حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

3. سُورَةُ آل عِمْرانَ {ج1}



سُورَةُ آل عِمْرانَ
مقدمة السورة

أسماءُ السُّورة:
1- سُمِّيتْ هذه السُّورةُ بسورة: آل عِمْرانَ .
فعن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ رضِي اللهُ عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: ((يُؤتَى بالقُرْآنِ يومَ القيامةِ وأهلِه الَّذين كانوا يَعمَلون به، تَقدُمُه سورةُ البقرة وآلِ عِمْرانَ- وضرب لهما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثلاثةَ أمثالٍ ما نَسيتُهنَّ بعدُ- قال: كأنَّهما غَمَامَتانِ، أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بينهما شَرْقٌ، أو كأنَّهما حِزْقانِ من طَيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن صاحبِهما )) .
2- سُمِّيتْ هي والبقرةُ بالزَّهْرَاوَيْنِ .
فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: ((اقْرَؤوا القُرْآنَ؛ فإنَّه يأتي يَومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه، اقرَؤوا الزَّهْرَاوَيْنِ: البقرةَ وسورةَ آلِ عِمْرانَ ...))
.
فضائلُ السُّورةِ وخَصائِصُها:
1- سورةُ آل عِمْرانَ تُحاجُّ عن صاحبها يومَ القِيامة مع البقرةِ:
- فعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: ((اقْرَؤوا القُرْآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه، اقرَؤوا الزَّهرَاوَينِ : البقرةَ وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتِيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ ، أو كأنَّهما غَيَايَتانِ أو كأنَّهما فِرْقانِ من طيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن أصحابهما، اقرَؤوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها بركةٌ، وتركَها حسْرةٌ، ولا يستطيعُها البَطَلَةُ ))، قال معاويةُ: بلغني أنَّ البَطَلَةَ السَّحَرةُ .
- عن النَّوَّاس بن سَمْعانَ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: ((يُؤتَى بالقُرْآنِ يومَ القيامةِ وأهلِه الَّذين كانوا يعمَلون به، تقدُمُه سورةُ البقرةِ وآلُ عِمْرانَ، وضرب لهما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ثلاثةَ أمثالٍ، ما نسيتُهنَّ بعدُ، قال: كأنَّهما غَمامَتانِ أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ، بينهما شَرْقٌ ، أو كأنَّهما حِزْقانِ من طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن صاحبِهما )) .
2- تعظيمُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم لقارِئ البقرةِ وآلِ عِمْرانَ:
فعن أنسٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((كان الرَّجُلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا- يعني: عظُمَ- وفي رواية: يُعَدُّ فينا عَظيمًا، وفي أخرى: عُدَّ فينا ذا شأنٍ))
.
بيانُ المَكِّيِّ والمَدنيِّ:
سورةُ آل عِمْرانَ سورةٌ مدنيَّةٌ، نزلَتْ بعد الهجرةِ، ونقَل الإجماعَ على ذلك عددٌ من المفسِّرين
.
مقاصد السُّورةِ:
مِن أهمِّ المقاصد الَّتي تضمَّنَتْها سورةُ آل عِمْرانَ:
1- إثباتُ وَحْدانيَّةِ الله, وإقامة الأدلَّة والحُجَجِ عليها.
2- بيانُ أهميَّةِ عقيدةِ الولاءِ والبَرَاء، والتَّحذيرُ من ولايةِ غيرِ المؤمنين، وتفصيلُ أحوالِ أهلِ الكتاب.
3- الاهتمامُ بجوانب التَّربيَةِ والإرشادِ والتَّوجيهِ للمؤمنين.
موضوعاتُ السُّورةِ:
مِن أبرزِ الموضوعاتِ الَّتي تناولَتْها سورةُ آلِ عِمْرانَ:
1- بيانُ وَحْدانيَّةِ اللهِ تبارَك وتعالَى المُطلَقةِ, وتقريرُ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ: الألوهيَّةِ, والرُّبوبيَّةِ, والأسماءِ والصَّفاتِ.
2- تقريرُ وَحْدةِ الجِهةِ الَّتي تنزَّلَتْ منها جميعُ الكُتُبِ والدِّياناتِ السَّماويَّةِ.
3- بيانُ أقسامِ النَّاس مع مُحكَمِ القُرْآنِ ومُتشابِهِه.
4- تحذيرُ أهلِ الكفرِ المناوئين للهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فالسُّلطانُ والقوَّةُ والجاهُ والولَدُ لن يُغنيَ عنهم شيئًا من عذاب اللهِ وسَطوتِه, وأنَّ نهايتَهم هي الخسرانُ المُبينُ في الدُّنيا والآخرةِ, وضرب لهم الأمثالَ لكفَّارٍ قبلَهم وكفَّارٍ بعدهم، وكيف كانت نهايتُهم.
5- الإشارةُ إلى غزوةِ بَدْرٍ الكبرى، وذكرُ تفاصيلِ ما جرى في غزوةِ أُحُدٍ من أحداثٍ.
6- الإشارةُ إلى أحبِّ الشَّهواتِ النَّفسيَّةِ للإنسانِ, وبيان أنَّ هناك ما هو خيرٌ منها, وهو ما أعَدَّه اللهُ للمتَّقين مِن نعيمٍ مقيمٍ في جنَّاتِ الخُلدِ.
7- بيانُ أهميَّةِ دِينِ الإسلامِ، وأنَّه دينُ الله الَّذي لا يَقبَلُ غيرَه.
8- تفصيلُ أحوالِ أهل الكتاب، وفَضْحُ ضلالاتِهم, وما وقَعوا فيه من اختلافٍ في أمرِ دِينهم, وما ارتكَبوه من جرائمَ وموبقاتٍ بتكذيبِهم بآياتِ اللهِ، وقتلِهم أنبياءَه والدُّعاةَ إليه, وامتناعِهم عن التَّحاكُمِ إلى كتابِه، وقِصَّتُهم مع عيسى عليه السَّلام، وكُفْرُهم به، ودعوةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى مُباهَلةِ كلِّ مَن جادَله منهم في شأنِ عيسى عليه السَّلام مِن بعدما جاء العلمُ، وأمرُ اللهِ لرسولِه أنْ يدعوَهم إلى كلمةٍ سواءٍ, وهي كلمةُ التَّوحيد، ومجادلتُهم في إبراهيمَ عليه السَّلام, وبيانُ الحقِّ لهم في شأنِه، وذِكْرُ مجموعةٍ من صفاتهم الَّتي اتَّصفوا بها؛ كإرادتهم إضلالَ المسلمين, وكُفرِهم بآياتِ الله, ولَبْسِهم الحقَّ بالباطل, ولَيِّهم ألسنتَهم بالكتاب بما ليس منه إيهامًا للمؤمنين, وغيرُها. وأمرُ اللهِ لنبيِّه بمجادلتِهم، وبيانُ الحقِّ لهم في أكثرَ مِن موضعٍ من مواضعِ السُّورةِ، وتحذيرُ اللهِ لأوليائه المؤمنين من اتِّباعِهم وطاعتِهم, وإخبارُ اللهِ تبارَك وتعالَى أنَّ أهلَ الكتاب ليسوا سواءً, وثناؤُه على طائفةٍ منهم، وهم الَّذين يتلُون آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيل, ويُؤمنون باليومِ الآخِرِ، ويَأمُرون بالمعروفِ، ويَنهَوْن عن المنكَرِ، وغير ذلك ممَّا يتعلَّقُ بأهلِ الكتابِ.
9- التنبيهُ على عقيدةِ الولاء والبَرَاءِ, والتَّأكيدُ عليها, والتَّحذيرُ مِن ولاية غيرِ المؤمنين، واتِّخاذِهم بِطانةً من دونِ المؤمنين.
10- بيانُ أنَّ محبةَ الله لها دلائلُ وعلاماتٌ وثمارٌ؛ فمِن دلائلِها: اتباعُ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ, ومِن ثمارِها: محبَّتُه لِمَن أطاع رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
11- ذِكرُ الأنبياء، وبيانُ علوِّ مراتبِهم, واصطفاءِ الله لهم، وبيان قصَّةِ مريمَ وابنِها عيسى عليهما السَّلام، وقصَّة زكريَّا وابنِه يحيى عليهما السَّلام.
12- ذِكرُ مجموعةٍ من الآدابِ التَّربويَّةِ للجماعةِ المسلِمةِ؛ كالوصيَّةِ بالتَّقوى, والاعتصامِ بحبلِ اللهِ, ونَبْذِ الفُرقةِ والاختلافِ, وأمرهم بالدَّعوةِ إلى الخيرِ, وامتنانه عليهم بأنْ جعَلَهم خيرَ أمَّةٍ أُخرِجت للنَّاسِ, وحثهم على الإنفاقِ، وغيرها من الآدابِ العظيمةِ المنثورة في ثنايا السُّورةِ.
13- ذِكرُ بعض الأحكام الشَّرعيَّة؛ كالجهادِ في سبيلِ الله، والنَّهيِ عن أكلِ الرِّبا، والنَّهيِ عن الغُلولِ، وعقوبة مانع الزَّكاةِ.

====


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (1- 4)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
غريبُ الكَلِماتِ:

الْقَيُّومُ: القائمُ بنَفْسِه الذي لا يَزول، والحافِظُ لكلِّ الأشياءِ والعالِم بها، المقيمُ غيرَه والمعطي له ما به قِوامُه؛ فهو القائمُ على أمْر خَلْقه بآجالِهم وأرزاقِهم وأعمالِهم، يَكْلَؤُهم ويَرزُقُهم ويَحفَظُهم، على وزن (فَيْعُول)، مِن قُمْتُ بالشِّيء: إذا وَلِيته
.
الْفُرْقَانَ: الذي يَفرِق بَين الحقِّ والباطِل. وأصله من الفَرْق- وهو الانفصالُ والتَّمييزُ بين شَيئينِ- ومنه قيل للحُجَّة والقُرآنِ وغيرِه مِن الكتُب: فُرقانٌ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

افتَتَحَ اللهُ تبارَك وتعالَى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالحروف المقطَّعة؛ لبيانِ إعجاز القرآنِ؛ إذ يَعجِزَ الخَلْقُ عن معارضتِه بالإتيان بشيءٍ من مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يتحدَّثون بها! ثمَّ ثنَّى سبحانه بالإخبارِ بأُلوهيَّتِه، وأنَّه الإلهُ الَّذي لا معبودَ بحقٍّ إلَّا هو، الَّذي من صِفاته: أنَّه الحيُّ الَّذي له الحياةُ الكاملةُ المستلزِمةُ لجميع الصِّفات، والقيُّوم الَّذي قام بنفسِه؛ فاسْتغنَى عن جميعِ مَخلوقاتِه، وقام على غيرِه فافتقَرَت إليه جميعُ مخلوقاته، ومِن قيامه تعالى بعبادِه ورحمته بهم: أنَّه نزَّل على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القُرْآنَ مشتملًا على الحقِّ، ومُصدِّقًا للكتبِ السَّابقة، وأنزل التَّوراةَ على موسى، والإنجيلَ على عيسى، من قبلِ إنزال القُرْآنِ، أنزل هذه الكتبَ جميعًا من أجلِ هدايةِ النَّاس، وأنزَل فيها ما يُفرِّقُ بين الحقِّ والباطل، والهُدى والضَّلال؛ فلهذا توعَّد الَّذين كفَروا بآياته بالعذاب الشَّديد يوم القيامة؛ فهو سبحانه لا يُغالَب، ولا يُعجِزه شيءٌ، وهو ذو انتقام ممَّن عصاه.
تفسير الآيات:

الم (1)
هذه الحروفُ المقطَّعة التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآن؛ حيث تُظهرُ عَجْزَ الخَلْقِ عن مُعارضتِه بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّة التي يَتحدَّثون بها
!
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2):
أي: لا أحدَ معبودٌ بحقٍّ سِوى الله تعالى؛ فهو وحْدَه المستحِقُّ للعبادة حبًّا وتعظيمًا له سبحانه؛ لكمالِ صِفاتِه .
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] .
الْحَيُّ الْقَيُّومُ:
أي: إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى هو الذي له الحياةُ الكاملة، التي لم يَسبِقها عَدَمٌ، ولا يَلحَقها زَوالٌ، المٌستلزِمةُ لجميعِ صِفاتِ الكمال، وهو أيضًا القائمُ بنفْسِه؛ فلا يَحتاج لأحدٍ، القائمُ بأمورِ غيرِه من خَلْقه مِن الرَّزق وغيرِه؛ فكلُّ الموجوداتِ إليه مُفتَقِرةٌ، ولا قِوامَ لها بدونه، وهذه القَيُّوميَّة مُستلزِمةٌ لجميعِ أفعالِ الكَمال .
قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان: 58] .
وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم: 25] .
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
أي: أَنزل اللهُ القُرْآنَ عليك- يا محمَّدُ- مُشتملًا على الحقِّ والصِّدق، وأيضًا فنزولُه حقٌّ لا شكَّ فيه؛ فهو منزَّلٌ مِن عندِ اللهِ تعالى .
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
أي: مصدِّقًا للكتُبِ السَّابقةِ المنزَّلةِ قَبله مِن اللهِ على أنبيائه ورُسُلِه ؛ وذلك إمَّا باعتبار أنَّها أَخبرتْ به فكان نزولُهُ مصدِّقًا لها، وإمَّا باعتبار أنَّه حاكمٌ عليها بالصِّدق .
فإنْ قيل: كيف يكونُ القرآنُ مُصدِّقًا لِمَا بَينَ يَديهِ وهو ناسخٌ لعامَّة أحكامِه؟
قيل: تَصديقُه إيَّاه تحقيقُه أنَّه مِن جِهة الله، ومطابقتُه إيَّاه في كونِه داعيًا إلى التَّوحيدِ وفِعلِ الخيرِ ونحوِ ذلك، وإلى أنواعِ العباداتِ دون قَدْرِها وهَيكلِها، وكيف إيقاعُها .
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ
أي: أنزل التَّوراةَ على موسى عليه السَّلام، والإنجيلَ على عيسى عليه السَّلام، مِن قَبلِ هذا القُرْآنِ الَّذي نزَّله عليك .
هُدًى لِلنَّاسِ، أي: بيانًا للنَّاسِ عُمومًا مِن اللهِ تعالى .
وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ
أي: وأنزَلَ في كُتبِه ما يُفرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ ، والهُدى والضَّلال .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر اللهُ سبحانه ما يتعلَّقُ بمعرفةِ الإله، وما يَتعلَّقُ بتقريرِ النُّبوَّةِ، أَتْبَع ذلك بالوعيدِ؛ زجرًا للمُعرِضين عن هذه الدَّلائلِ الباهِرة عليهما ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
أي: إنَّ الذين كَفروا بآياتِ اللهِ، فأَنكَروها، وردُّوها بالباطلِ لهم عذابٌ شديدٌ يوم القيامةِ .
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
أي: عزيزٌ في سُلطانِه، لا يَمنَعُه مانعٌ ممَّن أراد عذابَه منهم، ولا يحُولُ بينه وبينه حائلٌ، ولا يَستطيعُ أنْ يُعاندَه فيه أحدٌ، وأنَّه ذو انتقامٍ ممَّن جحَد حُجَجَه وأدلَّتَه، وخالَف رُسلَه

.
الفوائد التربوية:

يُؤخَذُ من قولِه تعالى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ أنَّه كلَّما اهتدى الإنسانُ للفروقِ، كان أعظمَ اهتداءً بالكتُب المنزَّلةِ من الله؛ لأنَّ الكتُبَ كلَّها فُرقانٌ، فمَن يُفرِّقُ مثلًا بين الشِّركِ الأصغرِ والأكبر، وبَين النِّفاقِ الاعتقاديِّ والعمليِّ، وبين الحلالِ والحرام- كان أشدَّ اهتداءً بالكتبِ ممَّن لا يُفرِّقُ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- لَمَّا كان سببُ نزولِ صدْر هذه السُّورةِ هو قضيةَ مجادلةِ نصارى نَجْرانَ حينَ وفَدوا إلى المدينةِ، وبيانَ فضلِ الإسلام على النَّصرانيَّةِ- ناسَب أنْ تُفتَتَحَ السُّورةُ بحروف التَّهجِّي، المرموزِ بها إلى تحدِّي المكذِّبين بهذا الكتابِ
.
2- قولُ الله تبارَك وتعالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فيه ردٌّ على النَّصارى في قولِهم بأُلوهيَّةِ عيسى عليه السَّلام؛ فجاء البيانُ هنا أنَّ أحَدًا لا يستحقُّ العبادةَ سوى الله عزَّ وجلَّ .
3- الجمعُ بين الاسمينِ الكريمينِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فيه استغراقٌ لجميعِ ما يوصَفُ اللهُ به بجميعِ الكمالات؛ ففي الحَيُّ كمالُ الصِّفاتِ، وفي القَيُّومُ كمالُ الأفعال، وفيهما جميعًا كمالُ الذَّات؛ فهو كاملُ الصِّفاتِ والأفعالِ والذَّات .
4- القرآن نزلَ نُجومًا: شيئًا بعدَ شيءٍ؛ فلذلك قال: نَزَّلَ والتنزيلُ مَرَّةً بعدَ مرَّة، والتوراة والإنجيل نَزلَا دفعةً واحدة؛ فلذلك قال: أَنْزَلَ .
5- في قولِه تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ جمَع التَّوراةَ والإنجيلَ في إنزالٍ واحدٍ، واستجدَّ للقرآنِ إنزالًا؛ تَنبيهًا على علوِّ رُتبتِه عنهما .
6- ذَكَر في قوله: مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ هذا القيدَ مِنْ قَبْلُ؛ لكي لا يتوهَّم أنَّ هُدَى التوراةِ والإنجيل مُستمرٌّ بعد نزول القرآن، وفيه إشارةٌ إلى أنَّها كالمقدِّماتِ لنزولِ القرآن، الذي هو تمامُ مرادِ الله مِن البَشر؛ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ [آل عمران: 19] .
7- إثباتُ الحِكمةِ للهِ تعالى في أحكامِه الشَّرعيَّة، كما تَثبتُ في أحكامِه الكونيَّةِ؛ لقولِه: هُدًى لِلنَّاسِ .
8- في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ بيانُ أنَّ جميعَ كتبِ الله تبارَك وتعالَى فُرقانٌ؛ لِما تضمَّنَتْه من تفريقٍ بين الحقِّ والباطل, والصِّدقِ والكذِبِ, والمؤمنِ والكافر, والضَّارِّ والنَّافع .
9- في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ أنَّ الكتبَ السَّماويةَ لا تَجمعُ بين مُختلفينِ، ولا تُفرِّقُ بَين متماثلينِ أبدًا؛ فهي فُرقانٌ, والفُرقانُ هو الَّذي يُفرِّقُ بين شَيئينِ مختلفينِ، أمَّا شيئانِ لا يَختلفانِ فلا تَفريقَ بينهما، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: إثباتُ القياسِ؛ لأنَّه جمْعٌ بين متماثلينِ، وعَدمُ الأخْذِ بالقياس تفريقٌ بين مُتماثلينِ .
10- في قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، قال سبحانه: ذُو انْتِقَامٍ ولم يقُلْ: (ذو الانتقام)؛ لأنَّ الانتقامَ ليس من أوصافِ اللهِ المطلَقةِ، وليس من أسمائِه، وإنَّما يُوصَفُ اللهُ به مقيَّدًا؛ فيُقال: المنتقِمُ من المجرِمين؛ كما قال تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] ، فقوله ذُو انْتِقَامٍ لا يُعطي معنى الانتقامِ المطلَقِ؛ لأنَّ (انتقام) نكِرة، فلا تُعطي المعنى على إطلاقِه، بل له انتقامٌ مقيَّدٌ بالمجرِمينَ ونحوِهم

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: الم: فيه مِن ضُروبِ الفصاحةِ: حُسنُ الإبهامِ في الافتتاح بـ(الم)؛ ليُنبِّهَ الفِكرَ إلى النَّظر فيما بعدَه من الكلام
.
2- في قوله تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ:
- جِيءَ بالاسمِ العَلَم الجَليل (الله)؛ لتربية المهابة عند سماعِه، ثمَّ أُرْدِفَ بجُملة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وهي جملةٌ معترِضةٌ أو حاليَّة؛ ردًّا على المشركين، وعلى النَّصارى خاصَّة .
- وأُتْبِعَ بالوَصفينِ (الحي القيُّوم)؛ لنفي اللَّبْس عن مُسمَّى هذا الاسم، والإيماءِ إلى وجه انفرادِه بالإلهيَّة، وأنَّ غيرَه لا يَستأهلُها؛ لأنَّه غيرُ حيٍّ، أو غير قيُّوم .
3- قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ:
في قوله: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... نَزَّلَ عَلَيكَ الكِتَابَ:
- ابتداءُ الكلامِ بمُسنَد إليه اللهُ خبرُه فِعليٌّ نَزَّلَ؛ لإفادةِ تقويةِ الخبرِ؛ اهتمامًا به، والخبرُ هنا مستعمَلٌ في الامتِنانِ، أو هو تَعريضٌ ونِكايةٌ بأهل الكتاب: الَّذين أَنكروا ذلك .
- وجِيء بالمسنَد فِعلًا؛ لإفادة تقويةِ الخبرِ، أو للدَّلالة- مع ذلك- على الاختصاصِ، أي: اللهُ لا غيرُه نَزَّل عليك الكتابَ إبطالًا لقول المشركين: إنَّ القُرْآن من كلام الشَّيطان، أو مِن طَرائق الكَهانة، أو يُعلِّمه بَشرٌ .
- قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ:
- فيه تقديمُ الجارِّ والمجرور عَلَيْكَ؛ للحصرِ والاختِصاص؛ وكأنَّ مُوجِبَ ذلك ادِّعاءُ بعضِهم أنَّه يُوحَى إليه، وأنَّه يَقدِر على الإتيانِ بمِثل هذا الوحي ، وللاعتناءِ بالمقدَّم والتشويق إلى المؤخَّر .
- وعبَّر في قولِه تعالى: الكِتَابَ عن (القُرْآنَ) باسمِ الجِنس؛ إيذانًا بكمالِ تَفوُّقه على بقيَّة الأفرادِ في حِيازةِ كمالاتِ الجِنس، كأنَّه هو الحقيقُ بأنْ يُطلَقَ عليه اسمُ الكتاب دون ما عَداه كما يُلوِّحُ به التصريحُ باسْمي التَّوراةِ والإنجيل .
- وذَكَر الـمُنزَّلَ على نَبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: عَلَيْكَ، ولم يأتِ بذِكرِ المنزل عليه التَّوراة، ولا المنزلِ عليه الإنجيل؛ تَخصيصًا له وتَشريفًا بالذِّكر .
- وجاء بذِكر الخِطاب؛ لِمَا في الخطاب من المؤانسة .
- وأتى بلفظة: (عَلَى)؛ لِمَا فيها من الاستعلاء .
- مُصَدٍّقًا حالٌ مؤكِّدة، وفائدةُ تَقييدِ التَّنزيل بها: حثُّ أهلِ الكتابَينِ على الإيمان بالمُنزَّل، وتَنبيهُهم على وجوبِه؛ فإنَّ الإيمانَ بالمصدِّق مُوجِبٌ للإيمانِ بما يُصدِّقه حتمًا .
- قوله تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ:
- وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ: فيه تَعيينٌ لِمَا بين يديه وتَبيينٌ لرِفعةِ محلِّه تأكيدًا لِمَا قبله، وتمهيدًا لِمَا بعده؛ إذ بذلك يترقَّى شأنُ ما يُصدِّقه رِفعةً ونباهةً، ويزداد في القلوب قَبولًا ومهابةً، ويتفاحَش حالُ مَن كفرَ بهما في الشَّناعة، واستتباعِ ما سيُذكَرُ من العذاب الشَّديد والانتقام، أي: أنزلهما جملةً على مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ، وإنَّما لم يُذكرَا لأنَّ الكلامَ في الكتابَينِ، لا فيمَن أنزِلَا عليه .
- قوله تعالى: الإنِجيلَ: وُضِع على صِيغة (إفعيل)؛ لمزيدِ معنَى ما وُضعتْ له هذه الصِّيغة، وزيادتاها مبالغةً في المعنى .
قوله تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ...
فيه: التَّصريحُ بـمِنْ قَبْلُ مع ظهورِ الأمر؛ للمبالغةِ في البيان .
- وتقديم مِنْ قَبْلُ على هُدًى لِلنَّاسِ؛ للاهتمام به .
- وخصَّ الهدى بالتَّوراة والإنجيل في قوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ، وإنْ كان القُرْآن هدًى؛ لأنَّ المناظرةَ كانتْ مع النَّصارى، وهم لا يَهتدون بالقُرْآن، بل وُصِف بأنَّه حقٌّ في نفْسه، قَبِلوه أو لم يَقْبَلوه، وأمَّا التَّوراةُ والإنجيلُ فهم يَعتقدون صحَّتهما؛ فلذلك اختصَّا في الذِّكر بالهُدَى .
- وقوله تعالى: هُدًى للنَّاسِ: فيه إقامةُ المصدرِ هُدًى مقامَ اسمِ الفاعل (هاديًا)؛ إمَّا على حذْفِ المضاف، أي: ذَوي هدى، أو عَلى المبالغةِ بأنْ جُعِلَ ما ذُكِر من كتُب هي نفْسَ الهُدى؛ لِمَا فيها من الإرشاد .
- وقال هنا عن التوراة والإنجيلِ: للنَّاسِ-وهو الهدى الَّذي هو الدُّعاء، أو الهدى الَّذي هو في نَفْسِه مُعدٌّ أنْ يَهتديَ به النَّاس؛ فسُمِّي هدًى بذلك- وقال عن القُرْآن: هُدًى للمُتَّقِينَ- وهو الهدى الَّذي هو إيجادُ الهداية في القلب-؛ لأنَّ هذا خبرٌ مُجرَّد، وهُدًى لِلْمُتَّقِينَ خبرٌ مقترِنٌ به الاستدعاءُ والصَّرفُ إلى الإيمان؛ فحَسُنتِ الصِّفةُ ليقعَ من السَّامع النشاطُ والبدار .
- قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، وقوله: وَأَنْزَلَ التَّورَاةَ، وقوله: وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ: فيه تَكرار لفِعل الإنزال (نزَّل- وأَنْزَل- وأَنْزَل)؛ لاختلافِ الإنزال، وكيفيَّته، وزمانه بآيات الله .
- وخصَّ القُرْآن بالتَّنزيل نَزَّلَ، والتَّوراة والإنجيل بالإنزال أَنْزَلَ؛ لأنَّ التَّنزيل للتكثير، والله تعالى نزَّل القُرْآن نجمًا نجمًا؛ فكان معنى التكثير حاصلًا فيه، وأمَّا التَّوراة والإنجيل فإنَّه تعالى أنزلهما دفعةً واحدة؛ فلهذا خصَّهما بالإنزال .
- فيه: تَرتيبٌ بديعٌ في التَّقديم والتأخير، حيث لم يَجئِ الإخبارُ عن ذلك على حسَب الزَّمان؛ إذ التَّوراة أولًا، ثمَّ الزَّبور، ثمَّ الإنجيل، ثمَّ القُرْآن؛ فقدَّم القُرْآن الكِتَاب الذي هو القرآن؛ لشَرفِه، وعِظَم ثَوابِه، ونَسْخِه لِمَا تقدَّم من الكتُب، وبقائِه، واستمرار حُكمه إلى آخِر الزَّمان، وثنَّى بالتَّوراة؛ لِمَا فيها من الأحكامِ الكثيرة، والقَصص، وخفايا الاستنباط، ثمَّ ثلَّث بالإنجيل؛ لأنَّه كتابٌ فيه من المواعِظ والحِكم ما لا يُحصَى، ثمَّ تلاه بالزَّبور- عند القائِلِ بأنَّ الفرقان هو الزَّبور-؛ لأنَّ فيه مواعظَ وحِكمًا لم تبلغ مبلغَ الإنجيل .
- وعندَ القائلِ بأنَّ الفُرْقَان هو القُرْآن؛ فيكون ذِكْر الفُرْقان فيه تَكرارٌ لذكر القُرْآن بما هو نعتٌ له ومدحٌ، من كونه فارقًا بين الحقِّ والباطل بعدَما ذَكَره باسمِ الجِنس الكِتَاب؛ تعظيمًا لشأنِه، وإظهارًا لفضله .
- قوله تعالى: إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا فيه إظهارُ ما كان مِن حقِّه الإضمار الَّذِينَ، وفائدته: إرادةُ تعليقِ الحُكمِ بالوَصف، وهو الكفرُ- أي: السَّتْرُ- لِمَا تفضَّل عليهم به مِن الآيات .
- قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ:
- فيه تَشبيهُ ما يَحصُل للنَّفس من ضِيق العذاب وألَمِه، بالمشدود المُوثَق المُضيَّق عليه .
- وهو وعيدٌ جِيءَ به إثرَ تقريرِ أمْرِ التَّوحيدِ الذاتيِّ والوَصفيِّ، والإشارةِ إلى ما يَنطِقُ بذلك من الكتب الإلهيَّة، حملًا على القَبول والإذعان، وزَجْرًا عن الكفرِ والعِصيانِ .
- وحسُن إطلاقُ العذابِ بَعدَ ذِكْر الفُرقان؛ ليشملَ الكونُ في الدُّنيا نُصرةً للمؤمنين، استجابةً لدُعائهم، وفي الآخرة تصديقًا لقولهم، وزيادةً في سُرورهم ونعيمهم، وتهديدًا لِمَن نَزَل كثير من هذه السُّورة بسببهم، وهم وفدُ نصارى نجران .
- قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ، مقرِّرٌ للوعيد، ومؤكِّد له ؛ فهي خبَرٌ فيه وعيد، جِيء به بعدَ تقرير التَّوحيد والإشارةِ إلى ما هو العُمدة في إثبات النبوَّة؛ تعظيمًا للأمر، وزَجْرًا عن الإعراض عنه .
- وتكرَّر اسمُه تعالى الله تفخيمًا؛ لأنَّ في ذِكرِ المُظهَرِ من التَّفخيمِ ما ليس في المُضمَر .
- والوصف: بـ(ذو)، أبلغُ من الوصفِ بـ(صاحب)؛ ولذلك لم يَجِئْ في صِفات اللهِ (صاحِب)؛ لأنَّهم ذَكروا أنَّ (ذو) أبدًا لا تكونُ إلَّا مضافةً لاسمٍ؛ فمدلولُها أشرفُ .

================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (5- 9)
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ
غريبُ الكَلِماتِ:

الْأَرْحَامِ: جمْعُ رحِم، وهو بيتُ مَنبَت الولدِ، ووِعاؤه في البَطن، وأصلُه من الرِّقَّة والعَطْف والرَّأفة؛ سُمِّي به رحمُ المرأة؛ لأنَّ منه يكونُ ما يُرحَم ويُرقُّ له من ولدٍ
.
مُحْكَمَاتٌ: واضحاتٌ لا تَحتَمِلُ غيرَ وجهٍ واحدٍ منَ التَّأوِيل، بحيثُ يظهر المرادُ منها دون الاحتياجِ إلى غيرِها، وقيل غيرُ ذلك. والإحكامِ الإتقان، وأصلُه: المنْع، كأنَّه أحكَمها فمَنَع الخَلْق مِن التَّصَرُّف فِيهَا؛ لظهورِها ووضوحِ معناهَا .
أُمُّ الْكِتَابِ: أصلُ الكِتاب، ويُقال لأصلِ كلِّ شيء ومرجعِه: أمٌّ .
مُتَشَابِهَاتٌ: ما احْتَمَلَ منَ التَّأوِيلِ أَوْجُهًا، بحيث يُحتاج إلى غيرِها في فَهم المرادِ منها، وتُطلق على ما أَشكَل تَفسيرُه؛ لمشابهتِه بغيره، وقيل غيرُ ذلك .
زَيْغٌ: جَوْرٌ وميلٌ عن الحقِّ .
الفِتْنةِ: الشِّرْك والكُفر والشَّرُّ، والفِتنةُ في الأصل: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحان، مأخوذةٌ من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه من رداءتِه .
الرَّاسِخُونَ في العِلمِ: الثَّابتون فيه، الذين أَتْقنوا عِلْمَهم ووَعَوْه فحَفِظوه حفظًا لا يدخلُهم في معرفتهم وعِلمهم بما عَلِموه شكٌّ ولا لَبْسٌ، جمْع: راسخ، ورسوخُ الشَّيء في الشَّيء، هو ثبوتُه وولوجُه فيه .
يَذَّكَّرُ: يَتذكَّرُ- قُلِبت التَّاء ذالًا، وأُدغِمَت في الذَّال الأخرى، فصارَتْ (يَذَّكَّرُ)- والذِّكْرُ: تارةً يُقال على استحضارِ الشَّيءِ، وتارةً على حُضورِه بالقلبِ أو بالقولِ، وتارةً على العَلاءِ والشَّرفِ

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ:
وَالرَّاسِخُونَ: الواو استئنافيَّة، والرَّاسِخُونَ مرفوعٌ، مبتدأ، وخبرُه جملة: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ؛ وهذا على قِراءة الوقفِ على اسمِ اللهِ تعالى. أو تكونُ الواوُ عاطفةً، والرَّاسِخُونَ مرفوعًا، عطفًا على اللهِ جلَّ ذِكرُه، والتقدير: وما يَعلَمُ تفسيرَ المتشابهِ وبيانَه، ورَدَّه إلى المُحكَم، إلَّا اللهُ والرَّاسخونَ في العِلم؛ وهذا على قِراءة الوصلِ. وعلى هذا الوجهِ فجُملة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حالٌ، أي: يَعلمون تأويلَه حالَ كونِهم قائلين ذلك، أو تكون خبرَ مبتدأٍ محذوف، أي: هُم يقولون...

.
المَعنَى الإجماليُّ:

تُرشد الآياتُ إلى كَمال عِلمِ الله تعالى؛ فهو سبحانه لا يغيبُ عن عِلمه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات؛ فهو الَّذي يجعلُكم صُوَرًا في أرحام أمَّهاتِكم على أيِّ كيفيَّةٍ شاء؛ لذا فهو المستحقُّ للإلهيَّةِ وحده لا شريكَ له، وهو العزيزُ في مُلكِه، لا يغلِبُه شيءٌ، ولا يمتنع منه شيءٌ، والحكيم في خَلْقِه وصُنعِه وتدبيره، هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ، منه آياتٌ بيِّنات واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها، وهي أصلُ هذا الكتاب ومعظَمُه، ومن القُرْآن آياتٌ أُخَرُ يلتبس معناها، أو تشتبهُ دلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضِهم، فأمَّا الَّذين في قلوبهم ميلٌ عن الحقِّ وضلالٌ، فيتعلَّقون بالمتشابِهِ من الآيات، ويتركون المُحكَم؛ وذلك طلَبًا للَّبْسِ على المؤمنين وإضلالِهم، وطلبًا لتفسيره على ما يريدون؛ تحريفًا له وَفْقَ أهوائِهم، وما يعلَمُ تفسيرَ المتشابِهِ إلَّا الله تعالى، والثَّابتون في العِلمِ المتمكِّنون منه يعلَمون أيضًا، وإن لم يعلَموا حقائقَ الأمورِ وما تؤولُ إليه؛ لأنَّ اللهَ وحده هو الَّذي يعلَمُها، ويُعلِن الرَّاسخون في العلم إيمانَهم بالمتشابِهِ؛ فكلٌّ من المُحكَمِ والمتشابهِ من عند الله تعالى، وما يتذكَّرُ ويتَّعظُ إلَّا أصحابُ العقول السَّليمة، ويَدْعون اللهَ ألَّا يُميلَ قلوبهم عن الهُدى بعد الهداية، وأن يهَبَ لهم رحمةً عظيمة تَزيدُهم إيمانًا وثباتًا؛ فإنَّه واسعُ العطايا والهباتِ، كثيرُ الإحسان، ويقولون: يا ربَّنا، إنَّك تجمعُ النَّاسَ في يوم لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، للفصلِ بينهم، ومجازاة كلِّ واحدٍ بعمَله، فاغفِرْ لنا يومئذٍ، واعفُ عنَّا، إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعدَه.
تفسير الآيات:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يغيبُ عن عِلمِه شيءٌ في الأرض ولا في السَّموات؛ فهو سبحانه عالِمٌ بجميعِ الأشياء على التَّفصيلِ
.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر سبحانه إحاطةَ عِلمِه بالمعلومات كلِّها، جلِيِّها وخفِيِّها، ظاهرِها وباطنِها، ذَكَر مِن جملةِ ذلك الأَجِنَّةَ في البطون، الَّتي لا يُدركُها بصرُ المخلوقين، ولا يَنالُها عِلمُهم، وهو تعالى يدبِّرُها بألطفِ تدبير، ويقدِّرُها بكلِّ تقدير ، فقال:
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ
أي: هو الَّذي يَجعلُكم صُوَرًا في أرحام أمَّهاتِكم على أيِّ كيفيَّةٍ شاء، فيجعَلُ هذا ذَكَرًا وهذا أنثى، وهذا أسودَ وهذا أحمرَ، وهذا حَسَنًا وهذا قَبيحًا، وهذا طويلًا وهذا قصيرًا، إلى غير ذلك من الاختِلافاتِ .
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. [الحج: 5] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12-14] .
وشرَح النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كيفيَّةَ التصويرِ في الحديثِ الذي رواه ابنُ مسعودٍ وغيرُه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أنَّه قال: ((إنَّ أحدَكُم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أمِّهِ أربعينَ يومًا، ثمَّ يَكونُ في ذلك عَلقةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يَكونُ مُضغةً مثلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرسَلُ الملَكُ فيَنفخُ فيهِ الرُّوحَ ويُؤمرُ بأربعٍ، كلِماتٍ: بكَتبِ رزقِه وأجلِه وعملِه وشقيٌّ أو سعيدٌ )) .
ودلَّت هذه الآيةُ على أنَّ عيسى ابنَ مريمَ عبدٌ مخلوق، كما خَلَق اللهُ سائرَ البشر؛ لأنَّ اللهَ تعالى صوَّره في الرَّحِم وخَلَقه كما يشاء؛ فكيف يكونُ إلَهًا كما زعمَتْه النَّصارى، وقد تَقلَّب في الأحشاءِ، وتنقَّل من حالٍ إلى حال؛ كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر: 6] ؛ لذا قال اللهُ تعالى بعد ذلِك مقررًا انفرادَه بالأُلوهيَّة:
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أي: هو المستحقُّ للإلهيَّة وحْدَه لا شريكَ له، العزيزُ في مُلكِه، لا يَغلِبُه شيء، ولا يمتنعُ منه شيءٌ، وما شاء كان بلا ممانعٍ، والحكيمُ في خَلْقِه وصُنعِه وتدبيره .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
أي: هو الَّذي أنزَل عليك- يا محمَّدُ- القُرْآنَ .
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
أي: مِن القُرْآن آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتُ الدَّلالة، لا التباسَ فيها على أحدٍ من النَّاسِ، ولا شُبهةَ، ولا إشكالَ .
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
أي: وهذه الآياتُ المُحكَماتُ هي أصل هذا الكتابِ، ومُعظَمُه الَّذي يُرجَعُ إليه عند الاشتباهِ .
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
أي: ومِن القُرْآنِ آياتٌ أُخَرُ يَلتبسُ معناها، أو تشتبهُ دَلالتُها على كثيرٍ من النَّاسِ أو بعضهم .
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
أي: فأمَّا الَّذين في قلوبِهم مَيْلٌ عن الحقِّ، وانحرافٌ عنه وضلال ، فيَتعلَّقون بالمتشابِهِ من آياتِ القُرْآن، ويأخذون به ويتركون المُحكَمَ .
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
أي: طلَبًا للشُّبهاتِ واللَّبْسِ على المؤمنين، وإضلالِهم؛ إيهامًا بأنَّهم يحتجُّونَ بالقُرْآن .
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
أي: وطلَبًا لتفسيرِه على ما يُريدون؛ تحريفًا له وَفْقَ أهوائِهم الفاسدةِ لاحتمالِ لفظِه لِما يصرِفونه إليه .
عَن عَائِشَةَ رضِي الله عنها، قالت: تَلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه الآيةَ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، قالَتْ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((فإذا رأيتِ الَّذين يتَّبِعون ما تَشابَه منه، فأُولئكِ الَّذين سَمَّى اللهُ، فاحذَرُوهم )) .
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
أي: وما يعلَمُ عواقِبَ الأمورِ وما تؤولُ إليها، ولا حقائقَها، إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ وحده؛ وذلك كحقائقِ صفاتِ الله وكيفيَّتِها، وحقائق أوصاف ما يكونُ في اليومِ الآخِرِ، ونحو ذلك.
أمَّا الرَّاسخون في العِلم، المتمكِّنون منه، المُتقِنون له، فيقولون: آمَنَّا وصدَّقْنا بالمتشابهِ من آيِ الكِتابِ، وأنَّه حقٌّ وإن لم نعلَمْ تأويلَه ، هذا على قراءة الوقفِ على اسمِ الله .
أمَّا على قِراءة الوصلِ فيكون المعنى: وما يَعلَمُ تفسيرَ المتشابهِ، وبيانَه، ورَدَّه إلى المُحكَم، ودَفْعَ شُبَهِه، إلَّا اللهُ والرَّاسخون في العِلم، المتمكِّنون منه، المُتقِنون له أيضًا، يعلَمون ذلك، ويقولون: آمَنَّا وصدَّقْنا بالمتشابهِ من آيِ الكتابِ .
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
أي: كلٌّ مِن المحكَمِ من الكتاب والمتشابهِ منه، الجميعُ مِن عند ربِّنا، أوحاه إلى نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُصدِّقُ كلٌّ منهما الآخَرَ، ويشهَدُ له .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
أي: وما يَتذكَّرُ ويتَّعِظُ ويفهَمُ ويَقبَلُ النُّصحَ إلَّا أصحابُ العقول السَّليمة .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
أي: ويقول الرَّاسخونَ في العِلم أيضًا: يا ربَّنا، لا تُمِلْ قلوبَنا عن الهُدى والحقِّ بعد إذ هديتَنا إليه، فوفَّقْتَنا للإيمانِ بمُحكَمِ كتابِك ومتشابِهه، فلا تَجْعَلْنا كالَّذين في قلوبهم زَيغٌ، ممَّن يتَّبِعُ ما تشابهَ من القُرْآن .
عن عبدِ الله بن عمرٍو قال: قال رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ، يُصرِّفُه حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ )) .
وعن أمِّ سلَمةَ رضِي اللهُ عنها قالت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قلبي علَى دينِكَ، قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أَكْثرَ دُعاءَكَ: يا مقلِّبَ القلوبِ، ثبِّت قَلبي علَى دينِكَ! قال: يا أمَّ سلَمةَ، إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أُصبُعَيْنِ من أصابعِ اللهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ، فَتلا معاذٌ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا .
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
أي: وأعطِنا يا ربَّنا- تفضُّلًا مِن عندك- رحمةً عظيمةً تَزيدُنا بها إيمانًا وثَباتًا ويقينًا وسَدادًا .
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
أي: إنَّك أنت واسعُ العطايا والهِبَاتِ، كثيرُ الإحسان ، فإنَّنا إنَّما طلَبْنا منك هبةَ الرَّحمةِ؛ لأنَّك أنتَ الوهَّابُ .
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
أي: ويقول الرَّاسخون في العِلمِ أيضًا: يا ربَّنا، إنَّك تبعَثُ النَّاسَ، وتجمَعُهم في يومٍ لا شكَّ فيه، وهو يوم القيامة، وذلك للفصلِ بينهم، ومجازاةِ كلِّ واحد بعمَلِه، فاغفِرْ لنا يومئذٍ، واعفُ عنَّا .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
أي: إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعده؛ أنَّ مَن آمَن به واتَّبَع رسولَه، وعمِل صالحًا، أنَّه يغفِرُ له

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ... حضٌّ على تربيةِ الإنسان لنفسِه على امتثالِ ما أمَره الله به، واجتنابِ ما نهاه عنه، وأنْ يتيقَّنَ أنَّ عمَلَه لا يَخفَى على الله، بل هو معلومٌ له
.
2- يؤخَذُ من قوله عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ أنزَل المتشابِهَ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه .
3- في قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ دليلٌ على أنَّ مِن علامةِ الزَّيغِ اتِّباعَ المتشابِهِ من القُرْآنِ، سواءٌ تبِعه الإنسانُ بالنِّسبة لتصوُّرِه فيما بينه وبين نفسِه، بإيراد الآياتِ المتشابهاتِ عليها، أو كان يتَّبِعُ ذلك بالنِّسبة لعَرْضِ القُرْآن على غيره .
4- في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ على قراءةِ الوقفِ بيانُ أنَّ في القُرْآن ما لا يعلَمُ تأويلَه إلَّا اللهُ (أي: وما يعلَمُ عواقبَ الأمورِ وما تؤولُ إليها، ولا حقائقَها، إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ وحده)، وفيه امتحانٌ للعباد بتأدُّبِهم مع الله عزَّ وجلَّ، هل يحاولون الوصولَ إلى شيءٍ لا تدركُه عقولُهم، أو يقفون على حدودِ ما تُدركه عقولُهم .
5- في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فضيلةُ الرُّسوخ في العِلم، وضرورةُ الثَّبات فيه، والتعمُّقِ في أخذِه، والبعدِ عن السَّطحيَّةِ فيه .
6- الرُّسوخُ في العِلم قدرٌ زائدٌ على مجرَّد العِلم؛ فالرَّاسخُ في العِلم يقتضي أنْ يكون عالِمًا محقِّقًا، وعارفًا مدقِّقًا، قد رسخ قدمُه في أسرارِ الشَّريعةِ؛ عِلمًا وحالًا وعمَلًا .
7- ينبغي للإنسان أنْ يحرِصَ على أنْ يكون راسخًا في العِلم، لا مُجرَّدَ جامعٍ له؛ فالرُّسوخُ في العِلم يُولِّد عند الشَّخص ملَكةً يستطيعُ من خلالها تقريبَ العِلم بعضِه من بعض، وقياسَ بعضِه على بعض .
8- لا يَنتفعُ بهذا القُرْآن ولا يتذكَّرُ بآياته إلَّا مَن كان له عقلٌ، كما قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] , وكلَّما ازداد المرءُ عقلًا، ازداد تذكُّرًا بكلامِ الله, وكلَّما نقَص تذكُّرُه دلَّ ذلك على نقصٍ في عقلِه بناءً على قاعدة: الحكم المعلَّق على وصفٍ يَزيد بزيادته، ويَنقُص بنقصانه .
9- في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بيانُ أنَّ للقلبِ حالينِ: حالَ استقامةٍ، وحالَ زيغٍ، والإنسان مضطرٌّ إلى أنْ يسأَلَ اللهَ سبحانه وتعالى ألَّا يُزيغَ قلبَه، حتى يكونَ مستقيمًا؛ فهو لا يملِكُ قلبَه؛ لذا لا بدَّ أنْ يلجأَ إلى اللهِ بسؤالِه ألَّا يُزيغَ قلبه، ولا يغتَرَّ بنفسِه، ويتَّكِلَ على إيمانِه, فكم من مؤمنٍ زلَّ وارتكَس، والعياذُ بالله .
10- القلبُ عليه مدارُ العمَلِ؛ لذلك سلَّط اللهُ فِعْلَ الزَّيغ عليه فقال: لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا .
11- التَّخليَة تكونُ قبل التَّحليَة، ومن ذلك قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا, ثمَّ قال: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، فقدَّم اللهُ تبارَك وتعالَى السُّؤال في تطهير القلبِ عمَّا لا يَنبغي، على طلبِ تَنويرِه بما ينبغي؛ لأنَّ إزالةَ المانع قبل إيجادِ المقتضِي عينُ الحكمة .
12- الإنسان مضطرٌّ إلى ربِّه في الدَّفعِ والرَّفع، أو في الجلبِ والدَّفع؛ لأنَّهم سأَلوا ألَّا يُزيغَ قلوبَهم بعد إذ هداهم، وسأَلوا أنْ يهَبَ لهم منه رحمةً؛ فدعاؤُهم ألَّا يُزيغَ قلوبَهم دعاءٌ بالرَّفعِ، ودعاؤهم بـ: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً دعاءٌ بالدَّفع

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- في قوله: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ عدَّة فوائد، منها:
- خصَّ اللهُ تبارَك وتعالَى الأرضَ والسَّماء بالذِّكر؛ لكونِهما مَشهودَينِ لنا, أمَّا ما عدا ذلك فإنَّنا لا نعلَمُه إلَّا عن طريقِ الغيب
.
- ابتدأ في الذِّكر بالأرض؛ ليتَسنَّى التدرُّجُ في العطف إلى الأبعدِ في الحُكم؛ لأنَّ الكثيرَ من أشياءِ الأرض يعلَمُها كثيرٌ من النَّاس، أمَّا أشياءُ السَّماء فلا يعلم أحدٌ بعضَها، فضلًا عن عِلم جميعِها .
- وأيضًا في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عِمْرانَ: 5] صفةٌ سلبيَّةٌ، يرادُ بها بيانُ كمالِ العِلم؛ لأنَّ الصِّفاتِ المنفيَّةَ لا يرادُ بها مجرَّدُ النَّفي, وإنَّما يراد بها بيانُ كمال الضِّدِّ .
- والآية استئنافٌ يَتنزَّلُ منزلةَ البيان لوصف الحيِّ؛ لأنَّ عموم العِلم يبيِّنُ كمالَ الحياة .
- وفيها ردٌّ على غلاةِ القدريَّةِ الَّذين يَزعُمون أنَّ اللهَ لا يعلَمُ بعمَلِ العبدِ إلَّا بعد وقوعِه .
- إحاطةُ علمِ اللهِ بالكلِّيَّات والجزئيَّات؛ وذلك يؤخَذُ من قوله: شَيْءٌ؛ فهي نكِرةٌ في سياق النَّفي فأفادت العمومَ .
2- قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ: استئنافٌ يُبيِّنُ شيئًا من معنى القيُّوميَّةِ؛ فهو كبَدَلِ البعضِ من الكلِّ، وخَصَّ بالذِّكرِ مِن بين شؤونِ القيُّومية تصويرَ البَشر؛ لأنَّه مِن أعجبِ مظاهرِ القدرةِ، ولأنَّ فيه تعريضًا بالرَّدِّ على النَّصارى في اعتقادِهم إلهيَّةَ عيسى عليه السَّلام .
3- قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ فيه ردٌّ أيضًا على أهلِ الطَّبيعة؛ إذ يجعلونها فاعلةً مستبدَّةً
4- لَمَّا ذكَر أنَّ القُرْآن مُحكَمٌ ومتشابِهٌ، نظَر إليه جملةً- كما اقتضاه التَّعبيرُ بالكتابِ- فعبَّر عن ذلك بالإنزالِ دون التَّنزيل فقال: أَنْزَلَ عَلَيْكَ [آل عمران: 7] .
5- قسَّم اللهُ الأدلَّةَ السَّمعية إلى قِسمين: مُحكَمٍ ومتشابهٍ، وجعَل المحكَم أصلًا للمتشابهِ، وأُمًّا له، وأمُّ الشَّيء مرجعُه وأصلُه، فما خالَف ظاهرَ المُحكَم، فهو متشابهٌ، يُرَدُّ إلى المحكَم؛ ولذا قدَّم وصف هذه المحكَمات بقوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ؛ ليتبادرَ إلى الذهن أوَّلَ ما يتبادر أنَّه يردُّ المتشابهات إلى المحكَماتِ؛ لأنها كالأمِّ لها؛ فالمحكَماتُ تُفهَم بذواتها، بينما المتشابهات لا تُفهَم إلَّا بالاستعانة بالمُحكَمات .
6- الاشتباه قد يكونُ اشتباهًا في المعنى، بحيث يكون المعنى غيرَ واضح، أو اشتباهًا في التعارضِ، بحيث يظنُّ الظانُّ أنَّ القُرْآن يعارضُ بعضُه بعضًا، وهذا لا يمكن أنْ يكون واقعًا في القرآن؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82] ، والقُرْآن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا .
7- التَّشابُه في التفسيرِ والمعنى أمرٌ نِسبيٌّ؛ فقد يتشابهُ عند هذا ما لا يتشابه عند غيرِه، ولكن ثَمَّ آياتٌ مُحكَماتٌ لا تشابُهَ فيها على أحدٍ، وتلك المتشابهات إذا عُرِف معناها صارَتْ غيرَ متشابهة .
8- في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ذكَر اللهُ أشدَّ الميْل، وهو مَيْلُ القلب، وفي إشعارِه ما يلحَقُ بزيغِ القلوبِ من سيِّئِ الأحوال في الأنفُس، وزلَلِ الأفعال في الأعمال، فأنبَأَ عن الأشدِّ، وأبهم ما هو الأضعفُ .
9- يُؤخَذُ من قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ... الآيةَ: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أنزَل المتشابِهَ؛ ليمتحِنَ قلوبَنا في التَّصديق به، للتمييزِ بين الثابت على الحقِّ والمتزلزل فيه، فإنَّه لو كان كلُّ ما ورَد في الكتاب معقولًا واضحًا، لَمَا كان في الإيمان شيءٌ من معنى الخضوعِ لأمرِ الله تعالى والتَّسليمِ لرُسلِه، ولكي يكونَ حافزًا لعقل المؤمنِ إلى النَّظر كيلا يضعُفَ فيموتَ، ولتعويد حَمَلةِ هذه الشَّريعةِ، وعلماءِ هذه الأمَّةِ بالتَّنقيبِ، والبحثِ، واستخراج المقاصدِ من عويصاتِ الأدلَّة، وليظهر فيها فضلُهم، ويزداد حِرصُهم على أن يجتهدوا في تَدبُّرها، وتحصيل العلوم المتوقِّف عليها استنباطُ المراد بها، فينالوا بها، وبإتعابِ القرائحِ في استخراجِ معانيها، والتوفيقِ بينها وبين المُحكَمات الدَّرجاتِ العُلى عند الله تعالى .
10- قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، ولم يجمَعْ فيقول: (هنَّ أمَّهاتُ الكتاب)، وقد قال: هُنَّ؛ لأنَّه أراد: جميعُ الآياتِ المحكَماتِ أمُّ الكتاب، لا أنَّ كلَّ آيةٍ منهنَّ أمُّ الكتاب، ونظيرُ ذلك، قولُه تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] ، ولم يقُلْ: آيتينِ؛ لأنَّ معناه: وجعلنا جميعَهما آيةً؛ لأنَّ المعنى واحدٌ فيما جُعِلا فيه عبرةً للخَلْقِ .
11- مُقتضى الرُّبوبيَّة أنَّ اللهَ تعالى يُنزِّل على عبادِه كتابًا لا يكونُ فيه اختلافٌ يوقِعُهم في الشَّكِّ والاشتباهِ؛ لقوله سبحانه: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أي: المحكَم والمتشابِهُ، وما كان من عندِ الرَّبِّ المعتني بعبادِه بربوبيَّتِه، فلن يكونَ فيه تعارُضٌ ولا تناقُضٌ، بل هو متَّفِق، يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويشهَدُ بعضُه لبعض، فإذا أشكَل مجمَلُ المتشابِهِ، فهو مردودٌ يقينًا إلى المحكَمِ .
12- الدُّعاء غالبًا ما يُصَدَّر بالرَّبِّ؛ لأنَّ الدُّعاءَ يتطلَّبُ الإجابةَ، والإجابةُ من الأفعال، والأفعال علاقتُها بالرُّبوبيَّة أكثر من علاقتها بالألوهيَّة؛ فالربوبيةُ تَقتضي القيامَ بأمورِ العباد وإصلاحِها؛ فكان العبدُ مُتعلِّقًا بمَنْ شأنُه التربيةُ والرفقُ والإحسان .
13- قولهم: بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا لا يُرادُ به الافتخارُ، بل يرادُ به التَّوسُّل بالنِّعَم السَّابقة إلى النِّعَم اللَّاحقة .
14- طلبُهم الرَّحمةَ مِن عندِ الله بقولهم: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عِمْرانَ: 8] حتى لا يكونَ لأحدٍ عليهم منَّةٌ سواه, ولأنَّها متى ما كانت مِن عندِه كانت عظيمةً؛ فالعطاءُ على قدرِ المعطي .
15- في قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ إثباتُ اسمِ الله الوهَّاب، وما يتضمَّنُه من صفةِ الهِبَة، وهي صِفةٌ فعليَّةٌ لله تعالى .
16- في قوله: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا [آل عمران: 8] دليلٌ على أنَّ الهُدى والضَّلال مِن اللهِ تعالى، وأنَّه متفضِّلٌ بما يُنعِم على عبادِه، لا يجبُ عليه شيءٌ ما .
17- نبَّه تعالى بقوله: هَبْ لَنَا على أنَّ العبدَ يَنبغي ألَّا يلتفتَ إلى شيءٍ من عمَلِه، ولا أنْ يَطلُبَ العِوَضَ به، بل يَرجو رَجاءَ المفَاليسِ الطَّالبين للتفضُّلِ والهِبَة لا العِوَض

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ:
- عبَّر هنا بـلَا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ ولم يقُل: هو عالمٌ بكلِّ شيء؛ لأنَّ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ أبلغُ مِن قوله: (يعلم) في الأصل، وإنْ كان استعمالُ اللَّفظين فيه يُفيدان معنًى واحدًا
.
- وتَنكير شَيْء؛ ليُفيد العموم والشُّمول، وجِيء بـ(شيء) هنا؛ لأنَّه من الأسماء العامَّة .
- وتقديمُ الْأَرْض على السَّمَاءِ؛ ترقِّيًا من الأَدْنى إلى الأعلى، ولأنَّ المقصودَ بالذِّكر ما اقُترِف في الأَرضِ؛ فكانت أَوْلى بالتَّقديم .
-وهذه الجملةُ كالدَّليل على كونه حيًّا .
2- قوله تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: فيه تَكرار قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الذي سبق في مَطلعِ السورة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ؛ للتَّنبيهِ على استقرارِ ذلك في النُّفوس، وللردِّ على مَن زعم أنَّ معه إلهًا غيره .
- وناسَب هنا مَجيءُ العَزِيزُ الحَكِيمُ بعدَ الوصفينِ السَّابقين من العِلم والقُدرة؛ إذ مَن هذان الوَصفانِ له هو المتَّصفُ بالإلهيَّة لا غيرُه، ثم أتى بوصْفِ العِزَّة الدالَّة على عدم النَّظير، والحِكمة الموجِبة لتصويرِ الأشياءِ على الإتقان التامِّ .
- وقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: تذييلٌ لتقريرِ الأحكام المتقدِّمة .
- وفي افتتاحِ السُّورةِ بهذه الآياتِ بَراعةُ استهلالٍ؛ لنزولها في مجادلةِ نَصارى نجران؛ ولذلك تَكرَّر في هذا الطالعِ قَصْرُ الإلهيَّة على اللهِ تعالى في قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ، وقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .
3- في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ تأكيدٌ لقوله: نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ ، وتمهيد لقوله: منه آياتٌ مُحْكَمَاتٌ .
- وفيه: تقديمُ الظَّرف عَلَيْكَ على المفعول الكِتَابَ؛ للاعتناءِ بشأنِ بِشارتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، بتشريفِ الإنزالِ عليه، وللتشويقِ إلى ما أُنزل؛ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ- لا سيَّما بعدَ الإشعارِ برِفعةِ شأنِه أو بمنفعته- تبقَى مترقبةً لهُ، فيتمكَّنُ لديها عند وُرودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ، وليتَّصل به تقسيمه إلى قسيمه، ولِمَا يُفِيدُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ .
- قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ: فيه من بدائع البلاغة: ذِكر فِعل أَنْزَلَ في صِيغة القصر- وهي قوله: هُوَ الَّذِي- لأنَّ تعريفَ جزأَيِ الجملة بالضَّمير والموصولِ يُفيدُ القَصْر- مع أنَّ (الإنزال) مختصٌّ بالله تعالى ولو بدون صِيغة القَصر؛ إذ الإنزالُ يُرادِفُ الوحيَ، ولا يكونُ إلَّا من الله، بخِلافِ ما لو قال: هو الذي آتاك الكِتابَ ، فأفاد التَّأكيد.
4- في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: شبَّه القلبَ المائلَ عن القصْد بالشَّيء الزائغ عن مكانه ، وجعَل قلوبهم مقرًّا للزيغ؛ مبالغةً في عُدولِهم عن سَننِ الرَّشاد، وإصرارِهم على الشرِّ والفَساد .
5- قوله تعالى: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: فيه تَكرارُ لَفْظِ التأويل؛ لاختلافِ التأويلينِ، أو للتَّفخيمِ لشأنِ التأويل .
- وجاءَ قوله: ابْتِغَاءَ على صِيغة (افتعال)؛ لبيان التكلُّف في شدَّة الطلب .
6- قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا: مُقرِّرٌ لِمَا قبلَه ومُؤكِّد له، وفيه: مزيدُ تأكيدٍ بذِكر عِنْدَ، ولم يقل: (من ربِّنا)؛ لأنَّ الإيمانَ بالمتشابِهِ يُحتاجُ فيه إلى مزيدِ التأكيد ، أو زِيدت كلمة عِنْدَ؛ للدَّلالة على أنَّ مِنْ هنا للابتداءِ الحقيقيِّ دون المجازيِّ، أي: هو مُنزَّلٌ مِن وحْيِ اللهِ تعالى وكلامِه .
- قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: هذا مِن المقول، ومفعول: يقولون قوله : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وجُعلتْ كلُّ جملةٍ كأنَّها مستقلَّةٌ بالقول؛ ولذلك لم يَشتركْ بينهما بحَرْف العَطف، أو جُعلَا ممتزجينِ في القولِ امتزاجَ الجُملة الواحدة .
7- قوله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ: تذييلٌ سِيقَ مساقَ المدحِ للرَّاسخين، والثناءِ عليهم بجَودةِ الذِّهن، وصَحيحِ الفَهم، وحُسْن النَّظر .
8- قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ: فيه تَكرارُ الدُّعاء بـرَبَّنَا إِنَّكَ؛ للتنبيهِ على مُلازمتِه، وللتحذيرِ من الغفْلة عنه؛ لِمَا فيه من إظهارِ الافتِقار .
9- قوله تعالى: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً: التنكِيرُ في قوله: رَحْمَةً؛ للتَّعظيمِ، أي: رحمةً عَظيمةً واسعةً .
- وشبَّه المعقولَ من الرَّحمة بالمحسوس مِن الأجرام من العِوض والمعوَّض في الهِبة .
- وفيه تأخيرُ المفعول الصَّريح رَحْمَةً عن الجارَّينِ مِنْ لَدُنْكَ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّم، والتشويقِ إلى المُؤخَّر؛ فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تَبقَى النفسُ مترقبةً لوروده، لا سيَّما عند الإشعارِ بكونه من المنافعِ .
10- قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ: الجملةُ هنا استئنافيَّةٌ لتَعليلِ السُّؤال والتَّوسُّل رَبَّنَا لَا تُزِغْ، أو لتعليلِ إعطاء المسؤول في قوله: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .
- وقوله: الوَهَّابُ صِيغةُ مبالغة، وأُطْلِقت ولم تُقيَّد، حيث لم يَقُل مثلًا: (وهَّاب الهداية)؛ ليتناولَ كلَّ موهوبِ .
- وفيه قَصْرٌ بتَوسيطِ ضَميرِ الفَصلِ أَنْتَ؛ للمبالغة؛ لأجْلِ كمال الصِّفة فيه تعالى؛ لأنَّ هِباتِ الناس بالنسبة لِمَا أفاض الله من الخيراتِ شيءٌ لا يُعبأ به، وفيه تأكيد بـ(إنَّ)، وبالجملة الاسميَّة، وبطريق القَصر ؛ فإنَّ ضميرَ الفصلِ يأتي لثَلاثِ فوائدَ: الأول: الفصلُ بين الصِّفة والخبر، والثانية: التوكيد، والثالثة: الحَصْر والقَصر .
11- قوله تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ: فيه إيجازٌ بحَذْفِ المضافِ إليه، وإقامةُ المضافِ مقامَه، والتقدير: يوم الحِسابِ أو يوم الجزاء؛ لكونِ المراد ظاهرًا، وللتهويلِ له، والتفظيعِ لِمَا يقَعُ فيه .
- وفيه التفاتٌ ؛ حيث قال: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ، ثم قال: إِنَّ اللهَ؛ لإبراز كمالِ التَّعظيمِ، والإجلالِ الناشِئ من ذِكرِ اليومِ المَهيب الهائل، ولتنبيهِ المخاطَب بتغييرِ أسلوبِ الكلام؛ وأيضًا لأنَّ الكلام بصيغةِ الغائب أبلغُ في تعظيمِ الله تبارَك وتعالَى .
12- في قوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ: تأكيدٌ لإظهارِ ما هم عليه من كَمالِ الطُّمأنينةِ، وقوَّة اليقينِ بأحوال الآخرة .
13- قوله تعالى: إنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ: تعليلٌ لمضمون الجُملة المؤكدةِ، أو لانتفاءِ الرَّيب .
- وفيه مناسبةٌ بليغة؛ ففي هذه الآية قال: إنَّ اللهَ، وفي آخِر السُّورة قال: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ، والفرق: أنَّ هذه الآيةَ في مقامِ الهيبة، والإلهيَّة تَقتضي الحشرَ والنَّشرَ؛ لينتصف المظلومون من الظالِمين، فكان ذِكرُه باسمِه أَوْلى في هذا المقام، أمَّا قوله: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَادَ في آخِر السُّورة، فذاك المقامُ مقامُ طلَب العبدِ من ربِّه أن يُنعِمَ عليه بفضله، وأنْ يتجاوزَ عن سيِّئاته، فلم يكُن المقام مقامَ الهيبة؛ فناسَبَه ذِكرُ الضَّمير: إِنَّكَ .
- والمِيعَاد: على صِيغة (مِفعال) من الوعد، وجِيء به هكذا؛ لإفادةِ معنى تكرُّره ودوامِه . وأيضًا التعبيرُ بنفيِ الخُلْفِ بلفظة: المِيعَاد- وهي صيغةٌ تُستعمَلُ كاسمِ زمانٍ واسمِ مكانٍ بحسَبِ سياقِها- أبلغُ؛ لأنَّ نَفْي الخُلف في زَمنِ الوعدِ ومكانِه، أبلغُ من نفيِ خلف الوعدِ ذاتِه .


================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان: (10- 11)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
غريبُ الكَلِماتِ:

كَدَأْبِ: الدَّأْب- بتسكينِ الهَمزة وفتَحِها-: العادةُ المستمرَّة، والشَّأن، أو الأشباه- بلُغة جُرهم-، وأصله: مِن الملازَمة والدَّوام
.
فِرْعَوْنَ: لقبُ مَلِكِ مِصرَ وطاغيتِها في عَهدِ موسى عليه السَّلام، وقيل لكلِّ عاتٍ وطاغيةٍ: فِرْعَون، واشتُقَّ منه: تَفرْعَن، أي: فعَل فِعْل فِرعونَ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ اللهُ تبارَك وتعالَى أنَّ الَّذين كفَروا به وبآياتِه, وكذَّبوا الرُّسل وعادَوْهم، وتولَّوْا عن دِين الله، وأعرَضوا عنه, أنَّه لن تنفعَهم أموالُهم ولا أولادهم, ولن تكون سببًا في نجاتهم من عقوبةِ الله إذا حلَّتْ بهم, وأن مصيرَهم إلى النَّارِ؛ فهم وَقُودُها الَّذي تُسعَّر به, وهم الملازِمون لها دائمًا وأبدًا؛ فهذه هي سُنَّةُ اللهِ الَّتي لا تتغيَّرُ ولا تتبدَّلُ, فشأنُهم في ذلك كشأنِ فِرعون وآلِه, وكشأنِ الأُمَم المكذِّبة بآياتِ الله من قبلِهم؛ إذ كان مصيرَهم أنْ أهلَكهم اللهُ بسببِ ما اقترَفوه من ذنوب، عدلًا منه لا ظلمًا؛ فهو شديدُ الأخذِ، أليمُ العذابِ لِمَن جاء بأسبابِ العذاب.
تفسير الآيتين:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى يومَ القيامة، وتَحقَّق أنَّ يومَ الجمْعِ كائنٌ لا محالةَ، تحقَّق أنَّ مِن نتائجه تَحقيقًا لعزَّتِه سبحانه وتعالى: أنْ يحاسِبَ الَّذين كفروا، وأنْ يَنتقمَ منهم
.
ولَمَّا حَكَى اللهُ تعالى ما دعَا به المؤمنون: مِن دوامِ الهدايةِ، وسؤالِ الرَّحمة، والفوزِ يومَ القِيامة، ذَكَر حالَ الكافرين في ذلك اليومِ، على عادةِ القُرآن في إردافِ البشارة بالنذارة، وتعقيبِ دُعاءِ المؤمنين، بذِكر حالِ المشركين ، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: إنَّ الَّذين كفَروا باللهِ وآياتِه، وكذَّبوا رُسلَه، وجحَدوا دينَه، لن تُنجيَهم أموالُهم ولا أولادُهم من عُقوبةِ اللهِ إذا حلَّتْ بهم .
كما قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88-89] .
وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
أي: وأولئك هم حطَبُ النَّارِ الَّذي توقَدُ به، الملازِمونَ لها دائمًا أبدًا؛ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
ثمَّ ذكَرَ تعالى مثلًا لهؤلاء الكافرينَ الذين استغْنَوْا بما أُوتوا في الدُّنيا عن الحقِّ فعارضُوه وناهضُوه حتَّى أَخَذهم ، فقال:
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أي: شأنُهم في ذلك كشأنِ فِرْعون وآلِه، والأُمَم المكذِّبةِ بآياتِ الله مِن قبلِهم؛ كقوم نوحٍ، وقوم هودٍ، وأمثالِهم .
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
أي: أهلَكهم اللهُ بسببِ ذُنوبهم، واللهُ شديدُ الأخذِ، أليمُ العذابِ

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ بيانُ أنَّه قد مضَتْ سنَّةُ اللهِ تبارَك وتعالَى بأن يكونَ العقابُ أثَرًا طبيعيًّا للذُّنوبِ والسَّيِّئاتِ, فوجَب الحذرُ منها
.
2- تضمَّن قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ... الآيةَ: تحذيرًا مِن الغرورِ؛ إذ إنَّ الجحودَ مِن النَّاس نتيجةٌ حتميَّةٌ لغرورِهم بأنفسِهم؛ حيث تُوهِمُهم الاستغناءَ عن الحقِّ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ... دليلٌ على أنَّ الكفَّارَ لا تنفَعُهم أموالُهم ولا أولادُهم، لا في دُنياهم ولا أُخراهم, بخلافِ المؤمنين الَّذين ينتفعون بأموالِهم وأولادِهم، في حياتِهم وبعدَ موتهم
.
2- بيانُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه لا ينفعُ منه مالٌ ولا بنونَ, وأمَّا مَن غيرُ الله فقد تُغنِي هذه الأشياءُ؛ ويؤخَذُ ذلك من قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا .
3- في قوله: بِذُنُوبِهِمْ ردٌّ على الجَبْريَّةِ الَّذين لا ينسُبون فِعْلَ العبدِ إليه؛ فاللهُ قد أضاف الذُّنوبَ إليهم, والفِعلُ لا يُنسَبُ إلَّا لِمَن قام به حقيقةً .
4- كمالُ العذابِ هو أنْ يَزولَ عنه كلُّ ما كان منتفعًا به، ثمَّ يجتمع عليه جميعُ الأسبابِ المؤلِمة؛ فالأوَّلُ هو المرادُ بقوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ؛ فإن المرءَ عند الشِّدَّة يفزَعُ إلى المالِ والولَدِ؛ لأنهما أقربُ الأمورِ الَّتي يفزَعُ إليها في دفعِ النَّوائب، فبيَّن تعالى أنَّ صفةَ ذلك اليوم مخالِفةٌ لصفةِ الدُّنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاعُ بالمالِ والولَدِ، وهما أقربُ الطُّرقِ، فما عداه بالتَّعذُّرِ أَولى، وأمَّا الثَّاني مِن أسباب كمال العذابِ، وهو اجتماعُ الأسباب المؤلِمة، فهو المرادُ بقوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ، وهذا هو النِّهايةُ في العذاب؛ فإنَّه لا عذابَ أعظمُ مِن أنْ تشتعلَ النَّارُ فيهم كاشتعالِها في الحطَبِ اليابس .
5- خَصَّ اللهُ آلَ فِرْعون بالذِّكْرِ- من بين بقيَّةِ الأُمَم- في قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ؛ لأنَّ هلاكَهم معلومٌ عند أهلِ الكتاب، بخلاف هلاكِ عادٍ وثمودَ؛ فهو عند العربِ أشهرُ، وقدَّمهم لأنَّهم أكثرُ الأُممِ طغيانًا، وأعظمُهم تعنُّتًا على أنبيائِهم، فكانوا أشدَّ الناسِ عذابًا

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا:
- فيه تقديمُ أَمْوَالَهُمْ على أَوْلَادُهُمْ من باب تقديم الأنسب؛ لأنَّ بالأموالِ قوامَ ما بعدَها، وتمام لذَّاته
، وأيضًا لَمَّا كان المالُ في بابِ المدافعةِ والتقرُّبِ والفتنةِ أبلغَ مِن الأولاد، قُدِّم في هذه الآية .
- والتأكيدُ بإعادة النافي وَلَا؛ ليفيدَ النَّفي عن كلِّ حالة وعن المجموعِ؛ فيكونَ أصرحَ في المرام .
- وفيه إيجازٌ بالحذفِ في قوله تعالى: مِنَ اللهِ شَيْئًا؛ لدلالةِ الكلامِ عليه، والتقدير: (من عَذابِ الله)، فحُذف المضاف، أو تكون مِنْ بمعنى (عندَ)، والتقدير: (لن تُغني عندَ اللهِ شيئًا) .
2- في قوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ: جِيءِ بالإشارة (أُولئِك)؛ لاستحضارهم كأنَّهم بحيث يُشارُ إليهم، وللتنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بما سيأتي من الخبَر، وهو قوله: هُمْ وَقُودُ النَّارِ.
- وعُطفتْ هذه الجملةُ بالواو، ولم تُفصَل؛ لأنَّ المرادَ مِن التي قبلها الوعيدُ في الدنيا، وهذه في وعيدِ الآخِرة بقرينةِ قوله بعدها: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 12] .
- وفيه التأكيدُ بضَمير الفصل هُمْ .
3- قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ: تشبيهٌ، وقد صرَّح فيه بذِكر أداة التَّشبيه ، وفي كيفيَّة التشبيهِ وجوه؛ منها: أنَّ جِدَّهم واجتهادَهم في تَكذيبِهم بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكُفرِهم بدِينه كدأبِ آل فِرعون مع موسى عليه السَّلام، ثم إنَّا أهلكْنا أولئك بذُنوبهم، فكذا نُهلِك هؤلاء، وقيل غير ذلك .
- وهذا إخبارٌ غَرضُه التخويفُ لهم، والوعيدُ بعذاب الدنيا؛ لعِلمهم بما حلَّ بآل فرعون والذين من قَبل آل فِرعون من الأُمم الكافِرة .
4- قوله تعالى: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا: بيانٌ وتفسيرٌ لدأبهم الذي فعَلوا، على طريقِ الاستئنافِ المبنيِّ على السؤالِ، كأنَّه قيل: كيف كان دأبُهم؟ فقيل: كذَّبوا بآياتنا .
- وفي قوله: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، ثم قوله بعد ذلك: وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ: التفاتٌ؛ فالتكلُّم أولًا بِآيَاتِنَا للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ، وإلى الغَيبة ثانيًا بإظهار الجلالة (الله)؛ لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوعة .
5- قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ: التعبيرُ بالأخْذ فيه مبالغةٌ في شِدَّة عذابهم؛ كأنَّ مَن يُنزل به العقابَ يَصير كالمأخوذِ المأسورِ الذي لا يَقدِر على التخلُّص .
- وإظهارُ الاسمِ الشَّريفِ اللهُ وعدمُ إضمارِه في قوله: فَأَخَذَهُمُ اللهُ؛ للتهويلِ، وللتنبيهِ على باهِر العظمة. وإظهارُه كذلك في قوله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ للتنبيهِ على زِيادة العظمةِ في عذابِهم لمزيد اجترائهم .
- بِذُنُوبِهِمْ: إنْ أُريد بها تكذيبُهم بالآيات، فالباء للسببيَّة؛ جِيء بها تأكيدًا لِمَا تُفيده الفاءُ من سببيَّة ما قبلَها لِمَا بعدَها، وإنْ أُريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة؛ جِيء بها للدَّلالةِ على أنَّ لهم ذنوبًا أُخَر، أي: فأخَذَهم متلبِّسين بذُنوبهم غيرَ تائبين عنها .
- واللهُ شَدِيدُ العِقَابِ: تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ ما قبله من الأخْذ، وتكملةٌ له، وفيه: تهويلٌ للمؤاخذةِ، وزيادةُ تخويفٍ للكَفرة .


====


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان: (12- 13)
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ
غريبُ الكَلِماتِ:

تُحْشَرُونَ: تُجمَعون؛ فالحشرُ: الجمعُ مع سَوْق، وكل جمعٍ حَشْرٌ، والبعثُ والانبعاثُ، أو الجمعُ بكثرة
.
الْمِهَادُ: الفِراشُ، أو المكانُ الممهَّد المُوطَّأ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَ الكافرين بأنَّهم سيُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في حياتِهم الدُّنيا، وأنَّهم سيُجمَعون يومَ القيامة إلى نارِ جهنَّمَ؛ فهي الفِراشُ الَّذي فرَشوه لأنفسِهم، فبئس الفِراشُ.
ثم يقول تعالى: قد كان لكم علامةٌ ودلالةٌ واضحةٌ في أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين, وأنَّ النَّصرَ حليفُهم, وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، ومؤيِّدٌ رسولَه، هذه العلامةُ والدَّلالة متمثِّلةٌ في طائفتينِ تَقاتَلَتا، إحداهما مؤمنة تُقاتِلُ في سبيل الله، وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه من المسلمين، والأخرى كافرة، وهم مُشرِكو قريشٍ, وذلك في يوم بدرٍ؛ حيث كان المسلمون يرَوْن الكافرين رؤيةً ظاهرةً بأنَّهم ضِعفُهم في العددِ, حتى يحصُلَ لهم التَّوكُّلُ على الله، ويلجَؤوا إليه في طلبِ الإعانة, والله يُقوِّي بأسباب نصرِه مَن يشاءُ ممَّن تقتضي الحكمةُ نصرَه أو تأييدَه, وفي ذلك التَّأييدِ للفئةِ المسلِمةِ- مع قلَّتِها- عبرةٌ وعِظَةٌ لِمن رُزِق بصيرةً نافذةً وعقلًا كاملًا يوصِّلانِه إلى معرفةِ حِكَمِ اللهِ وأفعالِه.
تفسير الآيتين:

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: سَتُغْلَبُونَ قراءتان:
1- قراءة (سَيُغْلَبُونَ) على معنى أنَّ الكُفَّارَ غُيَّبٌ.
وقيل معناه: قلْ لليهود: سيُغلبُ مُشرِكو العربِ ويُحشرون إلى جَهنَّمَ، فتكونُ المخاطبةُ لليهود، وتكونُ الغلبةُ واقعةً على مُشركي قريش، والتوجيهُ الأوَّل أرجحُ لصريحِ الخِطاب قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
.
2- قِراءة (سَتُغْلَبُونَ) هي أمرٌ من الله لنبيِّه أنْ يُخاطِبَ الكفَّارَ بهذا، أي: قل لهم- يا محمَّدُ- مواجهًا بالخطاب: ستُغلبون وتُحشرون إلى جهنَّمَ .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للَّذين كفروا: ستُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في الدُّنيا.
كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وكما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ .
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَتُحْشَرُونَ قِراءتان:
1- قِراءة (وَيُحْشَرُونَ) بالياء، على لفظِ الغَيبة .
2- قِراءة (وَتُحْشَرُونَ) بالتَّاء بالخِطابِ .
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
أي: وتُجمَعون يَومَ القِيامةِ إلى النَّار .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .
وَبِئْسَ الْمِهَادُ:
وبئس الفِراشُ جهنَّمُ الَّتي تُحشَرون إليها .
كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف: 41] .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ
أي: قد كان لكم علامةٌ ودلالةٌ على أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين، وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، وناصرٌ رسولَه، ومُظهِرٌ كلمتَه .
فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
أي: في طائفتينِ لقِي بعضُهما بعضًا للقتالِ فيما بينهما : طائفةٍ تُقاتِلُ في سبيلِ الله، وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه من المسلِمين، وطائفةٍ كافرةٍ، وهم مُشرِكو قُريشٍ، وذلك يومَ بَدْرٍ .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] .
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
أي: يرَى المسلِمون الكافرين مثلي عدد المسلمين، رؤيةً ظاهرةً لا لَبْسَ فيها؛ حيث تَلحقُهم أبصارُهم، وإنْ كانوا أكثرَ من ذلك في حقيقةِ الأمر ؛ ليتوكَّلوا على اللهِ، ويَطلُبوا منه الإعانةَ .
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
أي: واللهُ يُقوِّي بنَصرِه مَن يشاء ممَّن تَقتضي الحِكمةُ نَصْرَه أو تأييدَه .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
أي: إنَّ في تأييدِنا الفئةَ المسلِمةَ- مع قلَّتِها في العدَدِ- على الفئةِ الكافرة- مع كثرتها في العدَدِ- لَمُعتَبَرًا ومتَّعظًا لِمَن له بصيرةٌ وفهمٌ يَهتدي به إلى حِكَمِ اللهِ وأفعالِه، وقَدَرِه الجاري بنصرِ عباده المؤمنين في هذه الحياة الدُّنيا، ويومَ يقومُ الأشهادُ

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ... دليلٌ على أنَّه لو رجَع المسلِمون إلى دِينهم حقًّا في العقيدةِ والقولِ والعملِ والأخلاقِ والآداب، وجميعِ أمور الدِّين، لحصَلَتْ لهم الغَلَبةُ على الكفَّار، ويَشهَدُ لهذا تاريخُ المسلِمينَ؛ حيث ملَكوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها
.
2- من قوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُؤخَذُ أنَّ القتالَ لا يكون سببًا للنصرِ إلَّا إذا كان في سبيلِ الله؛ إخلاصًا، وموافقةً للشَّرع، واجتنابًا للمحارِمِ، فإذا تمَّتْ هذه الأمورُ الثَّلاثةُ، فهذا هو الَّذي في سبيلِ الله .
3- إذا كان القتالُ في سبيلِ الله، توجَّهَتْ إليه النَّفسُ بكلِّ ما فيها من قوَّةٍ وشُعورٍ، وما تستطيعُه من تدبيرٍ واستعدادٍ، مع ثقةٍ قويَّةٍ بأن وراءَ قوتها معونةَ اللهِ وتأييدَه .
4- النَّصرُ ليس بكثرةِ العَدَدِ، ولا بقوَّة العُدَدِ، ولكنَّه من الله؛ لأنَّ اللهَ لَمَّا ضرَب هذا المَثَلَ قال: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ؛ فالنَّاظرُ إلى مجرَّدِ الأسبابِ الظَّاهرة يجزم بأنَّ غلَبةَ الفئةِ القليلة للفئة الكثيرة مِن المُحالات، ولكن وراءَ هذا السَّبب المُشاهَدِ بالأبصار، سببٌ أعظمُ منه، لا يُدرِكُه إلَّا أهلُ البصائر والإيمانِ والتَّوكُّلِ، وهو نصرُ اللهِ، وإعزازُه لعباده المؤمنين .
5- انتفاءُ العِبرةِ يدلُّ على ضَعْفِ البَصيرةِ أو عدَمِها بالكلِّيَّةِ, فإذا وجَد الإنسانُ من نفْسِه عدمَ اعتبارٍ واتِّعاظٍ بما يجري، فليعلَمْ أنَّه ضعيفُ البَصيرةِ؛ لقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- من قولِ الله تعالى لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُلْ يُعلَم أنَّه عبدٌ تُوجَّه إليه الأوامرُ؛ فهو عبدٌ لا يُعْبَد، ورسولٌ لا يُكَذَّب
.
2- ضَرْبُ الأمثالِ بالأمورِ الواقعةِ أبلغُ في التَّصديقِ والطُّمأنينةِ، فينبغي للواعظِ والدَّاعي إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يضرِبَ المَثَلَ للمدعوِّين بالأمورِ الواقعة؛ لأنَّ ذلك أبلغُ, يؤخَذُ ذلك من قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا .
3- لا أُلفةَ بين المؤمنين والكافرين؛ لقوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، فمَن حاوَل أنْ يجمَعَ بين المؤمنين والكافرين، فقد حاوَل الجمعَ بين النَّارِ والماء .
4- الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ في قولِه: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فأضاف الفِعلَ إليها

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ:
- استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقال من النَّذارة إلى التهديد، ومِن ضَرب المَثل لهم بأحوالِ سَلفِهم في الكُفر إلى ضربِ المَثل لهم بسابقِ أحوالهم المؤذِنة بأنَّ أمرَهم صائرٌ إلى زوال، وأنَّ أمْر الإسلام ستندكُّ له صُمُّ الجبال
.
- وجِيء في هذا التهديدِ بأطنبِ عِبارةٍ وأبلغِها؛ لأنَّ المقام مقامُ إطناب؛ لمزيد الموعظةِ، والتذكير بوصْف يومٍ كان عليهم، وهم يَعلمون هذا اليومَ وهو يومُ بدرٍ .
- وقوله تعالى: لِلَّذِينَ كَفَرُوا: فيه العدولُ عن الضَّمير (لـَهُم) إلى الاسم الظَّاهِر لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ لاستقلالِ هذه النَّذارة، وللإفصاحِ عن التَّشنيعِ بهم في هذا الإنذارِ؛ حتى يُعادَ استحضارُ وصْفِهم بالكفر بأصرحِ عبارة ، وأيضًا لكون ما سيَذكره بَعدَه مُرتَّبًا على هذه الصِّفة.

2- قوله تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيةٌ في فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ:
- قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةً فيه تأكيدٌ؛ لأنَّه جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمامِ القولِ المأمورِ به؛ جيءَ به لتقريرِ مَضمونِ ما قَبْله وتحقيقِه .
- وتقديمُ الظَّرْف لَكُمْ على فاعلِ كان آيَةٌ؛ للاعتناءِ بما قُدِّم، والتشويقِ إلى ما أُخِّر- على القول بأنَّ كَانَ تامَّةً- وترك تأنيثُ الفعل فلم يقُلْ: (كانت)؛ لأنَّ آيَةٌ تأنيثُها غيرُ حقيقيٍّ، وقيل: ردَّها إلى البيان، أي: قد كانَ لكم بيانٌ، فذَهَب إلى المعنى وترَك اللَّفظَ، ويجوزُ أنْ تكونَ كَانَ ناقصةً، والظرفُ لَكُمْ خبرٌ، ولتوسُّطه بينَ كَانَ وبين اسمِها آيَةٌ تُرِك التأنيتُ .
- وفيه من لطائفِ البَلاغة: الاحتباكُ، وذلِك في قوله تعالى: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ؛ حيث حذَف مِن كلِّ جملةٍ من الجُملتين المتقابلتين شيئًا إيجازًا، وذكَر في الجملةِ الأخرى ما يدلُّ عليه، والتقدير: فِئةٌ مؤمنةٌ تُقاتِلُ في سبيل الله، وفِئةٌ أُخرى كافرةٌ تُقاتِل في سبيلِ الشَّيطان .
3- قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ:
- فيه إيثارُ صِيغة الجمعِ في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ؛ للدَّلالة على شُمول الرؤيةِ لكلِّ واحدٍ من آحاد الفئة.
- وفيه تأكيدٌ بالمصدر المؤكَّد رَأْيَ، وهو نص في أنَّ الرؤية بَصَريَّةٌ ، والقاعدةُ أنَّ التأكيدَ بالمصدر يَنفي احتمالَ المجاز .
- وقوله: رَأْيَ العَينِ فيه احتراسٌ؛ لئلَّا يُعتقد أنَّه من رُؤيةِ القَلْبِ .
4- قوله : لَعِبْرَةً: التنكيرُ للتَّعظيم، أي: عِبْرة عظيمة، وموعِظة جسيمة .

===========


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (14- 17)
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
غريبُ الكَلِماتِ:

الْقَنَاطِيرِ: جمْع قِنطار، وقد اختُلِف في حدِّه على أقوال، وجملة القول: أنَّه عددٌ كثيرٌ من المال
.
المُقَنْطَرَةِ: المضاعَفة، أو المضعَّفة، أو المكمَّلة .
الْمُسَوَّمَةِ: أي: الرَّاعيةِ- مِن السَّوم وهو الرَّعي- أو المعلَّمة بالعَلاماتِ الحِسان- من السِّمة والتَّسويم، أو المطَهَّمة، أي: الـُمحسَّنة، أو المرسَلة وعليها رُكبانُها، أو المعلَّمة في الحَرْبِ بالعَلامةِ، وأصلُ (سوم): طلب الشَّيء .
الْمَآبِ: المرجِع، مِن آبَ يَؤُوب أَوْبًا، إذا رجَع .
الْقَانِتِينَ: الخاضِعين، الـمُداومين على طاعةِ الله، والقُنوت: دوامُ الطَّاعة ولزومُها مع الخضوع؛ وأصل (قنت): يدلُّ على طاعةٍ وخيرٍ في دِين، ثم سُمِّي كلُّ استقامةٍ في طريقِ الدِّينِ قنوتًا .
بِالأَسْحَارِ: جمْع سَحَر، وهو آخِرُ اللَّيلِ ومُقدِّمةُ الصُّبح

.
المَعنَى الإجماليُّ:

بعدَ أنْ بيَّن تبارَك وتعالَى عقوبةَ الكافرين، وأنَّهم لن تُغنيَهم أموالُهم ولا أولادُهم مِن عذابِ اللهِ وغضَبِه، حذَّر أهلَ الإيمان من أنْ تُلهيَهم زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ, فذكَر أنَّه زُيِّن للنَّاسِ محبَّةُ عددٍ مِن المشتهَيَاتِ؛ كالنِّساءِ، والبنينَ، وأنواعِ الأموال, هي كلُّها ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا مِن زينتِها المنتهيَةِ بالزَّوالِ, وعند الله سبحانه حُسْنُ المرجِعِ والثَّوابِ.
ثمَّ أمَر الله نبيَّه أنْ يخبِرَ المؤمنين أنَّ هناك خيرًا من هذه الشَّهواتِ الدُّنيويَّة الزَّائلة، وهي الجنَّاتُ والنَّعيم المُقيم، وما فيها من المنازل الرَّفيعةِ, والأنهار الجارية, والأزواج المُطهَّرة, وأنَّ هذا النَّعيم دائمٌ ليس بمنقطعٍ؛ فهم خالدون فيها خلودًا أبديًّا، مع أكبرِ نعيمٍ وأعظَمِه، وهو الرِّضا من الله تعالى؛ فاللهُ تبارَك وتعالَى بصيرٌ بعبادِه كلِّهم, فيُجازي كلَّ واحدٍ بما يستحقُّ.
ثم بيَّن اللهُ تبارَك وتعالَى أحوالَ المتَّقين الَّذين يستحقُّون هذا النَّعيم, وعدَّد أوصافَهم, فذكَر أنهم هم الَّذين يتوسَّلون إلى اللهِ تبارَك وتعالَى بإيمانِهم به وبكتابِه وبرسولِه أنْ يمُنَّ عليهم بمغفرةِ الذُّنوبِ, والوقاية من عذاب النَّارِ، ثمَّ ذكَر من صفاتهم الصَّبرَ، والصِّدقَ، والقنوت، والإنفاق، والاستغفار في أوقات السَّحَرِ؛ حيث وقتُ النُّزول الإلهيِّ, في ثُلُث اللَّيل الآخِرِ.
تفسير الآيات:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى في الآياتِ السَّابقة عاقبةَ الكافرين، وأنَّهم لم تُغنِ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم، وعَظ وحذَّر مِن أنْ تُلهيَ زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ
، فقال:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
أي: زيَّن اللهُ تعالى للنَّاسِ محبَّةَ المشتهَيات؛ من النِّساءِ، والذُّكورِ من الأولاد، والمال الكثير المتضاعف ؛ من الذَّهب والفضَّةِ والخيل الرَّاعية ، والإبل والبقَر والغَنَم، والأرض المتَّخذة للزِّراعة .
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أي: جميعُ ما ذُكِر من النِّساء والبنين، والقناطير المقنطَرة مِن الذَّهب والفضَّة، والخيلِ المسوَّمة، والأنعام والحَرْث، ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا، وهو مع قلَّتِه إلى زوالٍ .
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
أي: والله عنده حُسنُ المرجعِ إلى جنَّات تجري من تحتها الأنهارُ، وإلى أزواج مُطهَّرةٍ، ورضوانٍ من الله، وذلك للَّذين اتَّقَوا ربَّهم .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى متاعَ الدُّنيا، شوَّق عبادَه إلى متاعِ الآخرةِ فقال:
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للنَّاس: أأُخبِرُكم وأُعلِمُكم بخيرٍ وأفضلَ ممَّا زُيِّن لكم في هذه الحياةِ الدُّنيا .
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أي: للَّذين خافوا اللهَ فأطاعوه؛ بأداء فرائضِه، واجتنابِ معاصيه: عند ربِّهم جنَّاتٌ كثيرةٌ ومتنوِّعة، تجري من تحتِ أشجارِها وقصورِها ومن أرجائِها أنهارُ العسَلِ واللَّبَنِ والخمرِ والماءِ، وغير ذلك، ماكثين فيها أبدَ الآبادِ، لا يذوقون فيها الموتَ .
وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
أي: ولهم أزواجٌ من نِساء الجنَّةِ، اللَّواتي طهُرْنَ مِن كلِّ أذًى؛ مِن الحَيضِ، والمنِيِّ، والبولِ، والنِّفاس، ومن مساوئِ الأخلاق، وآفاتِ القلبِ والِّلسانِ والجوارحِ، وغير ذلك من كلِّ عيبٍ ظاهرٍ وباطنٍ ممَّا يعتري نساءَ أهلِ الدُّنيا .
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
أي: ولهم رضًا مِن الله تعالى يُحِلُّه عليهم .
وفي الحديثِ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيْكَ ربَّنا وسعدَيْكَ، فيقولُ: هل رضِيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نَرضَى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك، قالوا: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا )) .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ:
أي: واللهُ بصيرٌ بكلِّ العباد- مؤمنِهم وكافرِهم، بَرِّهم وفاجرِهم، مُتَّقيهم وعاصيهم- بَصرَ نظَرٍ؛ فلا يغيبُ عن نظَره شيءٌ، وبصَرَ عِلمٍ؛ فلا يعزُبُ عن عِلمه شيءٌ ، وإذا كان كذلك جازاهم بما يستحقُّون .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى نعيمَ الآخرة، وأنَّه بصيرٌ بمَن يستحقُّ ما أعدَّ مِن الفوز العظيمِ، والنَّعيم المُقِيم، ذكَر مَن يستحقُّ هذا النَّعيمَ، ومَن هم أهله الَّذين هم أَولى به، وما استحقُّوا ذلك به من الأوصاف، تفضلًا منه عليهم بها، وبإيجابِ ذلك على نفسِه؛ حثًّا لهم على التَّخلُّقِ بتلك الأوصافِ .
ثم فسَّر أحوالَ المتَّقين الموعودين بالجنَّاتِ فقال:
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
أي: هم الَّذين يقولونَ: يا ربَّنا، إنَّنا آمنَّا بك، وبكتابِك وبرسولِك؛ فبسببِ إيمانِنا، استُرْ ذنوبَنا، ولا تُعاقِبْنا عليها .
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
أي: ادفَعْ عنَّا عذابَ النَّار، ولا تُعذِّبْنا بها .
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
الصَّابِرِينَ
أي: على القيامِ بالطَّاعات، وتَرْك المحرَّمات، وعلى أقدارِ الله المؤلِمَة .
وَالصَّادِقِينَ
أي: في أقوالِهم وأفعالِهم .
وَالْقَانِتِينَ
أي: والمطيعين، الذين يُداومون على الطَّاعةِ، مع مُصاحَبةِ الخشوعِ والخُضوعِ للهِ تعالى .
وَالْمُنْفِقِينَ
أي: مِن أموالِهم في جميعِ ما أُمِروا به من الطَّاعاتِ؛ كأداءِ الزَّكاةِ والصَّدقات، وصلةِ الأرحام والقَرابات، ومواساةِ ذوي الحاجاتِ، وغيرِ ذلك مِن الوجوه الَّتي أذِنَ اللهُ لهم بالإنفاقِ فيها .
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
أي: السَّائلين المغفرةَ في آخِرِ اللَّيل ؛ فهو وقتُ نُزولِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى سماءِ الدُّنيا؛ ففي الحديثِ عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (( يَنْزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يَدعوني فأَستجيبَ له، من يَسْأَلُني فأُعْطِيَه، مَن يستغفرُني فأَغْفِرَ له؟ ))

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إشارةٌ إلى أنَّ هذه المتعةَ غايتُها الزَّوالُ، فإمَّا أنْ تزولَ عنها، وإمَّا أنْ تزولَ عنك، ولو اجتمَعَتْ كلُّها للمرءِ فما هي إلَّا متاعُ الحياة الدُّنيا، يتمتَّعُ بها الإنسانُ ثمَّ يُفارقُها أو تُفارِقُه هي
.
2- يُستفاد مِن قوله: الدُّنْيَا أنَّ اللهَ قد أَدْنَى مرتبةَ هذه الأشياءِ؛ ليتنبَّهَ الإنسانُ أنَّها متاعُ الحياة الدُّنيا، فينظُرَ إليها نظرةَ جِدٍّ لا نظرةَ شَهوة، فإذا كان ذلك ينفَعُه في الآخِرةِ، فالنَّظرُ إليه طيِّبٌ ونافعٌ، ويكونُ مِن حَسَنة الدُّنيا والآخرة، أمَّا إذا نظَر إليه مجرَّدَ نظَرِ الشَّهوةِ، فإنَّه يُخشى عليه أنْ يُغلِّبَ جانبَ الشَّهوةِ على جانبِ الحقِّ .
3- التَّزهيدُ في التَّعلُّقِ بهذه الأشياء المذكورة في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ...؛ وذلك لقولِه سبحانه: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وكلُّ ما كان للدُّنيا فلا ينبغي للإنسان أنْ يُتبِعَه نفسَه؛ لأنَّه زائلٌ، فلا تُتبِعْ نفسَك شيئًا مِن الدُّنيا، إلَّا شيئًا تستعينُ به على طاعةِ الله .
4- في قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ... الآيةَ: تسليةٌ للفقراءِ الَّذين لا قُدرةَ لهم على هذه الشَّهواتِ، الَّتي يقدِرُ عليها الأغنياءُ، وتحذيرٌ للمغترِّين بها .
5- حُسن أسلوبِ التَّعليم والدَّعوة، وأنَّه يَنبغي للإنسانِ في مقامِ الدَّعوة أنْ يأتيَ بالألفاظ الَّتي تُوجِبُ الانتباهَ والتَّشويقَ؛ كما في قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ .
6- يُستفاد من قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ التَّحذيرُ مِن مُخالفةِ أمرِه؛ لأنَّه متى علِم الإنسانُ أنَّ اللهَ بصيرٌ به، فسوف يردَعُ نفسَه عن مخالفة ربِّه؛ لأنَّه إذا خالَف ربَّه فاللهُ بصيرٌ به، وسوف يُجازيه بحسَب مخالَفتِه .
7- ختَم اللهُ الآيةَ بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ؛ قيل لبيانِ أنَّه ليس كلُّ مَن ادَّعى التَّقوى يكون متَّقيًا، وإنَّما المتَّقي هو مَن يعلَمُ اللهُ منه التَّقوى، وفي ذلك تنبيهٌ وإيقاظٌ للنَّاس لمحاسبةِ نفوسِهم .
8- يدلُّ قولُه تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا... أنَّ مِن صفاتِ المتَّقين إعلانَهم الإيمانَ باللهِ، واعترافَهم بالعبوديَّة، وعدمَ إعجابِهم بأنفسِهم، واعترافَهم بتقصيرِهم في طلَبِ المغفرةِ من اللهِ .
9- في قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ قُدِّم ذِكْرُ الصَّبر على ما بعده؛ قيل لأنَّه كالشَّرط لها, وبدونه لا يتمُّ صِدقٌ، ولا قنوتٌ، ولا إنفاقٌ، ولا استغفارٌ في الأسحار .
10- خُصَّص وقتَ السَّحَر بالذِّكر في قوله: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ؛ قيل لأنَّ العبادةَ فيه أشدُّ إخلاصًا، وأشقُّ على أهلِ البداية; لطِيبِ النَّومِ في ذلك الوقتِ، وأروحُ لأهل النِّهايةِ; لصفاء النَّفسِ، وفراغِ القلبِ من الشَّواغلِ، ولدَلالتِه على اهتمامِ صاحبِه بأمرِ آخرتِه

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ يدلُّ على أمورٍ ثلاثةٍ مُرتَّبةٍ، أوَّلُها: أنَّ المرء يشتهي أنواعَ المشتَهَيات، وثانيها: أنَّه يُحبُّ شهوتَه لها، وثالثها: أنَّه يعتقدُ أنَّ تلك المحبَّةَ حَسَنةٌ وفضيلةٌ، ولَمَّا اجتمعت الدَّرجاتُ الثَّلاثةُ بلغتِ الغايةَ القُصوى في الشِّدَّةِ والقوَّة، ولا يكاد ينحَلُّ ذلك إلَّا بتوفيقٍ عظيمٍ مِن الله تعالى
.
2- قوَّة التَّعبير القُرْآني، وأنَّه أعلى أنواعِ الكلام في الكمالِ؛ إذ سلَّط الحبَّ على الشَّهواتِ، لا على ذاتِ الأشياء؛ لأنَّ هذه الأشياءَ حبُّها قد يكون محمودًا .
3- خصَّ اللهُ حُبَّ الذَّكَرِ بالذِّكْرِ دون الأنثى في قوله: وَالْبَنِينَ؛ لأنَّ التَّمتُّعَ بهم ظاهرٌ من حيث السُّرورُ والتَّكثُّرُ بهم، إلى غير ذلك .
4- التَّعبيرُ بـالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرةِ يُشعِر بأنَّ الكثرةَ هي مَظِنَّةُ الافتتانِ؛ لاشتغالِ القلبِ بالتَّمتُّعِ بها، واستغراقِ الوقت في تدبيرِها، حتى لا يكادَ يَبقَى في قلبِ صاحبِها حاجةٌ إلى طلَبِ الحقِّ، ونُصرتِه في الدُّنيا، والاستعدادِ لِما أعدَّه الله للمتَّقين في الأخرى .
5- في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ... قيل قدَّم ما تعلُّقُ الشَّهوةِ به أقوى، وهو النِّساءُ، الَّتي فِتنتُهنَّ أعظمُ فِتَنِ الدُّنيا، ثمَّ ذكَر البنين المتولِّدين منهنَّ، وكلاهما مقصودٌ له لذاته، ثمَّ ذكر شهوةَ الأموال؛ لأنَّها تُقصَد لغيرها؛ فشهوتها شهوةُ الوسائل، وقدَّم أشرفَ أنواعها، وهو الذَّهب، ثمَّ الفضَّة بعده، ثمَّ ذكر الشَّهوةَ المتعلِّقةَ بالحيوان، الَّذي لا يُعاشَر عِشْرةَ النِّساءِ والأولاد؛ فالشَّهوةُ المتعلِّقةُ به دونَ الشَّهوةِ المتعلِّقة بها، وقدَّم أشرفَ هذا النَّوع، وهو الخيلُ؛ فإنَّها حصونُ القوم، ومعاقِلُهم، وعِزُّهم، وشرفُهم، ثمَّ ذكَر الأنعامَ وقدَّمها على الحرثِ؛ لأنَّ الجَمَالَ بها والانتفاعَ أظهرُ وأكثرُ مِن الحرثِ، وأيضًا فصاحبُها أعزُّ مِن صاحبِ الحرثِ وأشرفُ، وهذا هو الواقعُ؛ فإن صاحب الحرث لا بدَّ له من نوعِ مذلَّةٍ، فجعَل الحرثَ في آخر المراتبِ؛ وَضْعًا له في موضعِه .
6- قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ: العِنديَّةُ هنا: تُفيدُ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّها هي القُربُ مِن الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 205]؛ فثواب المتَّقين عند اللهِ، والعِنديَّة تُفيد القُرْب، ولا أقربَ مِن شيء يكونُ سقفُه عرشَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ كالفِرْدَوسِ الأعلى؛ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 44-44].
7- إضافةُ لفظ (رَبّ) إلى ضَميرِ المتَّقين في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ إشعارٌ بفضلِهم، وعنايةِ مَن ربَّاهم بهم، واهتمامِه بشأنهم .
8- في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [الفاتحة: 14]، قد أُلغِي ما يُقابل شهواتِ الدُّنيا في ذِكرِ نعيمِ الآخرةِ؛ قيل لأنَّ لذَّةَ البنين، ولذَّة المالِ هنالك مفقودةٌ، للاستغناءِ عنها، وكذلك لذَّةُ الخيلِ والأنعامِ، فبَقِي ما يُقابل النِّساءَ والحَرْثَ، وهو الجنَّاتُ والأزواجُ؛ لأنَّ بهما تمامَ النَّعيم والتَّأنُّس- وقيل: نصَّ على أزواج مطهَّرة; ليُعرف الفرقُ بين نساء الدنيا ونساء الآخرة- وزِيدَ عليهما رِضوانُ الله، الَّذي حُرِمَه مَن جعَل حظَّه لذَّاتِ الدُّنيا، وأعرَض عن الآخرةِ .
10- عطف وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ على ما أعدَّ للَّذين اتَّقَوا عند اللهِ؛ لأنَّ رِضوانَه أعظمُ من ذلك النَّعيمِ المادِّيِّ؛ لأنَّ رضوانَ اللهِ تقريبٌ رُوحانيٌّ؛ قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 62] .
11- في قوله: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا: جوازُ التَّوسُّلِ بالإيمانِ؛ فالفاء هنا للسببيَّةِ، تدلُّ على أنَّ ما بعدَها مُسبَّبٌ عمَّا قبلها ، أي: بسببِ إيمانِنا فاغفِرْ لنا؛ لأنَّ الإيمانَ لا شكَّ أنَّه وسيلةٌ للمغفرةِ، وكلَّما قوِيَ الإيمانُ، قوِيَتْ أسبابُ المغفرة، وهذا من بابِ التَّوسُّلِ بالطَّاعةِ لقَبولِ الدُّعاء؛ فهم توسَّلوا إلى اللهِ برُبوبيَّتِه، للإخبارِ بحالِهم في الإيمانِ به، كأنَّهم يقولونَ: ربَّنا آمَنَّا، ولكنَّنا لم نصِلْ إلى الإيمانِ إلَّا برُبوبيَّتِك لنا، تلك الرُّبوبيَّة الخاصَّة المقتضيَة للعنايةِ التَّامَّةِ .
12- في قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ حصرٌ لمقاماتِ السَّالك على أَحسنِ ترتيبٍ؛ فإنَّ معاملتَه مع اللهِ تعالى إمَّا توسُّل، وإمَّا طلَبٌ، والتَّوسُّل إمَّا بالنَّفس، وهو منعُها عن الرَّذائلِ، وحبسُها على الفضائل، والصَّبرُ يَشمَلُهما، وإمَّا بالبدنِ، وهو إمَّا قوليٌّ، وهو الصِّدقُ، وإمَّا فِعْليٌّ، وهو القُنوتُ الَّذي هو ملازمةُ الطَّاعة، وإمَّا بالمالِ وهو الإِنفاقُ في سُبلِ الخيرِ، وأمَّا الطَّلب فبالاستغفارِ؛ لأنَّ المغفرةَ أعظمُ المطالبِ، بل الجامعُ لها .
13- ختَم اللهُ هذه الأعمالَ العظيمة بذِكْرِ الاستغفارِ في الأسحارِ؛ قيل: لِمَا في الاستغفارِ من اعترافٍ بالعجزِ عن القيامِ بالواجب, وذلك هو العُمدةُ في الخَلاصِ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ حبُّ الشَّهَواتِ... الآية: استئنافٌ، وفيه مبالغةٌ، حيث عبَّر عن الأعيانِ التي ذَكَرها بالشَّهوات؛ تَخسيسًا لها، ومبالغةً في كونها مشتهاةً، مَحروصًا على الاستمتاعِ بها؛ فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ، ثم جاء بالتفسير، ليقرِّرَ أوَّلًا في النفوس أنَّ المزيَّن لهم حبُّه ما هو إلَّا شهواتٌ لا غيرُ، ثم يُفسِّره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها، وأدلَّ على ذمِّ مَن يَستعظمُها ويَتهالَك عليها، ويُرجِّح طلبَها على طلبِ ما عند اللَّه
.
2- قوله تعالى: وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ: المُقَنْطَرَةِ: مَبنيَّةٌ على وزن (مُفَنْعلة) أو (مُفَعْلَلة) من القِنطار، وهو للتأكيد، حيث اشتقُّوا منها وصفًا للتوكيد؛ فأُريد بها هنا المضاعفةُ المتكاثِرة؛ لأنَّ اشتقاقَ الوَصْف من اسمِ الشَّيءِ الموصوف إذا اشتهَر صاحبُ الاسم بصفةٍ، يُؤذِن ذلك الاشتقاقُ بمبالغةٍ في الحاصل به .
3- قوله تعالى: ذَلِكَ: إشارةٌ بالبعيدِ إلى جميعِ ما تَقدَّم ذِكرُه من الشَّهوات المفسَّر بهذه الأعيان؛ تأكيدًا لتخسيسِه البعيدِ من إخلادِ ذوي الهِمم إليه؛ ليقطعَهم عن الدَّار الباقية، فأعاد اسمَ الإشارةِ على مُفرَدٍ مُذكَّر، على تقديرِ: ذلِكَ المذكور، فطَوى ذِكرَ هذه السَّبعةِ كلِّها، وكنَّى عنها بالمذكور؛ وذلك لاحتقارِها بالنِّسبة لنعيمِ الآخرة . وقيل: أفرَد كافَ الخِطاب في قوله: ذَلِكَ؛ لأنَّ الخطاب للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو لغير مُعيَّن، على أنَّ علامةَ المخاطَب الواحد هي الغالبُ في الاقترانِ بأسماء الإشارةِ لإرادة البُعْد، والبُعْد هنا بُعْدٌ مجازيٌّ بمعنى الرِّفعةِ والنَّفاسة .
4- قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ: جمَعَ ضميرَ المخاطَب فقال: ذَلِكُمْ ولم يقُل: (ذلك)؛ لأنَّ المخاطَبَ جميعُ النَّاس، وعظَّمه بأداةِ البُعد وميم الجمْع لعَظمتِه عِندَهم والزِّيادة في تَعظيم ما يُرشِدُ إليه، والمشار إليه ما سبَق مِن متاع الحياة الدُّنيا بأنواعِها السَّبعةِ، وأُشير إليها بلفظِ المفرَدِ المذكَّر مِن أجلِ طَيِّ ذِكره بشيءٍ واحد، كأنَّه قال: بخيرٍ مِن ذلكم المذكورِ، حتى لا يُشارَ إلى التفصيلِ فيه؛ لأنَّ الدُّنيا كلَّها في الواقعِ ينبغي أنْ يَزهَدَ فيها الإنسانُ، ولا يَحتسبَها شيئًا .
4- قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: خبرٌ فيه تحريضٌ على استبدالِ ما عنده من اللَّذاتِ الحقيقيَّة الأبديَّة، بالشَّهواتِ الفانية .
- وفيه تكريرُ الإسنادِ بجَعْلِ الجلالة واللهُ مبتدأً، وإسنادِ الجملة الظرفيَّة إليه؛ زيادةً في التأكيدِ والتفخيمِ، ولمزيدِ الاعتناءِ بالترغيبِ فيما عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ من النَّعيم المقيم، وللتزهيدِ في مَلاذِّ الدُّنيا وطيِّباتها الفانية .
- وفي الآية من البَلاغة: مُراعاةُ النَّظير، حيث جمَع بين كلِّ أمْر وما يُناسِبُه، مع إلْغاء ذِكرِ التضادِّ، فجمَع سبحانه مُعظَمَ وسائلِ النَّعيم الآيِلَةِ بالمرءِ إلى الانهماكِ في الفِتنة والانسياقِ مع دواعي النُّفوس الجَموح، وقد زُيِّنتْ للناس واستهوتْهم بالتعاجيبِ والمفاتِن؛ ابتلاءً لهم .
- وفيها مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيث بدَأَ بتقديمِ النِّساءِ على البنينِ؛ للإشعارِ بعَراقتهنَّ في معنى الشَّهوة؛ إذ يَحصُل منهنَّ أتمُّ اللذَّات، وثَنَّى بالبَنين؛ للتكثُّرِ بهم، وأمَل قيامِهم مقامَهم من بعدهم، والتفاخُر والزِّينة .
5- قوله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ: افتتَح الاستئنافَ بكلمة قُلْ للاهتمامِ بالمقولِ، وهمزةُ الاستفهام في أَؤُنَبِّئُكُمْ؛ للتقريرِ والعرضِ؛ تشويقًا من نفوسِ المخاطَبين إلى تَلقِّي ما سيُقصُّ عليهم، أي: أَأُخبرُكم بما هو خيرٌ ممَّا فُصِّل من تلك المستلذَّاتِ المزيَّنة لكم .
- وإبهامُ الخيرِ وتَنكيره في قوله: بِخَيْرٍ؛ لتفخيمِ شأنِه والتشويقِ إليه .
- وقال: أَؤُنَبِّئُكُمْ ولم يقُلْ: (أَأُخبركم)؛ لأنَّ النبأَ إنَّما يُقالُ في الأمور المهمَّة؛ كقوله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ [النبأ: 1- 2] ؛ ولهذا قيل للنَّبيِّ: (نبيٌّ)، ولم يُقَل: (مخبِر)؛ فهذا أمرٌ مُهِمٌّ يحتاجُ إلى الإنباء عنه .
- وفيه: تفصيلٌ بعدَ إجمال؛ مبالغةً في الترغيبِ، وللتسليةِ عن زخارفِ الدُّنيا، وتقويةً لنفوس تاركها .
- وفيه: التفاتٌ مِن الغَيبة زُيِّنَ لِلنَّاسِ... إلى الخِطاب قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ؛ للتشريفِ .
6- قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عند رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ: فيه تقديمُ الخبر لِلَّذِينَ اتَّقَوْا على المُبتدأِ جَنَّاتٌ لإفادةِ الحَصر؛ إذ تقديمُ ما حقُّه التأخيرُ يُفيدُ الحصرَ .
7- قوله تعالى: ورِضوان: (رِضوان) اسمُ مبالغةٍ في مَعنَى الرِّضا، والزِّيادةُ في المبنى لبيانِ المبالَغةِ في المعنى, فكأنَّه قال: ورضوانٌ عظيمٌ من الله، لا يشُوبُه ولا يعقُبُه سخطٌ .
- وأظهَر اسمَ الجلالة في قوله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، دون أنْ يقولَ: (ورضوان منه)، أي: من ربِّهم؛ لِمَا في اسمِ الجلالةِ مِن الإيماءِ إلى عظَمةِ ذلك الرِّضوانِ .
8- قوله تعالى: واللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ جملةٌ مُعترِضةٌ، وتأكيدُ الجملةِ لإظهارِ أنَّ إيمانهم ناشئٌ مِن وُفورِ الرَّغبة، وكمالِ النَّشاط .
- وإظهارُ اسمِ الجلالة في قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ؛ لقصدِ استقلالِ الجُملةِ لتكونَ كالمَثَلِ .
- وفيه بيانُ الوعد، أي: إنَّه عليمٌ بالذين اتَّقوا، ومراتبِ تقواهم؛ فهو يُجازيهم .
- وفيه مع الوعيدِ، تهديدٌ شديدٌ لِمَن تولَّى عن الإسلام، ووعْدٌ بالخيرِ لِمَن أسلم؛ إذ معناه: إنَّ الله مُطَّلعٌ على أحوالِ عَبيدِه، فيُجازيهم بما تَقتضي حِكمتُه .
9- قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا فيه إسقاطُ أداة النِّداء في رَبَّنَا؛ إشعارًا بما لهم من القُرب؛ لأنَّهم في حَضرةِ المراقبةِ .
- وفيه التأكيدُ بقوله: إِنَّنَا بإثباتِ النونِ للمبالغةِ في التأكيدِ .
10- قوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ: فيه تفخيمٌ للموصوفِ بدخولِ الواو على الصِّفاتِ مع أنَّ الموصوفَ واحد؛ لأنَّه إيذانٌ بأنَّ كلَّ صفةٍ مستقلَّةٌ بمدح الموصوف؛ فتوسيطُ الواوِ بينها للدَّلالةِ على استقلالِ كلِّ واحدٍ منها، وكمالِهم فيها، أو لتغايُر الموصوفين بها .
- قولُه: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أكملُ من قوله: الَّذين يَصبِرون ويصدُقون؛ قيل لأنَّ قوله: الصَّابِرِينَ يدلُّ على أنَّ هذا المعنى عادَتُهم وخُلُقُهم، وأنَّهم لا يَنفَكُّون عنها ؛ فالاسمُ يدلُّ على الثُّبوتِ، والفِعلُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ .

===============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآية: (18)
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
غريبُ الكَلِماتِ:

قَائِمًا بِالْقِسْطِ: أي: يَلِي العَدْلَ بينَ خَلقِه، ويُراعيه ويَحفظُه؛ يُقال: قامَ بهذا الأمْر، أي: أجْراه على الاستقامةِ في جميعِ الأمور. والقِسْطُ العَدْلُ، مِن أقْسَط فهو مُقْسِط
.
مُشكِلُ الإعرابِ:
قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ:
قَائِمًا: منصوبٌ على الحالِ، وهي حالٌ مؤكِّدة مِن الضمير هُوَ والعاملُ في الحالِ معنى الجُملة، أي: لا إلهَ إلَّا هو قائمًا بالقِسط، كما يُقال: لا إلهَ إلَّا هو وحْدَه، وقيل: هي حالٌ من اسمِ الجلالةِ اللهُ والعاملُ في الحالِ شَهِدَ، أي: شهِد اللهُ قائمًا بالقسط، وكِلا المعنيين صحيحٌ؛ فعلى الوجه الأوَّل يُعتَبر القِسط في الإلهيَّة؛ فيكون المعنى: "لا إله إلا هو قائمًا بالقسط"، أي: هو وحْدَه الإله قائمًا بالقِسط، كما يُقال: أشهد أنْ لا إلهَ إلَّا الله إلهًا واحدًا أحدًا صمدًا، وهذا الوجهُ أرجحُ؛ فإنَّه يتضمَّن أنَّ الملائكةَ وأُولي العِلمِ يَشهدون له مع أنَّه لا إلهَ إلَّا هو وأنَّه قائمٌ بالقسط، والوجهُ الآخَرُ لا يدلُّ على هذا. وفائدةُ الفصْل بين صاحِبِ الحالِ وبينها بالمعطوفِ- حيث جاء مُتوسِّطًا بين صاحبِ الحال وبينها-: أنَّه لو قال: (شهد الله أنَّه لا إله إلَّا هو قائمًا بالقسط والملائكة وأولو العلم); لأَوْهمَ عطْفَ الملائكةِ وأُولي العِلم على الضَّميرِ في قوله: قَائِمًا بِالْقِسْطِ، ولا يحسُن العطفُ لأجْلِ الفصل، وليس المعنى على ذلِك قطعًا، وإنَّما المعنى على خِلافِه، وهو أنَّ قيامَه بالقسطِ مُختصٌّ به، كما أنَّه مختصٌّ بالإلهيَّة؛ فهو وحْدَه الإلهُ المعبودُ المستحقُّ العبادة، وهو وحْدَه المُجازِي المثيبُ المعاقِبُ بالعدْل. وقيل غيرُ ذلك في توجيهِ نَصْب قَائِمًا

.
المَعنَى الإجماليُّ:

بعد أنْ ذكَر اللهُ ثناءَه على المؤمنين, أتْبَعَ ذلك ببيانِ علاماتِ الإيمان الواضحة, ودلائلِه النَّاصعة, وجاء ليُقرِّر التَّوحيدَ بأعظمِ الطَّرائقِ الموجِبة له، وهي شَهادتُه سبحانه؛ فشهِد أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا هو, وأتْبَع شَهادتَه بذِكْرِ شَهادةِ ملائكتِه وأُولي العِلم مِن عباده؛ فهو قائمٌ بالعدلِ في جميعِ الأحوال, متَّصِفٌ بالقِسط في كلِّ الأفعال.
ثمَّ أكَّدَ سبحانه وتعالى تفرُّدَه باستحقاقِ العبادة, وتوحُّدَه بالألوهيَّةِ, وبيَّنَ أنَّه عزيزٌ قويٌّ مَتِينٌ، لا يُغلَبُ, ولا يعجِزُ عن شيءٍ أراده, وأنَّه حكيمٌ في كلِّ أقوالِه وأفعالِه.
تفسير الآية:

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا مدَح اللهُ عزَّ وجلَّ المؤمنين وأثْنى عليهم بقولِه: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا [آل عمران: 16] ، أردَفه بأنْ بيَّنَ أنَّ دلائلَ الإيمانِ ظاهرةٌ جليَّةٌ
، فقال:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
أي: عَلِمَ اللهُ تعالى أنَّه لا معبودَ حقٌّ إلَّا هو، وتكلَّمَ بذلك، وأخبر به خلْقَه، وأَمَرَهم وأَلْزَمهم به .
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
أي: وشهِدَتِ الملائكةُ أيضًا بذلك وأصحابُ العِلم .
قَائِمًا بِالْقِسْطِ
أي: حالَ كونِه قائمًا بالعَدْلِ، وهو في جميعِ الأحوال كذلك، لم يزَلْ متَّصِفًا بالقِسطِ في أفعالِه وتدبيرِه بين عِبادِه؛ فهو على صراطٍ مستقيمٍ فيما أمَر به ونهى عنه، وفيما خلَقه وقدَّرَه .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
تأكيدٌ لتفرُّدِه بالألوهيَّةِ، وتقريرٌ لتوحيدِه، وأنَّه لا يستحقُّ العبادةَ غيرُه .
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أي: القويُّ المتينُ، الَّذي لا يُغلَبُ، ولا يَمتنعُ عليه شيءٌ أراده، ولا يَنتصِرُ منه أحدٌ، أو يَنالُ منه، الحَكيمُ في أقوالِه وأفعالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والحَكيمُ يتضمَّنُ حُكْمَه وعِلْمَه وحِكمتَه فيما يقولُه ويفعلُه، فإذا أمَر بأمرٍ كان حَسَنًا، وإذا أخبَرَ بخبَرٍ كان صِدقًا، وإذا أرادَ خَلْقَ شيءٍ كان صوابًا؛ فهو حكيمٌ في إراداتِه وأفعالِه وأقوالِه

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- شَهادةُ اللهِ لنفسِه بانفرادِه بالألوهيَّةِ قد تكونُ قوليَّةً، كما في هذه الآيةِ، وقد تكون فعليَّةً فيما يُظهِرُه اللهُ مِن آياته؛ فكلُّ الكائناتِ تشهَدُ لله عزَّ وجلَّ بالوحدانيَّةِ بلسانِ الحال
.
2- الشَّهادة لا تكونُ إلَّا عن عِلمٍ يقينيٍّ يكونُ بمنزلة المشاهَدة البصريَّةِ، وفي ذلك دليلٌ على أنَّ مَن لم يصِلْ في علمِ التَّوحيد إلى هذه الحالةِ، فليس مِن أُولي العِلم .
3- في قوله: وَالْمَلَائِكَةُ: جعَل اللهُ الملائكةَ في المرتبةِ الأُولى في الشَّهادةِ بالتَّوحيدِ بعدَه سبحانه؛ قيل: لبيان فضيلتِهم، ولأنَّهم الملأُ الأعلى، وعِلمُهم كلُّه ضروريٌّ، بخلاف البشَر؛ فإنَّ عِلمَهم ضروريٌّ واكتسابيٌّ .
4- تأكيدُ الشَّيء المهمِّ، وإن كان المخبِرُ به من أهل الصِّدق؛ حيث صدَّر اللهُ تعالى وحدانيَّتَه بالشَّهادةِ، وبيَّن أنَّ هذه الشَّهادةَ ليست له وحده، بل له، وللملائكةِ، ولأُولي العِلم .
5- في قوله: وَأُولُو الْعِلْمِ دليلٌ على شرَفِ العِلم من وجوهٍ، منها:
- تخصيصُ اللهِ لهم بالشَّهادةِ على أَعظمِ مشهودٍ عليه.
- قرَنَ اللهُ شَهادتَهم بشَهادتِه وشَهادةِ ملائكتِه.
- أضافَهم اللهُ إلى العِلم؛ فهم القائمونَ به، المتَّصفون بصِفَتِه.
- جعَلهم اللهُ شُهداءَ وحُجَّةً على النَّاس، وألزَم النَّاسَ العملَ بما شهِدوا به، فكانوا هم السَّببَ في ذلك، فيكونُ كلُّ مَن عمِل بذلك نالهم مِن أجْرِه.
- أنَّ إشهادَه لهم يتضمَّنُ تزكيتَهم وتعديلَهم .
6- لم يَذكُرِ اللهُ سبحانه شهادةَ رُسلِه مع الملائكة، فيقول: شهِدَ اللهُ أنَّه لا إلهَ إلَّا هو والملائكةُ والرُّسل، وهم أعظمُ شهادةً مِن أُولي العِلم؛ لعِدَّة فوائد:
منها: أنَّ أُولي العِلم أعمُّ من الرُّسل والأنبياء، فيَدخُلون هم وأتباعُهم.
ومنها: أنَّ في ذِكر أُولي العلم في هذه الشهادة، وتعليقِها بهم: ما يدلُّ على أنَّها من مُوجِبات العِلم ومُقتضياتِه، وأنَّ مَن كان من أُولي العِلم فإنَّه يَشهدُ بهذه الشَّهادة... ففي هذا بيانُ أنَّ مَن لم يَشهَدْ له الله سبحانه بهذه الشَّهادة فهو من أعظمِ الجُهَّال، وإنْ عَلِم من أمور الدنيا ما لم يَعلَمْه غيرُه؛ فهو من أُولي الجَهل، لا مِن أُولي العِلم، وإنْ وسَّع القولَ وأكْثَر الجِدال.
ومنها: الشَّهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة أنهم أولو العلم .
7- قوله تعالى: قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] "القِسْط": هو العَدْلُ، فشهِد الله سبحانه: أنَّه قائمٌ بالعدلِ في توحيده، وبالوحدانيَّةِ في عَدْله، والتَّوحيد والعَدْل هما جِماعُ صفات الكمال؛ فإنَّ التَّوحيد يتضمَّنُ تفرُّدَه سبحانه بالكمالِ والجلالِ والمجد والتَّعظيم، الَّذي لا ينبغي لأحدٍ سواه، والعدل يتضمَّنُ وقوعَ أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب، وموافقة الحِكمة .
8- ختَم بقوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ قيل: ليكونَ دليلًا على قِسطِه؛ إذ لا يَصِحُّ أبدًا لذي العزَّةِ الكاملة والحِكمة الشَّاملة أنْ يتصرَّفَ بجَوْرٍ، ودليلًا على وحدانيَّتِه؛ لأنَّه لا يصحُّ التفرُّدُ بدون الوصفينِ .
9- قوله تعالى: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قيل: قدَّم العَزِيز على الحَكِيم لأنَّ العزَّةَ تُلائِمُ الوحدانيَّة، والحِكمة تُلائِمُ القيامَ بالقِسط، فأتى بهما لتقريرِ الأمرينِ على ترتيبِ ذِكرهما .
10- تَضمَّنَتْ هذه الآيةُ وهذه الشَّهادةُ: الدَّلالةَ على وَحدانيَّتِه المنافيةِ للشِّركِ، وعلى عَدْلِه المنافي للظُّلم، وعِزَّتِه المنافيةِ للعجز، وحِكمتِه المنافية للجهلِ والعيبِ؛ ففيها الشَّهادةُ له بالتَّوحيد، والعَدْل، والقُدرة والعِلم والحِكمة؛ ولهذا كانتْ أعظمَ شَهادةٍ

.
بلاغة الآية:

1- شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
- قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه تَكرار؛ للتأكيدِ، ومزيدِ الاعتناءِ بمعرفةِ أدلَّة التوحيد، والحُكمِ به بعدَ إقامة الحُجَّة، وليبنيَ عليه قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيُعلم أنَّه الموصوفُ بهما، ولئلَّا يَسبِقَ بذِكْرِ العزيزِ الحكيمِ إلى قلْبِ السَّامع تمثيلٌ؛ إذ قد يُوصَفُ بهما المخلوقُ، أو يكون التَّكرارُ من باب تَكرارِ ما صُدِّر الكلامُ به إذا طال عَهدُه
.
- والآية استئنافٌ، وتمهيدٌ لقولِه بعدها: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ؛ ذلك أنَّ أساسَ الإسلامِ هو توحيدُ الله، وإعلانُ هذا التوحيدِ وتَخليصُه من شوائبِ الإشراكِ .
- وفيه: تعريضٌ بالمشركين وبالنَّصارى واليهود، وإنْ تفاوتوا في مراتبِ الإشراك .
- في قولِه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ أنَّ قولَه: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مفعولُ شَهِدَ، وفصَلَ بين المعطوفِ عليه اللهُ والمعطوفِ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ؛ ليدُلَّ على الاعتناءِ بذِكْر المفعولِ، وليدلَّ على تَفاوُتِ درجةِ المتعاطفَينِ، بحيث لا يُعطفانِ مُتجاورينِ .
- وفي الآية ردُّ العَجُزِ على الصَّدر؛ فقد ردَّ العَزِيز إلى تفرُّده بالوحدانيَّة التي تَقتضي العِزَّة، وردَّ الحَكِيم إلى العدلِ الذي هو القِسطُ؛ فهو تعالى حكيمٌ لا يَتحيَّفه جورٌ أو انحراف، وأكَّد ما افتُتحت به السُّورةُ من قوله: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .

==================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (19- 20)
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
غريبُ الكَلِماتِ:

الدِّينَ: ما يَدين به المرءُ، والطَّاعةُ، والعادةُ، وأصله: الانقيادُ والذُّلُّ
.
الْأُمِّيِّينَ: أي: العرَب، جمْع أُمِّيٍّ، وهو الَّذي لا يَكتُب ولا يَقرأ؛ نِسبةً إلى الأُمِّ؛ لأنَّ الكِتابَ كان في الرِّجال دونَ النِّساء، فنُسِبَ مَن لا يكتُب ولا يَخطُّ من الرِّجال إلى أُمِّه في جَهلِه بالكتابةِ دونَ أبيه، أو مَنْسُوبٌ إلى الأُمَّة الأُميَّة، الَّتي هِي على أَصْلِ وِلاداتِ أُمَّهاتها، لم تتعلَّمِ الكتابةَ ولا قِراءتَها، والأُميَّة: الغَفلةُ والجَهالةُ وقِلَّةُ المعرِفة، وأصْل (أمم): الأَصْلُ والمرجِع .
تَوَلَّوْا: أعرَضوا؛ فالفِعل (ولي)، إذا عُدِّي بـ(عن) لفظًا أو تقديرًا- كما هنا- اقتَضى معنى الإعراضِ والتَّركِ، وإذا عُدِّي بنَفْسه اقتَضَى معنى الوِلاية والقُرْب

.
المَعنَى الإجماليُّ :

يُبيِّنُ اللهُ تعالى في هذه الآياتِ طبيعةَ الدِّين الَّذي يجب أنْ يُدانَ ويُتعبَّدَ له به, وهو دِينُ الإسلام؛ فهو الدِّينُ الَّذي لا يَقبَلُ غيرَه, ولا يَرتضي سِواه.
ثم بَيَّن سبحانه وتعالى أنَّ اختلافَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ إنَّما حصَل بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليهم من إرسال الرُّسلِ، وإنزالِ الكتُب, وكان الحاملُ لهم على الاختلافِ والتَّفرُّقِ هو ما جرى فيهم مِن بَغيٍ ومجاوزةٍ للحدِّ في العُدوان والظُّلم.
ثمَّ عقَّب اللهُ تبارَك وتعالَى بذِكْر جزاءِ مَن يَكفُرُ بآياتِ الله, وأنَّه سيُحاسبُه على أفعالِه الَّتي أحصاها عليه؛ فهو سريعُ الحسابِ والإحصاءِ.
ثمَّ وجَّه اللهُ خِطابَه لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّهم إنْ جادَلوك- يا محمَّدُ- بالباطل, وخاصَموك فيما جاءَك من الحقِّ- فأَخبِرْهم أنَّك أخلَصْتَ العملَ لله وحده, وأفرَدْتَ العبادةَ له, أنت ومَن اتَّبَعك على دِينِك, وأمَرَه أنْ يقولَ للَّذين أُوتوا الكتابَ والأُمِّيِّين من المشركين: هل أَسلمتم للهِ وأفرَدْتُموه بالتَّوحيد؟! فإنْ أسلَموا بمِثْل إسلامِكم, واتَّبَعوا دِينَكم, وانقادوا لله، وأذعَنوا له- فقد أصابوا الهُدى، ووُفِّقوا لسبيل الحقِّ, وإنْ أعرَضوا عمَّا تَدْعوهم إليه, فليس عليك إلَّا البلاغُ, واللهُ بصيرٌ بجميعِ العباد، عالِمٌ بمَن يَهتدي منهم، ومَن يَضِلُّ عن سواء السَّبيلِ, وإليه مرجعُهم, وعليه حِسابُهم.
تفسير الآيتين:

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قرَّر اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه الإلهُ الحقُّ المعبود، بَيَّن العبادةَ والدِّينَ الَّذي يتعيَّنُ أنْ يُعبَدَ به ويُدانَ له، وهو الإسلامُ
، فقال:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
أي: إنَّ الدِّينَ المقبولَ عند اللهِ، الَّذي لا دِينَ سواه، هو الإسلام ؛ كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .
والإسلامُ هو الانقيادُ لله وحده، ظاهرًا وباطنًا، بما شرَعه على ألْسنةِ رُسله، إلى أنْ خُتِموا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فجميعُ الطُّرقِ مسدودةٌ إلَّا مِن جِهته .
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
أي: اختلَف الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بعدَما قامتْ عليهم الحُجَّة؛ بإرسالِ الرُّسلِ إليهم، وإنزال الكتُب عليهم، وعِلمِهم بالحقِّ، وحَمَلَهم على ذلك مجاوزتُهم الحدَّ بالعدوانِ والظُّلم، وبالتَّفريط وتضييعِ الحقِّ .
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
أي: ومَن يكفر بحُجَج اللهِ تعالى وما أنزَل في كتابِه، فإنَّ اللهَ سيُجازيه ويُحاسبه على ذلك؛ فإنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ العبادِ بسرعةٍ، دون الحاجةِ إلى عَقدِ أصابعَ، أو استخدامِ أداةٍ، وبلا حاجةٍ إلى فِكرٍ أو رَوِيَّة، كما يَفعَلُ الخَلقُ، وهو سريعُ المحاسَبة للخَلْقِ يومَ القيامة دون أنْ يَظلِمَ أحَدًا شيئًا ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، فيُحاسبُهم على كثرتِهم في وقتٍ وجيزٍ جدًّا، وهو سبحانه سَريعُ المجازاةِ لعباده، كما أنَّ حسابَه عزَّ وجلَّ قريبٌ؛ لسرعةِ انقضاءِ هذه الحياةِ الدُّنيا .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ
أي: فإنْ جادَلوك وخاصَموك بالباطل، فقُلْ- يا محمَّدُ-: أخلصتُ عملي وعبادتي للهِ وحْدَه لا شريكَ له، أنا ومَن على دِيني، فلا نُوجِّهُ وُجوهَنا إلى غيره .
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
أي: وقلْ- يا محمَّدُ- للَّذين أوتوا الكِتابَ مِن اليهودِ والنَّصارى والأُمِّيِّين الَّذين لا كتابَ لهم مِن مُشرِكي العربِ: أَأفرَدْتُم التَّوحيدَ لله وأخلَصْتم له العبادةَ؟ والمعنى: أسلِموا للهِ تعالى ووحِّدوه وأَخلِصوا له .
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
أي: فإنِ انقادُوا واستسلَموا للهِ ظاهرًا وباطنًا، فقدِ اهتدَوْا هدايةَ توفيقٍ، وأصابوا سبيلَ الحقِّ .
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
أي: وإنْ أَدبَروا مُعرِضين عمَّا تَدْعوهم إليه من الإسلامِ، وإخلاصِ التَّوحيد للهِ، ولم يَنقادوا بظَواهرِهم ولا ببَواطنِهم، فليس عليك إلَّا تبليغُ رسالةِ ربِّك، وبه وقَعَ أَجرُك على ربِّك، وقامتْ عليهم الحُجَّة .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
أي: مطَّلِع على جميعِ الخَلْق أتمَّ الاطِّلاعِ، ويعلمُ أحوالهم؛ مَن يُطِيع منهم، ومَن يُعرِض، ويتولَّى جزاءَهم

.
الفوائد التربوية :

1- على المسلمِ ألَّا يَنظُرَ إلى الآية الَّتي ذَكرتِ الخلافَ الَّذي وقع للَّذين أوتوا الكتابَ كحدَثٍ تاريخيٍّ، بل يتلوها متذكِّرًا أنَّها أُنزلتْ تحذيرًا للمسلمين من الخلافِ في الدِّين، والتَّفرُّقِ إلى شِيَعٍ اتِّباعًا لسَنَنِ مَن قبْلَهم
.
2- في قوله بَغْيًا بَيْنَهُمْ إشارةٌ إلى أنَّه عند مخالفةِ الإنسان غيرَه يَنبغي ألَّا يتطاولَ عليه, وألَّا يكون مقصِدُه بسَوْق الأدلَّةِ والحُجَج المؤيِّدةِ لقولِه، البَغيَ على غيره .
3- يُستفادُ من قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ أنَّه إذا عَلِم الإنسانُ أنَّ مَن يُحاجُّه إنَّما يَقصِدُ نصْرَ قولِه ولو كان باطلًا، فله الإعراضُ عنه؛ لأنَّه ليس أهلًا للمحاجَّةِ أو الخُصومةِ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران: 19] الآيةَ: تلميحٌ إلى أنَّ هذا الاختلافَ والبغيَ كفرٌ؛ لِمَا أفْضَى إليه مِن نقْضِ قواعدِ أديانِهم، ونُكرانِ دِين الإسلام؛ ولذلك ذيَّله بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران: 19]
.
2- في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران: 19] عبَّر عنهم بقوله: أُوتُوا الْكِتَابَ زيادةُ تَقبيحٍ لهم؛ فإنَّ الاختلافَ بعدَ إتيان الكتابِ أقبحُ، وقوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادةٌ أخرى؛ فإنَّ الاختلافَ بعد العِلم أزيدُ في القَباحةِ، وقوله: بَغْيًا بَيْنَهُمْ زيادةٌ ثالثة؛ لأنَّه في حيِّزِ الحَصْر، فيكون أزيدَ في القُبح .
3- الوجهُ أشرفُ الأعضاء، وبه يكونُ الانقيادُ وعدمُه؛ لهذا كان أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربِّه في حال سُجودِه؛ لوَضعِه أشرفَ أعضائِه على مَوطئِ الأقدامِ؛ لذا قال تعالى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] .
4- في قوله تعالى: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ دليلٌ على أنَّه ليس قولُ أحدٍ من أهل العِلم حُجَّةً على الآخَر؛ فهم كلُّهم تابِعون لا متبوعون .
5- في إسنادِ الأفعالِ إلى فاعليها ردٌّ على الجَبْريَّة, فإنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى قال: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وقال: بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وكلُّ ذلك يُفيد أنَّ للإنسانِ إرادةً وفعلًا اختياريًّا

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ: جملةٌ مُستأنَفة مؤكِّدةٌ للجملة الأولى، وفائدة التوكيد: بيانُ الدِّين المَرْضيِّ لله تعالى، وأنَّه ليس سوى الإسلامِ الذي هو التَّوحيدُ والتدرُّعُ بالشريعةِ الشَّريفةِ التي جاءَ بها محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم
.
- وفيه حَصْرٌ بتعريفِ جُزئَيِ الجملة (الدِّين- الإسلام)، وفيه أيضًا توكيدُ الكلام بـ(إنَّ)، تحقيقًا لِمَا تضمَّنه من حَصْر حقيقة الدِّين عند الله في الإسلام: أي الدِّين الكامل .
2- قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا...: فيه وصلٌ- أي: عطفٌ بالواو- وهو مناسبٌ؛ لكونِ الكلامِ المتقدِّم مُشتملًا على تعريضٍ باليهود والنصارى، الذين كذَّبوا بالقرآن، وإبطالٍ لقولِ وفْد نجران، فناسَب أنْ يُنوَّه بعدَ ذلك بالإسلامِ الذي جاءَ به القرآن؛ ولذلك جاءَ العطفُ على قولِه: إِنَّ الدِّينَ... .
- وحُذِفَ متعلِّقُ الاختلاف في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ؛ ليَشملَ كلَّ اختلافٍ منهم: مِن مخالفةِ بعضِهم بعضًا في الدِّين الواحدِ، ومخالفةِ أهل كلِّ دِينٍ لأهلِ الدِّين الآخَر، ومخالفةِ جميعِهم للمسلمين في صحَّة الدِّين. وحُذِفَ متعلِّقُ العِلمِ في قوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ لذلك .
3- قوله تعالى: مِنْ بَعدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ: فيه إطلاقُ اسمِ السَّبب على المسبِّب، حيث عبَّر بالعِلم عن التوراةِ والإنجيل، أو النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم- على الخِلاف .
4- قوله تعالى: بَغْيًا بَيْنَهُمْ: فيه إيماءٌ إلى أنَّ البغيَ دائرٌ شائعٌ فيهم، وكلُّ فِرقةٍ منهم تُجاذِب طرَفًا منه ؛ فـبَيْنَهُمْ حال لبغيًا، أي: بغيًا مُتفشِّيًا بينهم، بأنْ بغَى كلُّ فريقٍ على الآخَر .
5- قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: خبرٌ؛ غرضُه الوعيدُ الشَّديد، والتهديدُ لِمَن كفَر منهم بأنَّه سيصيرُ إلى اللهِ سريعًا فيَجزيه على كُفره؛ وأيضًا سَرِيعُ الْحِسابِ أي: سريعُ الإحصاءِ مع كثرةِ الأعمال، وهو سريعُ المحاسَبة للخَلْق يومَ القيامة، على كثرتِهم، وهو سبحانه سريعُ المجازاة لعبادِه ، مع ما فيه مِن تأكيدِ الخبر بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة.
- والإظهارُ في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ، مع كونِه مقامَ الإضمارِ، فلمْ يَقُلْ: (فإنَّه)؛ للتهويلِ عليهم، والتهديدِ لهم .
6- قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ:
- في قوله تعالى: أَأَسْلَمْتُمْ الاستفهامُ في معرِض التَّقرير، أو التوبيخِ والتقريعِ، وفيه: الإشارةُ إلى كونِ المخاطَب بليدًا قليلَ الفَهم . أو الاستفهام للتحضيضِ والاستبطاءِ، وجِيء بصِيغة الماضي، ولم يقُل: (أَتُسلِمون) على خِلافِ مُقتضَى الظاهر؛ للتنبيهِ على أنه يرجو تحقُّقَ إسلامِهم، حتى يكونَ كالحاصِلِ في الماضي، أو يكون المقصودُ مِن الاستفهام الأمْرَ؛ فهو بمنزلتِه في طَلبِ الفعلِ والاستدعاءِ إليه، إلَّا أنَّ فيه معنًى زائدًا، وهو التَّعبيرُ بكونِ المخاطَبِ مُعانِدًا بعيدًا عن الإنصاف .
- قوله تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فقَدِ اهْتَدَوْا: عبَّر بصيغةِ الماضي المصحوبِ بـ(قَد) الدالَّة على التحقيقِ؛ مُبالغةً في الإخبارِ بوقوع الهُدى ، وللتنبيهِ على أنَّه يرجو تحقُّقَ إسلامهم، حتى يكونَ كالحاصلِ في الماضي .
- قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا: في صيغة (افتَعلوا) تلويحٌ بأنَّ الأنفُسَ مائلةٌ إلى الضلال، زائغةٌ عن طريقِ الكمال؛ فلا يَهمَّنك أمرُهم؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ، وفي بِنية التفعُّل إيماءٌ إلى أنَّ طُرُقَ الهدى بعد البيانِ تأخُذ محاسنُها بمجامعِ القلوب، وأنَّ الصادفَ عنها بعدَ ذلك قد قهَر ظاهرَ عقلِه، وقويمَ فِطرتِه الأُولى برَجاسةِ نفْسه، واعوجاجِ طَبْعِه .
- قوله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ: فيه قصرٌ بـ(إنَّما)، وهو مِن القصر الإضافيِّ، والتقديرُ فيه: فإنَّما عليك البلاغُ فقط، أمَّا الهدايةُ فليستْ عليك، وإنَّما هي علينا نحن .
- في قوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ: تذييلٌ فيه وعدٌ ووعيد .


=========


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (21- 22)
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ
غريبُ الكَلِماتِ:

حَبِطَتْ: بطَلتْ، وأصلُ الحبْط: هو أنْ تُكثِر الدَّابَّةُ أكلًا حتَّى يَنتفخَ بطنُها

.
المَعنَى الإجماليُّ :

يُخبِرُ اللهُ تبارَك وتعالَى- ذامًّا- الَّذين كفَروا بآياتِه, ولم يَكتَفُوا بذلك، بل أَمعَنوا في طُغيانهم، وازدادوا في ضَلالِهم, فقتَلوا أنبياءَ الله ورُسلَه بغير جُرمٍ ولا جَريرةٍ، وقتَلوا كذلك مَن يدعو إلى العدلِ، ويأمُرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكر مِن عبادِ الله؛ فأمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَهم بما ينتظرُهم من عذابٍ أليم, وعقابٍ موجِعٍ, جزاءً على كُفرِهم وسيِّئِ أعمالِهم.
وأخبَر سبحانه وتعالى أنَّ أعمالَ هؤلاء باطلةٌ, لا يَنتفعون بها ولا بآثارِها، لا في دُنياهم ولا في أُخراهم , ولن يَجِدوا نَصيرًا يَنصرُهم ولا مُنقِذًا من عذابِ الله إذا حلَّ بهم.
تفسير الآيتين:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
أي: إنَّ الَّذين يَكفُرون بآياتِ الله فيُكذِّبون بها استكبارًا وعِنادًا
.
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَيَقْتلُونَ قِراءتان:
1- قراءة (وَيُقَاتِلُونَ) من القِتال، أي: يُحارِبون الذين يُخالفونهم في كُفرِهم، فالمقاتلةُ مِن اثنينِ .
2- قِراءة (وَيَقْتلُونَ) من القتْل؛ فالقتْلُ مِن جانبٍ واحد .
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
أي: ويَقتُلون أنبياءَ الله المرسَلين إليهم بغيرِ سببٍ ولا جريمةٍ منهم !
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
أي: ويَقتُلون الَّذين يَأمرون بالعَدلِ مِن النَّاس من غيرِ الأنبياء ، وهو الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَر، وقتلُهم لهم هو غايةُ الكِبْر ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ النَّاس )) .
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
أي: فأخبِرْهم أنَّ لهم عذابًا مؤلِمًا موجِعًا بالغًا في الشِّدَّةِ .
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: الَّذين ذكَرْناهم هم الَّذين بطَلَتْ أعمالُهم في الدُّنيا، فلا يَنتفعون بآثارِها الطَّيِّبةِ في الدُّنيا، ولا يَنالون بها مَحْمدةً ولا ثناءً مِن النَّاس، مع بقاء الذَّمِّ واللَّعنة عليهم، وأمَّا في الآخرةِ، فلا يَنتفعون بثوابِ أعمالِهم، مع ما أعدَّ لهم فيها من العقابِ .
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
أي: وما لهؤلاءِ القومِ مِن ناصرٍ ينصُرُهم مِن الله، ويُنقِذهم من العذابِ إذا هو انتقَم منهم

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- جمَع اللهُ لِمَن يَكفُرون بآياته ويقتُلون أنبياءَه ومَن يأمُرُ بالقِسط مِن عبادِه، ثلاثةَ أنواعٍ من الوعيد؛ الأوَّل: اجتماع أسبابِ الآلامِ والمكروهاتِ في حقِّهم؛ كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ, والثَّاني: زوال أسبابِ المنافعِ عنهم بالكلِّيَّة؛ كما في قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, والثَّالث: لُزُوم ذلك في حقِّهم على وجهٍ لا يكونُ لهم ناصرٌ ولا دافعٌ؛ كما في قوله: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
.
2- لَمَّا تقدَّم ذِكْرُ معصيتِهم بثلاثةِ أوصافٍ، ناسَب أنْ يكونَ جزاؤُهم بثلاثة؛ ليُقابَلَ كلُّ وصفٍ بمُناسِبِه، ولَمَّا كان الكفرُ بآيات الله أعظمَ، كان التَّبشيرُ بالعذابِ الأليم أعظمَ، وقابَل قتلَ الأنبياءِ بحُبوطِ العملِ في الدُّنيا والآخرة؛ ففي الدُّنيا بالقتْلِ والسَّبيِ وأَخْذِ المال والاسترقاقِ، وفي الآخِرةِ بالعقابِ الدَّائم، وقابَل قتْلَ الآمِرين بالقسط بانتفاءِ النَّاصرين عنهم إذا حلَّ بهم العذابُ، كما لم يكُنْ للآمِرين بالقِسْطِ مَن ينصُرُهم حين حَلَّ بهم قتلُ المعتدين، كذلك المُعتَدُون لا ناصرَ لهم إذا حلَّ بهم العذابُ .
3- في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ...، توبيخٌ للمعاصِرين لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمساوئِ أسلافِهم، وببقائِهم أنفسِهم على فِعلِ ما أمكَنَهم من تلك المساوئِ؛ لأنَّهم كانوا حريصين على قتْلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
4- دلَّ قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكَرِ، كان واجبًا في الأُممِ المتقدِّمةِ .
5- دلَّ قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ على أنَّ القائمَ بالأمرِ بالمعروفِ تَلي منزلتُه في العِظَمِ منزلةَ الأنبياء

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
- قوله تعالى: يَكفُرونَ يَقْتُلُونَ يَأْمُرُونَ: جِيءَ في هذه الصِّلاتِ بالأفعال المضارِعة؛ على حِكاية الحالِ الماضية؛ استفظاعًا للقتْل، واستحضارًا لتِلك الحالِ الشَّنيعة للتعجُّبِ منها، وليس المرادُ إفادةَ التجدُّد؛ لأنَّ ذلك وإنْ تأتَّى في قوله: يَكْفُرونَ، لا يَتأتَّى في قوله: وَيَقْتُلُونَ؛ لأنَّهم قتَلوا الأنبياءَ والذين يأمرون بالقِسطِ في زمنٍ مضَى، والمرادُ مِن أصحابِ هذه الصِّلات يَهودُ العصرِ النَّبويِّ؛ لأنَّهم الَّذين توعَّدهم بعذابٍ أليم، وإنَّما حَمَلَ هؤلاء تَبِعَةَ أسلافِهم؛ لأنَّهم مُعتقِدون سَدادَ ما فعَلَه أسلافُهم
.
وقيل: أُريدُ بالمضارعِ الحالُ والمستقبلُ على حَقيقتِه؛ لأنَّ اليهودَ يَرومُونَ قتْلَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ولذلك سَحروه وسمُّوه ، وفي ذلك تنبيهٌ على أنَّ عادتَهم قتْلُ أنبيائهم؛ لأنَّ هذا النبيَّ المكتوبَ عندَهم في التوراة والإنجيل- وقد أُمِروا بالإيمانِ به والنصرِ له- يَرُومونَ قتْلَه؛ فكيف مَن لم يكُن فيه تقدُّم عهدٍ من الله؟! فقتلُه عندَهم أَوْلى .
- قوله سبحانه: بِغَيْرِ حَقٍّ: فيه تنكيرُ حَقٍّ؛ لتأكيدِ العموم، أي: لم يكُن هناك حقٌّ لا هذا الذي يَعرِفه المسلمون ولا غيرُه ألبتةَ، ولا صغيرٌ ولا كبيرٌ في نفْس الأمر، ولا في اعتقادِهم، وعبَّر قبْلَه في البقرة بقوله: بِغَيْرِ الحَقِّ، وهو مِن التفنُّن في البلاغة، حيث ابتدأ بالأخفِّ فالأخفِّ .
- وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ وصفٌ كاشفٌ مُبيِّن للواقِع وليس وصفًا مُقيدًا؛ فلا يُرادُ به إخراجُ ما خالَف هذه الصِّفة، وإنَّما يُرادُ بها بيانُ الواقِع؛ إذ لا يكونُ قتلُ النَّبيِّين إلَّا بغير حقٍّ، فهذا القتلُ كان عدوانًا وظلمًا، فقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ ليس له مفهومٌ؛ لظهورِ عدمِ إرادة التَّقييدِ والاحتراز، والمقصودُ من هذه الحال زيادةُ تشويهِ فِعلهم، وتشنيعُ هذه الحالة الَّتي لا شُبهةَ لصاحبِها، بل صاحبُها أعظمُ النَّاس جُرمًا، وأشدُّهم إساءةً .
- وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ قتْلَهم للأنبياء كان بغيرِ حقٍّ في اعتقادِهم أيضًا؛ فهو أبلغُ في التَّشنيعِ عليه .
- وفيه مناسبةٌ لسِياق الآية، حيث جاء هنا بِغَيْرِ حَقٍّ مُنكَّرًا، وفي البقرة بِغَيْرِ الحَقِّ [البقرة: 61] مُعرَّفًا؛ لأنَّ الجملةَ هنا أُخرجتْ مخرجَ الشرط، وهو عامٌّ لا يَتخصَّص؛ فلذلك ناسَب أن تُنكَّر في سياقِ النَّفي ليعمَّ، وأمَّا في البقرةِ فجاءتِ الآيةُ في ناسٍ معهودِين مُشخصِين بأعيانهم، وكان الحقُّ الذي يُقتلُ به الإنسان معروفًا عندهم، فلم يُقصَدْ هذا العمومُ الذي هنا، فجِيء في كلِّ مكانٍ بما يُناسِبُه .
- قوله تعالى: مِنَ النَّاسِ: أي: كلِّهم، سواء كانوا أنبياءَ أو لا، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بهذا القيدِ زيادةَ توبيخِهم بأنَّهم يَقتلون جِنسَهم، الذي مِن حقِّهم أنْ يألفوه ويَسعَوا في بقائِه، وهذا تحقيقٌ؛ لأنَّ قتْلَهم لمجرَّد العدوان .
- وفيه: تأكيد؛ فإنَّ (مِن) إمَّا بيان، وإمَّا للتبعيض، وكِلاهما معلومٌ أنَّهم من الناس، فهو جارٍ مجرَى التأكيدِ .
- قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ: لَمَّا كان ذلك مُومِئًا إلى وجهِ بناء الخبر: وهو أنَّهم إنَّما قتَلوهم؛ لأنَّهم يَأمُرون بالقسطِ، أي: بالحقِّ، فقدِ اكتُفي بها في الدَّلالةِ على الشَّناعة، فلم تحتجْ إلى زيادةِ التشنيع .
- وإنَّما كُرِّر الفعل وَيَقْتُلُونَ؛ لاختلافِ مُتعلِّقه، أو كُرِّر تأكيدًا، وقيل: المرادُ بأحد القتلينِ تفويتُ الرُّوح، وبالآخَرِ الإهانةُ؛ فلذلك ذُكِر كلُّ واحدٍ على حِدَته، ولولا ذلك لكان التركيبُ (ويقتلون النبيِّين والذين يأمرون) ، أو لعلَّ تكريرَ الفعل؛ للإشعارِ بما بين القتلينِ من التفاوت، أو باختلافِها في الوقت .
- قوله تعالى: فبَشِّرْهُمْ: زاد الفاء في خَبَر (إنَّ) إيذانًا بأنَّ الموصولَ (الذين)- الذي هو اسمُها- ضُمِّنَ معْنَى الشَّرْط أو الجزاءِ، كأنَّه قيل: الَّذين يَكفُرون فبَشِّرْهم، بمعنى: مَنْ يَكفُرْ فبَشِّرْهم؛ إشارةً إلى أنَّ المقصودِين ليسوا قومًا معيَّنين، بلْ كلُّ مَن يتَّصف بالصِّلة، فجزاؤه أنْ يَعلمَ أنَّ له عذابًا أليمًا، ودخولُ الفاءِ على جوابِ الشَّرط زاد المعنى تأكيدًا .
2- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ:
- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ: جِيءَ باسمِ الإشارة أُولَئِكَ؛ لأنَّهم تميَّزوا بهذه الأفعالِ التي دلَّت عليها صِلاتُ الموصولِ أكملَ تمييزٍ، وللتنبيهِ على أنَّهم أحقَّاءُ بما سيُخبر به عنهم بعدَ اسمِ الإشارة .
- وفي التعبيرِ باسمِ الإشارةِ أُولِئَكَ أيضًا دلالةٌ على بُعدِ المشارِ إليهم في الضَّلال والفسادِ .
- والإخبارُ بالموصول الَّذِينَ أبلغُ من الخبَر بالفِعل؛ لأنَّ فيه نوعَ انحصارٍ .
- في قوله: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ جِيء بـ: (مِن) الدَّالَّة على تنصيصِ العموم؛ لئلَّا يترُكَ لهم مدخَلًا إلى التَّأويل، يعني: ما لهم أحدٌ يَنصُرُهم، لا على سبيل الاجتماعِ، ولا على سبيل الانفراد؛ لأنَّ (مِن) الزائدة إذا دخَلَت على النَّكرةِ تجعَلُ النَّفيَ نصًّا في العموم؛ كـ (لا) النَّافيةِ للجنس . ومجيء الجمعِ نَاصِرِينَ هنا أحسنُ من مجيء الإفراد؛ لأنَّه رأسُ آية، ولأنَّه بإزاء مَن للمؤمنين مِن الشُّفعاءِ، الَّذين هم الملائكةُ والأنبياء وصالِحُو المؤمنين، أي: ليس لهم كأمثالِ هؤلاء، والمعنى: بانتفاءِ النَّاصرين انتفاءُ ما يَترتَّبُ على النَّصر من المنافع والفوائد، وإذا انتفتْ مِن جمْعٍ، فانتفاؤُها من واحدٍ أَوْلى، وإذا كان جمعٌ لا يَنصُرُ، فأَحْرَى ألَّا يَنصُرَ واحدٌ .


==============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (23- 25)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
المَعنَى الإجماليُّ :

يُخبِر اللهُ تبارَك وتعالَى عمَّن آتاهم نَصيبًا من الكتاب, وحظًّا من العِلم، وهم اليهود، بأنَّهم حين يُدْعَون إلى التَّحاكُم إلى ذلك الكتاب، الَّذي يُصدِّقون به، ويُؤمنون بحُكمه, وتَطمئنُّ قلوبُهم لِما فيه- يتولَّى فريق منهم, ويُعرِض عن كتابِ الله, ويُدبِر عمَّا فيه, والسَّببُ وراء ذلك الإعراضِ والتَّولِّي والتَّجرُّؤِ على مَعصيةِ الله هو أنَّهم قالوا: لن نُعذَّب في النَّارِ إلَّا أيَّامًا معدودة, وأوقاتًا محدودة, ثمَّ يُخرجنا اللهُ تبارَك وتعالَى منها, فكان هذا الافتراءُ والكذبُ المحضُ الَّذي جاؤوا به من عندِ أنفسهم هو الَّذي غرَّهم في دِينِهم, وأعْمَى قلوبَهم, وأضلَّهم عن سواء الصِّراطِ.
ثمَّ هدَّدهم اللهُ تبارَك وتعالَى وتَوعَّدهم بيومِ الجمْع؛ إذ كيف يكونُ حالُهم يوم يجمعُ الله الأوَّلين والآخرين, ويُوفيِّهم جزاءَهم على ما صنَعوا واقترفوا, في ذلك اليوم الَّذي تُوفَّى فيه كلُّ نفسٍ ما عمِلت من خير أو شرٍّ, وتُجزَى على جميعِ أفعالها وأقوالها دون نقصٍ ولا زيادة, ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا؟!
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نبَّه اللهُ تعالى على عِنادِ القومِ بقوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] ، بَيَّن في هذه الآيةِ غايةَ عنادِهم، وهو أنَّهم يُدْعَون إلى الكتابِ الَّذي يزعُمونَ أنَّهم يؤمنون به، وهو التَّوراةُ، ثمَّ إنَّهم يتمرَّدون، ويتولَّوْن، وذلك يدُلُّ على غايةِ عنادهم
.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
أي: ألم ترَ- يا محمَّدُ- إلى اليهودِ الَّذين أُعطُوا حظًّا من العِلم بالتَّوراة .
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
أي: يُدْعَون إلى التَّوراةِ لتحكُمَ بينهم ؛ فهم يُقرُّون ويُصدِّقون بها .
ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ
أي: يَستدبرُ فريقٌ منهم عن كتابِ الله مُعرِضًا عنه مُنصرِفًا .
عن عبدِ اللهِ بن عمرُ رضِي اللهُ عنهما أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَروا له أنَّ رجلًا منهم وامرأةً زَنَيَا، فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما تجِدون في التَّوراةِ في شأنِ الرَّجْمِ؟، فقالوا: نفضَحُهم ويُجْلَدُون، فقال عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: كذَبْتُم، إنَّ فيها الرَّجْمَ، فأتَوْا بالتَّوراةِ فنشَروها، فوضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرَّجْمِ، فقَرأَ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: ارفعْ يدَك، فرَفَعَ يدَه، فإذا فيها آيةُ الرَّجْمِ، فقالوا: صدَقَ يا محمدُ؛ فيها آيةُ الرَّجْمِ، فأمَرَ بهما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرُجِمَا )) .
وذكَر الله تعالى سبب إعراضِهم فقال:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
أي: ذلك التَّولِّي والإعراضُ بسبب قولِهم: لن نُعذَّبَ في النَّار إلَّا أيَّامًا قلائلَ، ثمَّ يُخرِجنا منها ربُّنا .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لليهود: مَن أهلُ النَّارِ؟ فقالوا: نكونُ فيها يسيرًا، ثمَّ تَخْلُفُوننا فيها، فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((اخسَؤوا فيها، واللهِ لا نَخْلُفُكم فيها أبدًا )) .
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
أي: ثَبَّتَهم على دِينِهم الباطل ما خدَعوا به أنفسَهم مِن زعمِهم أنَّ النَّارَ لن تمسَّهم إلَّا أيَّامًا معدوداتٍ، وادِّعائِهم أنَّهم أبناءُ الله وأحبَّاؤُه، إلى غيرِ ذلك، وهم الَّذين افتَرَوْا هذا مِن تلقاءِ أنفسِهم واختَلَقوه .
ثمَّ قال الله تعالى مُتهدِّدًا لهم ومتوعِّدًا:
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
أي: فكيفَ يكونُ حالُهم مع ما صنَعوا إذا جمَعَهم اللهُ للفصلِ بينهم، ولحسابِهم في يومٍ لا شكَّ في مجيئِه ووقوعِه، وهو يومُ القيامة؟! وما أعظَمَ ما يلقَوْنَ من عقوبةٍ !
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
أي: وأَعْطَى اللهُ كلَّ نفسٍ جزاءَ ما عمِلَتْ من الخيرِ أو الشَّرِّ كاملًا وافيًا .
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
أي: لا يُنقَصُ أحدٌ من حَسناتِه، ولا يُزاد في سيِّئاتِه، أو يُعاقَبُ بغير جُرمِه .
كما قال تعالى: ولاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف: 49] ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه: 112] .
وفي الحديثِ القُدسيِّ الذي راوه أبو ذرٍّ الغفاريُّ رضِي اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيما روَى عن اللهِ تبارَك وتعالَى أنَّهُ قال: ((يا عِبادي، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسِي ...))

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ قد يُعطى عِلمًا، إلَّا أنَّه لا يوفَّق للعمل به
.
2- في قوله: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ تحذيرٌ مِن التَّولِّي والإعراضِ عند الدَّعوةِ إلى التَّحاكُمِ إلى كتاب الله, بل الواجبُ على كلِّ أحدٍ إذا دُعِيَ إلى ذلك أنْ يسمَعَ ويُطيعَ وينقادَ، فلا يمكن أنْ يحتويَ قلبُ امرئٍ على الخوف من الآخرةِ والحياءِ من الله، ثمَّ يُعرِض عن الاحتكامِ إلى كتابِ الله، وتحكيمِه في كلِّ شأنٍ من شؤون الحياةِ .
3- يُؤخَذُ من قوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ بُطلانُ الأمانيِّ، وأنَّ النَّفْس قد تُمنِّي الإنسانَ ما لا يكون؛ لذا يجبُ على الإنسان الحَذرُ من الاتِّكالِ على الأمانيِّ؛ فإنَّ هذا الخُلُقَ سِمةٌ من سِمات اليهود والنَّصارى .
4- في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران: 24] ، دلالةٌ على أنَّ اعتقادَ النَّجاةِ مِن عذابِ الله تعالى على كلِّ حال يحملُ المرءَ على الجُرأة على الإعراض عن الحقِّ، كما أنَّ هذا الاعتقادَ مُؤذِنٌ بسَفالة الهمَّة الدِّينيَّة، فلا تحصُلُ المنافسةُ في تزكية النَّفْس .
5- في قوله تعالى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ بيانُ أنَّ الاغترار بالعمل قصورٌ في النَّظر؛ لأنَّه ليس الشَّأنُ هو القيامَ بالعمل، بل الشَّأنُ كلُّ الشَّأن أنْ يُقبَلَ منه العمل, فكم مِن عاملٍ ليس له مِن عملِه إلَّا التَّعبُ؛ لوجود مُبطِلٍ سابقٍ أو لاحقٍ .
6- من قوله تعالى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ يتَّضح أنَّ المخالفةَ إذا لم تكُن عن غرورٍ، فالإقلاعُ عنها مَرجوٌّ، أمَّا المغرورُ فلا يُترقَّبُ منه إقلاع

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بيانُ أنَّ الحُكم في كتاب الله يَشمَلُ كلَّ شيءٍ مِن عباداتٍ ومعاملات وأخلاق؛ لأنَّه لم يخصَّص منها شيءٌ, وفي هذا ردٌّ على مَن يزعم أنَّ الشَّرعَ إنَّما جاء في تنظيمِ العبادات فقط، أمَّا المعاملاتُ فهي إلى الخَلْق
.
2- عبَّر بالقولِ عن مُعتقَدِهم فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ولم يقُل: (اعتقدوا)؛ قيل للدَّلالة على أنَّ هذا الاعتقادَ لا دليلَ عليه، وأنَّه قولٌ مفترًى مدلَّسٌ، وهذا المعتقدُ هو عقيدةُ اليهود .
3- في قوله: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ دليلٌ على أنَّهم يؤمنون بالبعث، إلَّا أنَّه لا فائدةَ في الإيمانِ المجرَّد بوجودِ الله أو اليومِ الآخِر ما لم يَتْبَعْه قَبولٌ وإذعان؛ فمجرَّدُ التَّصديقِ لا يُعدُّ إيمانًا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ:
- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ: الاستفهامُ للتقرير لِمَا سبقَ من أنَّ اختلافَهم في الإسلام؛ ليكونَ التقريرُ على نفْيِه محرِّضًا للمخاطَب على الاعترافِ به بناءً على أنَّه لا يَرضَى أنْ يكون ممَّن يَجهلُه
.
- وفيه إظهارُ ما حقُّه الإضمار - حيث قال: إِلَى الَّذِينَ، وكان الموضِعُ أن يُقال: (إليهم)-؛ للدَّلالةِ على أنَّ ضلالهم على عِلمٍ، وأنَّ الذي أُوتوه منه قراءتُهم له بألْسنتِهم، وادِّعاءُ الإيمانِ به .
- وفي قوله: الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ: عرَّف المتحدَّثَ عنهم بطريق الموصوليَّةِ الَّذِينَ دون لقَبِهم (اليهود)؛ لأنَّ في الصِّلةِ ما يَزيد التَّعجُّبَ من حالهم؛ لأنَّ كونَهم على عِلمٍ من الكتاب قليلٍ أو كثيرٍ مِن شأنِه أنْ يَصُدَّهم عمَّا أخْبر به عنهم، على ما في هذه الصِّلة أيضًا من توهينِ عِلمِهم المزعومِ .
- وتنكيرُ نَصِيبًا للتَّعظيم، وقيل: بل لبيان النوعيَّة، وليس للتعظيمِ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ تهاونٍ بهم، وقد يكونُ التنوينُ للتَّقليل .
2- قوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ:
- قوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ: فيه إظهارُ الاسم الشَّريف (الله)، وإضافةُ الكتابِ إليه، ولم يقُل: (كتابهم)؛ احترازًا عمَّا غيَّروا وبدَّلوا؛ ولأنَّهم إنَّما دُعوا إلى كتاب اللهِ الذي أنزل على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، لا إلى ما عساه أنْ يكونَ بأيديهم ممَّا غيروا. وفيه أيضًا إشارةٌ إلى عظيمِ اجترائهم بتولِّيهم عمَّن له الإحاطةُ الكاملة .
- قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ: فيه إشعارٌ بأنَّ طائفةً منهم على حقٍّ منه، أي: وهم المُذعِنون لذلك الحُكمِ الذي دُعي إليه .
- في قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ: العطف بـ(ثمَّ)- التي تجعلُ الجملةَ المعطوفةَ في حُكمِ المفرد- فيه دلالةٌ على أنَّ تولِّيهم مستمرٌّ في أزمان كثيرة تبعُد عن زمان الدعوة. ودخول (ثم) هنا للدَّلالة على التراخِي الرُّتبي لا التراخي الزَّمني؛ لأنَّهم قد يتوَّلون إثرَ الدعوة، ولكن أُريد التعجُّب من حالهم؛ كيف يتولَّون بعد أنْ أُوتوا الكتاب ونَقَلوه؟! فإذا دُعوا إلى كِتابهم تولَّوْا! والإتيان بالمضارِع في قوله: يَتَوَلَّى؛ للدَّلالة على التجدُّد .
- وجملة: وَهُمْ مُعْرِضُونَ حال مؤكِّدة لجملة: يَتَولَّى فَرِيقٌ؛ إذ التولِّي هو الإعراض، ولَمَّا كانتْ حالًا لم تكُن فيها دلالةٌ على الدوام والثبات، فكانتْ دالَّةً على تجدُّد الإعراض منهم المفادِ أيضًا من المضارع في قوله: ثمَّ يَتَولَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ .
3- قوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ: جِيء فيه بجمْع القِلَّة (أيَّام) لمناسبته للمقام، من حيثُ تَناهِي اجترائِهم على العظائم؛ لاستهانتِهم بالعذابِ لاستقصارِهم لمدَّته، وأُكِّدتْ إرادتُهم لحقيقة القِلَّة بجمْع آخَر للقِلَّة مَعْدُودَات .
- وخصَّ الجمع بهذا الموضع مَعْدُودَاتٍ؛ لأنَّه مكانُ تشنيعٍ عليهم بما فعَلوا وقالوا، فأَتَى بلفظ الجمْع؛ مبالغةً في زَجْرهم، وزجْرِ مَن يعملُ بَعمَلِهم .
4- في قوله تعالى: فكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ: استفهامٌ غرضُه التهويلُ، والاستعظامُ والاستفظاعُ لِمَا أَعدَّ الله لهم في يومٍ عصيبٍ تتقلَّب فيه القلوبُ والأبصار .
- وهو تفريعٌ عن قوله: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ، أي: إذا كان ذلك غرورًا؛ فكيف حالُهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ؟!
- وفيه إيجازٌ بالحذفِ، والتقديرُ: فكيف صُورتُهم وحالهم إذا جمعناهم؟! وهذا الحذفُ يوجبُ مَزيدَ البلاغة؛ لِمَا فيه من تحريكِ النَّفسِ على استحضارِ كلِّ نوعٍ مِن أنواعِ العذابِ .
- وقال تعالى: لِيَوْمٍ ولم يقل: (في يوم)؛ لأنَّ المرادَ: لِجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحُذف المضافُ ودَلَّت اللامُ عليه .
5- قوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ: عبَّر بصيغة الماضي وُفِّيَتْ؛ ليفيدَ أنَّ الجزاء أمرٌ متحقِّق لا بدَّ منه، والبناء للمَفعول للإفهامِ بسهولةِ ذلك عليه، وإنْ كان يفوت الحصْر .

================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (26-27)
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
غريبُ الكَلِماتِ:

تُولِجُ: تُدخِل هذا في هذا، إمَّا بالتَّعقيبِ، أو الزِّيادة والنَّقص؛ فما زاد في واحدٍ نقَصَ من الآخَرِ مِثلُه

.
مشكل الإعراب:

قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ:
مَالِكَ: منصوبٌ على أنَّه مُنادى مُضاف، وحُذفتْ أداة النِّداء، والتقديرُ: يا مالكَ الملكِ. وقيل: هو بدَلٌ من (اللهمَّ)، أو عطفُ بيان. وقيل: نعتٌ له

.
المَعنَى الإجماليُّ :

أمَر اللهُ سُبحانَه وتَعالَى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَدْعوَه معظِّمًا له, مُوكِلًا الأمرَ إليه، فيقول: يا أللهُ، يا مَن لكَ جميعُ المُلك، وجميعُ الأمْر في الدُّنيا والآخِرة، تُصرِّف جميعَ الممالك وتُدبِّرُها, فتُعطي المُلْك من تشاءُ من عِبادك, وتَنزِعه ممَّن تشاء, وتُعِزُّ مَن تشاءُ منهم, وتُذِلُّ مَن تشاء؛ فأنت الخيرُ كلُّه بيديك، لا يُشارِكك فيه أحدٌ, وأنت قادرٌ على كلِّ شيءٍ، فلا شيءَ يمتنع عليك, ولا يحُول بينك وبين ما تُريد حائلٌ، تُدخِل اللَّيل في النَّهار، وتُدخِل النَّهار في اللَّيل, وتُخرِج المخلوقَ الحيَّ من المخلوقِ الميِّتِ, والمخلوقَ الميِّتَ من المخلوقِ الحيِّ, وتهَبُ مَن تشاء ما تشاء مِن الرِّزقِ الواسعِ الكثيرِ بلا حِسابٍ.
تفسير الآيتين:

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخْبَر تعالى أنَّ الكفَّارَ سيُغلَبون، وأنَّه ليس لهم من ناصرين، كان حالُهم مقتضيًا لأنْ يقولوا: كيف نُغلَبُ مع قوَّتنا وكثرتِنا وقلَّة أعدائِنا وضَعْفِهم؟ فقال الله تعالى
:
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ-: يا أللهُ ، يا مَن لك الملكُ كلُّه؛ مُلكُ الدُّنيا والآخِرة، فتملِك جميعَ الممالكِ وتُصرِّفها وتُدبِّرها .
ثمَّ فصَّل في بعضِ وجوه تصاريفِه وتدابيرِه في مُلكِه فقال:
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
أي: تُعطي المُلكَ مَن تشاءُ أنْ تُعطيَه .
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
أي: وتَنزِعُ الملكَ ممَّن تشاءُ أنْ تنزعَه منه؛ فتُزيلُ عنه وصْفَ المُلكِ .
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
أي: وتُعزُّ مَن تشاء أنْ تُعزَّه بطاعتِك، أو بإعطائِه المُلكَ، وبَسْطِ القدرةِ له، أو نَصْرِه، وغير ذلك .
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
أي: وتذلُّ مَن تشاءُ أنْ تذلَّه بمعصيتِك، أو بسَلْبِ مُلكِه، وتسليطِ أعدائِه عليه، أو هزيمتِه، وغير ذلك .
بِيَدِكَ الْخَيْرُ
أي: الخيرُ كلُّه بيديك، ليس لأحدٍ معك منه شيءٌ .
وفي حديثِ عليِّ بن أبي طالبٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُثْني على ربِّه في دُعاءِ الاستفتاحِ فيقول: ((لبَّيْكَ وسَعْدَيْك، والخيرُ في يَديك، والشَّرُّ ليس إليك )) .
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أي: إنَّ الله قديرٌ على كلِّ شيءٍ، على ما شاءَه وما لم يَشَأْه؛ فلا يمتنعُ عليه أمرٌ من الأمور .
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
أي: تُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهار، وتُدخِل النَّهارَ في اللَّيل، فتجعلُ ما نَقَصْتَ من ساعاتِ اللَّيل زيادةً في ساعاتِ النَّهار، وما نَقصْتَ من ساعاتِ النَّهار زيادةً في ساعات اللَّيل .
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
أي: وتُخرجُ الإنسانَ الحيَّ والأنعامَ والبهائمَ الأحياءَ من النُّطَف الميتةِ، وتُخرج الزَّرعَ من الحَبَّةِ، والنَّخلةَ من النَّواة, والدَّجاجةَ مِن البيضةِ, والمؤمنَ من الكافِر، إلى غيرِ ذلك .
وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
أي: وتُخرجُ النُّطفةَ الميِّتة من الإنسانِ الحيِّ والأنعامِ والبهائمِ الأحياءِ، وتُخرجُ الحَبَّةَ من الزَّرع، والنَّواةَ من النَّخلةِ، والبيضةَ من الدَّجاجةِ، والكافرَ من المؤمِن، إلى غير ذلك .
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
أي: وتُعطي مَن تشاءُ من الخَلْقِ الرِّزقَ الواسعَ دون تَقتيرٍ أو تضييقٍ أو مُحاسَبةٍ

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ... الآية: تَعليمٌ من الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يفوِّضَ الأمرَ إليه، والخِطاب الموجَّهُ له موجَّهٌ لأمَّته، إمَّا عن طريق التَّأسِّي، وإمَّا لأنَّ الخِطاب للإمام خِطابٌ له ولِمَن اتَّبَعه، ما لم يدلَّ الدَّليلُ على أنَّه خاصٌّ به
.
2- في قوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ تقديمُ الإيتاءِ على النَّزع إشارةً إلى أنَّ الداعي يَنبغي أن يبدأَ بالترغيبِ، ووَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ فيه إشارةٌ إلى إنَّ الدعاء باللِّين إنْ لم يُجدِ ثُنِّي بالترهيب .
3- من قوله تعالى: وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ يُؤخَذ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى تامُّ الملك والسُّلطان؛ لكونه يُذِلُّ مَن يشاء، ولو بلَغ ما بلغ من العِزَّة البشريَّة؛ فإنَّ يدَ الله فوقَه مهما بلَغ الإنسانُ مِن العزِّ؛ فالله قادرٌ على إذلاله .
4- أنَّ الله سبحانه وتعالى بيده الخيرُ, فإذا كان كذلك فإنَّه لا يُطلَب الخيرُ إلَّا منه؛ لأنَّه لا أحدَ بيده الخيرُ إلَّا هو؛ كما في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ .
5- في قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ بيانُ ضَعْفِ الإنسان وحاجتِه؛ فإيلاجُ اللَّيل في النَّهار والعكس، وما يَنتجُ عنه من تقلُّبٍ في الفصول يُعرِّفُ الإنسانَ بمدَى ضَعْفِه وافتقارِه إلى ربِّه, فإنْ جاءَ البردُ احتاج إليه، وإنْ جاء الحرُّ احتاج إليه .
6- في قوله: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ أنَّ الرِّزقَ بيد الله؛ وعليه فإنَّه يَنبغي للعاقل فضلًا عن المؤمن، ألَّا يَطلُبَ الرِّزق مِن أيدي النَّاس، وإنَّما يَطلُبه من الله عزَّ وجلَّ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ تعريضٌ بأهلِ الكتاب، بأنَّ إعراضَهم إنَّما هو حسَدٌ على زوالِ النُّبوَّة وانقراضِ المُلكِ منهم، مع الإيماءِ إلى أنَّ الشَّريعةَ الإسلاميَّة مُقارِنةٌ للسُّلطان والمُلك
.
2- في قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مقامِ بَيانِ عِنادِ المنكِرين، ومكابَرة الجاحدين، وتذكيرِه بقُدرتِه تعالى على نَصرِه وإعلاءِ كَلمةِ دِينه .
3- في قوله تبارَك وتعالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، إشارةٌ إلى أنَّه لا تلازُمَ بين العزِّ والمُلك؛ فقد يكون الملِكُ ذليلًا إذا ضَعُف استقلالُه بسوءِ السِّياسةِ وفسادِ التدبير، حتَّى صارتِ الدُّولُ الأخرى تَفْتاتُ عليه .
4- في قوله تبارَك وتعالَى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ أنَّ الثناءَ ممَّا يُتوسَّل به إلى الله، وهو في الآية يتضمَّنُ ما تدلُّ عليه هذه الجملةُ, فإذا أثنيتَ على الله بأنَّه يُعِزُّ مَن يشاء، فأنت تسألُه العزَّة .
5- في قوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تنزيهُ اللهِ عن نِسبة الشَّرِّ إليه، بل كلُّ ما نُسِب إليه فهو خيرٌ، والشَّرُّ إنَّما صار شرًّا؛ لانقطاع نسبتِه وإضافتِه إليه، فلو أُضيف إليه لم يكن شرًّا، وهو سبحانه خالقُ الخيرِ والشَّرِّ؛ فالشَّرُّ في بعض مخلوقاتِه لا في خَلقِه وفِعلِه؛ فخَلْقُه وفعلُه وقضاؤُه وقدَرُه خيرٌ كلُّه

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
- تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ: عبَّر بالإيتاءِ؛ للدَّلالةِ على أنَّه نِيلَ من الله تعالى من غير قوَّةٍ وغلبةٍ ولا مطاولةٍ فيه، ولإفهامِ مجرَّد الإعطاءِ على (التمليك) المؤذِن بثُبوتِ المالكيَّةِ حقيقةً؛ فإنَّ المُلك حقيقةً هو لله وحْدَه
.
- قوله: بِيَدِكَ الخَيْرُ: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ لإفادةِ الحَصر، كأنَّه قال: بيَدِك الخيرُ لا بيدِ غيرِك .
- وتعريفُ (الخير)؛ للتعميمِ .
- قوله تعالى: مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ: فيه تكرار (الـمُلك) في جُمَل عديدة؛ للتَّفخيم والتَّعظيم- إنْ كان المرادُ واحدًا- وإنِ اختَلف المرادُ، كان مِن تَكرار اللَّفْظ ، وفيه تكرارُ مَنْ تَشَاءُ أيضًا؛ للتأكيدِ .
- قوله تعالى: إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: هذا كالتأكيدِ لِمَا تقدَّم من كونِه مالكًا لإيتاءِ المُلك ونَزْعِه، والإعزازِ والإذلال ، مع ما فيه مِن التأكيد بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة، وتقديم الجارِّ والمجرور عَلَى كُلِّ .
2- قوله تعالى: وَتُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وقوله: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ: فيهما وفي متعلِّقيهما (الليل والنهار- والحي والميِّت) تَكرارٌ أيضًا، وردُّ الأعجازِ على الصُّدور، والصُّدورِ على الأعجازِ، مِثل قولهم: (عاداتُ السَّاداتِ ساداتُ العاداتِ)، وهو مِن مَحاسِن البديعِ .

=================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآية: (28)
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
المَعنَى الإجماليُّ :

يَنهى اللهُ تبارَك وتعالَى المؤمنين عن اتِّخاذ أهلِ الكُفر أولياءَ يحبُّونهم ويَنصرونهم, ويَتركون موالاةَ أهلِ الإيمان, وتوعَّد الله تبارَك وتعالَى مَن يفعل ذلك أنَّه ليس مِن الله في شيءٍ، وأنَّه بريءٌ منه, ثمَّ استَثْنَى اللهُ تبارَك وتعالَى من ذلك مُداراةَ الكفَّار مداراةً ظاهرةً, وإظهارَ موالاتهم باللِّسانِ مع إضمارِ البُغض والكُره, في حالة الخوفِ من شُرورِهم, ثمَّ حذَّر الله المؤمنين من نفسِه، وأنذَرهم من التعرُّض لِما يُسخِطه من ارتكابِ الموبقات, والاجتراءِ على الذُّنوب والسَّيِّئات, والإقدامِ على موالاة أعدائِه, وبيَّن لهم أنَّه إليه مَرجعُ العِباد بعد موتِهم, فيُحاسبهم على أعمالهم.
تفسير الآية:

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه مالكُ المُلك، وأنَّ بيده مجامعَ الخير، والسُّلطانَ المطلقَ في تصريف الكون، يُعطي مَن يشاء، ويَمنعُ مَن يشاء، ويُعزُّ مَن يشاء، ويُذلُّ مَن يشاء، فإذا كانت العزَّةُ والقوَّة له- عزَّ شأنُه- فمِن الجهلِ والغرورِ الاعتزازُ بأحدٍ من دونه، أو اللُّجوءُ إلى غيرِ بابِه، أو موالاةُ أعدائه
.
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أي: لا تتَّخِذوا- أيُّها المؤمنون- الكفَّارَ أنصارًا وأعوانًا، تحبُّونهم وتظاهرونهم وتوالونهم متجاوزين المؤمنين إليهم .
كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.
وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 144] .
ثمَّ توعَّد اللهُ تعالى مَن يفعل ذلك فقال:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
أي: ومَن يفعلْ ذلك المذكورَ فيتَّخِذهم أولياءَ من دون المؤمنين، فقد بَرِئ مِن اللهِ، وبرِئَ اللهُ منه .
ثمَّ استثْنَى اللهُ تعالى، فقال:
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
أي: إلَّا أنْ تَخافوا على أنفسِكم مِن شرِّهم، فلَكُم أنْ تتَّقوهم بمداراتِهم، وإظهارِ الوَلايةِ لهم بألْسنتِكم، مع إضمارِ العَداوةِ والبُغضِ لهم، وعدمِ مُشايعتِهم على كُفرِهم، أو إعانتِهم على المسلمين .
ثمَّ هدَّد وتوعَّد مَن فعَل ما نَهى عنه فقال:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
أي: ويُخوِّفُكم اللهُ من نفسِه؛ فلا تَتعرَّضوا لسَخطِه وعذابِه بركوبِ مَعاصيه، أو موالاةِ أعدائِه .
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
أي: إليه المرجعُ بعدَ الموت، فيُجازي كلَّ عاملٍ بعمله؛ فإيَّاكم أنْ تفعلوا مِن الأعمالِ ما تَستحقُّون به العقوبةَ، واعمَلوا ما به يَحصُل الأجرُ والمثوبة

.
الفوائد التربوية :

المداراةُ فيما لا يَهدِم حقًّا ولا يَبني باطلًا كِياسةٌ مُستحبَّة، يَقتضيها أدبُ المجالسة ما لم تَنتهِ إلى حدِّ النِّفاق؛ وذلك لقولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ... علَّق اللهُ حُكم (الموالاة) بالمؤمنين؛ لأنَّ مُقتضى الإيمانِ الحقيقيِّ أنَّ يتَّخذَ الإنسانُ الكافرين أعداءً، ولأنَّ اتِّخاذهم أولياءَ يُنافي أصلَ الإيمان أو كمالَه
.
2- في قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ... دلالةٌ على أنَّه لا َيجوزُ أنْ يولَّى كافرٌ ولايةً من ولاياتِ المسلمين، ولا يُستعانُ به على الأمورِ الَّتي هي مَصالحُ لعمومِ المسلمين .
3- قوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لا مفهومَ له؛ إمَّا لأنَّه ذُكِرَ لموافقتِه للواقعِ؛ لورودِه في قومٍ بأعيانهم والَوُا الكافرينَ دونَ المؤمنين، وليسَ المرادُ إخراجَ المفهومِ عن حُكم المنطوقِ؛ فمِن مَوانعِ اعتبارِ مفهومِ المخالفةِ كونُ المنطوقِ نازلًا على حادثةٍ واقعة. ومعلومٌ أنَّ اتِّخاذَ المؤمنين الكافرين أولياءَ، ممنوعٌ على كلِّ حالٍ. وفيه أيضًا إشارةٌ إلى أنَّ الحقيقَ بالموالاةِ هم المؤمنون، وفي موالاتهم مندوحةٌ عن موالاة الكفَّار .
4- في قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ذكَر اللهُ في تَحذيره النَّفْس؛ قيل: ليُعلمَ أنَّ الوعيدَ صادرٌ منه، وهو القادرُ على إنفاذِه؛ إذ لا يُعجِزُه شيء . وقيل: جَعَل التَّحذيرَ هنا من نَفْسِ الله- أي ذاتِه- ليكونَ أعمَّ في الأحوال؛ لأنَّه لو قيل: يُحذِّرُكم اللهُ غَضبَه، لتُوهِّم أنَّ للهِ رِضًا لا يَضرُّ معه تعمُّدُ مخالفةِ أوامرِه، والعرب إذا أرادتْ تعميمَ أحوالِ الذَّات علَّقت الحُكم بالذَّات. ونظيرُ ذلك قوله تعالى: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ- إلى قوله- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 25] .
5- في قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، تحذيرُ الله من نفْسِه تهديدٌ عظيم يُشعِر بتناهي المنهيِّ عنه من الموالاةِ في القُبح .
6- في قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إثباتُ النَّفْسِ لله تعالى، ونَفْسُه هي ذاتُه عَزَّ وجَلَّ

.
بلاغة الآية:

1- قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ: فيه تكرارُ لفظ الْمُؤْمِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ وإظهارُه في موطنِ الإضمار- حيث قال: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقُل: (من دونهم)-؛ للتأكيدِ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم الأحقَّاءُ بالموالاة، وأنَّ في موالاتهم مَندوحةً عن موالاةِ الكفرة
.
- قوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ: (مِن) لتأكيد الظرفيَّة، والمعنى: مُباعِدين المؤمنين، أي: في الوَلاية، وهو تَقييدٌ للنهيِ بحسَب الظاهرِ، فيكون المنهيُّ عنه اتخاذَ الكافرين أولياءَ دون المؤمنين .
2- قوله: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: تنكيرُ شَيْءٍ وتنوينُه؛ للتحقيرِ، أي: ليس في شيءٍ يَصحُّ أن يُطلق عليه اسمُ الولاية أو الدِّين؛ لأنَّ موالاة المتضادِّين ممَّا لا يكادُ يقعُ .
3- قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ: التعبيرُ عن صَنيعهم بـ(يفعل)؛ للاختصارِ، أو لإيهامِ الاستهجانِ بذِكره .
4- قوله سبحانه: إلَّا أَنْ تَتَّقُوا: فيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى الخِطاب، ولو جرَى على سَنن الكلامِ لقال: (إلَّا أنْ يتقوا)، وفي الالتفاتِ هنا سِرٌّ بديع؛ ذلك أنَّ موالاةَ الكفَّار لَمَّا كانتْ مُستقبحةً، لم يواجهِ اللهُ عبادَه بخِطاب النهي، بل جاءَ به في كلامٍ أَسْندَ الفِعلَ المنهيَّ عنه لغَيب، ولَمَّا كانتِ المجاملةُ في الظاهرِ والمحاسَنةُ جائزةً لعُذرٍ، وهو اتِّقاءُ شرِّهم، حسُن الإقبالُ إليهم وخِطابُهم برفْعِ الحرَج عنهم في ذلك .
5- قوله تعالى: وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ: فيه تهديدٌ عظيم، مُشعِرٌ بتناهي النَّهي في القُبح؛ حيثُ جَعَل التحذيرَ هنا مِن نفْس اللهِ سبحانه؛ ليكونَ أعمَّ في الأحوال، وذِكْرُ النَّفْس للإيذانِ بأنَّ له عقابًا هائلًا لا يُؤبَه دونه بما يُحذَرُ من الكَفرةِ .
6- قوله: وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ: تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ ما قبله، ومُحقِّق لوقوعِه حتمًا .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرور وَإِلَى اللهِ؛ للاهتمامِ والاختصاصِ، وفيه تعريضٌ بالوعيد؛ أكَّد به صريحَ التهديدِ الذي قَبْلَه .
- وفيه التأكيدُ باسميَّة الجملة، وقُدِّم فيها الخبر أيضًا لفائدةِ الحصر؛ يعني: (إلى الله لا إلى غيره المصيرُ)، وإيثارُ حرف الجرِّ (إلى)؛ للدَّلالة على انتهاءِ المصير إليه سبحانه وليس لغيرِه شيءٌ منه. ووضْعُ المظهَر (الله) موضعَ المضمر (إليه)؛ لكمالِ العنايةِ بتمييزِه وتخصُّصه .
7- وقوله: فَلَيْسَ مِنَ اللهِ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللهِ:
فيه مِن أنواعِ البلاغةِ:
- تَكرارُ التَّحذير؛ لاقتضاءِ المقامِ ذلك؛ فجُملة فَلَيْسَ مِنَ اللهِ تحذير، وجملة ويُحَذِّرُكُم... تصريحٌ بالتحذير كذلك، وقوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تحذيرٌ آخرُ.
- وإظهارُ لفظِ الجلالةِ (الله) وعدمُ إضمارِه- حيث لم يقُل: (ويحذركم نفسه) (وإليه المصير)-؛ لإدخالِ المهابةِ .

==============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان: (29- 30)
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
غريبُ الكَلِماتِ:

رَؤُوفٌ: شديدُ الرَّحمة، وأصل (رَأَف): الرِّقَّة والرَّحمة

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ تعالَى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقول تحذيرًا للمؤمنين مِن اتِّخاذِ الكافرين أولياءَ: إنَّكم لو أخفيتُم ما في صُدورِكم, وسترتُم ما في ضَمائرِكم من خيرٍ أو شرٍّ أو عداوة أو ولاية, أو أبديتُم ذلك بأقوالِكم أو أفعالِكم، فإنَّ الله يعلمُه, فيُجازيكم على جميعِ ذلك؛ إنْ خيرًا فخيرٌ, أو شرًّا فشرٌّ؛ فهو الَّذي أحاط علمُه بما في السَّموات وما في الأرض, فلا يَخفَى عليه شيءٌ ولا يَغيبُ عنه, وهو ذو القُدرةِ النَّافذةِ على كلِّ شيءٍ, فلا يُعجِزه شيءٌ في السَّمواتِ ولا في الأرض.
ثمَّ ذكَر موعدَ هذه المجازاة، وهو يومُ القيامةِ, يومَ تجِدُ كلُّ نفسٍ ما عمِلَتْه من الخيرِ والإحسانِ قليلِه وكثيرِه حاضرًا بتمامِه من غيرِ نقصٍ, موفَّرًا من غيرِ تغييرٍ ولا تبديل, أمَّا ما عمِلَتْه من سوءٍ وشرٍّ، فإنَّها تَتمنَّى لو أنَّ بينهما مسافةً بعيدة, ثمَّ يؤكِّد اللهُ تهديدَه ووعيدَه بتحذيرِ عبادِه مِن نفْسِه, وتخويفِهم من عِقابه, ومُبيِّنًّا أنَّه إنَّما حَذَّرهم لشدَّة رحمتِه بهم, ورأفتِه عليهم.
تفسير الآيتين:

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى المؤمنين عن اتِّخاذ الكافِرين أولياءَ ظاهرًا وباطنًا، واستَثْنى منه التَّقيَّةَ في الظَّاهر، أتْبَع ذلك بالوعيدِ على أنْ يَصيرَ الباطنُ موافقًا للظَّاهر في وقت التَّقيَّة؛ وذلك لأنَّ مَن أَقْدَم عند التَّقيَّةِ على إظهارِ الموالاة، فقد يصيرُ إقدامُه على ذلك الفعلِ بحسَب الظَّاهر سببًا لحصولِ تلك الموالاةِ في الباطن؛ فلا جَرَم بَيَّن تعالى أنَّه عالمٌ بالبواطن كعِلْمِه بالظَّواهر، فيعلم العبدُ أنَّه لا بدَّ أنْ يجازيَه على كلِّ ما عزَم عليه في قلبه
؛ لذا قال:
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
أي: قلْ- يا محمَّدُ-: إنْ تُخفوا ما في قلوبِكم وضمائرِكم- من الخيرِ أو الشَّرِّ، أو الولايةِ أو العَداوةِ وغير ذلك- أو تُظهروه، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَعلمُه ويُجازيكم عليه .
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: وقُلْ لهم أيضًا: إنَّ الله يَعلمُ جميعَ ما في السَّموات وجميعَ ما في الأرض، لا يغيبُ عنه شيءٌ .
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أي: واللهُ قادرٌ على كلِّ شيء؛ فقُدرتُه نافذة، ولا يُعجِزه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، ولكمالِ عِلمه وكمالِ قُدرته إذا أراد معاجلةَ أحدٍ بعقوبة، فلن يُفلِتَ من عِقابه، فاحذَروا .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبَر الله تعالى عن عِلمه وقُدرته، وفي ضِمنه الإخبارُ بما هو لازمُ ذلك من المجازاةِ على الأعمال، أخبَر عن مَحلِّ ذلك، وهو يومُ القيامة، الَّذي تُوفَّى فيه كلُّ نُفْسٍ ما كسبتْ ؛ فلهذا قال:
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا
يومَ تجِد كلُّ نفْسٍ الَّذي عمِلَتْه من خيرٍ- سواء كان قليلًا أو كثيرًا- قد أُحضِر كاملًا موفَّرًا .
كما قال الله تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف: 49] .
وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا
أي: والَّذي عمِلَتْه كلُّ نفْس من سوء- قلَّ أو كثُر- تُحبُّ وتتمنَّى لو أنَّ بينها وبينه مسافةً بعيدةً، أو زمانًا طويلًا متأخِّرًا .
ثمَّ قال تعالى مؤكِّدًا ومهدِّدًا ومتوعِّدًا:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
أي: ويُخوِّفُكم الله مِن نفْسِه .
وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
أي: واللهُ رحيمٌ بخَلْقه أشدَّ الرَّحمةِ وأرقَّها؛ لذا حذَّرهم

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله: يَعْلَمْهُ اللَّهُ إرشادٌ إلى تطهيرِ القلوب، واستحضارِ عِلمِ الله كلَّ وقت، فيستحي العبدُ من ربِّه أنْ يرى قلبَه محلًّا لكلِّ فِكرٍ رديءٍ، بل يَشغَلُ أفكارَه فيما يُقرِّبُ إلى الله
.
2- يُؤخَذُ من قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، أنَّه متى آمَن الإنسانُ بصِفة العِلمِ أوْجَب له ذلك أمرين:
- الأوَّل: الهروبُ مِن معصيةِ الله، فلا يَجِده اللهُ عزَّ وجلَّ حيث نهاه.
- الثَّاني: الرَّغبةُ في طاعةِ الله، فلا يَفقِده حيثُ أمَرَه؛ لأنَّه يؤمنُ بأنَّ الله تعالى يَعلَمُه .
3- ختَم الله الآية بقوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ إشارةً إلى أنَّه قد وسِع كلَّ شيءٍ علمًا وقُدرةً، وأنَّه قادرٌ على الانتقامِ منكم فيما إذا أخفيتُم ما لا يَرضاه، ولكنَّه لحِكمته قد يُؤخِّرُ الانتقام .
4- في قوله: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إرشادٌ للإنسانِ إلى أنْ يَتعلَّق بربِّه؛ لأنَّه متى علِم أنَّ اللهَ على كلِّ شيء قديرٌ، فإنَّه لن يمنَعَه مانعٌ من أنْ يلتجئَ إليه سبحانه وتعالى بسؤال ما يُريد .
5- التَّحذيرُ والتَّذكيرُ لهذا اليومِ العظيمِ الَّذي يجِد فيه الإنسانُ ما عمِل من خيرٍ أو سوء , وذلك من قوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا...
6- في قوله تبارَك وتعالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا... كمالُ قُدرة الله عزَّ وجلَّ بإحضارِ ما عمِلَه الإنسانُ من قليلٍ وكثير؛ لقوله: مَا وهي موصولة تُفيد العُمومَ .
7- في قوله: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ... تنبيهٌ للعبد؛ ليحذَرَ من أعمال السُّوءِ الَّتي لا بدَّ أنْ يحزَنَ عليها أشدَّ الحزن .
8- في قوله: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا بيانٌ لكراهةِ المسيءِ لِمَا عمِله في ذلك اليوم، وأنَّه يحبُّ أنْ يكونَ بينه وبينه كما بين المشرقِ والمغرب .
9- ترْكُ كلِّ شهوة ولذَّة- وإنْ عسُر تركُها على النَّفس في هذه الدَّار- أيسرُ مِن معاناةِ تلك الشَّدائدِ، واحتمالِ تلك الفضائِح .
10- أعاد تعالى التَّحذيرَ من نفْسه؛ رأفةً بالعبادِ ورحمةً؛ لئلَّا يطُولَ عليهم الأمدُ فتقسوَ قلوبُهم، وليجمعَ لهم بين التَّرغيب الموجِب للرَّجاء والعملِ الصالح، والتَّرهيبِ الموجِبِ للخوف وترْكِ الذُّنوب .
11- لَمَّا قال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو للوعيدِ أتْبعه بقوله: وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ وهو للوعدِ؛ ليعلَمَ العبدُ أنَّ وعْدَه ورحمتَه، غالبٌ على وعيدِه وسخَطه .
12- أنَّه يَنبغي للإنسان أنْ يعرفَ قدْرَ نفْسِه بالنِّسبة إلى ربِّه, وأنَّه عبدٌ، والعبد يجبُ أنْ يكونَ منقادًا لأمر الربِّ، وأنْ يكونَ ذليلًا له شرعًا، كما أنَّه ذليل له قدَرًا

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- المرادُ بالصُّدور في قوله: مَا فِي صُدُورِكُمْ البواطنُ والضَّمائر، وهو جريٌ على معروف اللُّغة من إضافة الخواطر النَّفسيَّة إلى الصَّدر والقلب؛ لأنَّ الانفعالاتِ النَّفسانيَّةَ وتردُّدات التَّفكُّر- كلُّها يشعُرُ لها بحركاتٍ في الصُّدور
.
2- لَمَّا كان الخِطابُ للمؤمنين سَمَّى الموعظة تحذيرًا في قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ؛ لأنَّ المحذَّر لا يكونُ متلبسًا بالوقوع في الخطرِ؛ فإنَّ التَّحذير تبعيدٌ من الوقوع, وليس انتشالًا بعد الوقوع .
3- ختَم اللهُ الآية بقوله: وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ مع أنَّ المقامَ مقامُ تحذيرٍ, والتَّحذيرُ يَقتضي الوعيد؛ وذلك لأنَّ إخبارَ الإنسان بحقيقة الحال من الرَّأفة به, ومن رأفته عزَّ وجلَّ بالعباد أنْ حذَّرهم نفسَه، وأخبرَهم بأنَّ الأمر عظيمٌ .
4- التَّعريفُ في العباد في قوله: رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ للاستغراق؛ لأنَّ رأفةَ الله شاملةٌ لكلِّ النَّاس، مسلمِهم وكافرِهم، ولك أنْ تجعل (أل) عوضًا عن المضافِ إليه، أي: بعِبادِه، فيكون بِشارةً للمؤمنين

.
بلاغة الآيتين:

1- في قوله تعالى: إنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ: عبَّر بالصُدور، ولم يقُل: (ما في قلوبكم)؛ لأنَّ القلبَ في الصَّدر، فجازَ إقامةُ الصَّدرِ مقام القلْب، وفي هذا تفنُّن في اختلافِ التعبيرِ، بناءً على أنَّ المرادَ بالجميعِ واحد
.
2- قوله عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ:
- هذا مِن باب ذِكْر العامِّ بعد الخاصِّ، وهو مَا فِي صُدُورِكُمْ؛ تأكيدًا له وتقريرًا .
- وقدَّم هنا الإخفاءَ على الإبداءِ، وجَعَل محلَّهما الصُّدور، وجعَل جوابَ الشرط العِلم، بخِلافِ ما في البقرة في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ؛ فإنَّه قدَّم فيها الإبداءَ على الإخفاءِ، وجعَل مَحلَّهما النَّفس، وجَعَل جواب الشَّرْط المحاسَبة، وكلُّ ذلك تفنُّنٌ في البلاغةِ، وتنوُّعٌ في الفصاحة ، مع ما فيه من المناسبةِ الحَسنةِ لكلِّ سِياقٍ.
- وقوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: هو خبرٌ مقصودٌ به غايةُ التَّحذير؛ لأنَّه إذا كان لا يَخفى عليه شيءٌ فيهما؛ فكيف يخفَى عليه الضَّمير ؟!
- وجملة: وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ معطوفةٌ على جملةِ الشَّرط؛ فهي معمولةٌ لفعل قُلْ، وليستْ معطوفةً على جوابِ الشَّرْط؛ لأنَّ عِلمَ الله بما في السَّموات وما في الأرض ثابتٌ مطلَقًا، غيرُ مُعلَّق على إخفاءِ ما في نُفوسِهم وإبدائِه .
3- قوله تعالى: واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إتمامٌ للتحذير؛ وذلك لأنَّ العالِم بكلِّ المعلوماتِ عالمٌ بما في القلب، وعالمٌ بمقاديرِ استحقاقِه من الثَّوابِ والعقابِ، ثم لَمَّا بيَّن أنَّه قادرٌ على جميعِ المقدورات، فكان لا مَحالةَ قادرًا على إيصالِ حقِّ كلِّ أحد إليه؛ فيكون في هذا تمامُ الوعدِ والوعيدِ، والترغيبِ والترهيبِ .
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موضِعِ الإضمار؛ حيث لم يقُلْ: (وهو على كلِّ شيء قديرٌ)؛ لتربية المهابةِ، وللتَّهويل ، ولتكونَ الجملةُ مستقلَّةً، فتجري مجرَى المَثَل .
4- يَعْلَمْهُ اللهُ، واللهُ عَلَى... فيها تَكرارٌ للفظ الجلالةِ، وإظهارُه في موضعِ الإضمارِ حيثُ لم يقُل: (وهو على..)؛ لإدخال المهابةِ أيضًا .
5- قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا...
- فيه تقديمُ الظَّرف يَوْمَ على عاملِه تَوَدُّ؛ لأنَّ اسمَ الزَّمان هنا هو الأهمُّ في الغرَض المسوقِ له الكلامُ، وهو ظرفٌ لشيءٍ من علائقِه، فجِيءَ به منصوبًا على الظرفيَّة، وجُعِل معنى بعضِ ما يَحصُل منه مَصُوغًا في صِيغة فِعلٍ عاملٍ في ذلِك الظَّرْف .
- وهذه الآيةُ من بابِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، ومن تمامِ الكلامِ الذي تَقدَّم، وخُصَّ هذا اليومُ بالذِّكر، وإنْ كان غيرُه من الأيَّام بمنزلتِه في قُدرةِ اللهِ تعالى؛ تَفضيلًا له لعِظَمِ شأنِه .
- قوله تعالى: مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا: عبر بقوله: مُحْضَرًا لأنَّ فيه من التهويلِ ما ليس في حاضرًا .
6- قوله عزَّ وجلَّ: مَا عَمِلَتْ، وَمَا عَمِلَتْ: فيه تكرار ؛ للتأكيد.
7- قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ:
قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ تقدَّم في آية (28) وأعادَه هنا؛ لإفادةِ ما يُفيدُه قوله عزَّ وجلَّ: واللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ مِن أنَّ تحذيرَه تعالى من رأفتِه بهم ورحمتِه الواسعةِ، أو أنَّ رأفتَه بهم لا تَمنعُ تحقيقَ ما حذَّرهموه من عِقابِه، وأنَّ تحذيرَه ليس مبنيًّا على تناسي صِفةِ الرَّأفة، بل هو مُتحقِّقٌ مع تحقُّقها أيضًا ، فقوله: وَيُحَذِّرُكُم اللهُ نَفْسَهُ في الموضعين يَتعلَّق بما ذُكِر قَبلَه؛ فلا تَكرارَ حِينئذٍ؛ فالأوَّل تحذيرٌ من موالاةِ الكافرين، والثاني تحذيرٌ من أن يَجِدوا يومَ القيامة ما عمِلوا من سوءٍ محضرًا؛ لأنَّه ذكَره بعدَ أنْ ذكَر الجزاءَ الَّذي يكونُ يومَ القِيامةِ .
- وتكريرُ الاسمِ الجليلِ الله؛ لتربيةِ المهابةِ .
8- قوله عزَّ وجلَّ: وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ هذه الجملة وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ أبلغُ في الوصْف من جملة التخويف وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ؛ لأنَّ جملةَ التخويفِ جُعِلَ فيها التحذيرُ مِن نفْسِ اللهِ، أي: ذاته؛ ليكون أعمَّ في الأحوالِ؛ لأنَّه لو قيل: يُحذِّركم الله غضَبَه لتُوهِّم أنَّ للهِ رِضًا لا يضرُّ معه تَعمُّدُ مخالفةِ أوامرِه، ولم يَتكرَّر فيها اسمُ الله، وجاءَ المحذَّر مَخصوصًا بالمخاطَب فقط، وهذه الجملةُ جاءتْ اسميَّةً، فتكرَّر فيها اسمُ الله؛ إذِ الوصفُ رَؤوفٌ محتمِلٌ ضميرَه تعالى (هو)، وجاءَ المحكومُ به رَؤوفُ على وزنِ (فَعُول) المقتضِي للمبالغةِ والتكثير، وجاءَ بأخصِّ ألفاظِ الرحَّمة، وهو رَؤُوف، وجاءَ متعلِّقُه عامًّا؛ ليشملَ المخاطَبَ وغيرَه، وبلفظ العِبَاد؛ ليدلَّ على الإحسانِ التامِّ؛ لأنَّ المالك محسِنٌ لعبدِه، وناظرٌ له أحسنَ نظَر؛ إذ هو ملكُه .

=====================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (31-32)
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
المَعنَى الإجماليُّ :

يأمُر اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لمدَّعي محبَّة الله تبارَك وتعالَى: إنَّ آيةَ صِدقِكم وعلامةَ محبَّتكم لله تبارَك وتعالَى هي اتِّباعي, فإنْ كنُتم صادِقين في دعواكم، فيَلزمكم تَصديقي فيما أَتيتُ به من خَبرٍ, وطاعتي فيما أمرتُكم به, واجتنابُ ما نهيتُكم عنه, والاقتداءُ بي؛ فإنَّ بين محبَّةِ الله واتباعي تَلازمًا؛ فهُمَا لا ينفكَّان, فإذا فعلتُم ذلك كان هذا دليلًا قاطعًا على محبَّتكم لله, وحينَها سيكونُ جزاؤُكم جزاءَ المِثل؛ إذ ستنالون محبَّةَ الله لكم, ومغفرتَه لذُنوبِكم؛ فإنَّه غفورٌ لذنوبِ عبادِه, رحيمٌ بهم.
ثمَّ يأمُر الله تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأمرَهم بطاعةِ الله وطاعةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالإتيانِ بأوامرهما, واجتنابِ ما نهَيَا عنه, فإنْ أعرَضوا وتولَّوا عمَّا أُمِروا به من الطَّاعة, واستنكفوا الامتثالَ لأمْر اللهِ وأمْر رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقد كفروا, وارْتَكبوا ما يُعرِّضهم لسَخَطِ الله وبُغضِه, فإنَّه سبحانه لا يُحبُّ الكافرين الجاحِدين, بل يُبغِضُهم.
تفسير الآيتين:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى الله سبحانه وتعالى عن مُوالاةِ الكفَّارِ ظاهرًا وباطنًا، وكان الإنسانُ ربَّما والَى الكافرَ وهو يدَّعي محبَّةَ الله سبحانه وتعالى، وختَم برأفتِه سبحانه وتعالى بعبادِه، وكانت الرَّأفةُ قد تكونُ عن المحبَّة الموجبة للقُرب، فكان الإخبارُ بها ربَّما دعا إلى الاتِّكال، ووقَع لأجْلِه الاشتباهُ في الحِزبَينِ، جعَل لذلك سبحانه وتعالى علامةً ، فقال:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
أي: قل- يا محمَّدُ- لِمَن يدَّعون محبَّةَ الله: إنْ كنتُم تحبُّون الله كما ادَّعيتم فاتَّبِعوني بتصديق خبَري وطاعةِ أمْري والاقتداءِ بي .
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
أي: إنَّكم إنِ اتَّبعتموني يُحبَّكم الله، ويَغفِرْ لكم جميعَ ذُنوبِكم، فَمَن كَانَ محبًّا لله لزِم أنْ يتَّبع الرَّسُول، ومَن اتَّبع الرَّسولَ فقد فعَل ما يُحبُّه الله، فيُحِبه الله .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ واللهُ غفورٌ لذنوبِ عِبادِه؛ يسترُها عليهم، ويتجاوزُ عنها، رحيمٌ بهم؛ يَعطِفُ عليهم، ويُحسِن إليهم .
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ-: أطيعوا اللهَ والرَّسول محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ وذلك بامتثالِ الأمْر، واجتنابِ النَّهي .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
أي: فإنْ أعرَضوا عن الطَّاعة، ولم يَنقادوا، فهذا كُفرٌ منهم، والله عزَّ وجلَّ لا يحبُّ الكافرين، بل يُبغِضهم ولا يغفِرُ لهم .
الفوائد التربوية :

1- قوله: فَاتَّبِعُونِي أي: على ما أنا عليه مِن الشَّريعة؛ عقيدةً وقولًا، وفعلًا وتركًا، فمَن اتَّبَع الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذه الأربعة، صدَقَ في اتِّباعه، ومَن خالَف فهو غيرُ صادق .
2- قوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ... الآيةَ: حُجَّةٌ على أهلِ الدَّعوى في كلِّ زمانٍ ومكان؛ إذ ما قيمةُ الدَّعوى يُكذِّبها العملُ؟! وكيف يجتمعُ الحبُّ مع الجهلِ بالمحبوبِ وعدمِ العنايةِ بأمره ونهيه ؟!
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- جمَعَت هذه الآيةُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ... وجوبَ محبَّة الله، وعلاماتِها، ونتيجتَها وثمراتِها .
2- بهذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ يُوزَنُ جميعُ الخَلْق؛ فعلى حسَب حَظِّهم من اتِّباع الرَّسولِ يكونُ إيمانُهم وحبُّهم لله، وما نقَص من ذلك نقَص .
3- في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي جوازُ مخاطبةِ المدَّعي بالتحدِّي .
4- يَنبغي للإنسان أنْ يُجيبَ غيرَه بما هو أكثرُ من سؤاله إذا دعتْ إليه الحاجة؛ لأنَّه لم يقُلْ: فاتَّبعوني تحبُّوا الله، بل قال: يُحْبِبْكُمُ، ولا أحدَ يحبُّه اللهُ إلَّا وهو يحبُّ اللهَ .
5- كمالُ إحسانِ الله سبحانه وتعالى لجزائِه على العمل أكثرَ منه؛ لأنَّ الَّذي يتَّبِع الرَّسول يحصل له محبَّةُ الله ومغفرةُ الذُّنوب، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31] .
6- الجمعُ بين الغفور والرَّحيم لفائدةٍ عظيمة؛ قيل: هي الجمعُ بين الوقايةِ والعنايةِ؛ بين الوقايةِ مِن شرِّ الذُّنوب بالمغفرة، والعنايةِ بالتَّيسير لليُسرى وتجنيبِ العُسرى بالرَّحمة .
7- في قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أتى بالواو الدَّالَّة على التَّشريكِ؛ لأنَّ طاعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما يأمُرُ به مِن الشَّريعةِ من طاعةِ الله .
8- في قوله: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ردٌّ على مَن قال: إنَّ السُّنَّة لا يُعمَل بها إلَّا ما وافَق القُرْآن؛ وذلك لأنَّنا لو قلنا: إنَّ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُطاعُ إلَّا فيما أمَر اللهُ به لَمْ يكُنْ للأمر بطاعتِه فائدةٌ؛ لأنَّ كلَّ مَن أمْر بما أمَر اللهُ به، فإنَّه مطاعٌ، لا لأمْره، ولكن لأمْر الله؛ فَطاعةُ أمرِ الرَّسول طاعةٌ مُستقلَّة .
بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ: تذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبلَهُ، مع زيادة وعْد الرحمةِ، ووضعُ الاسمِ الجليلِ (الله) موضعَ الضَّمير (هو)؛ للإشعارِ باستتباعِ وصْف الأُلوهيَّة للمغفرةِ والرَّحمة .
2- قوله تعالى: تُحِبُّونَ اللهَ، وقوله: يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وقوله: وَاللهُ غَفُورٌ، وقوله: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ، فَإِنَّ اللهَ: فيها تَكرارُ الاسمِ الجليل (الله) ، وفيه إشعارٌ بالقُرب والتحنُّن والمحبَّة.
3- قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ: فيه إيثارُ الإظهارِ لكلمة وَالرَّسُول على إضمارِها بطريق الالتفاتِ من الخِطاب إلى الغَيبة؛ لتعيينِ حَيثيَّة الإطاعة، والإشعارِ بعلَّتها؛ فإنَّ الإطاعةَ المأمورَ بها إطاعتُه عليه الصَّلاة والسَّلام من حيثُ إنَّه رسولُ الله، لا مِن حيثُ ذاتُه، ولا ريبَ في أنَّ عنوانَ الرِّسالة من مُوجباتِ الإطاعةِ ودواعيها .
4- قوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرينَ
- فيه إظهارُ الاسمِ الجليل (الله)- حيث لم يُضمرْ فيقول: (فإنَّه)-؛ للتعظيمِ وتربيةِ المهابةِ؛ لأنَّ العربَ إذا عَظَّمتِ الشَّيء أعادتْ ذِكرَه .
- وفيه: إيثارُ إظهارِ لفظة الْكَافِرِينَ على الإضمارِ- حيث لم يقل: (لا يحبُّهم)-؛ لتعميمِ الحُكمِ لكلِّ الكفَرَة، وللإشعارِ بعلَّته؛ فإنَّ سخطَه تعالى عليهم بسببِ كُفرهم، والإيذانِ بأنَّ التولِّي عن الطاعةِ كفرٌ، وبأنَّ محبَّته عزَّ وجلَّ مخصوصةٌ بالمؤمنين ، وفيه أيضًا فائدةٌ لفظية وهي مُراعاةُ الفواصِل .

========================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (33- 37)
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ
غريبُ الكَلِماتِ:

مُحَرَّرًا: عتيقًا لله، مُخلَصًا للعبادة، وأصلُ الحريَّة: خلافُ العبوديَّة، والبَراءةُ من العيبِ والنَّقص
.
الرَّجِيمِ: المطرودِ عن الخَيرات، وأصل الرَّجم: الرَّميُ بالحجارة، ومنه رَجمتُ فلانًا بالكلام، إذا شَتمْتَه .
كَفَّلَهَا: ضَمَّها إليه، وأصل الكفالة: تَضمُّن الشَّيءِ للشَّيء .
الْمِحْرَابَ: الموضِعُ العالي الشَّريف، والغُرفة، والمسجدُ، وسيِّدُ المجالس، ومُقدَّمُها وأشرفُها، وصدْرُ المجلس

.
مشكل الإعراب:

قوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
ذُرِّيَّةً: مَنصوبةٌ، وفي نصبِها وجهان: الأوَّل: النَّصْبُ على البَدليَّة، والمبدَل منه على هذا الوجه: آدَمُ عليه السَّلام ومَن عُطِف عليه، أو نوحٌ عليه السَّلام ومَن عُطِف عليه، أو الآلانِ فقط (آلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ). الثاني: النَّصبُ على الحاليَّة منهم، وتقديرُه: اصطفاهم حالَ كونِهم مُتناسِبين بعضهم من بعضٍ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبر اللهُ تبارَك وتعالَى أنَّه اجتبَى مِن خَلْقِه واختار من عِبادِه أفرادًا وأُسرًا، امتنَّ عليهم بفضلِه, وأخلَصهم لعبادتِه, فاجتبى آدَمَ ونوحًا عليهما السَّلام فردَينِ، واختارَ إبراهيم وعِمْران وذرِّيَّتهما أُسرتين, فكان هؤلاء هم صفوةَ خَلْقه من العالَمين، وخِيرةَ عباده في الأوَّلين والآخِرين, وجعَلَ الصَّلاحَ والتَّوفيق مُتسلسلًا في ذرِّيَّاتهم؛ فالله تعالى على عِلم تامٍّ بمن يَستحقُّ الاصطفاءَ والاختيارَ من عبادِه؛ فهو السَّميع العليم.
ثمَّ ذكر اللهُ تبارَك وتعالَى نبأ امرأة عِمْران حيث نذرتْ ما في بطنِها لله متفرِّغًا لعبادته, وخدمةِ بيتِ المقدس، ودَعَتِ الله أنْ يَتقبَّل منها؛ فهو السَّميعُ العليم، فلمَّا ولَدت إذَا بالمولودة أُنثى، فاعتذرتْ إلى ربِّها من ذلك؛ لأنَّها كانتْ ترجو أنْ يكونَ مولودها ذكَرًا؛ لأنَّه أقدرُ على الخدمةِ وملازمةِ مكانِ العبادةِ من الأنثى.
ثمَّ أخبرتْ أنَّها سمَّت مولودتَها مريم, وأنَّها تطلُب من الله أنْ يُعِيذَها هي وذرِّيَّتَها من الشَّيطان الرَّجيم, فاستجاب اللهُ دعوتها, وقبِل نذرَها قَبولًا حسَنًا, فأنشأ مريمَ تنشئَةً حسنة، وجعل زكريَّا كافلًا لها, وقائمًا على شؤونها, فكان كلَّما دخَلَ عليها المحرابَ وجَدَ عندها طعامًا وغذاءً، فيتعجَّب من ذلك؛ إذ كيفَ يأتيها هذا الرِّزقُ وهي منقطعةٌ لعبادة الله, حابسةٌ نفسَها على طاعته؟! فيسألها عن ذلك, فتُجيبه أنَّه من عندِ اللهِ الَّذي يَتفضَّلُ على مَن يَشاء مِن عبادِه بالأرزاقِ والعطايا ممَّا لا حَصرَ له ولا وإحصاءَ.
تفسير الآيات:

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ محبَّته منُوطة باتِّباع الرَّسول، فمَن اتَّبعه كان صادِقًا في دعْوى حبِّه لله، وجَديرًا بأنْ يكونَ محبوبًا منه- جلَّ علاه- أتْبع ذلك ذِكرَ مَن أحبَّهم واصطفاهم، وجَعَل منهم الرُّسلَ الَّذين يُبيِّنون طريقَ محبَّتِه، وهي الإيمانُ به مع طاعته
، فقال:
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
أي: إنَّ اللهَ اختار واجتبى آدمَ عليه السَّلام، فخلَقه بيدِه، ونفَخ فيه من رُوحِه، وأَسجدَ له ملائكتَه، وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيء، إلى غيرِ ذلك، واختار نوحًا عليه السَّلام، فكان أوَّلَ رسولٍ بعَثه، وجعَل ذُرِّيَّته هم الباقين، واختار إبراهيمَ عليه السَّلام- خليلَ الله- وقومَه ، ومنهم الأنبياء الَّذين مِن بعده؛ فهم مِن ذرِّيَّته، ومنهم محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واختار عِمْرانَ والدَ مريم، وزوجتَه أمَّ مريم، ومريمَ وابنها عيسى عليه السَّلام؛ اختارَهم وفضَّلهم على العالَمين .
قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26] ، وقال: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54] .
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
أي: نَسْلًا بعضُه من بعض، في وراثةِ الاصطفاءِ والإيمانِ، والطَّاعةِ والموالاةِ في الدِّين، والتَّناصُر على الحقِّ .
كما قال تعالى لَمَّا ذكَر جملةً من الأنبياء الدَّاخلين في ضِمن هذه البيوتِ الكبار: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87] .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
أي: واللهُ يعلَمُ من يستحقُّ الاصطفاءَ فيَصطفيه؛ فهو يسمَعُ أقوالهم، ويَعلَم أحوالَهم، وما في ضَمائرِهم؛ فلذا فضَّلهم واختارَهم .
وهذا كقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ .
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا
أي: واذكُرْ إذ قالت امرأةُ عِمْران: يا ربِّ، إنِّي أوجبتُ على نفْسي أنْ أَجعلَ ما في بطني مفرَّغًا لعبادتك، حبيسًا على خِدمةِ بيتِ المقدس .
فَتَقَبَّلْ مِنِّي
أي: فتقبَّلْ منِّي يا ربِّ، ما نذرتُ لك .
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
أي: إنَّك أنت السَّميعُ لقولي ودُعائي، المستجيبُ له، العليمُ بنيَّتي وقَصْدي .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى
أي: فلمَّا ولَدَتِ امرأةُ عِمْران إذَا بالمولودِ أُنثى، فاعتذرتْ قائلةً: يا ربِّ، إنِّي ولَدْتُها أنثى .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَضَعَتْ قراءتان:
1- (وَضَعْتُ) وتَعني أنَّه من قولِ أمِّ مريمَ وفِعلها .
2- وَضَعَتْ وتَعني الإخبارَ مِن الله عزَّ وجلَّ عن فِعلها .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
أي: واللهُ أعلمُ مِن كلِّ أحدٍ بما وضعَتْه .
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى
أي: وليس الذَّكَرُ كالأنثى في القوَّة والجَلَدِ على خِدمةِ بيت المقدس، بالإضافةِ إلى ما يَعتري الأُنثى من الحيضِ .
وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
أي: وإنِّي جعلتُ اسمَها مريمَ، فأَطلقتْ عليها هذا الاسمَ يومَ ولادتِها .
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
أي: وإنِّي أُجيرُها وأولادَها- أي: عيسى عليه السَّلام- بكَ وحْدَك من الشَّيطانِ المبعَدِ المطرودِ .
وقد استجابَ اللهُ تعالى لها؛ فعن أبي هُرَيرَةَ، رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما من مولودٍ يُولَدُ إلَّا مسَّه الشَّيطانُ حين يُولد، فيستهلُّ صارخًا من مسِّه إيَّاه، إلَّا مريمَ وابْنَها ))، ثمَّ يقول أبو هُرَيرَةَ: اقرؤوا إنْ شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] .
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
أي: قَبِل اللهُ مريمَ قَبولًا حسَنًا ، ورضِي نَذْرَ أمِّها وإنْ كان أنثى، فيسَّرها لليُسرى، وسلَكَ بها طريقَ السُّعداء .
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
أي: أنشأَها نشأةً حسنةً في بَدَنِها، وخِلْقتِها، ودِينها، وأخلاقِها .
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله: وَكَفَّلَهَا قراءتان :
1- (وَكَفَّلَهَا) أي: ضَمَّها اللهُ تعالى إلى زكريَّا .
2- (وَكَفَلَهَا) أي: ضَمَّها زكريَّا إليه .
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
أي: جعَل اللهُ تعالى نَبيَّه زكريَّا عليه السَّلام كافلًا وضامنًا لها ؛ وذلك بعدَ أنْ وقَع الخلافُ فيمَن يَكفُل مريم، فاقْتَرعوا، فكانتْ من نصيبِ زكريَّا عليه السَّلام؛ كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44] .
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
أي: كلَّما دخَلَ عليها زكريَّا عليه السَّلام مكانَ عِبادتها، وجَد عندها طعامًا تتغذَّى به، بلا كَسبٍ ولا تعبٍ؛ فهي منقطعةٌ للعبادة ، فيتعجَّبُ ويسألُها عن ذلك؛ كما قال تعالى:
قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا
أي: قال زكريَّا لمريم: يا مريمُ، مِن أينَ لك هذا الرِّزق ؟
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: إنَّ هذا الرِّزق مِن عندِ الله؛ فهو الَّذي ساقه إليَّ ورَزَقَنِيه .
إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
أي: إنَّ اللهَ يُعطي الرِّزقَ مَن يشاء من غيرِ إحصاءٍ ولا حصرٍ ولا عددٍ يُحاسِب عليه

.
الفوائد التربوية :

1- قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه إشارةٌ إلى أنَّه اصطفاهم على تمامِ العِلم بهم؛ ترغيبًا في أحوالهم والاقتداءِ بأفعالهم وأقوالِهم
.
2- الحثُّ على طردِ الإعجاب بالنَّفس، وتَرْك الإِدْلالِ على اللهِ بالأعمالِ، وهذا مستفادٌ من قولِ امرأة عِمْران: فَتَقَبَّلْ مِنِّي .
3- كلمة وَضَعْتُهَا تُشعِر أنَّ الأمَّ تَتكلَّف الحملَ، وإذا قدَّرنا أنَّ هذا الطِّفلَ الَّذي في بطنِها سيبقَى تِسعةَ شُهور، وهي حاملةٌ له في بطنِها، في أرقِّ ما يكونُ من البدن، قائمةً وقاعدةً، ومستيقظةً ونائمةً، فماذا نَتصوَّر من التَّعب؟! لذا فحقُّ الأمِّ على الأولادِ عظيمٌ .
4- اعتذارُ الإنسان عند ربِّه إذا وقَع الأمرُ خلافَ ما أراد ؛ كما في قوله تعالى: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.
5- لا يَستوي الذُّكورُ والإناث، لا في الطَّبيعة، ولا في الأخلاقِ، ولا في المعاملةِ، بل ولا في الأحكامِ في بعضِ الأحيان ؛ كما في قولِه تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى.
6- بقَدْرِ صلاحِ المربِّي يَكتسبُ مَن يُربِّيه مِن خُلقه وصلاحِه، وفي كفالةِ زكريَّا لمريم فضيلةٌ تَزيدُ من فضائِلها؛ قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا .
7- أعظمُ الشُّكر لرزقِ الله سبحانه وتعالى معرفةُ العبد بأنَّه مِن الله تعالى، إنَّما يَشكُر رِزقَ الله مَن أخَذه مِن اللهِ سبحانه وتعالى

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- جاء ذكرُ آل إبراهيمَ في قوله: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ؛ قيل لترغيبِ المعترفين باصطفائِهم في الإيمانِ بنُبوَّة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم، واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائِه بواسطةِ كونِه من زُمرتهم
.
2- يُؤخذُ من قول أمِّ مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي جوازُ النَّذرِ في الأمرِ المجهولِ .
3- لَمَّا كان حُسنُ إجابةِ المهتوفِ به الملتجأِ إليه على حسَب إحاطة سَمعِه وعِلمه، علَّلت سؤالَها في التقبُّل بأنْ قصَرَتِ السَّمع والعِلم عليه سبحانه فقالت: إِنَّكَ أَنْتَ أي: وحدَك السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
4- في قولها: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ جوازُ تَسميةِ الأطفالِ يومَ الولادةِ، وقبلَ اليومِ السَّابع .
5- في قولِه تَعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فيه دلالةٌ على أنَّ للأمِّ تَسميةَ الولدِ إذا لم يَكْرَهِ الأبُ .
6- مشروعيَّةُ إعاذةِ الإنسانِ أبناءَه بالله عزَّ وجلَّ من الشَّيطان الرَّجيم، ومِن شرِّ الخَلْق؛ كما في قوله تعالى: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
7- في قوله تعالى: وَذُرِّيَّتَهَا بيانُ جوازِ الدُّعاء للمعدوم, فذُرِّيَّتُها لم تأتِ بعدُ .
8- عبَّر عن التَّربيةِ بالإنباتِ في قوله: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا؛ قيل لبيانِ أنَّ التَّربيةَ فِطريَّةٌ لا شائبةَ فيها .
9- تطوُّر الإنسانِ في حياتِه بأمرِ الله, وما الغذاءُ والعنايةُ بالطفل إلَّا سببٌ، والله تعالى هو المسبِّبُ، وهو المكوِّنُ للإنسان، والمُنبت له ، كما في قوله تعالى: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا.
10- كلمة كلَّمَا تُفيد التَّكرار, وفي ذلك بيانٌ لحُسن كفَالةِ زكريَّا لها, وأنَّه كان يتفقَّدها عند تقديرِ حاجتِها إلى الطَّعام .
11- في قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا... دليلٌ على إثباتِ كراماتِ الأولياءِ الخارقةِ للعادة .
12- في قوله تعالى: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بيانُ أنَّ الأشياءَ تُضافُ إلى اللهِ وإنْ كان لها سببٌ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34):
- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
- ذِكرُ آلِ عمرانَ مع اندراجِهم في آل إبراهيمَ من باب ذِكرِ الخاصِّ بعد العامِّ؛ لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بتحقيقِ أمْر عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لكمال رُسوخِ الخِلافِ في شأنِه؛ فإنَّ نِسبةَ الاصطفاءِ إلى الأبِ الأقربِ أدلُّ على تحقُّقه في الآل، وأمَّا اصطفاءُ نفْسه عليه الصَّلاة والسَّلام، فمفهومٌ من اصطفائِهم بطريقِ الأَولويَّة، وعدمُ التَّصريحِ به؛ للإيذانِ بالغِنَى عنه لكمالِ شُهرةِ أمرِه في الخُلَّة، وكونه إمامَ الأنبياء، قُدوةَ الرُّسُلُ عليهم الصَّلاة والسَّلام
.
2- قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ: فيه إجمالٌ لـ(بعض) هنا؛ لأنَّ المقصودَ بيان شدَّة الاتِّصال بين هذه الذريَّة؛ فـ(مِن) للاتِّصال لا للتبعيض، أي: بين هذه الذُّرية اتصالُ القَرابة؛ فكلُّ بعضٍ فيها هو متَّصل بالبعض الآخَر .
- وفيها: براعةُ التخلُّص ؛ إذ انتقل من تمهيداتِ سببِ السُّورة إلى واسطةٍ بين التَّمهيد والمقصِد؛ فهذا تخلُّصٌ لمحاجَّة وفْد نجران؛ فإنَّه سبحانه وتَعالى وطَّأ بهذه الآية إلى سِياق خبَر ميلادِ المسيح عليه السَّلام، فقد خلُص إلى ذِكر امرأة عمران؛ ليسوقَ قِصَّة حمْلها بمريم، وكفالة زكريَّا لها، وذِكْر ولدِه يحيى، وقصَّة حمْلِ مريم بالمسيح، وما تَخلَّل ذلك مِن آياتٍ باهرات، وعِبَرٍ بالغات، وهذا من محاسنِ البَلاغة .
2- قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا: فيه مناسبةٌ بديعة؛ إذ التعرُّضُ لوَصفِ الرُّبوبيةِ المنبئةِ عن إفاضةِ ما فيه صلاحُ المربوبِ، مع الإضافةِ إلى ضميرِها، أنسب لإجابة الدُّعاء. وتأكيدُ الجملة بـ(إنَّ)؛ لإبرازِ وفورِ الرَّغبة في مضمونها، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لكمالِ الاعتناءِ به .
3- قوله عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ: تعليلٌ؛ لاستدعاءِ القَبول لا من حيثُ إنَّ كونَه تعالى سميعًا لدعائها عليمًا بما في ضميرِها مصحِّحٌ للتقبُّل في الجملة، بل من حيثُ إنَّ عِلمَه تعالى بصحَّة نيَّتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك تفضُّلًا وإحسانًا .
- وفيه تأكيدُ الجملة بـ(إن) و(أنت)؛ لعرضِ قُوَّةِ يَقينها بمضمونِها .
- وفيه قَصرُ صِفتَي السَّمعِ والعلم عليه تعالى؛ لعرْض اختصاصِ دُعائِها به تعالى، وانقطاعِ حَبل رَجائها عمَّا عداه بالكليَّة؛ مُبالغةً في الضَّراعة والابتهال .
4- قوله تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ: هو تعليلٌ لِمَا قَبلَه، وتحريكٌ لسلسلةِ الإجابة .
5- قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى: خبرٌ لا يُقصد به الإخبارُ والإعلام، بل التَّحسُّر والتَّحزُّن والاعتذار؛ فهو بمعنى الإنشاءِ .
6- قوله تعالى: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ: خبَرٌ فيه تعظيمٌ لموضوعها، ومرادٌ منه لازم الفائدة، والقَصدُ منه إفادتُها دون التَّصريح بما سيكون من شأنِ المولودِ الذي لم تَأبَهْ له بادئَ الأمر، وأنَّ الله أعلمُ بالشيءِ الذي وضعتْ وما علَق من عظائم الأمور، وأنْ يَجعلَه وولدَه آيةً للعالمين، وهي جاهلةٌ بمآلِ أمْرِ هذه المولودة، لا تَعلم منه شيئًا؛ فلذلك تحسَّرتْ .
- وعلى قِراءة ضمِّ التاء في (وضعتُ)، وأنَّه من كلامِ أمِّ مريمَ يكون فيه التفاتٌ من الخِطاب إلى الغَيبة؛ إظهارًا لغاية الإجلال؛ إذ لو جرَتْ على مقتضَى قولها: (رب) لقالت: (وأنت أعلم) .
- وفيه مِن تمامِ البلاغة: الاحترازُ عن كلِّ موهِمٍ لأمرِ خطأ، سواءٌ كان في المقال أو في الفِعل، ويُستفاد ذلك من قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ على قِراءة الضَّمِّ؛ فقد يتوهَّم السَّامع من قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى أنَّها أضافتْ إلى اللهِ عِلمًا لم يكُن حاصلًا له .
7- قوله: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى بدأتْ بذِكْر الأهمِّ في نفْسِها، وإلَّا فسياقُ قصَّتِها يَقتضي أنْ تقولَ: وليستِ الأنثى كالذَّكر، فتَضعُ حرْفَ النَّفي مع الشَّيءِ الَّذي عندها، وانتفَتْ عنه صِفاتُ الكمالِ للغرضِ المراد .
7- قوله سبحانه: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ... فيه إطنابٌ، والغرضُ مِن التصريحِ بالتسميَّة التقرُّبُ إلى الله، والازدلافُ إليه بخِدمة بيت المقدس أولًا، ورجاء عِصمتها ثانيًا- فإنَّ مريم في لُغتهم تَعني (العابدة)- وإظهارًا لعزمِها على الوفاءِ بوعْدِها ثالثًا .
8- قوله تعالى: وإنِّي سَمَّيْتُهَا وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ: فيه تَكرارُ التأكيد (وإني) للتأكيد؛ لأنَّ حالَ كراهيتها يُؤذِن بأنها ستُعرِض عنها فلا تشتغل بها، وكأنها أكَّدت هذا الخبر؛ إظهارًا للرِّضا بما قدَّر الله تعالى؛ ولذلك انتقلتْ إلى الدعاءِ لها الدالِّ على الرِّضا والمحبَّة، وأُكِّدت جملةُ أُعيذها مع أنَّها مستعملةٌ في إنشاء الدُّعاء .
9- قوله عزَّ وجلَّ: إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ... إلى قوله: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: تكرَّرت (إنَّ) أربع مرات، وفي الثلاث الأولى كان خبرُها فعلًا ماضيًا (وضعتها- سَمَّيْتُها- نَذَرْتُ)، وفي المرة الرابعة جاءَ الخبرُ بالمضارع، (أُعيذها)، لنُكتة بلاغيَّة، وهي ديمومةُ الاستعاذةِ وتجدُّدها دون انقطاعٍ، بخِلافِ الأخبار السابقة فإنَّها تحقَّقتْ وانقطعت .
10- قوله تعالى: فتَقبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ:
- قوله تعالى: فتَقبَّلَهَا جاءتِ الإجابةُ بصِيغة التفعُّل مطابقةً لقولها في الدعاء: فتقبَّلْ؛ للإشعارِ بالتدرُّج والتطوُّر والتكثُّر، كأنه يُشعِر بأنَّها مزيدٌ لها في كلِّ طور تتطوَّر إليه، ولم تكن إجابته (فقبِلها)، فيكون إعطاء واحدًا منقطعًا عن التواصُل والتتابع؛ فلا تزال بركة تحريرها متجدِّدًا لها في نفسها .
- وقوله تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا: تفريعٌ على الدُّعاء، مؤذِنٌ بسرعة الإجابة .
- قال سبحانه وتعالى: بِقَبولٍ حَسَنٍ لم يقُل: (فتقبَّلها ربُّها بتقبُّل)؛ لأنَّ ما كان من بابِ التفعُّل فإنَّه يدلُّ على شدَّةِ اعتناءِ ذلك الفاعلِ بإظهارِ ذلك الفِعل كالتصبُّر والتجلُّد ونحوهما؛ فإنَّهما يُفيدانِ الجدَّ في إظهارِ الصَّبر والجلادة، فكذا هاهنا التقبُّل يُفيد المبالغةَ في إظهارِ القَبول، والعناية العظيمة في تربيتها. فيكون جمَع بين الأمرين: التقبُّل الذي هو الترقِّي في القَبول، والقَبول الذي يَقتضي الرِّضا والإثابة .
- والباء في بِقَبُولٍ للتأكيدِ، وأصلُ نظْم الكلام: فتَقبَّلها قَبُولًا حَسنًا، فأُدخِلت الباءُ على المفعول المطلَق؛ ليصيرَ كالآلة للتقبُّل، فكأنَّه شيءٌ ثانٍ، وهذا إظهارٌ للعناية بها في هذا القَبول .
11- قوله عزَّ وجلَّ: رِزْقًا جاء بالتنكير؛ لإفادةِ الشُّيوعِ والكثرة، وأنَّه ليس من جِنسٍ واحد، بل من أجناسٍ كثيرة .
12- قوله: إنَّ اللهَ يَرْزُقُ... تعليلٌ لكونِه من عند الله ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبر بـ(إنَّ) واسميَّة الجُملةِ. 
====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...