حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

2. سورة البقرة {ج1}

سُورَةُ البَقَرَةِ
مقدمة السورة

أسماء السُّورة:
1- سمِّيت هذه السُّورةُ الكريمة، سورةَ البَقرة .
فعن أَبي مَسعودٍ عُقبةَ بن عمرو رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((مَن قرَأ بالآيتَينِ مِن آخِرِ سورةِ البَقرةِ في ليلةٍ كفَتاه )) .
2- سمِّيت هي وسورة آل عِمران، الزَّهراوينِ .
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول: ((اقْرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شَفيعًا لأصحابه، اقرَؤوا الزَّهرَاوَيْنِ : البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ ...))
.
فضائلُ السُّورة وخصائصُها:
لهذه السُّورة الكريمةِ فضائلُ متعدِّدة، منها:
1- أنها تُنفِّر الشيطانَ من البَيت الذي تُقرأ فيه
فعَن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((لا تَجْعَلوا بُيوتَكم مقابرَ؛ إنَّ الشيطانَ ينفِرُ من البيتِ الذي تُقرأ فيه سورةُ البَقرة )) .
2- أنَّها وآلَ عمران تُدافعانِ عن قارئِهما يومَ القيامة، وفي قِراءتِها والعملِ بما فيها حصولُ البَركات لصاحبِها
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول: ((اقْرَؤوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شَفيعًا لأصحابه، اقرَؤوا الزَّهرَاوَين: البقرةَ، وسورةَ آلِ عمرانَ؛ فإنَّهما تأتِيان يومَ القِيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ ، أو كأنَّهما غَيايتانِ ، أو كأنهما فِرْقانِ من طَيرٍ صوافَّ ، تُحاجَّان عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها بَركةٌ، وتركَها حَسرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلَةُ ))، قال معاويةُ ابن سلام -أحد رجال سند الحديث-: بلغَني أنَّ البطلَةَ السَّحرةُ .
3- تعظيمُ الصَّحابة رضي الله عنهم لقارئِها هي وآل عمران
فعن أَنسٍ رضي الله عنه، قال: ((كان الرجلُ إذا قرَأَ البَقرة وآل عمران، جَدَّ فينا- يعني: عظُم- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ ))
.
بيان المَكِّي والمَدني:
سورة البَقرة سورةٌ مدنيَّة، نزلتْ بعد الهِجرة، ونقَل الإجماعَ على ذلك عددٌ من المفسِّرين
.
مقاصِد السُّورة :
مَن أهمِّ المقاصد التي تضمَّنتها سورةُ البقرة:
1- الاهتمامُ بالجانب العَقديِّ؛ فقد بيَّنت السورة الكثيرَ من أصول العقيدة، وأدلَّة التوحيد، وبراهين البعث .
2- بيانُ جوانبَ من التَّشريع الإسلاميِّ، سواءً في العِبادات، أو الأحوال الشخصيَّة، أو المعاملات الماليَّة، أو الحدود، وغير ذلك
.

موضوعات السُّورة:
من أَبرزِ الموضوعاتِ التي تناولتْها سورةُ البَقرة:
1- وصْف أصناف النَّاس، حيثُ قسَّمتْهم ثلاثةَ أقسام، هم: المؤمنون، والكافِرون، والمنافقون.
2- وصيَّةُ الناس كافَّةً بعبادة ربِّهم، مع ذِكر بعض نِعمه الجليلة عليهم، التي تدلُّ على استحقاقِه سبحانَه وتعالى للعبادة وحْده، مع تحذيرهم إنْ لم يمتثلوا هذا الأمر، وتبشير مَن امتثل منهم بما أعدَّه الله تعالى له من النَّعيم المقيم.
3- بداية خَلْق الإنسان، وحوار الله عزَّ وجلَّ مع ملائكتِه.
4- قِصَّة استخلاف آدَم في الأرض، وقصَّته مع الشيطان.
5- عَرْض أبرز الأحداث التي وقعتْ لبني إسرائيل.
6- قِصَّة ابتلاء إبراهيمَ بالكلمات، وبنائِه الكعبةَ مع ولده إسماعيل، ووصيَّته لأبنائه ويعقوب، ووصية يعقوب لأبنائِه.
7- عَرْض مجموعة من الأحكام الشرعيَّة في جانب العبادات، تتعلَّق بالصَّلاة والصَّدقة، والصَّوم، والحجِّ، وفي جانب المعاملات، كالرِّبا والدَّيْن، والرَّهن، وكذلك في جانب الأُسْرَة من النِّكاح والطَّلاق والإيلاء والعِدَد، وغير ذلك من أحكام.
8- عَرْض وقائع في إحياء الله الموتى، ومنها: (قصة قتيل بني إسرائيل، وقصة الذين أصيبوا منهم بصاعقة أماتتهم، وقِصَّة الذين خرَجوا من دِيارهم وهم أُلوف حذرَ الموت، وقِصَّة الذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها، وقصَّة إبراهيم عليه السَّلام مع الطَّير).
9- قِصَّة طالوت وجالوت مع الملأ من بني إسرائيل من بعدِ موسى عليه السَّلام.
10- قصَّة الذي حاجَّ إبراهيمَ عليه السَّلام في ربِّه. ===============
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (1-5)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
غريب الكلمات:
رَيْب: الرَّيب: الشكُّ، أو هو الشكُّ مع الخَوف، ومع تُهمَة المشكوكِ فيه، وتوهُّمُ أمْرٍ ما بالشَّيء، والرَّيب مصدر رابني الشيء: إذا حصل فيه الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها
.
لِلْمُتَّقِينَ: الذين يقُون أنفسهم تَعاطي ما يُعاقَب عليه من فِعل أو تَرْك، والتقوى جعْل النفس في وقاية مما تخاف، وأصل الاتِّقاء: الحَجْز؛ كأنَّهم وضعوا بينهم وبين العذاب حاجزًا يقيهم .
يُوقِنُونَ: يعلمون علمًا متمكِّنًا في نفوسهم لا يمكن أن يدخله شكٌّ، وأصل اليقين: زوال الشَّكِّ .
الْمُفْلِحُونَ: أي: الظَّافرون بما طلبوا، الباقون في الجنة؛ فأصل الفَلَاح: الظَّفَرُ وإدراك البُغية، والبقاء
.
مشكل الإعراب:
1- قوله: الم حروف لا محلَّ لها من الإعراب
.
2- قوله: هُدًى: منصوب على الحال من (ذا، أو الكتاب، أو مِن الهاء في فِيه). ويجوز أن يكون (هدى) مرفوعًا بضمَّةٍ مقدَّرةٍ، على أنَّه مُبتدأ، وخبره: شبه جملة (فيه). أو يُرفع على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو هدى، أو خبر ثان لاسم الإشارة (ذلك). وعلامة إعرابه في الجميع مُقدَّرة؛ للتعذُّر
.
المعنى الإجمالي:
افتُتِحَت هذه السورةُ العظيمة بالحروف المقطَّعة؛ لبيان إعجاز القرآن؛ إذ تُبرِزُ عجزَ الخَلْق عن معارضته بالإتيان بشيءٍ من مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يتحدَّثون بها!
وهذا القرآن لا شكَّ في أنَّه نزَل من عند الله عزَّ وجلَّ، وهو هُدًى من الضلالة للمتَّقين، المصدِّقين المقرِّين بالغيب، المؤدِّين الصلواتِ على أكملِ وجه، المنفقين من طيِّب ما رزَقهم الله، المصدِّقين بالقرآن وبجميع الكتُب السماويَّة السابقة المنزلَة من عند الله عزَّ وجلَّ، الموقِنين بالبعث والنُّشور، والثَّواب والعِقاب، والحساب والميزان، وغير ذلك ممَّا أعدَّ الله تعالى لخَلْقه يوم القيامة، ثم أخبر الله عزَّ وجلَّ عن هؤلاء المتَّقين المتَّصفين بجميع ما تقدَّم ذِكرُه، بأنَّهم على نورٍ وبُرهان وبصيرة من ربِّهم سبحانه، وأنهم وحْدهم دون غيرهم، هم الفائِزون والناجون.
تفسير الآيات:
الم (1).
هذه الحروفُ المقطَّعة التي افتُتِحَت بها هذه السُّورة وغيرها، تأتي لبيان إعجازِ القرآن؛ حيث تُظهِر عجْزَ الخَلْق عن معارضته بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروف العربيَّة التي يتحدَّثون بها
!
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان المرادُ بـ الم أنَّ هذا الكتاب من جِنس حُروفكم التي قد فُقتُم في التكلُّم بها سائرَ الخلق، ومع ذلك أنتم عاجزون عن الإتيان بسورةٍ مِن مثلِه؛ لأنَّه كلامُ الله- أشار إلى كمالِه، فأُشير إليه بأداة البُعد في قوله ذَلِكَ الْكِتَابُ؛ لعلوِّ مقدارِه، وجلالة آثارِه، وبُعد رتبته عن المحرومين. ولما عُلم كمالُه، أشار إلى تعظيمه بالتصريحِ بما يستلزمه ذلك التعظيمُ، فقال: لاَّ رَيْبَ فِيهِ .
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.
أي: إنَّ هذا القرآن، لا شكَّ في أنَّه حقٌّ في ذاته، وأنَّه نزَل من عند الله تعالى ، كما أنَّه لا يتضمَّن ما يوجب الرَّيْب .
كما قال تعالى: الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 1-2] .
وقال سبحانه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
أي: إنَّ القرآن هدًى من الضلالة، ونورٌ وتبيان للذين يتَّقون غضبَ الله تعالى وعقابَه، بامتثال ما أَمَر الله تعالى به، واجتنابِ ما نَهَى عنه .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3).
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
أي: إنَّ مِن صفات المتَّقين أنَّهم يُصدِّقون ويُقِرُّون بالغيب .
والغيبُ هو: كلُّ ما غاب عن العَبد، ومن الإيمان بالغيب: الإيمانُ بالله تعالى، وملائكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِر .
يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ.
أي: يؤدُّون الصَّلوات بحدودِها، وفروضِها، وواجباتها، كما أمَر الله عزَّ وجلَّ .
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
أي: يُخرِجُون من طيِّب ما أعطاهم ربُّهم من الأموال .
والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4).
والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ.
أي: إنَّ من صِفات المتقين أيضًا، أنَّهم يؤمنون بالقرآن الذي أُنزل إلى محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ويُؤمنون أيضًا بجميع الكتُب السماويَّة السابقة، من قَبل بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] .
وقال سبحانه أيضًا: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [العنكبوت: 46] .
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
أي يؤمنون إيمانًا لايتطرَّق إليه شكٌّ بالبعث والنُّشور، والثواب والعِقاب، والحِساب والميزان، وغير ذلك ممَّا أعدَّ الله تعالى لخلْقِه يومَ القِيامة .
أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5).
أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ.
أي: إنَّ المتَّصفين بجميعِ ما تقدَّم ذِكرُه من صِفات المتقين، على نورٍ وبُرهانٍ وبصيرةٍ من ربِّهم سبحانه .
وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أي: وهم أيضًا فائزونَ بإدراك ما طلَبوا، وبالنَّجاة ممَّا منه هرَبوا
.
الفَوائِد التربويَّة:
1- أنَّ التقوى في القلْب هي التي تؤهِّل العبدَ للانتفاع بهذا الكتاب؛ فكلُّ مَن كان أتقى لله تعالى، كان أقوى اهتداءً بالقرآن الكريم؛ لأنَّ الهدى عُلِّق بوصفٍ في قوله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، والحُكم إذا عُلِّق بوصف، كانتْ قوة الحُكم بحسَب ذلك الوصفِ المعلَّق عليه
.
2- في قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] ، دلالةٌ على أهميَّة الإيمان بالآخِرة؛ لأنَّ الإيمان بها يستلزم الاستعدادَ لها بالأعمال الصَّالحات، وترْك المحرَّمات
.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- بيان علوِّ القرآن؛ لقوله تعالى: ذَلِكَ؛ فالإشارة بالبُعد تُفيد علوَّ مرتبته؛ وإذا كان القرآن عاليَ المكانة والمنزلة، فلا بدَّ أن يعود ذلك على المتمسِّك به بالعلوِّ والرِّفعة؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] ؛ وكذلك ما وُصِف به القُرآنُ كالكرَم، والعظَمة، فإن للمشتغل به نصيبًا من ذلك
.
2- نفي الرَّيْب عن القرآن في قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] ، يدلُّ على ثبوت كمال ضدِّه، فهو يُورث كمال اليقين؛ لما يتضمَّنه من الحجج والبراهين والدَّلائل التي لا تترك في الحقَّ لبسًا. والنفي الوارد في باب صفات الله تعالى، أو الملائكة، أو النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أو القرآن، يدل على ثبوت كمال ضدِّه .
3- في قوله تعالى: ذَلِكَ الكِتَابُ إشارةٌ إلى ما سيؤول إليه أمر القرآن من كونه مكتوبًا ومجموعًا في كتابٍ واحد .
4- قال تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، ولم يقُل: يفعلون الصَّلاة، أو يأتون بالصَّلاة؛ لأنَّه لا يكفي فيها مجرَّدُ الإتيان بصورتها الظاهرة؛ فإقامة الصَّلاة، إقامتها ظاهرًا بإتمام أركانها، وواجباتها، وشروطها، وإقامتها باطنًا بإقامة رُوحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبُّر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصَّلاة هي التي قال الله فيها: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وهي التي يترتَّب عليها الثوابُ .
5- كثيرًا ما يجمع الله تعالى بين الصَّلاة والزَّكاة في القرآن؛ وذلك لأسباب، منها: أنَّ الصَّلاة متضمِّنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنَّفقة متضمِّنة للإحسان إلى عَبيدِه ، وسعادةُ العبدِ دائرةٌ بينَ الأمرَيْن، كما أنَّ الصلاةَ رأسُ العباداتِ البدنيةِ، والزكاةَ رأسُ العباداتِ الماليةِ، والعباداتُ راجعةٌ إلى هذين.
6- في الإتيان بـمِن التي هي للتبعيض في قوله: مِـمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ إيماءٌ إلى كون الإنفاق المطلوب شرعًا، هو إنفاقُ بعض المال؛ لأنَّ الشريعة لم تُكلِّف الناس حرجًا، وهذا البعض يقلُّ ويتوفَّر بحسب أحوال المنفقين .
7- في قوله سبحانه: رَزَقْنَاهُمْ إشارة إلى أنَّ هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلةً بقوَّتكم وملككم، وإنَّما هي رِزق الله الذي خوَّلكم، وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضَّلكم على كثيرٍ من عباده، فاشكروه بإخراج بعضِ ما أنعم به عليكم، وواسوا إخوانَكم المعدَمين .
8- في قوله تعالى: مِـمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ دلالةٌ على أنَّ الإنفاقَ من غير الزَّكاة لا يتقدَّر بشيءٍ معيَّن؛ لإطلاق الآية، سواء كانت «مِن» للتبعيض؛ أو للبيان .
9- في قوله تعالى: مِـمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، لم يذكر المعمولَ (المنفَق ذاته، والمنفَق عليهم)؛ لكثرة أسبابِه، وتنوُّع أهلِه .
10- في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4] ، بدأ بالقرآن مع أنَّه آخِر الكتُب السماوية زمنًا؛ لأنَّه مهيمنٌ على الكتُب السابقة، وناسخٌ لها .
11- في قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] ، نصَّ جلَّ وعلا على الإيقان بالآخِرة مع دخولِه في الإيمان بالغيب لأهميَّته؛ لأنَّ الإيمان بها يُحمل على فِعل المأمور، وترْك المحظور .
12- في قوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] ، دلالةٌ على أنَّ الفلاحَ مرتَّبٌ على الاتِّصاف بما ذُكر؛ فإنِ اختلَّت صفةٌ منها، نقَص من الفلاح بقدْر ما اختلَّ من تلك الصِّفات؛ وذلك لأنَّ الحكمَ المعلَّق على وصفٍ، يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فالصحيح من قول أهل السُّنة والجماعة، والذي دلَّ عليه العقلُ والنقل، أنَّ الإيمان يَزيد، وينقص، ويتجزَّأ؛ ولولا ذلك ما كان في الجناتِ درجاتٌ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فيه من أوجه البلاغة:
- الإشارة للبعيد في ذَلِكَ بإدخال اللام، إشارة إلى علوِّ منزلة هذا الكتاب وشَرَفه، وبُعد مرتبته وعلوِّها على مرتبة كلِّ كتابٍ سواه
.
- الْكِتَابُ جاء معرَّفًا بالألف واللام؛ للتَّفخيم لأمْره، ولبيان علوِّ شأنه .
- هُدًى: وُضِع المصدر هُدًى موضِعَ اسم الفاعِل (هادٍ)؛ للتأكيد على دَيمومة هِدايتِه واستمرارِها، وجاء منكَّرًا للتعظيم، وللدَّلالة على أنها هداية مُطلَقة لكل متَّقٍ في كلِّ ما يَحتاج إليه الخَلقُ للوصول إلى السعادة في الدَّارين .
- وفي هذه الجُمل الأربع: الم، ذلِكَ الْكِتابُ، لا رَيْبَ فِيهِ، هُدًى لِلْمُتَّقِينَ: جمالُ بلاغة؛ حيثُ جِيء بها متناسقةً هكذا من غير حرْف عَطْف؛ وذلك لمجيئها متآخيةً آخذًا بعضها بعُنق بعض؛ مع ما في كلِّ جملة مِن نُكتةٍ ذات جَزالة، ففيها ما يُسمَّى عند البَلاغيِّين بـ(الفصْل) -وهو عدم عطف الجمل بالواو-؛ لكمال الاتِّصال بينها .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
- فيه حُسن ترتيب، وتقديمٌ للأهمِّ فالأهم؛ فالإيمانُ بالغيب لازمٌ للمكلَّف دائمًا، والصَّلاةُ لازمة في أكثرِ الأوقات، والنَّفقة لازمة في بعض الأوقات .
- تقديم المفعول مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ على الفِعل يُنْفِقُونَ: للاهتمامِ به، وللدلالة على كونه أهمَّ، ولإفادة الاختصاص، ولتناسب رُؤوس الآي .
3- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
- في قوله أُنْزِل: عبَّر عنه بلفظ الماضي، وإن كان بعضه مترقَّبًا؛ تغليبًا للموجود على ما لم يوجد، أو تنزيلًا للمنتظَر منزلةَ الواقِع؛ ففي هذا التعبير تغليبٌ المحقَّق على المقدَّر، وتنزيل ما في شَرَف الوقوع لتحقُّقه منزلةَ الواقع .
- وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ: فيه تقديم لشِبه الجملة بِالْآخِرَةِ؛ للاهتمام بأمْرها، والإشعارِ بالحَصْر والاختصاص، كأنَّ ما عدا الإيقانَ بالآخرة ليس بمستأهلٍ للإيقان به، والقطعِ بوقوعِه؛ فهو أساسُ الإيمان ورأسُه .
- التأكيدُ بالجُملة الاسميَّة، مع أنَّها معطوفةٌ على جملة فعليَّة، آكَدُ في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، ومُشعِر بالاهتمام بهم. وذكر الضَّمير الظاهر (هم) مع أنَّه موجود في الفِعل (يوقنون)؛ زيادةً في التأكيد .
4- قوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- فيه الإتيان بحرْف على الذي يُفيد الاستعلاء؛ إشارة إلى تمكُّنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسُّكهم به .
- تنكير هُدًى؛ ليُفيد ضربًا مُبهمًا لا يُبلَغ كُنْهُه، ولا يُقادَر قَدرُه، كأنه قيل: على أي هدًى، كما تقول: لو أبصرتَ فلانًا لأبصرتَ رجلًا .
- تَكرير اسم الإشارة أُوْلَـئِكَ وَأُوْلَـئِكَ؛ للتَّأكيد، والعِناية بشأن المتَّقين، وللإشارة إلى علو مرتبتهم، وفيه دَلالةٌ على أنَّ كُلًّا من الهدى والفلاح مستقلٌّ بتميزهم به عن غيرهم، بحيث لو انفرد أحدُهما لكفى تميزًا على حِياله .
- الإتيان بحَرْف العطف (الواو) في المبتدأ الثاني؛ لاختِلافِ الخَبرين وجودًا ومقصودًا، واستقلالِ كلٍّ من الهُدَى والفَلاح بتميُّزهم به عن غيرهم، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأوَّل، لم يدخل العاطف؛ لأنَّ الشيءَ لا يُعطف على نفْسِه، كما في قوله تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .
- الإتيان بضَمير الفَصل هُمْ للتأكيد والحصر، ورفْع توهُّم مَن يَتشكَّك، أو يتوهَّم التشريك فيه، كأنَّه قال: هم المفلحون لا غيرهم .
- ودخول الألف واللام على الخبر الْمُفْلِحُونَ فيه إشعار بالحصْر كذلك، كأنَّهم قد استحقُّوا الوصف الكامل من الفلاح .
- وفي هذه الآياتِ حُسن تقسيم؛ حيث استَوعبت جميعَ الأوصاف المحمودة، والعبادات البَدنيَّة والماليَّة التي يعكُف عليها المؤمِنون
.
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (6-7)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
غريب الكلمات:
أَأَنْذَرْتَهُمْ: أأعلمتهم بما تحذِّرهم منه، وأصل الإِنْذار: إخبارٌ فيه تخويف، أو الإبْلاغُ
.
خَتَمَ: طبَع على الشَّيء ووسَمه، وسدَّه وربَطَه، والخاتِم بمنزلة الطَّابِع .
غِشَاوَةٌ: غِطاء وسَاتر، مِن غشِي الشَّيءَ، أي: غَطَّاه وستَرَه
.
مشكل الإعراب:
قوله: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ سواء مبتدأ مرفوع، وأأنذرتهم خبره، وجملة سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ... خبر إنَّ. ويجوز أن يكون سَوَاءٌ خبرَ إنَّ، وما بعده مرفوع بفِعله وسدَّت هذه الجملةُ مسدَّ الخبر، والتقدير: يَستوي عندهم الإنذارُ وتركُه. ويجوز أن يكون خبرُ إنَّ قولَه: لَا يُؤْمِنُونَ، وما بينهما اعتراض. وقيل غير ذلك
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِر الله عزَّ وجلَّ عن الكافرين، بأنَّ الإنذار وعدمَه عندهم سِيَّانِ، فهم سواء أُنذروا أم لم يُنذَروا، لا يُصدِّقون بما جاءهم به محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الحق؛ وذلك أنه قد طبَع الله على قلوبهم وسمعِهم؛ فلا ينفعهم الهُدى، وجعَل على أبصارهم غطاءً، فلا يُبصرون ما يَهديهم، وجزاء هؤلاء الكافرين عذابُ النار.
تفسير الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(6).
أي: إنَّ هؤلاء الذين كفروا، يتساوى في حقِّهم كِلا الأمرين، الإنذارُ وعدمه، فهم في كِلا الحالين لا يؤمنون بما جِئتَهم به- يا أيُّها الرسولُ- من الحقِّ
.
خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ(7).
خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ.
أي: طَبَع اللهُ عليها، فلا يَنتفعون بهُدى .
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ.
أي: عليها غِطاء، فلا يُبصرون هُدًى .
وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ.
أي: عذابُ النَّار
.
الفَوائِد التربويَّة:
على المسلم أن يتفقَّدَ قلبَه؛ فهو محلُّ الوعي، ومَن لا يشعُر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله تعالى، فإنَّ فيه شَبهًا من الكفَّار الذين لا يتَّعظون بالمواعظ، ولا يُؤمِنون عند الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، كما قال سبحانه عنهم: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ...، تسليةٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ حين يردُّه الكفَّار، ولا يَقبلون دعوتَه
.
2- في قوله سبحانه: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، قيل: جمَع القلوب والأبصار، ووحَّد السَّمع لوجوه:
أحدها: أنه وحَّد السَّمع؛ لأنَّ لكلِّ واحد منهم سمعًا واحدًا، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كلِّ واحد منهما، يُقال ذلك إذا أُمِن اللبس.
الثاني: أنَّ السَّمع مصدرٌ في أصله، والمصادر لا تُجمع، يقال: رَجُلان صَوْمٌ، ورجالٌ صَومٌ، فرُوعي الأصل؛ ومما يدلُّ على ذلك جمع الأذن في قوله: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] .
الثالث: أن نُقدِّر مضافًا محذوفًا، أي: وعلى حواسِّ سمعهم.
الرابع: أنَّ ما قبل لفظ السَّمع وما بعدَه ذُكر بلفظ الجمع، وذلك يدلُّ على أنَّ المراد منه الجمع أيضًا
.
بلاغة الآيات:
1- في قوله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
- في قوله: أأنذرتهم عدَل عن المصدر (إنذارهم) إلى الفعل؛ لما فيه من إيهام التجدد
.
- في قوله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ حسُن دخول الهمزة، و(أَمْ)؛ لتقرير معنى الاستواء وتأكيده .
2- قال تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ في قوله: وَعَلَى سَمْعِهِمْ تكرَّر حرْف الجر؛ لتأكيد المعنى؛ فهم لا يَسمعون حقَّ السَّمع .
3- قوله: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ جاءت غِشَاوَةٌ نكرة؛ للتفخيم والتهويل، وليفيد أنَّ على أبصارهم نوعًا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاءُ التعامي عن آيات الله تعالى .
4- في قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ تنكير عَذَابٌ؛ للتفخيم والتهويل والمبالغة، وللإشارة إلى أنَّه نوعٌ منه مجهول الكمِّ والكيف. ووصفُه بـعَظِيمٌ؛ لتأكيد ما يُفيده التنكيرُ في عَذَابٌ، ولدفْع الإيهام بقلَّته ونُدرته، ولتأكيد أنَّه بالغٌ حدَّ العظمة، وأنَّ لهم من بين الآلام العِظام نوعًا عظيمًا لا يعلم كُنهَه إلا اللهُ
.==================
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (8-20)
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
غريب الكلمات:
يُخَادِعُونَ: أي: يُظهِرون غير ما في نُفوسهم. وأصل الإخداع: إخفاء الشَّيء
.
مَرَضٌ: أي: شكٌّ ونفاق، وأصلُ المرض: الفُتور، والخروج عن الاعتدال الخاصِّ بالإنسان .
السُّفَهَاءُ: أي: الجهلة، وأصل السَّفه: الْجَهْل، والخفَّة في البَدن والعقل، والضَّعْف والحُمق، واستُعمل في خِفَّة النفس؛ لنُقصان العقل .
شَيَاطِينِهِمْ: رؤوسهم فى الكفر ومردتهم، جمْع شيطان، وهو كلُّ عاتٍ متمرِّد من الجنِّ والإنسِ والدواب، وأصلُه من: شَطَن، إذا تباعد؛ وذلك لبعده عن رحمة الله أو الخير، وقيل: أصله مِن شَاطَ إذا احترَق .
طُغْيَانِهِمْ: عُتُوِّهِم وتكبُّرهم، أو غيهم وكُفْرهم، وأصل الطُّغيان: مجاوزة الحدِّ .
يَعمهون: يتَحيَّرون ويجورون عَن الطَّرِيق؛ فأصل العَمَهِ: التردُّد في الأمْر من التحيُّر .
صُمٌّ: الصَّمَمُ: فقدانُ حاسَّة السَّمع، وبه يُوصَف مَن لا يُصغِي إلى الحقِّ ولا يَقبله، وأصله: الصَّلَابة، وقيل: السدُّ .
بُكْمٌ: جمع أَبْكَم، وهو الذي يُولَد أخرس؛ فكلُّ أبكمَ أخرسُ، وليس كلُّ أخرس أبكمَ، والبَكَم: آفة في اللِّسان مانعةٌ من الكلام .
كصَيِّبٍ: أي مطر، مأخوذٌ من الصَّوب، وأصل الصَّوْب: النُّزُولُ؛ سمِّي به المطر لأنَّه ينزل من السَّماء .
الصَّوَاعِق: جمْع صاعِقة، وهي النَّار التي تنزل من السَّماء عندَ اشتداد الرَّعد، وقيل: الصَّوت الشديد من الجوِّ، والوَقعُ الشَّديدُ منَ الرَّعْدِ، أو كلُّ عذاب مُهلك (الموت، والعذاب، والنار)، ومنه: صَعق، إذا مات، وأصل صعق: يدلُّ على شِدَّة الصَّوت .
يَخْطَفُ: يختلس بسرعة، أو يأخذ الشيء بسرعة
.
المعنى الإجمالي:
يُخبر الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات عن صِنف من الناس، يدَّعون بألسنتهم أنَّهم مؤمنون بالله، وبالبعث يومَ القِيامة، وهم مع ذلِك غيرُ مقرِّين بالإيمان حقيقةً بقلوبهم، وهم بفِعلهم هذا يَقصِدون مخادعةَ الله والذين آمنوا بادعاء الإيمان لأنفسهم، وإخفاءِ كُفرِهم، لكن بيَّن الله سبحانه أنَّ ما يقومون به ما هو إلَّا خديعة لأنفسهم، وذلك بِخذلان الله لهم في الدَّارينِ، وهم لا يحسُّون بأنَّهم هم المخدوعون.
في قلوب هؤلاء الصِّنف شكٌّ ونفاق، فزادهم الله شكًّا إلى شكِّهم، ونِفاقًا إلى نفاقهم، ولهم مع ذلك عذاب موجِع؛ جزاءً لكذبهم وإظهارِهم غيرَ الحقيقة، ولتكذيبهم لله تعالى ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، والنِّفاق والكُفر، واتِّخاذ الكافرين أولياءَ، قالوا: ما نقومُ به هو الإصلاح! وكذَبوا في ذلك، بل هم بعيدون عن الإصلاح، بكُفرهم ومعاصيهم، ومع هذا لا يدرون أنَّ ما يقومون به هو فسادٌ في الحقيقة.
وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: آمنوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبما جاء به من ربِّه، كما آمن به أصحابُه رضي الله عنهم، قالوا أنؤمن كما آمن ضعفاء الرأي والعقولِ، ونفعل كما فعلوا؟!- يقصدون بذلك أصحابَ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام- فأخبرهم الله تعالى أنَّهم هم ضعفاءُ العقول والرأي؛ فهم السُّفهاء في واقِع الأمر، ومع ذلك لا يعلمون بحقيقةِ سفههم.
وإذا لقِي هؤلاء المنافقون المؤمنين أخبروهم- كذبًا- أنَّهم مؤمِنون أيضًا، وإذا انصرفوا إلى رُؤسائهم من سادات الكفَّار والمشركين، والمنافقين، وكانوا معهم في خَلوة، قالوا لهم: إنَّا ما زلنا معكم على دِينكم، إنما نحن ساخِرون بالمؤمنين حين نقول لهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخِر.
ثمَّ أخبر الله سبحانه أنَّه يَستهزئ بهم؛ مقابلةً لاستهزائِهم بالمؤمنين، وذلك بأن يُجري عليهم ما على المؤمنين من الأحكام الظاهِرة، كعصمة دِمائهم وأموالهم، ثم في الآخِرة يَلقَون جزاءَهم الأليم وحْدَهم، بأن يُلقَوا في الدَّرك الأسفل من النار، فكان هذا استهزاءً بهم، ويُملي الله لهؤلاء المنافقين بأنْ يتركَهم في عُتوِّهم وتمرُّدهم بالكُفر، يتردَّدون حيارَى ضُلَّالًا، لا يجدون سبيلًا للخروج ممَّا هم فيه.
هؤلاء الصِّنف من البَشر هم الذين أخذوا الضَّلالة وترَكوا الهدى، فخسِروا وما كانوا راشدين بفِعلهم هذا.
مثَل هؤلاء المنافقين في إيمانهم ثمَّ كُفرهم بعد أن تبيَّن لهم الحق، كمَثَل مَن أوقد نارًا؛ لتضيءَ له، وينتفع بها، فلمَّا أنارتِ النارُ ما حول المستوقِد، فأبصر ما ينفعُه وما يضرُّه، خمَدت النار، وانطفأ النور، فذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وبقي ما يضرُّهم وهو الإحراقُ والدُّخَان، هؤلاء المنافقون صمٌّ لا يَسمعون هُدًى، وبكمٌّ لا ينطِقون به، وعميٌ لا يُبصرونه بقلوبهم؛ فهم لذلك لا يعودون إلى الهُدى الذي باعوه بالضَّلالة.
وضرَب الله مثلًا آخَر لصنف آخر من المنافقين، وهو كصاحب مطرٍ منحدرٍ من السَّماء، فيه ظلماتٌ- هي ظلمة اللَّيل، وظلمة السَّحاب، وظلمة المطر- ورَعْد وبَرْق، كلَّما سمعوا صوت صاعقة، غطوا آذانهم بأصابعهم، يتَّقون بذلك سماعَ أصوات الصَّواعق المدوية، حذرًا من أن تصيبَهم فيموتوا، والله محيطٌ بهم قُدرةً وعلمًا؛ فلا يُعجِزونه، ولا يُغني عنهم حذرُهم شيئًا، يوشك البرقُ لشدَّة لمعانه وضعف أبصارهم، أن يَذهب بها فيُعميَها، كلَّما ظهرَ لهم نورُ البرق مشَوْا خُطوات، فإذا أظلم ما حولهم بتوقُّف البرق وقَفوا، ولو أراد الله لأخَذَ أسماعهم وأبصارهم، والله ذو قُدرةٍ بالغة على كلِّ شيء؛ فلا يُعجزه أمر أبدًا.
والمراد بهذا المثَل أنَّ المنافقين إذا سمِعوا القرآن، وتُليت عليهم تكاليفُه ووعيدُه، وما فيه، اتَّقَوا سماع آياته؛ خوفًا من أن يحلَّ بهم الوعيد، وإشفاقًا من عقوبة نِفاقهم، سواء في الدُّنيا أو في الآخِرة، ولن ينفعهم اتقاؤُهم؛ فالله سبحانه محيطٌ بهم قدرةً وعلمًا، يوشك شدَّةُ نور القرآن بما تضمَّنه من البراهين القويَّة أن يرى معه هؤلاء المنافقون الحقَّ واضحًا، لكن لضعف بصائرهم لا يَستفيدون من ذلك النور، ومع ذلك كلَّما أضاء لهم نورُ الحقِّ، أو لَمَع في قلوبهم، مشَوا على ضوئه خطواتٍ قليلةً في سبيل الانقياد للحقِّ، لكن لا يمكُث ذلك الحقُّ في قلوبهم التي أظلمتْ بالشُّبهات والشكوك القوية أن يَخفِت فتعود لظُلمتها، فيقِفوا حائرين، ثم توعَّدهم الله بإذهاب أسماعهم وأبصارهم؛ عقوبةً لهم على نفاقهم وكُفرهم، والله ذو قُدرة بالغةٍ على كلِّ شيء.
تفسير الآيات:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لما تقدَّم وصفُ المؤمنين في بداية السورة بأربع آيات، ثم عرَّف الله تعالى حال الكافرين بآيتيْن، شرع سبحانه في بيان حال المنافقين الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثيرٍ من الناس؛ أطنب في ذكرهم بصفاتٍ متعددة، كُلٌّ منها نفاق
فقال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ.
أي: إنَّ المنافقين يقولون بألسنتهم: آمنَّا بالله، وبالبعث يومَ القيامة، قولًا مجرَّدًا ليس معه إيمانٌ حقيقيٌّ .
وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ.
أي: ليسوا بمقرِّين بحقيقةِ الإيمان بقلوبِهم .
كما قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] .
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9).
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
بإظهارِهم الإيمانَ، وإبطانهم الكفرَ .
كما قال سبحانه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة: 18] .
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ قراءتان:
1- (وما يُخَادِعُون) قيل: على معنى أنَّ الخِداع وقع من اثنين، فهو واقعٌ منهم وإليهم؛ إذ خدَعوا أنفسهم، وأنفسهم خدَعتْهم .
2- (وَمَا يَخْدَعُونَ) قيل: على معنى أنَّ الخداع وقع من طرفٍ واحد، فهو واقعٌ منهم على أنفسهم .
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ.
أي: إنَّ هؤلاء المنافقين مخدُوعون في الحقيقة بصَنيعهم الذي يَحسَبون أنهم يخادعون به ربَّهم والمؤمنين، وذلك بخِذلان الله تعالى لهم في الدُّنيا والآخِرة، وهم مع ذلك لا يَدرُون بأنَّهم مخدوعون .
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] .
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10).
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا.
في قلوبهم شكٌّ ونفاق؛ فزادهم اللهُ تعالى شكًّا ونفاقًا.
فالجزاءُ من جِنس العمل، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَكْذِبُونَ قِراءتان:
1- (يَكْذِبُون) بالتَّخفيف، أي: إنهَّم كاذبون في قولهم: آمَنَّا بالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ .
2- (يُكَذِّبُون) بالتَّشديد ، أي: يكذِّبون النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والقرآن مرَّةً بعد مرَّة، ومن كذَّب بذلك، فقد كَذَب .
وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ.
أي: لهم عذابٌ مؤلِم، أي: موجِع؛ بسبب كذَبِهم في دعواهمُ الإيمانَ، وبسبب تكذيبهم لله تعالى ورسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ.
أي: إذا قيل للمنافقين: لا تفسدوا في الأرض، بمعصية الله تعالى، وبالنِّفاق والكفر، واتِّخاذ الكافرين أولياء، والصَّدِّ عن سبيل الله، والتعويقِ عن طاعتِه وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والإرجافِ... إلى غير ذلك .
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
يدَّعون أنَّ ما يفعلونه من الفَساد، إصلاحٌ .
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12).
أي: هم المخالِفون في الحقيقة أمرَ الله عزَّ وجلَّ بالكُفر والمعاصي، ولكن لا يَدْرُون ولا يَفطنون إلى أنَّ ما يفعلونه هو فسادٌ في الحقيقة .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ.
أي: إذا قِيل للمنافقين: آمنوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبما جاءَ به من عند الله عزَّ وجلَّ، كما آمن أصحابُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وكلُّ مَن آمن به .
قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ.
أي: يقولون: أنؤمِنُ كما آمَن ذوو الجهل وضعف الرأي وقلة المعرفة بالمصالح والمفاسد- يعنون الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- فنكون نحن وإيَّاهم على طريقةٍ واحدة ؟!
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ.
أي: هُم السُّفهاء في الحقيقة، فليست لديهم معرفةٌ صحيحةٌ لإقامة نفعٍ حقيقي؛ حيث يُفسِدون في الأرض، ويظنُّون أنَّ ذلك هو عينُ الإصلاح، وهذا هو السَّفَه .
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14).
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا.
أي: إذا لقِي المنافقون المؤمنين، أظْهَروا لهم الإيمانَ نفاقًا .
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ.
أي: إذا انصَرفوا إلى رُؤسائهم، من سادات الكفَّار والمشركين والمنافقين، خالِين بهم .
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ.
أي: نحن معكم على دِينكم، ومِن ذلك التكذيبُ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومعاداتُه، ومعاداةُ أتباعه، والسُّخريةُ بهم بقولهم لهم: آمَنَّا بالله وَبِاليَومِ الآخِرِ) .
اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15).
اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ.
أي: إنَّ الله تعالى أجْرى لهم ما للمؤمنين من الأحكام الظاهِرة، كعِصمة دِمائهم وأموالهم، لكنَّه سبحانه يُميِّز بينهم وبين المؤمنين في الآخِرة، ويُلقي بهم في الدَّرك الأسفل من النار، فكان ذلك استهزاءً بهم .
وهذا من الله سبحانه مقابلة لهم على استهزائهم بالمؤمنين؛ فالجزاء من جنس العمل.
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79] .
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
أي: يَزيدهم على وجه الإملاءِ، والتَّرْك لهم في عتوِّهم وتمرُّدهم بالكُفر، يتردَّدون حيارَى ضُلَّالًا، لا يجدون إلى المخرَج من ذلك سبيلًا .
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16).
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى.
أي: استعاضوا بالضَّلالة عن الهُدَى .
فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
أي: خسِر المنافقون بأخْذهم الضَّلالةَ، وتركِهم الهُدى؛ وما كانوا راشدين بصَنيعهم هذا .
ثم ضرب الله لهم مثلًا يصوِّر حالهم، فقال:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ (17).
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً.
أي: مثَل المنافقين الذين آمَنوا أو أظهروا الإيمان ثم كفَروا، كمثَل مَن أوقَد نارًا؛ لتضيءَ له، وينتفعَ بها، والمراد بذلك تشبيههم بأنَّهم آمنوا أو أظهروا الإيمان .
فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ.
أي: أنارتِ النارُ ما حولَ المستوقِد، فأبصر بها ما ينفعُه ويَضرُّه ، والمراد بذلك أنَّهم أبصَروا الحقَّ ، أو أنهم انتفعوا بها انتفاعًا مؤقَّتًا، حيثُ حقنوا دماءَهم، وأحرزوا أموالَهم .
ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ.
أي: خمَدت النار، وانطفأ النور، فذهب عنهم ما يَنفعُهم وهو النور، وبقِي لهم ما يضرُّهم وهو الإحراقُ والدُّخَان؛ ذلك بأنَّهم كفروا بعد إيمانهم، فبقِيت في قلوبهم حرارةُ الكفرِ والشُّكوكِ .
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ.
أي: بقُوا في عِدَّة ظلمات، منها: ظُلمة اللَّيل، والظُّلمة الحاصِلة بعد فقْد النور، وهي أشدُّ من الظُّلمة الأُولى، والمراد: ما أصْبَحوا فيه من ظُلمات الكُفر، والشُّكوك، والنِّفاق .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
أي: لا يَسمعون هُدًى، ولا يَنطِقون به، ولا يُبصرونَه بقلوبِهم .
كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وقال سُبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3] .
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.
أي: لا يَعودُون إلى الهُدى الذي باعوه بالضَّلالة .
ثم ضرب الله لهم مثلًا آخرَ، فقال:
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19).
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء.
أَوْ هنا للتنويع، فبعض المنافقين يشبه المثل الأول، وبعضهم يشبه هذا المثل الثاني، فضربه الله تعالى هاهنا لصنفٍ آخر من المنافقين .
والمرادُ بالصيِّب: القرآنُ الذي نزَل من عند الله تعالى، والذي يُظهر المنافقون بألسنتِهم إيمانَهم به .
فِيهِ ظُلُمَاتٌ.
هي ظُلمة اللَّيل، وظُلمة السَّحاب، وظُلمة المطر، والمرادُ: ما عليه المنافقون من الشكِّ، والكُفر، والنِّفاق .
وَرَعْدٌ.
المراد به: وعيدُ القرآن وزواجره، وأوامِره ونواهيه .
فهُم منها في حالِ خوفٍ وفزعٍ شديد، كقوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4]، وقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة: 56-57] .
وَبَرْقٌ.
المراد به: حُججُ القرآن وبراهينه التي تُبهرهم .
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ.
الصَّوَاعِقِ.
المرادُ بها: آياتُ القرآن التي تتضمَّن التكاليفَ الشرعيَّة، والوعيدَ، وغيرَه .
يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ.
أي: يضعون أصابعَهم في آذانِهم؛ كي يتَّقوا سماعَ أصوات الصَّواعق، والمرادُ: أنَّهم يتَّقون سماعَ زواجر القُرآن الكريمِ ووعيده .
حَذَرَ الْمَوْتِ.
أي: حذرًا من حلول الوعيد الذي توعَّدهم اللهُ به في القُرآن، وإشفاقًا من حلول عُقوبةِ الله بهم على نِفاقِهم؛ إمَّا عاجلًا في الدُّنيا، وإمَّا آجلًا في الآخِرة .
واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ.
أي: محيطٌ بهم قدرةً وعلمًا، فلا يُعجِزونه، ولا يُغني عنهم حذرُهم شيئًا .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20).
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ.
أي: يوشك البَرقُ من شِدَّة لَمَعانه، وقوَّة ضيائه -مع ضَعْف أبصارهم- أنْ يذهب بها فيُعميها، والمرادُ: أنَّ شِدَّة نور القرآن- بما يحويه من حُججٍ وبراهينَ ساطعة، يرَون معها الحقَّ واضحًا جدًّا- لا تتحمَّله بصائرُهم الضَّعيفة .
كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا.
أي: إذا ظهر لهم نورُ الحقِّ، ولَمَع في قلوبِهم مشَوْا على ضوئِه، وخطَوا خُطواتٍ يسيرةً، لكنَّه لا يستقرُّ في قلوبهم المظلِمة بالشُّبهات والشكوك القويَّة، فلا يلبَث أن ينطفِئ، فيقفون حائرين! عائدين إلى تَكذيبهم، فهُم في هذه الحال في شكٍّ وتردُّد !
وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
هذا تهديدٌ ووعيدٌ لهم بإذهاب أسماعِهم وأبصارهم؛ عقوبةً لهم على نِفاقهم وكُفرهم .
إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: ذو قُدرةٍ على إيقاع ما أوعد به هذا الصِّنفَ من المنافقين، فلْيحذروا نِقمةَ الله وعذابَه عاجلًا أو آجلًا؛ فإنَّه سبحانه وتعالى لا يُعجزه شيءٌ أبدًا
.
الفَوائِد التربويَّة:
1- أنَّ مجرد القول باللِّسان لا ينفع الإنسانَ، فلا بدَّ أن يتطابق القلبُ، واللِّسان على الإيمان؛ لقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. فهنا نفَى اللهُ عنهم الإيمانَ، فدلَّ على أنَّ حقيقة الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان
.
2- التحفُّظ من المنافقين فقد قال تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9)؛ لأنَّه إذا قيل لك: (فلان يخدع) فإنَّك تزداد تحفظًا منه، وأنَّه ينبغي للمؤمن أن يكون يقظًا حذِرًا؛ فلا ينخدع بمِثل هؤلاء .
3- أنَّ المكر السيِّئ لا يحيق إلَّا بأهله؛ فالمنافقون يُخادعون الله، ويظنُّون أنَّهم قد نجحوا، أو غلَبوا، ولكن في الحقيقة أنَّ الخداع عائدٌ عليهم؛ لقوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فالحصر هنا يدلُّ على أنَّ خداعهم هذا لا يضرُّ الله تعالى شيئًا، ولا رسولَه، ولا المؤمنين .
4- أن الإنسان إذا لم يكن له إقبال على الحق، وكان قلبه مريضًا فإنه يعاقب بزيادة المرض؛ لقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا .
5- أنَّ أسبابَ إضلال الله العبدَ هي من العبد؛ لقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضًا .
6- أنَّ من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفسادُ، حتى يَرى أنَّه إصلاح؛ لقولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .
7- أنَّه ليس كلُّ مَن ادَّعى شيئًا يُصدَّق في دعواه؛ لأنَّهم قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فقال الله تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ، وليس كل ما زيَّنته النفس يكون حسنًا، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .
8- العمل السيِّئ قد يُعمي البصيرة؛ فلا يَشعُر الإنسان بالأمور الظاهِرة؛ لقوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ .
9- أن يُذكرَ للمدعوِّ، من استجاب من الناس للحقِّ؛ ليكون ذلك مشجِّعًا له على قَبوله، لقوله تعالى: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ .
10- أنَّ الإنسان قد يظنُّ أنه أحسنَ عملًا وهو قد أساء؛ لأنَّ هؤلاء اشترَوُا الضلالة بالهدى؛ ظنًّا منهم أنَّهم على صواب، وأنهم رابِحون؛ فقال الله تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ .
11- أنَّ للإيمان نورًا، وله تأثيرٌ حتى في قلب المنافق؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ .
12- أنَّه ينبغي للإنسان أن يسألَ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُمتِّعه بسَمْعه، وبصره؛ لقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- قال السَّعديُّ في قوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ: (هذا من العجائب؛ لأنَّ المخادع، إمَّا أن ينتج خداعه ويحصُل له ما يريد، أو يسلم، لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعُهم عليهم، وكأنَّهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاكِ أنفسِهم، وإضرارها وكيدها؛ لأنَّ الله تعالى لا يتضرَّر بخداعهم شيئًا، وعباده المؤمنون لا يضرُّهم كيدُهم شيئًا، فلا يضرُّ المؤمنين أنْ أظهر المنافقون الإيمان، فسلمتْ بذلك أموالُهم، وحُقِنت دماؤهم، وصار كيدُهم في نحورهم، وحصَل لهم بذلك الخزيُ والفضيحة في الدُّنيا، والحزن المستمرُّ؛ بسبب ما يحصُل للمؤمنين من القوَّة والنصرة، ثم في الآخِرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجِع؛ بسبب كذبِهم وكفرِهم وفجورِهم، والحال أنَّهم مِن جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك)
.
2- أنَّ الحِكمة كلَّ الحِكمة إنَّما هي الإيمانُ بالله تعالى، واتِّباع شريعته؛ فإنَّ كلَّ من لم يؤمن بالله وخالف شريعته فهو سفيهٌ، فيقتضي أنَّ ضدَّه يكون حَكيمًا رشيدًا؛ وذلك لقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ .
3- في قوله تعالى: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ إثباتُ صِفة الاستهزاء لله تعالى، وهي صفةٌ فعليَّة خبريَّة، ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ، على وجه المقابَلَة والجزاء؛ لذا فهي صفة كمالٍ له سبحانه .
4- تأمَّل قوله تعالى: أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ، كيف جعَل ضوءها خارجًا عنه منفصلًا، ولو اتَّصل ضوءُها به ولابَسه لم يذهب، ولكنه كان ضوءَ مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضًا، والظلمة أصليَّة، فرجع الضوء إلى معدِنه، وبقيت الظلمةُ في معدنها، فرجع كلٌّ منهما إلى أصله اللائق به، حُجَّة من الله قائمة، وحِكمة بالغة، تَعرَّف بها إلى أُولي الألباب من عبادِه .
5- تأمَّل كيف قال الله تعالى: ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ فوحَّده، ثم قال: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فجمَعها؛ فإنَّ الحق واحد، وهو صراط الله المستقيم، الذي لا صراطَ يُوصل إليه سواه، وهو عبادته وحْدَه لا شريك له، بما شَرَعه على لسان رسولِه، لا بالأهواء والبِدع وطرقِ الخارجين عمَّا بعث الله به رسوله من الهُدى ودِين الحقِّ، بخِلاف طرق الباطل؛ فإنَّها متعدِّدة متشعِّبة، ولهذا يُفرد سبحانه الحقَّ ويَجمع الباطلَ، كقوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .
6- قيل: خصَّ جلَّ ذِكرُه السمعَ والأبصار بأنَّه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامِهم؛ للذي جرى من ذِكرها في الآيتين، أي: قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة: 19] ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة: 20] ، فجرَى ذِكرها في هاتين الآيتين على وجه المَثَل
.
بلاغة الآيات:
1- في قوله تعالى حِكايةً عن المنافقين: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ صيغة قصر، من قصْر الموصوف على الصِّفة، وهو مفيد للحصر كالنفي والاستثناء، كأنهم قالوا: إنَّ شأننا ليس إلَّا الإصلاح، وإنَّ حالنا متمحِّضة عن شوائب الفساد
.
2- في قوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ تأكيدٌ على فَسادِهم، وردٌّ بليغ على ما ادَّعوه في قولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ حيث قصروا أنفسهم على هذا الوصف، فجاء الرد بليغًا؛ فبدأ بجُملة استئنافيَّة اسميَّة؛ للدَّلالة على الثُّبوت، وافتتحها بـألَا التي تُفيد التنبيه إلى تحقُّق ما بعدها، وإنَّ التي للتأكيد وتقرير النسبة، وأتى بضمير الفصل هُمُ، ثم تعريف الخبَر الْمُفْسِدُونَ؛ لردِّ ما في قصْر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين. ومثلها في التَّأكيد قوله: ألَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفهاء .
- ويحتمل هُمُ أن يكون تأكيدًا للضمير في إِنَّهُمْ وإن كان فصلًا .
3- في قوله تعالى حِكايةً عن المنافقين: أَنُؤْمِنُ استفهام في معنى الإنكار، أو الاستهزاء ، والغرَضُ منه: قصْد التبري من الإيمان على أبلغِ وجْهٍ .
4- قوله: لا يَشْعُرُونَ ولا يَعْلَمُونَ فيه تغايرٌ في الفواصل، وهو من محاسنِ البلاغة، وله أسرارٌ عجيبة تظهر بتأمُّل السِّياق، وهنا لمَّا كان النِّفاق- وما فيه من بغي وفسادٍ يؤدِّي إلى اشتجار الفتنة- أمرًا دنيويًّا مبنيًّا على العادات، وهو معلوم عند الناس، بل بمنزلة المحسوس عندهم- قال فيه: لا يَشْعُرُونَ. ولَمَّا ذَكَر السَّفه في الآية الثانية، وهو جهلٌ مطبِق كان ذِكرُ العلم أكثرَ ملاءمةً، فقال: لا يَعْلَمُونَ . فالفرق بين قوله تعالى هنا: وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ، وقوله تعالى فيما سبَق: وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ: أنَّ الإفساد في الأرض أمرٌ حِسيٌّ يدركه الإنسان بإحساسه وشعورِه، وأمَّا السَّفه فأمْر معنويٌّ يُدرَك بآثاره، ولا يُحسُّ به نفسه؛ فنفَى اللهُ تعالى العِلمَ عن المنافقين؛ لكونهم سفهاءَ، بكلمة يَعْلَمُونَ دون يَشْعُرُونَ؛ لأنَّ اتِّصافهم بالسَّفه ليس ممَّا شأنه الخفاء، حتى يكون العلمُ به شعورًا، ويكون الجهل به نفيَ شعور، بل هو وصفٌ ظاهِر لا يَخفَى .
5- في قوله: وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ تأكيدٌ شديدٌ على عدم إيمانهم؛ حيث عدَل عن الفِعل- فلم يقل: (وما آمنوا)- إلى الاسم؛ لإِخراج ذواتهم من عِداد المؤمنين، وأكَّده بالباء؛ للمبالغة في نفْي الإِيمان عنهم. وتسلُّط النفيِ على اسم الفاعل- الذي ليس مُقيدًا بزمان؛ ليشملَ النفيُ جميعَ الأزمان .
6- قوله: آمنَّا إِنَّا مَعَكُمْ فيه مفارقةٌ بين الجُمَل؛ حيث خاطَبوا المؤمنين بالجملة الفِعليَّة آمَنا، وخاطَبوا شياطينَهم بالجملة الاسميَّة إنَّا مَعَكُمْ؛ والجملة الاسميَّة أثبتُ من الجملة الفعليَّة؛ فدلَّ أن إيمانهم قصير المدى لا يَعْدو تحريكَ اللِّسان، أو مدةَ التقائهم بالمؤمنين، وأنَّ رُكونهم إلى شياطينهم دائمٌ ومستمر التجدُّد، وهو أعلقُ بنفوسهم، وأكثر ارتباطًا بما رسَخ فيها .
7- قوله: اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ أتى بالفِعل المضارع (يستهزئ)، ولم يقل: (مستهزئ) المطابق لقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ؛ ليُفيد حدوث الاستهزاء وتجدُّده وقتًا بعد وقت، وهكذا كانتْ نكايات الله فيهم، وبلاياه النازِلة بهم .
8- (أولاء) في قوله: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُا اسم إشارة، والمشار إليه المنافقون، وجاءتِ الإشارة بصيغة البُعد؛ لبُعد منزلة المنافِق سفولًا .
9- قوله: نارًا جاءت مُنكَّرة؛ للتعظيم والتهويل .
10- قوله: فَلَمَّا أَضَاءتْ.. ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ فيه مراعاةُ النَّظير، وهو التناسُب والائتلاف، حيث جمَع بين أمرٍ وما يُناسِبه؛ إذ قال: بِنُورِهِمْ ولم يقل: بضوئهم مقابلَ أضاءتْ؛ لأنَّ ذِكْر النور أبلغُ؛ لأنَّ الضوءَ فيه دَلالةٌ على النِّور وزِيادة (وهو الحرارة والإحراق) كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] ، فلو قيل هنا: (ذهَب الله بضوئهم)، لأوهم الذَّهاب بالزِّيادة وبقاءَ ما يُسمَّى نورًا، والغرَض إزالة النُّور عنهم رأسًا، وطَمْسه أصلًا، وليس إزالةَ الضوء الذي هو زائدٌ عن النور؛ فأذهب النور وبَقِيت الزِّيادة (الحرارة والإحراق) .
والإتيان بحرف الجر الباء أفاد أنَّه لم يبقَ مَطمعٌ في عودة ذلك النور إليهم بالكلية، وهذا مِن أسمى ما يصِلُ إليه البيان .
- وأيضًا ففيه سرٌّ بديع، وهو انقطاعُ سرِّ تلك المعية الخاصَّة التي هي للمؤمنين من الله تعالى؛ فإنَّ الله تعالى مع المؤمنين، وإنَّ الله مع الصابرين، وإنَّ الله مع الذين اتَّقوا والذين هم مُحسِنون؛ فذَهاب الله بذلك النورِ انقطاعٌ لمعيَّته التي خصَّ بها أولياءَه، فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبقَ عِندهم- بعد ذَهاب نورِهم- ولا معهم، فليس لهم نصيبٌ من قوله: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة: 40] ، ولا مِن: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] .
11- قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ تنكير (صيِّب) للتعظيم، وإشارة إلى أنَّه نوعٌ من المطر، شديد هائل، كما نُكرت النَّار في التمثيل الأوَّل .
12- وفي الآيات: حُسن تقسيم؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى ابتدأ هذه السُّورة بالمؤمنين الخُلَّص، ثم الكفَّار الخلَّص، ثم بالمنافقين؛ وذلك لأنَّ التقسيم ممَّا يزيد الإنسانَ معرفةً وفَهمًا، وهو من بلاغة القرآن .
13- وفيها من محاسن البلاغَة: ضرْبُ الأمثال المحسوسات للأمور المعقولاتِ .
====
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (21-25)
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
غريب الكلمات:
أَنْدَادًا: أي: شركاء أمثالًا، ونظراءَ، واحدهم نِد
، والندُّ هو النظير المُناوِئ .
وَقُودُهَا: أي: حَطَبُها المجعول للوقود، اسم لِمَا يُوقد، وأصل (وقد): اشتعال النار
.
المعنى الإجمالي:
أمَر الله تعالى جميعَ النَّاس بعبادته؛ لأنَّه هو الذي أوجدهم من العَدم، لعلَّهم بعبادتهم هذه يصِلُون للتقوى؛ فهو سبحانه الذي جعَل لكم الأرضَ ممهَّدة كالفراش، موطأة مثبَّتة يستقرُّ عليها الإنسان، وجعَل السماءَ سقفًا، وهو سبحانه أنزل من السَّحاب مطرًا، فأنبت للناس أنواعًا من الثِّمار رزقًا لهم.
ثمَّ نهاهم عن الشِّرك، فقال: ولا تتَّخذوا- أيُّها الناسُ- لله سبحانه نظراءَ بزعمكم، تساوونهم معه في العبادة، وأنتم تعلمون أنَّه إلهٌ واحد، لا نِدَّ له، ولا شريكَ.
ثمَّ تحوَّل الخِطابُ إلى الكفَّار والمنافقين، فقيل لهم: إذا كنتم- أيُّها الكفار والمنافقون- في شكٍّ من كون القرآن مُنزَّلًا من عند الله سبحانه على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأتُوا من عندكم بسورة من مِثل هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بمَن تقدِرون عليه من أعوانكم وشُهدائكم، إنْ كنتم صادقين في زعْمِكم أنَّ القرآنَ كلامٌ مُختلَق.
فإنْ لم تأتوا بما تُحدِّيتم به، ولن تأتوا به أبدًا، فجنِّبوا أنفسكم النارَ التي وقودها الناسُ والحجارة، واتقوها بفِعل ما أُمرتم به، واجتنابِ ما نُهيتم عنه.
وأخْبِرْ يا نبيَّ الله، مَن جمعوا بين التصديقِ والإقرار والانقياد لما جئتَ به، والعملِ الصالح- أخبِرْهم بما يسرُّهم، وهو أنَّ لهم جزاءً أُخرويًّا هو جنَّات، تَجري الأنهارُ من تحت أشجارها وغُرفها، كلَّما أُعطوا ثمرةً من ثمارها، ظنوها نفْسَ الثمرة التي أُعطوها قبلُ في الدنيا أو في وقتٍ سابقٍ في الجنة، وإنَّما هو متشابه فقط في اللَّون والمنظر، لكن الطَّعم مختلف، ولهم أيضًا في تلك الجنان زوجاتٌ مطهَّرات، طهارة حسيَّة ومعنويَّة، وهم فيها باقون على الدَّوام.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21).
أي: اعبُدوا اللهَ تعالى- أيُّها الناس-؛ لأنَّه هو الذي أوجدكم أنتم ومن قبلكم من العدم؛ وذلك من أجل أن تصلوا إلى مرتبة التقوى
.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22).
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً.
أي: اعبُدوا ربَّكم أيضًا؛ لأنه هو الذي جعَل لكم الأرض ممهَّدةً كالفِراش، موطأةً مثبَّتةً يستقرُّ عليها الإنسان، وجعَل لكم السماء سقفًا .
قال سبحانه: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 32] .
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ.
أي: وهو كذلك أَنزل من السَّحاب مطرًا؛ فأنبت للناس بسببه أنواعًا متعدِّدةً من الثِّمار؛ رزقًا لهم .
فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: لا تتَّخذوا له أمثالًا ونظراءَ بزعمكم، وهو الذي خلَقَكم ورزقكم؛ فهو المستحقُّ لأنْ تُخلصوا له العبادة وحده لا شريكَ له، وأنتم تعلمون أنَّه إلهٌ واحدٌ، لا ندَّ له ولا شريكَ له في الخَلْق والرَّزْق وغير ذلك؛ فليس كمثله شيءٌ سبحانه وتعالى .
كما جاء عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، أنه قال: سألتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((أيُّ الذنبِ أعظمُ عندَ اللهِ؟ قال: أنْ تجعل للهِ نِدًّا وهو خلقَك ...)) الحديث .
وهذِه الآية قريبةٌ من قوله تعالى: اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [غافر: 64] .
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23).
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
أي: إذا كنتم- أيُّها الكفَّار والمنافقون- في شكٍّ من نزول القرآن من عند الله سبحانه على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأتُوا من عندكم بسورةٍ مِثل القرآن، يَتحدَّاهم الله تعالى بذلك .
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أي: استعينوا على الإتيان بسورةٍ من مثل القرآن، بمن شئتم من غير الله عزَّ وجلَّ، من كل من يشهد لكم فيوافقكم على عدم الإقرار بنزول هذا القرآن من عند الله تعالى، وذلك كأعوانكم وشركائكم، إن كنتم محقِّين في دعواكم أنَّ القرآن كلامٌ مختلَق تقوَّله بشر .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24).
أي: فإنْ لم تأتوا بسورةٍ من مِثل القرآن، ولن تأتوا بها أبدًا، فاجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقايةً بفِعل أوامره سبحانه، واجتناب نواهيه؛ لتنقذوا أنفسكم من النَّارِ التي يُلقَى فيها العصاةُ من الناس، والحجارةُ؛ لإيقادِها وإضرامِها، وقد جُهِّزت وهُيِّئت مسبقًا لكلِّ مَن كفر فترك التصديقَ بالحقِّ والإقرار به والانقياد إليه .
وَالْحِجَارَةُ.
قيل: هي حجارةُ الكِبريت، وهي أشدُّ الأحجار حَرًّا إذا حَمِيتْ، وقيل المراد بها: الأصنام .
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لما ذكر الله تعالى ما أعدَّه لأعدائه الكافرين به وبرسله من العذاب، عطف بذكر حال أوليائه المؤمنين به وبرسله، والذين صدَّقوا إيمانَهم بأعمالهم الصالحة ، فقال تعالى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: أخْبِر يا أيُّها الرَّسولُ، الذين آمَنوا بالله عزَّ وجلَّ، وآمَنوا بك، وبما جِئتَ به من عند الله تعالى، وصدَّقوا إقرارَهم ذلك بأعمالهم الصالحة- أخْبِرْهم خبرًا يسرُّهم، بأنَّ لهم في الآخرة بساتين، تجري الأنهارُ من تحت أشجارها وغُروسِها وغُرَفها .
كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا.
أي: كلَّما أُعطوا أيَّ ثمرةٍ من أشجار الجَنَّة، ظنُّوا أنَّها نفس الثَّمرة التي أُعطوها سابقًا في الدنيا؛ لمشابهتها إيَّاها في المنظر، أو أنها التي أُعطوها في وقتٍ سابقٍ في الجنة، وإنَّما أُعطُوا الذي رُزِقوا من ثمارِ الجنَّةِ متشابهًا في اللَّون والمنظَر، لكنَّ الطعم مختلفٌ .
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ.
أي: إنَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات، لهم في الجنَّاتِ زوجاتٌ مطهَّرات من كلِّ أذًى ومكروه ورِيبة، طهارةً حِسيَّةً ومعنويَّة .
وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: إنَّ الذين آمَنوا وعمِلوا الصَّالحات، باقونَ في الجنَّات على الدَّوام، آمِنون من الموت، وانقطاع النَّعيم
.
الفَوائِد التربويَّة:
1- أوَّل نِداءٍ في المصحَف يوجَّه إلى الناس جميعًا، جاء للأمر بعبادة الله عزَّ وجلَّ وحدَه؛ لأنَّه متَّصفٌ بصفة الخَلْق، فاللهُ هو المستحقُّ لأن يُعبدَ وحدَه؛ لأنَّه هو الخالقُ، الذي أبرَزهم مِن العدمِ إلى الوجودِ، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وقال: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
.
2- أنَّ التقوى مرتبةٌ عالية لا ينالها، إلَّا مَن أخلص العبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
3- في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، استحبابُ بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذِكر جَزائها وثمراتها .
4- استحضار جلالة المبشِّر ومنزِلته، وصِدقه، وعَظمة مَن أرسله بهذه البشارة، وقدْر ما بشَّر به، وضَمِنه للعِباد على أسهل شيء عليهم وأيسره، وقدْ جمَع سبحانه في هذه البِشارة بين نعيم البَدن بالجنَّات، وما فيها من الأنهار والثِّمار، ونعيم النَّفس بالأزواج المطهَّرة، ونعيم القلب وقُرَّة العين بمعرفة دوامِ هذا العَيش أبدَ الآباد، وعدَم انقطاعه، فقال سبحانه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ الإقرارَ بتوحيد الربوبيَّة مستلزمٌ للإقرار بتوحيد الألوهيَّة؛ لقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُم ...
.
2- أنَّ من طريق القرآن أنَّه إذا ذَكر الحُكم ذَكر العِلَّة غالبًا؛ فالحكم: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ؛ والعلَّة كونه ربًّا خالقًا لنا ولِمَن قَبلنا؛ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ .
3- أنَّ الله عزَّ وجلَّ منعمٌ على الإنسان كافرًا كان، أو مؤمنًا؛ لقولِه تعالى: لَكُمْ .
4- أنَّه ينبغي لِمَن خاطب أحدًا أن يُبيِّن له ما تقوم به عليه الحُجَّة؛ لقوله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
5- أنَّ القرآن معجِزٌ كلُّه حتى السُّورة الواحِدة منه، ولو كانتْ قصيرةً؛ لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .
6- أنَّ النار مخلوقةٌ الآن؛ لقوله تعالى: أُعِدَّتْ .
7- أنَّ الجناتِ أنواعٌ؛ لقوله تعالى: جَنَّات .
8- لَمَّا كانت مجامعُ اللَّذَّات في المسكَن البَهيِّ، والمطعَم الشَّهيِّ، والمنكَح الوضِيِّ، ذكَرها الله تعالى فيما يُبشَّر به المؤمنون، فوصَف المسكنَ بقوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، والمطعَمَ بقوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، والمنكَحَ بقوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ، وقد بدأ بالمسكَن؛ لأنَّ به الاستقرارَ في دار المقام، وثنَّى بالمطعَم؛ لأنَّ به قوامَ الأجسام، ثم ذكَر ثالثًا الأزواج؛ لأنَّ بها تمامَ الالتئام .
9- أنَّ جزاءَ المؤمنين العاملين للصالحات أكبرُ بكثير ممَّا عملوا، وأعظم؛ لأنَّهم مهما آمنوا وعملوا، فالعُمُر محدود، ويَنتهي، لكن الجزاء لا يَنتهي أبدًا .
10- في قوله تعالى: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أنَّ الجنةَ لا تَفنَى، ولا يفنى مَن فيها فأهل الجنَّة خالدون فيها أبدَ الآباد، وقد أجمَع على ذلك أهلُ السُّنَّة والجَماعة
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
- فيه التفات، حيث انتقَل من الإخبار عنهم إلى خِطاب النِّداء، وتنويع الخِطاب فيه هزٌّ وتنشيط للسَّامع، واستفتاح آذانه للاستماع، وتأهيل نفْسه للقَبول. وفي الانتقال هنا من الغَيبة إلى الخِطاب حصولُ شرفِ المخاطبة والمكالمة، مع التنبيه على الأدلَّة، وإشعارٌ بأنَّ العبد إذا كان مشتغلًا بالعبوديَّة، فإنَّه يستمر في الترقِّي. وفيه: اهتمامٌ بأمر العبادة، وتفخيم لشأنها
.
2- قوله: اعْبُدوا رَبَّكُمُ ذكر الرب هنا مع إضافته إِلى المخاطبين؛ للتفخيم والتعظيم، لتأكيد موجِب الأمرِ بالإشعار بعليَّتها للعبادة فناسب المقام؛ لأنَّ الربَّ الذي يتصف بصفات الربوبيَّة هو وحده المستحق للعبادة .
3- قوله: وأنتم تَعلمُون مفعول (تعلمون) متروك، أي: وأنتم من أهل العِلم والمعرفة، وهو آكَدُ في التوبيخ، ويجوز تقدير مفعول، حُذِف لفَهمِه من السِّياق، فيكون فيه إيجاز بالحذف .
4- قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ صِيغتُه أمْر، والمقصود معنى التعجيز .
- وتنكيرُ (سورة) لإرادة العموم والشُّمول، والإفراد أو النوعية، أي بسورة واحدة من نوع السور، وذلك صادق بأقل سورة تُرجمت باسم يخصها .
5- قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ فيه إيجاز بديع! بذِكر الكناية عن الأمْر بترْك المعاندة؛ لأنَّ اتِّقاء النار يعني ترْكَ العناد، فأفادتْ مع الإيجاز البديع، تهويلَ شأن العِناد بإنابة اتِّقاء النار منابَه، وإبرازه في صورته، مضيفًا إلى ذلك تهويل صفة النار وتفظيع أمرها .
====
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (26-29)
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
غريب الكلمات:
يَنْقُضُونَ: ينبذونه بعدَ القَبول، ويتركون العمل به، والنَّقض ضِدُّ الإِبرام: وهو فكُّ تركيب الشيء وردُّه إلى ما كان عليه أوَّلًا، فنقض البناء: هدمه، ونقض المبرم: حلُّه
.
مِيثَاقه: الميثاق: عقد مؤكَّد بيمين وعهد، أو العهد المُحكَم، وأصله: العقد والإحكام
.
مشكل الإعراب:
في قوله تعالى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
ما: صفة للنكرة قبلها (مثلًا)؛ لتزداد النكرة شياعًا.
بَعُوضَةً: بدَل منصوب من (ما). وثمَّة أقوال أخرى كثيرة
.
المعنى الإجمالي:
إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يَستحيي أن يوضِّح ما يريد بواسطة ضرب المثل بأيٍّ من مخلوقاته، ولو كان في حقارته كالبَعوضة، فما فوقَها في الكِبَر أو الصِّغَر، وهنا يتمايز المخاطبون كلٌّ حسب اعتقاده ويقينه؛ فأمَّا المؤمنون، فهُم على يقينٍ أنَّ المثل المضروب حقٌّ؛ لكونه جاء من ربِّهم، وأمَّا غيرهم، فهُم يعترضون على ما يَضرِبُه الله تعالى من أمثال.
وإنَّ الحكمة من ضَرْب الله للأمثال أنْ يتمايزَ المؤمنُ من الكافر، فالأمثال المضروبة من الله تعالى سببٌ لإضلال الكثير، وهدايةِ الكثير، لكن لا يضلُّ به إلَّا الخارجين عن طاعةِ الله من أهل الكُفر والنِّفاق، الذين يُفسِدون العهودَ المأخوذةَ عليهم من الله بعد تأكيدها، ويقومون بقطْعِ كلِّ ما أمر الله بوصلِه كالأرحام، وغيرِها من شرائع الدِّين، ويفسدون في الأرض بالكفر والفسوق والعصيان، هؤلاء الذين ذُكرتْ أوصافُهم قد حَرَموا أنفسهم الرِّبح بنيل رحمةِ الله، والفوزِ بالفلاح الدَّائم.
ثمَّ يُنكر اللهُ على كلِّ مَن كفَر به كفره هذا؛ إذ كيف يَكفُرون مع وضوح الأدلَّة على وجودِه وعظيم قدرته، والحال أنَّهم كانوا عدمًا، ثم نَفَخ فيهم الرُّوح، ثم يَقبِض أرواحهم، ثم يُحييهم للبعث والنُّشور، ثم إليه يعودون يومَ القيامة.
هذا الربُّ جلَّ وعلا هو الذي أوجد لكم كلَّ ما على الأرض كرمًا وفضلًا منه، ثمَّ علا وارتفع قاصدًا إلى خلق السموات، فخَلَقها سبعًا بإتقان، وهو محيطٌ علمًا بكلِّ شيء.
تفسير الآيات:
إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.
أي: إنَّ الله تعالى لا يَستحيي أن يبيِّن الحقَّ عبر التشبيه بأيِّ شيءٍ كائنًا ما كان، ولو كان في الحقارة والصِّغر كالبعوضة فما فوقَها ممَّا هو أكبرُ منها، أو دونها في الصِّغر؛ وذلك لاشتمال الأمثال على الحِكمة، وإيضاح الحقِّ، والله تعالى لا يَستحيي من الحقِّ، ولابتلاء عبادِه واختبارهم بهذه الأمثال؛ ليتميَّز أهلُ الهداية والإيمان، من أهل الضَّلالة والكُفران
.
ثم شرع في تفصيل مواقف الخلق من ضرب الأمثال في القرآن فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ.
أي: إنَّ الذين أقرُّوا وصدَّقوا بقلوبهم وجوارحهم، يَعلَمون أنَّ هذا المثَل المضروب حقٌّ، حتى لو خفي عليهم تفصيله، فهم يَعلَمون أنَّه حقٌّ في الجُملة؛ لعِلمهم بأنَّ الله لم يضربْه عبثًا، بل لحِكمةٍ بالغة، فيزدادون بذلِك إيمانًا مع إيمانهم .
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا.
أي: إنَّ الذين كفروا فلم يقرُّوا بالحق وينقادوا إليه، لم يَفهَموا حِكمةَ المثل المضروب؛ لذا فهم يعترضون ويتحيَّرون، أو فهموه لكنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ فيَزدادون كفرًا إلى كُفرهم .
ثم بيَّن الله تعالى حكمة ضرب المثل في كتابه، فقال:
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا.
أي: إنَّ ضرب المثل في القرآن بمثابة ابتلاء واختبار يتميَّز به المؤمن من الكافر، فهو إضلالٌ لكثيرٍ لم يَفهموه، وهم المنافقون والكفَّار، وهدايةٌ لكثيرٍ فهِموه، وهم المؤمنون .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124-125] .
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الفَاسِقِينَ.
أي: لا يُضلُّ اللهُ سبحانه بهذا المَثَل المضروبِ إلَّا الخارجين عن طاعتِه من أهل الكفر والنِّفاق، وهذا ما تقتضيه حِكمتُه وعدلُه .
كما قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27).
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ.
أي: يصِف اللهُ تعالى الفاسقين الذين يَضلُّون بالمَثل المضروب، فيُخبر أنَّهم الذين يُفسِدون العهدَ الذي أخذ عليهم من بعد تأكيدِه. وهو وصيةُ الله تعالى بالإيمان به سبحانه وبجميع رُسله- ومنهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- كما عهد إلى بني إسرائيل بذلك فنقضه كفارهم .
كما قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ... إلى قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ... [البقرة: 84 - 85] .
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا... إلى قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ... [المائدة: 12- 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة: 70] .
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
أي: يَقطعون كلَّ ما أمر الله تعالى بوَصلِه، كالأرحام، والتَّصديق بالأنبياء، وغير ذلك من شرائع الدِّين .
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
أي: ويفسدون في الأرض بالكُفر والمعاصي .
أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.
أي: إنَّهم بكُفرِهم وأفعالِهم التي يرتكبونها قد ضلُّوا، فحَرَموا أنفسهم من الرِّبحِ الحقيقيِّ بنَيلِ رحمة الله تعالى، والحصولِ على الفوزِ الأبديِّ .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28).
أي: يُنكر الله تعالى على مَن كفر به، مُتعجِّبًا من كُفرهم مع وضوح الأدلَّة على وجودِه سبحانه، وعلى قُدْرته العظيمة، والحال أنَّه أماتهم مرَّتين، وأحياهم مرَّتين؛ وذلك بأنْ يُخرِجَهم من العدَم بعد أنْ كانوا نُطُفًا في أصلابِ آبائهم، فيُحييهم بأنْ ينفُخَ الرُّوح فيهم؛ ليَخرجوا إلى عالم الوجود الدُّنيويِّ، ثم يُميتَهم بقَبْض أرواحهم من أجسادِهم، فتنقضيَ آجالُهم الدنيويَّة، ثم يُحييَهم في قُبورِهم للبَعث والنُّشور، ثم يُخرجَهم من قُبورِهم، ويَحشرَهم إليه يوم القِيامة .
كما أخبر تعالى عن الكفَّار، أنَّهم يقولون يومَ القيامة: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29).
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
أي: أوجَد لكم- من فَضله وكرمِه- جميعَ ما على الأرض؛ للانتفاعِ به، والاستمتاعِ، والاعتبار .
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: بعد أنْ خلَقَ اللهُ تعالى الأرض ، علا وارتفع قاصدًا إلى خَلْقِ السَّموات، فخلَقها بإحكامٍ وإتقانٍ، وهو العليم بما يَخلُق، وكيف يَخلقُه، كما أنَّ عِلمه سبحانه محيطٌ بجميع ما خلَق
.
كما قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 9-12] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون: 17] .
الفوائد التربوية:
1- المؤمِن لا يمكن أن يُعارِض ما أنزل الله عزَّ وجلَّ بعقله؛ لقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
.
2- أنَّ إضلال مَن ضَلَّ راجع إلى وجود العِلَّة التي كانت سببًا في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ .
3- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة: 27] ، التَّحذير من نقْض عهد الله من بعد ميثاقِه؛ لأنَّ ذلك يكون سببًا للفِسق
.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، دلالةٌ على رحمة الله تعالى بعبادِه حيث يُقرِّر لهم المعاني المعقولة بضَرْب الأمثال المحسوسة؛ لتتقرَّرَ تلك المعاني العظيمة في عقولِهم
.
2- أنَّ القياس حُجَّة؛ لأنَّ كلَّ مَثَل ضربه الله في القرآن، فهو دليلٌ على ثبوت القياس .
3- إثبات الرُّبوبيَّة الخاصَّة؛ لقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِمْ .
4- أنَّ دَيدنَ الكافرين الاعتراضُ على حُكم الله، وعلى حِكمة الله؛ لقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا .
5- كثرة الضُّلَّال وكثرة المهديِّين، بالنَّظر إلى كلِّ واحد من القبيلين على حدة، لا بالقياس إلى مُقابليهم؛ فإنَّ المهديِّين قليلون بالإضافةِ إلى أهل الضَّلال، كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
6- أنَّ الموت يُطلَق على ما لا رُوحَ فيه، وإن لم تسبقْه حياةٌ .
7- أنَّ الجنين لو خرَج قبل أن تُنفَخ فيه الرُّوح، فإنَّه لا يثبت له حُكم الحيِّ؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يَرِث، ولا يُورث .
8- أنَّ الأصل الحِلُّ في كلِّ ما في الأرض من أشجار، ومياه، وثمار، وحيوان، وغير ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة، وتمَّ تأكيدُ هذا العموم بقوله تعالى: جَمِيعًا .
9- كمال خَلْق السَّموات؛ لقوله تعالى: فسوَّاهنَّ
.
10- في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ إثباتُ الأفعالِ لله تعالى، كالاستواءِ.
بلاغة الآيات:
1- قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا فيه لَفٌّ ونَشْر [340] اللَّف والنَّشْر: هو ذكر شيئين أو أشياء، إمَّا تفصيلًا - بالنصِّ على كلِّ واحد، أو إجمالًا - بأن يُؤتى بلفظ يشتمل على متعدِّد - ثم يذكر أشياء على عدَد ذلك، كل واحد يرجِع إلى واحدٍ من المتقدِّم، ويُفوَّض إلى عقل السامع ردُّ كلِّ واحد إلى ما يَليق به. فاللّف يُشار به إلى المتعدِّد الذي يُؤتى به أوَّلًا. والنشر يُشار به إلى المتعدِّد اللَّاحق الذي يتعلَّق كلُّ واحد منه بواحد من السَّابق دون تعيين. مثل: قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخُل الجنة إلا النصارى، وهذا لفٌّ ونَشْر إجمالي. يُنظر: في تفصيل أقسامه وأمثلة على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ؛ لأنَّه لَمَّا تقدَّم ذِكر المثل، وذكَر بعده الفريقين، عقَّبه ببيان أنَّه يُضلُّ به قومًا، ويَهدي به آخَرين [341] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (1/80). .
2- قوله: فَأَمَّا الذين فأمَّا حرف فيه معنى الشَّرط، وفائدته في الكلام أن يُعطيَه فَضْلَ توكيد [342] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/117). .
3- قوله: يُوصَل بناء يوصل لِمَا لم يُسمَّ فاعله أبلغُ من بِنائه لِمَا سُمِّي فاعله؛ لأنَّه يَشمل ما أمَر الله بأن يَصِلوه هم، أو يصِله غيرُهم [343] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208). .
4- قوله: بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، وفَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا... وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، ووَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فيها طِباق، ومُقابَلة- وهي تعدُّد الطِّباق في الكلام [344] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/72). . وفائدته: إبراز المعنى وتوضيحه بذِكر الشَّيء وضِده، وهو من محاسِن البيان.
5- قوله: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ جاء ترتيب هذه الصِّلات في غاية من الحسن؛ لأنَّه قد بدأ أولًا بنقض العهد، وهو أخصُّ هذه الثَّلاث، ثم ثنَّى بقَطْع ما أمر الله بوصْله، وهو أعمُّ من نقْض العهد وغيره، ثم أتى ثالثًا بالإفساد الذي هو أعمُّ من القَطع، وكلُّها ثمرات الفِسق [345] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208). .
6- في قوله: الفَاسِقِينَ أتى باسم الفاعل (فاسقين) صِلةً للألف واللام- والتقدير: الذين فسَقوا-؛ ليدلَّ على ثبوتهم في هذه الصِّفة، فيكون وصف الفِسق لهم ثابتًا، وتكون النتائج عنه متجددة متكرِّرة، فيكون الذمُّ لهم أبلغَ؛ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدُّد فروعه ونتائجه [346] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208). .
7- قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ
استفهام عن حال، وصَحِبه معنى التقرير والتوبيخ، أو صحِبه الإنكارُ والتعجُّب؛ فخرَج عن حقيقةِ الاستفهام، وإنكار الحال بـ(كيف) يستلزم إنكارَ الذَّات ضرورةً، وهو أبلغُ [347] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/121)، ((تفسير ابن عطية)) (1/112)، ((تفسير أبي حيان)) (1/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/374). .
تَكْفُرُونَ: فيه التفات؛ لأنَّ الكلام قبلُ كان بصورة الغَيبة، وهنا بصيغة الخِطاب، ومن فوائده هنا: أنَّ الإنكار إذا توجَّه إلى المخاطَب كان أبلغَ من توجُّهه إلى الغائب؛ لجواز أنْ لا يصلَه الإنكار، كما أنَّ الإنكار على المخاطَب أردعُ له عن أن يقَعَ فيما أُنكر عليه [348] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/209). .
==============
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (30-33)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
غريب الكلمات:
خَلِيفَةً: الخِلافة النِّيابة عن الغَير، خلف فلان فلانًا: قام بالأمر عنه، إمَّا معه وإمَّا بَعدَه، وأصله: مجيء شيءٍ بعدَ شيء يقوم مقامَه
.
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ: أي: يُسيلها، وأصل السَّفك: الصَّبُّ والإراقة؛ يقال: سفَك دمَه: إذا أسالَه .
وَنُقَدِّسُ لك: أي: نُطهِّر الأشياء ارتسامًا لك، أو نصفك بالتقديس، ونثبت ما يَلِيق بك، ونُقدِّسك ونُقدِّس لك بمعنى واحد، وأصل التقديس: التطهير .
سُبْحَانَكَ: سُبْحَانَ: اسْم وُضِع مَوضِع المصدر، ومعناه التَّنزيه والتبرئة للربِّ- جل ثناؤه- من السُّوء، وأصله: المرُّ السَّريع في عِبادة الله تعالى
.
مشكل الإعراب:
قوله: سُبْحَانَكَ: منصوب، مفعول مطلَق لفِعل محذوف وجوبًا، على أنَّه مَصدرٌ، أو اسم مصدر (التسبيح)، أي: نُسبِّحك تسبيحًا. والكاف في محلِّ جرٍّ بالإضافة، ويجوز أن يكون الضمير مفعولًا به لأنه هو المُسبَّح، أو فاعلًا؛ إذ المعنى: تنزَّهْتَ
.
المعنى الإجمالي:
يُذكِّر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، بقوله للملائكة بأنَّه سيجعل في الأرض خَلقًا يَخلُف بعضُهم بعضًا، وهو آدَمُ وذريَّته من بعده، فقالت الملائكة مُستعلِمين لا مُعترِضين: أتجعَلُ في الأرض مَن يفسدون فيها، ويَقتُل بعضُهم بعضًا؟! ولم نُستخلفْ نحن مع أنَّنا دائمو التسبيح بحمدك والتقديس لك؟! فأخبرهم تعالى أنَّه يَعلمُ ما لا يعلمون، ممَّا خفِيَ عليهم من الحِكَم والمصالِح بخَلْقه البَشرَ، واستخلافِهم في الأرض.
وعلَّم اللهُ آدمَ عليه السَّلام أسمَاء كلِّ شيء، ثم أظهر الأشياءَ التي علَّمه أسماءها للملائكة، وأمَرهم أن يخبروه عن أسمائها، إنْ كانوا محقِّين في دعواهم العلمَ بالأشياء، وأنَّهم يستحقُّون الأفضلية على آدَم. فحِينها نزَّه الملائكة اللهَ سبحانه وتعالى، وأقرُّوا أنَّهم لا يعلمون شيئًا إلَّا ما علَّمهم سبحانه، وهو العالم بكلِّ شيء، والحَكيم الذي يَضَع الأمورَ في مواضعها.
فأمَر اللهُ تعالى آدمَ أن يُخبر الملائكة بأسماء تلك الأشياء، فأخبَرهم بها، فلمَّا أخبرهم بانَ فضلُه على الملائكة، فقال لهم الله تبارك وتعالى مقرِّرًا بأنه قد سبَق وأخبرهم أنَّه يعلم كلَّ ما يغيب عن الخلق في السَّموات والأرض، كما يعلم ما يُظهِره الملائكةُ وما يُخفُونه.
تفسير الآيات:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
أي: واذكر
يا محمَّد، حين قال ربُّك للملائكة أنَّه سيجعل في الأرض خليفةً، وهو آدَمُ عليه السَّلام، وذُريتُه من بعده، يَخلُف بعضُهم بعضًا، جيلًا بعد جِيل .
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.
أي: قال الملائكةُ لربَّهم مُستَعْلمين لا مُعْتَرِضين: ما الحِكمةِ من إقامة ذُرِّية آدَم في الأرض، والحال أنَّهم سيُفسدون فيها، ويُعمِلون القَتلَ بينهم، ولم نُستخلفْ نحن في الأرض مع أنَّنا دائمون على تسبيحك تسبيحًا مصحوبًا بالحمدِ لك ودائمون على التقديس لك؟
والتسبيح هو تنزيهُ الله تعالى، أي: يُبعِدون كلَّ نقصٍ وعيب، فلا ينسبونه إلى الله عزَّ وجلَّ.
والحمدُ هو وصفُ الله المحمودِ بالكمالِ، حبًّا وتعظيمًا له عزَّ وجلَّ.
والتقديس هو التطهيرُ، فيَصِفون الله تعالى بالطَّهارة من جميع الأدناس .
كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] .
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، سُئِلَ: أيُّ الكلام أفضلُ؟ قال: ((ما اصطَفَى اللهُ لملائكتِه أو لعباده: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه )) .
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
أي: أنا العالم بالظَّواهر والسرائر، أعلم ما خفِي عليكم ممَّا يحصُل بخَلْق البَشَر من المصالِح والحِكم، ومِن ذلك: أنَّه يكونُ منهم الرُّسُل والأنبياء والصِّدِّيقون وغيرُهم ممَّن يُحقِّق عبوديةَ الله تبارك وتعالى .
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أَعلم سبحانه الملائكةَ أنَّ الأمر على خِلاف ما ظنُّوا، شرَع في إقامة الدَّليل عليه ، فقال:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا.
أي: إنَّ الله تعالى قد عَلَّم آدَمَ عليه السَّلام أسماءَ كلِّ شيء .
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أي: أظْهَر الله تعالى تلك المسمَّياتِ للملائكة، وامتحنهم تحديًا لهم، فأمَرهم أن يُخبروه بأسماء ما عَرَض عليهم، إنْ كانوا حقًّا صادقين في دَعواهم بأنَّهم على علمٍ بالأشياء، ومستحَقُّون للأفضلية على آدَم .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
هذا تنزيهٌ من الملائكة لله عزَّ وجلَّ بنفي علم أي شيءٍ، إلَّا ما علَّمهم الله تعالى، وهو العليم بغِير تعليم، وهو الحكيم الذي يضَعُ الأشياءَ مواضعَها، حكيمٌ في خَلْقه وأمْره، وفي تعليم مَن يشاء، فنَفَى الملائكةُ الكرام أصلَ العلم عن أنفسهم، وأثبتوا كمالَ العِلم والحِكمة لله تبارك وتعالى .
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
أي: أمَر اللهُ تعالى آدَمَ عليه السَّلام أن يُخبر الملائكةَ بأسماء الأشياء التي علَّمها الله تعالى إيَّاه من قبلُ، وعرَضها سبحانه على الملائكة، فلم يعرفوها، فلمَّا أخبرهم آدَمُ بتلك الأسماء، فسمَّى كلَّ شيء باسمه، ظهَر فضلُه وشرفُه عليه السَّلامُ على الملائكة، فقال الله تعالى مقرِّرًا بأنه قد قال لهم من قَبلُ بأنَّه يعلم كلَّ ما يَغيب عن الخلْق، سواء في السموات أو في الأرض، كما يعلم سبحانه ما يُظهِره الملائكة، وما يُخفونه
.
كما قال تعالى إخبارًا عن قولِ الهُدهد لسليمان عليه السَّلام: أَلَّا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل: 25] .
الفَوائِد التربويَّة:
1- في قوله تعالى: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، جوازُ امتحانِ الإنسان بما يدَّعي أنَّه مُجيدٌ فيه
.
2- جواز التحدِّي بالعبارات التي يكون فيها شيءٌ من الشدَّة؛ لقوله تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
3- في قوله تعالى: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، إشارةٌ إلى تقرير المخاطَب بما لا يُمكنه دفعُه .
4- عمومُ عِلم الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه يتعلق بالمُشاهَد، والغائِب، وأنَّ الله تعالى عالِم بما في القلوب، سواء أُبدِي أم أُخفي، وهذه المعرفة تَزرع في القلب خشيةَ الله تبارك وتعالى
.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- دلَّ قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً على أنَّه يَعلم أنَّ آدَمَ يَخرُج من الجَنَّة؛ فإنَّه لولا خروجُه من الجنة لم يَصِرْ خليفةً في الأرض، فإنَّه أمَرَه أن يسكُن الجنة ولا يأكل من الشجرة، ونهاه عن طاعة إبليس، وقد علِم قبل ذلك أنه يخرج من الجنَّة، وأنَّه إنَّما يخرُج منها بسبب طاعته إبليسَ، وأكْله من الشَّجرة؛ ولهذا قال مَن قال من السَّلف: إنَّه قدَّر خروجه من الجنة قبل أن يأمُرَه بدخولها بقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
.
2- في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ إثباتُ القول لله عزَّ وجلَّ، وأنَّه بحَرْف، وصوت؛ وهذا مذهبُ السَّلَف الصَّالح .
3- في قوله تعالى: قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، جاء ابتِداء خِطاب آدَم بندائه مع أنَّه غيرُ بعيد عن سماع الأمْر الإلهيِّ؛ للتنويه بشأن آدَم، وإظهار اسمه في الملأ الأعلى؛ حتى ينالَ بذلك حُسنَ السُّمعة، مع ما فيه من التكريم عند الآمِر؛ لأنَّ شأن الآمِر والمُخاطِب إذا تَلطَّفَ مع المُخاطَب أن يَذكُرَ اسمَه ولا يَقتصرَ على ضمير الخطاب؛ حتى لا يساويَ بخِطابِه كلَّ خِطاب، ومنه ما جاء في حديث الشَّفاعة بعد ذِكر سجود النبيِّ وحمْدِه اللهَ بمحامدَ يُلهمه إيَّاها، فيقول: ((يَا مُحمَّدُ، ارفعْ رأسك، سَلْ تُعطَ، واشفعْ تُشفَّع ))
.
بلاغة الآيات:
1- في قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
إسنادُ القول إلى الربِّ في هذا المقام في غايةٍ من المناسَبة والبيان
.
وفيه التفاتٌ بتنويع الخِطاب، بخروجه من الخِطاب العام إلى الخِطاب الخاص .
2- في قوله: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
عبَّر بالجُملة الاسميَّة؛ لإفادة الدَّلالة على الدَّوام والثَّبات، أي: هو وصفُهم الملازم لجِبلَّتهم .
وتقديمُ المسنَد إليه نَحْنُ على الخبَر الفِعلي نُسَبِّحُ دون حرْف النَّفي، يحتمل أن يكون للتَّخصيص، بحاصل ما دلَّت عليه الجملةُ الاسميَّة من الدَّوام، أي: نحن الدَّائمون على التَّسبيح والتقديس دون هذا المخلوق .
قوله: لَا عِلْمَ لَنَا النَّكرة فيه مبنيَّة مع (لا)، والنكرة لا تُبنَى على الفتح مع (لا) إلَّا إذا كانت (لا) لنفي الجِنس، فهي نكرةٌ في سياق النفي فتعم، والمعنى: أنَّهم نفَوا جِنسَ العلم من أصله عن أنفسهم، إلَّا شيئًا علَّمهم الله سبحانه إيَّاه، وهؤلاء الرُّسل الكرام عليهم صلواتُ الله وسلامُه- مع ما أعطاهم الله من العِلم والمكانة - يقولون: إنَّهم لا يعلمون من الغيب إلَّا ما علَّمهم الله .
3- قوله: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فيه وضع للمُظهَر بِأَسْمَائِهِمْ موضع الضمير (بها)؛ لبيان شأنه، والاهتمام به .=------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...