الإسكندرية، ونُدِبَ لعمله الأمير سيف الدين الحرمكي، فعمر قناطِرَ الجيزة إلى آخر الرمل تحت الهَرَمين، وكانت تهَدَّمت، فعم النفعُ بعمارتِها.
خلع محمد الثالث ملك بني نصر وتولي أخيه نصر بن محمد الثاني .
العام الهجري : 708 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1309
تفاصيل الحدث:
قام نصرُ بنُ محمد الثاني الملَقَّب بأبي الجيوش ابن السلطان الأحمر الأنصاري المغربي بالخروجِ على أخيه أبي عبد الله محمَّد الثالث وخَلَعه واستولى على الحُكمِ، ونفى أخاه المخلوعَ إلى حِصنِ المنكِبِ حتى توفِّيَ فيه عام 713.
خلع السلطان محمد بن قلاوون نفسه وتنصيب بيبرس الجاشنكير .
العام الهجري : 708 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1309
تفاصيل الحدث:
لمَّا استقَرَّ الملك ناصر بالكرك وعَزَم على الإقامة بها بعد أن خرج من مصرَ على أنَّه يريد الحَجَّ، كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضَمَّنُ عَزلَ نَفسِه عن المملكة، فأثبت ذلك على القُضاةِ بمصر، وكان قد اشتَدَّ حَنَقُه، وصار في غاية الحَصرِ مِن تحَكُّم بيبرس الجاشنكيري- متذوِّق طعام السلطان- وسيف الدين سلار المغولي عليه، وعَدَم تصَرُّفِه ومَنْعه من كلِّ ما يريد، حتى إنه ما يصِلُ إلى ما يشتهي أكلَه لقِلَّةِ المُرَتَّب، فلولا ما كان يتحَصَّلُ له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلًا إلى بلوغِ بعض أغراضِه، فكانت مُدَّةُ سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم نفذَ على قضاة الشامِ وبُويِعَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنةِ في الثالث والعشرين من شوَّال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيانُ الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالمَلِك المظَفَّر، ورَكِبَ إلى القلعة ومَشَوا بين يديه، وجلس على سريرِ المَملكة بالقلعة، ودُقَّت البشائِرُ وسارت البريدية بذلك إلى سائِرِ البلدان، وفي مستهَلِّ ذي القعدة وصل الأميرُ عز الدين البغدادي إلى دمشق فاجتمع بنائِبِ السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقَصرِ الأبلقِ، فقرأ عليهم كتابَ الناصر إلى أهل مصر، وأنَّه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبَتَه القضاة وامتنع الحنبليُّ من إثباته وقال: ليس أحدٌ يترُكُ المُلكَ مُختارًا، ولولا أنَّه مُضطهدٌ ما تركه، فعُزِلَ وأقيم غيره، واستحلَفَهم للسلطانِ الملك المظفر ركن الدين بيبرس، وكُتِبَت العلامة على القلعة، وألقابُه على محالِّ المملكة، ودُقَّت البشائِرُ وزُيِّنَت البلد، ولما قرئَ كتاب الملك الناصر على الأمراءِ بالقصر، وفيه: إني قد صَحِبتُ الناس عشر سنين ثم اخترت المقامَ بالكرك، تباكى جماعةٌ من الأمراء وبايعوا كالمُكرَهين، وتولى مكانَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأميرُ سيف الدين بن علي، ويُذكَرُ أن أصل بيبرس هذا من مماليكِ الملك المنصور قلاوون البرجية، وكان شركسي الجِنسِ، ولم نعلم أحدًا ملَكَ مِصرَ مِن الشراكسة قبله إن صَحَّ أنه كان شَركسيًّا.
إظهار خدبندا ملك التتار الرفض في بلاده .
العام الهجري : 709 العام الميلادي : 1309
تفاصيل الحدث:
أظهر خدبندا ملك التتر الرَّفضَ في بلاده، وأمر الخطباءَ أوَّلًا ألَّا يذكُروا في خُطبتِهم إلَّا عليَّ بنَ أبي طالب رضي اللهُ عنه وأهلَ بيته، ولما وصل خطيبُ بلاد الأزج إلى هذا الموضِعِ مِن خُطبتِه بكى بكاءً شديدًا وبكى الناسُ معه، ونزل ولم يتمكَّنْ من إتمام الخطبة، فأقيم مَن أتَمَّها عنه وصلَّى بالناس وظَهَر على الناسِ بتلك البلاد من أهل السُّنَّة أهلُ البدعةِ!
إنشاء المدرسة الطيبرسية في الجامع الأزهر .
العام الهجري : 709 العام الميلادي : 1309
تفاصيل الحدث:
أنشأها علاءُ الدين طيبرس الخازندار نقيبُ الجيوشِ بالدِّيارِ المصريةِ، وهي على يمينِ الداخِلِ من باب الجامِعِ الأزهرِ المعروفِ بباب المزينين، وتمَّ الانتهاءُ مِن بنائها في عهد السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون، فكانت من المدارس الملحَقة بالأزهر، وعُرِفت بالمدرسة الطيبرسية نسبةً إلى علاء الدين مؤسِّسِها الذي قرَّر أن يُدرِّسَ فيها درسًا للفقهاء الشافعية. وأنشأ بجوارِها مِيضأةً وحوضَ ماء سبيل ترِدُه الدواب، وتأنَّقَ في رخامها وتذهيبِ سقوفِها.
استيلاء الأسبان على جبل طارق .
العام الهجري : 709 العام الميلادي : 1309
تفاصيل الحدث:
فرديناند الرابع ملك قشتالة وخايمي ملك أرغون يستوليانِ على جبل طارق، لِمَنع اتِّصالِ مَملكةِ بني مرين بالمَغربِ بمَملكة بني الأحمر بغِرناطة.
خلع الملك المظفر الجاشنكيري وعودة السلطان الناصر قلاوون .
العام الهجري : 709 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1310
تفاصيل الحدث:
لم يكتَفِ بيبرسُ الجاشنكيري بمُلكِ مِصرَ، بل ذهب يطلُبُ مِن الملك الناصِرِ المخلوعِ ما بيَدِه في الكرك، وذلك بتحريضِ وتخويفِ الأمراء له من الناصِرِ، فأصبح يريدُ أن يجرِّدَ النَّاصِرَ مِن كُلِّ شَيءٍ، فكان هذا من أسبابِ عَودةِ النَّاصِرِ لطَلَبِ المُلك، حيث حَبَس الناصِرُ مغلطاي رسولَ المظَفَّر بيبرس الذي جاء لأخذِ باقي أموالِ ومماليك الناصِرِ من الكرك، فخاف المظَفَّر بيبرس من ذلك، واشتهر بالدِّيارِ المِصريَّة حركةُ الملك الناصر محمَّد وخروجه من الكرك، فماجت النَّاسُ، وتحرك الأميرُ نوغاي القبجاقي، وكان شجاعًا مِقدامًا حادَّ المزاجِ قَوِيَّ النفس، وكان من ألزامِ الأمير سلار النائب، وتواعَدَ مع جماعةٍ مِن المماليك السلطانية أن يَهجُمَ بهم على السُّلطانِ الملك المظَفَّر إذا رَكِبَ ويَقتُلَه، فلما ركبَ المظَفَّر ونزل إلى بركةِ الجُبِّ استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفَتكَ بالمظَفَّر في عودِه من البركة، وتقرب نوغاي من السلطانِ المظَفَّر بيبرس قليلًا قليلًا، وقد تغيَّرَ وجهُه وظهر فيه أماراتُ الشَّرِّ، ففطن به خواصُّ المظفر وتحَلَّقوا حول المظفر، فلم يجِدْ نوغاي سبيلًا إلى ما عزم عليه، وعاد المَلِكُ المظفر إلى القلعة فعَرَّفه ألزامه ما فَهِموه من نوغاي، وحَسَّنوا له القبضَ عليه وتقريرَه على من معه، فاستدعى المَلِكُ المظفَّر الأميرَ سلار وعرَّفه الخبَرَ، وكان نوغاي قد باطَنَ سلار بذلك، فحَذَّر سلار المَلِكَ المظَفَّر وخَوَّفَه عاقبةَ القَبضِ على نوغاي، وأن فيه فسادَ قلوب جميع الأمراء، وليس الرأيُ إلَّا الإغضاء فقط، وقام سلار عنه، فأخذ البرجيَّة بالإغراء بسلار وأنه باطَنَ نوغاي، ومتى لم يقبِضْ عليه فسد الحالُ، وبلغ نوغاي الحديثُ، فواعد أصحابَه على اللَّحاقِ بالملك الناصر، وخرج هو والأميرُ مغلطاي القازاني الساقي ونحو ستين مملوكًا وقت المغرب عند غَلقِ باب القلعة في ليلةِ الخميس خامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة، وقيلَ في أمر نوغاي وهروبِه وجهٌ آخَرُ، ثم أرسل خَلفَهم المَلِكُ المظَفَّر بيبرس مَن يعيدُهم، ولكن لم يَقدِروا عليهم وعادوا إلى مصر، أمَّا هؤلاء لَمَّا وصلوا إلى الناصر محمد وأعلموه بالأمرِ قَوِيَ في نفسه الرجوعُ للمُلكِ، فكاتب النوابَ فأجابوه بالسَّمعِ والطَّاعةِ، وأخذ المَلِكُ النَّاصِرُ في تدبيرِ أمرِه، وبينما المظَفَّر في ذلك ورد عليه الخبَرُ من الأفرم بخروجِ المَلِك الناصِرِ مِن الكرك، فقَلِقَ المظَفَّر من ذلك وزاد توَهُّمه؛ ونفَرَت قلوبُ جماعةٍ مِن الأمراء والمماليك منه، وخَشُوا على أنفُسِهم، واجتمع كثيرٌ من المنصوريَّة والأشرفيَّة والأويراتية وتواعدوا على الحَربِ، وأمَّا الملك المظَفَّر بيبرس هذا فإنَّه أخذ في تجهيزِ العساكِرِ إلى قتال المَلِك الناصِرِ محمد بن قلاوون حتى تمَّ أمرُهم وخرجوا مِن الدِّيارِ المِصريَّة في يوم السَّبتِ تاسِعَ شهر رجب وعليهم خمسةُ أمراء من مُقَدَّمي الألوفِ، فلم يكُنْ إلَّا أيامٌ وورد الخبر ثانيًا بمسير الملك الناصِرِ محمد من الكرك إلى نحو دمشق، فتجهَّزَت عسكر المظَفَّر بيبرس في أربعة آلاف فارس وخرجوا من القاهرة في العشرين من شعبان إلى العبَّاسة، ثمَّ إنَّ المظَفَّر أخذَ عَهدًا من الخليفة العباسي بمصر أنَّه هو السلطانُ، ولكن قَدِمَ عليه الخبَرُ في خامس عشرين شعبان باستيلاء الملك الناصر على دِمشقَ بغيرِ قِتالٍ، فعَظُمَ ذلك على المَلِك المظفَّر وأظهر الذِّلَّة، وخرجت عساكِرُ مِصرَ شيئًا بعد شيءٍ تريد المَلِكَ الناصِرَ حتى لم يبقَ عنده بالدِّيارِ المصريَّة سوى خواصِّه من الأمراء والأجناد، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان استدعى الملِكُ المظَفَّر الأمراءَ كُلَّهم واستشارهم فيما يفعل، فأشار الأمير بيبرس الدوادار المؤرخ والأمير بهادر آص بنزوله عن المُلكِ والإشهادِ عليه بذلك كما فعله المَلِكُ الناصر، وتسير إلى الملك الناصر بذلك وتَستَعطِفُه، وتخرُجُ إلى إطفيح بمن تثِقُ به، وتقيمُ هناك حتى يَرِدَ جوابُ الملك الناصِرِ عليك فأعجبه ذلك، وقام ليجَهِّزَ أمْرَه، وبعث بالأميرِ بيبرس الدوادار إلى المَلِك الناصر محمد يُعَرِّفه بما وقع، وقيل إنه كتب إلى الملك الناصر يقولُ: " والذي أعَرِّفُك به أني قد رجعت أقلِّدُك بغيك؛ فإن حبستَني عددتُ ذلك خلوةً، وإن نفيتَني عددتُ ذلك سياحةً، وإن قتلتَني كان ذلك لي شهادةً" فلما سمع الملك الناصر ذلك، عَيَّنَ له صهيون ثمَّ اضطربت أحوالُ المظَفَّر بيبرس وتحَيَّرَ، وقام ودخل الخزائِنَ، وأخذ من المال والخيل ما أحَبَّ، وخرج من يومِه مِن باب الإسطبل في مماليكِه وعِدَّتُهم سبعُمائة مملوك، ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وعَلِمَت العوام بذلك فأخذوا باللَّحاقِ بهم وضَرْبِهم، وفي يوم الجمعة تاسع عَشَرِه خُطِبَ على منابر القاهرة ومِصرَ باسمِ الملك الناصر، وأُسقِطَ اسمُ الملك المظفر بيبرس هذا وزال مُلكُه، ولما فارق القلعةَ أقام بإطفيح يومين؛ ثم اتَّفَق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح إلى المسير إلى بُرقة، وقيل بل إلى أسوان، ثم أمر الناصِرُ بإحضاره.
فتنة بين القيسية واليمانية بحوران .
العام الهجري : 709 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1310
تفاصيل الحدث:
في سادَسَ عَشَر شوال وقع بين أهلِ حوران من قيس ويَمَن فقتل منهم مقتلةٌ عَظيمةٌ جِدًّا، قُتِلَ مِن الفريقينِ نحوٌ من ألف نفسٍ بالقُربِ من السويداء (جنوبي سوريا)، وكانت الكسرةُ على يمن، فهربوا من قيس حتى دخل كثيرٌ منهم إلى دمشقَ في أسوأ الحال وأضعفِه، وهَرَبت قيس خوفًا من الدولةِ، وبَقِيَت القُرى خاليةً والزُّروعُ سائبةً.
مقتل الملك المظفر بيبرس الجاشنكيري المخلوع .
العام الهجري : 709 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1310
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ المظَفَّر رُكنُ الدين بيبرس البرجي الجاشنكير- متذوِّق طعام السلطان- المنصوري. كان يُعرَف بالعثماني كان أبيضَ أشقرَ مُستدير اللحية، فيه عقل ودِينٌ، وله أموالٌ لا تحصى، وله إقطاعٌ كبيرٌ فيه عدَّة إقطاعات لأمراءَ، كان أستاذ دار الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلار نائبًا فحَكَما في البلاد وتصَرَّفا في العباد، وللسُّلطانِ الاسمُ لا غير، وكان نواب الشام خوشداشية- زملاء مهنته- الجاشنكير وحزبه من البرجيه قويًّا، فلما توجه الملك الناصر إلى الحجاز ورَدَّ من الطريق إلى الكرك وأقام بها، لَعِبَ الأميرُ سيف الدين سلار بالجاشنكير وسَلْطَنَه وسُمِّيَ بالملك المظَفَّر، وفَوَّضَ الخليفةُ إليه ذلك وأفتى جماعةٌ من الفقهاء له بذلك، وكُتِبَ تقليدُه وركب بخِلعةِ الخلافةِ السَّوداء والعمامة المدوَّرة والتقليد على رأسِ الوزير، وناب له الأمير سيف الدين سلار واستوسق له الأمر، فأطاعه أهل الشام ومصر وحلفوا له في شوال سنة ثمانٍ وإلى وسط سنة تسع، فغضب منه الأمير سيف الدين برلغي وجماعةٌ من الخاصكية نحو المائة وخامروا عليه إلى الكرك، فخرج السلطان الناصر بن قلاوون المخلوع من الكرك وحضر إلى دمشقَ وسار في عسكر الشام إلى غزَّة، فجَهَّز المظفر يزكا- طلائع- قَدَّمَ عليهم الأميرَ سيفَ الدين برلغي فخامر إلى الناصر فذَلَّ المظَفَّر وهرب في مماليكه نحو الغرب, فلما خرج الأميرُ سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجِّهًا إلى نيابة الشام عِوَضًا عن الأفرم، فلمَّا كان بغزَّة في سابع ذي القعدة ضرب حلقةً لأجل الصيد، فوقع في وسَطِها بيبرس الجاشنكير في ثلاثمائةٍ من أصحابه فأُحيطَ بهم وتفَرَّقَ عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن، فلما كان بالخطارة تلقَّاهم استدمر فتسَلَّمَه منهم، ورجعا إلى عسكَرِهم، ودخل به استدمر على السُّلطانِ فعاتبه ولامه، وكان آخِرَ العهد به، فقُتِلَ ودُفِنَ بالقرافة ولم ينفَعْه شَيءٌ ولا أمواله، بل قُتِلَ شَرَّ قِتلةٍ، حيث أحضره السلطانُ فقَرَّره بكلِّ ما فعله من شنائِعَ على السلطان وهو يقِرُّ بذلك، ثمَّ أمَرَ به فخُنِقَ بين يديه بوَتَرٍ حتى كاد يَتلَف، ثمَّ سَيَّبَه حتى أفاق، وعنَّفَه وزاد في شَتمِه، ثم خنَقَه ثانيًا حتى مات، وأنزل على جنوية إلى الإسطبل السلطاني فغُسِّلَ ودُفِنَ خلف قلعةِ الجبل، وذلك في ليلةِ الجمعة خامس عشر ذي القعدة، وكانت أيام المظفَّر هذا في سلطنة مصر عشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا لم يتهَنَّ فيها من الفِتَنِ والحركةِ!!
===========
ج 145.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون يقبض على العديد من الأمراء .
العام الهجري : 710 العام الميلادي : 1310
تفاصيل الحدث:
بعد أن رجع الناصِرُ محمَّد إلى السلطنة وقَتَل المظَفَّر بيبرس الجاشنكيري، بقِيَ هناك الكثيرُ مِن الأمراء الذين كان يتخَوَّفُ منهم فبدأ بالقَبضِ عليهم فاستدعى من دمشقَ سبعةً من الأمراء واعتقَلَهم وحبَسَهم عنده، وفي مِصرَ قَبَض على أربعةَ عَشرَ أميرًا وحَبَسَهم، ومنهم من قُتِلَ وأُخِذَت إقطاعاته، وقُبض أيضًا على مماليك المظَفَّر بيبرس، ولكِنَّه تَرَكهم رحمة لهم، ثم إنَّه كان يهتَمُّ أكثَرَ شَيء ٍلأمرِ الأمير سيف الدين سلار المغولي الذي كان نائِبَ السلطان بيبرس الجاشنكيري، فهو الذي كان الآمِرَ الناهيَ في الدولة، وهو الذي حَرَّض بيبرسَ على كلِّ الأفعال التي صدرت منه وخاصةً مُصادرة أموال الناصر، وكان سلار قد هرب إلى الشوبك، ثمَّ إنَّه قَرَّر الحضورَ إلى السلطانِ النَّاصر، فلمَّا حضر حبَسَه وبقي محبوسًا شَهرًا حتى مات في سِجنِه جُوعًا وعَطَشًا، وقد استُخرِجَت منه كلُّ أمواله وإقطاعاته، فكانت كثيرة جدًّا بما لا يُحَدُّ ولا يوصَفُ من الذهب والفضَّة والجواهر الثمينة من الياقوت والزمُرُّد واللؤلؤ وغير ذلك من الأموال والأراضي والحيوانات الشيء المهول، ويُذكَرُ أنَّ سلار أصله من المماليك التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالحِ عليِّ بن قلاوون، وبقِيَ بعد موته في خدمة الملك المنصورِ قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمةِ الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحَظِي عنده، فلما قُتِلَ حظي عند لاجين لمودَّة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائِبَ السلطنة بديار مصرَ للسُّلطانِ المظَفَّر بيبرس.
وفاة نجم الدين ابن الرفعة الفقيه الشافعي .
العام الهجري : 710 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1310
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ نجم الدين أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع بن حازم، الأنصاري المصري، المعروف بابن الرفعة. فقيه شافعيٌّ. تفقه على الظهير والشريف العباسي، وسَمِعَ الحديث من محيي الدين الدميري، وعُيِّنَ مدرسًا بالمدرسة المعزية. كان محتَسِبَ القاهرة وناب في الحكم, ومن كتبه: "المطلب في شرح الوسيط"، "الكفاية في شرح التنبيه" وغير ذلك.
أسر الفرنج لرسل السلطان الناصر .
العام الهجري : 711 العام الميلادي : 1311
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ الخبَرُ من سيس بأنَّ فِرنجَ جزيرة المصطكى أسَروا رسُلَ السلطان الناصر إلى المَلِك طقطاي، ومن معهم من رسل طقطاي وعِدَّتُهم ستون رجلًا، فبعث الملك طقطاي في فدائِهم ستين ألفَ دينار ليتَّخِذَ بذلك يدًا عند السلطانِ، فلم يمكِّنوه منهم، فكتب إلى الإسكندريَّة ودمياط بالحوطة على تجَّار الفرنج واعتقالِهم كُلِّهم، فأُحيطَ بحواصِلِهم وحُبِسوا بأجمَعِهم، وحضر أحَدُ تجَّار الجنوية فضَمِنَ إحضار الرسُل وما معهم، فمُكِّنَ من السَّفَر.
وفاة ابن منظور صاحب لسان العرب .
العام الهجري : 711 العام الميلادي : 1311
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ اللُّغويُّ الحُجَّةُ مُحمَّدُ بنُ مكرم بن علي بن منظور الخزرجي الأنصاري الرويفعي الإفريقي، من ولد رُويفِع بن ثابت الأنصاري, وهو صاحِبُ (لسان العرب) ولِدَ بمصر سنة 630 ونشأ فيها وتعَلَّم. كان أديبًا وشاعرًا، وعالِمًا باللغة والنحو والتاريخ، وخَدَم في ديوان الإنشاء بالقاهرة, ثم وَلِيَ القضاء في طرابلس, وعاد إلى مصر فتوفِّيَ فيها، وقد ترك بخَطِّه نحوَ خمسمائة مجَلَّد، وعَمِيَ في آخر عمره. كان له حب في اختصار الكُتُب الطوال، فاختصر كتاب الأغاني للأصفهاني، وكتاب العِقدِ الفريد لابن عبد ربه، والذخيرة لابن بسام، ومفردات ابن البيطار، ويتيمة الدهر للثعالبي، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، وصفة الصفوة لابن الجوزي، وغيرها من الكتب، أما أشهر كتبه على الإطلاق وأنفَعُها فهو كتابُ (لسان العرب) وهو مُعجَمٌ لُغويٌّ لا يزال يُعتبَر المرجِعَ الأُمَّ من بين المعاجِمِ اللغوية. توفِّيَ في القاهرة عن 81 عامًا.
إقامة الخطبة للسلطان الناصر في طرابلس الغرب .
العام الهجري : 711 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1311
تفاصيل الحدث:
أقيمَت الخُطبةُ للمَلِك الناصر بطرابلس الغرب، أقامها له الشيخُ أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن حفص عمر اللحياني، لما جهزه السلطان إليها بالصناجِقِ وبعِدَّةٍ من الأجناد، وكان ذلك في شَهرِ رَجَب، وكان الأجنادُ قد قَدِموا مع بيبرس، بعدما قَدَّمَها أبو يحيى من مِصرَ في جُمادى الأولى.
هروب بعض الأمراء إلى التتار .
العام الهجري : 712 العام الميلادي : 1312
تفاصيل الحدث:
قدم البريدُ مِن حَلَب بعبور قرا سنقر ومن معه من الأمراء إلى بلاد التتار، وأنهم بَعَثوا بأولادهم وحريمهم إلى مصر، فكان مِن خَبَرِهم أنهم لما وصلوا إلى الرحبة انقطع كثيرٌ ممن تَبِعَهم من المماليك والتركمان، فبعث قرا سنقر ولَدَه الأمير فرجًا، وبعث الأفرم ولده موسى مع بعض من يُوثَقُ به، وأُمِرَا بتقبيلِ الأرض بين يَدَيِ السلطان، وأنْ يُبَلِّغاه أنَّ الأمراء ما حملَهم على دخولِ بلاد العدو إلَّا الخوفُ، وأن الأولادَ والحريمَ وداعه، فلْيَفعَلِ السلطان معهم ما يليقُ به، فقَدِما إلى القاهرة، وبَقِيَا في الخدمة، وسار الأمراءُ إلى ماردين، وكتبوا إلى خربندا بقُدومِهم، فبعث أكابِر المغول إلى لقائهم، وتقَدَّم إلى ولاة الأعمال بخِدمتِهم والقيامِ لهم بما يليق بهم، فلما قاربوا الأرد وركب خربندا وتلقاهم، وترجَّل لهم لَمَّا ترجلوا له، وبالغ في إكرامِهم وسار بهم إلى مخيَّمِه، وأجلسهم معه على التخت، وضَرَبَ لكُلٍّ منهم خركاه- خيمة- ورَتَّب لهم الرواتب السَّنيَّة، ثم استدعاهم بعد يومين، واختلا بقرا سنقر، فحَسَّنَ له عبورَ الشَّام، وضَمِنَ له تسليمَ البلاد بغير قتال، ثم خلا بالأفرم فحَسَّنَ له أيضًا أخْذَ الشام، إلَّا أنَّه خَيَّلَه من قوة السلطان وكثرةِ عساكره، فأقطع خربندا مراغة لقرا سنقر، وأقطع همذان للأفرم، واستمَرُّوا هكذا.
وفاة الملك المنصور صاحب ماردين وتولي ابنه بعده .
العام الهجري : 712 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1312
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ المنصور صاحب ماردين أبو الفتح نجم الدين غازي بن المَلِك المظَفَّر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق أصحاب ماردين من عِدَّة سنين، كان شيخًا حسنًا مَهيبًا كامِلَ الخلقة بدينًا سمينًا، إذا ركب يكون خلْفَه محَفَّة، خوفًا من أن يمسَّه لُغوبٌ فيركب فيها، توفِّيَ في تاسع ربيع الآخر ودُفِنَ بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريبًا من عشرين سنة، وقام مِن بَعدِه في المُلْكِ وَلَدُه العادل فمكث سبعة عشر يومًا، ثم مَلَك أخوه المنصور.
محاصرة خدابندا التتري الرحبة ورجوعهم خاسرين .
العام الهجري : 712 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1312
تفاصيل الحدث:
ورد الخبَرُ في أول رجب بحركة خدابندا (ويقال له خربندا) وسبب ذلك رحيلُ بعض الأمراء إليه هاربين من السلطان الناصر منهم قراسنقر وغيره وإقامتُهم عنده، وتقويةُ عَزمِه على أخذ الشام، وكان السلطانُ تحت الأهرام بالجيزة، فقَوِيَ عزمُه على تجريد العساكر، ولم يزل هناك إلى عاشِرِ شعبان، فعاد إلى القلعة، وكتب إلى نوَّاب الشام بتجهيز الإقامات، وعرض السلطانُ العسكر، وترحَّلوا شيئًا بعد شيء، من أوَّل رمضان إلى الثامن عشر منه، حتى لم يبقَ بمِصرَ أحد من العسكر، وخرج السلطانُ في ثاني شوال، ونزل مسجِدَ تبر خارج القاهرة، ورحل في يوم الثلاثاء ثالثَه، ورتَّب بالقلعة سيف الدين أيتمش المحمدي، فلما كان ثامنه قَدِمَ البريد برحيل التتر ليلة سادس عشر رمضان من الرحبة، وكان من أمرهم فيها أنَّه لما وصل التتر إلى الرحبة فحاصروها عشرين يومًا وقاتلهم نائبُها الأمير بدر الدين موسى الأزدكشي خمسة أيام قتالًا عظيما، ومنعهم منها، فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا إلى خِدمةِ السلطان خربندا ويُهدُوا له هدية ويطلبون منه العفوَ، فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدَوا له خمسةَ رؤوس خيل، وعشرة أباليجَ سكر، فقَبِلَ ذلك, وأخذ الرحبةَ منهم بالأمان وعَفَا عن أهلها ولم يسفِكْ فيها دمًا، وبات بها ليلة الأربعاء في الخامس والعشرين من رمضان, فلما أصبح ارتحل وترك لأهلِ الرحبة أشياءَ كثيرةً مِن أثقال مناجيق وغيرها وكان معه يومئذٍ قرا سنقر والأفرم وسليمان بن مهنا، وكان أهلها قد حلفوا لخربندا فلمَّا ارتحل عنها واستقر الأمر التمس قاضيها ونائبُها وطائفةٌ حلفت لخربندا عَزْلهم من السلطانِ لمكان اليمينِ له فعَزَلهم, وكانت بلادُ حلب وحماة وحمص قد أجلَوا منها وخَرب أكثَرُها ثم رجعوا إليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة، وطابت الأخبار وسكنت النفوس ودَقَّت البشائر وتَرَكت الأئمَّةُ القنوت، وخَطَب الخطيبُ يوم العيد وذكَّر الناسَ بهذه النعمة، وكان سبب رجوع التتر قِلَّة العَلَف وغلاء الأسعار وموت كثير منهم، وأشار على سلطانِهم خربندا بالرجوعِ الرشيد وجوبان،، وعودهم إلى بلادِهم بعدما أقاموا عليها من أول رمضان، ففَرَّق السلطانُ الناصر العساكِرَ في قانون وعسقلان، وعزم على الحَجِّ، ودخل السلطانُ دمشق في التاسع عشر، وخرج منها ثاني ذي القعدة إلى الكرك، ويذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان مِمَّن قَدِمَ ورجع إلى دمشق بصُحبةِ السلطان، فكان يومًا مشهودًا خرج الناس لرؤيتِه.
إرسال جيش إلى مكة بسبب ظلم أميرها وتمرده .
العام الهجري : 713 العام الميلادي : 1313
تفاصيل الحدث:
توجَّهت تجريدة- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- إلى مكَّة صحبة الأمير سيف الدين طقطاي الناصري والي قوص، وسيف الدين بيدوا، وعلاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وصاروجا الحسامي، وتوجه دمشق سيف الدين بلبان البدري مع الركب، وأضيف إليهم عِدَّةٌ من الأجناد، وذلك بسَبَبِ الشريف حميضة بن أبي نمي، فإنَّه كَثُرَ ظُلمُه، ثم قَدِمَ الخبر من مكة بقَتلِ أبي الغيث في حَربٍ مع أخيه حميضة، وأنَّ العسكرَ المجرَّد إلى مكة الذي وصل إليها في رجب واقع حميضة وقَتَل عِدَّةً من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلَقَّاه خدبندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهرًا، وحَسَّن له إرسال طائفةٍ مِن المغول إلى بلاد الحجاز لِيَملِكَها، ويخطب له على منابرها، وكان السلطانُ الناصر قد أنعم على محمد بن مانع بإمرةِ مهنا، فشَنَّ حميضة الغارات على مكَّة وأخذ جمالَ مهنا وطرده، فسار مهنا أيضًا إلى خدبندا، فسُرَّ به وأنعم عليه.
قيام دولة بني المظفر بفارس .
العام الهجري : 713 العام الميلادي : 1313
تفاصيل الحدث:
مع ضَعفِ الدولة الإيلخانية المغوليَّة وانهيارها بعد وفاة السلطان أبي سعيد ولا وريث له، والفوضى قائمة، فكان نتيجة ذلك اقتسام البلاد، فكانت كرمان وجنوبي فارس وكردستان من نصيب شَرفِ الدين المظَفَّر الذي كان هو حاكِمَها، ثم صار ابنه مبارز الدين محمد حاكمًا لمدينة يزد سنة 718 الذي وسَّع المملكة بحروبه مع بني أينجو في فارس، فبدأت دولةُ بني المظفَّر فيها.
الإغارة على بلاد ماردين وقتال التتار .
العام الهجري : 713 العام الميلادي : 1313
تفاصيل الحدث:
توجَّهَ من حلب ستُّمائة فارس عليهم الأميرُ شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لِما يُرسَم به، فشَنَّ قرطاي الغارةَ على بلاد ماردين يومين، فصادف التتارَ قد قَدِموا إلى ماردين على عادتهم كلَّ سَنةٍ لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحارَبَهم قرطاي وقتل منهم ستَّمائة رجل، وأسَرَ مائتين وستين، وقَدِمَ بالرؤوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عِدَّةُ خُيولٍ.
ثورة على نصر بن محمد الثاني في غرناطة .
العام الهجري : 713 العام الميلادي : 1313
تفاصيل الحدث:
ثار أبو سعيدٍ فَرَجُ بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأحمري صاحِبُ مالقة على ابنِ عَمِّه نصر بن محمد الثاني واستولى على المرية وبلش، وهزم قوات نصر؛ مما اضطر نصرًا إلى التنازل له عن العَرشِ والخروج من غرناطة إلى وادي آش ومبايعة أبي الوليد إسماعيل بن فرج من أسرة بني نصر خلفًا له.
وفاة ملك القفجاق طقطغاي خان .
العام الهجري : 713 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1314
تفاصيل الحدث:
هو مَلِكُ القفجاق المسمَّى طقطغاي بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجي، بن جنكيزخان، وكان له في المُلكِ ثلاث وعشرون سنة، وكان عمرُه ثمانية وثلاثين سنة، وكان شهمًا شجاعًا على دين التتر في عبادة الأصنام والكواكب، يُعَظِّمُ المجسِّمة والحكماء والأطباء، ويُكرِمُ المسلمين أكثَرَ من جميع الطوائف، كان جيشُه هائلًا لا يَجسُرُ أحد على قتاله لكثرة جيشِه, وقوَّتِهم وعدَدِهم، ويقال إنه جرَّد مرةً تجريدةً من كل عشرةٍ مِن جيشه واحدًا فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسينَ ألفًا! توفي في رمضان, وقام في المُلكِ من بعده ابنُ أخيه أزبك خان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان، وكان مسلمًا فأظهر دين الإسلام ببلادِه، وقتل خلقًا من أمراء الكَفَرة وعَلَت الشرائِعُ المحمَّديَّة على سائر الشرائع هناك، ولله الحمد والمنة على الإسلامِ والسُّنَّة.
إنكار البكري على السلطان الناصر بن قلاوون في شأن النصارى .
العام الهجري : 714 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1314
تفاصيل الحدث:
في نصف المحرَّمِ اتَّفَق أنَّه كان للنصارى مجتَمَعٌ بالكنيسة المعَلَّقة بمصر، واستعاروا من قناديلِ الجامِعِ العتيق جملةً، فقام في إنكارِ ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري (وهو من أعداء شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة الذين كانوا قد سَعَوا في أذاه، مع أنَّ شيخَ الإسلام شَفَع فيه أيضًا لما طُلب من جهته)، وجمَعَ مِن البكريَّة وغيرِهم خلائِقَ، وتوجَّه إلى المعلقة وهَجَم على النصارى وهم في مجتَمَعِهم وقناديلُهم وشموعُهم تُزهِرُ، فأخرقَ بهم وأطفأ الشموعَ وأنزل القناديلَ، وعاد البكريُّ إلى الجامع، وقصد القومةَ، وجمع البكريُّ الناسَ معه على ذلك، وقصد الإخراقَ بالخطيب، فاختفى منه وتوجَّه إلى الفخر ناظِرِ الجيش وعَرَّفه بما وقع، وأنَّ كريمَ الدين أكرم هو الذي أشار بعاريَّة القناديلِ، فلم يَسَعْه إلَّا موافقَتُه، فلمَّا كان الغَدُ عرَّفَ الفَخرُ السلطانَ بما كان، وعَلِمَ البكري أنَّ ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجَمعِه إلى القلعة واجتمع بالنائِبِ وأكابر الأمراء، وشَنَّع في القول وبالغَ في الإنكار، وطلب الاجتماعَ بالسلطان، فأحضر السُّلطانُ القضاة والفُقهاءَ وطلب البكريَّ، فذكر البكريُّ من الآيات والأحاديث التي تتضَمَّنُ معاداة النَّصارى، وأخذ يحُطُّ عليهم، ثم أشار إلى السلطانِ بكلامٍ فيه جفاءٌ وغِلظةٌ حتى غَضِبَ منه عند قولِه: أفضَلُ المعروفِ كَلِمةُ حَقٍّ عند سلطان جائر، وأنت وَلَّيت القبطَ المسالمةَ، وحَكَّمْتَهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعْتَ أموال المسلمين في العمائِرِ والإطلاقاتِ التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطانُ له: ويلك! أنا جائِرٌ؟ فقال: نعم! أنت سَلَّطتَ الأقباط على المسلمين، وقَوَّيت دينَهم، فلم يتملَّكِ السلطانُ نفسَه عند ذلك، وأخذ السَّيفَ وهَمَّ بضربه، فأمسك الأميرُ طغاى يده، فالتَفَت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجَرَّأُ عليَّ؟ أيش يجبُ أفعل به؟ قل لي!، وصاح به، فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئًا يُنكَرُ عليه فيه، ولا يجِبُ عليه شيء، فإنه نقل حديثًا صحيحًا، فصرخ السلطانُ فيه وقال: قمْ عني!، فقام مِن فَورِه وخرج، فقال صدر الدين بن المرحل- وكان حاضرًا- لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرَّأ على السلطانِ، وقد قال الله تعالى آمرًا لموسى وهارون حين بعَثَهما إلى فرعون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرَّأَ ولم تبقَ إلَّا مَراحِمُ مولانا السُّلطان، فانزعج السلطانُ انزعاجًا عظيمًا، ونهض عن الكرسي، وقَصَد ضربَ البكريِّ بالسَّيف، فتقدَّم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقَطعِ لسانه، فأخرج البكريُّ إلى الرحبة، وطُرِحَ إلى الأرض، والأميرُ طغاي يشير إليه أن يستغيثَ، فصرخ البكريُّ وقال: أنا في جيرةِ رسول الله، وكررها مرارًا حتى رقَّ له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشَّفاعة فيه، فنهضوا بأجمَعِهم وما زالوا بالسلطانِ حتى رسم بإطلاقِه وخروجِه مِن مصر، وأنكر الأميرُ أيدمر الخطيري كونَ البكري قوى نفسَه أولًا في مخاطبة السلطان، ثمَّ إنَّه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنَّه لم يكن قيامُه خالصًا لله.
وفاة ملك شمس الدين دوباج صاحب كيلان .
العام الهجري : 714 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1315
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ شمس الدين دوباج بن ملكشاه بن رستم صاحب كيلان. خرج قاصدًا الحجَّ في هذا العام، فلمَّا كان بغباغب أدركَته منيَّتُه يوم السبت السادس والعشرين من رمضان, فحُمِلَ إلى دمشق وصُلِّي عليه ودفن بتربته المشهورة بسفح قاسيون في خامس شوال، اشتريت له وتممت وجاءت حسنةً وهي مشهورة عند المكارية شرقيَّ الجامع المظفري، وكان له في مملكة كيلان خمس وعشرون سنة، وعمر أربعًا وخمسين سنة، وأوصى أن يحُجَّ عنه جماعة ففُعِلَ ذلك.
وفاة الشيخة الواعظة فاطمة بنت عياش البغدادية .
العام الهجري : 714 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1315
تفاصيل الحدث:
هي الشيخةُ العاملةُ الفقيهة الزاهدة القانتة الواعظة سيدة نساء زمانها: أم زينب فاطمة بنت عياش بن أبي الفتح البغدادية، كانت تفقه الفقه جيدًا, وانتفع بها خلقٌ من نساء أهل دمشق لصِدقِها في وعظها، ثم تحولت إلى القاهرة فحصل بها النفع وارتفع قدرُها وبعُدَ صيتُها، وكانت قد تفقهت عند المقادسة، كالشيخ ابن أبي عمر وغيره. كانت وافرة العلم، فائقة قانعة باليسير، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، انصلح بها نساء دمشق، ثم نساء مصر، وكان لها قبول زائد، ووقْع في النفوس, وقل من أُنجِبَ من النساء مثلها. قال ابن كثير: "كانت من العالِمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بالاحتساب على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالَهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال، وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرًا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلِها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وقد ختم لديها نساء كثيرًا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المِزِّي، وهي التي أقرأت ابنَتَها زوجتي أَمَة الرحيم زينب" ماتت فاطمة ليلة عرفة عن نيف وثمانين سنة، وشيَّعها خلائق.
فتح مدينة ملطية .
العام الهجري : 715 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1315
تفاصيل الحدث:
كانت ملطيَّة إقطاعًا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلًا كرديًّا يقال له مندوه فتعدى وأساء وظلم، وكاتب أهلُها السلطانَ الناصر بن قلاوون وأحبُّوا أن يكونوا من رعيَّتِه، فلمَّا ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمَرها وردَّ إليها خلقًا من الأرمن وغيرِهم، وكان سبَبُ غزو ملطيَّة أن السلطان بعث فداوية من أهل مصياف لقتلِ قرا سنقر، فكان مندوه الكرديُّ يدل على قصاد السلطانِ فأخذ منهم جماعةً، فشق ذلك على السُّلطانِ، وأخذ في العَمَلِ عليه، فبلغه مندوه أنه صار يجني خراجَ ملطية، وكان نائبُها من جهة جوبان يقال له بدر الدين ميزامير بن نور الدين، فخاف من مندوه أن يأخُذَ منه نيابة ملطية، فما زال السلطانُ يتحَيَّل حتى كاتَبَه ميزامير، وقرَّرَ معه أن يسَلِّمَ البلد لعساكره، فجهَّزَ السلطانُ العساكر، وورَّى أنَّها تقصِدُ سيس حتى نزلت بحلب، وسارت العساكِرُ منها مع الأمير تنكز على عينتاب إلى أن وصل الدرنبد، فألبس الجميعَ السلاحَ وسلك الدرنبد إلى أن نزل على ملطية يوم الثلاثاء ثالث عشريه، وحاصرها ثلاثةَ أيام، فاتَّفق الأمير ميزامير مع أعيان ملطية على تسليمها، وخرج في عِدَّة من الأعيان إلى الأمير تنكز، فأمَّنَهم وألبسهم التشاريفَ السلطانيَّةَ المجهَّزة من القاهرة، وأعطى الأميرَ ميزامير سنجقًا- راية- سلطانيًّا، ونودي في العسكر ألا يدخُلَ أحد إلى المدينة، وسار الأمير ميزامير ومعه الأمير بيبرس الحاجب والأمير أركتمر حتى نزل بداره، وقبض على مندوه الكردي، وتكاثر العَسكرُ ودخلوا إلى المدينة ونهبوها، وقتَلوا عِدَّة من أهلها، فشَقَّ ذلك على الأمير تنكز، وركِبَ معه الأمراء، ووقف على الأبواب وأخذ النهوبَ مِن العسكر، ورحل من الغد وهو الرابع عشر من محرم بالعسكر، وترك نائِبَ حلب مقيمًا عليها لهدم أسوارها، ففَرَّ مندوه قبل الدخول إلى الدربند وفات أمرُه، فلما قطعوا الدربند أُحضِرَت الأموال التي نُهِبَت والأسرى، فسُلِّمَ من فيهم من المسلمين إلى أهله، وأُفرِدَ الأرمن، فلما فُتِحَت ملطية سار الأمير قجليس إلى مصر بالبشارة، فقَدِمَ يوم الخميس ثالث صفر، ودُقَّت البشائر بذلك، وتبعه الأمير تنكز بالعساكر- ومعه الأمير ميزامير وولده- حتى نزل عينتاب ثم دابق، فوجد بها تسعة عشر ألف نولٍ تُعمَل الصوف، وتُجلَبُ كُلُّها إلى حلب، ثم سار تنكز، فقَدِمَ دمشق في سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وابنه في ثلاثين رجلًا مع العسكر المصري إلى القاهرة فقَدِموا في خامس ربيع الآخر.
السلطان الناصر بن قلاوون يغير ملك النوبة وما حصل من القتال .
العام الهجري : 716 العام الميلادي : 1316
تفاصيل الحدث:
رأى السلطانُ الناصر بن قلاوون أن يُقَدم برشنبو النوبي، وهو ابنُ أخت داود ملك النوبة، فجَهَّز صحبته الأميرَ عِزَّ الدين أيبك على عسكر، فلما بلغ ذلك كرنبس ملك النوبة بعَث ابن أختِه كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز يسألُ السلطانَ في أمره، فاعتقل كنز الدولة، ووصل العسكَرُ إلى دنقلة، وقد فَرَّ كرنبس وأخوه أبرام، فقُبِضَ عليهما وحُملا إلى القاهرة، فاعتُقِلا، ومَلَك عبد الله برشنبو دنقلةَ، ورجع العسكَرُ في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، وأفرج عن كنز الدولة، فسار إلى دنقلة وجمع النَّاسَ وحارب برشنبو، فخذله جماعتُه حتى قُتِلَ، وملك كنزُ الدولة، فلما بلغ السلطانَ ذلك أطلق أبرام وبعَثَه إلى النوبة، ووَعَدَه إنَّ بعث إليه بكنز الدولة مقيَّدًا أفرج عن أخيه كرنبس، فلما وصل أبرام خرج إليه كنز الدولة طائعًا، فقبض عليه ليرسِلَه، فمات أبرام بعد ثلاثة أيام من قَبضِه، فاجتمع أهلُ النوبة على كنزِ الدولة ومَلَّكوه البلادَ.
خبر جيش التتار المتوجه إلى مكة .
العام الهجري : 716 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1316
تفاصيل الحدث:
كان صاحِبُ مكَّة الأمير حميضة بن أبي نمي الحسني، قد قصد مَلِكَ التتر خربندا لينصُرَه على أهل مكة فساعده الروافِضُ هناك وجَهَّزوا معه جيشًا كثيفًا من خراسان، فلما مات خربندا بطل ذلك بالكلية، وعاد خميصة خائبًا خاسئًا. وفي صحبته أميرٌ من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي، وقد جمع لخميصة أموالًا كثيرة ليقيم بها الرَّفضَ في بلاد الحجاز، فوقع بهما الأميرُ محمد بن عيسى أخو مهنا، وقد كان في بلاد التتر أيضًا ومعه جماعة من العرب، فقهرهما ومن كان معهما، ونهب ما كان معهما من الأموال وحضرت الرجالُ، وبلغت أخبارُ ذلك إلى الدولة الإسلامية فرَضِيَ عنه الملك الناصِرُ وأهل دولته، وغسل ذلك ذَنبَه عنده، فاستدعى به السلطانُ إلى حضرته فحضر سامعًا مطيعًا، فأكرمه نائِبُ الشام، فلما وصل إلى السلطانِ أكرمه أيضًا، ثم إنه استفتى الشيخَ تقي الدين بن تيميَّةَ، وكذلك أرسل إليه السلطانُ يسأله عن الأموالِ التي أخذت من الدلقندي، فأفتاهم أنها تُصرَفُ في المصالح التي تقَوِّي المسلمين؛ لأنها كانت مُعَدَّة لعنادِ الحَقِّ ونُصرةِ أهل البدعة على السُّنَّة.
وفاة السلطان خربندا بن أرغون الرافضي ملك التتار .
العام الهجري : 716 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1316
تفاصيل الحدث:
هو مَلِكُ التتارِ خَرْبَندا- بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وسكون النون- بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولو بن جنكيزخان السلطان غياث الدين، ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر، ومن الناسِ من يسَمِّيه خُدابَندا بضم الخاء المعجمة والدال المهملة وخدابندا: معناه عبد الله بالفارسي، غير أنَّ أباه لم يسمه إلَّا خربندا، وهو اسمٌ مُهمَل معناه: عبد الحمار، وسبب تسميتِه بذلك أنَّ أباه كان مهما ولِدَ له ولد يموت صغيرًا، فقال له بعض الأتراك: إذا جاءك ولد سمِّه اسمًا قبيحًا يَعِشْ، فلما ولد له هذا سماه خربندا في الظاهرِ واسمه الأصلي أبحيتو، وكان شابًّا مليحًا، لكنه كان أعور جوادًا لعَّابًا, ولما كبر خربندا وملك البلادَ بعد أخيه غازان كَرِهَ هذا الاسم واستقبحه فجعله خدابندا، ومشى ذلك بمماليكِه، وهَدَّد من قال غيره، ولم يُفِدْه ذلك إلَّا من حواشيه خاصة، ولَمَّا ملك خربندا أسلَمَ وتَسَمَّى بمحمد، واقتدى بالكتاب والسنَّة، وحاصر الرحبة سنة 712 وأخذها بالأمان وعفا عن أهلِها ولم يسفك فيها دمًا, وكان محبًّا لأهل الدين والصلاح، وضرب على الدرهم والدينار اسمَ الصَّحابة الأربعة الخلفاء، حتى اجتمع بتاج الدين الآوي الرافضي، وكان خبيثَ المذهب، فما زال بخربندا، حتى جعله رافضيًّا وكتب إلى سائِرِ مماليكه يأمُرُهم بالسبِّ والرفضِ! ووقع له بسبَبِ ذلك أمور، فقد صَمَّم أهل باب الأزج على مخالفتِه فما أعجبه ذلك وتنَمَّرَ ورسم بإباحةِ مالهم ودمهم فعُوجِلَ بعد يومين بهيضة مزعجة داواه الرشيدُ فيها بمُسَهِّل منظف فخارت قواه وتوفِّيَ. قال النويري: "كان خربندا قبل موته بسبعة أيام قد أمر بإشهارِ النداء ألا يذكَرَ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعزم على تجريد ثلاثة آلاف فارس إلى المدينةِ النبوية لينقُلَ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من مَدفَنِهما، فعَجَّلَ الله بهلاكِه" وكان موتُه في السابع والعشرين من شهر رمضان بمدينته التي أنشأها وسماها السلطانيَّة في أرض قنغرلان بالقرب من قزوين، وكانت دولتُه ثلاث عشرة سنة, وتسلطن بعده ولده بوسعيد في الثالث عشر من شهر ربيع الأول من سنة 717؛ لأنَّه كان في مدينة أخرى، وأُحضِرَ منها وتسلطَنَ، وأبو سعيد له إحدى عشرة سنة، ومدَبِّرُ الجيوش والممالك له الأمير جوبان، واستمَرَّ في الوزارة على شاه التبريزي، وأخذ أهلَ دولته بالمصادرة وقَتَل الأعيانَ مِمَّن اتهَمَهم بقتل أبيه مسمومًا، ولعب كثيرٌ من الناس به في أوَّلِ دولته، ثم عدل أبو سعيد إلى العَدلِ وإقامة السُّنَّة، فأمر بإقامة الخطبة بالترضِّي عن الشيخينِ أوَّلًا ثم عثمان ثمَّ علي رضي الله عنهم، ففرح الناسُ بذلك، وسكنت بذلك الفِتَنُ والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة وأصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك.
=========
ج146.
الأعراب يقطعون الطريق على رسل السلطان من اليمن .
العام الهجري : 716 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1317
تفاصيل الحدث:
أخذ عَرَبُ برية عيذاب رسُلَ صاحب اليمن وعِدَّة من التجار وجميع ما معهم، فبعث السلطانُ الناصر محمد بن قلاوون العسكَرَ وهم خمسمائة فارس، عليهم الأميرُ علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، في العشرين من شوال، فساروا إلى قوص، ومَضَوا منها في أوائل المحرم سنة سبع عشرة إلى صحراء عيذاب، ومضوا إلى سواكِنَ حتى التَقَوا بطائفةٍ يقال لها حيُّ الهلبكسة، وهم نحو الألفي راكب على الهجن بحِرابٍ ومزاريقَ، في خلقٍ مِن المشاة عرايا الأبدان، فلم يثبتوا لدقِّ الطبول ورمي النشَّاب، وانهزموا بعد ما قُتِلَ منهم عدد كبير، وسار العسكَرُ إلى ناحية الأبواب، ثم مَضَوا إلى دنقلة، وعادوا إلى القاهرة تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، وكانت غيبتهم ثمانيةَ أشهُرٍ.
وفاة الشيخ ابن المرحل شيخ الشافعية .
العام الهجري : 716 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1317
تفاصيل الحدث:
هو الشيخُ أبو عبد الله محمد بن الشيخ المفتي زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخِ الشافعية في زمانه، وأشهَرُهم في وقته بكثرة الاشتغالِ والمطالعة والتحصيل والافتنان بالعلوم العديدة، وقد أجاد معرفةَ المذهب والأصلين، ولم يكن بالنحوِ بذاك القويِّ، وكان يقع منه اللَّحنُ الكثير، مع أنه قرأ منه المفَصَّل للزمخشري، وكانت له محفوظاتٌ كثيرة، ولد في شوال سنة 665، وسمِعَ الحديث على المشايخ، من ذلك مسند أحمد على ابن علان، والكتب الستَّة، وكان يتكَلَّم على الحديث بكلام مجموعٍ من علوم كثيرة، من الطبِّ والفلسفة وعلم الكلام، وليس ذلك بعلمٍ، وعلوم الأوائل، وكان يكثر من ذلك، وكان يقول الشعرَ جَيِّدًا، وله ديوانٌ مجموع مشتَمِلٌ على أشياء لطيفة، وكان له أصحابٌ يحسدونه ويحبُّونه، وآخرون يحسدونه ويُبغِضونه، وكانوا يتكَلَّمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظائِمِ، وقد كان مسرفًا على نفسِه، قد ألقى جلبابَ الحياءِ فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش، وكان أحَدَ خصومِ شَيخِ اسلام ابن تيمية ينصِبُه العداوة ويناظِرُه في كثير من المحافل والمجالس، وكان يعترف للشيخ تقي الدينِ بالعلوم الباهرةِ ويُثني عليه، ولكِنَّه كان يجاحِفُ عن مذهبه وناحيته وهواه، وينافِحُ عن طائفته، وقد كان شيخُ الإسلام ابن تيمية يثني عليه وعلى علومِه وفضائِلِه ويشهَدُ له بالإسلامِ إذا قيل له عن أفعالِه وأعماله القبيحة، وكان يقول: "كان مخَلِّطًا على نفسِه مُتَّبِعًا مراد الشيطان منه، يميلُ إلى الشهوة والمحاضرة، ولم يكنْ كما يقول فيه بعضُ أصحابه ممن يحسده ويتكَلَّم فيه هذا أو ما هو في معناه، وحين بلغ شيخَ الإسلام ابن تيمية وفاتُه قال: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدرَ الدينِ" وقد درَّس بعِدَّة مدارس بمصر والشام، ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الأشرفية، وولي في وقت الخطابة أيامًا يسيرة، ثم قام الخلقُ عليه وأخرجوها من يَدِه، ولم يَرْقَ مِنبَرَها، ثم خالط نائِبَ السلطنة الأفرم فجَرَت له أمور لا يمكِنُ ذِكرُها ولا يحسن من القبائحِ، ثم آل به الحالُ على أن عزم على الانتقالِ مِن دمشق إلى حلب لاستحواذه على قلب نائبِها، فأقام بها ودرَّس، ثم استقر به المنزل بمصر ودرس فيها بمشهد الحسين إلى أن توفي بها بكرة نهار الأربعاء رابع عشرين ذي الحجة بداره قريبا من جامع الحاكم، ودفن من يومه قريبا من الشيخ محمد بن أبي جمرة بتربة القاضي ناظر الجيش بالقرافة، ولما بلغت وفاته دمشق صلي عليه بجامعها صلاة الغائب, ورثاه جماعة منهم ابن غانم علاء الدين، والقجقازي والصفدي، لأنهم كانوا من عشرائه.
هروب أمير مكة رميثة أبو نمي من أخيه حميضة الموالي للتتار .
العام الهجري : 717 العام الميلادي : 1317
تفاصيل الحدث:
رجع الشَّريفُ حميضة بن أبي نمي من العراق إلى مكة، ومعه نحو الخمسين من المغول، فمنعه أخوه رميثة من الدخولِ إلَّا بإذن السلطان الناصِرِ ابن قلاوون، فكتب بمَنْعِه من ذلك ما لم يَقدَم إلى مِصرَ، ثم قدم الشريفُ رميثة أمير مكة فارًّا من أخيه حميضة، وأنه ملك مكَّةَ وخطَبَ لأبي سعيد بن خربندا وأخذ أموالَ التجَّار، فرسم بتجريدِ الأمير صارم الدين أزبك الجرمكي، والأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمي في ثلاثمائة فارس من أجنادِ الأمراء، مع الرَّكبِ إلى مكَّة.
منع النصيرية في الشام من تلقين الغلمان عقائدهم الباطلة .
العام الهجري : 717 العام الميلادي : 1317
تفاصيل الحدث:
بعد قَتلِ مُدَّعي النُّصَيرية المهديَّة بساحل الشامِ رسم أن يُبنى بقرى النصيريَّة في كل قريةٍ مَسجِدٌ، وتُعمَل له أرضٌ لعمل مصالحه، وأن يُمنَعَ النُّصيريَّة من الخطابِ وهو أن الصبيَّ إذا بلغ الحُلُمَ عندهم عُمِلَت له وليمةٌ، فإذا اجتمع الناسُ وأكلوا وشَرِبوا حلَّفوا الصبيَّ أربعين يمينًا على كتمانِ ما يُودَعُ مِن المذهب، ثم يُعلِمونَه مذهَبَهم وهو إلهيَّةُ علي بن أبي طالب، وأن الخمر حلالٌ، وأن تناسخ الأرواحِ حَقٌّ، وأن العالمَ قديمٌ، والبعث بعد الموت باطل، وإنكار الجنَّة والنار، وأن الصَّلواتِ خَمسٌ، وهي إسماعيل وحسن وحسين ومحسن وفاطمة، ولا غُسلَ من جنابة، بل ذِكرُ هذه الخمسة يغني عن الغسل وعن الوضوء! وأن الصيام عبارة عن ثلاثين رجلًا وثلاثين امرأة ذَكَروهم في كتبهم، وأنَّ إلهَهم علي بن أبي طالب خلق السموات والأرض، وهو الربُّ، وأن محمدًا هو الحجاب، وسلمان هو الباب، إلى غير ذلك من عقائدهم الفاسدةِ المعروفة في كُتُبِهم وكُتُبِ غَيرِهم ممن كَشَف حقائقَهم!
ابن خربندا ملك التتار يطلب الصلح من الناصر بن قلاوون .
العام الهجري : 717 العام الميلادي : 1317
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ كتاب المجد إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي بإذعان المَلِك أبي سعيد بن خربندا، ووزيره خواجا علي شاه، والأمير جوبان، والأمراء أكابر المغول للصُّلحِ مع السلطان الناصِرِ ابنِ قلاوون، ومعه هديَّةٌ من جهةِ خواجا رشيد الدين، فجُهِّزَت إلى أبي سعيدٍ هدية جليلة من جملتها فرس وسيف وقرفل.
دخول أهالي النوبة بالسودان في الإسلام .
العام الهجري : 717 العام الميلادي : 1317
تفاصيل الحدث:
في حينَ كان التفاعُلُ بين الإسلام والنوبة يأخُذُ دَورَه في أسوان وجنوبها حيث انتشرت اللغةُ العربيَّةُ وكثُرَت المساجِدُ وكان ملوكُ النوبة يفرَحونَ للهَجَماتِ الصليبية على مصر، ثمَّ لما جاء عهد المماليك خضعت النوبة تحت حكمِهم، فكان أهلُها يؤدُّونَ الجِزيةَ السَّنَويَّةَ ولكِنَّهم كانوا يمتنعون أحيانًا، فحصلت بينهم حروبٌ، ثم لما كان كرنبس الذي حاول التمَرُّدَ على المماليك فأرسلوا جيشًا يرافقه أمير نوبي مسلم اسمه عبدالله برشنبو، فنصبوه على عرش النوبة سنة 716 وحاول كرنبس المفاوضةَ لتنصيب ابن أخيه المسلِم كنز الدولة شجاع الدين لكِنَّهم رفضوا فصارت النوبة في قبضة المسلِمِ، فكان من نتيجة ذلك انتشار الإسلام والعربية بين النوبيِّينَ، فبدأت تتحَوَّل الكنائِسُ إلى جوامِعَ وأشهرُها الكنيسةُ الكبرى في دنقلة، ثم تولى كنز الدولة, ولم يتسلم الحكمَ بَعدَه على النوبةِ أيُّ نَصرانيٍّ.
ظهور رجل يدعي أنه محمد بن الحسن المهدي من فرقة النصيرية .
العام الهجري : 717 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1318
تفاصيل الحدث:
ظهر في سابع عشر ذي القعدة رجلٌ من أهل قرية قرطياوس من أعمالِ جبلة بساحل الشامِ زَعَم أنه محمد بن الحسن المهديُّ، وأنَّه بينما هو قائِمٌ يَحرُث إذ جاءه طائرٌ أبيضُ فنَقَب جنْبَه وأخرج روحَه وأدخل في جَسَدِه روحَ محمد بن الحسن، فاجتمع عليه من النصيريَّة القائلين بإلهيَّةِ عليِّ بن أبي طالب نحو الخمسة آلاف، وأمرهم بالسجودِ له فسجدوا، وأباح لهم الخَمرَ وتَرْك الصلوات وصَرَّحَ بأن لا إله إلا عليّ ولا حجاب إلا محمد، ورفع الراياتِ الحُمرَ، وشمعة كبيرة توقَدُ بالنَّهارِ ويَحمِلُها شابٌّ أمرَدُ زعم أنه إبراهيم بن أدهم، وأنه أحياه، وسمَّى أخاه المقداد بن الأسود الكنديَّ، وسمى آخَرَ جبريل، وصار يقول له: اطلع إليه وقُلْ كذا وكذا، ويشيرُ إلى الباري سبحانه وتعالى، وهو بزَعمِه علي بن أبي طالب، فيخرج المسمَّى جبريل ويغيب قليلًا، ثم يأتي ويقول: افعَلْ رأيك، ثم جمعَ هذا الدعِيُّ أصحابَه وهجم على المسلمينَ بجَبَلة يوم الجمعة العشرين منه، فقَتَل وسبى وأعلن بكُفرِه، وسبَّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فجرَّدَ إليه نائب طرابلس الأميرُ شهاب الدين قرطاي الأميرَ بدر الدين بيليك العثماني المنصوري على ألفِ فارسٍ فقاتلهم إلى أن قُتِلَ الدعيُّ، وكانت مُدَّةُ خروجه إلى قَتلِه خمسةُ أيام، فتمزقت جماعةُ هذا الثائر بجَبَلة، وكان قد ادَّعى أنَّ دينَ النُّصيريَّة حَقٌّ، وأن الملائكة تَنصُرُه!
جماعة من التتار تقتل تجارا قادمين إلى الشام مع أطفالهم .
العام الهجري : 717 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1318
تفاصيل الحدث:
اتَّفَق أنَّه في هذا الشهر تجمَّع جماعة من التجار بماردين وانضاف إليهم خلقٌ من الجفال من الغلا قاصدين بلاد الشام، حتى إذا كانوا بمرحلتين من رأس العين لحِقَهم ستون فارسًا من التتار فمالوا عليهم بالنشاب وقتلوهم عن آخرهم، ولم يبقَ منهم سوى صبيانِهم نحو سبعين صبيًّا، فقالوا من يقتل هؤلاء؟ فقال واحد منهم: أنا بشَرطِ أن تنَفِّلوني بمالٍ من الغنيمة، فقتلهم كلَّهم عن آخرهم، وكان جملةُ من قُتِل من التجَّار سِتَّمائة، ومن الجفلان ثلاثمائة، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، وردموا بهم خمسَ صهاريج هناك حتى امتلأت بهم رحمهم الله، ولم يسلَمْ من الجميع سوى رجل واحد تركماني، هرب وجاء إلى رأس العينِ فأخبَرَ الناس بما رأى وشاهد من هذا الأمر الفظيع المؤلمِ الوجيع، فاجتهد متسَلِّمُ ديار بكر سوياي في طلب أولئك التتر حتى أهلَكَهم عن آخرهم، ولم يبقِ منهم سوى رجلَينِ.
انقراض دولة بني قطلمش ملوك قونية .
العام الهجري : 718 العام الميلادي : 1318
تفاصيل الحدث:
انقَرَضت دولةُ بني قطلمش ملوك قونية، وذلك أنَّ عِزَّ الدين اسيكاوس بن كيخسرو لما مات سنة 677 ترك ابنَه مسعودًا، فولَّاه أبغا بن هولاكو سيواس وغيرها، واستبَدَّ معين الدين سليمان برواناه على ركن الدين قلج أرسلان ابن كيخسرو بقيصرية ثم قتَلَه، ونصب ابنَه غياث الدين كيخسرو، فعزله أرغون بن أبغا، وولي ابن عمه مسعود بن كيكاوس، فأقام مسعودٌ حتى انحل أمره وافتقر، وبقي المُلكُ بالروم للتتر إلَّا ملك بني أرتنا، فإنه بقيَ بسيواس.
قحط وفناء عظيم في بلاد الجزيرة والموصل .
العام الهجري : 718 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1318
تفاصيل الحدث:
وصَلَت الأخبارُ في المحَرَّم من بلاد الجزيرة وبلاد الشرق سنجار والموصل وماردين وتلك النواحي بغلاء عظيمٍ وفناء شديدٍ وقِلَّة الأمطار، والخوف من التتار، وعدمِ الأقواتِ وغلاءِ الأسعار، وقِلَّة النفقات، وزوال النِّعَم، وحلولِ النِّقَم، بحيث إنهم أكلوا ما وجدوه من الجماداتِ والحيواناتِ والميتاتِ، وباعوا حتى أولادَهم وأهاليهم، فبِيعَ الولد بخمسينَ دِرهمًا وأقل من ذلك، حتى إنَّ كثيرًا كانوا لا يشترون من أولادِ المسلمين، وكانت المرأةُ تُصَرِّحُ بأنها نصرانيَّة لِيُشتَرى منها ولَدُها لتنتَفِعَ بثَمَنِه ويحصُل له من يُطعِمُه فيَعيش، وتأمَن عليه من الهلاكِ، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ووقعت أحوالٌ صعبة يطول ذِكرُها، وتنبو الأسماعُ عن وصفها، وقد ترَحَّلت منهم فرقة قريب الأربعمائة إلى ناحية مراغة فسقط عليهم ثلجٌ أهلَكَهم عن آخِرِهم، وصَحِبَت طائفةٌ منهم فِرقةً من التتار، فلما انتَهَوا إلى عقبة صعدها التتارُ ثم منعوهم أن يصعدوها لئلا يتكَلَّفوا بهم فماتوا عن آخِرِهم، فلا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العزيزِ الحكيمِ.
وقعة مع الأعراب ببرقة بسبب الزكاة .
العام الهجري : 719 العام الميلادي : 1319
تفاصيل الحدث:
جهز الأميرُ أيتمش المحمدي على عسكرٍ إلى برقة، ومعه فايد وسليمان أمراءُ العُربان لجباية زكاةِ الأغنام على العادة، فسار في ثلاثمائةِ فارسٍ من أجناد الحلقة ومعه من الأمراءِ عِدَّةٌ، وذلك في آخِرِ يومٍ من المحرَّم، ونزل بالإسكندرية، ثم سار أيتمش يريدُ بلاد جعفر بن عمر من برقة، ومسافتُها من الإسكندرية على الجادة نحو شهرين، فدَلَّه بعض العرب على طريقٍ مسافتُها ثلاثة عشَرَ يَومًا يُفضي به إلى القَومِ مِن غيرِ أن يعلموا به، وطَلَب في نظير دَلالتِه على هذه الطريقِ مائةَ دينار وإقطاعاتٍ مِن السلطانِ بعد عودِ العسكرِ إلى القاهرة، فعَجَّل له أيتمش المائة، والتزم له بالإقطاعِ مِن السلطان، وكتب له بعشرةِ أرادِبَ قمحًا لعياله، وأركبه ناقةً، وكتم ذلك كلَّه عن العسكَرِ مِن الأمراء والأجناد والعُربان، وسار بمسيرِه، حتى إذا مضت ثلاثَ عشرة ليلة أشرف على منازِلِ جَعفرِ بنِ عمر وعُرْبانه، فدُهِشوا لرؤيةِ العَسكَرِ، وأرسل إليهم أيتمش بسليمان وفايد يدعوهم إلى الطاعةِ، فأجابوا مع رسُلِهم: إنَّا على الطاعةِ، ولكن ما سبب قدومُ هذا العسكرِ على غفلةٍ مِن غير أن يتقَدَّمَ لنا به علمٌ؟ فقال لهم أيتمش: حتى يحضُرَ الأمير جعفر ويسمَعَ مَرسومَ السلطان، وأعادهم، وتَقَدَّم أيتمش إلى جميع من معه ألَّا ينزِل أحدٌ عن فرسه طولَ ليلتِه، فباتوا على ظهورِ الخيل، فلما كان الصباحُ حضر أخو جعفر ليسمَعَ المرسوم، فنهَرَه أيتمش وقال له ولمن معه: ارجعوا إلى جعفرٍ فإن كان طائعًا فلْيَحضُر، وإلَّا فلْيُعَرِّفْني، وبعث معه ثلاثةً مِن مُقَدَّمي الحلقة، فامتنع جعفرٌ من الحضور، فللحالِ لَبِسَ العسكر السلاحَ وتَرَتَّب، وأفرد سليمان وفايد، بمن معهما من العسكرِ ناحية، واستعد جعفرٌ أيضًا وجمع قومَه وحمل بهم على العَسكَر، فرموهم بالنشَّاب فلم يبالُوا به، ودقُّوا العسكرَ برماحِهم، وصَرَعوا الأميرَ شُجاعَ الدين غرلوا الجوكندار بعدما جَرَحوه ثلات جراحات، فتداركه أصحابُه وأركبوه، وحملوا على العرب فكانت بين الفريقينِ تِسعَ عشرة وقعة آخِرُها انهزم العربُ إلى بيوتهم، فقاتلهم العسكرُ عند البيوتِ ساعةً وهزموهم إليها، وكانت تلك البيوتُ في غابةِ قَصَب، فكفَّ العسكَرُ عن الدخول إليهم، ومنعهم أيتمش عن التعرُّضِ إلى البيوتِ وحماها، وأباح لهم ما عداها، فامتَدَّت الأيدي، وأُخِذَت من الجمالِ والأغنامِ ما لا ينحَصِرُ عدده، وبات العسكَرُ محترسين، وقد أَسَروا نحوَ السِّتِّمائة رجل سوى من قُتِل، فلما أصبح الصبحُ منَّ أيتمش على الأسرى وأطلَقَهم، وتفَقَّد العسكرَ فوجد فيه اثني عشر جريحًا، ولم يُقتَل غيرُ جندي واحد، فرحل عائدًا عن البيوتِ بأنعامٍ تَسُدُّ الفضاء، وبِيعَ ما معهم فيما بينهم الرأسُ الغَنَمُ بدِرهمٍ، والجَمَلُ ما بين عشرين إلى ثلاثين درهمًا، وسار أيتمش ستةَ أيام في الطريق التي سلكها والعسكَر بالسِّلاح، خشيةً مِن عَودِ العرب إليهم، وبعث أيتمش بالبشارةِ إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فبعث الأميرَ سيفَ الدين ألجاي الساقي لتلَقِّي العسكر بالإسكندرية وإخراج الخُمُس مِمَّا معهم للسلطان، وتَفرِقة ما بَقِيَ فيهم، فخُصَّ الجنديُّ ما بين أربعةِ جمالٍ وخمسةٍ، ومِنَ الغَنَم ما بين العشرينَ إلى الثلاثين، وحَضَروا إلى القاهرة، فخَلَع السلطان على أيتمش، وبعد حضورهم بأسبوع قدم جعفرُ بنُ عمر إلى القاهرة، ونزل عند الأمير بكتمر الساقي مُستجيرًا، فأكرمه ودخل به على السلطانِ، فاعترف بالخطأِ، وسأل العفوَ، وأن يقَرِّرَ عليه ما يقومُ به، فقَبِلَ السلطانُ قَولَه وعفا عنه، وخلع عليه ومضى، وصار يحمِلُ القودَ في كلِّ سَنَةٍ.
وقعة عظيمة بين ملك التتار أبي سعيد بن خربندا ونائبه جوبان .
العام الهجري : 719 العام الميلادي : 1319
تفاصيل الحدث:
كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين التتار بسَبَبِ أنَّ مَلِكَهم أبا سعيد بن خربندا كان قد ضاق ذرعًا بنائبه الأمير جوبان وعجَزَ عن مَسكِه، فانتدب له جماعةً من الأمراء عن أمرِه، منهم أبو يحيى خال أبيه، ودقماق وقرشي وغيرُهم من أكابر الدولة، وأرادوا كبسَ جوبان فهرب وجاء إلى السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون, فأنهى إليه ما كان منهم، وفي صُحبتِه الوزير علي شاه، ولم يزل بالسلطانِ حتى رضي عن جوبان وأمَدَّه بجيشٍ كثيف، ورَكِبَ السلطان معه أيضًا والتقوا مع أولئك فكسروهم وأسروهم، وتحَكَّم فيهم جوبان فقَتَل منهم إلى آخِرِ هذه السنة نحوًا من أربعين أميرًا.
وقعة ألبيرة في غرناطة .
العام الهجري : 719 العام الميلادي : 1319
تفاصيل الحدث:
حشد الفِرنجُ وأقبلوا يريدونَ استئصالَ المسلمين من الأندلس في غرناطةَ في عدَدٍ لا يُحصى، فيه خمسة وعشرونَ ملكًا بزعامة ألفونسو الحادي عشر ملك قشتالة، فقَلِقَ المسلمون بغرناطة ومَلِكُها الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر من بني الأحمر، واستنجدوا بالمريني مَلِك فاس فلم يُنجِدْهم، فلجؤوا إلى الله وحارَبوهم في الألبيرة وهم نحو ألف وخمسمائة فارس وأربعة آلاف راجل، فقتلوا الفرنجَ بأجمَعِهم، وأقلُّ ما قيل إنَّه قُتِلَ منهم خمسون ألفًا، وأكثَرُ ما قيل ثمانون ألفًا، ولم يُقتَلْ من المسلمين سوى ثلاثةَ عشر فارسًا، وغَنِمَ المسلمون ما لا يدخُلُ تحت حصر، وسُلِخَ الملكُ دون بتروا وحُشِيَ قُطنًا، وعُلِّقَ على بابِ غرناطة، فطَلَب الفرنجُ الهُدنةَ فعُقِدَت، وبَقِيَ دون بتروا مُعَلَّقًا عدَّةَ سنينَ.
السلطان الناصر يرسل الفداوية لقتل قراسنقر الذي هرب إلى التتار .
العام الهجري : 720 العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
بعث السُّلطانُ الناصر محمد بن قلاوون ثلاثينَ فداويًّا من أهل قلعةِ مصياف للفَتكِ بالأمير قراسنقر، فعندما وصلوا إلى تبريز نمَّ بعضُهم لقراسنقر عليهم، فتَتَبَّعَهم وقبضَ على جماعة منهم، وقَتَلهم، وانفرد به بعضُهم وقد ركب من الأردو، فقفز عليه فلم يتَمَكَّنْ منه، وقُتِلَ، واشتَهَر في الأردو خبَرُ الفداوية، وأنهم حضروا لقَتلِ السلطان أبي سعيد وجوبان والوزير علي شاه وقراسنقر وأمراء المغول، فاحتَرَسوا على أنفسهم، وقبضوا عدَّة فداوية، فتحيل بعضُهم وعَمِلَ حمَّالًا، وتبع قراسنقر ليقفِزَ عليه فلم يلحَقْه، ووقع على كفلِ الفَرَسِ فقُتِل، فاحتجب أبو سعيد بالخركاه- بالخيمة- أحد عشر يومًا خوفًا على نفسِه، وطلب المجد إسماعيل، وأنكر عليه جوبان وأخرق به، وقال له: أنت كلَّ قليل تُحضِرُ إلينا هديةً، وتريد منا أن نكون متَّفِقينَ مع صاحب مصر، لتمكُرَ بنا حتى تقتُلَنا الفداوية والإسماعيليَّة، وهدَّدَه أنه يقتُلُه شَرَّ قِتلةٍ، ورسم عليه، فقام معه الوزيرُ علي شاه حتى أفرج عنه، ثم قَدِمَ الخبر من بغداد بأن بعض الإسماعيلية قفز على النائبِ بها ومعه سكينٌ فلم يتمكَّنْ منه، ووقعت الضربةُ في أحد أمراء المغول، وأن الإسماعيليَّ فَرَّ، فلما أدركه الطلبُ قَتَل نفسَه، فتنَكَّر جوبان لذلك، وجهَّزَ المجد السلامي إلى مصر ليكشِفَ الخبر، وبعثوا في أثره رسولًا بهديَّةٍ.
نهاية الدولة الخلجية في الهند وقيام دولة بني تغلق .
العام الهجري : 720 العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
قام ناصِرُ الدين خسروخان بقتل قُطبِ الدين الخلجي لَمَّا خاف منه، فقام هو بأمر الدولةِ، وكان يميل إلى الهنادك؛ لذا فإن المُسلِمينَ كَرِهوه وتمنَّوا الخلاص منه، ثم بايعه الأمراءُ إلَّا تغلق شاه في السند فإنه أعلن الخلافَ، وسار إليه وقَتَله أيضًا فلم يَدُمْ في ملكه سوى أربعة أشهر، فكان خسروخان هذا آخِرَ ملوك الخلجيين، وكان تغلق هذا استعان بكشلوخان أمير الملتان ضِدَّ الجيش الذي أرسله خسروخان ضده فانهزم جيشُ خسروخان وتسَلَّم تغلق المُلكَ وتلقَّبَ بغياث الدين، فكان أول ملوك دولة آل تغلق.
أبو سعيد ملك التتار يمنع الخمور وبيوت الفواحش في العراق .
العام الهجري : 720 العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ الخبَرُ بأنَّ أبا سعيد بن خربندا مَلِك التتار بالعراق أراق الخُمورَ في سائر مملكته، وأبطل منها بيوتَ الفواحش، وأبعد أربابَ الملاهي، وأغلق الخاناتِ، وأبطل المكوسَ التي تُجبى من التجارة الواردة إليهم من البلاد، وهَدَّم كنائسَ بالقرب من توريز، ورفع شهادةَ الإسلام، ونشر العَدَل، وعَمَر المساجِدَ والجوامع، وقَتَل من وَجَد عنده الخمرَ بعد إراقته، فكتب السلطانُ الناصر محمد بن قلاوون لسائِرِ نواب الشام بإبطالِ ضَمانِ الخمَّارات وإراقةِ الخُمور، وغَلقِ الحانات، واستتابةِ أهلِ الفواحِشِ، فعُمِلَ ذلك في سائر مدن البلاد الشاميَّةِ.
الصلح بين السلطان الناصر وبين أبي سعيد ملك المغول في العراق .
العام الهجري : 720 العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ المجدُ السلامي على البريدِ مِن عند الملك أبي سعيد بن خربندا في طلب الصُّلحِ، فخرج القاضي كريم الدين الكبير إلى لقائه، وصَعِدَ به إلى القلعة، فأخبر المجد السلامي برغبةِ جوبان وأعيان دولة أبي سعيد في الصلحِ، وأنَّ الهديَّةَ تَصِلُ مع الرسل، فكَتَب إلى نائبي حلب ودمشق بتلقِّي الرسُلِ وإكرامِهم، فقدم البريدُ بأن سليمان بن مهنا عارض الرُّسُل، وأخذ جميعَ ما معهم من الهَديَّة، وقد خرج عن الطاعةِ لإخراجِ أبيه مهنَّا من البلاد وإقامةِ غيرِه في إمرة العرب، ثمَّ قَدِمَت الرسل بعد ذلك بالكُتُب، وفيها طلب الصلحِ بشُروطٍ: منها ألا تدخُلَ الفداوية إليهم، وأنَّ مَن حضر من مصر إليهم لا يُطلَبُ، ومن حضر منهم إلى مصرَ لا يعود إليهم إلَّا برضاه، وألَّا يُبعَث إليهم بغارة من عَرَب ولا تُركمان، وأن تكون الطريقُ بين المملكتين مفتوحةً تسير تجارُ كُلِّ مملكة إلى الأخرى، وأن يسيرَ الركبُ من العراق إلى الحجاز في كلِّ عامٍ بمَحمَلٍ ومعه سنجق فيه اسمُ صاحِبِ مِصرَ مع سنجق أبي سعيد ليتجَمَّلَ بالسنجق السلطانيِّ، وألا يُطلَب الأميرُ قراسنقر، فجمع السلطانُ الأمراءَ واستشارهم في ذلك بعدما قرأ عليهم الكتاب، فاتفق الرأي على إمضاءِ الصلحِ بهذه الشروط، وجُهِّزَت الهدايا لأبي سعيدٍ, وفيها خِلعةٌ أطلس باولي زركش، وقباءٌ تتَرِيٌّ وقرقلات وغير ذلك، ممَّا بلغت قيمته أربعين ألف دينار، وأعيد الرسُلُ بالجوابِ، وفيه ألَّا يُمكَّنَ عَرَبُ آل عيسى من الدخول إلى العراق، فإنَّ العَسكَرَ واصِلٌ لقتالهم، وسافر السلامي على البريد يُبَشِّرُ بعود الرسُلِ بالهَديَّة.
وقعة عظيمة ببلاد المغرب بين المسلمين والفرنجة وانتصار المسلمين .
العام الهجري : 720 العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
كانت وقعةٌ عظيمة ببلاد المغرب بين المسلمين والفرنجِ، فنصر الله المسلمينَ على أعدائِهم، فقتلوا منهم خمسينَ ألفًا وأَسَروا خمسةَ آلاف، وكان في جملةِ القَتلى آلاف من ملوك الفرنج، وغنموا شيئًا كثيًرا من الأموال، يقالُ: كان من جملة ما غنموا سبعون قنطارًا من الذهب والفضة، وإنما كان جيشُ الإسلام يومئذ ألفين وخمسَمائة فارس غير الرماة، ولم يُقتَلْ منهم سوى أحد عشر قتيلًا، وهذا من غريبِ ما وقع وعجيبِ ما سُمِع!
الإغارة على بلاد الأرمن وتل حمدان وسيس .
العام الهجري : 720 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
اجتمعت جُيوشُ السلطان الناصر بأرض حلَب نحوًا من عشرين ألفًا، عليهم كلِّهم نائبُ حلب الطنبغا وفيهم نائب طرابلس شهاب الدين قرطبة، فدخلوا بلاد الأرمن من إسكندرونة ففتحوا الثَّغرَ ثمَّ تل حمدان ثم خاضوا نهر جاهان فغَرِقَ منهم جماعة، ثم سلَّم اللهُ من وصلوا إلى سيس فحاصروها وضَيَّقوا على أهلها وأحرَقوا دارَ المَلِك التي في البلد، وقَطَعوا أشجارَ البساتين وساقوا الأبقارَ والجواميسَ والأغنام وكذلك فَعَلوا بطرسوس، وخَرَّبوا الضياعَ والأماكِنَ وأحرقوا الزروعَ ثمَّ رَجَعوا فخاضوا نهر جاهان, فلم يغرق منهم أحد، وأخرجوا بعد رجوعِهم مهنا وأولادَه من بلادهم وساقوا خَلفَه إلى عانة وحديثه، ثم بلغ الجيوشَ موتُ صاحب سيس وقيامُ ولده من بعده، فشَنُّوا الغارات على بلاده وتابعوها وغَنِموا وأسَروا إلَّا في المرة الرابعة فإنه قُتِلَ منهم جماعة.
حبس شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في القلعة .
العام الهجري : 720 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1320
تفاصيل الحدث:
في يومِ الخميس الثاني والعشرين من رجب عُقِدَ مجلس بدار السعادة للشَّيخِ تقي الدين ابن تيمية بحضرة نائب السَّلطنةِ، وحضر فيه القضاةُ والمُفتُونَ من المذاهب، وحضر الشيخُ وعاتبوه على العَودِ إلى الإفتاء بمسألةِ الطلاقِ، ثمَّ حُبِسَ في القلعةِ فبَقِيَ فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، ثمَّ ورد مرسوم من السلطانِ بإخراجه يوم الاثنين يوم عاشوراء من سنةِ إحدى وعشرين، وكان الشيخُ قد عُقِدَ له أكثَرُ من مجلسٍ ومُنِعَ من الإفتاء في هذه المسألة في الطلاقِ، وهو أنَّ مَن حلف بالطلاقِ غَيرَ ناوٍ للطلاقِ فإنَّه لا يَقَعُ، ومسألة طلاقِ الثلاثِ في مجلسٍ واحدٍ تُعتبَرُ طلقةً واحدة، وقد أُصدِرَ مرسومٌ من السلطان بمَنعِه من الفتوى بهذه المسألةِ، وكان قد امتنع أوَّلًا، ثم في هذه السنة حصل اعتقالُه.
========
ج 147.
وفاة شمس الدين محمد الهمذاني السكاكيني متشيع .
العام الهجري : 721 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1321
تفاصيل الحدث:
هو الشيخُ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمذاني ثم الدمشقي السكاكيني المتشيِّع، ولِدَ سنة 635 بدمشق، وطلب الحديثَ وتأدَّبَ وسَمِعَ وهو شابٌّ من إسماعيل بن العراقي والرشيد بن مسلمة، ومكي بن علان في آخرين، وتلا بالسبع، ومن مسموعاته مُسنَدُ أنس للحنيني على إسماعيل عن السلفي، ومن فوائد أبي النرسي بالسند عنه روى عنه البرزالي والذهبي وآخرون، من آخرهم أبو بكر بن المحب، وبالإجازة برهانُ الدين التنوخي. رُبِّي يتيمًا فأُقعِدَ في صناعة السكاكين عند شيخ رافضيٍّ فأفسد عقيدتَه, ثم أخذ عن جماعةٍ مِن الإمامية وله نظمٌ وفضائِلُ وردٌّ على العفيف التلمساني في الاتحاد، وأَمَّ بِقَريةِ جسرينَ مُدَّةً، وأقام بالمدينةِ النبويَّة عند أميرها منصور ابن جماز مدةً طويلةً، ولم يُحفَظْ له سبٌّ في الصحابةِ، بل له نظم في فضائِلِهم إلَّا أنه كان يناظر على القَدَرِ ويُنكِرُ الجَبْرَ وعنده تعبُّدٌ وسَعةُ عِلمٍ. قال الذهبي: "كان حلوَ المجالسة ذكيًّا عالِمًا فيه اعتزالٌ، وينطوي على دينٍ وإسلام وتعبُّدٍ، سَمِعْنا منه وكان صديقًا لأبي، وكان ينكر الجبرَ ويناظرُ على القَدَر" قال الصفدي: "وترَفَّضَ به أناسٌ من أهل القرى؛ لذا قال تقيُّ الدينِ ابنُ تيميَّة: "هو ممَّن يتسَنَّنُ به الشيعيُّ، ويتشَيَّعُ به السُّنيُّ!" وكان يجتَمِعُ به شيخُ الإسلام كثيرًا، وقيل إنَّه رجع في آخِرِ عُمُرِه ونسخ صحيحَ البخاري، وجد بعد موته بمدة في سنه 750 بخطٍّ يشبه خَطَّه كتابٌ يسمَّى الطرائف في معرفة الطوائف يتضمَّنُ الطعن على دين الإسلام وأورد فيه أحاديثَ مُشكِلة وتكلَّم على متونِها بكلامِ عارفٍ بما يقولُ إلَّا أنَّ وضعَ الكتابِ يدُلُّ على زندقةٍ فيه، وقال في آخره: وكتبه مصنِّفُه عبد الحميد بن داود المصري، وهذا الاسمُ لا وجود له، وشَهِدَ جماعة من أهل دمشق أنَّه خطُّه فأخذه تقي الدين السبكي عنده وقطَّعَه في اللَّيلِ وغَسَلَه بالماء، ونَسَب إليه عمادُ الدين ابن كثير الأبياتَ التي أوَّلُها: يا معشر الإسلام ذمي دينكم... الأبيات. مات شمس الدين في صفر في هذه السنة. وابنُه حسن نشأ في الرفضِ، فثبت عليه ذلك عند القاضي شرف الدين المالكي بدمشق وثبت عليه أنَّه يكَفِّرُ الشيخين وقَذَف ابنَتَيهما ونَسَب جبريل إلى الغلط في الرِّسالة، فحكم بزندقته وبِضَرب عُنُقِه فضُرِبَت سنة 744.
هدم العامة كنائس النصارى بمصر وحرق بعضها .
العام الهجري : 721 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1321
تفاصيل الحدث:
ثارت العامَّةُ يدًا واحدةً في يوم الجمعة تاسِعَ ربيع الآخر، وهَدَموا كنيستينِ مُتقابلتَينِ بالزهري، وكنيسة بستان السكري، وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصرَ، ففي هذا اليوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بطل العَمَلُ وقتَ الصلاةِ لاشتغالِ الأمراء بالصلاةِ، اجتمع من الغلمانِ والعامَّة طائفةٌ كبيرة، وصرخوا صوتًا واحدًا: اللهُ أكبر، ووقعوا في أركانِ الكنيسة بالمساحي والفُؤوسِ حتى صارت كُومًا، ووقع مَن فيها من النصارى، وانتهب العامَّةُ ما كان بها، والتفَتوا إلى كنيسة الحمراء المجاورة لها، وكانت من أعظَمِ كنائس النصارى، وفيها مالٌ كبير، وعِدَّةٌ من النَّصارى ما بين رجالٍ ونساءٍ مُتَرَهِّبات، فصعدت العامَّةُ فوقها، وفتحوا أبوابَها ونهبوا أموالَها وخُمورَها، وانتقلوا إلى كنيسةِ بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت مَعبدًا جليلًا من معابد النصارى، فكَسَروا بابَها ونهبوا ما فيها، وقَتَلوا منها جماعة، وسَبَوا بنات كانوا بها تزيد عِدَّتُهن على ستين بكرًا، فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرضُ، فلما خرج الناسُ من الجامع رأوا غبارًا ودخانَ الحريق قد ارتفعا إلى السَّماءِ، وما في العامَّةِ إلَّا من بيده بنتٌ قد سباها أو جَرَّة خمرٍ أو ثوب أو شيء من النهب، فدُهِشوا وظنُّوا أنها الساعة قد قامت، وقَدِمَ مملوك والي مصر وأخبر بأن عامَّتَها قد تجمَّعَت لهدم كنيسة المعلَّقة حيث مسكَنُ البطرقِ وأموال النصارى، ويَطلُبُ نجدة، فلِشِدَّةِ ما نزل بالسلطان من الغَضَبِ هَمَّ أن يركَبَ بنَفسِه، ثم أردف أيدغمش بأربعةِ أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجِبَ، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينالَ إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وَجَدوه، فقامت القاهرةُ ومصر على ساق، وفَرَّت النهَّابة، فلم تُدرِك الأمراءُ منهم إلا من غلب على نفسِه بالسُّكرِ مِن الخمر، وأدرك الأميرُ أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامَّةُ من زقاق المعلقة، وأنكَوا مماليكَه بالرَّميِ عليهم، ولم يبقَ إلَّا أن يحرقوا أبوابَ الكنيسة، فجَرَّد هو ومن معه السيوفَ ليفتِكَ بهم، فرأى عالَمًا عظيمًا لا يحصيهم إلَّا خالِقُهم، فكفَّ عنهم خوفَ اتِّساعِ الخَرقِ، ونادى مَن وقَفَ فَدَمُه حلالٌ، فخافت العامَّةُ أيضًا وتفَرَّقوا، ووقف أيدغمش يحرُسُ المعَلَّقة إلى أن أُذِّنَ بالعصر، فصلى بجامع عمرو بن العاص، وعيَّنَ خمسينَ حارِسًا للمَبيتِ مع الوالي على بابِ الكنيسة، وعاد. وقيل كأنَّما نودي في إقليم مصر بهدمِ الكنائس، وأوَّل ما وقع الصوتُ بجامع قلعة الجبل, وذلك أنَّه لما انقضت صلاةُ الجمعة صرخ رجلٌ مُولَهٌ في وسط الجامع: "اهدِموا الكنيسةَ التي في القلعةِ"، وخرج في صراخه عن الحَدِّ واضطرب، فتعجَّب السلطانُ والأمراء منه، ونُدِبَ نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسةً في خرائب التتر قد أُخفِيَت، فهدموها، وما هو إلَّا أن فرغوا من هَدمِها والسلطانُ يتعَجَّبُ إذ وقع الصراخُ تحت القلعة، وبلغه هدمُ العامَّة للكنائس، وطُلِبَ الرجُلُ المُولَهُ فلم يُوجَدْ، وعندما خرج الناسُ من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامةَ في هرج عظيم، ومعهم الأخشابُ والصُّلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: "السلطانُ نادى بخراب الكنائس"، فظنُّوا الأمر كذلك، وكان قد خُرِّبَ من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبيَّنَ أنَّ ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان، فلما كان يومُ الأحد الحادي عشر سقط الطائِرُ من الإسكندرية بأنَّه لَمَّا كان الناس في صلاة الجمعة تجمَّع العامَّةُ وصاحوا هُدِمَت الكنائس، فركب الأميرُ بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاةِ لِيُدرِك الكنائس، فإذا بها قد صارت كُومًا، وكانت عِدَّتُها أربع كنائس، ووقعت بطاقةٌ من والي البحيرة بأنَّ العامَّةَ هَدَمت كنيستين في مدينة دمنهور، والنَّاسُ في صلاة الجمعة، ثمَّ ورد مملوكُ والي قوص في يوم الجمعة السابع عشر، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامَّةُ سِتَّ كنائس بقوص في نحو نصف ساعة، وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاةِ الجمعة، فكثُرَ التعَجُّبُ من وقوع هذا الاتِّفاق في ساعةٍ واحدة بسائر الأقاليم، وكان الذي هُدِمَ في هذه الساعة من الكنائِسِ سِتُّونَ كَنيسةً!!
حرائق هائلة بالقاهرة من قبل النصارى ردا على هدم كنائسهم .
العام الهجري : 721 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1321
تفاصيل الحدث:
كان عَقيبَ هَدمِ الكنائِسِ وقوعُ الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يومَ السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتَرَ إلى آخره، بدأ الحريقُ في رَبعٍ من أوقاف المارستان المنصوري، واشتد الأمرُ، والأمراءُ تُطفِئُه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوتُ قبل المغرب بالحريقِ في حارة الديلم بزُقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير، ودخل الليلُ واشتد هبوب الرياح، فسَرَت النار في عِدَّة أماكن، وبعث كريمُ الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يُعَرِّفُه، فبعث عِدَّةً من الأمراء والمماليك لإطفائِه خوفًا على الحواصِلِ السلطانية ثم تفاقم الأمرُ، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائرِ السائقينَ والأمراء، ونزلت الحُجَّاب وغيرهم، والنار تَعظُمُ طُولَ نهار الأحد، وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنينِ والنار تُتلِفُ ما تمُرُّ به، والهَدٌّ واقع في الدور التي تجاور الحريق خشيةً مِن تعَلُّقِ النار فيها وسَرَيانها في جميع دور القاهرة، فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريقِ عن القُدرة البَشَرية، وخرجت ريحٌ عاصِفةٌ ألقت النخيلَ وغَرَّقت المراكب، ونَشَرت النار، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميعِ مَن في القلعة وجميعِ أهل القاهرة، ونُقِل الماءُ على جمال الأمراء، ولحِقَه الأمير بكتمر الساقي وأُخرِجَت جمالُ القرى السلطانية، ومُنِعَت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونُقِلَت المياه من المدارس والحمَّامات والآبار، وجُمِعَت سائر البنائين والنجارين، فهُدَّت الدور من أسفلِها والنار تحرِقُ في سقوفها، وعَمَل الأمراء الألوف وعِدَّتُهم أربعة وعشرون أميرًا بأنفُسِهم في إطفاء الحريقِ، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحرًا، ثم خَمِدَت النار وعاد الأمراء، فوقع الصياحُ في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهِرِ خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبَّت الرياح مع ذلك، فرَكِبَ الحُجَّاب والوالي وعملوا في إطفائها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دورًا كثيرةً مِمَّا حوله، فما كاد أن يفرغ العَمَلُ من إطفاء النار حتى وقعت النارُ في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلى البادهنج- المنفذ الذي يجيء منه الريح- وكان ارتفاعُه من الأرض زيادة على مائة ذراع- بذراع العمل- ورأوا فيه نِفطًا قد عُمِلَ فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أُطفِئَت، من غير أن يكون لها أثرٌ كبير، ونُودِيَ بأن يُعمَلَ بجانِبِ كُلِّ حانوت بالقاهرةِ ومصرَ زيرُ ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقَّة، فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحالُ كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوعِ الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرةِ والأمير بيبرس الحاجب من النَّومِ، فشاع بين الناس أنَّ الحريق من جهة النصارى لَمَّا أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيرانُ توجَدُ تارة في منابر الجوامِعِ وتارة في حيطان المدارسِ والمساجد، ووُجِدَت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلقُ النَّاسِ وكَثُر خوفهم، وزاد استعدادُهم بادِّخار الآلات المملوءة ماء في أسطُحِ الدور وغيرها، وأكثر ما كانت النارُ توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطح والبادهنجانات، ويُوجَدُ النِّفطُ قد لُفَّ في الخِرَق المبَلَّلة بالزيت والقطران، فلما كانت ليلةُ الجمعة الحادي عشر جمادى الأولى قُبِضَ على راهِبَينِ خرجا من المدرسة الكهاريَّة بالقاهرة، وقد أضرما النارَ بها، وأُحضِرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشَمَّ منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغدِ إلى السلطان، فأمر بعقوبتِهما حتى يعترفا، فلما نزل الأميرُ علم الدين بهما وجد العامَّةَ قد قبضت على نصرانيٍّ مِن داخل باب جامِعِ الظاهر بالحُسَينية، ومعه كعكة خِرَق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانِبِ المنبر، فلما فاح الدخانُ أنكروه, ووجدوا النصرانيَّ وهو خارج والأثَرُ في يديه، فعُوقِبَ قبل صاحبيه، فاعترف النصرانيُّ أنَّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعَمِلوا النفط، وفَرَّقوه على جماعة ليَدورُوا به على المواضع، ثم عاقَبَ الأمير علم الدين الراهبينِ، فأقرا أنَّهما من دير البغل، وأنهما هما اللذانِ أحرقا سائر الأماكن التي تقَدَّمَ ذِكرُها، وذلك أنَّه لَمَّا مر بالكنائس ما كان، حَنِقَ النصارى من ذلك وأقاموا النياحةَ عليها، واتَّفَقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفطَ وحَشَوه بالفتائِلِ وعَمِلوها في سهامٍ ورَموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السَّهمِ تقَعُ على مسافة مائة ذراع، فلما أنفقوا ذلك فَرَّقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقَوا الفتيلةَ، حتى كان ما كان، فطالع الأميرُ علم الدين السلطانَ بذلك، واتَّفَق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندريَّة، فعَرَّفه السلطان ما وقع من القَبضِ على النصارى، فقال البطرق: هؤلاء سُفَهاءُ قد فعلوا كما فَعَل سُفَهاؤُكم، والحُكمُ للسلطان، وأقام البطركُ ساعةً، وقام فرَكِبَ بغلةً كان قد رُسِمَ له منذ أيام بركوبِها، فشَقَّ ذلك على الناس، وهَمُّوا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك، فلما رَكِب كريم الدين من الغد صاحت العامَّةُ به: "ما يحِلُّ لك يا قاضي تحامي للنصارى، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتُركِبُهم البغال، فانتكى كريمُ الدين منهم نكايةً بالغةً، وأخذَ يُهَوِّنُ من أمر النصارى الممسوكين ويَذكُرُ أنَّهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمْرِ البُطرُقِ، وأنه اعتُنيَ به، فأمر السلطانُ الواليَ بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهبًا بدير البغل، فقُبِضَ عليهم من الدير، وعُمِلَت حفيرةٌ كبيرة بشارع الصليبة، وأُحرِقَ فيها أربعة منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالمٌ عظيم، فاشتدت العامَّةُ عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسَلَبوهم ثيابَهم، وألقَوهم من الدوابِّ إلى الأرض، وركب السلطانُ إلى الميدان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخر، وقد اجتمع عالمٌ عظيم، وصاحوا: "نصر اللهُ الإسلامَ، انصر دينَ محمَّد بن عبد الله"، فلما استقَرَّ السلطان بالميدان حتى أَحضَرَ له الخازنُ والي القاهرة نصرانيَّينِ قد قُبِضَ عليهما، فأُحرِقا خارجَ الميدان، وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريفُ، فصاحت به العامة: "كم تحامي للنصارى"، وسَبُّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشَقَّ ذلك على السلطان، واستشار الأمراءَ في أمر العامة، فأشار عليه الأميرُ جمال الدين أقوش نائِبُ الكرك بعزل الكُتَّاب النَّصارى، فإنَّ النَّاسَ قد أبغضوهم، فلم يُرضِه ذلك، وتقَدَّمَ السلطان إلى ألماس الحاجب أن يَخرُجَ في أربعة أمراء ويضَعَ السَّيفَ في العامَّةِ حتى ينتهيَ إلى باب زويلة، ويمُرَّ إلى باب النصرِ وهو كذلك ولا يرفَع السَّيفَ عن أحد، وأمرَ والي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى بابِ اللوق والبحر، ويَقبِضَ من وجده، ويحمِلَهم إلى القلعة، وعَيَّن لذلك مماليكَ تَخرُجُ من الميدان، فبادر كريمُ الدين وسأل السلطانَ العَفوَ، فقَبِلَ شَفاعتَه، ورسم بالقبضِ على العامَّةِ مِن غَيرِ قَتلِهم، وكان الخبَرُ قد طار، ففَرَّت العامَّةُ حتى الغلمان، وصار الأميرُ لا يجِدُ مَن يُركِبُه، وانتشر ذلك، فغُلِّقَت جميعُ أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجِدوا أحدًا، وشَقُّوا القاهرةَ إلى باب النصر، فكانت ساعةً لم يمُرَّ بالناس أعظَمُ منها، ومَرَّ الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيرًا من الكلابزة- من يتولَّى تربية الكلاب وبَيعَها- والنواتية –الملَّاحين- وأراذل العامَّة، بحيث صار كلُّ من رآه أخَذَه، وجفَل الناسُ مِن الخوف، وعَدوا في المراكب إلى بر الجيزة، فلما عاد السلطانُ إلى القلعة لم يجد أحدًا في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يُصلَبوا، وأفرد جماعةً للشَّنقِ وجماعةً للتوسيطِ، وجماعةً لقطع الأيدي، فصاحوا: "يا خوند- يا سيد- ما يحِلُّ لك، فما نحن الغُرَماء"، وتباكوا فَرَّقَ لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراءُ، وما زالوا بالسلطان حتى رسم بصَلبِ جماعةٍ منهم على الخَشَبِ من باب زويلة إلى سوقِ الخَيلِ، وأن يُعَلَّقوا بأيديهم، فأصبحوا يومَ الأحدِ صفًّا واحدًا من بابِ زويلة إلى سوقِ الخيل تحت القلعة، فتوجَّعَ لهم الناس، وكان منهم كثيرٌ مِن بياض الناس، ولم تُفتَح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسِه، ولم يَسلُكْ من باب زويلة، وصَعِدَ القلعة من خارج السور، فإذا السلطانُ قد قَدَّم الكلابزة وأخَذَ في قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسَه وقَبَّل الأرض، وباس رِجلَ السُّلطانِ، وسأله العفو، فأجابه السلطانُ بمساعدة الأمير بكتمر، وأمَرَ بهم فقُيِّدوا وأُخرِجوا للعَمَلِ في الحفير بالجيزة، ومات ممَّن قُطِعَ يَدَه رَجُلان، وأُمِرَ بحَطِّ من عُلِّقَ على الخَشَب، فللحالِ وقع الصوتُ بحريقِ أماكِنَ بجوار جامع ابن طولون، وبوقوعِ الحريق في القلعةِ، وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفُندق طرنطاي خارج باب البحر، فدُهِشَ السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجارِ الزيت الوارد من الشام، فعَمَّت النار كلَّ ما فيه حتى العُمُد الرُّخام، وكانت ستة عشر عمودًا، طولُ كل منها ستة أذرع، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلُّها جيرًا، وقُبِضَ فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائِلُ النفط، اعتَرَفوا أنهم فعلوا ذلك، فخاف السلطانُ الفتنةَ ورجع إلى مداراتِهم، وتقَدَّم إلى الحاجِبِ بأن يخرُجَ وينادي: "من وجد نصرانيًّا فدَمُه ومالُه حلالٌ"، فلما سمعوا النداءَ صرخوا صوتًا واحدًا: "نصرك الله يا ناصِرَ دين الإسلام"، فارتجَّت الأرض، ونودِيَ عَقيبَ ذلك بالقاهرة ومصر: "من وُجِدَ من النصارى بعمامةٍ بَيضاءَ حَلَّ دمه، ومن وُجِدَ من النصارى راكبًا باستواءٍ حَلَّ دمه" وكُتِبَ مرسومٌ بلُبس النصارى العمائِمَ الزرق، وألَّا يركبوا فَرَسًا ولا بغلًا، وأن يركبوا الحميرَ عَرضًا، ولا يدخلوا الحَمَّام إلَّا بجَرَس في أعناقهم، ولا يتزَيَّوا بزيِّ المسلمين هم ونساؤُهم وأولادهم، ورُسِمَ للأمراء بإخراج النصارى من دواوينِهم ومن دواوين السلطان، وكُتِبَ بذلك إلى سائر الأعمال، وغُلِّقَت الكنائس والأديرة، وتجرَّأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعَرَّوهم ثيابَهم، فلم يتجاسَرْ نصرانيٌّ أن يخرُجَ من بيته، ولم يُتحَدَّثْ في أمرِ اليهودِ، فكان النصرانيُّ إذا طرأ له أمرٌ يتزيَّا بزيِّ اليهودِ، ويلبَس عمامة صفراءَ يكتريها من يهوديٍّ ليخرُجَ في حاجتِه! واحتاج عِدَّةٌ من النصارى إلى إظهارِهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخُلِعَ عليه، وأسلم كثيرٌ منهم، واعترف بعضُهم على راهب بدير الخندق أنه كان يُنفِقُ المالَ في عَمَل النفطِ للحريق ومعه أربعة، فأُخِذوا وسُمِّروا.
وفاة الملك المؤيد هزبر الدين التركماني ملك اليمن وتولي ابنه بعده .
العام الهجري : 721 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1322
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ المؤيَّد هزبر الدين داودُ بن الملك المظفَّر يوسف بن عمر بن رسول التركماني الأصل اليمني المولِد والمنشأ والوفاة صاحِبُ ممالك اليمن، تسلطنَ بعد أخيه في المحرَّم سنة 696 فملَك نيفًا وعشرينَ سنة، وكان قبل سلطنته تفَقَّه وحَفِظَ كفايةَ المتحَفِّظ، ومُقَدِّمة ابن بابشاذ، وبحث التنبيه وطالعَ وفضل وسمع الحديث، وجمعَ الكتب النفيسةَ في سَلطنَتِه، حتى قيل إن خزانةَ كُتُبِه اشتملت على مائة ألف مجلَّد، وكان مشكور السيرة محبًّا لأهل الخير وكانت وفاتُه في ذي الحجة، وتولى بعده ابنه الملك المجاهد علي، واضطربت ممالِكُ اليمن بعد موتِه، وتولَّى عِدَّةُ سلاطينَ.
فتح إياس من بلاد الأرمن .
العام الهجري : 722 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1322
تفاصيل الحدث:
في ربيع الأول تكامل فتح إياس (من بلاد الأرمن على ساحل البحرِ) ومعامَلتها وانتزاعُها من أيدي الأرمن، وأُخِذَ البرج الأطلس- وهو أحدُ ثلاثة أبراج وهي الأطلس والشمعة والإياس- بينه وبينها في البحر رميةٌ ونصف، فأخذه المسلمونَ بتوفيق الله وخَرَّبوه، وكانت أبوابُه مَطليَّةً بالحديد والرصاص، وعَرضُ سُورِه ثلاثة عشر ذراعًا، وغنم المسلمونَ غنائِمَ كثيرةً جدًّا، وحاصروا كوارَه فقوي عليهم الحَرُّ والذباب، فرسم السلطانُ بعَودِهم، فحرقوا ما كان معهم من المجانيقِ وأخذوا حديدَها وأقبلوا سالمين غانمينَ، وكان معهم خلقٌ كثيرٌ من المتطوعين.
الإغارة على بلاد سيس .
العام الهجري : 722 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1322
تفاصيل الحدث:
في مُستَهَلِّ جمادى الأولى قَدِمَ البريد بأن العسكَرَ أغار على بلاد سيس، وأخرَبَ وغَنِمَ وقتل جماعة، وأنَّ أوشين متمَلِّكَ سيس هلك، وقام مِن بعدِه ابنُه ليفون، وله من العُمرِ نحو اثنتي عشرة سنة، وأن العساكِرَ نازلت إياسَ وأخذوها عَنوةً بعد حصار، وقتلوا أهلَها وخَرَّبوها، وعادوا على الأرمن فغَنِموا وأسَروا منهم كثيرًا، وتوجَّهوا عائدين، فقَدِمَ الأمير جمال الدين أقوش بالعسكرِ إلى القاهرة في السابع عشر جمادى الآخرة، وخُلِع عليه.
وفاة قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى الشافعي .
العام الهجري : 723 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1323
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ قاضي القضاة نجمُ الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم بن أبي المواهب، الربعي الثعلبي الدمشقي الشافعي، الشهيرُ بابن صصرى قاضي القُضاة بالشام، وُلِدَ في ذي القعدة سنة 655، ووالدتُه هي شاه ست بنت أبي الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علان القيسية الدمشقية، ذكرها الذهبي في معجم الشيوخ الكبير. كان في ابتداء أمرِه كتب في الإنشاء، وكان له نظمٌ ونثرٌ ومُشاركة في فنونٍ كثيرة، فصيحَ العبارة، قادرًا على الحفظ، يحفظُ أربعة دروس في اليوم، سمِعَ ابن صصرى الحديثَ واشتغل وحَصَّل وكتَبَ عن القاضي شمس الدين بن خَلِّكان وفياتِ الأعيان، وسَمِعَها عليه، وتفقَّه بالشيخ تاج الدين الفزاري، وعلى أخيه شرف الدين في النَّحو، وكان له يدٌ في الإنشاء وحُسن العبارة. درَّس بالعادلية الصغيرة سنةَ ثنتين وثمانين، وبالأمينية سنة تسعين، وبالغزالية سنة أربع وتسعين، وتولى قضاء العساكر في دولة العادل كتبغا، ثم تولَّى قضاء الشام سنة ثنتين وسبعمائة، بعد ابنِ جماعة حين طُلِبَ لقضاء مصر بعد ابن دقيق العيد، ثم أضيف إليه مشيخةُ الشيوخ مع تدريس العادلية والغزالية والأتابكية، في يوم الثلاثاء سابِعَ شعبان عَزَل نجم الدين بن صصرى نفسه عن الحُكمِ بسبب كلامٍ سمعه من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. كان نجم الدين ابن صصرى من خصومِ شيخ الإسلام ابن تيمية, ففي الثاني عشر رجب سنة 698 قرأ المِزِّي فصلًا من كتاب أفعال العباد للبُخاري في الجامع، فسَمِعَه بعض الشافعية فغضِبَ، وقالوا: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه، فبلغ ابن تيمية فتوجَّهَ إلى الحبس فأخرجه بيده، فبلغ القاضي ابن صصرى فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيميَّةَ فتشاجرا بحضرة النائِبِ، واشتطَّ ابن تيمية على القاضي لِكَونِ نائبه جلال الدين آذى أصحابَه في غَيبة النائب، فأمر النائب من ينادي أنَّ من تكلَّمَ في العقائد فُعِلَ كذا به، وقصد بذلك تسكينَ الفتنة. وفي خامس رمضان بطلب القاضي والشيخ وأن يرسلوا بصورةِ ما جرى للقاضي نجم الدين ابن صصرى، ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكارِ على الشيخ ابن تيمية، وأنَّ الأمرَ اشتَدَّ بمصر على الحنابلة، حتى صفع بعضهم، ثم توجه القاضي ابن صصرى وشيخ الإسلام إلى القاهرة ومعهما جماعةٌ فوصلا في العشر الأخير من رمضان، وعُقِدَ مجلس في ثالث عشر منه بعد صلاة الجمعة، فادعى على ابن تيميَّةَ عند المالكي، فقال: هذا عدوِّي ولم يجِبْ عن الدعوى، فكرر عليه فأصَرَّ، فحكم المالكيُّ بحبسِه، فأقيم من المجلسِ وحُبِسَ في برجٍ، ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه، فقال: يجب التضييقُ عليه إنْ لم يُقتَل وإلَّا فقد ثبت كفرُه، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجبِّ، وعاد القاضي ابن صصرى الشافعي إلى ولايتِه، ونودي بدمشق من اعتقد عقيدةَ ابن تيمية حَلَّ دَمُه ومالُه خصوصًا الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم. توفي ابن صصرى فجأةً ببستانه بالسَّهمِ ليلة الخميس سادس عشر ربيع الأول عن ثمان وستين سنة وصُلِّيَ عليه بالجامع المظفري، وحضر جنازتَه نائب السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان، وكانت جنازتُه حافلةً ودُفِنَ بتربتهم عند الركنية.
الإغارة على بلاد النوبة .
العام الهجري : 723 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1323
تفاصيل الحدث:
في أوَّلِ ذي الحِجَّة خرج الأمير علاء الدين علي بن قراسنقر، والأمير سيف الدين أيدمر الكبكي، والأمير طقصباي المرتبة فديته بقوص، وخمسمائة من أجناد الحلقة إلى بلاد النوبة، ومعهم كرنبس، فانتهوا إلى دنقلة، وكان قد تغَلَّب كنزُ الدولة عليها، ونَزَع كرنبس، ففَرَّ كَنزُ الدولة منهم، وجلس كرنبس على سريرِ مُلكِه وعادوا، فحارب كنزُ الدولة كرنبس بعد عود العسكر، ومَلَك منه البلادَ.
فتنة وقتل وقحط بأصبهان وأمراض وموت بالشام ومصر والصعيد .
العام الهجري : 724 العام الميلادي : 1323
تفاصيل الحدث:
وقعت فِتنةٌ بأصبهان قُتِلَ بسَببِها ألوفٌ من أهلها، واستمَرَّت الحربُ بين أهلها شهورًا، وقَحَطَت بلادُ الشرق، فقَدِمَت طوائف إلى بلاد الشام، وكان الجراد قد أتلف زُروعَها، فجهز الأمراءُ مِن مِصرَ الغِلالَ الكثيرةَ في البحر إلى بيروت وطرابلس، فكان ما حُمِلَ من جهة السلطان الناصر محمد بن قلاوون والأمراء نحو عشرين ألف أردب سوى ما حمله التجَّار، فانحَطَّ السِّعرُ وكُتِبَ بإبطال مُكسِ الغَلَّة بالشام، وفَشَت الأمراضُ في الناس بالشام ومصر والصعيد، وكثر الموت السريعُ، ومَرِضَ السلطانُ ثمانية عشر يومًا وعُوفِيَ.
وفاة الشيخ البكري الشافعي .
العام الهجري : 724 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1324
تفاصيل الحدث:
هو نور الدين أبو الحسن علي بن يعقوب بن جبريل البكري المصري الشافعيُّ، له تصانيفُ، وقرأ مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا، ثمَّ إنه أقام بمصر، وقد كان في جملةِ خُصومِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية، أراد بعضُ رجال الدولة قَتْلَه فهرب واختفى عند ابن تيميَّة لَمَّا كان مقيمًا بمصر، وما مثالُه إلَّا مثالُ ساقيةٍ ضعيفةٍ كَدِرة لاطمت بحرًا عظيمًا صافيًا، أو رملةٍ أرادت زوال جبل، وقد أضحك العقلاءَ عليه، وقد أراد السلطانُ قَتْلَه فشَفِعَ فيه بعض الأمراء، ثم أنكر مرَّةً شيئًا على الدولةِ فنُفِيَ من القاهرة إلى بلدةٍ يقال لها: ديروط، فكان بها حتى توفِّيَ يوم الاثنين سابع ربيع الآخر، ودفن بالقرافة، وكانت جنازتُه مشهورةً غيرَ مشهودة، وكان شيخُه ينكِرُ عليه إنكارَه على ابن تيمية، ويقولُ له أنت لا تحسِنُ أن تتكَلَّم، ولشيخ الإسلام الردُّ المشهور عليه المعروف باسم الردِّ على البكري أو الاستغاثةِ.
وفاة الباجربقي المنحرف صاحب الملحمة الباجربقية .
العام الهجري : 724 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1324
تفاصيل الحدث:
هو الزاهِدُ محمد بن عبد الرحيم بن عمر الجزري، ابن المفتي الكبير جمال الدين الباجربقي، نسبةً إلى باجربق قرية بين النهرين، هو رأسُ الفرقة الضالة المعروفة بالباجربقيَّة، كان والده فاضلًا عالِمًا، انتقل إلى دمشق وجلس للإفادةِ والإفتاء. نشأ ابنُه محمد هذا بدمشق، فاشتغل أولًا بالفقه، ثم عدل إلى السلوكِ فتزهَّدَ وحصل له حالٌ وكَشفٌ، وبدأ ينحَرِفُ حتى أنكر وجود الله تعالى، ثم انقطع فصَحِبَه جماعةٌ من الرذالة، وهَوَّن لهم أمرَ الشَّرائِعِ وأراهم بوارِقَ شيطانيَّة، وكان له قوةُ تأثير، وقد ألَّفَ كتابه المعروف بالملحمة الباجربقيَّة ونُقل عنه انتقاصُه للأنبياء صلواتُ الله عليهم، وتَرْكُ الشرائع، فحكم عليه القاضي الزواوي المالكي بإراقةِ دَمِه، فهرب إلى الشرقِ، ثمَّ أثبت أنَّ بينه وبين الشهود عداوةً، فحُقِنَ دَمُه بذلك فرجع إلى دمشق وبَقِيَ في القابون إلى أن توفي فيها ليلة الأربعاء سادس عشر ربيع الآخر، ودفن بالقرب من مغارة الدم بسفح قاسيون في قبة في أعلى ذيل الجبل تحت المغارة، وله من العمر ستون سنةً.
استيلاء أبي الوليد ملك غرناطة على مدينتي بياسة ومرتش الإسبانية .
العام الهجري : 724 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1324
تفاصيل الحدث:
بعد أن انتصر ملِكُ غرناطة أبو الوليد إسماعيل في موقعة ألبيرة قَوِيَ شأنُه أكثَرَ، فتعاقَبَت غزواتُه في أراضي النصارى وممتلكاتِهم، فزحف على مدينةِ بياسة الحصينة فحاصَرَها حتى استسلَمَت، ثمَّ استولى عَنوةً على مدينة مرتش وغَنِمَ منها الكثيرَ.
هدم الكنائس التي جددت في منية بني خصيب (محافظة المنيا بمصر) .
العام الهجري : 724 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1324
تفاصيل الحدث:
توجَّهَ الأمير أرغون النائب إلى منية بني خصيب، فشكا أهلُها من مُباشريهم، فلم يسمَعْ لهم وأمر بضَربِهم، فرَجَموه بالحجارةِ وأنكَوا في مماليكِه وغِلمانِه، فرَكِبَ عليهم أرغون ليفتِكَ بهم، ففَرُّوا من عند الوطاق خارج البلد إلى داخِلِ البلد، فأخذ مماليكُه من عمائِمِ الهاربين ما يزيدُ على ثلاثمائة وستين عمامة زرقاء من عمائِمِ النصارى، فلما استكثَرَ ذلك قيل له إنَّ بها كثيرًا من النصارى، ولهم خَمسُ كنائس، فهَدَمَها في ساعةٍ واحدة، ورسَمَ ألَّا يُستخدَمَ نَصرانيٌّ في ديوانِه، وكان النصارى قد جَدَّدوا عمارة ما خُرِّبَ من الكنائس بالصعيد، فهُدِّمَت أيضًا.
اجتماع عدة رسل في مصر عند السلطان .
العام الهجري : 725 العام الميلادي : 1324
تفاصيل الحدث:
اتفق في هذا العام أن اجتمع للسُّلطانِ الناصر محمد بن قلاوون بمصرَ مِن رُسُلِ الملوك ما لم يجتَمِعْ مثلُهم في دولة المماليك التركية، وهم: رسلُ صاحِبِ اليَمَنِ، ورسُلُ صاحبِ إسطنبول، ورسل الأشكري، ورسل متملِّك سيس، ورسُلُ أبي سعيد بن خربندا التتري، ورسُلُ ماردين، ورسُلُ ابن قرمان، ورُسُل ملك النوبة، وكُلُّهم يبذلونَ الطاعةَ للسُّلطانِ!
غرق بلاد مصر والعراق بسبب أمطار غزيرة .
العام الهجري : 725 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1325
تفاصيل الحدث:
وقع بمصرَ مَطَرٌ لم يُسمَعْ بمِثلِه بحيث زاد النيلُ بسببه أربعَ أصابع، وتغيَّرَ أيامًا، وكذلك زادت دجلةُ ببغداد حتى غَرِقَت ما حول بغداد وانحصر الناسُ بها ستَّةَ أيام لم تُفتَحْ أبوابها، وبَقِيَت مثل السفينة في وسط البحر، وغَرِقَ خَلقٌ كثير من الفلَّاحين وغيرِهم، وتَلِفَ للنَّاسِ ما لا يعلَمُه إلا الله، وودَّعَ أهلُ البلد بعضُهم بعضًا، ولجؤوا إلى الله تعالى وحَمَلوا المصاحِفَ على رؤوسهم في شِدَّةِ الشوق في أنفُسِهم حتى القُضاة والأعيان، وكان وقتًا عجيبًا، ثم لطَفَ الله بهم فغِيضَ الماءُ وتناقَصَ، وتراجَعَ النَّاسُ إلى ما كانوا عليه من أمورِهم الجائرةِ وغير الجائرةِ، وذكر بعضُهم أنَّه غَرِقَ بالجانب الغربي نحوٌ من ستة آلاف وستمائة بيت.
السلطان الناصر يرسل جيشا إلى اليمن لاسترداده .
العام الهجري : 725 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1325
تفاصيل الحدث:
سأل المَلِكُ المجاهِدُ صاحِبُ اليمن إنجادَه بعسكَرٍ من مصر، وأكثَرَ من ترغيب السلطان الناصر محمد بن قلاوون في المالِ الذي باليمن، وكان قدومُ رُسُلِه في مستَهَلِّ صفر، فرسم السلطانُ بتجهيز العسكر صحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وهو مُقَدَّم العسكر، فسار إلى مكَّةَ، فوصل في السادس والعشرين من جمادى الأولى، ودخلها وأقامَ بها حتى قَدِمَت المراكِبُ بالغلال وغيرِها من مصر إلى جُدَّة، وتقَدَّم الخادِمُ كافور الشبيلي خادِمُ الملك المجاهد إلى زَبيد لِيُعلِمَ مولاه بالعساكر، وكتب الأميرُ ركن الدين بيبرس بن الحاجب، وهو مُقَدَّم العسكر إلى أهل حلي بني يعقوب بالأمان، وأن يجلِبوا البضائِعَ للعسكَرِ، ورحل العسكَرُ في خامس جمادى الآخرة من مكَّة، ومعه الشَّريفُ عطفة والشريف عقيل، وتأخَّر الشريف رميثة، فوصل العسكَرُ إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يومًا، فتلقَّاهم أهلُها، ودُهِشوا لرؤية العساكر، فنودي فيهم بالأمانِ، ورحل العسكَرُ بعد ثلاثة أيام في العشرين منه، فقَدِمَت الأخبار باجتماعِ رأي أهل زبيد على الدخولِ في طاعة المَلِك المجاهد خوفًا من مَعَرَّة قدوم العسكر المصري، وأنهم ثاروا بالمتمَلِّك عليهم وهو المَلِك الظاهِر، ونهبوا أموالَه ففَرَّ عنهم، وكتَبوا إلى المجاهد بذلك، فقَوِيَ ونزل من قلعة تعز يريدُ زبيدَ، فكتب أمراءُ العسكر المصري إليه، وهم قُربَ حدود اليمن، بأن يكون على أُهْبةِ اللقاء، ونزل العسكَرُ على زبيد، ووافاهم المجاهِدُ بجُندِه، فسَخِرَ منهم الناسُ من أجل أنَّهم عراةٌ، وسلاحُهم الجريدُ والخَشَبُ، وسيوفُهم مشدودةٌ على أذرِعَتِهم، ويقادُ للأميرِ فَرَسٌ واحِدٌ مُجَلَّل، وعلى رأسِ المجاهِدِ عِصابةٌ مُلَوَّنةٌ فوقَ العمامة، وعندما عاين المجاهِدُ العساكِرَ المصريَّةَ وهي لابسةٌ آلة الحَربِ رُعِبَ، ومضى العسكَرُ صَفَّين والأمراءُ في الوسط حتى قَرُبوا منه، فألقى المجاهِدُ نَفسَه ومن معه إلى الأرضِ، وترجل له أيضًا الأمراء وأكرموه وأركبوه في الوَسَطِ، وساروا إلى المخَيَّم، وألبسوه تشريفًا سلطانيًّا وقُرِئَ كتاب السلطان، فقَبَّلوا بأجمعِهم الأرض، وقالوا سمعًا وطاعةً، وكتب الأميرُ بيبرس الحاجِبُ لممالك اليمَنِ بالحضور، فحضروا، ولم يُجَهِّز المَلِكُ المجاهد للعسكَرِ شيئًا من الإقامات، وعَنَّفه الأمير بيبرس على ذلك، فاعتذر بخرابِ البلاد، وكَتَب لهم على البلاد بغنمٍ وأذرة، وسار المجاهِدُ إلى تعز لتجهيز الإقاماتِ، ومعه الأميرانِ سيف الدين ططر العفيفي السلاح الدار وسيف الدين قجمار في مائتي فارس، وتأخَّر العسكر بزبيد، وعادت قُصَّاد الأمراء بغير شيءٍ فرحل العسكَرُ من زبيد في نصف رجب يريدون تعز، فتلقَّاهم المجاهد، ونزلوا خارجَ البلد، وشكَوا ما هم فيه من قِلَّة الإقامات، فوعد بخير، وكتب الأمراءُ إلى الملك الظاهر المقيم بدملوة، وبعَثوا إليه الشريفَ عطفة أميرَ مكَّةَ وعِزَّ الدين الكوندكي، وكتب إليه المجاهِدُ أيضًا يحُثُّه على الطاعة، وأقام العسكَرُ في جَهدٍ، فأغاروا على الضياع، وأخذوا ما قَدَروا عليه، واتُّهِم أن ذلك بمواطأة المجاهِد خوفًا من العسكَرِ أن يَملِكَ منه البلاد، ثمَّ إنَّ أهل جبل صبر قطَعوا الماء عن العسكر، وتخَطَّفوا الجمال والغِلمان، وزاد أمرُهم إلى أن ركب العسكَرُ في طَلَبِهم، فامتنعوا بالجَبَلِ، ورموا بالمقاليعِ على العسكر، فرَمَوهم بالنشاب، وأتاهم المجاهِدُ فخَذَّلَهم عن الصُّعودِ إلى الجبل، فلم يعبؤوا بكلامه، ونازلوا الجبَلَ يَومَهم، ففُقِدَ من العسكر ثمانيةٌ من الغلمان، وبات العسكَرُ تحته، فبلغ الأميرَ بيبرس أن المجاهدَ قَرَّر مع أصحابه بأن العسكرَ إذا صَعِدَ الجَبَل يُضرِمونَ النار في الوطاقِ وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس وقَبَض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجودَه، ووسَّطَه قطعتينِ وعَلَّقه على الطريق، ففَرِحَ أهل تعز بقَتلِه، وكان بهادر قد تغَلَّب على زبيد، وتسَمَّى بالسلطنة، وتلَقَّب بالملك الكامل، وظَلَّ متسَلِّطًا عليها، حتى طرده أهلُها عند قدوم العسكر، وقَدِمَ الشريف عطفة والكوندكي من عند الملك الظاهر صاحب دملوة، وأَخبَرا بأنَّه في طاعة السلطان الناصر ابن قلاوون، وطلب بيبرس من المجاهِدِ ما وَعَد به السلطان، فأجاب بأنه لا قُدرةَ له إلا بما في دملوة فأشهَدَ عليه بيبرس قضاةَ تَعز بذلك، وأنه أذِنَ للعسكر في العود، لخرابِ البلاد وعَجْزِه عمَّا يقومُ به للسُّلطانِ، وأنَّه امتَنَع بقلعة تعز، ورحل العسكَرُ إلى حلي بني يعقوب، فقَدِمَها في تاسع شعبان، ورحلوا منها أوَّلَ رمضان إلى مكَّة، فدخلوها في حادي عشره بعد مشقةٍ زائدة، وساروا من مكَّةَ يوم عيد الفطرِ.
وفاة السلطان إسماعيل بن الأحمر ملك دولة بني نصر في الأندلس .
العام الهجري : 725 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1325
تفاصيل الحدث:
هو إسماعيلُ بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر بن الأحمر، أبو الوليد، السلطانُ الغالِبُ بالله أميرُ المؤمنينَ، خامِسُ ملوك دولة بني نصر بن الأحمر بغرناطة في الأندلس، كانت لأبيه ولايةُ مالقة وسبتة، فتولَّاهما من بعده. وكان الملك بغرناطة أبو الجيوش نصرُ بن محمد الفقيه، وهو موصوف بالضَّعفِ، فثار عليه إسماعيلُ وزحف من مالقة إلى غرناطة سنة 713 فبويع فيها، وخرج نصرٌ إلى وادي آش. وأراد بطرس الأوَّلُ بن ألفونس الحادي عشر أحد ملوك الإسبان أن يستفيدَ مِن فرصة الفتنة في غرناطة فاقتحم الحصونَ يُريدُها، فكانت بين جيشِه وجَيشِ إسماعيل وقائعُ هائلة انتهت سنة 717 بمَقتَلِ بطرس. وفي سنة 724 تحَرَّك إسماعيل للجِهادِ، فامتَلَك بعضَ الحصون، وعاد إلى غرناطة ظافِرًا. وكان حازمًا مِقدامًا جميل الطلعةِ جهيرَ الصوت كثيرَ الحياء بعيدًا عن الصبوة، تميز عهده بالاستقرارِ وحُسنِ السياسةِ وإحياء فريضة الجهاد، ومحاربةِ الفَسادِ والبِدَع. اغتاله ابنُ عَمٍّ له اسمه محمد بن إسماعيل بطعنة خنجر في غرناطة في 26 رجب من هذه السنةِ.
رسل أزبك خان ملك التتار يطلبون من السلطان كتب حديث وفقه .
العام الهجري : 725 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1325
تفاصيل الحدث:
في يَومِ السبت العشرينَ مِن رمضان قَدِمَ الأمير سيف الدين بكمش الجمدار الظاهريُّ والأمير بدر الدين بيليك السيفي السلاري المعروف بأبي غُدَّة من بلاد أزبك خان مَلِك التتار المُسلِم بهَدِيَّة، ومعهما كتابه، وهو يسأل أن يجهَّزُ له كتابُ (جامِع الأصول في أحاديث الرسول)، وكتاب (شرح السنة) و(البحر) للروياني في الفقه، وعِدَّةُ كُتُبٍ طَلَبها، فجُهِّزَت له.
ملك الحبشة يتهدد السلطان الناصر إن لم يعد بناء الكنائس .
العام الهجري : 726 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
في يومِ الاثنين سادس عشر المحَرَّم ورَدَت رسُلُ مَلِكِ الحبشة بكتابِه يتضَمَّنُ أمْرَه بإعادة ما خُرِّبَ من كنائِسِ النصارى بمصر, ومعامَلَتِهم بالإكرامِ والاحترامِ، ويهَدِّدُ بأنَّه يُخَرِّبُ ما عنده من مساجدِ المسلمين، ويَسُدُّ النيلَ حتى لا يَعبُرَ إلى مصر، فسَخِرَ السلطان الناصر محمد بن قلاوون منه، ورَدَّ رُسُلَه!!
وفاة ابن المطهر الحلي الشيعي .
العام الهجري : 726 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
جمالُ الدين أبو منصور حسن بن يوسف بن مُطَهَّر الحلي العراقي الشيعي المعتزلي، شيخُ الروافض بتلك النواحي وفقيهُهم، وله التصانيفُ الكثيرة، يقال تزيدُ على مائة وعشرين مجلدًا، وعِدَّتُها خمسةٌ وخمسون مصنَّفًا، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض، وغير ذلك من كبارٍ وصغار، وله كتابُ منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدرِ كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامةِ، وقد انتدب في الرَّدِّ عليه الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابنُ تيمية في كتابه منهاج السنَّة، أتى فيها بما يُبهِرُ العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وكان شيخُ الإسلام يسمِّيه ابن المُنَجَّس, وله كتابُ تبصرة المتعلمين في أحكام الدين، وله قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، وتهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول، وإرشاد الأذهان إلى أحكام القرآن، وتحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، وله خلاصة الأقوال في الرجال، وكشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين، وغيرها من الكتب في علم الكلام والعقائد، وُلِدَ ابن المطَهَّر الذي لم تُطهَّر خلائقُه ولم يتطَهَّر من دَنَسِ الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة 648، وتوفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغالُه ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولَمَّا تَرَفَّض الملك خربندا حَظِيَ عنده ابن المطَهَّر وساد جدًّا وأقطعه بلادًا كثيرة.
======
ج148.
إجراء عين باذان إلى مكة .
العام الهجري : 726 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
في أوَّلِ رمضان وصَلَت الأخبار إلى دمشق أنه أُجرِيَت عينُ ماء إلى مكَّةَ شَرَّفَها اللهُ وانتفَعَ الناس بها انتفاعًا عظيما، وهذه العين تُعرِفُ قديمًا بعين باذان، أجراها الأميرُ سيف الدين جوبان المغولي نائب السلطان أبي سعيد بن خربندا مَلِك التتار من بلادٍ بعيدة حتى دخَلَت إلى نفس مكة، ووصلت إلى عند الصَّفا وباب إبراهيم، واستقى الناسُ منها فقيرُهم وغَنِيُّهم وضعيفُهم وشريفُهم، كلُّهم فيها سواء، وارتفق أهلُ مكة بذلك رفقًا كثيرًا،ولله الحمد والمنَّة، وكانوا قد شرعوا في حَفرِها وتجديدها في أوائِلِ هذه السنة إلى العشر الأخير من جمادى الأولى، واتَّفَق أن في هذه السنة كانت الآبارُ التي بمكة قد يَبِسَت وقلَّ ماؤها، وقَلَّ ماء زمزم أيضًا، فلولا أنَّ الله تعالى لطَفَ بالنَّاسِ بإجراء هذه القناة لنزح عن مكَّةَ أهلُها، أو هلَكَ كَثيرٌ مِمَّا يقيمُ بها.
اعتقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية .
العام الهجري : 726 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
وفي يومِ الجُمُعةِ العاشِرَ من شعبان قُرِئَ بالجامع الكتابُ السلطانيُّ الوارِدُ باعتقال شيخ الإسلامِ ابن تيمية، وهذه الواقِعةُ سَببُها فُتيا وُجِدَت بخطِّه في السَّفَرِ وإعمالِ المطِيِّ إلى زيارةِ قُبورِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقبورِ الصالحين، وفي يوم الأربعاء مُنتصَفَ شعبان أمر قاضي القضاة الشافعي في حبسِ جماعةٍ مِن أصحاب الشيخِ تقي الدين ابن تيمية في سِجنِ الحكم، وذلك بمرسومِ نائب السلطنة وإذنِه له فيه، فيما تقتضيه الشريعةُ في أمرهم، وعُزِّرَ جماعة منهم على دوابَّ، ونودي عليهم ثمَّ أُطلِقوا، سوى شمسِ الدين محمد بن قيِّم الجوزيَّة؛ فإنَّه حُبِسَ بالقلعة، وفي يوم الاثنين عند العصر سادس عشر شعبان تم اعتقال الشيخ الإمام العالم العلَّامة تقيُّ الدين ابن تيمية بقلعة دمشق، حضَرَ إليه من جهة نائب السلطنة تنكز وابن الخطيري أحد الحجاب بدمشق، وأخبراه أنَّ مرسومَ السلطان ورد بذلك، وأحضرا معهما مركوبًا لِيَركَبَه، وأظهر السرورَ والفرح بذلك، وقال: أنا كنت منتَظِرًا لذلك، وهذا فيه خير كثيرٌ ومصلحة كبيرة، وركبوا جميعًا من داره إلى بابِ القلعة، وأُخلِيَت له قاعة وأجري إليها الماءُ ورُسِمَ له بالإقامةِ فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدُمُه بإذن السلطانِ، ورُسِمَ له ما يقومُ بكفايته، والسَّبَبُ في كل ذلك هو أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية حَرَّم إعمالَ المطِيِّ لزيارة القبورِ بناءً على قَولِه صلَّى الله عليه وسلم: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ)) ثم إنَّ مُناوئي الشيخ وأعداؤه أشاعوا عنه أنَّه يقول بحُرمةِ زيارة القبور عمومًا، والشيخُ كما هو معلوم من فتاويه وكُتُبِه أنَّه لا يقولُ بحُرمةِ الزيارةِ مُطلقًا إنَّما يقول: يحرُمُ شَدُّ الرَّحلِ والسَّفَرُ لأجلِ زيارة القبور، أمَّا زيارتها من غير سَفَرٍ ولا شَدِّ رَحلٍ فيقولُ بسُنِّيَّتِه.
وفاة عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وتولي ابنه أورخان .
العام الهجري : 726 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
هو أبو الملوكِ السلطانُ الغازي فخرُ الدين عثمانُ بك خان الأول بن أرطغرل بن سليمان شاه القايوي التُركماني، لما توفِّيَ أرطغرل سنة 687 هـ ( 1288م) تولى عُثمانُ زعامةَ القبائِلِ التُّركمانيَّة في المقاطعة التي منحهم إيَّاها السلطان علاء الدين السلجوقي والتي كانت قريبةً من بحر مرمرة التابع للبحرِ الأسود بالقُربِ من مدينة بورصة، كان عثمان قد تمكَّن في البلاد حتى إنَّه بدأ يدعو أمراءَ الروم في آسيا الصغرى إلى الإسلامِ أو الجزيةِ أو الحَربِ؛ ممَّا أدى إلى استعانتهم بالمغول للقضاءِ عليه، ولكنَّه كان قد هيأ جيشًا بإمرة ابنه أورخان فسَيَّرَه لقتال المغول فشَتَّت شَملَهم وعاد فاتَّجَه إلى بورصة فاستطاع أن يدخُلَها عام 717, وكانت بورصة تعَدُّ من الحصون الروميَّة المهمَّة في آسيا الصغرى، فأمَّنَ أهلَها وأحسَنَ إليهم فدفعوا له ثلاثين ألفًا مِن عملتهم الذهبيَّة وأسلمَ حاكِمُها أفرينوس فمنحه عثمانُ لَقَب بيك، وأصبحَ مِن القادة البارزين، ثمَّ إن عثمان توفي في 21 رمضان من هذه السنة بعد معاناتِه من مرض النقرس، وكان قد عَهِدَ لابنه أورخان بالحكم وكان عمرُه تسعة وثلاثين عامًا وليس هو بأكبر أولادِ عثمان، وكان أكبَرُهم علاء الدين الذي رضي بأن يكون وزيرًا لأخيه فاهتَمَّ بالشؤون الداخليَّة وأما أورخان فاهتَمَّ بالشؤون الخارجيَّة.
وفاة الغالب بالله ملك غرناطة وتولي ابنه بعده .
العام الهجري : 726 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
هو السلطانُ الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل بن الفرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر صاحِبُ غرناطة والأندلس من بلاد المغرب، وكان مولده سنة 680، وكان من أجَلِّ ملوك المغرب، واستولى على الأندلُسِ ثلاث عشرة سنة، وملك البلادَ في حياة أبيه الفرج، وكان أبوه متوليًا إذ ذاك لمالقةَ، فلما أراد إسماعيلُ هذا الخروجَ لامَه أبوه، فقبض إسماعيلُ على أبيه، وعاش أبوه في سلطنتِه بعد ذلك عزيزًا مُبَجَّلًا إلى أن مات في ربيع الأول سنة 720 بعد أن شاخ. وقد كان الذي نهض بتمليك إسماعيل هو أبو سعيد ابن أبي العلاء المريني وابن أخيه أبو يحيى، وكان أبو الوليد سلطانًا مَهيبًا شُجاعًا حازِمًا ناهِضًا بأعباءِ المُلكِ عديمَ النظير عظيمَ السطوة، هزم الله جيوش الكفر على يده سنة تسع عشرة وأباد ملوك دين الصليب، ثم وثب عليه ابنُ عَمِّه فقتله في ذي القعدة، ثم قُتِلَ قاتِلُه وأعوانُه في يومهم وذلك سنة 726 وتملك بعده ولَدُه محمد أعوامًا.
تنكز نائب السلطان بدمشق يشتري أسرى مسلمين من تجار الفرنج .
العام الهجري : 727 العام الميلادي : 1326
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ إلى ميناء بيروت من سواحِلِ الشام تجار الفرنج بمائة وأربعين من أسارى المسلمين، قد اشتَرَوهم من الجزائر، فاشتراهم الأميرُ تنكز، وأفاد التجَّارَ في كل أسيرٍ مائة وعشرين درهمًا على ما اشتراه به، وكسا تنكز الجميعَ وزَوَّدَهم، وحَمَلَهم إلى مصر، فسُرَّ المسلمون بقدومِهم، وجَدَّ تجارُ الفرنج في شراءِ الأسرى رغبةً في الفائدةِ.
فتنة بالإسكندرية بين الفرنج والمسلمين .
العام الهجري : 727 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1327
تفاصيل الحدث:
في يومِ الخميس خامِس رجب كانت الفتنةُ بالإسكندرية وملَخَّصُها أنَّ بعض تجار الفرنج فاوض رجلًا من المسلمينَ وضَرَبه بخُفٍّ على وجهه، فثار المسلمون بالإفرنجيِّ وثار الفرنجُ لتحميه، فوقع الشَّرُّ بين الفريقين، واقتتلوا بالسلاحِ، فركب ركن الدين الكركي متولِّي الثغر، فإذا النَّاسُ قد تعصبوا وأخرجوا السلاحَ، وشهدوا على الفرنجيِّ ممَّا يوجب قَتْلَه، وحملوه إلى القاضي وغُلِّقَت أسواق المدينة وأبوابها، فلما كان بعد عشاء الآخرة فُتِحَت الأبواب ليدخُلَ من كان خارِجَ البلد، فمِن شِدَّة الزحام قُتِلَ عَشرةُ أنفس، وتَلِفَت أعضاء جماعة، وذهبت عمائمُ وغيرها لكثير منهم، وتبيَّنَ للكركي تحامُلُ الناس على الفرنج، فحمَلَ بنفسه وأجنادِه عليهم ليدفَعَهم عن الفرنج، فلم يندفِعوا وقاتلوه إلى أن هَزَموه، وقصدوا إخراج الأمراء المعتَقَلين بالثغر، بعدما سُفِكَت بينهما دماءٌ كثيرة، فعند ذلك بادر الكركي بمطالعة السلطانِ بهذه الحادثة، فسَرَّح الطائر بالبطائِقِ يُعلِمُ السلطان، فاشتَدَّ غضبه، وخشي السلطانُ خُروجَ الأمراءِ مِن السجن، وأخرج السلطانُ الوزير مغلطاي الجمال وطوغان شاد الدواوين، وسيف الدين ألدمر الركني أمير جندار، في جماعةٍ مِن المماليك السلطانيَّة، ومعهم ناظر الخاص إلى الإسكندرية، ومعهم تذاكِرُ مما يُعمَلُ مِن تتَبُّع أهل الفساد وقَتْلِهم، ومُصادرة قَومٍ بأعيانهم، وتغريمِ أهل البلد المالَ، والقبض على أسلحة الغزاة، ومَسْك القاضي والشهود، وتجهيز الأمراء المسجونين إلى قلعة الجَبَل، فساروا في عاشِرِه، ودخلوا المدينة، وجلس الوزيرُ والناظر بديوان الخُمُس وفرض الوزيرُ على الناس خمسَمائة ألف دينار، وقَبَض على جماعةٍ مِن أذلهم ووسطِهم، وقطع أيديَ بَعضِهم وأرجُلَهم، وتطَلَّب ابن رواحة كبيرَ دار الطراز ووسطه، من أجلِ أنَّه وُشِيَ به أنه كان يُغري العامَّةَ بالفرنج ويَمُدُّهم بالسلاح والنفقة، فحَلَّ بالناس من المُصادرة بلاء عظيم، وكتب السلطانُ كتُبًا ترد شيئًا بعد شيءٍ تتضَمَّنُ الحثَّ على سفك دماء المفسدين وأخذ الأموال، والوزير يجيبُ بما يُصلِحُ أمْرَ الناس، ثم استدعى الوزير بالسلاح المعَدِّ للغزاة، فبلغ ستةَ آلاف عدة، وضعها كُلَّها في حاصل وخَتَم عليها، واستمَرَّ نحو العشرين يومًا في سَفكِ دماء وأخذِ أموال، حتى جمع ما يُنَيِّف على مائتين وستين ألف دينار، وقُدِّمَ الوزير عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسي قاضي الإسكندرية لِيُشنَق، ثم أخره، وكاتب السلطانَ بأنه كَشَف عن أمرِه فوجد ما نُقِلَ عنه غيرُ صحيح، وبعث الوزير المسجونينَ إلى قلعة الجبل في طائفةٍ معهم لحِفظِهم، فقَدِموا في الثامن عشر، وقدم الوزيرُ من الإسكندرية بالمال، وجلس في آخر رجب بالمال بقاعةِ الوزارة المستجَدَّة بالقلعة، وقد سكنها، وحفر النظار والمستوفون من خارج الشباك، فنفذ الوزيرُ الأمور، وصرفَ أحوال الدولة، وفي أول شعبان قَدِمَت رسل بابا الفرنج من مدينةِ رومة بهديَّة، وكتاب فيه الوصيَّةُ بالنصارى وأنَّه مهما عُمِلَ بهم بمصرَ والشام عاملوا مَن عندهم من المسلمين بمِثلِه، فأجيبوا وأُعيدوا، ولم تَقدَمْ رسُلٌ من عند البابا إلى مصر منذ أيام الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب.
وفاة ابن الزملكاني الشافعي .
العام الهجري : 727 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1327
تفاصيل الحدث:
هو أبو المعالي محمَّدُ بن علي بن عبد الواحد بن عبد الكريم، الزملكاني الأنصاري السماكي الدمشقي الشافعي قاضي قضاة دمشق، انتهت إليه رياسةُ المذهب تدريسًا وإفتاء ومناظرة، ويقالُ في نسبه السماكي نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خَرشة، وُلِدَ ليلة الاثنين ثامن شوال 666، وسمع الكثير واشتغل على الشيخ تاج الدين الفزاري، وفي الأصولِ على القاضي بهاء الدين بن الزكي، وفي النحوِ على بدر الدين بن ملك وغيرهم، وكان من خصومِ شَيخِ الإسلام ابن تيمية؛ قال ابن كثير: "برع وحَصَّل وساد أقرانَه من أهل مذهبه، وحاز قَصَب السَّبقِ عليهم بذِهنِه الوقَّاد, وعبارتِه التي هي أشهى من كلِّ شيء مُعتاد، وخَطِّه الذي هو أنضَرُ مِن أزاهير الوِهاد، وقد درَّسَ بعِدَّة مدارس بدمشق، وباشر عِدَّةَ جِهات كبار، كنظر الخزانة، ونظر المارستان النوري، وديوان الملك السعيد بن الظاهر بيبرس، ووكالة بيت المال، له تعاليقُ على قطعة كبيرة من شرح المنهاج للنووي، ومجلَّد في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومسألة زيارة القبور، وغير ذلك، وأما دروسُه في المحافل فلم أسمع أحدًا من الناس درَّس أحسن منه ولا أحلى من عبارته، وحُسن تقريره، وجودةِ احترازاته، وصِحَّة ذهنه وقوَّة قريحتِه وحُسن نَظْمه، وقد درَّسَ بالشاميَّة البرَّانية والعذراوية الجوَّانية والرواحية والمسرورية، فكان يعطي كلَّ واحدة منهن حقها بحيث كان يكاد ينسَخُ بكل واحد من تلك الدروس ما قبله مِن حُسنِه وفصاحته، ولا يهيلُه تَعدادُ الدروس وكثرة الفقهاء والفضلاء، بل كلما كان الجمعُ أكثَرَ والفضلاءُ أكبَرَ، كان الدرس أنضرَ وأبهر وأحلى وأنصح وأفصَحَ, ثم لما انتقل إلى قضاء حلب وما معه من المدارس العديدة عامله معاملةً مثلها، وأوسع بالفضيلةِ جميعَ أهلها، وسَمِعوا من العلوم ما لم يسمعوا هم ولا آباؤهم, ثم طُلب إلى الديار المصرية ليولَّى الشامية دار السنة النبويَّة فعاجلته المنيَّةُ قبل وصوله إليها، فمَرِضَ وهو سائر على البريد تسعةَ أيام، ثم عقب المرض بحراق الحِمامِ فقَبَضه هادمُ اللذات، وحال بينه وبين سائر الشَّهوات والإرادات، والأعمالُ بالنيَّات, وكان من نيَّتِه الخبيثة إذا رجع إلى الشَّامِ متَوَلِّيًا أن يؤذِيَ شيخَ الإسلام ابن تيمية فدعا عليه، فلم يبلغ أمَلَه ومُرادَه، فتوفِّيَ في سحر يوم الأربعاء سادس عشر شهر رمضان بمدينة بلبيس، وحُمِلَ إلى القاهرة ودُفِنَ بالقرافة ليلة الخميس جوار قبة الشافعي تغَمَّده الله برحمتِه"
قدوم دمرداش بن جوبان إلى مصر ثم قتله فيها .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون المغولي مصرَ في سابع ربيع الأول، وسَبَبُ ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا المغولي لَمَّا مَلَك أقبلَ على اللهو، فتحَكَّم الأميرُ جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولدَه خواجا رمشتق بالأردو، وبعث ابنَه دمرداش إلى مملكة الروم، فانحصر أبو سعيد بن خربندا إلى أن تحَرَّك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعةِ، فسار جوبان لحَربِه في عسكرٍ كبير، فما هو إلَّا أن بَعُد عن الأردو قليلًا حتى رجع العدوُّ عن خراسان، وقصد جوبان العودَ، وكان قد قبض أبو سعيدٍ على خواجا رمشتق، وقتَلَه بظاهر مدينة السلطانيَّة في شوال من السنة الماضية، وأتبَعَ به إخوتَه ونَهَب أتباعهم، وسَفَك أكثَرَ دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكَرِ مع جوبان بما وقع، وأمَرَهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضُرَ إلى الأردو، وعَرَّفه شَوقَه إليه، ودَسَّ مع الرسول إليه عِدَّة ملطفات إلى أمراء الروم بالقَبضِ عليه أو قَتْلِه، وعَرَّفَهم ما وقع، وكان دمرداش قد مَلَك بلاد الروم جميعَها وجبالَ ابن قرمان، وأقام على كلِّ دربند جماعةً تحفَظُه، فلا يمُرُّ أحد إلا ويعلم به خوفًا على نفسِه من السلطان الملك الناصر أن يبعَثَ إليه فداويًّا لقتلِه، بسبب ما حصل بينهما من المواحَشةِ التي اقتضت انحصارَ السلطان منه، وأنَّه منع التجارَ وغَيرَهم مِن حَملِ المماليكِ إلى مصر، وإذا سمِعَ بأحد من جهة صاحِبِ مصر أخرق به، فشَرَعَ السلطان يخادِعُه على عادته، ويهاديه ويتَرَضَّاه، وهو لا يلتَفِتُ إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمْرِه حتى بعث ينكِرُ عليه، فأمسك عمَّا كان فيه قليلًا، ولَبِسَ تشريف السلطان، وقَبِلَ هَدِيَّته وبعث عِوَضَها، وهو مع هذا شديدُ التحَرُّز، فلما قَدِمَت رسل أبي سعيد بطَلَبِه فتَّشَهم الموكَّلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش، فلما وقف دمرداش عليهما لم يزَلْ يعاقِبُ الرسُلَ إلى أن اعترفوا بأنَّ أبا سعيد قَتَل خواجا رمشتق وإخواته ومن يلوذُ بهم، ونهب أموالَهم، وبعث بقتل جوبان، فقَتَل دمرداش الرسُلَ، وبعث إلى الأمراء أصحابِ الملطفات فقَتَلَهم أيضًا، وكتب إلى السلطانِ الملك الناصر يَرغَبُ في طاعته، ويستأذِنُه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائبًا عنه بها، فسُرَّ السلطان بذلك، وكان قد ورد على السلطانِ كتابُ المجد السلامي من الشرق بقَتلِ خواجا رمشتق وإخوته، وكتاب أبي سعيد بقَتلِ جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرةُ الثلج وقُوَّة الشتاء، فكتب السلطانُ الناصر جواب دمرداش يَعِدُه بمواعيد كثيرة، ويُرَغِّبُه في الحضور، فتحَيَّرَ دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجَّه إلى مصر فلا يدري ما يتَّفِقُ له، ثم قَوِيَ عنده المسير إلى مصر، وأعلَمَ أمراءَه أنَّ عسكَرَ مِصرَ سار ليأخُذَ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه المَلِكُ الناصر يأمره أن يكون نائِبَه، فمشى عليهم ذلك وسَرَّهم، فلمَّا قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأميرُ طايربغا وأحضره إلى السلطانِ بالجيزة، فقَبَّل الأرض ثلاثَ مرات، فترحَّبَ السلطان به وأجلَسَه بالقرب منه، وأكرمه وبالغ في ذلك واجتَمَعَ دمرداش بالسلطانِ وفاوضه في أمرِ بلاد الروم، وأن يجهِّزَ إليها عسكرًا، فأشار السلطانُ بالمهلة حتى يَرِدَ البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، فاستأذن دمرداش في عَودِ مَن قَدِمَ معه إلى بلادِهم، فأذِنَ له في ذلك، فسار كثيرٌ منهم، ثم جاء كتابٌ فيه بيان أحوال دمرداش هذا وأنَّه سفك دماءً كثيرة، وقَتَل من المسلمين عالَمًا عظيمًا، وأنَّه جَسورٌ وما قصد بدخولِه مِصرَ إلا طمعًا في مُلكِها، وبعث ابن قرمان الكتابَ صحبة نجم الدين إسحاق الرومي صاحب أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقَتَل والِدَه، وأنَّه قَدِمَ ليطالِبَه بدَمِ أبيه، فلما وقف السلطانُ على الكتاب تغيَّرَ، وطلب دمرداش وأعلَمَه بما فيه، وجمع السلطانُ بينه وبين إسحاق، فتحاقَقا بحضرة الأمراء، فظهر أنَّ كُلًّا منهما قتَلَ لصاحِبِه قتيلًا، فكتب جواب ابن قرمان معه وأُعيد، وقد تبَيَّن للسلطان خُبثُ نية دمرداش، فقبضه ومن معه واعتقل دمرداش ببرج السباعِ مِن القلعة، وفَرَّق البقية في الأبراج، وفُرِّقَت مماليكُه على الأمراء، ورُتِّبَ له ما يكفيه، وكان للقبضِ على دمرداش أسباب: منها أنه كان قد أخذ يوقِعُ في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمَّالًا، فما حمل السلطان هذا منه، فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال من هذه السنة أُخرِجَ دمرداش من مُعتَقَلِه بالبرج، وفُتِحَ باب السِّرِّ من جهة القرافة وأُخرِجَ منه وهو مُقَيَّدٌ مَغلول، وشاهَدَه رسُلُ الملك أبي سعيد وهو على هذه الحالِ، ثم خُنِقَ دمرداش، وشاهده الرسُلُ بعد موته، وقُطِعَ رأسُه وسُلِخَ وصُبِرَ وحُشِيَ، وأرسل السلطانُ الرأسَ إلى أبي سعيد، ودُفِنَ الجسَدُ بمكانِ قَتْلِه.
تنكز نائب السلطان على دمشق يجري عينًا في القدس .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
كان قبل سنتين أمَرَ تنكز نائبُ السلطان على دمشقَ بإجراء عينٍ إلى القدس، حيث قلَّ الماءُ فيها كثيرًا وبلغه ما فعله جابان بإجراءِ عَينٍ في مكَّةَ، فأراد أن يكون له أيضًا شَرَفُ ذلك، وفي هذه السنة كَمُلت العينُ التي أجراها الأمير تنكز بالقدس، بعد ما أقام الصنَّاعُ فيها مُدَّةَ سنة، وبنى لها مصنعًا- خزانًا- سعته نحو مائتي ذراع مرخَّم بين الصخرة والمسجد، وركَّب في الجبل مجاريَ نَقَب لها في الحَجَرِ حتى دخل الماءُ إلى القدس، فكان لها يومٌ مشهودٌ، وأنشأ تنكز بالقدسِ أيضًا خانكاه وحمام وقيسارية –سوق كبير- فعَمرَت القُدسُ.
منع شيخ الإسلام ابن تيمية من الكتابة في السجن .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
في يومِ الاثنين تاسِعَ جمادى الآخرة أُخرِجَ ما كان عند الشيخِ تقي الدينِ ابن تيميَّةَ من الكتُبِ والأوراقِ والدواةِ والقلم، ومُنِعَ من الكُتُبِ والمطالعة، وحُمِلَت كتُبُه في مُستهَلِّ رَجَب إلى خزانةِ الكتُبِ بالعادليَّة الكبيرة، وكانت نحو ستين مجلَّدًا، وأربع عشرة ربطةَ كراريس، فنظر القضاةُ والفُقهاءُ فيها وتفَرَّقوها بينهم، وكان سبَبَ ذلك أنَّه أجاب لما كان ردَّ عليه التقيُّ ابنُ الأخنائي المالكي في مسألة الزيارة، فرَدَّ عليه الشيخ تقي الدين واستجهَلَه وأعلَمَه أنَّه قليل البضاعة في العلم، فطَلَع الأخنائيُّ إلى السلطان وشكاه، فرسم السلطانُ عند ذلك بإخراجِ ما عنده من ذلك، وكان ما كان.
وفاة الأمير جوبان نائب السلطان أبو السعيد بن خربندا المغولي .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ الكبير الأمير سيفُ الدين جوبان بن تلك بن تداون المغولي نائبُ السلطانِ أبي سعيدِ بن خربندا المغولي مَلِك التَّتار، وجوبان هذا هو الذي ساق قناةَ الماء الواصِلةَ إلى المسجد الحرام، وقد غَرِمَ عليها أموالًا جزيلة كثيرة، وله تربةٌ بالمدينة النبوية، ومدرسةٌ مشهورة، وله آثارٌ حَسَنة، وكان جيِّدَ الإسلامِ، له همَّة عالية، وقد دبَّرَ الممالِكَ في أيام السلطان أبي سعيد مُدَّةً طويلة على السداد، ثم أراد أبو سعيد مَسكَه والتخلُّصَ منه فقَتَل ابنه خواجا رمشتق في السنة الماضية، وفر ابنُه الآخر دمرداش هاربًا إلى سلطان مصر، ثمَّ قَتَلَ أبو سعيد نائبَه جوبان بعد ابنه بقليلٍ، وكان من أسباب قتل جوبان أنَّه كان يريد أن يتفَرَّد بالمُلكِ مِن دون أبي سعيدٍ، فقد أصبح كلُّ شَيءٍ في يَدِه من أمرٍ ونهيٍ، وولَّى أولادَه الإقطاعاتِ والولاياتِ، فكان هذا من أسبابِ حَنَق أبي سعيد عليه وقَتْلِه، ففي يوم الجمعة آخِرَ شَهرِ ربيع الآخر من السنة التالية أُنزِلَ الأميرُ جوبان وولده من قلعة المدينة النبوية وهما ميِّتان مُصبران في توابيتِهما، فصُلِّيَ عليهما بالمسجد النبويِّ، ثم دفنا بالبقيعِ عن مرسومِ السلطان، وكان مرادَ جوبان أن يُدفَنَ في مدرسته، فلم يُمكَّنْ من ذلك.
حدوث سيل عظيم في مدينة عجلون .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
جاء إلى مدينة عجلون سيلٌ عظيم من أوَّل النهار إلى وقتِ العصر، فهدَمَ مِن جامعِها وأسواقِها ورِباعِها ودُورِها شيئًا كثيرًا، وغَرِقَ سَبعة نَفَرٍ، وهلك للناس شيءٌ كثير من الأموال والغلات والأمتعة والمواشي ما يقارب قيمتُه ألف ألف درهم.
وفاة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العَلَمُ العلَّامةُ الفقيهُ الحافِظُ الزاهِدُ العابِدُ القدوةُ شيخُ الإسلامِ: تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثمَّ الدمشقي، وكان مولِدُه يومَ الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة 661، وقَدِمَ مع والده وأهلِه إلى دمشقَ وهو صغير، فسَمِعَ الحديثَ وقرأ بنفسِه الكثيرَ، وطلب الحديثَ وكُتُبَ الطبقاتِ والأثباتِ، ولازم السَّماعَ بنفسه مُدَّةَ سنين، وقَلَّ أن سَمِعَ شَيئًا إلَّا حَفِظَه، ثم اشتغل بالعلومِ، وكان ذكيًّا كثيرَ المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلَّق به عارفًا بالفقه، فيقال: إنه كان أعرَفَ بفقه المذاهِبِ مِن أهلِها الذي كانوا في زمانِه وغيره، وكان عالِمًا باختلاف العلماء، عالِمًا في الأصول والفروعِ، والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النَّقليَّة والعقلية، وما قُطع في مجلسٍ، ولا تكَلَّمَ معه فاضِلٌ في فنٍّ مِن الفنونِ إلَّا ظَنَّ أنَّ ذلك الفَنَّ فَنُّه، ورآه عارفًا به متقِنًا له، وأما الحديثُ فكان حامِلَ رايتِه حافظًا له مميِّزًا بين صحيحِه وسقيمِه، عارفًا برجاله متضَلِّعًا من ذلك، وله تصانيفُ كثيرة وتعاليقُ مُفيدة في الأصولِ والفروع، كمُلَ منها جملةٌ وبُيِّضَت وكُتِبَت عنه وقُرِئَت عليه أو بَعضُها، وجملةٌ كبيرةٌ لم يُكمِلْها، وأثنى عليه وعلى علومِه وفضائِلِه جماعةٌ من عُلَماءِ عَصرِه، وأمَّا أسماءُ مُصَنَّفاتِه وسيرته وما جرى بينه وبين الفُقَهاءِ والدولة وحَبسُه مراتٍ وأحوالُه، فلا يُحتَمَلُ ذِكرُ جَميعِها في هذا الموضِعِ، توفِّيَ في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة بقلعةِ دمشق بالقاعةِ التي كان محبوسًا بها، وحضر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِنَ لهم في الدخول عليه، وجَلَس جماعة عنده قبل الغُسلِ واقتصروا على مَن يُغَسِّلُه، فلما فُرِغَ مِن غُسلِه أُخرِجَ ثم اجتمع الخَلقُ بالقلعة والطريقِ إلى الجامعِ، وامتلأ بالجامع أيضًا وصَحنِه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازةُ في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووُضِعَت في الجامع، والجندُ قد احتاطوا بها يحفَظونَها من النَّاسِ مِن شِدَّة الزحام، وصُلِّيَ عليه أولًا بالقلعة، تقدَّمَ في الصلاة عليه أولًا الشيخ محمد بن تمام، ثم صُلِّيَ عليه بالجامِعِ الأمويِّ عَقيبَ صلاة الظهر، وقد تضاعَفَ اجتِماعُ الناس ثم تزايد الجَمعُ إلى أن ضاقت الرِّحابُ والأزِقَّة والأسواق بأهلِها ومَن فيها، ثم حُمِلَ بعد أن صُلِّيَ عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النَّعشُ به من باب البريد واشتدَّ الزحامُ وعَلَت الأصواتُ بالبُكاء والنَّحيب والترحُّم عليه والثَّناء والدعاء له، وألقى الناسُ على نعشِه مناديلَهم وعمائِمَهم وثيابَهم، وذهبت النِّعالُ مِن أرجُلٍ, وبالجملةِ كان يومُ جنازته يومًا مشهودًا لم يُعهَدْ مثلُه بدمشقَ إلَّا أن يكون في زمَنِ بني أمية حين كان الناسُ كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دُفِنَ عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكِنُ أحدًا حصرُ من حضر الجِنازةَ، وتقريبُ ذلك أنَّه عبارةٌ عمَّن أمكنه الحضورُ من أهل البلَدِ وحواضِرِه ولم يتخلَّفْ مِن الناس إلا القَليلُ مِن الصغار والمخَدَّرات، وما تخلَّفَ أحدٌ من أهل العلمِ إلَّا النفرُ اليسير تخلَّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثةُ أنفس: وهم ابنُ جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداتِه فاختَفَوا من الناس خوفًا على أنفُسِهم، بحيث إنَّهم علموا متى خرجوا قُتِلوا وأهلَكَهم الناس، ورُئيَت له مناماتٌ صالحةٌ عَجيبةٌ، ورُثِيَ بأشعارٍ كثيرة وقصائِدَ مُطَوَّلة جدًّا، وقد أُفرِدَت له تراجِمُ كثيرة، وصَنَّف في ذلك جماعةٌ من الفضلاء وغيرهم، ويدُلُّ على علمِه وفَضلِه مُصَنَّفاتُه، كالتفسير، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وفتاويه التي جُمِعَت، وغيرها كثير، كان جريئًا قويًّا لا يخاف في الله لومةَ لائم، حثَّ الناسَ والأمراء على جهاد التتار، بل ذهب بنفسه لمقابلةِ مَلِكهم قازان حين جاء ليدخُلَ دمشق وقال له: أنت تدعي أنك مسلم فلمَ جئت تغزو بلاد الإسلامِ؟ وغير ذلك من المواقف المشَرِّفة، مثل وقت استفتاه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في قَتْلِ الفقهاء والقضاة الذين كانوا ضِدَّه يومَ خَلَع نفسَه وكانوا مع المظفَّر بيبرس، وكان منهم من آذى الشيخَ نَفسَه، فلم يُفْتِ له الشيخُ بأذِيَّتِهم، بل بيَّنَ له حُرمةَ وقَدرَ العُلَماءِ، وقال: إنَّه لا ينتصر لنفسِه، وكلُّ من آذاه فهو في حِلٍّ، وهذا من تمامِ فَضلِه وحُسنِ خُلُقِه، وله الأثرُ الكبيرُ في مُناظرة أهلِ البِدَع والعقائِدِ الفاسدة بما أحيا اللهُ على يديه ممَّا اندرس بين النَّاسِ منها، فكان بحَقٍّ مُجَدِّدًا للدين، فرحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
إطلاق سراح الإمام ابن قيم الجوزية .
العام الهجري : 728 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
في يومِ الثلاثاء عشرينَ ذي الحجة أُفرِجَ عن الشيخ الإمامِ العالم العلَّامة أبي عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية، وكان معتقَلًا بالقلعة أيضًا مع الشيخ تقي الدين من شعبان سنة ست وعشرين إلى هذا الحينِ.
بناء أول جيش عثماني نظامي .
العام الهجري : 729 العام الميلادي : 1328
تفاصيل الحدث:
بعد أن انتقل أورخان بن عثمان إلى بورصة وجعَلَها عاصمَتَه وضَرَبَ العملةَ الفضيَّة والذهبيَّة ثمَّ بدأ بتأسيسِ جيشِ يني تشري- يعني الجيش الجديد الذي عرف فيما بعد بالإنكشارية- الذي كانت نَواتُه أبناءَ الأَسرى والصِّغار الذين يَقَعون في الأسرِ فيُرَبَّونَ في ثُكناتِ عَسكريَّة تربيةً إسلاميَّةً ويُدَرَّبونَ تَدريبًا عسكريًّا ويتخَرَّجونَ لا يَعرِفونَ إلَّا القتالَ والحياةَ العَسكريَّة والإسلامَ والجِهادَ في سبيلِ الله، وليس الرَّوابط القَبَليَّة والعشائريَّة؛ إذ لا يعرفون إلا السُّلطانَ سَيِّدًا لهم وقائدًا، فكانوا بذلك أكبَرَ قُوَّة ساهمت في ضرب خُصومِ العُثمانيين ومَدَّت الفتوحاتِ في البلاد.
مملوك يدعي أنه المهدي بمصر .
العام الهجري : 729 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1329
تفاصيل الحدث:
في يومِ الجمعة سادس ذي القعدة بعد أذان الجُمُعةِ صَعِدَ إلى منبر جامِعِ الحكم بمصر شخصٌ من مماليك الجاولي يقالُ له أرصى، فادَّعى أنَّه المهدي وسَجَع سجعاتٍ يسيرةً على رأيِ الكُهَّان، فأُنزِلَ في شرخيبة، وذلك قبل حضورِ الخطيب بالجامِعِ المذكور.
الفرنج يطلبون تسليم القدس وبلاد الساحل .
العام الهجري : 730 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1330
تفاصيل الحدث:
في خامِس عشر ربيع الآخر قَدِمَت رسل ريدافرنس في طَلَبِ القُدسِ وبلادِ الساحل، وعِدَّتُهم مائة وعشرون رجلًا، فأنكَرَ السلطانُ الناصِرُ محمد بن قلاوون عليهم وعلى مُرسِلِهم وأهانَهم، ثمَّ رسم بِعَودِهم إلى بلادهم، وقال لهم: لولا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقتَلُ لقَتَلْتُكم جميعًا.
يوسف الكيمياوي النصراني يخدع السلطان الناصر بصناعة الذهب .
العام الهجري : 730 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1330
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ يوسفُ الكيمياوي إلى مِصرَ في يوم الخميس سابعَ عشر رمضان، وكان من خبَرِ هذا الرجل أنه كان نصرانيًّا من أهل الكرك فأسلم، ومضى إلى دمشقَ بعدما خَدَع بمدينة صفد الأميرَ بهادر التقوى حتى انخدع له وأتلَفَ عليه مالًا جزيلًا، فلما ظهَرَ له أمْرُه سَجَنه مُدَّةً، ثم أفرج عنه، فاتصَلَ يوسف بالأمير تنكز نائب الشام، وقَصَد خديعته فلم ينخَدِعْ له، وأمر والي دمشق بشَنقِه، فصاح وقال: أنا جيت للسُّلطانِ حتى أملأَ خِزانَتَه ذهبًا وفِضَّة، فلم يجِدْ تنكز بدًّا من إرساله إلى السلطان، فقَيَّده وأركَبَه البريدَ مع بعض ثقاتِه، وكتب بخَبَرِه وحَذَّر منه، فلما اجتمع يوسفُ بالسلطان مال إلى قَولِه، وفَكَّ قَيدَه، وأنزله عند الأمير بكتمر الساق وأجرى عليه الرواتِبَ السَّنِيَّة، وأقام له عِدَّةً مِن الخدم يتولَّون أمره، وخلع عليه، وأحضر له ما طلَبَ من الحوائج لتدبيرِ الصَّنعةِ، حتى تمَّ ما أراده، فحضر يوسف بين يدي السلطان، وقد حضر الفخر ناظِرُ الجيش والتاج إسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقي في عِدَّةٍ من الأمراء، والشيخ إبراهيم الصائغ وعِدَّة من الصواغ، فأوقدوا النَّارَ على بوطقة قد مُلِئَت بالنُّحاسِ والقصدير والفضة حتى ذاب الجميعُ، فألقى عليه يوسفُ شيئًا من صنعته، وساقوا بالنَّارِ عليها ساعةً، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكةُ ذَهَبٍ كأجوَدِ ما يكونُ، زِنَتُها ألفُ مثقالٍ، فأعجَبَ السلطانَ ذلك إعجابًا كثيرًا، وسُرَّ سرورًا زائدًا، وأنعم على يوسف بهذه الألفِ مِثقالٍ، وخلع عليه خِلعةً ثانية، وأركبه فرسًا مُسرَجًا مُلَجَّمًا بكنبوش حرير، وبالغ في إكرامِه، ومكَّنَه من جميع أغراضه، فاتصل به خُدَّام السلطان، وقَدَّموا له أشياء كثيرة مستحسنة، فاستخَفَّ عُقولَهم حتى ملكها بكَثرةِ خُدَعِه، فبذلوا له مالًا جزيلًا، ثم سَبَك يوسف للسلطان سبيكةً ثانية من ذهب، فكاد يطيرُ به فرحًا، وصار يستحضِرُه بالليل ويحادِثُه، فيزيده طَمَعًا ورغبة فيه، فأذِنَ له أن يركب من الخيولِ السُّلطانيَّة ويمضي حيث شاء من القاهرةِ ومصر، فركب وأقبَلَ على اللهو، وأتاه عِدَّةٌ من الناس يسألونَه في أخذِ أموالهم، طمعًا في أن يُفيدَهم الصَّنعةَ أو يُغنيهم منها، فمَرَّت له أوقاتٌ لا يتهيَّأُ لكلِّ أحَدٍ مِثلُها مِن طِيبتِها، ثم إنَّه سأل أن يتوجَّه إلى الكرك لإحضارِ نبات هناك، فأركبه السلطانُ البريد، وبعث معه الأميرَ طقطاي مُقَدَّم البريدية، بعدما كتب إلى نائب غَزَّة ونائب الكرك بخدمتِه وقضاء ما يُرسَم به والقيام بجميع ما يحتاجُ إليه من ديوان الخاص، فمضى يوسفُ إلى الكرك وأبطأ خبَرُه، ثم قَدِمَ وقد ظهر كَذِبُه للسلطان، فضَيَّق عليه وحبسه في القاهرة، ثم إنَّه في عام 731 هرب من السجنِ ثمَّ بعد عدة أشهر وُجِدَ في أحميم فمَثُلَ بين يدي السلطان فسأله عن المال، فقال: عَدِمَ مني، فسأله السلطانُ عن صناعته فقال: كُلُّ ما كنتُ أفعَلُه إنما هو خِفَّةُ يدٍ، فعوقب عُقوبةً شديدة بالضرب، ثم حُمِلَ إلى خزانة شمائل سجن أرباب الجرائم بجوار باب زويلة من القاهرة، فمات ليلة الأحد خامس عشر ذي الحجة، فسُمِّرَ وهو ميت وطيف به القاهرة على جملٍ في يوم الأحَدِ.
فتنة العبيد بمكة وقتل الأمير الدمر جاندار .
العام الهجري : 730 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1330
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ الأميرُ الدمر جاندار بمكَّةَ في يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، وكان مِن خَبَرِه أنَّ أميرَ الرَّكبِ العراقيِّ في هذه السنة كان من أهل توريز يُعرَفُ بمحمد الحجيج، وكان يتقَرَّب من أولاد جوبان، فترقَّى بهم إلى معرفةِ السلطان أبو سعيد بن خربندا ملك التتار بالعراق، فعَظُمَ أمرُه وجعَلَه من نُدَمائِه، وبَعَثَه رسولًا إلى مصرَ غَيرَ مَرَّة، فأُعجِبَ به السلطانُ الناصِرُ ولاق بخاطِرِه إلى أن بلغه عنه أنَّه تعَرَّض في مجلس أبي سعيد لشيءٍ ذكر مما يكرَهُه السلطان، فتنكَّرَ له وأسَرَّ ذلك في نفسِه، فلمَّا بلَغَه أنَّه سار أميرُ الركب العراقي كتب إلى الشَّريفِ عُطَيفة بن أبي نمي سرًّا أن يتحَيَّلَ في قتله، فلم يجِدْ عطيفة بدًّا من امتثال ما أُمِرَ به، وأطلَعَ ولده مبارك بن عطيفة ومن يثِقُ به على ذلك، وتقَدَّم إليهم بإعمال الحيلة فيه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ عاد منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي إلى مصر ومعه جماعةٌ في يومِ الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة، وتأخَّرَ الأمير سيف الدين خاص ترك أمير الحاج، والأميرُ الدمر جاندار، والأمير أحمد ابن خالة السلطان، ليُصَلُّوا بمكَّةَ صلاة الجمعة، ومعهم بقيَّةُ حجَّاج مصر، فلما حضروا للجمعة وصَعِدَ الخطيب المنبر، أراد الشَّريفُ عَمَل ما رُسِمَ له به، وأخَذَ العبيدُ في إثارةِ الفِتنةِ بين الناس ليحصُلَ الغَرَضُ بذلك، وأوَّل ما بدؤوا به أن عبثوا ببعضِ حاجِّ العراق، وخطفوا شيئًا من أموالِهم، وكان الشريفُ عطيفة جالسًا إلى جانب الأمير خاص ترك أميرِ الركب، فصرخ النَّاسُ بالأمير الدمر وليس عندَه عِلمٌ بما كَتَب به السلطانُ إلى الشَّريفِ عُطَيفة، وكان مع ذلك شُجاعًا حادَّ المزاجِ قَويَّ النفس، فنهض ومعه من المماليكِ، وقد تزايد صراخُ النَّاسِ، وأتى الشَّريفَ وسَبَّه، وقَبَض بعضَ قُوَّادِه وأخرَقَ به، فلاطفه الشريفُ فلم يَلِنْ، واشتد صياحُ الناس، فركب الشريف مبارك بن عطيفة في قوَّادِ مكة بآلة الحَربِ، وركب جندُ مِصرَ، فبادر خليلٌ ولد الأمير الدمر وضرب أحدَ العبيد، فرماه العبدُ بحَربةٍ فقَتَله، فاشتَدَّ حنَقُ أبيه وحَمَل بنفسه لأخذ ثأرِ ولَدِه فقُتِلَ هو أيضًا، ويقال بل صادف الشريف مبارك بن عطيفة، وقد قصد ركبَ العراق وعليه آلةُ حَربِه، فقال له: "ويلك تريدُ أن تثيرَ فِتنةً، وهمَّ أن يَضرِبَه بالدبوس، فضربَه مبارك بحَربةٍ كانت في يده أنفَذَها من صدره فخَرَّ صريعًا، وقُتِلَ معه رجلان من جماعته، فركب أميرُ الركب عند ذلك ونجا بنَفسِه، ورُمِيَ مُبارك بن عطيفة بسَهمٍ في يده فشُلَّت، واختبط الناسُ بأسرهم، وركب أهلُ مكة سطحَ الحَرَم، ورموا الأميرَ أحمد ابن خالة السلطان ومن معه بالحجارة، وقد أفرغ نشَّابه بين يديه هو ومن معه، ورمى بها حتى خلَصَ أيضًا، وفَرَّ أمير ركب العراق وتحيَّرَ الشريف عطيفة في أمره، وما زال يداري الأمرَ حتى خرج الحاجُّ بأجمعهم من مكة، وتوجَّهوا إلى بلادِهم، وتراجع الأمراءُ المصريُّونَ إلى مكة لطَلَبِ بعض الثأر فلم يُنتِجْ أمرُهم وعادوا فارِّينَ، ثم أمَرَ أمير المصريين بالرَّحيل، وعادوا إلى القاهرة وأخبروا المَلِكَ الناصر محمد بن قلاوون، فجهَّزَ إلى مكة عسكرًا كثيفًا وعليه جمعٌ من الأمراء، فتوَجَّهوا وأخفَوا بثأرِ أيدمر وابنه، وقتلوا جماعةً كثيرةً مِن العبيد وغيرهم، وأسرفوا في ذلك وخرجوا عن الحَدِّ إلى الغاية، وتشَتَّت أشرافُ مَكَّة والعبيد عن أوطانِهم وأُخِذَت أموالهم، وحَكَمَت التركُ مَكَّةَ من تلك السنة، وزال منها سَطوةُ أشراف مكة الرَّافضة والعبيد، وانقَمَع أهلُها وارتدعوا، وكَرِهَهم المَلِكُ الناصر ومَقَتَهم وأقصاهم، حتى إنَّه لما حج بعد ذلك كان إذا أتاه صاحِبُ مكَّة لا يقومُ له مع تواضُعِ المَلِك الناصِرِ للفقهاء والأشراف والصُّلَحاءِ وغَيرِهم.
تغيير أمير مكة بسبب فتنة العبيد .
العام الهجري : 731 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1331
تفاصيل الحدث:
بعد ما كان من الفِتنةِ بمكَّةَ العامَ السَّابِقَ وانزعاج السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون كثيرًا لذلك، ففي المحَرَّم هذا العام قَدِمَ الحاجُّ، وأخبروا بكثرةِ الفِتَن بمكَّةَ بين الشريفين عُطيفة ورُميثة، وقُوَّة رُمَيثة على عُطَيفة ونهْبِه مكَّة وخروجه عن الطاعة، وأنه لم يلقَ رَكبَ الحُجَّاج، فكتب بحضورِه، فلما ورد المرسومُ بطلب الشريفينِ إلى مصر اتَّفَقا وخرجا عن الطاعة، فشقَّ ذلك على السلطان، وعَزَم على إخراج بني حسَن من مكة، وتقَدَّم السلطان إلى الأمير سيف الدين أيتمش أن يَخرُجَ بعسكرٍ إلى مكة، وقال له بحضرة القضاة: "لا تدع في مكَّةَ أحدًا من الأشرافِ ولا من القُوَّاد ولا مِن عَبيدِهم، ونادِ بها من أقام منهم حَلَّ دَمُه، ثم أحرِقْ جَميعَ وادي نخلةَ، وألقِ في نَخلِها النَّارَ حتى لا تدَعَ شَجرةً مُثمِرةً ولا دِمنةً- آثار الديار- عامرةً، وخَرِّبْ ما حول مكَّةَ من المساكن، وأخرِجْ حَرَم الأشرافِ منها، وأقِمْ بها بمن معك حتى يأتيك عسكَرٌ آخرُ"، فقام في ذلك قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني ووعَظَ السُّلطانَ وذَكَّره بوجوبِ تَعظيمِ الحَرَمِ، إلى أن استقَرَّ الأمر على أن كُتِبَ لرُمَيثة أمانٌ وتقليد بإمرة مكَّة، وسار العسكر من ظاهر القاهرة في نصف صفر، وعِدَّتُهم سبعمائة فارس، وفي سابع جمادى الآخرة قدم الأمير أيتمش بالعسكر المجرَّد إلى مكة، وكان الشريفُ رُمَيثة قد جمع عربًا كثيرةً يريدُ محاربتهم، فكتب إليه الأميرُ أيتمش يُعَرِّفُه بأمان السلطان له وتقليدِه إمرةَ مَكَّة، ويحثُّه على الحضور إليه ويرَغِّبُه في الطاعة، ويحَذِّرُه عاقبةَ الخلاف ويهدده على ذلك، ويُعَرِّفُه بما أمر به السلطانُ من إجلاء بني حسن وأتباعِهم عن مكة، فلما وقف رُمَيثةُ على ذلك اطمأَنَّ إلى الأمير أيتمش وأجابه بما كان قد عزم عليه من الحربِ لو أنَّ غَيرَه قام مقامَه، وطلب منه أن يحلِفَ هو ومن معه ألَّا يَغدِرَ، وأن يُقرِضَه مبلغ خمسين ألف درهم يتعَوَّضُها من إقطاعِه، فتقَرَّر الحال على أن يبعثَ إليه الأمير أيتمش عشرةَ أحمال من الدقيق والشعير والبقسماط وغيره، ومبلغ خمسة ألاف درهم، فقَدِمَ حينئذ، فلما قارب رُمَيثة مكة رَكِبَ الأمير أيتمش بمن معه إلى لقائِه، فإذا عِدَّةٌ من قواده مع وزيره قد تقَدَّموه ليحَلِّفوا له العسكر، فعادوا بهم إلى الحَرَمِ وحلفوا له أيمانًا مؤكَّدة، ثم ركبوا إلى لقائِه وقابَلوه بما يليقُ به من الإكرام، فلَبِسَ رميثة تشريفَ السلطان، وتقَلَّد إمارةَ مكَّة، وعَزَم على تقدمة شيءٍ للأمراء، فامتنعوا أن يقبلوا منه هَدِيَّةً، وكتبوا إلى السلطانِ بعَودِ الشريف إلى الطاعةِ.
======
ج149.
ملك أبي الحسن علي بن أبي سعيد المريني مدينة فاس بعد أبيه .
العام الهجري : 731 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1331
تفاصيل الحدث:
ملَكَ أبو الحَسَنِ علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحَقِّ المريني المنصور بالله مدينةَ فاس من بلادِ المغرب، بعد مَوتِ أبيه بعَهدٍ منه، وعُرِفَ بالسلطانِ الأكحَلِ لسُمرةِ لَونِه، فقد كانت أمُّه حَبشيَّةً.
وفاة الملك المؤيد عماد الدين الأيوبي صاحب حماة وتولي ابنه بعده .
العام الهجري : 732 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1331
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ المؤيَّد صاحب حماة عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كانت له فضائلُ كثيرةٌ في علوم متعَدِّدة منها الفِقهُ والهيئة والطب، وله مُصَنَّفات عديدة، منها تاريخٌ حافِلٌ في مجلَّدين كبيرين، وله نَظمُ الحاوي وغير ذلك، وكان يحِبُّ العلماءَ ويُشارِكُهم في فنون كثيرة، وكان من فُضَلاءِ بني أيوب، ولي مُلكُ حماة من سنة إحدى وعشرين إلى هذا العام، وكان السلطان الناصر بن قلاوون يُكرِمُه ويُعَظِّمُه، ووَلِيَ بعدَه ولدُه الأفضل علي، توفِّيَ في سحر يوم الخميس ثامن عشرين المحرم، ودُفِنَ ضَحوةً عند والديه بظاهِرِ حماة.
الفرنج يهمون باستئناف الحروب الصليبية .
العام الهجري : 733 العام الميلادي : 1332
تفاصيل الحدث:
فيليب السَّادِسُ مَلِكُ فرنسا يُعلِنُ عَزمَه على القيامِ بحَملةٍ صَليبيَّةٍ جَديدةٍ، لكِنَّه ينثني عنها بدخولِه حِلفًا ضِدَّ الأتراك العُثمانيِّين واشتراك جيوشِه في الإغارة على أزمير سنة 735، ولكِنَّ نجاحَه في هذه المعركة أعاد له العزمَ على مشروع الحَربِ الصَّليبيَّة، ولكِنْ لم يلبث أن أغارت إنكلترا عليه فانصرَفَ نهائيًّا عن فِكرةِ الحرب الصليبيَّة؛ لدوام حربه مع إنكلترا بما يُعرَفُ اليوم بحرب المائة عامٍ.
استعادة محمد الرابع بن إسماعيل ملك غرناطة ثغر جبل طارق .
العام الهجري : 733 العام الميلادي : 1332
تفاصيل الحدث:
استنجد محمَّدُ الرابع بن إسماعيل مَلِكُ غرناطة بأبي الحَسَنِ علي بن عثمان مَلِك بني مرين لاستردادِ ثَغرِ جبل طارق من الأسبان الذين استولوا عليه سنة 709 فاستجاب أبو الحسَنِ لهذه الدعوة وأرسل جَيشًا بقيادةِ ابنه أبي مالك، فحصَلَت معركةٌ بَحَريَّةٌ أمام جبل طارق هُزِمَ فيها القشتاليون واستسلمت حاميةُ الجبل فاسترَدَّها المسلمون من الأسبان، ثم بعد فترة تم اغتيال محمد الرابع بن إسماعيل بتحريضٍ من مُنافِسيه في المُلكِ، فتَمَّ استخلاف أخيه أبي الحَجَّاج يوسف الأول بن أبي الوليد إسماعيل، وهو فتى في السادسة عشرة من عُمُرِه.
وفاة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة .
العام الهجري : 733 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1333
تفاصيل الحدث:
قاضي القُضاةِ العالِمُ شَيخُ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخِ الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الأصل، وُلِدَ ليلة السبت رابع ربيع الآخر سنة 639 بحماة، وسَمِعَ الحديثَ واشتغل بالعلم، وحصَّل علومًا متعَدِّدة، وتقَدَّم وساد أقرانَه، وباشر تدريسَ القيمرية، ثم وليَ الحُكمَ والخَطابة بالقُدسِ الشريف، ثم نُقِلَ منه إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية، ثم وليَ قضاء الشامِ وجُمِعَ له معه الخطابةُ ومشيخةُ الشيوخِ وتدريسُ العادليَّة وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسةِ والديانةِ والصِّيانةِ والوَرَع، وكَفِّ الأذى، وله التصانيفُ الفائقة النافعة، أشهَرُها تذكِرةُ السامع والمتكَلِّم في أدب العالم والمتعلم، وله غرر البيان في مبهمات القرآن، والمنهل الرَّوِيِّ في الحديث النبويِّ، وغيرها، وجمع له خطباً كان يخطُبَ بها، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يَزَل حاكِمًا بها إلى أن كُفَّ بَصَرُه وكَبِرَ وضَعُفَت أحواله، فاستقال فأقيل، ورُتِّبَت له الرَّواتِبُ الكثيرة الدارَّة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الأولى، وقد أكمل أربعًا وتسعين سنة وشهرًا وأيامًا، وصُلِّيَ عليه من الغَدِ الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودُفِنَ بالقرافة، وكانت جنازتُه حافلةً هائلةً رحمه الله.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون يمنع رمي البندق .
العام الهجري : 733 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1333
تفاصيل الحدث:
رسم السُّلطانُ النَّاصِرُ محمَّدُ بن قلاوون بالمنعِ مِن رَميِ البُندُق، وألَّا تُباعَ قِسِيُّها ولا تُعمَل، وذلك لإفسادِ رُماةِ البندق أولادَ الناس، وأنَّ الغالِبَ على من تعاطاه اللُّواطُ والفِسقُ وقِلَّةُ الدين، ونودِيَ بذلك في البلادِ المصريَّة والشاميَّة.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون يأمر بضرب المنجمين وحبسهم .
العام الهجري : 733 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1333
تفاصيل الحدث:
رسم السُّلطانُ النَّاصِرُ محمد بن قلاوون بتسليم المنَجِّمينَ إلى والي القاهرة فضُرِبوا وحُبِسوا؛ لإفسادهم حالَ النِّساءِ، فمات منهم أربعةٌ تحت العقوبة، وثلاثةٌ من المسلمين ونصرانيٌّ.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون يعمل بابًا جديدا للكعبة .
العام الهجري : 733 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1333
تفاصيل الحدث:
عَمِلَ السُّلطانُ النَّاصِرُ محمد بن قلاوون بابًا من خَشَبِ السنط الأحمر، وصَفَّحه بفِضَّة زِنتُها خمسة وثلاثون ألفَ درهم وثلاثمائة درهم، ومضى به الأميرُ سيف الدين برسبغا الساقي إلى مكَّة، فقُلِعَ باب الكعبة العتيق، ورُكِّبَ هذا الباب وأخذ بنو شيبةَ الباب العتيق، وكان من خَشَبِ الساسم المصَفَّح بالفِضَّة، فوجدوا عليه ستين رطلًا من فِضَّة تقاسَموها فباعوها كلُّ دِرهمٍ بدرهمين، لأجلِ التبَرُّك، (وهذا خطأٌ من وجهَينِ: الأول: أنَّه رِبًا. والثاني: أنَّه لا يُتبَرَّكُ بمثل هذه الأشياءِ، وإن كانت بابًا للكعبة!) وتُرِكَ خَشَبُ ذلك الباب داخِلَ الكعبة، وعليه اسمُ صاحِبِ اليمن في الفردتين، واحدةٌ عليها: اللهُمَّ يا وليُّ يا عليُّ، اغفِرْ ليوسُفَ بنِ عُمَرَ بنِ عليٍّ.
سيل عظيم بالمدينة النبوية .
العام الهجري : 734 العام الميلادي : 1333
تفاصيل الحدث:
جاء بالمدينةِ النبَويَّة سَيلٌ عَظيمٌ أخَذَ جِمالًا كثيرةً وعشرين فَرَسًا، وخُرِّبَت عِدَّةُ دُورٍ.
إلزام اليهود والنصارى بلباس خاص ببغداد .
العام الهجري : 734 العام الميلادي : 1333
تفاصيل الحدث:
ألزم صاحِبُ بغدادَ النصارى أن يلبَسوا العمائمَ الزُّرقَ، واليَهودَ أن يَلبَسوا العمائِمَ الصُّفرَ يُمَيِّزُهم عن المسلمينَ؛ اقتداءً بالسلطان المَلِك الناصِرِ بهذه السُّنَّة الحَسَنة.
وفاة الحافظ العلامة ابن سيد الناس .
العام الهجري : 734 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1334
تفاصيل الحدث:
هو الحافِظُ العلَّامة البارع، فتحُ الدين بن أبي الفتح محمد بن الإمام أبي عمرو محمد بن الحافظ أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الربعي اليعمري الإشبيلي ثم المصري، وُلِدَ في العشر الأُوَل من ذي الحجة سنة 671، كان حافِظًا بارعًا أديبًا بليغًا مُتَرَسِّلًا، حَسَن المحاوَرةِ لَطيفَ العبارة، فصيحَ الألفاظ كامِلَ الأدوات لا تُمَلُّ مُحاضَرتُه، كريم الأخلاق زائِدَ الحياء، حسَن الشكل والعمَّة، وهو من بيتِ رياسة وعلم، وسَمِعَ الكثير وأجاز له الروايةَ عنهم جماعاتٌ من المشايخ، ودخل دمشقَ سنة تسعين فسَمِعَ من الكندي وغيره، واشتغل بالعِلمِ فبرع وساد أقرانَه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربية، وعِلْم السير والتواريخ، وغير ذلك من الفنون، وقد جمع سيرةً حَسَنةً في مجَلَّدين المعروف باسم: عيون الأثر في فنون المغازي والسِّيَر، وشرح قطعة حسنة من أوَّلِ جامعِ التِّرمذي المعروف باسم النفح الشَّذِي في شرح جامع الترمذي، وله الشِّعرُ الرائق والفائق، والنَّثر الموافق، والبلاغةُ التامة، وحسن الترصيف والتصنيف، وله العقيدةُ السلفيَّة الموضوعة على الآيِ والأخبار والآثار والاقتفاء بالآثار النبوية، وله مدائِحُ في رسول الله صلى الله عليه وسلم حِسانٌ، منها: كتاب بشرى اللبيب في ذكر الحبيب، وله كتاب تحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة، وكان شيخَ الحديثِ بالظاهرية بمصر، ولم يكُنْ في مصر في مجموعها مثلُه في حفظ الأسانيدِ والمتون والعِلَل والفِقهِ والمُلَح والأشعار والحكايات، توفِّيَ فجأة يوم السبت حادي عشر شعبان، وصلِّيَ عليه من الغد، وكانت جنازتُه حافلة.
مقتل ياسور أحد ملوك المغول في الحج .
العام الهجري : 734 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1334
تفاصيل الحدث:
قُتِلَ ياسور أحَدُ ملوك المغول وقتَ رَميِ الجمرات، وكان من خَبَرِه أنَّ مَلِكَ الشرق أبا سعيد بن خربندا المغولي لما قُتِل جوبان أراد إقامةَ ياسور لأنه من عظماء القان التتر، فخُوِّفَ من شجاعته، وأنَّ جوبان كان يريد إقامتَه في الملك، فنَفَر منه أبو سعيد، ثم إنَّه استأذنه في الحَجِّ فأَذِنَ له، وقام له بما يليقُ به، ثم طلب أبو سعيد من المجدِ السلامي وكتب إلى السلطانِ يُعَرِّفُه بأمر ياسور، ويخوِّفُه منه أن يجتَمِعَ عليه المغول، ويسألُه قَتْلَه، فدفع السلامي كتاب أبي سعيد إلى مملوكِه قطلوبك السلامي فقَدِمَ على السلطان أول ذي القعدة من السنة الماضية، فأركَبَه السلطان النجيبَ في عاشِرِه إلى مكة، ومعه كتابٌ إلى الأمير برسبغا الحاجب وقد حَجَّ من مصر بطَلَبِ الشريف رُمَيثة وموافقته سرًّا على قتل ياسور، فقَدِمَ قطلوبك مكة أول ذي الحجة، فلم يوافِقْ رُمَيثة على ذلك، واعتذر بالخوفِ، فأعد برسبغا بعضَ نجابته من العُربان لذلك، ووعده بما ملأ عينَه، فلما قضى الحاجُّ النُّسُكَ من الوقوف والنحر، ورَكِبَ ياسور في ثاني يوم النحر لرميِ الجمار، ركب برسبغا أيضًا فعندما قارب ياسور الجَمرةَ وثب عليه النجاب، وضَرَبه فألقاه إلى الأرضِ، وهرب نحو الجَبَل، فتبعه مماليكُ برسبغا وقتلوه أيضًا، خشيةً مِن أن يَعتَرِفَ عليه، فاضطرب حجَّاجُ العراق وركبت فرسانُهم وأخذوا ياسور قتيلًا في دمائه، وساروا إلى برسبغا منكرينَ ما حلَّ بصاحِبِهم، فتبرَّأَ برسبغا من ذلك وأظهر الترحُّمَ عليه، وقَرَّر عندهم أن هذا الذي قتَلَ هو مَن له عليه ثأرٌ أو أحَدُ غرمائه، وإنكم كُفِيتُم أمْرَه، فإني أخذتُ لكم بثأرِه وقَتْلِ قاتله "، فانصرفوا عنه وفي نفوسِهم منه شيء، وما زالوا له بالمرصاد وهو منهم محتَرِزٌ منهم حتى افترق ركبُ الحاجِّ العراقيين من المصريِّين بالمدينة النبوية، فأمِنَ برسبغا على نفسِه.
قتل وتخريب بطرطوس وإياس على أيدي جيش حلب .
العام الهجري : 735 العام الميلادي : 1334
تفاصيل الحدث:
رجع جيشُ حلب إلى مدينة حلب بعد غَزوِهم بلادَ أذنة وطرسوس وإياس، وكان عَدَدُهم عشرةَ آلاف سوى من تَبِعَهم من التركمان، وقد خَرَّبوا وقَتَلوا خلقًا كثيرًا، ولم يعدم منهم سوى رجلٍ واحد غَرِقَ بنهر جاهان، ولكِنْ كان قَتْلُ الكُفَّار مَن كان عندهم من المسلمينَ في تلك البلاد نحوًا من ألف رجل، يوم عيد الفطرِ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعونَ.
وباء ومرض بالمدينة المنورة .
العام الهجري : 735 العام الميلادي : 1334
تفاصيل الحدث:
وقع بالمدينةِ النبويَّةِ وَبَاءٌ، فكان يموتُ في كُلِّ يَومٍ خَمسةَ عشر بمَرَض الخوانيق- داء يعسُرُ معه التنفس- ولم يُعهَدْ مثلُ هذا بالمدينةِ الشَّريفةِ.
وفاة الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي مؤسس الطريقة الصفوية .
العام الهجري : 735 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1334
تفاصيل الحدث:
هو الشيخُ صفيُّ الدين إسحاقُ بن جبريل الأرْدَبيلي، ويقال: إنَّ نسبَه يرجعُ إلى موسى الكاظم, وهو مؤسِّسُ الطريقة الصفويَّة. ولِدَ صفيُّ الدين بأردبيل سنة 650. درس في مطلع ِحياتِه العلومَ الدينيَّةَ والعقليَّةَ في أردبيل. ثم صار واعظًا صوفيًّا في مدينة أردبيل، ثم أسَّس فرقةً صوفيةً تُسمَّى الإخوان، وقد كثُرَت هذه الفرقةُ في إقليم أذربيجان, ولَمَّا أدركته الجذبة- الجذبُ: مصطلحٌ صوفي يعني: حالًا من أحوالِ النفس يغيبُ فيها القلبُ عن عِلمِ ما يجري من أحوالِ الخَلقِ، ويتصِلُ فيها بالعالَمِ العلويِّ- رحل إلى شيراز، فنزل بخانقاه الشيخِ خفيفِ الشيرازي، واشتغل هناك مُدَّةً، ولقيَ الشيخَ سعدي الشيرازي، فاستفاد منه وسمع هناك خبَرَ الشيخِ زاهد الكيلاني، فقصد الرحلةَ إليه، فأخذ عنه الطريقةَ القادريَّةَ، ثمَّ عاد إلى بلَدِه، ثم إليه واشتغَلَ في خدمة الشيخ تاج الدين الكردي من أصحابِه مدةً إلى أن بلغ رتبةَ الإرشادِ وتزوَّج ابنتَه، ثم أجاز له بالرجوعِ إلى وطنه، فعاد وجلس على سجادة الإرشاد، فأقبل عليه أهلُ السلوك واجتمع عنده جمعٌ كثيرٌ من الأقطار، فبنى زاويةً مشهورةً به. ولَمَّا مَرِضَ شَيخُه بكيلان ذهب إلى عيادته فشَهِدَ جنازتَه وبنى على قبره، ثم عاد وأقام بزاويته مُرشدًا داعيًا مدة ثلاثين سنة، ثم قضى نحْبَه ودُفن بزاويته. وجلس مكانَه ابنُه صدر الدين موسى، وصفيُّ الدين هذا هو جَدُّ الصفويَّة المشهورةِ بقزلباش، وكان كثيرَ الأتباع جدًّا من الدراويش والمُريدين. وقيل: تشَيَّع صفيُّ الدين أو ابنُه صدرُ الدين موسى, وكان أتباعُ صفي الدين من السُّنَّة الشافعية ثم انقلبوا إلى شيعة؛ بسبب شيوخهم صفي الدين وأولاده وأحفاده، وقد قَوِيت طريقة صفي الدين وكثُر أتباعها في زمن أحفاده حتى استطاع أحدُهم وهو إسماعيل بن حيدر أن يتملَّك إيران سنة 907 ويؤسِّس فيها الدولة الصفوية الشيعية. توفي صفي الدين بأردبيل في محرَّم من هذه السنة.
تعاقب أحفاد الأردبيلي في رئاسة الطريقة الصفوية إلى قيام دولتهم .
العام الهجري : 735 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1334
تفاصيل الحدث:
بعد وفاة صفي الدين الأرْدَبيلي مؤسِّس الطريقة الصفوية خلَفَه في مشيخة الطريقة ابنه صدر الدين موسى مدةً طويلة بلغت تسعًا وخمسين عامًا, وكانت السلاطين تعتقِدُ فيه وتزوره، وممن زاره والتمس بركته تيمورلنك، فسأله أن يطلبَ منه أي شيء، فقال له موسى: أطلب منك أن تطلِقَ كل من أخذته من بلاد الروم من التركِ، فأجابه إلى سؤاله فأطلقَ جميع أسرى الترك، فصار أهل الروم يعتقدون في الشيخ صدر الدين والمشايخ من ذريتِه، ولما توفي صدر الدين تولى ابنُه خواجة علي مشيخةَ الطريقة مدة 36 سنة، وكان الخواجة علي يميل للتشييع, ولما مات سنة 830 تولى بعده ابنُه إبراهيم الذي كان تشيُّعه واضحًا، فقد أدخل أتباعَه بصراعات مع أهل السنة في داغستان, ولَمَّا توفي سنة 851 خلفَه ابنه الأصغر جنيد، وكان شيعيًّا جَلْدًا متعصبًا للشيعة الإمامية, فلمَّا كثر مريدوه وأتباعه خافه السلطان جهانشاه التركماني صاحب أذربيجان، فأخرجهم من أردبيل فتوجَّه جنيد مع بعض مريديه إلى ديار بكر، وقُتِلَ جنيد في إحدى حروبه في مدينة شيروان سنة 861، وخلَفه ابنه حيدر الذي تزوَّج من بنت حسن أوزون الطويل, وكانت أمُّها كاترينا ابنة كارلو يوحنا ملك مملكة طرابزون اليونانية النصرانية, وحيدر هذا هو أوَّلُ من أمر أتباعَ الطريقة الصفوية أن يضعوا على رؤوسِهم قلنسوة مخروطية الشكل مصنوعة من الجوخ الأحمر، وسُمُّوا بقزلباش، وهي كلمة تركية تعني الرأس الأحمر, ولما قتل حيدر سنة 893 كان له ثلاثة أولاد: علي، إبراهيم، وإسماعيل، سجنهم الأمير يعقوب أمير آق قونيلو، ثم أُطلِقَ سراحهم بعد وفاة يعقوب، فذهب إسماعيل بن حيدر إلى مدينة كيلان على بحر قزوين، وحاول منذ صِغَره تجميع الصوفية والقزلباشية حوله؛ من أجل الانتقام مِن قتَلَة أبيه وجده، فتوجه إلى أمير دولة التركمان "آق قونيلو" سنة 907، وقتله وجلس على ملكِه بعد أن بايعته كلُّ قبائل التركمان، وأعلن دولته الصفويَّة.
نائب طرابلس يطلب الإقالة بسبب حرامي بحري .
العام الهجري : 735 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1335
تفاصيل الحدث:
قُبِضَ على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروفِ بنائب الكرك في يوم الخميس نصف جمادى الآخرة، وهو يومئذٍ نائِبُ طرابلس وسُجِنَ بقلعة صرخد، ثم نقِلَ في مستهل شوال إلى الإسكندرية فسُجِنَ بها، ونزل النشو إلى بيتِه بالقاهرة، وأخذ موجودَه كُلَّه وموجودَ حَريمِه، وعاقَبَ أستادراه، واستقَرَّ عِوَضَه في نيابة طرابلس الأميرُ طينال على عادته، ونُقِلَ بكتمر العلائي إلى نيابة حمص، عوضًا عن بشاش المتوفى، وسبب ذلك كلِّه أنَّه تراءى بطرابلس مرَكبٌ للفرنج في البحر، فرَكِبَ العسكر إلى الميناء، فدفعت الريحُ المركَبَ عن الميناء ثم أخذ الأميرُ آقوش في تجديد عمارة مركب هناك، وأنفق فيه من مالِه أربعينَ ألف درهم، فقَدِمَت مركب الفرنج، فركب العسكَرُ في المركب المستجَدِّ، وقاتلوا الفرنجَ، فقتلوا منهم جماعةً وغَنِموا مركَبَهم بما فيها، فادَّعى صاحِبُها أنَّه تاجِرٌ قَدِمَ بتجارته، فنُهِبَت أموالُه وقُتِلَت رجالُه، وذُكِرَ عنه بعضُ التجَّار أنه متحَرِّم لا تاجر، وأنَّه قَدِمَ في السنة الماضية إلى ميناء طرابلس وأخَذَ منها مركبًا، فكتب آقوش بذلك إلى السلطان، فأجيب بالشُّكرِ وحَمْل الفرنجي إلى السلطان، فحَمَله آقوش مقيدًا على البريد، فأكثَرَ الفرنجيُّ من التظلم، وتبرأ من التحَرُّم في البحر، وأنه قَدِمَ بتجارة وهدية للسُّلطانِ، فظَلَمَه نائب طرابلس وأخذ ما كان معه من التحَفِ وغيرها، فصَدَّقه السلطان، وكتب بإعادة مركَبِه إليه وجميعِ ما أُخِذ له، فأجاب النائبُ بأن المذكور حرامي يقطع الطريقَ على المسلمين، فلا يَسمَع السلطانُ قَولَه، وكتب إليه بالتأكيدِ في رَدِّ المركب عليه، فرَدَّها النائب عليه، وشَقَّ ذلك عليه، ثمَّ طلب آقوش الإعفاءَ من نيابة طرابلس فأُجيبَ بتخييره بين نيابةِ صرخد وبعلبك، وبَعَث السلطان إليه الأمير برسبعا الحاجب، فسار به إلى دمشق، فقَبَض عليه تنكز بدار السعادة، وحَمَلَه إلى صرخد.
إسلام سديد الدولة اليهودي من نواب ملك المغول .
العام الهجري : 736 العام الميلادي : 1335
تفاصيل الحدث:
مَرَّ سديدُ الدولة ديانُ اليهودي بقارئٍ يقرأ قَولَه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1], فوَقَف سديدُ الدولة واستعاده قراءتَها، وبكى بكاءً شَديدًا، وقد اجتمَعَ عليه الناسُ، ثم أعلن بكلمةِ الإسلام، فارتَجَّت بغداد لإسلامه، وغُلِّقَت أسواقُها، وخرج النِّساء والأولاد، فأسلم بإسلامِه سِتَّةٌ من أعيان اليهود، وسارعت العامَّةُ ببغداد إلى كنائِسِ اليهود، فخَرَّبوها ونَهَبوا ما فيها، وسديدُ الدولة هذا هو من نوابِ الملك المغولي أبو سعيدٍ.
وفاة الملك أبي سعيد المغولي ملك التتار واضطراب أمر المغول بعده .
العام الهجري : 736 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1335
تفاصيل الحدث:
هو القانُ أبو سعيدٍ بهادِرُ بن القان محمد خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المغولي ملك التتار، صاحِبُ العراق والجزيرة وأذربيحان وخراسان والروم. كان من خيارِ مُلوك التَّتار وأحسَنِهم طريقةً وأثبَتِهم على السنَّةِ وأقوَمِهم بها، وقد عَزَّ أهلُ السنة بزمانِه وذَلَّت الرافضة، بخلاف دولةِ أبيه، أبطَلَ عِدَّة مُكوس، وأراق الخمورَ ومَنَع مِن شُربِها، وهَدَم كنائِسَ بغداد ووَرَّث ذوي الأرحام، فإنَّه كان على مذهب أبي حنيفة، وكانت وفاتُه في الأردو بأذربيجان في ربيع الآخر من هذه السنة، وقد أناف على الثلاثين، وكانت دولته عشرين سنة، كان جلوسُه على التخت في أول جمادى الأولى سنة 717، وكانت وفاتُه بدار السلطنة بقراباغ، وهي منزِلُهم في الشتاء، ثم نُقِلَ إلى تربته بمدينته التي أنشأها قريبًا من السلطانيَّة بالقُربِ مِن جبالِ كيلان مدينة أبيه، وعُمُره إحدى عشرة سنة، ثم لم يقُمْ بعده للتتارِ قائِمةٌ، بل اختَلَفوا وتفَرَّقوا شَذَر مَذَر، وكان القائمُ من بعده بالأمرِ أربا كاؤن من ذرية أبغا، ولم يستمِرَّ له الأمرُ إلَّا قليلًا.
أحوال مُلك التتار في الشرق بعد وفاة الملك أبي سعيد بن خربندا .
العام الهجري : 736 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1336
تفاصيل الحدث:
بعد وفاةِ أبي سعيد بن خربندا مَلِك التتار قام بَعدَه أربا كاؤن بن صوصا بن سنجقان بن ملكتمر بن أريغبغا أخي هولاكو بمساعدة الوزير غياث الدين بن رشيد الدين, فلم يوافِقْه علي بادشاه حاكِمُ بغداد في الباطن، واستمال أولادَ سونتاي فلم يوافِقوه، فجمع علي بادشاه المغولَ عليه، وكتب إلى السلطانِ الناصر يَعِدُه بأنه يسَلِّمُ له بغداد ويكونُ نائبًا عنه بها، وسأله في إعانتِه بنجدة على أولاد سونتا تكون مقيمةً على الفرات، ففَرِحَ السلطان بذلك وأجابه بالشُّكرِ، وبعث إليه خمسةَ قواقل وخمسة سيوف، فقَوِيَ عزم علي بادشاه، وركِبَ إلى أولاد سونتاي، فاجتمعوا على الشيخ حسن بن أقبغا أيلخان سِبطِ أرغون بن أبغا بن هولاكو المعروف بالشيخ حَسَن بك الكبير النوين- بالأردو، وعرَّفوه انتماء علي بادشاه لصاحِبِ مِصرَ ونُصرتِه له، فكتب الشيخ حسن الكبير إلى السلطان يرَغِّبُه في نصرته على علي بادشاه، ويمُتُّ إليه بقرابتِه مِن أمِّه، فمطل بالجوابِ رجاءَ حُضورِ خَبَرِ علي بادشاه، فقَدِمَ الخبر بأن علي بادشاه لَمَّا ركب لحرب أولاد سونتاي بلغه اجتماعُهم والشيخ حسن مع عِدَّة من الأمراء، وأنَّ أربا كاؤن هرب لتفَلُّلِ أصحابه عنه، وأشِيعَ عنه أنه قُتِلَ، وقَوِيَ علي بادشاه بمن انضَمَّ إليه من المغول، فسار أولادُ سونتاي والشيخ حسن إلى جهة الروم، وانفرد علي بادشاه بالحُكمِ في الأردو، وأقام موسى بن علي بن بيدو بن طرغاي بن هولاكو على تخت الملك.
========
150.
اعتقال السلطان الناصر للخليفة العباسي المستكفي بالله .
العام الهجري : 736 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1336
تفاصيل الحدث:
أمر السُّلطانُ النَّاصِرُ محمَّد بن قلاوون في ثالث عشر ذي القعدة بنَقلِ الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان مِن سَكَنِه بمناظر الكبش إلى قلعةِ الجبل، وأُنزِلَ حيث كان أبوه الحاكِمُ نازلًا، فسكن برج السباع دائمًا بعيالِه، ورُسِمَ على الباب جاندار بالنوبة، وسَكَن ابنُ عَمِّه إبراهيم في برج بجوارِه ومعه عياله، ورُسِمَ عليه جاندار الباب، ومُنِعا من الاجتماعِ بالنَّاسِ.
استيلاء بني مرين على تلمسان وانتهاء دولة بني زيان .
العام الهجري : 737 العام الميلادي : 1336
تفاصيل الحدث:
توجَّه أبو الحَسَنِ علي بن عثمان المريني من فاس على رأسِ جَيشٍ واستولى على تلمسان التي كانت تحتَ حكم آل زيان، والقضاء على أبي تاشفين عبد الرحمن بن موسى خامس ملوك آل زيان من بني عبد الواد، وبذلك انتهى حكمُ بني زيان وامتَدَّ سلطان المرينيين إلى المغرِبِ الأوسَطِ.
نهاية الدولة الإيلخانية وقيام الدولة الجلائرية الشيعية .
العام الهجري : 737 العام الميلادي : 1336
تفاصيل الحدث:
بعد مَوتِ أبي سعيد تولى أربا كاؤن معز الدين لكنَّه لم يدُمْ سوى ثلاثة أشهر، حيث كان حَسَنُ بن حسين بن أقبغا بن هولاكو معتقَلًا في بلاد آسيا الصغرى، فأُطلِقَ سَراحُه بعد موت أبي سعيد فانطلق إلى بغداد فخلع أربا كاؤن هذا وجرت بينهم حروبٌ كثيرة كان نهايتها خلع أربا كاؤن وتنصيب محمد بن عنبرجي الإيلخاني، وتمكَّن حسن بن حسين من بغداد وتبريز وأسَّسَ الدولة الجلائرية، ثمَّ إنَّ حسن بن دمرداش سار من آسيا الصغرى فغلب على تبريز وقَتَل محمد بن عنبرجي، فسار حَسَنُ بن حسين الجلائري إلى بغداد واستقَرَّ بها، واستقر ابن دمرداش في تبريز ونَصب صاتبيك أختَ أبي سعيد سلطانةً على تبريز وزَوَّجَها أحد أسباط هولاكو واسمُه سليمان، ثم إنَّ أولاد جوبان الذي كان نائبًا لأبي سعيد استولَوا على أذربيجان وتبريز.
إنشاء أول جامعة عثمانية (مدرسة) في أزمير التي فتحها أورخان .
العام الهجري : 737 العام الميلادي : 1336
تفاصيل الحدث:
كان سلاطينُ العُثمانيِّينَ حَريصينَ على أن يَبنُوا في كُلِّ بَلَدٍ يَفتَحونَه مَسجِدًا، ويُخَصِّصونَ له الأئمَّة والفقهاء، وينشرون الإسلامَ بين أهل هذا البلد، وكان أوَّلُ مسجد أمر ببنائه سنة 687 في عهد أرطغرل والد عثمان، وكان ذلك قبل إعلانِ الدولة رسميًّا. وفى عهد أورخان بن عثمان تم تشييدُ مسجد بورصة، وألحق به بناءًا كبيرًا ليكونَ مَدرسةً للعُلومِ الشَّرعية. وفي سنة 737 سَقَطت مدينةُ أزميت في يد العثمانيين, فبنوا فيها مسجدًا كبيرًا، وبجواره مدرسةٌ ضخمة لتدريس العلوم وعُهد بإدارتها للشيخِ داوود القصيري الذي تعلَّم في مصر، واعتَبَرَ بعض المؤرخين الغربيين هذه المدرسةَ أوَّلَ جامعةٍ عُثمانية.
الإفراج عن الخليفة العباسي ثم نفيه إلى بلاد قوص .
العام الهجري : 737 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1336
تفاصيل الحدث:
أُفرِجَ عن الخليفة من سِجنه بالقلعة يوم الأربعاء من ربيع الأول، فكانت مُدَّةُ اعتقاله خمسة أشهر وسبعة أيام، ثم أُمِرَ به فأخرج إلى قوص، ومعه أولادُه وابنُ عَمِّه، وكُتِبَ لوالي قوص أن يحتَفِظَ بهم، وكان سَبَبُ ذلك أن السلطان لما نزل عن المُلكِ في سنة 708، وحصل الاجتماعُ على المظَفَّر بيبرس وقَلَّدَه المستكفي بالسلطنة، نَقَمَها عليه السلطانُ النَّاصِرُ وأسَرَّها له، ثم لما قام السلطانُ لاسترجاع مُلكِه، جَدَّد المستكفي للمظَفَّر الولاية، ونُسِبَت في السلطان أقوالٌ إليه حَمَلت السلطان على التحامُل عليه، فلما عاد السلطانُ إلى الملك في سنة 709 أعرض عن المستكفي كلَّ الإعراض، ولم يزَلْ يكَدِّرُ عليه المشارب حتى تَرَكه في برج بالقلعة في بَيتِه وحَرَمِه وخاصَّتِه، فقام الأميرُ قوصون في أمره، وتلَطَّف بالسلطان إلى أن أنزله إلى داره، ثم نُسِبَ إلى ابنه صَدَقة أنه تعَلَّق ببعض خاصة السلطان، وأن ذلك الغلام يتردَّدُ إليه، فنُفِيَ الغلام وبلغ السلطان أنَّه هو يكثر من اللهو في داره التي عَمَرها على النيل بخَطِّ جزيرة الفيل، وأن أحد الجمدارية- حامل ملابس السلطان- يقال له أبو شامة جميل الوجهِ ينقطع عنده ويتأخَّرُ عن الخدمة، فقُبِضَ على الجمدار وضُرب، ونفي إلى صفد، وضُرِبَ رجل من مؤذني القلعة- اتُّهِمَ أنه كان السفير بين الجمدار وبين الخليفة- حتى مات، واعتُقِلَ الخليفة، ثمَّ لَمَّا أُفرِجَ عنه اتُّهِمَ أنه كتب على قصة رُفِعَت إليه "يحمل مع غريمه إلى الشرع"، فأحضره السلطان إلى القلعة ليجتَمِعَ به بحضرة القضاء، فخيله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من حضوره أن يَفرُطَ منه كلامٌ في غَضَبِه يَصعُبُ تَدارُكُه، فأعجَبَ السلطان ذلك، وأمر به أن يخرُجَ إلى قوص، فسار بصحبة الأمير سيف الدين قطلوا تمرقلي في يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة، بجميع عيالِه وهم مائة شخص، وكان مُرَتَّبُه في كل شهر خمسة آلاف درهم، فعُمِلَ له بقوص ثلاثة آلاف درهم، ثم استقَرَّ ألف درهم، فاحتاج حتى باع نساؤُه ثيابَهنَّ.
وفاة الشيخ العالم الزاهد ابن الحاج المالكي .
العام الهجري : 737 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1337
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ الزَّاهِدُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الحاج الفاسي المغربي نزيلُ مِصرَ العَبدري الفقيه المالكي عُرِفَ بابنِ الحاجِّ، وأخذ عن جماعةٍ منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أبي جمرة، قَدِمَ القاهرة وسَمِعَ بها الحديث وحَدَّث بها وهو أحدُ المشايخ المشهورين بالزُّهدِ والخير والصلاح، صَحِبَ جماعة من الصلحاء أربابِ القلوب وتخَلَّق بأخلاقهم وأخذ عنهم الطريقةَ, وصَنَّف كتابه المشهور "المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها وقبحها" قال عنه ابن حجر: " جمع ابن الحاجِّ كتابًا سَمَّاه المدخَل كثير الفوائد كشف فيه من معايبَ وبِدَع يفعلها الناسُ ويتساهلون فيها، وأكثَرُها مما ينكَرُ وبَعضُها مما يُحتَمَل". #قال الألباني عن هذا الكتاب ما نصه: "قولُ بَعضِهم: إنه ينبغي ألَّا يذكُرَ حوائِجَه ومغفرةَ ذُنوبِه بلِسانِه عند زيارةِ قَبرِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم لأنَّه أعلَمُ منه بحوائِجِه ومصالحه! ومما يؤسَفُ له أن هذه البدعة واللتين بعدها قد نقلتها من «كتاب المدخل» لابن الحاج (1/ 259، 264) حيث أوردها مسلِّمًا بها كأنَّها من الأمور المنصوصِ عليها في الشِّريعةِ، وله من هذا النحو أمثلة كثيرة سبق بعضُها دون التنبيه على أنها منه، وسنذكر قسمًا كبيرًا منها في الكتابِ الخاصِّ بالبدع إن شاء الله تعالى، وقد تعجَّبَ من ذلك لِما عُرِف أن كتابه هذا مَصدرٌ عظيم في التنصيص على مفردات البدع، وهذا الفصل الذي خَتَمتُ به الكتاب (أحكام الجنائز) شاهِدٌ عدل على ذلك، ولكِنَّك إذا علمت أنَّه كان في عِلمِه مُقَلِّدًا لِغَيره، ومتأثرًا إلى حد كبير بمذاهِبِ الصوفية وخُزَعبلاتها، يزول عنك العَجَبُ وتزداد يقينًا على صِحَّةِ قول مالك: "ما مِنَّا من أحد إلا رَدَّ ورُدَّ عليه الا صاحِبُ هذا القبر" صلَّى الله عليه وآله وسلم, و قوله- ابن الحاج-: لا فَرقَ بين موتِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم وحياتِه في مشاهدتِه لأُمَّتِه ومعرفتِه بأحوالِهم ونيَّاتِهم وتحَسُّراتهم وخواطِرِهم! قال شيخ الإسلام في "الرد على البكري" (ص 31): "ومنهم من يظنُّ أن الرَّسولَ أو الشيخَ يَعلَمُ ذنوبه وحوائِجَه وإن لم يذكُرْها، وأنه يَقدِرُ على غفرانِها وقضاء حوائجه ويَقدِرُ على ما يقدِرُ الله، ويَعلَمُ ما يعلم الله، وهؤلاء قد رأيتُهم وسَمِعتُ هذا منهم وعنهم شيوخٌ يقتدى بهم، ومُفتون وقضاة ومدرسون! والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله" توفي ابن الحاج عن بضع وثمانين، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى، ودُفِنَ بالقرافة وقد عَلَت سِنُّه وكُفَّ بَصَرُه، وكانت جنازتُه عظيمةً.
مطر عظيم بمكة يغمر الكعبة .
العام الهجري : 738 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1337
تفاصيل الحدث:
في عاشر جمادى الأولى استهَلَّ الغيث بمكَّةَ مِن أول الليل، فلما انتصف الليلُ جاء سيلٌ عظيمٌ هائِلٌ لم يُرَ مِثلُه من دهر طويل، فخَرَّب دورا كثيرةً نَحوًا من ثلاثين أو أكثر، وغَرِقَ جماعة وكَسَرَ أبواب المسجد، ودخل الكعبةَ وارتفع فيها نحوًا من ذراعٍ أو أكثر.
تسيير جيش إلى سيس .
العام الهجري : 738 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1338
تفاصيل الحدث:
توجَّهت تجريدةٌ- جيش لا رجَّالةَ فيه- في خامس عشر شعبان إلى بلاد سيس، وسبَبُ ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النَّجدة على الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي وأولاد دمرداش ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد، فاستشار السلطانُ نائب الشام والأمراء، واستقَرَّ الرأي على تجريد العسكر نحو سيس؛ فإن تكفور نقض الهُدنةَ بقَبضِه على عِدَّة مماليك وإرسالِهم إلى مدينة إياس، فلم يُعلَمْ خَبَرُهم وقَطَع الحَملَ المقَرَّر عليه، ويكون في ذلك إجابةُ علي بادشاه إلى ما قَصَده من نزول العسكر قريبًا من الفرات، مع معرفة الشيخ حسن بأنا لم نساعِدْ علي بادشاه عليه، وإنما بعثنا العسكرَ لغزو سيس، وعَمِلَ مُقَدَّم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة، ويتقَدَّم الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطبَّاخ ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساري وقطلوبغا الطويل، وجوكتمر بن بهادو وبيبغا تتر حارس الطير، ومن أمراء الشَّام قطلوبغا الفخري مُقَدَّم الجيش الشامي، وكتب بخروجِ عَسكَرِ دِمشقَ وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر، فإذا وصل عسكرُ مصر إلى حلب عادت عساكر الشامِ ثم مَضَوا جميعًا إلى سيس، فيكون في ذلك صِدقُ ما وعد به علي بادشاه، وبلوغ الغَرَض من غزو سيس فسار العسكرُ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وتوجه الأمير تنكز إلى محل ولايته.
فتح قلعة إياس من بلاد سيس .
العام الهجري : 738 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1338
تفاصيل الحدث:
لما سار الجيش الذي قَدِمَ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقَدِموا دمشق تلقَّاهم الأمير تنكز، ولم يعبأْ تنكز بالأمير أرقطاي مُقَدَّم العسكر لِما في نفسه منه، ومَضَوا إلى حلب، فقدموها في رابع عشر رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكرِ الشام، وقد وصل إلى جعبر ثمَّ ساروا جميعًا يومَ عيد الفطر، ومعهم الأميرُ علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مُقَدَّم على العسكر جميعًا، حتى نزلوا على الإسكندرونة أوَّلَ بلاد سيس، وقد تقَدَّمَهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرينِ حتى جهَّزَ المجانيق والزحَّافات والجسور الحديد والمراكِبَ وغير ذلك لعبور نهر جهان، فقَدِمَ عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعَدَ بتسليم القلاع للسلطان، فلْتُرَدَّ المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس، ولْيَقُمِ العسكر على مدينة إياس حتى يَرِدَ مرسوم السلطان بما يُعتَمَدُ في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكَرُ ابن فرمان فتركوها أوحشَ مِن بطن حمار، فبعث تكفور رسُلَه في البحر إلى دمياط، فلم يأذَن السلطان لهم في القدومِ عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائِبَ الشام بحضورِهم، فعادوا إلى تكفور، فبعث تكفور بهديَّة إلى تنكز نائب الشام، وسأله مَنْعَ العسكر من بلاده، وأنه يسَلِّمُ القلاع التي من وراء نهر جهان جميعًا للسلطان، فكاتب تنكز السلطانَ بذلك، وبعث أوحَدَ المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائِبِ حلب وهو المقَدَّم على العسكر جميعًا بمَنعِ الغارة ورَدِّ الآلات إلى بغراس، فردَّها ألطبغا وركب بالعسكَرِ إلى إياس، فقَدِمَها يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وكانت إياس قد تحصَّنت، فبادر العسكَرُ وزحف عليها بغير أمرِه، فكان يومًا مهولًا، جُرح فيه جماعة كثيرة، واستمَرَّ الحِصارُ إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسين نجارًا وعَمِلَ زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوبِ للزحف، فاشتد القتالُ حتى وصلت الزحَّافات والرجال إلى قريب السورِ، بعدما استُشهِدَ جماعة كثيرة، فترجَّلَ الأمراء عن الخيول لأخذِ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافَوا برسالة نائِبِ الشام، فعادُوا إلى مخَيَّمِهم فبلَّغَهم أوحَدُ المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحالُ على أن يسلموا البلادَ والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسَلَّموا منهم ذلك، وهو مُلكٌ كبير، وبلادٌ كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وإياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر، وغير ذلك. وعلى أن تُسَلَّم إياس بعد ثمانية أيام، فلما كان اليومُ الثامن أرسل تكفور مفاتيحَ القلاع، على أن يُرَدَّ ما سُبِيَ ونُهِبَ من بلاده، فنُودِيَ بِرَدِّ السَّبيِ، فأُحضِرَ كثير منه، وأخرب الجسر الذي نُصِبَ على نهر جهان، وتوجَّه الأمير مغلطاي الغزي فتسَلَّمَ قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سورٌ مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعًا بالعَمَل، وأنفق تكفور على عمارته أربعَمائة ألف وستين ألف دينار، وتسَلَّم العسكر إياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عَمِلَ فيه أربعون حَجَّارًا يومين وليلتين حتى خرج منه حجَرٌ واحد، ثمَّ نُقِبَ البرج وعُلِّقَ على الأخشاب، وأُضرِمَت فيه النار، فسَقَط جميعه، وكان برجًا عظيمًا، بلغ ضمانُه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابًا عن كلِّ يومٍ ألف دينار سوى خَراجِ الأراضي، وكان ببلدة إياس أربعمائة خمَّارة وستمائة بَغِيٍّ، وكان بها في ظاهرها ملَّاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانًا تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان، ثم رحل العسكَرُ عن إياس بعدما قاموا عليها اثنين وسبعين يومًا، فمر نائِبُ حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبَرَ بالعسكر إلى حلب في الرابع عشر من ذي الحجة.
وفاة الحافظ المؤرخ علم الدين البرزالي .
العام الهجري : 739 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1339
تفاصيل الحدث:
هو الحافِظُ المؤَرِّخ عَلَم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الأشبيلي الشافعي، وُلِدَ بدمشق سنة 665, من أُسرةٍ عِلميَّة جاءت من المغرب، وكانت أسرتُه قد نزلت إشبيليَّةَ، ثم رَحَلت إلى الشام وبرزالة: قبيلة قليلة جدًّا، كان البرزالي محدِّثًا حافظًا فاضلًا، سَمِعَ الكثير ورحل إلى البلاد وحصَّل ودأب وسَمِعَ خلائِقَ كثيرةً تزيد عِدَّتُهم على ألفي شيخ، وحَدَّث وخرَّج وأفاد وأفتى وصَنَّف تاريخًا على السنين، رحل إلى بعلبك وحلب ومصر، تولى مشيخة دار الحديث بدمشق ومعها المدرسة النورية، قال ابن كثير: "قرأ شيئًا كثيرًا، وأسمع شيئًا كثيرًا، وكان له خَطٌّ حَسَن، وخُلُق حسن، وهو مشكورٌ عند القضاة ومشايخه أهل العلم. سمعت العلامة ابن تيمية يقول: نَقْلُ البرزالي نَقْرٌ في حَجَر, وكان أصحابُه من كل الطوائف يحبُّونه ويكرمونه، وكان له أولادٌ ماتوا قبله، وكَتَبَت ابنته فاطمة البخاريَّ في ثلاثة عشر مجلَّدًا فقابله لها، وكان يقرأُ فيه على الحافظ المِزِّي تحت القبة، حتى صارت نسختُها أصلًا مُعتَمَدًا يكتب منها الناس، وكان شيخَ حديث بالنورية، وفيها وَقَف كُتُبَه بدار الحديث السنية، وبدار الحديث القوصية وفي الجامع وغيره، وعلى كراسي الحديث، وكان متواضِعًا مُحَبَّبًا إلى الناس، متودِّدًا إليهم، له مُصَنَّف المعجم الكبير في الحديث. وكتاب "المقتفى على كتاب الروضتين"، توفي بخليص وهو مُحرِم في رابع ذي الحجة عن أربع وسبعين سنة, فغُسِّلَ وكُفِّنَ ولم يُستَرْ رأسُه، وحمله الناسُ على نعشِه وهم يبكون حولَه، وكان يومًا مشهودًا.
حسن الجلائري يطلب من السلطان الناصر عسكرا لاستلام بغداد .
العام الهجري : 740 العام الميلادي : 1339
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ رَسولُ الشيخ حسن بن الأمير حسين بن آقبغا بن أيدكين سبط القان أرغون أبغا بن هولاكو بن طولي بن جنكيزخان متولي العراق، بكتابه يتَضَمَّنُ طَلَبَ عسكر يتسَلَّمُ بغداد والمَوصِل وعراق العجم ليقامَ بها الدعوةُ للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وسأل أن يَبعَثَ السلطان إلى طغاي بن سونتاي في الصلحِ بينه وبين الشيخ حسن، فأجيب إلى ذلك، ووُعِدَ بتجهيز العسكر، ورَكِبَ أمير أحمد قريب السلطان إلى طغاي ومعه هدية لينظم الصلحَ بينه وبين الشيخِ حسن.
إنشاء المدرسة الأقبغاوية في الجامع الأزهر .
العام الهجري : 740 العام الميلادي : 1339
تفاصيل الحدث:
أنشأها الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد، مقدَّم المماليك في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وكان موضِعُ هذه المدرسة دارًا للأمير الكبير عز الدين أيدمر الحلي. وعندما تمَّ بناءُ المدرسة قرَّر فيها الأميرُ أقبغا درسًا للشافعية، ودرسًا للحنفية، ورتَّب لها ما يلزمُها من المستخدَمين. وظلَّت هذه المدرسة عامرةً إلى سنة 845 هـ / 1442م, ويشغلُها الآن جزءٌ من مكتبةِ الجامع الأزهر.
توالي غزوات الأسبان على غرناطة .
العام الهجري : 740 العام الميلادي : 1339
تفاصيل الحدث:
والى ألفونسو الحادي عشر مَلِكُ قشتالة غزواتِه على مملكةِ غرناطة؛ مما اضطر أبا الحَجَّاج يوسف ملك غرناطة أن يستنجِدَ بملك بني مرين أبي الحَسَنِ علي بن عثمان، فأرسل إليه الأخيرُ جَيشًا بقيادة ابنه أبي مالك، فواجه هذا الجيشُ جيش ثلاث دول هي قشتالة وأراغون والبرتغال، فكانت نهايةُ المعركة موتَ أبي مالك وانهزام الجيش المُسلِم.
وفاة النشو القبطي ناظر الخاص للسلطان بعد أن كثر ظلمه للرعية .
العام الهجري : 740 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1339
تفاصيل الحدث:
هو شَرَفُ الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو القبطي ناظِرُ الخاص للسلطان، كان أبوه يكتُبُ عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرةِ ديوان الأمير أركتمر الجمدار، وعندما جمَعَ السلطان الناصر كتَّاب الأمراء, فرآه وهو واقِفٌ وراء الجميعِ وهو شابٌّ طويل نصراني حلوُ الوجه فاستدعاه وقال: أيش اسمك؟ قال: النشو، فقال: أنا أجعلك نشوي، ثمَّ إنه رتَّبَه مستوفيًا في الجيزية، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما يندبه إليه وملأ عينيه, ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدة، ثم نقل إلى نظر الخاص مع كتابة ابن السلطان، وحَجَّ مع السلطان في تلك السنة وهي سنة 732 ولما كان في الاستيفاء وهو نصراني, وكانت أخلاقُه حسنة وفيه بِشرٌ وطلاقة وجه وتسَرُّع إلى قضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبونه، فلما تولى الخاص وكثُرَ الطلب عليه من السلطان, و أُكرِهَ حتى أظهَرَ الإسلام, فبلغ ما لم يبلُغْه أحَدٌ من الأقباط في دولة الترك- المماليك- وتقَدَّمَ عند السلطان على كل أحد، وخَدَمه جميع أرباب الأقلام، وزاد السلطانُ في الإنعامات والعمائر عليه, وزَوَّج بناته واحتاجَ إلى الكُلَف العظيمة المُفرِطة الخارجة عن الحَدِّ، فساءت أخلاقُه وأنكر مَن يَعرِفُه، وفُتِحَت أبواب المصادرات للكتَّاب ولِمَن معه مال, وكان محضرَ سوءٍ لم يشتَهِرْ عنه بعدها شيءٌ من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمَعْه وزير للدولة التركية، وكان مُظَفَّرًا، ما ضرب على أحدٍ إلا ونال غَرَضَه منه بالإيقاع به وتخريبِ دياره، وقُتِلَ على يديه عِدَّةٌ من الولاة والكتَّاب، واجتهد غايةَ جُهدِه في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبه ستَّة أشهر بأنواع العقوبات، من الضَّربِ بالمقارع والعَصرِ في كعابه وتسعيطِه - الاستنشاق بالأنف- بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك، مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يَمُت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو، وكان النشوُ هذا بلغ منه في أذيَّة الناس بالمُصادَرات والضرائب الشيء الكثير الكثير، مِمَّا كاد أن يخرب الديارَ كُلَّها، فشكا منه كُلُّ أحد: الفقير والغني، والأمير والحقير، فلم يسلَمْ مِن ظُلمِه وأخْذِ المال منه أحدٌ، وكل ذلك يدَّعي الفَقرَ وقِلَّة المال وأنه لا يأخُذُ لِنَفسِه شيئًا، ولما مات بعد أن اعتُقِلَ لكثرة الشكاوى والتحريضات حُصِّلَت أمواله فكانت خارجةً عن الحصر، ولو كتبت لخرجت عن الحد المعهودِ، فهي تحتاج إلى عِدَّة صفحات مِمَّا كان له من مالٍ عَينٍ وبضائِعَ وإقطاعاتٍ وحواصِلَ وحيواناتٍ وغَيرِها من الجوهر واللؤلؤ ما يفوق الحَصرَ، توفي في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، ثم إنَّه بعد موته وُجِدَ أنه ما يزال غير مختونٍ، فدُفِنَ بمقابر اليهودِ.
وفاة الخليفة العباسي المستكفي بالله بمصر وخلفه الواثق بالله إبراهيم .
العام الهجري : 740 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1340
تفاصيل الحدث:
هو الخليفةُ المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن العباسي، توفِّيَ بمدينة قوص في منفاه، عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يومًا، في خامِس شعبان، وكانت خلافتُه تسعًا وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يومًا، ثم خُطِبَ للخليفة الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله، وذلك أنَّ الخبَرَ قَدِمَ في يوم الجمعة ثاني عشر شعبان بموت الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمانَ بقَوصٍ بعد موتِ ابنه صدقة بقليلٍ، وأنه اشتَدَّ جزعه عليه، وأنه قد عَهِدَ لولده أحمد بشهادةِ أربعين عَدلًا وأثبَتَ قاضي قوص ذلك، فلم يُمضِ السُّلطانُ عَهدَه.
أخذ السلطان الناصر البيعة بالخلافة لإبراهيم الواثق بالله .
العام الهجري : 740 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1340
تفاصيل الحدث:
كان الخليفةُ المستكفي بالله قد أوصى بالخلافةِ مِن بعده لابنه أحمد، لكِنَّ السلطانَ النَّاصِرَ لم يُمضِ للسلطان عهده, وكان قد بايع لإبراهيمَ بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله ولَقَّبَه بالواثق بالله, وفي يوم الاثنين خامس عشر شعبان طلب الناصِرُ إبراهيمَ الواثق بالله، وأجلسه بجانِبِه وحادَثَه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحُجَّاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطانِ في يوم الاثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاةُ بدار العدل على العادة، فعَرَّفَهم السلطان بما أراد من إقامةِ إبراهيم في الخلافةِ وأمَرَهم بمبايعته، فأجابوا بعَدَمِ أهليَّتِه، وأنَّ المستكفيَ عَهِدَ إلى ولده أحمَدَ بشَهادةِ أربعين عدلًا وحاكِمِ قوص، ويحتاج إلى النَّظَرِ في عهده، فكتب السلطانُ بطلب أحمد وعائلةِ أبيه، وأقام الخُطَباء بديار مِصرَ والشام نحو أربعة أشهر لا يذكُرونَ في خُطَبِهم الخليفة، فلما قَدِمَ أحمد من قوص لم يُمضِ السُّلطانُ عَهْدَه، وطلب إبراهيمَ وعَرَّفَه قُبحَ سِيرتِه، فأظهَرَ التوبةَ منها والتزم بسلوكِ طَريقِ الخير، فاستدعى السلطانُ القضاةَ في يوم الاثنين وعَرَّفَهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يُعَرِّفُه سوءَ أهليَّتِه للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائِبُ من الذنبِ كَمَن لا ذَنبَ له، وقد ولَّيتُه فاشهَدوا عليَّ بولايتِه، ورتَّبَ له السلطانُ ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهمًا وتسعة عشر أردب شعير في كل شهر، فلم يعارِضْه أحَدٌ، وخُطِبَ له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة، ولُقِّبَ بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامَّةُ تسميه المستعطي؛ فإنَّه كان يستعطي من النَّاسِ ما يُنفِقُه، وشُهِرَ بارتكابٍ أمورٍ غَيرِ مَرضِيَّة.
جماعة من النصارى يحرقون المسجد الأموي وسوقًا كبيرًا بدمشق .
العام الهجري : 740 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1340
تفاصيل الحدث:
اجتمَعَ جماعةٌ من رؤوس النصارى في كنيستِهم وجَمَعوا من بينهم مالًا جزيلًا فدَفَعوه إلى راهبينِ قَدِما عليهما من بلاد الروم، يُحسِنانِ صَنعةَ النِّفطِ، اسم أحدِهما ملاني، والآخر عازر، فعملا كحطًا من نفط، وتلطَّفا حتى عملاه لا يظهَرُ تأثيرُه إلا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوُضِعا في شقوق دكاكين التجَّار بسوق الرجال في عدَّة دكاكين من آخِرِ النهار، بحيث لا يشعُرُ أحَدٌ بهما، وهما في زي المُسلِمينَ، فلما كان في أثناء الليل لم يشعُرِ النَّاسُ إلا والنَّارُ قد عَمِلَت في تلك الدكاكين حتى تعلَّقَت في درابزينات المأذنة الشرقيَّة المتَّجِهة للسوق المذكور، وأحرَقَت الدرابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء أمراء الألوف، وصَعِدوا المنارة وهي تشتَعِلُ نارا، واحترسوا عن الجامِعِ فلم ينَلْه شيءٌ من الحريق ولله الحمد والمنة، وأمَّا المئذنة فإنها تفَجَّرت أحجارُها واحترقت السقَّالات التي تدُلُّ السلالم وأعيدَ بناؤها بحجارةٍ جُدُدٍ، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديثِ أنَّه يَنزِلُ عليها عيسى بن مريم، والمقصودُ أنَّ النصارى بعد ليالٍ عَمَدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالِها، وبما فيها من الأقواس والعُدَد، وتطاير شَرَرُ النار إلى ما حول القيسارية- السوق الكبير- من الدُّورِ والمساكن والمدارِس، واحترق جانِبٌ من المدرسة الأمينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودُهم إلَّا وصول النار إلى مَعبَد المسلمين، فحال اللهُ بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائبُ السلطنة والأمراء وحالوا بين الحريقِ والمسجِدِ، جزاهم اللهُ خَيرًا، ولَمَّا تحقق نائِبُ السَّلطنةِ أنَّ هذا مِن فِعلِهم أمَرَ بمَسكِ رؤوس النصارى فأَمسَكَ منهم نحوًا من ستين رجلًا، فأُخِذوا بالمُصادَرات والضَّربِ والعقوبات وأنواع المَثُلاتِ، ثمَّ بعد ذلك صُلِبَ منهم أزيدُ مِن عَشرةٍ على الجمال، وطاف بهم في أرجاءِ البلاد وجَعلوا يتماوتون واحِدًا بعد واحد، ثمَّ أُحرِقوا بالنارِ حتى صاروا رمادًا لَعَنَهم اللهُ.
مقتل الأمير سيف الدين تنكز نائب السلطان الناصر على دمشق .
العام الهجري : 741 العام الميلادي : 1340
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ الكبيرُ المَهيبُ سَيفُ الدين أبو سعيد تنكز نائِبُ السلطنة بالشام، جُلِبَ إلى مصر وهو حَدَثٌ، فنشأ بها، وكان أبيض يميل إلى السمرة، رشيق القَدِّ، مليح الشَّعر، خفيف اللحية قليل الشَّيب، حَسَن الشَّكلِ، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قُتِلَ لاجين في سلطنته صار من خاصكية السلطان الناصر، وشهد معه وقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم. تولى نيابةَ السلطان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة 712 وتمكَّن في النيابة, وسار بالعساكِرِ إلى ملطية فافتتحها وعظُمَ شأنُه وهابه الأمراءُ بدمشق ونوَّاب الشام، وأمِنَ الرعايا به ولم يكُنْ أحدٌ من الأمراء ولا من أربابِ الجاه يَقدِرُ يظلِمُ أحدًا ذِمِّيًّا أو غيره خوفًا منه؛ لبطشه وشِدَّة إيقاعه, ثمَّ تغير السلطان الناصر على تنكز, وكان سَبَبُ تغير الحال بينهما- مع أن السلطان متزوج من بنته وأراد كذلك تزويجَ ولديه من بناته- لَمَّا قَتَل تنكز جماعةً من النصارى بسَبَبِ افتعالهم الحريقَ بدمشق، عَنَّف عليه السلطان، وأن في ذلك سببًا لقتل المسلمين في القُسطنطينية، وزاد الأمرَ أنَّه أمَرَه بإحضار الأموال المتحَصَّلة من جرَّاء هذه الحادثة وأن يجهِّزَ بناتِه، فاعتذر تنكز بانشغالِه بعمارةِ ما أكَلَه الحريقُ وأنَّه أنفق تلك الأموالَ في ذلك، وزاد الأمرَ كذلك سعايةُ بعض الحاسدين عليه لدى السلطانِ حتى أمر السلطان بإحضارِه إلى مصر، فخرج جيشٌ من مصر لإحضاره من دمشقَ، وكان تنكز قد عرف بالأمرِ، فخرج وأخرج أموالَه وأهله، فوصلَ إليه الأمراء من القاهرةِ وعَرَّفوه مرسومَ السلطان وأخَذوه وأركبوه إكديشًا- حصانًا غير أصيل يُستخدَم في حمل الآلات والعدَّة- وساروا به إلى نائب صفد، وأمر طشتمر بتنكز فأُنزِلَ عن فرسه على ثوب سرج، وقيده قرمجي مملوكُه، وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجَّه به إلى الكسوة، فحدث له إسهالٌ ورِعدةٌ خيفَ عليه منه الموتُ، وأقام بها يومًا وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة, وفي يومِ الثلاثاء سابِعَ المحرم وصل الأمير سيف الدين تنكز نائِبُ الشام وهو متضَعِّفٌ، بصحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأُنزِلَ من القلعة بمكانٍ ضَيقٍ حَرَجٍ، وقَصَد السلطان ضَرْبَه بالمقارعِ، فقام الأميرُ قوصون في الشفاعة له حتى أجيبَ إلى ذلك، وبعث إليه السلطان يُهَدِّدُه حتى يعترف بما له من المالِ، ويَذكُر من كان موافِقًا على العصيان من الأمراء، فأجاب تنكز بأنَّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعةً عنده لأيتامِ بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرجَ عن الطاعة، فأمر السلطانُ في الليلِ فأُخرِجَ مع ابن صابر المقَدَّم وأمير جندار، وحُمِلَ في حراقة –سفينة- بالنيل إلى الإسكندرية، فقَتَلَه بها إبراهيم بن صابر المقَدَّم في يوم الثلاثاء خامس عشر ودفنوه بالإسكندرية، وقد جاوز الستينَ، ثم نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعةِ ابنتِه زوجة السُّلطانِ الناصر، فأَذِنَ في ذلك وأرادوا أن يُدفَنَ بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يُمكِنْ، فجيء به إلى تربته بدمشق وقيل: كانت وفاتُه بقلعة إسكندرية مسمومًا، وتأسَّفَ الناسُ عليه كثيرًا، وطال حُزنُهم عليه، وفي كل وقتٍ يتذكَّرون ما كان منه من الهَيبةِ والصيانةِ والغَيرةِ على حريمِ المسلمينَ ومحارم الإسلام، ومن إقامتِه على ذَوي الحاجاتِ وغَيرِهم؛ يشتَدُّ تأسفهم عليه. ويُذكَرُ أنَّ لتنكز هذا أوقافًا كثيرة، من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وتُتبِّعَت أموال تنكز، فوجِدَ له ما يجِلُّ وَصفُه واشتملت جملةُ ما بيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملةُ العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار، ومع ذلك كان له أعمالٌ جدية في دمشق فأزال المظالمَ، وأقام منارَ الشَّرعِ، وأمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحِشِ والخانات والخَمَّارات، وبالغ في العقوبةِ على ذلك حتى قَتَل فيه، وغيرها من عمارة المدارس والأوقاف والمساجد.
هزيمة المسلمين في وقعة طريف بالأندلس .
العام الهجري : 741 العام الميلادي : 1340
تفاصيل الحدث:
قام المَلِكُ أبو الحَسَن علي بن عثمان مَلِكُ بني مرين باجتيازِ البحرِ على رأسٍ جيشٍ كثيفٍ لمحاربةِ المتحالفين من قشتالة والبرتغال وأراغون، فجَرَت بينهم معركةٌ قُربَ مدينة طريف انكسَرَ فيها جيشُ المسلمين المكَوَّن من جيش بني مرين وجيش غرناطة، وسَقَط معسكرُ الملك المريني بيد الأسبان فذبحوهم بأجمَعِهم واستطاع المَلِكُ المريني عبورَ البحر إلى المغرب مع بعضِ فلول جيشِه، وانهزم مَلِكُ غرناطة إلى غرناطة بأسوأ حالٍ شَهِدَه المسلمون منذ وقعة العقاب، واستولى الأسبانُ على طريف والجزيرة الخضراء وجبل طارق، ويُذكَرُ أن المسلمين استعملوا في هذه الحربِ آلاتٍ تُشبِهُ المدافع كانت تسمَّى الأنفاط، وكانت هي أساسًا لاختراع المدافِعِ فيما بعد.
مقتل عثمان الدكاكي على الزندقة بدمشق .
العام الهجري : 741 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
هو الصوفيُّ الاتحادي عثمان الدكاكي الدمشقي, خالطَ الصوفية ودعاةَ وَحدةِ الوجودِ، فتأثَّرَ بهم حتى ادَّعى الألوهيَّةَ وانتَقَص من الأنبياء, فعُقِدَ له مجلسٌ في دار العدل بدار السعادة في يوم الثلاثاء آخر شَهرِ شوال واجتَمَع القضاة والأعيانُ على العادة وأُحضِرَ يومئذ عثمان الدكاكي، وادُّعِيَ عليه بعظائمَ من القول لم يؤثَرْ مِثلُها عن الحلَّاجِ ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البيِّنةُ بدعوى الإلهية- لعنه الله- وأشياءَ أُخَر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الرَّيبِ من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية- عليهم لعائن الله- ووقع منه في مجلسٍ من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي، وتضَمَّنَ ذلك تكفيرُه من المالكية أيضًا، فادعى أنَّ له دوافِعَ وقوادِحَ في بعض الشهود، فرُدَّ إلى السجنِ مُقَيَّدًا مغلولًا مقبوحًا، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أُحضِرَ عثمان الدكاكي إلى دار السعادة وأُقيمَ بين يدي الأمراء والقُضاة وسُئِلَ عن القوادح في الشهودِ فعَجَز فلم يقدِرْ، وعجز عن ذلك فتوَجَّهَ عليه الحُكم، فسئل القاضي المالكي الحُكمَ عليه، فحَمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على رسولِه، ثمَّ حكم بإراقة دَمِه وإن تاب، فأُخِذَ الدكاكيُّ فضُرِبَت رَقَبتُه بدمشق بسوقِ الخيل، ونودي عليه: هذا جزاءُ مَن يكون على مَذهَبِ الاتحاديَّة، وكان يومًا مشهودًا بدار السعادة، حضَرَ خلقٌ من الأعيان والمشايخِ.
======
151.
تجهيز عساكر إلى توريز لتسلُّمِها من حكامها التتار .
العام الهجري : 741 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
كتب السُّلطانُ النَّاصِرُ بتَجهيزِ عساكِرِ دمشق وحَلَب وغيرهما للتجريدةِ إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكونُ معه عامَّةُ أمراء التركمان والعربان، فتجَهَّزَ الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبَرَز نائب حلب بمخيَّمِه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتَظِرُ قدومَ عساكِرِ مصر، فأصبح السلطان في مستهَلِّ ذي الحجة وبه وَعكٌ من قرف حدث عنه إسهالٌ لزم منه الفِراشَ خمسةَ أيام، فتصَدَّقَ بمال جزيل، وأفرَجَ عن المسجونينَ بسِجنِ القُضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال، ثم قَدِمَ إدريس القاصد بصُحبة مملوك صاحب ماردين بكتابِه يتضَمَّنُ أن أولاد دمرداش بن جوبان بن تلك المغولي لَمَّا بلغهم طلَبُ الشيخ حسن الكبير بن أقبغا أيلخان سبط أرغون المغولي وطغاي بن سونتاي المغولي من السلطان أن يجَهِّزَ لهم عسكرًا ليأخُذَ البلاد، وأنَّهما حلفا له وحلفا أهلُ البلاد وخَطَبا باسمه على منابر بغداد والموصل، وركبوا إلى محاربتِهما، فطَلَب منهم الشيخ حسن الكبير الصُّلحَ، وحلف لهم وسار إليها طائعًا، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أمانًا، واتَّفَقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام، وأشار صاحب ماردين ألا تخرُجَ التجريدة إلى توريز؛ فإنَّه ليس لِسَيرِها فائدة، فتفَرَّقت الأجنادُ من القلعة بغيرِ عرض، وبَعَث السلطان من ليلته بجوابِ صاحب ماردين، واقتضى رأيُه أن يكشِفَ عما ذكره، فإنَّ برهشين بن طغاي اتَّهَمه في ذلك، ثم قَدِمَ البريد من حلب بصحَّة الخبر بصُلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعَجَ السلطان لذلك انزعاجًا شديدًا، واضطرب مزاجُه.
وفاة السلطان الناصر محمد بن قلاوون وتولي ابنه المنصور بعده .
العام الهجري : 741 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
هو السلطانُ الملك الناصر، ناصر الدين أبو الفتح محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وُلِدَ الملك الناصر سنة 684، وكان قد أقيمَ النَّاصِرُ في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة 693، وعُمُرُه تسع سنين ثمَّ خُلِعَ في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وأُرسِلَ إلى الكرك, ثمَّ أعيد إلى المُلكِ ثانيًا وعمره خمس عشرة سنة، فأقام في المُلك إلى سنة 708، وخرج يريدُ الحَجَّ، فتوجه إلى الكرك متبرمًا من سلار وبيبرس الجاشنكير أستاذ الدار وحَجْرِهما عليه ومَنْعِهما له من التصَرُّف، فأعرض الناصِرُ عن مصر، فوثب الجاشنكير على السلطنة وتسلطَنَ، ثم اضطربت أموره، وقَدِمَ الناصر من الشام إلى مصر، فمَلَكَ مَرَّةً ثالثة في شوال سنة 709 واستبَدَّ الناصر من حينئذ بالأمرِ مِن غير معارضٍ مدة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يومًا، كانت له فيها سِيَرٌ وأنباء، وكان الناصِرُ أطولَ ملوك زمانه عُمُرًا وأعظَمَهم مهابةً, ودانت له البلادُ ومَلَك الأطرافَ بالطاعة، لما زاد مرض السلطان بالإسهال وخارت قواه، أشار عليه بعضُ الأمراء أن يَعهَدَ بالمُلكِ إلى أحد أولادِه، فأجاب إلى ذلك فجعل ابنَه أبا بكر سلطانًا بعده، وأوصاه بالأمراءِ، وأوصى الأمراءَ به، وعَهِدَ إليهم ألا يُخرِجوا ابنَه أحمد من الكَركِ وحَذَّرَهم من إقامته سُلطانًا، وجعل قوصون وبشتاك وصِيَّيه، وإليهما تدبيرُ ابنِه أبي بكر وحلَّفَهما، ثمَّ حَلَّفَ السلطانُ الأمراءَ والخاصكية، وأكَّدَ على ولده في الوصيَّة بالأمراء، وأفرج عن الأمراءِ المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء، فبات السلطانُ ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخَلَّت عنه قوته، وأخذ في النزعِ يوم الأربعاء، فاشتَدَّ عليه كَربُ الموتِ حتى مات أول ليلة الخميس الحادي عشر من ذي الحجة، وله من العُمُرِ سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرًا وخمسة أيام, ودُفِنَ بالمدرسة المنصورية بين القصرين، أما السلطان الجديد فلقَّبَه الأمراء الأكابِرُ بالملك المنصور، وجَلَسوا حوله، واتَّفَقوا على إقامة الأمير سَيفِ الدين طقزدمر الحموي- زوج أمه- نائِبَ السُّلطةِ بديار مصر، وأن يكون الأميرُ قوصون مدبِّرَ الدولة ورأس المشورة، ويشارِكه في الرأي الأميرُ بشتاك.
وفاة الملك أزبك خان ملك التتار المسلم في منطقة الروم وتولي ابنه بعده .
العام الهجري : 742 العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
هو المَلِكُ أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان ملك التتار، وكان أسلَمَ وحَسُنَ إسلامُه وحَرَّض رعيَّتَه على الإسلام، فأسلم بعضهم، ولم يلبَسْ أزبك خان بعد أن أسَلَم السراقوجات- لباس الرأس عند التتار- وكان يلبس حياصةً من فولاذ ويقول: لبسُ الذَّهَبِ حرامٌ على الرجال، وكان يميلُ إلى دينٍ وخَيرٍ، ويتردَّدُ إلى الفقراء، وكان عنده عَدلٌ في رعيته، وتزوَّجَ الملك الناصِرُ محمد بابنَتِه، وكان أزبك شُجاعًا كريمًا مليحَ الصورة ذا هيبةٍ وحُرمة، ومملكتُه مُتَّسِعة، وهي من بحر قسطنطيينة إلى نهر إرتش مَسيرةَ ثمانمائة فرسخ، لكِنَّ أكثر ذلك قرًى ومراعي، ومات أزبك خان بعد أن مَلَك نحوًا من ثلاثينَ سنة، ووَلِيَ المُلكَ بعده ابنُه: جاني بك خان.
خلع الخليفة العباسي الواثق وتولية الحاكم بأمر الله أحمد المستكفي .
العام الهجري : 742 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
كان السُّلطانُ مُحمَّدُ بن قلاوون قَبلَ وَفاتِه أوصى بأن يُعادَ أحمدُ بنُ سُليمان للخلافةِ على ما كان أبوه عَهِدَ إليه، وأشهد على ذلك أربعين عَدلًا وقاضيَ قوصٍ وغيرَه من الفقهاء والقُضاة، ففي أوَّلِ هذه السنة أحضر السلطانُ المنصورُ بن محمد بن قلاوون الخليفةَ الواثِقَ إبراهيمَ وخَلَعَه بناءً على وصيَّةِ المستكفي لابنِه أحمد، وبايع القُضاةُ والسلطانُ أحمدَ بنَ سليمان المستكفي ولقَبَّه الحاكِمَ بأمر الله.
وفاة الحافظ أبي الحجاج المِزِّيِّ .
العام الهجري : 742 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
هو الشيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ حُجَّة العصرِ، ومحَدِّثُ الشام ومصر وخاتمةُ الحُفَّاظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر القضاعي الكلبي المزِّي الحلبي المولد، وُلِدَ بظاهر حَلَب في عاشر ربيع الآخر سنة 654، وكان إمامَ عَصرِه وأحَدَ الحُفَّاظ المشهورين، نشأ بالمزَّة بالقُربِ مِن دمشق, فحَفِظَ القرآن الكريم وعُنِيَ باللغةِ وبَرَع فيها وأتقَنَ النحو والتصريف، ثمَّ طلب الحديث سنة 675، فما ونى وما فَتَر ولا لها ولا قَصَّر، في الطلب والاجتهاد والرواية, وصَنَّف وأفاد، وكتب الكثير، لَمَّا وَلِيَ دار الحديث الأشرفي تمذهَبَ للشافعيِّ وأُشهِدَ عليه بذلك. وكان فيه حياءٌ وسكينة، وحِلمٌ واحتمال وقناعة، واطِّراحُ تكَلُّف وتَركُ التجَمُّل والتودُّد والانجماع عن الناسِ وقلة الكلام، إلا أنَّه يُسأل فيُجيب ويجيد، وكلَّما طالت مجالسةُ الطالب له ظهر له فضلُه. وكان لا يتكَثَّر بفضائله، كثيرَ السكوت لا يغتابُ أحدًا. وكان معتَدِلَ القامة مُشرَبًا بحُمرةٍ، قَوِيَّ التركيب مُتِّعَ بحواسِّه وذهنه. وكان قَنوعًا غيرَ متأنقٍ في ملبَسٍ أو مأكلٍ، يصعَدُ إلى الصالحية وغيرها ماشيًا وهو في عشر التسعينَ, وأما معرفته بالرجال فإليه تُشَدُّ الرِّحال؛ فإنه كان الغاية وحامِلَ الراية. ولما ولي دارَ الحديث قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: "لم يَلِ هذه المدرسةَ مِن حين بنائِها وإلى الآن أحَقُّ منه بشرطِ الواقِفِ، وقد وَلِيَها جماعة كبار مثل: ابن الصلاح، ومحيي الدين النواوي، وابن الزبيدي، لأنَّ الواقِفَ قال: فإن اجتمَعَ مَن فيه الروايةُ ومن فيه الدرايةُ قُدِّمَ مَن فيه الدرايةُ؛ قال الشيخ شمس الدين: لم أرَ أحفَظَ منه، ولم يَرَ هو مثلَ نَفسِه, ولم يسألْني ابن دقيق العيد إلَّا عنه. وكان قد اغتَرَّ في شبيبته وصَحِبَ عفيف الدين التلمساني، فلما تبيَّنَ له مذهبُه هَجَره وتبرَّأ منه, ثم قال الشيخ شمس الدين: قرأت بخطِّ الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس: ووجدت بدمشقَ الحافِظَ المقَدَّم، والإمامَ الذي فاق من تأخَّر وتقدم، أبا الحجَّاج المزِّيَّ؛ بحرَ هذا العلم الزاخر، القائِلَ من رآه: كم ترك الأوائِلُ للأواخِر، أحفَظَ النَّاسِ للتراجم، وأعلَمَهم بالرواة من أعارِبَ وأعاجم، لا يخصُّ بمعرفته مصرًا دون مصر، ولا ينفَردُ علمُه بأهل عصر دون عصر، معتمدًا آثارَ السلف الصالح، مجتهدًا فيما نِيطَ به في حفظ السنة من النصائح، مُعرِضًا عن الدنيا وأشباهِها، مُقبِلًا على طريقته التي أربى بها على أربابها، لا يبالي بما ناله من الأزل، ولا يخلط جِدَّه بشَيءٍ مِن الهَزل، وكان بما يصنعه بصيرًا، وبتحقيق ما يأتيه جديرًا، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام". من أهم مُصَنَّفاتِه تهذيب الكمال في أسماء الرجال في أربعة عشر مجلدًا، كشَفَ به الكتب القديمة في هذا الشأن، وسارت به الرُّكبان، واشتهر في حياته، وهو كتابٌ نافِعٌ جدًّا ليس له نظيرٌ في فنه، وألف كتاب " أطراف الكُتُب الستة " في تسعة أسفار, وكان سبَبُ موته هو أنه أصابه طاعون فمَرِضَ عِدَّة أيام حتى إذا كان يوم السبت من الثاني عشر من صفر توفِّيَ بعد صلاة الظهر، فلم يمكن تجهيزُه تلك الليلة، فلما كان من الغدِ يومَ الأحد ثالث عشر صفر صبيحة ذلك اليوم، غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عليه بالجامع الأموي، وحضر القضاةُ والأعيان وخلائِقُ لا يُحصَونَ كثرةً، وخرج بجنازته من باب النصر فصَلَّوا عليه خارج باب النصر، أمَّهم عليه القاضي تقي الدين السبكي الشافعي، وهو الذي صلى عليه بالجامِعِ الأموي، ثم ذهب به إلى مقابر الصوفية، فدفن هناك إلى جانب زوجتِه المرأةِ الصالحة الحافظةِ لكتاب الله: عائشةَ بنتِ إبراهيم بن صديق، غربيَّ قَبرِ شَيخِ الإسلام تقي الدين بن تيمية- رحمهم الله أجمعين.
خلع السلطان المنصور أبي بكر وتولية أخيه الأشرف كجك .
العام الهجري : 742 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
لَمَّا تَسلطَنَ المَلِكُ المنصور أبو بكر، أصبح همُّه ملذَّات نفسِه، فأصبح هذا شيئًا شائعًا عنه يعرِفُه القاصي والداني، حتى أصبح معروفًا بالشرب وجَلْب المغنيات إلى قَصرِه، حتى قال الأميرُ قوصون الناصري: أهكذا يكون أمرُ سُلطان المسلمين؟! أهكذا كان أبوه يفعَلُ؟! وكانت هذه الكَلِمةُ منه سببًا في الوحشة التي حَصَلت بعد ذلك، ثمَّ لَمَّا استفحل هذا الأمرُ مِن السلطان، قرَّر الأمراءُ خَلْعَه وإخراجَه وإخوتِه من القلعة، فتوجَّه برسبغا في جماعةٍ إلى القلعة، وأخرج المنصورَ وإخوته، وهو سابِعُ سَبعةٍ، ومع كل منهم مملوكٌ صغيرٌ وخادِمٌ وفَرَسٌ وبقجة قماش، وأركبهم برسبغا إلى شاطئ النيل، وأنزلهم في الحراقة، وسافر بهم جركتمر بن بهادر إلى قوص، واتَّفَق الأمراء على إقامة كجك بن محمد بن قلاوون، فكانت مدةُ سلطنة المنصور أبي بكر تسعة وخمسين يومًا، ومن حين قلَّدَه الخليفةُ أربعين يومًا، ومن الاتِّفاق العجيب أنَّ المَلِكَ الناصِرَ أخرج الخليفةَ أبا الربيع سليمان وأولاده إلى قوص مُرَسَّمًا عليهم، فقُوصِصَ بمثلِ ذلك!! وأخرج الله أولادَه مُرَسَّمًا عليهم إلى قوص على يد أقرَبِ الناس إليه، وهو قوصون مملوكِه وثِقَتِه ووصِيِّه على أولاده، ثمَّ في يوم الاثنين حادي عشر صفر أقيم المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاوون سُلطانًا، ولم يَكمُلْ له من العمر خمس سنين، وقيل: كان عمره دون سبع سنين، ولَمَّا تم أمرُه في السلطنة جلس الأمراء وتشاوروا فيمن يُقيموه في نيابةِ السَّلطنةِ فرُشِّحَ الأمير أيدغمش أمير آخور، فامتنعَ أيدغمش من ذلك، فوقع الاتفاقُ على الأمير قوصون الناصري، فأجاب وشَرَط على الأمراء أن يقيمَ على حاله في الأشرفيَّة من القلعة ولا يخرُج منها إلى دار النيابةِ خارِجَ باب القلة من القلعة، فأجابه الأمراءُ إلى ذلك، فاستقَرَّ من يومه في النيابة، وتصَرَّف في أمورِ الدولة.
وفاة الملك الأفضل صاحب حماة وتولي ابنه بعده .
العام الهجري : 742 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1341
تفاصيل الحدث:
هو الملِكُ الأفضَلُ علاء الدين عليُّ ابنُ المَلِك المؤيَّد عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي الأيوبي صاحِب حماة وابن صاحبها، مات بدمشقَ، وهو من جملةِ أمرائها بعدما باشر سلطنةَ حماة عشرينَ سَنةً إلى أن نقَلَه قوصون إلى إمرة الشام؛ وولِيَ نيابةَ حماة بعده الأميرُ طقزدمر الحموي، وكانت وفاتُه في ليلة الثلاثاء حادي عشر ربيع الآخر عن ثلاثينَ سنة.
خلع السلطان الأشرف كجك وتولية أخيه الناصر أحمد .
العام الهجري : 742 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1342
تفاصيل الحدث:
في يومِ الخَميسِ أول شعبان خُلِعَ السُّلطانُ المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك من السُّلطة، وكانت مدته خمسة أشهر وعشرة أيام لم يكُنْ له فيها أمرٌ ولا نهي، وتدبيرُ أمورِ الدَّولةِ كُلِّها إلى قوصون، وكان إذا حضرت العلائِمُ أعطِيَ السُّلطانُ قَلمًا في يده وجاء فقيهُه المغربيُّ الذي يقرئ أولادَ السلطان ويكتبُ العلامةَ والقَلمُ في يد السلطانِ علاء الدين، فلما استولى الأميرُ أيدغمش على الدَّولةِ بعد قوصون، وقَرَّر مع الأمراء خَلْعَ الأشرف كجك في يوم الخميس أوَّلَ شعبان، بعث الأميرُ جنكلي بن البابا، والأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير قماري أمير شكار إلى السُّلطانِ أحمد بن النَّاصِر محمد بن قلاوون بالكرك بكُتُب الأمراءِ يُخبِرونَه بما وقع، ويستدعونَه إلى تخت مُلكِه، فلمَّا كان يومُ الأربعاء سابع عشر رمضان قَدِمَ قاصِدُ السلطان إلى الأمير أيدغمش بأنَّ السلطان يأتي ليلًا من باب القرافة، وأمَرَه أن يفتح له بابَ السِّرِّ حتى يعبُرَ منه، ففتحه، وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانِبٌ من ليلة الخميس الثامن عشر منه، أقبل السُّلطانُ في نحو العشرةِ رجالٍ من أهل الكرك، وقد تلَثَّمَ وعليه ثيابٌ مُفَرَّجة، فتلَقَّوه وسلموا عليه، فلم يقِفْ معهم، وأخذ جماعَتَه ودخل بهم، ورجع الأمراءُ وهم يتعَجَّبون من أمرِه، وأصبحوا فدُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وزُيِّنَت القاهرةُ ومصر، فلما كان يوم الاثنين عاشر شوال أُلبِسَ السلطان، وجلس على تخت الملك، وقد حضر الخليفةُ الحاكِمُ بأمرِ الله وقضاة مصر الأربعة، وقُضاة دمشق الأربعة، وجميع الأمراء والمقدمين، وعهد إليه الخليفة، وقَبَّل الأمراء الأرض على العادة.
الحرب بين ملك قشتالة وملك بني مرين .
العام الهجري : 743 العام الميلادي : 1342
تفاصيل الحدث:
بعد هزيمةِ جَيشِ مَلِك المرينيين أمام تحالُفِ الأسبان، تشَجَّع مَلِكُ قشتالةَ للعَودِ إلى غزو غرناطةَ فتابعَ حُروبَه عليها واستولى على قلعةِ بني سعيدٍ، فأثار هذا الحميَّةَ لدى مَلِك بني مرين أبي الحَسَن علي بن عثمان، فأراد الانتقامَ مِن هزيمتِه الماضية، فأرسل أسطولًا بحريًّا إلى بحرِ الزقاق من مضيقِ جَبل طارق، فالتقى بجيش قشتالة في معركةٍ بحرية كانت فيها هزيمةُ جيش مَلِك بني مرين مرة أخرى، وتمَزُّق أسطوله الذي أرسله، ثم توجَّه الجيش الفرنجي إلى غرناطة فنَصَبوا عليها أكثَرَ مِن عَشرةِ مجانيق حتى صالحهم مَلِكُ غرناطة على مالٍ يؤدِّيه كُلَّ عام، وأن يكون الصلحُ بينهم عشرَ سنين.
خلع السلطان الناصر أحمد وتولية أخيه الصالح إسماعيل .
العام الهجري : 743 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1342
تفاصيل الحدث:
أهلَّت هذه السَّنةُ والنَّاسُ في أمرٍ مَريجٍ؛ لغيبة السلطانِ النَّاصِرِ أحمد بالكرك، وعند الأمراءِ تشوُّش كبير، ثمَّ قَدِمَ كِتابُ السلطان إلى الأمراءِ يُطَيِّبُ خواطِرَهم، ويُعَرِّفُهم أنَّ مِصرَ والشام والكرك له، وأنَّه حيث شاء أقام، ورسم أن تُجهَّزَ له الأغنامُ مِن بلاد الصعيد، وأكَّد في ذلك، وأوصى آقسنقر بأن يكون مُتَّفِقًا مع الأمراءِ على ما يكون من المصالحِ، فتنكَّرَت قلوبُ الأمراء ونفَرَت خواطرهم، واتَّفَقوا على خَلعِ السلطان وإقامة أخيه إسماعيل في يومِ الأربعاء حادي عشر المحرم، فكانت مدة ولايته ثلاثةَ أشهر وثلاثة عشر يومًا، منها مدَّةُ إقامته بالكرك ومراسيمُه نافذة بمصرَ أحد وخمسون، وإقامته بمصرَ مدة شهرين وأيام، وكانت سيرتُه سيئة، نَقَم الأمراءُ عليه فيها أمورًا، منها أنَّ رُسُلَه التي كانت تَرِدُ مِن قِبَلِه إلى الأمراء برسائِلِه وأسرارِه أوباشُ أهل الكرك، فلما قَدِموا معه إلى مصر أكثَروا من أخذِ ولاياتٍ ومِناصِبَ وهم غيرُ أهل لها، ومنها تحكُّمهم على الوزيرِ وغَيرِه، وحَجْبُهم السلطانَ حتى عن الأمراءِ والمماليك وأربابِ الدولة، فلا يمكِنُ أحدًا من رؤيتِه سوى يومي الخميس والاثنين نحو ساعة، ومع ذلك فإنَّه جمع أموالَ أبيه وغيرها من الأموال والحيواناتِ والمتاع ونَقَله كُلَّه إلى الكرك، ثم جلس السلطانُ الجديدُ الصالحُ إسماعيلُ على تخت الملك يوم الخميسِ ثاني عشر المحرم، بعد خَلْعِ أخيه باتِّفاقِ الأمراء على ذلك؛ لأنَّه بلَغَهم عنه أنَّه لَمَّا أخرجه الأميرُ قوصون فيمن أُخرِجَ إلى قوص أنَّه كان يصومُ يومي الاثنين والخميس، ويشغَلُ أوقاته بالصَّلاةِ وقراءة القرآن، مع العِفَّة والصيانة عمَّا يُرمَى به الشباب من اللهو واللعب، وحَلَف له الأمراءُ والعساكر، وحَلَف لهم السلطانُ ألَّا يؤذيَ أحدًا، ولا يقبِضَ عليه بغير ذنب يُجمَعُ على صِحَّتِه، ودُقَّت البشائِرُ، ولُقِّبَ بالملك الصالح عماد الدين، ونودي بالزِّينة.
محاصرة الجيوش المصرية والشامية حصن الكرك .
العام الهجري : 743 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1342
تفاصيل الحدث:
لَمَّا خُلِعَ السلطانُ الناصِرُ تحصَّن بالكركِ، فرَسَم السلطانُ الصَّالِحُ إسماعيلُ بإحضار المجرَّدين إلى الكرك وعيَّنَ عِوَضَهم تجريدةً أخرى إلى الكرك، وهي التجريدةُ السابعة، فيها الأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناه، وستة عشر أمير عشرة، وكتب بخروج عسكرٍ أيضًا من دمشق ومعهم المنجنيق والزحَّافات، وأرسل أيضًا مع الأحمدي أربعةَ آلاف دينار لِمن عساه ينزِلُ إليه من قلعة الكركِ طائعًا، وجهَّزَ معه تشاريفَ كثيرةً، وعُيِّنَت لهم الإقاماتُ، وكان الوقتُ شِتاءً، فقاسَوا من الأمطار مشقاتٍ كثيرة، وأقاموا نحو شهرين، فاستعَدَّ لهم المَلِكُ الناصر، وجمع الرجالَ وأنفق فيهم مالًا كثيرًا، وفَرَّق فيهم الأسلحةَ المُرصَدة بقلعة الكرك، ورَكِبَ المنجنيق الذي بها، ووقَعَ بينهم القتالُ والحصارُ، واشتَدَّ الحصارُ على المَلِك الناصر بالكرك، وضاقت عليه هو ومن معه لقِلَّة القوت، وتخلَّى عنه أهل الكرك، وضَجِروا من طولِ الحصار، ووعَدوا الأمراءَ بالمساعدة عليه، فحُمِلَت إليهم الخِلَع ومبلغَ ثمانين ألف درهم، هذا وقد استهَلَّ السلطان في أول سنة 745 بتجريدةٍ ثامنة إلى الكرك، وعيَّنَ فيها الأمير منكلي بغا الفخري والأميرَ قماري والأمير طشتمر طلليه؛ ولم يجِد السلطانُ في بيت المال ما ينفِقُه عليهم، فأخذ مالًا من تجارِ العَجَم ومن بنت الأمير بكتمر الساقي على سبيل القَرضِ، وأنفق فيهم، وخرج المجرَّدون في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة 745، وهؤلاء نجدة لمن توجَّه قبلهم خوفًا أن يمَلَّ مَن كان توجَّه من القتال، فيجِدَ النَّاصِرُ فرجًا بعَودِهم عنه، وقُطِعَت الميرة عن الملك الناصر، ونَفِدَت أموالُه من كثرة نفقاته، فوقع الطَّمَعُ فيه، وأخَذَ بالغ- وكان أجَلَّ ثقات الناصر- في العمل عليه، وكاتَبَ الأمراء ووعدهم بأنه يُسَلِّمَ إليهم الكرك، وسأل الأمانَ، فكُتِب إليه من السلطانِ أمانٌ، وقَدِمَ إلى القاهرة ومعه مسعودٌ وابن أبي الليث، وهما أعيانُ مشايخ الكرك، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشيرَ بجميع ما طلبوه من الإقطاعاتِ والأراضي، وكان من جملة ما طلبه بالِغ وحده نحو أربعمائة وخمسين ألف درهم في السنة، وكذلك أصحابُه، ثم أعيدوا إلى الكركِ بعدما حلفوا، ثم ركب العسكر للحرب، وخرج الكركيون فلم يكن غيرُ ساعة حتى انهزموا منهم إلى داخِلِ المدينة، فدخل العسكر أفواجًا واستوطنوها، وجَدُّوا في قتال أهل القلعةِ عِدَّة أيام، والناسُ تَنزِلُ إليهم منها شيئًا بعد شيءٍ حتى لم يبقَ عند الملك الناصر أحمد بقلعةِ الكرك سوى عشرة أنفُس، فأقام يرمي بهم على العسكر وهو يجِدُّ في القتال ويرمي بنفسِه، وكان قويَّ الرميِ شُجاعًا، إلى أن جُرِحَ في ثلاثة مواضع، وتمكَّنَت النقابة من البرج وعَلَّقوه وأضرموا النار تحته، حتى وقع، وكان الأميرُ سنجر الجاولي قد بالغ أشَدَّ مبالغة في الحصار، وبذل فيه مالًا كثيرًا، ثم هجم العسكرُ على القلعة في يوم الاثنين الثاني والعشرين من صفر سنة 745 فوجدوا الناصِرَ قد خرج من موضِعٍ وعليه زردية، وقد تنكَّب قَوسَه وشَهَر سَيفَه، فوقفوا وسَلَّموا عليه، فردَّ عليهم وهو متجَهِّم، وفي وجهِه جرحٌ وكَتِفُه أيضًا يسيلُ دمًا، فتقَدَّم إليه الأمير أرقطاي والأمير قماري في آخرين، وأخذوه ومَضَوا به إلى دهليز الموضِعِ الذي كان به وأجلَسوه، وطَيَّبوا قلبه وهو ساكِتٌ لا يجيبهم، فقَيَّدوه ووكَلوا به جماعة، ورتَّبوا له طعامًا، فأقام يومَه وليلته، ومن باكِرِ الغد يُقَدَّمُ إليه الطعام فلا يتناوَلُ منه شيئًا إلى أن سألوه أن يأكُلَ، فأبى أن يأكُلَ حتى يأتوه بشابٍّ يقال له عثمان، كان يهواه، فأتوَه به فأكل عند ذلك، وخرج الأميرُ ابن بيبغا حارس طير بالبشارةِ إلى السلطانِ الملك الصالح، وعلى يَدِه كتب الأمراء، فقَدِمَ قلعة الجبل في يوم السبت ثامن عشرين صفر، فدُقَّت البشائِرُ سبعة أيام، وأخرج السلطانُ منجك اليوسفي الناصريَّ السلاح دار ليلًا من القاهرة لقَتلِ الملك الناصر أحمد من غير مشاورةِ الأمراء في ذلك، فوصل إلى الكرك وأُدخِلَ على الملك الناصر وأخرَجَ الشابَّ مِن عنده، ثم خنَقَه في ليلة رابع شهر ربيع الأول، وقَطَع رأسه، وسار من ليلته ولم يَعلَمِ الأمراءُ ولا العسكَرُ بشيء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدةً، وقدم منجك بعد ثلاثةِ أيام قلعة الجبل ليلًا، وقَدَّم الرأسَ بين يدي السلطان- وكان ضخمًا مهولًا له شعر طويل- فاقشعَرَّ السلطان عند رؤيته وبات مرجوفًا، وطلب الأمير قبلاي الحاجب، ورسم له أن يتوجَّهَ لحفظ الكرك إلى أن يأتيَه نائبٌ لها، وكتب السلطانُ بعود الأمراء والعساكر المجردين إلى الكرك، فكانت مُدَّةُ حصار الملك الناصر بالكرك سنتين وشَهرًا وثلاثةَ أيام.
فتنة الأعراب في الحج .
العام الهجري : 743 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
في يومِ عَرَفةَ بعَرَفةَ وقعت فتنةٌ بين العَرَبِ والحُجَّاج من قَبلِ الظُّهرِ إلى غروبِ الشَّمسِ، قُتِلَ فيها جماعةٌ، وسَبَبُها أنَّ الشَّريفَ رُميثة بن أبي نُمي أميرَ مكَّةَ شكا من بني حَسَن إلى أميرِ الحاجِّ، فركِبَ أميرُ الحاجِّ في يوم عرفة بعرفة لحَربِهم، وقاتَلَهم وقَتَلَ مِن التُّركِ سِتَّة عشر فارسًا، وقَتَل من جماعةِ بني حسن عِدَّة، وانهزم بقيَّتُهم، فنفر النَّاسُ مِن عَرَفةَ على تخوُّف، ولم يُنهَبْ لأحدٍ شَيءٌ، ولا تزال بنو حَسَن بمِنًى، ثمَّ رحل الحاجُّ بأجمَعِهم يومَ النَّفرِ الأوَّل، ونزلوا الزاهِرَ خارجَ مكة، وساروا منه ليلًا إلى بطنِ مرو، وقيل غير ذلك، فقيل إنه لما كان يومُ عرفة تنافر أشرافُ مكَّةَ مع الأجناد من مِصرَ، فركبوا لحَربِهم بُكرةَ النهار، ووقفوا للحَربِ صَفَّين، فمشى الشريفُ عجلان بينهم، فلم تُطِعْه الأشرافُ، وحملوا على الأجنادِ وقاتلوهم، فقُتِلَ منهم ومن العامَّة جماعة، وأبلى الشريفُ عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأميرُ أيدمر بلاءً عظيمًا، فعاتبه بعضُ مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسَهمٍ في صدره ألقاه عن فَرَسِه، وقُتِلَ معه أيضًا جماعة، وآلَ الأمرُ إلى نهبِ شيءٍ كثير، ثم تراجَعَ عنهم الأشرافُ.
خلع نائب السلطان الأمير أقسنقر السلاري وتولية الأمير الحاج .
العام الهجري : 744 العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
كان الأميرُ أقسنقر السلاري في نيابتِه لا يَرُدُّ قصَّةً تُرفَعُ إليه، فقصده الناسُ مِن الأقطار وسألوه الرِّزقَ والأراضيَ التي أنْهَوا أنها لم تكنْ بيَدِ أحَدٍ، وكذلك نيابات القلاع وولايات الأعمالِ والرواتب وإقطاعات الحلقة. فلم يرُدَّ أحدًا سأله شيئًا من ذلك سواءٌ كان ما أنهاه صحيحًا أم باطلًا. فإذا قيل له: هذا الذي أنهاه يحتاجُ إلى كَشفٍ، تغَيَّرَ وَجهُه وقال: ليش تقطع رزق الناسِ؟ فإذا كتَبَ بالإقطاعِ لأحدٍ وحضَرَ صاحِبُه مِن سَفَرِه أو تعافى مِن مَرَضِه وسألَه في إعادتِه، قال له: رحْ خذ إقطاعَك، أو يقول له: نحن نعَوِّضُك. ففسدت الأحوالُ ولا سيَّما بالمملكة الشاميَّة، فكتب النوابُ بذلك للسُّلطانِ، فكَلَّمه السلطانُ فلم يرجِعْ وقال: كلُّ من طلب مني شيئًا أعطيتُه وما أردُّ قَلمي عن أحدٍ، بحيث إنَّه كانت تُقَدَّمُ له القصَّةُ وهو يأكُلُ فيترُكُ أكلُه ويكتُبُ عليها من غيرِ أن يعرِفَ ما فيها، فأغلظَ له بسَبَبِ ذلك آقسنقر الناصري أمير أخور. واتَّفَق مع ذلك أنَّه وشى به أنه يباطنُ للنَّاصِرِ أحمد ويواصِلُ كُتُبَه إليه، فقرر أرغون العلائي مع السلطانِ مَسْكَه، فمُسِكَ هو وحاشيتُه، وفي يوم الجمعة ثاني عَشَرِه خَلَعَ السلطانُ آقسنقرَ السلاري. وكان العلائيُّ قد قرَّرَ مع السلطانِ أن يَعرِضَ على الأمراءِ نيابةَ السلطنة، فأوَّلُ مَن عُرِضَت عليه الأميرُ بدر الدين جنكلي بن البابا فامتنع، فقالوا بعده للأميرِ الحاج آل ملك الجوكندار، فأظهر البِشْرَ وأجاب لها إن قُبِلَت شُروطُه، فلما طلع الأميرُ الحاج آل ملك لصلاة الجمعةِ على العادة اشترط على السلطانِ ألَّا يفعَلَ شَيئًا في المملكة إلَّا برأيه وأنه يَمنَعُ الخمرَ مِن البيعِ ويُقيمُ مَنارَ الشَّرعِ، وأنَّه لا يُعارَضُ فيما يفعَلُه، فقَبِلَ السلطان شروطَه ولبس الأميرُ الحاج آل ملك تشريفَ النيابة بجامِعِ القلعة بعد صلاة الجمعة. وأنعم عليه السلطانُ زيادةً على إقطاعِ النيابة بناحيتي المطرية والخصوص ومتحَصَّلهما أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم. وفي يوم السبت ثالث عَشَرِه: خلع السلطانُ علي منكلي بغا الفخري واستقَرَّ أمير جندار عوضًا عن بيغرا. وفيه فتح شباك النيابة وجَلَس فيه الأمير الحاج آل ملك للمُحاكَماتِ.
فتنة الناس بوجود قبر صحابي في القاهرة وبيان دجل هذه الإشاعة .
العام الهجري : 744 العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
اتَّفَق بظاهِرِ القاهرةِ أمرٌ اعتُنِي بضَبطِه، وهو أنَّه كان بناحية اللوق كوم يُعرفُ بكوم الزل يأوي إليه أهلُ الفسوق من أوباشِ العامَّة، فأخذ بعضُهم منه مَوضِعًا ليبنيَ له فيه بيتًا، فشَرَع في نقل الترابِ منه، فبينا هو يحفِرُ إذ ظهر له إناءُ فخَّار فيه مكاتيبُ دار كانت في هذا البُقعةِ، وتدُلُّ على أنه كان به أيضًا مَسجِدٌ، ورأى آثار البنيان، فأشاع أحدُ شياطينِ العامَّة- وكان يقال له شُعَيبٌ- أنَّه رأى في نَومِه أنَّ هذا البنيان على قَبرِ بعض الصحابة رَضِيَ الله عنهم، وأنَّ مِن كراماتِه أنَّه يُقيمُ المُقعَد ويَرُدُّ بصَرَ الأعمى، وصار يصيحُ ويُهَلِّلُ ويُظهِرُ اختلالَ عَقلِه، فاجتمَعت عليه الغوغاء، وأكثروا مِن الصياح، وتناولوا تلك الأرضَ بالحَفرِ حتى نزلوا فيها نحوَ قامتينِ، فإذا مَسجِدٌ له محرابٌ، فزاد نشاطُهم، وفَرِحوا فرحًا كبيرًا، وباتوا في ذِكرٍ وتَسبيحٍ، وأصبَحوا وجَمَعَهم نحو الألف إنسان، فشالوا ذلك الكوم، وساعَدَهم النساء، حتى إنَّ المرأة كانت تشيل الترابَ في مقنَعِها، وأتاهم الناسُ مِن كل أَوبٍ، ورفعوا معهم الترابَ في أقبِيَتِهم وعمائِمِهم، وألقَوه في الكيمان، بحيث تهيَّأَ لهم في يومٍ واحدٍ ما لا تفي مُدَّةُ شَهرٍ بنَقلِه، وحَفَر شُعَيبٌ حُفرةً كبيرة، وزعم أنَّها مَوضِعُ الصحابي، فخرج إليه أهلُ القاهرة ومصر أفواجًا، وركِبَ إليه نِساءُ الأمراءِ والأعيان، فيأخُذُهنَّ شُعَيبٌ ويُنزِلُهنَّ تلك الحفرة لزيارتِها، وما منهنَّ إلَّا من تدفَعُ الدنانيرَ والدَّراهم، وأشاع شُعَيبٌ أنه أقام الزَّمنى، وعافى المرضى، وردَّ أبصارَ العِميانِ، في هذه الحُفرة، وصار يأخذُ جماعةً مِمَّن يُظهِرُ أنَّه من أهل هذه العاهات، ويَنزِلُ بهم إلى الحُفرةِ، ثم يُخرِجُهم وهم يُسَبِّحونَ: الله أكبر الله أكبر، ويزعُمونَ أنَّهم قد زال ما كان بهم، فافتَتَن الناس بتلك الحُفرة، ونزلت أمُّ السلطانِ لزيارتها، ولم تبقَ امرأةٌ مشهورة حتى أتتها، وصار للنَّاسِ هناك مجتَمَعٌ عظيم، بحيث يُسرَجُ به كلَّ ليلة نحو مائتي قنديل، ومن الشُّموعِ الموكبيَّة شيءٌ كثير، فقامت القضاةُ في ذلك مع الأميرِ أرغون العلائي والأمير الحاج آل ملك نائب السُّلطان، وقَبَّحوا هذا الفِعلَ، وخَوَّفوا عاقبَتَه، حتى رُسِمَ لوالي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى مكان الحفرة ويكشِفَ أمْرَها، فإن كان فيها مقبورٌ يُحمَلُ إلى مقابِرِ المُسلِمينَ ويُدفَنُ به سِرًّا، ثمَّ يُعفى الموضِعُ، فلما مضى إليه ثارت به العامَّةُ تُريدُ رَجْمَه، وصاحوا عليه بالإنكارِ الشَّنيعِ حتى رماهم الجُندُ بالنشَّاب، فتفَرَّقوا، وهَرَب شُعَيبٌ ورفيقه العجوي، وما زال الحفَّارون يعملون في ذلك المكانِ إلى أن انتَهَوا فيه إلى سرابِ حمام، ولم يجدوا هناك قبرًا ولا مَقبورًا، فطَمُّوه بالتراب، وانصَرَفوا، وقد انحَلَّت عزائِمُ النَّاسِ عنه، بعدما فُتِنوا به، وضَلُّوا ضلالًا بعيدًا، وجَمَع شُعَيبٌ ورفيقه كثيرًا من المالِ والثيابِ شيئًا طائلًا!!
والي القاهرة يخرب سجن الأسارى ويمنع الخمور في البلاد .
العام الهجري : 744 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
أمر نائِبُ السُّلطانِ الأميرُ الحاج آل ملك والي القاهرة بأن يُنزَل إلى خزانة البنود بالقاهرة، ويُحتاطَ على ما بها من الخَمرِ والبغايا، ويخرج مَن فيها من النَّصارى الأسرى، ويريق ما هناك من الخُمور، ويخرِّبها حتى يجعَلَها دكًّا، وسبَبُ ذلك أنَّ خِزانةَ البنود كانت يومئذٍ حانةً، بعدما كانت سجنًا يُسجَنُ فيه الأمراءُ والجُندُ والمماليك، كما أنَّ خِزانةَ شمائِل سجنٌ لأرباب الجرائِمِ من اللصوصِ وقُطَّاع الطريق، فلما كانت دولةُ السلطان الملك الناصر محمَّد بن قلاوون بعد عَودِه من الكرك، وشُغِفَ بكثرةِ العماراتِ، اتَّخَذ الأسرى وجَلَبَهم إلى مصر من بلاد الأرمن وغيرها، وأنزَلَ عِدَّةً كثيرةً منهم بقلعة الجبل، وجماعةً كثيرة بخزانة البنود، فملأ أولئك الأرمن خزانةَ البنود حتى بطل السِّجنُ بها، وعَمَرها السلطانُ الناصر مساكِنَ لهم، وتوالدوا بها، وعَصَروا الخمورَ بحيث إنَّهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جَرَّة، باعوها جِهارًا، وكان لحمُ الخنزير يُعَلَّقُ عندهم على الوضم، ويباعُ مِن غيرِ احتشامٍ، واتَّخَذوا عندهم أماكِنَ لاجتماع النَّاسِ على المحَرَّمات، فيأتيهم الفُسَّاق ويظَلُّونَ عندهم الأيامَ على شُربِ الخُمورِ ومُعاشرة الفواجِر والأحداثِ، ففَسَدت حُرَمٌ كثيرةٌ من الناسِ وكثيرٌ مِن أولادِهم وجماعةٌ مِن مماليك الأمراءِ فسادًا شَنيعًا، حتى إنَّ المرأةَ إذا تركت أهلَها أو زوجَها، أو الجاريةَ إذا تركت مواليَها، أو الشَّابَّ إذا ترك أباه، ودخل عند الأرمن بخزانةِ البنودِ، لا يقدِرُ أن يأخُذه منهم، ولو كان مَن كان! فقام الأميرُ الحاج آل ملك في أمرِهم، وفاوض السُّلطانَ المَلِكَ الناصِرَ محمدَ بن قلاوون في فسادِهم غيرَ مرة، فلم يجِبْه إلى أن أكثَرَ عليه، فغَضِبَ السلطان عليه، وقال له: يا حاج! كم تشتكي مِن هؤلاء، إن كان ما يُعجِبُك مُجاوَرَتَهم انتَقِلْ عنهم! فشَقَّ ذلك عليه، وركِبَ إلى ظاهر الحُسَينية واختار مكانًا، وعَمَره دارًا، وأنشأ بجانِبِها جامعًا، وحَمَّامًا ورَبْعًا وحوانيت، وبَقِيَت في نفسِه حزازاتٌ حتى أمكنَتْه القدرةُ منهم، وانبسَطَت يدُه فيهم بكونِه نائِبَ السُّلطانِ، فنزل والي القاهرةِ ومعه الحاجِبُ وعِدَّةٌ من أصحاب النائِبِ، وهجموا خزانةَ البنود، وأخرجوا جميعَ سُكَّانِها، وكَسَروا أوانيَ الخَمرِ، فكانت شيئًا يجِلُّ وَصفُه كثرةً، وهدموها واشترى أرضَها الأميرُ قماري مِن بيت المالِ، وتقَدَّمَ إلى الضياء المحتَسِب أن يناديَ بتَحكيرِها، فرَغِبَ النَّاسُ في أرضها واحتكَروها، وبَنَوها دُورًا وطواحينَ وغَيرَها، فكان يومُ هَدمِ خزانة البنود يومًا مَشهودًا من الأيامِ المشهورةِ المذكورة، عَدَلَ هَدْمُها فتحَ طرابلُس وعكا؛ لكثرةِ ما كان يُعمَلُ فيه بمعاصي اللهِ! ثمَّ طلب النائِبُ الأميرُ الحاج واليَ القلعةِ، وألزَمَه أن يفعَلَ ذلك ببيوت الأسرى من القلعةِ، فمضى إليها وكَسَّر جِرارَ الخَمرِ التي بها، وأنزلهم من القلعةِ، وجعَلَهم مع نصارى خزانةِ البنود في مَوضِعٍ بجوار الكوم، فيما بين جامِعِ ابن طولون ومصر، فنزلوه واتخَذوا به مساكِنَهم، وكانت الأسرى التي بالقلعة من خواصِّ الأسرى، وعليهم كان يعتَمِدُ السلطان المَلِكُ الناصر محمد بن قلاوون في أمر عمائِرِه، وكانوا في فَسادٍ كبيرٍ مع المماليكِ وحرَمِ القلعةِ، فأراح الله منهم، ثم رسم الأميرُ الحاج آل ملك النائب بتتَبُّع أهل الفساد، فمَنَع الناسَ مِن ضَربِ الخِيَم على شاطئ النيلِ بالجزيرةِ وغَيرِها للنُّزهة، وكانت محلَّ فَسادٍ كبيرٍ؛ لاختلاطِ الرِّجالِ فيها بالنِّساءِ، وتعاطيهم المُنكَرات.
إسلام ملك الهند وطلبه إرسال فقهاء ليعلموهم أمور دينهم .
العام الهجري : 744 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
وصَلَت رسُلُ مَلِك الهند بهَديَّة فيها فصان ياقوت، ومعهم كتابٌ يتضَمَّنُ السلام والمودَّة، وأنَّهم لم يكونوا يَعرِفونَ الإسلامَ حتى أتاهم رجلٌ عَرَّفَهم ذلك، وذكرَ لهم أنَّ ولاية المَلِك لا بُدَّ أن تكون من الخليفةِ، وسأل مَلِكُ الهند أن يُكتَبَ له تقليدٌ مِن جهة الخليفة بولايةِ مَملكةِ الهند ليكونَ نائبًا عن السلطانِ بتلك البلاد، وأن يَبعَثَ السُّلطانُ إليهم رجلًا يعَلِّمُهم شرائِعَ الإسلام من الصَّلاةِ والصيامِ ونحو ذلك، فأُكرِمَت الرسُلُ، وطلب من الخليفةِ أن يكتُبَ تقليدًا لمُرسِلِهم بسلطنة الهند، فكُتِبَ له تقليدٌ جليلٌ، ورَسَم بسَفَرِ ركن الدين الملطي شيخِ الخانكاه الناصريَّة بسرياقوس مع الرُّسُل.
وفاة الشيخ الإمام ابن عبدالهادي الحنبلي .
العام الهجري : 744 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الناقِدُ في فنون العلوم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، من تلاميذ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ. كان مولِدُه في رجب سنة 705. توفي ولم يبلغِ الأربعين، وكان قد حَصَّل من العلومِ ما لا يَبلُغُه الشُّيوخُ الكبار، وتفَنَّنَ في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين، والتاريخ والقراءات، وله مجاميعُ وتعاليقُ مُفيدة كثيرة, وكان حافِظًا جيِّدًا لأسماءِ الرجال وطُرُقِ الحديث، عارفًا بالجَرحِ والتعديل، بصيرًا بعِلَلِ الحديث، حَسَن الفَهمِ له، جَيِّد المذاكرة، صَحيحَ الذِّهنِ مُستقيمًا على طريقةِ السَّلَفِ، واتِّباع الكِتابِ والسنَّة، مثابرًا على فِعلِ الخيرات، ومن مصنَّفاته كتاب العلل، وهو مؤلِّفُ كِتاب العقود الدريَّة في مناقب شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، وله كتاب قواعد أصول الفقه، وفضائل الشام، والأحكام في الفقه، وغيرها كثير, وكان قد مَرِضَ قريبًا من ثلاثة أشهر بقُرحة وحُمَّى سُل، ثم تفاقم أمرُه وأفرط به إسهالٌ، وتزايد ضَعفُه إلى أن توفِّيَ يوم الأربعاء عاشرَ جمادى الأولى قبل أذانِ العصر، وكان آخِرَ كلامِه أنْ قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ الله، اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابينَ واجعَلْني من المتطَهِّرينَ، فصُلِّيَ عليه يومَ الخميس بالجامِعِ المظفري وحضر جنازتَه قُضاةُ البلد وأعيانُ الناس من العلماء والأمراء والتجَّار والعامة، وكانت جنازتُه حافلةً، ودُفِن بالروضة.
مقتل حسن السكاكيني على الرفض الدال على الكفر المحض .
العام الهجري : 744 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1343
تفاصيل الحدث:
هو حَسَنُ بن الشيخ محمد السكاكيني، كان والده الشيخ محمد السكاكيني يَعرِفُ مَذهَب الرافِضةِ الشِّيعةِ جَيِّدًا، وكانت له أسئلةٌ على مذهب أهلِ الجَبْرِ، ونَظَم في ذلك قصيدةً أجابه فيها شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله، وذكر غيرُ واحدٍ مِن أصحابِ الشَّيخِ أنَّ السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهَبِه، وصار إلى قَولِ أهلِ السنَّةِ، فالله أعلم، وقيل إنَّ وَلَدَه حَسَنًا هذا القبيحَ، كان قد أراد قَتْلَ أبيه لما أظهر السُّنَّةَ. قُتِلَ حَسَن بسوق الخيل في صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى على ما ظهَرَ منه من الرَّفضِ الدَّالِّ على الكُفرِ المَحضِ، بعد أن شُهِدَ عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهاداتٍ كثيرةٍ تدُلُّ على كُفرِه، وأنَّه رافِضيٌّ جَلْدٌ، فمن ذلك تكفيرُ الشَّيخينِ- رَضِيَ اللهُ عنهما- وقَذْفُه أمَّيِ المُؤمِنينَ عائشةَ وحفصةَ- رَضِيَ اللهُ عنهما- وزَعَم أنَّ جبريلَ غَلطَ فأوحى إلى محمَّدٍ، وإنَّما كان مُرسَلًا إلى عليٍّ! وغيرُ ذلك من الأقوالِ الباطلة القبيحةِ- قَبَّحَه اللهُ.
فتنة الأعراب بصعيد مصر والشام .
العام الهجري : 745 العام الميلادي : 1344
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ الخَبَرُ بنفاقِ عُربان الوجه القبلي، وقَطْعِهم الطُّرُقات على الناس، وامتدادِ الفِتَن بينهم نحو شهرينِ قُتِلَ فيها خلقٌ عظيم، وأنَّ عَربَ الفيومِ أغار بعضُهم على بعض، وذبحوا الأطفالَ على صدورِ أمَّهاتهم، فقُتِلَ بينهم قتلى كثيرٌ، وأخربوا ذاتَ الصفا، ومنعوا الخراجَ في الجبال، وقطعوا المياهَ حتى شَرِقَ أكثَرُ بلاد الفيوم، فلم يلتَفِت أمراءُ الدولة لذلك؛ لشُغلِهم بالصَّيدِ ونحوه، وفيه قَدِمَ الخَبَرُ بكثرة فساد العشير ببلاد الشام، وقَطْعِهم الطرقات؛ لقلة حُرمةِ الأمير طقزدمر نائب الشام، فانقطعت طرقات طرابلس وبعلبك، ونُهِبَت بلادهما، وامتَدَّت الفتنةُ بين العشير زيادة على شهر، قُتِلَ فيها خلق كثير، وأضرموا النارَ على موضع احترقَ فيه زيادةٌ على عشرين امرأة.
نساء السلطان وجواريه يبتدعن لباسا مترفا ثم يمنعن من لبسه .
العام الهجري : 745 العام الميلادي : 1344
تفاصيل الحدث:
أبطل نائِبُ السُّلطانِ الأميرُ الحاج آل ملك ما أحدَثَه النِّساءُ مِن مَلابسِهنَّ، وذلك أنَّ الخواتينَ نساءَ السُّلطانِ وجواريَهنَّ أحدَثْنَ قُمصانًا طِوالًا تخبُّ أذيالها على الأرضِ، بأكمامٍ سَعةِ الكُمِّ منها ثلاثةُ أذرع، فإذا أرخَتْه الواحدةُ منهن غطَّى رِجْلَها، وعُرِفَ القَميصُ منها فيما بينهنَّ بالبهطلة، ومَبلَغُ مَصروفِه ألفُ درهم ممَّا فوقها! وتشَبَّه نِساءُ القاهرة بهن في ذلك، حتى لم يبقَ امرأةٌ إلَّا وقميصُها كذلك، فقام الوزيرُ منجك في إبطالها، وطَلَب والي القاهرة ورسمَ له بقَطعِ أكمامِ النِّساءِ، وأخْذ ما عليهن، ثم تحدَّثَ منجك مع قاضي القضاة بدار العدلِ يوم الخِدمةِ بحضرةِ السُّلطانِ والأمراء فيما أحدثه النِّساءُ من القمصان المذكورة، وأنَّ القَميصَ منها مبلغُ مصروفه ألف درهم، وأنهنَّ أبطَلْنَ لِبسَ الإزار البغدادي، وأحدَثْنَ الإزار الحرير بألفِ درهم، وأنَّ خُفَّ المرأة وسرموزتَها بخمسمائة درهم، فأفتوه جميعُهم بأنَّ هذا من الأمور المحرمة التي يجِبُ منعُها، فقَوِيَ بفَتواهم، ونزل إلى بيتِه، وبعث أعوانَه إلى بيوت أربابِ الملهى، حيث كان كثيرٌ من النساء، فهَجَموا عليهنَّ، وأخذوا ما عندهنَّ من ذلك، وكَبَسوا مناشِرَ الغسَّالينَ ودكاكين البابية، وأخذوا ما فيها من قُمصان النساء، وقَطَّعَها الوزير منجك، ووكل الوزيرُ مماليكَه بالشوارِعِ والطُّرُقات، فقَطَّعوا أكمامَ النساء، ونادى في القاهرةِ ومصر بمنع النِّساءِ مِن لبس ما تقدَّم ذِكرُه، وأنَّه متى وُجِدَت امرأةٌ عليها شيءٌ مِمَّا مُنِعَ، أُخرِقَ بها وأُخِذَ ما عليها، واشتَدَّ الأمر على النساء، وقُبِضَ على عِدَّةٍ منهن، وأُخِذَت أقمِصَتُهنَّ، ونُصِبَت أخشابٌ على سورِ القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعُلِّقَ عليها تماثيلُ مَعمولةٌ على سور النِّساءِ، وعليهن القُمصانُ الطوالُ، إرهابًا لهن وتخويفًا، وطُلِبَت الأساكِفةُ، ومُنِعوا من بَيعِ الأخفافِ والسراميز المذكورة، وأن تُعمَلَ كما كانت أولًا تُعمَل، ونودي من باع إزارًا حريرًا أُخِذَ جميعُ مالِه للسُّلطان، فانقطع خروجُ النساءِ إلى الأسواق، وركوبهنَّ حمير المكارية، وإذا وُجِدَت امرأةٌ كُشِفَ عن ثيابِها، وامتنع الأساكِفةُ مِن عَمَلِ أخفاف النساء وسراميزهن المُحدَثة، وانكَفَّ التجَّار عن بيع الأُزُر الحريرِ وشرائِها، حتى إنَّه نُودِيَ على إزارٍ حريرٍ بثمانينَ درهمًا فلم يَلتَفِتْ له أحدٌ، فكان هذا مِن خيرِ ما عُمِلَ.
===========
152.
وفاة الشيخ الإمام أثير الدين أبو حيان الغرناطي .
العام الهجري : 745 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1344
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ العلَّامةُ الإمامُ الحافِظُ فَريدُ العَصرِ وشَيخُ الزَّمانِ، وإمامُ النُّحاةِ: أثيرُ الدين أبو حيَّان محمَّد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي المغربي المالكيُّ ثمَّ الشافعيُّ شَيخُ البلاد المصريَّة، مَولِدُه بغرناطة في أُخريات شوال سنة 654. قرأ القرآنَ بالرِّوايات، واشتغَلَ وسَمِعَ الحديثَ بالأندلس وإفريقيَّة والإسكندريَّة والقاهرة والحجاز، وحصَّل الإجازاتِ من الشام والعراق، واجتهد في طَلَب العلم، حتى بَرَع في النحو والتصريفِ، وصار فيهما إمامَ عَصرِه، وشارَكَ في علوم كثيرة، وكان له اليَدُ الطولى في التفسيرِ والحديثِ، والشروط والفروع، وتراجم الناس وطبقاتهم وتواريخهم، خصوصًا المغاربةَ، وهو الذي جسَّرَ النَّاسَ على مُصَنَّفاتِ ابنِ مالك، ورَغَّبَهم في قراءتِها، وشَرَحَ لهم غوامِضَها، ومن أشهر مُصَنَّفاته: البحر المحيط وهو تفسيره للقرآن، ثم اختصره وسَمَّاه النهر، وله كتاب في التراجم اسمه مجاني العصر، وله تحفة الأريب في غريب القرآن، وله طبقات نحاة الأندلس، توفِّيَ في القاهرة عن 91 عامًا، وهو غيرُ أبي حيان التوحيدي الفيلسوف الصوفي المُلحِد الذي توفِّيَ سنة 414.
مطر وثلج وهبوب ريح حارة شديدة بدمشق ومصر .
العام الهجري : 745 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1345
تفاصيل الحدث:
كثُرَ سُقوطُ الثَّلجِ بدِمشقَ حتى خرج عن العادةِ، وأنفقوا على إزالته من الأسطحِ ما ينيفُ على ثمانين ألف درهم؛ فإنَّه أقام يسقط أسبوعين، وفي هذه السنة تواتَرَ سُقوطُ البرد بأرض مصرَ، مع ريحٍ سوداء، وشَعَث عظيمٍ، وبَرقٍ ورَعدٍ سهول، ثم أعقب ذلك عامٌ شديد الحر، بحيث تطاير منها شَرَرٌ أحرق رؤوسَ الأشجار، وزريعة الباذنجان وبعض الكتَّان، حتى اشتد خوف الناس، وضجُّوا إلى الله تعالى، وجاء مطرٌ غزير، ثم بَرْدٌ فيه يبس لم يُعهَدْ مِثلُه، فكانت أراضي النواحي تُصبِحُ بيضاءَ من كثرة الجليد، وهَلَك من شدَّة البرد جماعةٌ من بلاد الصعيد وغيرها، وأمطرت السماءُ خمسةَ أيام متواليةً حتى ارتفع الماءُ في مزارعِ القصب قَدْرَ ذراعٍ، وعَمَّ ذلك أرض مصر قَبليَّها وبحريَّها، ففسدت بالريحِ والمطر مواضِعُ كثيرة، وقلَّت أسماكُ بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط، والخلجان وبركة الفيل وغيرها؛ لِمَوتها من البرد، فتَلِفَت في هذه السنة بعامَّةِ أرض مصر وجميع بلاد الشام- بالأمطار والثلوج والبرد، وهبوب السمائم وشدة البرد- من الزُّروعِ والأشجار، والبائهم والأنعام والدور؛ ما لا يدخُلُ تحتَ حَصرٍ، مع ما ابتليَ به أهل الشام من تجريد عساكِرِها وتسخيرِ أهلِ الضياع وتسَلُّط العربان والعشير، وقِلَّة حُرمة السلطنة مصرًا وشامًا، وقطع الأرزاق وظُلم الرعيَّة.
اعتنق أهل سومطرة بإندونيسيا الإسلام وتولى الملك عليهم مسلم .
العام الهجري : 746 العام الميلادي : 1345
تفاصيل الحدث:
ذكَرَ الرحَّالةُ ابنُ بطُّوطة عن مشاهدتِه لجزيرة سومطرة والإسلام فيها، ووصَفَ سُلطانَها قائِلًا: "وهو السلطانُ المَلِكُ الظاهر من فُضَلاءِ الملوك، شافعيُّ المذهب محِبٌّ للفقهاء، يحضرون مجلِسَه للقراءة والمذاكرة، وهو كثيرُ الغزو والجهاد ومتواضِعٌ يأتي إلى صلاة الجمعة ماشيًا على قَدَميه وأهل بلاده شافعيَّةٌ محبُّون للجهاد يخرجون معه تطوعًا، وهم غالبون على من يليهم من الكُفَّار والكُفَّارُ يعطون الجزيةَ على الصُّلحِ"، وقد ذكر ماركو بولو الذي جاء إلى هذه الجزيرةِ قبل ابن بطوطة بأقَلَّ مِن خمسين سنة، حيث كان فيها سنة 692, وقال عنها: إنَّ جميع سكان البلاد عبدةُ أوثانٍ اللهُمَّ إلَّا في مملكة برلاك الصغيرة الواقعة في الزاوية الشماليَّة الشرقية من الجزيرة؛ حيث سكان المدن وَحدَهم مُسلمون، أمَّا سكان المرتفعات فكُلُّهم وثنيُّونَ أو مُتَوحِّشونَ يأكلونَ لحومَ البَشَرِ. ولا يُعقَلُ في أنه في أقل مِن خمسين سنة ينتَشِرُ الإسلام في كل الجزيرةِ على ما وصَفَه ابن بطوطة، ولكن يبدو أنَّ ماركو بولو أراد من ذلك الوصفِ شَيئًا آخَرَ، والله أعلم، ويُذكَرُ أنَّ الإسلامَ دخَلَ إلى هذه الجُزُر عن طريق التجَّار المسلمين، وعن طريق رحلةِ كثيرٍ مِن السكان إلى بلادِ الإسلامِ للتجارة وعودتهم إلى بلادِهم دُعاةً للإسلامِ.
وفاة السلطان الصالح إسماعيل بن الناصر وتولي أخيه الكامل شعبان .
العام الهجري : 746 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1345
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ عِمادُ الدين المَلِكُ الصَّالحُ إسماعيل بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون؛ في ربيع الأول اشتَدَّ مَرَضُ الملك الصالح إسماعيل فدخل عليه زَوجُ أمِّه ومُدَبِّرُ مَملكتِه الأمير أرغون العلائي في عِدَّة من الأمراء لِيَعهَدَ الملك الصالحُ إسماعيل بالمُلكِ لأحدٍ مِن إخوته, وكان أرغون العلائي غَرَضُه عند أخيه شعبان؛ لكونه أيضًا ربيبَه ابنَ زوجتِه, فعارضه في شعبانَ الأميرُ آل ملك نائِبُ السلطنة، إلى أن اتَّفَق المماليك والأمراء على توليةِ شعبان، وحضروا إلى بابِ القلعة واستدعَوه، وألبَسُوه أبَّهةَ السلطنة وأركبوه بشِعارِ الملك، ومَشَت الأمراء بخدمته، والجاوشيَّة تَصيحُ بين يديه على العامَّة، ولَمَّا طَلَع إلى الإيوان وجلس على الكرسيِّ وقَبَّل الأمراءُ له الأرضَ وأحضروا المُصحَفَ لِيَحلِفوا له، فحَلَف هو أولًا أنَّه لا يؤذيهم، ثم حَلَفوا له بعد ذلك على العادة، ولُقِّبَ بالملك الكامِلِ سيف الدين أبي الفتوح شعبان, ودُقَّت البشائِرُ بسَلطنتِه بمصرَ والقاهرة، وخُطِبَ له من الغَدِ على منابِرِ مِصرَ والقاهرة، وكُتِبَ بسلطنته إلى الأقطار مِصرًا وشامًا، ثم في يوم الاثنين ثامِنَ شَهرِ ربيع الآخر جلس الملك الكامل بدارِ العدل، وجُدِّدَ له العَهدُ من الخليفةِ بحَضرةِ القضاة والأمراء، وخَلَعَ على الخليفةِ وعلى القضاة والأمراء، وكانت مدة سلطنة الصالح إسماعيل ثلاث سنين وشهرين وأحد عشر يومًا.
خراب سيس بسبب ظلمهم .
العام الهجري : 746 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1346
تفاصيل الحدث:
قَصَد نائِبُ حَلَب سيس لطَلَب الحملِ، وقد كان تكفور صاحِبُها قد كتب في الصالحِ إسماعيل بأنَّ بلادَه خَرِبَت، فسُومِحَ بنِصفِ الخراج، فلمَّا وصل إليه قاصِدُ نائب حلب جَهَّز الحمل، وحضر كبيرُ دولته ليحَلِّفوه أنَّه ما بقى أسيرٌ مِن المسلمين في مملكتِه، كما جَرَت العادة في كل سنةٍ بتَحليفِه على ذلك، وكان في أيديهم عِدَّةٌ من المسلمين أسرى، فبَيَّتَ مع أصحابِه قَتْلَهم في الليلةِ التي تكونُ خلفه في صبيحتِها، فقَتَل كُلُّ أحدٍ أسيرَه في أوَّلِ اللَّيلِ، فما هو إلَّا أن مضى ثلثا الليلِ فخرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريحٌ سوادء، معها رعدٌ وبَرقٌ أرعَبَ القلوب، وكان من جملةِ الأسرى عجوزٌ من أهل حلب في أسرِ المنجنيقيِّ، ذبَحَها عند المنجنيق، وهي تقول: " اللهُمَّ خُذِ الحَقَّ منهم " فقام المنجنيقيُّ يشرَبُ الخَمرَ مع أهله بعد ذَبحِها، حتى غلَبَهم السُّكرُ وغابوا عن حِسِّهم، فسَقَطَت الشمعةُ وأحرَقَت ما حولها، حتى هَبَّت الريحُ، فتطاير شَرَرُ ما احترق من البيت حتى اشتعَلَ بما فيه، وتعلقت النيران مما حوله حتى بلَغَت مَوضِعَ تكفور، ففَرَّ بنفسه، واستمَرَّت النار مدة اثني عشَرَ يومًا، فاحترق أكثَرُ القلعة، وتلف المنجنيقُ كُلُّه بالنار، وكان هو حصن سيس، ولم يُعمَلْ مِثلُه، واحترق المنجنيقي وأولادُه الستَّة وزوجته، واثنا عشر رجلًا من أقاربه، وخَرِبَت سيس، وهُدِّمَ سُورُها ومساكِنُها، وهلك كثيرٌ مِن أهلِها، وعَجَز تكفور عن بنائِها.
فتنة الأعراب بالصعيد .
العام الهجري : 747 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1346
تفاصيل الحدث:
اشتَدَّ فسادُ العُربان بالصعيد والفيوم والإطفيحيَّة، فأخرج الأميرُ غرلو إلى إطفيح فأمَّنَ غرلو شيخَ العربان مغنى، وأخذ في التحيُّل على نُمَي حتى قَبَض عليه، وسَلَّمَه لمغنى، فعذبه عذابًا شديدًا، فثار أصحابُه، وكبسوا الحيَّ وتلك النواحيَ، وكَسَروا عرب المغنى، وقتلوا منهم ثلاثمائةِ رَجُل وستين امرأة، وذبحوا الأطفالَ، ونهبوا الأجرانَ وهدموا البيوت، ولَحِقوا بعربان الصعيد والفيوم فكانت عِدَّةُ مَن قُتِلَ منهم في هذه السنة نحو الألفي إنسان، لم يُفَكِّر أحدٌ في أمرهم، ولا فيما أفسدوه!
خروج يلبغا اليحياوي نائب دمشق عن طاعة السلطان شعبان .
العام الهجري : 747 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1346
تفاصيل الحدث:
انشغل السُّلطانُ المَلِكُ الكامِلُ شَعبان بملذَّاته وملاهيه وأعرض عن تدبيرِ الأمور، فتمَرَّدَت المماليكُ، وأخذوا حرم النَّاسِ، وقطعوا الطريقَ، وفَسَدت عِدَّةٌ من الجواري، وكَثُرَت الفِتَنُ بسَبَبِ ذلك حتى بلغ السلطانَ، فلم يعبأ بهذا، وقال: " خلُّوا كُلَّ أحد يعمَلُ ما يريدُ!!"، وقد تظاهر الناسُ بكلِّ قَبيحٍ، فاشتَدَّ الأمرُ على الناس بديار مصر وبلاد الشام، وكَثُرَ دعاؤهم لما هم فيه من السُّخر والمغارم، وتنكَّرت قلوب الأمراء، وكَثُرت الإشاعة بتنكُّر السلطان على الأميرِ يلبغا اليحياوي نائِبِ الشام، وأنه يريد مَسْكَه حتى بلغه ذلك فاحتَرَز على نفسه وبلغ الأمير يلبغا اليحياوي قَتْلُ يوسف أخي السلطان، وقُوَّة عزم السلطان على سَفَر الحجاز موافقةً لأغراض نسائه، فجمَعَ يلبغا أمراء دمشق، وحَلَّفَهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهِرِ دمشق في نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحَضَر إليه الأميرُ طرنطاي البشمقدار نائبُ حمص، والأمير أراق الفتاح نائب صفد، والأمير أستدمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس، فاجتمعوا جميعًا ظاهِرَ دمشق مع عسكرها، وكتبوا بخَلعِ الملك الكامل، وظاهروا بالخروجِ عن طاعته، وكتب الأميرُ يلبغا اليحياوي نائِبُ الشام إلى السلطان: " إني أحَدُ الأوصياء عليك، وإن ممَّا قاله الشهيد رحمه الله لي وللأمراء في وصيته: إذا أقمتم أحدًا من أولادي ولم ترتَضوا سيرتَه جُرُّوه برِجْلِه، وأخرِجوه وأقيموا غيره، وأنت أفسَدْتَ المملكة، وأفقَرْت الأمراء والأجناد، وقَتَلْت أخاك، وقبَضْتَ على أكابر أمراء السلطان الشهيدِ، واشتغَلْت عن المُلْك، والتهيتَ بالنساء وشُربِ الخمر، وصِرْتَ تبيع أخيارَ الأجناد بالفِضَّة " وذكر الأميرُ يلبغا اليحياوي له أمورًا فاحِشةً عَمِلَها، فقَدِمَ كتابه في يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى، فلمَّا قرأه السلطان الكامل تغيَّرَ تغيرًا زائدًا، وكتب الكامِلُ الجوابَ يتضَمَّنُ التلطُّفَ في القول، وأخرجَ الأميرَ منجك على البريد إلى الأمير يلبغا اليحياوي في الثاني عشر، ليَرجِعَه عمَّا عزم عليه، فكَثُرَت القالةُ بين الناس بخروجِ نائِبِ الشَّامِ عن الطاعةِ حتى بلغ الأمراءَ والمماليكَ، فطلب الأمراءَ إلى القلعة وأخَذَ رأيَهم، فوقع الاتفاقُ على خروج العسكر إلى الشامِ مع الأمير أرقطاي، وقَدِمَ كتاب نائب الشامِ أيضًا، وفيه خطُّ أمير مسعود بن خطير، وأمير علي بن قراسنقر، وقلاوون، وحسام الدين البقشمدار- يتضمن: "أنك لا تصلُحُ للمُلكِ، وأنَّك إنما أخَذْتَه بالغَلَبة من غير رضا الأمراء"، وعَدَّد ما فعله، ثم قال: "ونحن ما بَقِينا نَصلُحُ لك، وأنت فما تصلُحُ لنا، والمصلحةُ أن تَعزِلَ نَفسَك"، فاستدعى السلطان الكامل الأمراءَ، وحَلَّفهم على طاعته، ثم أمَرَهم بالسفر إلى الشام، فخرجوا من الغد، ثم إنَّ منجك ساعةَ وصولِه دمشق قَبَضَ عليه يلبغا اليحياوي نائِبُ الشام، وسَجَنه بالقلعة، فبعث السلطانُ الطواشي سرور الزينى لإحضارِ أخويه حاجي وأمير حسين، فاعتذرا بوَعْكِهما، وبعثت أمهاتُهما إلى الأمير أرغون العلائي والأمير الحجازي يسألانِهما في التلطُّفِ مع السلطانِ في أمرهما، ثم عرف الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي بما جرى للسلطانِ من تخوُّفِه منهما فتوحَّشَ خاطِرُ كُلٍّ منهما، وانقطع العلائي عن الخدمة وتعَلَّل، وأخَذَت المماليكُ أيضًا في التنكُّر على السلطان، وكاتَبَ بَعضُهم الأمير يبلغا اليحياوي نائِبَ الشام، واتَّفقوا بأجمعهم حتى اشتَهَر أمْرُهم وتحَدَّثَت به العامة، ووافقهم الأميرُ قراسنقر.
وفاة الأمير الحاج سيف الدين آل ملك الجوكندار الناصري .
العام الهجري : 747 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1346
تفاصيل الحدث:
هو الأميرُ الكبيرُ سَيفُ الدين الحاج آل ملك الجوكندار الناصري، نائِبُ السَّلطنة بالديار المصرية، أصله من كسب الأبلستين في الأيام الظاهريَّة بيبرس في سنة 676، واشتراه قلاوون ومعه سلَّار النائب، فأنعم بسلار على ولَدِه علي، وأنعم بآل ملك هذا على ولَدِه الآخر, وقيل قدَّمَه لصِهْرِه الملك السعيد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس، فأعطاه الملك السعيد لكوندك, وترقَّى آل ملك في الخَدَم إلى أن صار من جملةِ أمراء الديار المصرية. وتردَّد للملك الناصر محمد بن قلاوون في الرسليَّة لَمَّا كان بالكرك من جهة المَلِك المظفَّر بيبرس الجاشنكير، فأَعجَبَ الملِكَ الناصِرَ عَقلُه وكلامُه، فلمَّا أن عاد الملك الناصر إلى مُلكِه رقَّاه وولَّاه الأعمالَ الجليلة إلى أن وَلِيَ نيابة السلطنة بديار مصر في دولة الملك الصالح إسماعيلَ بعد أن شَرَط على السلطان ألا يفعَلَ شيئًا في المملكة إلا برأيِه وأنه يمنَعَ الخَمرَ مِن البيع ويقيم منار الشَّرعِ وأنَّه لا يعارَضُ فيما يفعَلُه. فقَبِلَ السلطان شروطه، فكانت له أيادٍ بيضاءُ في الاحتسابِ وإقامةِ مَنارِ الشَّرعِ في مِصرَ والشَّامِ, وأنشأ المدرسة الملكية سنة 719 بالقاهرة وتُعرَفُ بجامع الجوكندار, فلمَّا وليَ الملك الكامل شعبان عَزَله من نيابة مصر, وأخرجه لنيابة صفد، ثمَّ طَلَبه وقَبَض عليه وقتَلَه. وقيل وُجِدَ مقتولًا بالإسكندرية، وأُحضِرَ مَيِّتًا إلى القاهرة في يوم الجمعة تاسِعَ عشر جمادى الآخرة.
خلع السلطان الكامل شعبان وقتله وتولية أخيه المظفر حاجي .
العام الهجري : 747 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1346
تفاصيل الحدث:
إنَّ الأمراءَ كُلَّهم تنكَّروا للسلطان الملك الكامل شعبان لِما ظهر منه من أمورٍ استوجَبَت بُغضَهم له، فألحَّ السلطان في طَلَبِ أخويه المسجونَينِ حسن وحاجي، ثم حصلت بذلك فِتنةٌ وآلت إلى الحرب بين الأمراء، وطَلَب السلطانُ الأميرَ أرغون العلائي واستشاره، فأشار عليه بأن يركَبَ بنَفسِه إليهم، فركِبَ ومعه الأمير أرغون العلائي وقطلوبغا الكركي وتمر الموساوي، وعِدَّة من المماليك، وأمر السلطانُ فدُقَّت الكوسات حربيًّا، ودارت النقباءُ على أجناد الحلقة والمماليك ليركبوا، فركب بعضُهم وسار السلطانُ في ألف فارس حتى قابَلَ الأمراء، فانسَلَّ عنه أصحابُه، وبَقِيَ في أربعمائة فارس، فبَرَز له آقسنقر ووقف معه، وأشار عليه أن ينخَلِعَ من السلطنةِ، فأجابه إلى ذلك وبكى، فتركه آقسنقر وعاد إلى الأمراء، وعَرَّفَهم ذلك، فلم يَرْضَ أرغون شاه، وبدَرَ ومعه قرابغا وصمغار وبزلار وغرلو في أصحابِهم حتى وصلوا إلى السلطان، وسَيَّروا إلى الأمير أرغون العلائي أن يأتيَهم؛ ليأخذوه إلى عند الأمراء، فلم يوافِقِ الأميرُ أرغون العلائي على ذلك، فهَجَموا عليه، وفَرَّقوا من معه، وضربوه بدبوس حتى سَقَط إلى الأرص، فضربه يلبغا أروس بسيف قطَعَ خَدَّه، وأُخِذَ أسيرًا، فسُجِنَ في خزانة شمايل، وفَرَّ السلطان الكامل شعبان إلى القلعة، واختفى عند أمِّه زوجة الأمير أرغون العلائي، وسار الأمراءُ إلى القلعة، وأخرجوا أميرَ حاجي وأمير حسين من سجنِهما، وقَبَّلوا يدَ حاجي، وخاطبوه بالسلطنة، ثم طلبوا الكامِلَ شعبان وسَجَنوه، حيث كان أخواه مَسجونَينِ، ثمَّ قُتِلَ شعبان في يوم الأربعاء وقتَ الظهر، ودُفِنَ عند أخيه يوسف ليلة الخميس فكانت مدة حكمه سنة وثمانية وخمسين يومًا، وجلس حاجي على سريرِ الملك، في يوم الاثنين مستهَلَّ جمادى الآخرة، ولُقِّبَ حاجي بالمَلِك المظَفَّر، وله مِن العمر خمس عشرة سنة، وقَبَّل الأمراءُ الأرض بين يديه، وحَلَف لهم أولًا أنَّه لا يؤذي أحدًا منهم، ولا يخَرِّبُ بَيتَ أحدٍ، وحلفوا له على طاعتِه، وركب الأميرُ بيغرا البريد ليبشِّرَ الأمير يلبغا اليحياوي نائِبَ الشام، ويحَلِّفَه وأمراءَ الشام.
المرينيون يحتلون تونس وينهون دولة الحفصيين فيها .
العام الهجري : 748 العام الميلادي : 1347
تفاصيل الحدث:
بعد وفاةِ أبي يحيى المتوكِّل أبي بكر الحفصي ظهَرَت فِتَنٌ أثارها أمراءُ البيت الحفصي؛ ممَّا أتاح الفرصةَ أمام بني مرين بزعامة مَلِكِهم أبي الحسن علي بن عثمان للانقضاضِ على دولتِهم، فسار إلى تونس واستولى عليها، وفَرَّ أبو الحسن بن أبي حفص عمر الثاني ملك الحفصيينَ، ثمَّ قبض عليه بعد ذلك وقُتِل، فتمَّ للمرينيين مُلكُ المغرب كلِّه الأقصى والأوسط والأدنى.
وقعة بين الأرمن والمسلمين في كوار .
العام الهجري : 748 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1347
تفاصيل الحدث:
قَدِمَ البريدُ مِن حَلَب بأنَّ صاحِبَ سيس جهَّزَ مائتي أرمني إلى ناحية أياس، فلما قَرُبوا من كوار ليهجُموا على قلعتها، قاتَلَهم أربعون من المسلمين، فنصرهم الله على الأرمن، وقَتَلوا منهم خمسينَ، وأسروا ثلاثينَ، وهزموا باقيَهم، فقُتِلَ بكوار عِدَّةٌ مِمَّن أُسِر، وحُمِلَ بقيَّتُهم إلى حلب، فكُتِبَ بالإحسانِ إلى أهل كوار والإنعامِ عليهم.
السلطان المظفر حاجي قتل نائبه بالشام يلبغا اليحياوي .
العام الهجري : 748 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1347
تفاصيل الحدث:
لَمَّا كَثُرَ قَتلُ السلطانِ المظَفَّر حاجي للأمراءِ، أثار حفيظةَ نائِبِ السلطان بالشَّامِ مَلِكِ الأمراء يلبغا اليحياوي عليه، فعَمِلَ على مراسلةِ نائب صفد ونائبِ حماة على أن يتَّفِقوا على قتل السُّلطانِ المظَفَّر كما قَتَل الأمراء؛ حيث زاد شَرُّه وكَثُر الفسادُ، فوافقه نائِبُ حماة في الظاهر، وأوصل الخبَرَ إلى مصر، فسَيَّرَ السلطان جيشًا مع بعض الأمراءِ للقَبضِ على يلبغا وتوليةِ غَيرِه إمرةَ دِمشق، فعَلِمَ بذلك يلبغا فهرب هو وبعضُ مماليكه حتى وصل إلى حماة فاستقبَلَه نائِبُها على أنَّه معه، ولكِنَّه قبض عليه وسجَنَه عنده، ثمَّ في يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخر قتَلَه نائبُ حماة وجهَّزَ رأسَه وأرسَلَه إلى القاهرة للسُّلطانِ المظَفَّر حاجي، وقيل: قُتِلَ يلبغا فيما بين قاقون وغبرة، وكذلك قُتِلَ بغبرة الأمراءُ الثلاثة الذين خرجوا من مِصرَ وحاكمُ الوزير ابن سرد ابن البغدادي، والدوادار طغيتمر وبيدمر البدري، أحد المقَدَّمين، كان قد نَقَم عليه السلطان ممالأةَ يلبغا، ثم أُخِذَت رؤوسهم إلى السلطان، وقَدِمَ أميران من الديار المصرية بالحوطة على حواصل يلبغا وطواشي من بيت المملكة، فتسَلَّم مصاغًا وجواهر نفيسة جدًّا، ورسم ببيع أملاكِه وما كان وقَفَه على الجامِعِ الذي كان قد شرع بعمارته بسوق الخيلِ، ثم طُلِبَ بقيَّةُ أصحابه من حماة فحُمِلوا إلى الديار المصرية وعَدِمَ خَبَرُهم، فلا يُدرى على أيِّ صفة هلكوا, وأصبح نائبًا عن السلطان في دمشقَ الأميرُ سيف الدين أرغون شاه.
اغتيال السلطان المظفر حاجي وتولية أخيه حسن ناصر الدين .
العام الهجري : 748 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1348
تفاصيل الحدث:
هو السُّلطانُ المَلِكُ المظَفَّر سيف الدين حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون، تولَّى السلطنةَ بعد قَتْلِ أخيه السلطان الكامل شعبان، وعُمُرُه خمس عشرة سنة، وقد حلف للأمراءِ ألَّا يؤذيَهم وحَلَفوا له على الطاعةِ، لكِنْ لَمَّا كَثُرَ اشتِغالُه في اللَّعِبِ بالحَمامِ وتقريب الأوباش واللعَّابين وغيرِهم من أرباب الملاهي والفساد، أنكر عليه الأمراءُ أكثَرَ مِن مَرَّة، حتى حصل بينه وبينهم جفاءٌ, وعمل السلطان على التدبيرِ لقَتلِ بَعضِهم، وهم كذلك عَمِلوا على تدبير قَتْلِه، فتحادث الأمراءُ فيما بينهم واتفقوا وتواكدوا جميعًا في يوم الخميس تاسِعَ رمضان على الركوبِ في يوم الأحد ثاني عشر، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمَعِهم لابسين آلةَ الحرب، عند قُبَّة النصر ومعهم النائِبُ أرقطاي، فأرسل السلطان المظفَّر الرَّسولَ إليهم يستخبِرُه عمَّا يريدونَه منه حتى يفعَلَه لهم، فأعادوا جوابَه أنَّهم لا بُدَّ أن يُسلطِنوا غيره، فقال: ما أموتُ إلَّا على ظَهرِ فَرسي، فقَبَضوا على رسولِه، وهمُّوا بالزحف إليه، فمنعهم الأميرُ أرقطاي النائب، فبادر السلطانُ بالركوب إليهم، وأقام أرغون الكاملي وشيخو في الميسرة، وأقام عِدَّةَ أمراء في الميمنة، وسار بمماليكِه حتى وصل إلى قريبِ قُبَّة النصر، فكان أوَّلَ من تركه الأمير أرغون الكاملي والأمير ملكتمر السعيدي، ثمَّ الأمير شيخو، وأتوا الأمير أرقطاي النائب والأمراء، وبقي السلطانُ في نحو عشرين فارسًا، فبَرَز له الأميرُ بيبغا روس والأمير ألجيبغا، فولى فرَسَه وانهزم عنهم، فأدركوه وأحاطوا به، فتقَدَّمَ إليه بيبغا روس، فضربه السلطانُ بطير، فأخذ الضربةَ بتُرسِه، وحمل عليه بيبغا بالرمح، وتكاثروا عليه حتى قَلَعوه مِن سَرجِه، فكان بيبغا روس هو الذي أرداه، وضرَبَه طنيرق فجرح وجهَه وأصابِعَه، وساروا به على فَرَسٍ إلى تربة آقسنقر الرومي تحت الجبل، وذبَحوه من ساعته قبل العَصرِ، وكانوا لَمَّا أنزلوه وأرادوا ذبحه توسَّل إلى الأمراء، وهو يقول: بالله لا تستعجِلوا على قتلي، وخَلُّوني ساعة، فقالوا: فكيف استعجَلْتَ على قتل الناس، لو صَبَرْتَ عليهم صبَرْنا عليك، وصَعِدَ الأمراء إلى القلعة في يومِهم، ونادوا في القاهرة بالأمانِ والاطمئنان، وباتوا بها ليلةَ الاثنين، وقد اتفقوا على مكاتبةِ الأمير أرغون شاه نائب الشام بما وقع، وأن يأخذوا رأيَه فيمن يقيمونَه سلطانًا، فأصبحوا وقد اجتمع المماليكُ على إقامة حسن بن الناصر محمد بن قلاوون في السلطة، ووقعت بينه وبينهم مُراسَلات، فقَبَض الأمراء على عِدَّةٍ مِن المماليك، ووكلوا الأميرَ طاز بباب حسن، حتى لا يجتَمِعَ به أحد، وغَلَّقوا باب القلعة، وهم بآلة الحرب يومَهم وليلة الثلاثاء، وقَصَد المماليك إقامةَ الفتنة، فخاف الأمراء تأخير السلطة حتى يستشيروا نائِبَ الشام أن يقَعَ مِن المماليك ما لا يُدرَكُ فارِطُه، فوقع اتفاقُهم عند ذلك على حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، فتَمَّ أمره، فكانت مُدَّةُ المظَفَّر حاجي سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يومًا، وعُمُره نحو عشرينَ سنة، فقام الأمراءُ بسلطنة حسن هذا، وأركبوه بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان، سنة 748، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان، ولَقَّبوه بالملك الناصر سيفِ الدين قمارى، فقال السلطان للأمير أرقطاى نائب السلطة: يا بة! ما اسمي قمارى، إنَّما اسمي حسن، فقال أرقطاى: يا خوند- يا سيد- واللهِ، إن هذا اسم حَسَنٌ على خيرة الله، فاستقرت سلطنتُه، وحلف له الأمراء على العادة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة.
وفاة الإمام العلامة الحافظ شمس الدين الذهبي .
العام الهجري : 748 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1348
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ شَمسُ الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي خاتمةُ الحُفَّاظ، كان من أسرة تُركمانيَّة الأصل، تنتهي بالولاءِ إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين من أشهَرِ مدن ديار بكر، ولِدَ في كفر بطنا قرب مدينة دمشق في شهرِ ربيع الآخر سنة 673, وهو حافِظٌ لا يُجارَى ولافِظٌ لا يُبارى، أتقَنَ عِلمَ الحديث ورجالَه، ونظَرَ عِلَلَه وأحوالَه، وعرف تراجم الناس وأزال الإبهام في تواريخهم, واشتهَرَ بالعِلمِ والورع؛ قال السيوطي: "حُكِيَ عن شيخ الإسلام أبي الفضلِ ابنِ حَجَر أنَّه قال: شَرِبتُ ماء زمزم لأصِلَ إلى مرتبة الذهبيِّ في الحفظِ, ثم قال السيوطي: والذي أقولُه: إن المحَدِّثين عيالٌ الآن في الرجالِ وغَيرِها من فنونِ الحديث على أربعةٍ: المِزِّي، والذَّهَبي، والعِراقي، وابن حجر" ومُصَنَّفاته كثيرةٌ جِدًّا تُنبِئ عن عِلمِه الزاخر في الحديث والرجال والتاريخ، فله كتب مشهورة، منها: كتاب تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام، وكتاب سير أعلام النبلاء، وله في الرجال كتب كثيرة أشهرها: ميزان الاعتدال في أحوال الرجال، وتذكرة الحُفَّاظ، وطبقات القُراء، وله تعليقات على المستدرك، وله كتاب الكبائر، والطب النبوي، وغيرها كثير يصعُب حَصرُه هنا، وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعةً وقال: "هذا كتابُ عَلَمٍ اجتمَعْتُ به وأخذتُ عنه وقرأتُ عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجِدْ عنده جمودَ المحدِّثين، ولا كَودَنة النَّقلة، بل هو فقيهُ النَّظَر، له دُربة بأقوالِ النَّاسِ ومذاهِبِ الأئمة من السلف وأرباب المقالاتِ، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفِه مِن أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّنَ ما فيه من ضَعفِ مَتنٍ أو ظَلامِ إسنادٍ أو طَعنٍ في رواتِه، وهذا لم أرَ غَيرَه يراعي هذه الفائدةَ فيما يورده. توفي في ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، وصُلِّيَ عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودُفِنَ بباب الصغير.
أوضاع دولة الترك في مصر والشام مع مطلع هذا العام .
العام الهجري : 749 العام الميلادي : 1348
تفاصيل الحدث:
استهل هذا العامُ وسُلطان البلاد المصرية والشاميَّة الملك الناصر ناصر الدين حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونائِبُه بالديار المصريَّة الأميرُ سَيفُ الدين يلبغا، ووزيرُه منجك، وقضاتُه عز الدين بن جماعة الشافعي، وتقي الدين الأخنائي المالكي، وعلاء الدين بن التركماني الحنفي، وموفَّق الدين المقدسي الحنبلي، وكاتِبُ سِرِّه القاضي علاء الدين بن محيي الدين بن فضل الله العمري، ونائب الشام المحروس بدمشق الأمير سيف الدين أرغون شاه الناصري، وحاجب الحجَّاب الأمير طيردمر الإسماعيلي، والقضاة بدمشق قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي، وقاضي القضاة نجم الدين الحنفي، وقاضي القضاة جلال الدين المسلاتي المالكي، وقاضي القضاة علاء الدين بن منجا الحنبلي، وكاتب سِرِّه القاضي ناصر الدين الحلبي الشافعي، وهو قاضي العساكر بحلب، ومدرس الأسديَّة بها أيضًا، مع إقامته بدمشق المحروسة.
وفاة الشيخ عبد الله بن رشيق المغربي كاتب شيخ الإسلام ابن تيمية .
العام الهجري : 749 العام الميلادي : 1348
تفاصيل الحدث:
هو الشَّيخُ عبد الله بن رشيق المغربي، كاتِبُ مُصَنَّفات العلَّامة ابن تيمية، كان أبصَرَ بخَطِّ الشيخ منه، إذا عَزَب شيءٌ منه على الشيخِ استخرجه عبدُ الله هذا، وكان سريعَ الكتابةِ لا بأس به، دَيِّنًا عابدًا كثيرَ التلاوة حَسَن الصلاة، له عيالٌ وعليه ديونٌ.
الفتنة بالكرك بين بني نمير وبني ربيعة .
العام الهجري : 750 العام الميلادي : 1349
تفاصيل الحدث:
اشتَدَّت الفتنة في بلاد الكرك بين بني نمير وبني ربيعة، فإن المَلِكَ الناصر محمد بن قلاوون كان لَمَّا أعياه أمرُهم وتحصُّنُهم بجبالهم المنيعة، أخذ في الحيلة عليهم، وتقَدَّم إلى شطي أمير بني عقبة، وإلى نائب الشام ونائب غزة ونائب الكرك، بأن يدخُلوا إلى البرية كأنهم يصطادونَ ويوقعونَ بهم، فقبضوا على كثيرٍ منهم، وقَتَلوا في جبالهم خلقا كثيرًا منهم، وحَبَسوا باقيَهم حتى ماتوا، فسَكَن الشرُّ بتلك الجهات إلى أن كانت فتنةُ الناصر أحمد بن محمد بن قلاوون بالكرك سنة 743، عاد بنو نمير وبنو ربيعة إلى ما كانوا عليه من الفسادِ، وقَوِيَ أمرهم، فلما كان هذا العام رَكِبَ إليهم الأمير جركتمر نائب الكرك، وطلع إليهم فقاتلوه، وقتلوا من أصحابِه عشرة، وكسروه أقبحَ كَسرةٍ، فكتب لنائب الشام الأمير أرغون شاه بتجهيز عسكرٍ لقتالِهم.
وفاة الشيخ علاء الدين المارديني التركماني الحنفي .
العام الهجري : 750 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1349
تفاصيل الحدث:
هو الإمامُ الشيخ علاءُ الدين علي ابنُ القاضي فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني الحنفي المعروف بالتركماني، ومولِدُه في سنة 683، كان إمامًا فقيهًا بارعًا نحويًّا أصوليًّا لغويًّا، أفتى ودرَّس واشتغل وألَّف وصَنَّف، وكان له معرفةٌ تامَّةٌ بالأدب وأنواعه، وله نظمٌ ونَثرٌ، كان إمامَ عَصرِه لا سيَّما في العلوم العقلية والفقه أيضًا والحديث، وتصدى للإقراءِ عِدَّة سنين، وتولى قضاء الحنفيَّة بالديار المصرية في شوال سنة 748، عوضًا عن قاضي القضاة زين الدين البسطامي، وحسُنَت سيرته، ودام قاضيًا إلى أن مات، وتولى عِوَضَه ولده جمال الدين عبد الله، من مصَنَّفاته كتاب بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب، والمنتخب في علوم الحديث، والمؤتلف والمختلف، والضعفاء والمتروكون، والدر النقي في الرد على البيهقي، ومختصر المحصل في الكلام، ومقدمة في أصول الفقه، والكفاية في مختصر الهداية، ومختصر رسالة القشيري، وغير ذلك. توفِّيَ يوم الثلاثاء عاشرَ المحَرَّم بالقاهرة.
قتال العشير والعربان بسبب كثرة فسادهم ببلاد القدس ونابلس .
العام الهجري : 750 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1349
تفاصيل الحدث:
في عاشر جمادى الآخرة خرجت التجريدة- جيش بدون رجالة- من مصرَ إلى قتال العشير والعُربان، وسببه كثرةُ فسادهم ببلاد القُدس ونابلس، وكان قد قُبِضَ على أدى بن فضل أمير جرم، وسُجِن بقلعة الجبل، ثم أُفرِجَ عنه بعناية الوزير منجك، فجمع أدى وقاتل سنجر بن علي أمير ثعلبة، فمالت حارثة مع أدى، ومالت بنو كنانة مع سنجر، وجرت بينهم حروبٌ كثيرة، قُتِلَ فيها خلائق، وفسدت الطرقاتُ على المسافرين، فخرجت إليهم عساكِرُ دمشق، فلم يَعبؤوا بهم، فلمَّا وَلِيَ الأمير يلجك غزة استمال أدى بعد أيام، وعَضَّده على ثعلبة، واشتدت الحروب بينهم، وفسدت أحوالُ الناس، فركب يلجك بعسكر غزة ليلًا، وطرَقَ ثعلبة، فقاتلوه وكَسَروه كسرةً قبيحة، وألقَوه عن فرسه إلى الأرض، وسَحَبوه إلى بيوتهم فقام سنجر بن علي أمير ثعلبة عليهم حتى تركوا قَتْلَ يلجك، بعد أن سَلَبوا ما عليه، وبالَغوا في إهانته، ثم أفرجوا عنه بعد يومينِ، فعاد يلجك إلى غزة، وقد اتَّضَع قَدرُه وتَقَوَّى العشير بما أخذوه من عسكره، وعَزَّ جانبهم، فقصدوا الغور، وكبسوا القصيرَ المعيني، وقتلوا به جماعةً كثيرة من الجبلية وعمال المعاصر، ونهَبوا جميعَ ما فيه من النقود والأعمال والعسكر وغيره، وذبحوا الأطفالَ على صدر الأمهات، وقطعوا الطُّرُقات، فلم يَدَعوا أحدًا يمر من الشام إلى مصر حتى أخَذوه، وقصدوا القدس، فخلى الناسُ منه ثم قصدوا الرملةَ ولِدَّ فانتهبوها، وزادوا في التعدي، وخرجوا عن الحد، فوقع الاتفاقُ على ولاية الأمير سيف الدين دلنجي نيابة غزة، وأبقى على إقطاعه بمصر، وخلع عليه وأخرج إليها وكَتَب بخروج ابن صبح من دمشق على ألفي فارس، وتجهَّز الوزير منجك ومعه ثلاثةُ أمراء من المقَدَّمين في يوم السبت الرابع عشر، وبينما الوزير ومن معه في أُهبة السفر إذ قدم الخبر أن الأمير قطيلجا توجَّه من حماة إلى نيابة حلب، عوضًا عن الأمير أرقطاي, وقد قَدَّم الوزير النجابةَ لكشف أخبار العشيرة، فلما رحل عن بلبيس عادت نجابتُه بأن ثعلبة ركبت بأجمعها، ودخلت بريَّة الحجاز، لَمَّا بلَغَهم مسير العسكر إليهم، فنهب أدى بن فضل كثيرًا منهم، وانفرد في البلاد بعشيرة، فعاد الوزيرُ بمن معه، وعبَرَ القاهرة في الثاني عشر بعد أربعة أيام، ثم في مستهَلِّ رجب قَدِمَ الخبر بأن الأمير دلنجي نائب غزة بلغه كثرةُ جميع العشيرة، وقَصْدهم نهب لد والرملة، فركب إليهم ولقيهم قريبًا من لد، منزل تجاههم، وما زال يراسِلُهم ويخدعهم حتى قدم إليه نحو المائتين من أكابِرِهم، فقبضهم وعاد إلى غزة، وقد تفَرَّق جمعهم، فقدم الأمير قبلاي غزة، واحتال على أدى حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم ردَّه بزوادة إلى أهلِه فاطمأنت العشرات والعُربان لذلك، وبقُوا على ذلك إلى أن أهلَّ رمضان، ثم حضر أدى في بنى عَمِّه لتهنئة قبلاي بشهر الصومِ، فساعة وصوله إليه قُبِضَ عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقَيَّدَهم وسَجَنَهم، وكتب إلى سنجر بن علي: "بأني قد قبضت على عدوِّك ليكونَ لي عندك يدٌ بيضاء، فسُرَّ سنجر بذلك، وركب إلى قبلاي، فتلقَّاه وأكرمه، فضَمِنَ له سنجر درك البلاد، ورحل قبلاي من غده ومعه أدى وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الاثنين حادي عشر، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضَربًا مبرحًا وألزم أدى بألفِ رجل ومائتي ألف درهم، فبَعَث إلى قومه بإحضارها، فلما أُخِذَت سُمِّرَ هو وبنو عمه في يوم الاثنين خامس عشر وقت العصر، وسُيِّروا إلى غزة صحبة جماعةٍ من أجناد الحلقة، فوُسِّطوا- قُتلوا- بها، فثار أخو أدى، وقَصَد كبس غزة، فخرج إليه الأميرُ دلنجي ولَقِيَه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتَلَه في اليوم الرابع بسَهمٍ أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى القاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته.
معركة بين بني مرين وبني عبد الواد بنو زيان .
العام الهجري : 751 العام الميلادي : 1350
تفاصيل الحدث:
بعد أن خرج أبو الحسن المريني من تونُسَ وعاد الحفصيُّون إلى تمَلُّكِها، رَكِبَ أبو الحسين الزيان البحر يريد الجزائرَ ومعه ستمائة سفينة، وفي الطريق غرقت أكثر السفن من الرياح والأمواج العالية، فوصل بعدد قليلٍ إلى الجزائر، وكانت بنو عبد الواد بنو زيان قد تجهزت لاسترداد ملكهم من بني مرين الذين استولوا على الجزائر من سنة 748 وحاول أبو الحسن هذا أن يصدَّهم عنها مستعينًا بقلة ممن نجا معه من الرجال فجرت بين الفريقين حروبٌ هُزم فيها أبو الحسن وولَّى هاربًا بعد أن قُتِلَ ابنه الناصر في هذه الحروب.
===================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...