حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

2. سورة البقرة {ج6} التالي يمشيئة الله سورة آل عمران



2. سورة البقرة {ج6}
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (254 - 257)
ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
غريب الكلمات:

خُلَّةٌ: مودَّة، وصَداقة مُتناهِية في الإخلاص، وأصلْ الخِلِّ: تَقارُب الفُروع، ومنه الخليلُ الذي يُخالُّك
.
الْقَيُّومُ: القائمُ الحافِظ لكلِّ شيء، والمعطي له ما به قِوامُه، والذي لا يَزول، والقائم بأمْر الخَلْق، والعالِم بالأشياء، على وزن فَيْعُول، مِن قُمْتُ بالشِّيء: إذا وَلِيتُه .
سِنَةٌ: النُّعاس من غير نوْم، وابتداؤه يكون في الرَّأس، والسِّنَة: الغفلة، والغفوة أيضًا .
كُرْسِيُّهُ: الكُرسيُّ جسمٌ عظيم، مخلوق بين يَدَي العَرْش، والعرش أعظمُ منه، والكرسيُّ موضِع القَدمينِ للبارئ جلَّ وعزَّ .
يَؤُودُهُ: يُثقِله، والوَأْد: الثِّقَل؛ يقال: آدَه الشيءُ يؤوده، وآدَه يَئيده، أي: أَثْقَله .
الرُّشْدُ: الحقُّ، وهو خلاف الغَيِّ، يُستعمَل استعمالَ الهداية، واستقامة الطَّريق .
الْغَيِّ: خِلاف الرُّشدِ، وهو الانهماكُ في الباطل، والضَّلالُ، والجهلُ بالأمر مِن اعتقادٍ فاسدٍ .
بِالطَّاغُوتِ: الطاغوت: الشَّيطان، والأصنام، وكلُّ مُتعدٍّ، وكلُّ معبودٍ يُعبَد مِن دون الله ورضِي بذلك، وأصْل الطُّغيان: تَجاوُزُ الحدِّ .
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى: العُرْوة: ما يُتعلَّق به، والوُثقَى: المحكَمة .
انْفِصَامَ: انقطاع، وانكسار؛ مِن فَصمتُ القدحَ، أي: كسرتُه وقصمتُه .
وَلِيُّ: أصْل هذه المادَّة يدلُّ على القُرْب، سواء من حيثُ: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه
المعنى الإجمالي:

يأمُر اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بالإنفاق ممَّا رزَقهم في وجوه الخير، قبل أنْ يأتي يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا تكون فيه تِجارةٌ، ولا يكون فيه صديقٌ حميم يَنصُر، وليس لهم من شافع يَشفَع لهم عند الله فتُفيدُهم شفاعتُه، إلَّا أنْ يشاء الله، وهؤلاء الكُفَّار المكذِّبون بالله تعالى وبرُسله، الجاحِدون للحقِّ هم الظالمون.
ثم يَصِف نفْسَه عزَّ وجلَّ بأنَّه الإله المعبود الذي لا معبودَ بحقٍّ غيرُه؛ فهو وحده المستحقُّ للعبادة، وله سبحانَه الحياةُ الكاملةُ التي لم يَسْبقها عَدَمٌ، ولا يَلحَقها زوالٌ، وهو القائم بنفْسه الذي لا يَحتاج لأحدٍ، والقائمُ بأمور خَلْقه من رزقٍ وغيره، فجميع الخَلْق مُفتَقِر إليه، ومِن كمال حياته وقَيوميَّته تعالى: أنَّه لا يَعتريه نُعاسٌ، ولا يَغلِبه نومٌ، يَملِك سبحانه جميعَ ما في الكون وحده، لا أحدَ يَشفَع عنده إلَّا بعد أن يأذَن سبحانه له، يعلم سبحانه جميعَ أمور العباد؛ ما مضَى منها وما سيأتي، وجميعُ من هم دونه عزَّ وجلَّ لا يَعلمون شيئًا إلَّا ما علَّمهم بمشيئته، ولِعَظمتِه جلَّ وعلا واتِّساع سُلطانه، أحاط وشَمِل كُرسيُّه- الذي هو موضِع قدميه سبحانه- السَّمواتِ والأرضَ، على الرغم من اتِّساع السَّموات والأرض وعظمتهما، ولا يُثقِله ولا يَشقُّ عليه حِفْظ السَّموات والأرض، بل هو أمرٌ سَهْل ويسيرٌ عليه سبحانه، وهو ذو العُلوِّ المطلَق على جميع مخلوقاته، فهو عليٌّ بذاته، وبقهرِه وكمال صِفاتِه، كما أنَّه ذو العظمة المطلَقة في ذاته وصفاته وسُلطانه.
ثم يُخبِر تعالى أنْ لا إكراهَ في الدِّين، فلا ينبغي أن يُرْغَم أحدٌ على اعتِناق الدِّين الإسلامي؛ فإنَّ الدِّين واضح جَلِيٌّ قد تَميَّز من الضَّلال، وتبيَّنت أدلَّتُه، وظهرتْ حقائقُه. ويُخبِر بعدها تعالى أنَّ مَن يَكفُر بالطاغوت- وهو كلُّ ما تَجاوَز به العبدُ حدَّه من معبود، أو متبوع، أو مُطاع- ويُؤمِن بالله تعالى وحْدَه، فقد تمسَّك بالدِّين القويم، والله يَسمَع مَن يُعلِن كُفْرَه بالطاغوت وإيمانَه بالله، ومَن كان حالُه على عكس ذلك، ويَعلم ما يُخفيه صدْرُ كلٍّ منهما، وسيُجازي كلًّا بحسَبه.
ثم يُخبِر تعالى أنَّ مَن كان مؤمنًا به حقًّا، فإنَّه يتولَّاه على الدَّوام، فيكون عونًا له ونصيرًا، ومؤيِّدًا ومُوفِّقًا، ويَنتشِله من ظُلمات الضَّلال إلى نور الإيمان، وأمَّا الكُفَّار، فإنَّ مَن يتولَّاهم هو الطاغوت؛ فهو حليفُهم الذي يؤيِّدهم ويُعينهم، ويُغْويهم، ومن أعظم الطَّواغيت الشيطانُ الرَّجيم؛ فإنَّه يُسَلَّط عليهم عقوبةً لهم، فيُخرِجهم من النور إلى الظُّلمات، هؤلاء هم أهلُ النَّار الملازِمون لها بلا نهاية، وبئس المصيرُ النارُ.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قدَّم الأمرَ بالقتال، وهو بذْلُ النَّفْس في سبيل الله، أَعقَبه بالأمر بالإنفاق، وهو بَذْل المال، وأيضًا فيه وجه آخَر، وهو أنَّه تعالى أمرَ بالقتال فيما سبَق بقوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثم أَعقَبه بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، والمقصود منه: إنفاقُ المال في الجهاد، ثم إنَّه مرَّةً ثانية أكَّد الأمرَ بالقتال، وذكَر فيه قصَّة طالوتَ، ثمَّ أَعقَبه بالأمْر بالإنفاق في الجِهاد
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ.
أي: يُنادي اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين مُنبِّهًا، وحاثًّا لهم على أمرٍ مهمٍّ من مقتضيات إيمانهم، وهو الإنفاقُ في سبيله سبحانه، فأمَرهم الله تعالى أن يُخرِجوا ممَّا أعطاهم من الخير صدقةً؛ واجبة كانت أو مُستحبَّة، ويَشتَروا بها ما عند الله تعالى من نعيم الآخِرة، قبل مجيء اليوم الآخِر الذي يَنقطِع فيه العمل، ولا يَملِك الكُفَّارُ فيه شيئًا يُنفِقونه لله تعالى، ولا مالَ لديهم يَفتدون به من عذابه عزَّ وجلَّ، ليس هذا فحسبُ، بل لا صديقَ حميم يَنصرُهم في ذلك اليوم، ولا ثمَّ شافعٌ يَشْفع لهم عند الله تعالى، فيدفع عنهم ضرًّا، أو يَجلِب لهم خيرًا، فنَفَى الله سبحانه بذلك كلَّ الوسائل التي يُمكِن أن يَنتفِعوا بها في ذلك اليومِ العظيم .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
وقال سبحانه: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .
وقال عزَّ وجلَّ حكايةً عن أهل النَّار أنهم يقولون: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 100 - 102] .
وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّ هؤلاء الكفَّار الذين كذَّبوا بالله تعالى ورُسله عليهم السَّلام، غيرَ مُقرِّين بهم ولا مُنقادِين إليهم، قدْ فعلوا بذلك ما ليس لهم فِعْلُه، ووضَعوا أنفسَهم في غير ما ينبغي أن يكونوا عليه، واختاروا لأنفسهم الكُفْرَ فخسِروها .
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255).
فضْل آية الكُرْسي:
وردت عدَّة أحاديث في فضل آية الكرسي منها:
- عن أُبَيِّ بن كَعْب رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال له: ((يا أبا المنذِرِ ، أَتدري أيُّ آيةٍ من كتاب اللهِ معك أَعْظمُ؟. قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: يا أبا المنذِرُ، أَتدري أيُّ آيةٍ من كتاب اللهِ معك أَعْظمُ؟. قال: قلتُ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. قال: فضرب في صدري، وقال: واللهِ، لِيَهْنِك العِلمُ أبا المنذِرِ )) .
- وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: ((وكَّلَني رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بحفظِ زكاةِ رمضانَ، فأتاني آتٍ، فجعَل يَحْثو من الطَّعامِ، فأخذْتُه وقلتُ: واللهِ لأرفعنَّكَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال: إني مُحتاجٌ، وعليَّ عِيالٌ، ولي حاجةٌ شديدةٌ، قال: فخلَّيتُ عنه، فأصبَحْتُ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: يا أبا هُرَيرَةَ، ما فعَل أسيرُك البارِحَةَ؟، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، شَكَا حاجةً شديدةً وعِيالًا، فرحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيلَه، قال: أَمَا إنَّه قد كذَبَك، وسيعودُ، فعرَفْتُ أنَّه سيعودُ؛ لقَولِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّه سيعودُ، فرصَدْتُه، فجاء يحثو من الطَّعامِ فأخَذْتُه، فقلتُ: لأرفعَنَّك إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال: دَعْني؛ فإنِّي مُحتاجٌ، وعليَّ عِيالٌ، لا أعودُ، فرحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيلَه، فأصبَحْتُ، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: يا أبا هُرَيرَةَ، ما فعَل أسيرُك، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، شَكا حاجةً شديدةً وعِيالًا، فرحِمْتُه فخلَّيْتُ سبيلَه، قال: أَمَا إنَّه كذَبَك، وسيعودُ، فرصَدْتُه الثالثةَ، فجاء يَحْثو من الطعامِ، فأخَذْتُه فقلتُ: لأرفعَنَّك إلى رسولِ اللهِ، وهذا آخِرُ ثلاثِ مراتٍ تزعُمُ لا تعودُ، ثم تعودُ، قال: دَعْني، أُعلِّمْك كلماتٍ ينفَعُك اللهُ بها، قلتُ: ما هو؟ قال: إذا أوَيْتَ إلى فِراشِك، فاقرأ آيةَ الكرسِيِّ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، حتى تَختِمَ الآيةَ؛ فإنَّك لن يزالَ عليك من اللهَ حافِظٌ، ولا يَقربَنَّك شيطانٌ حتى تُصبِحَ، فخلَّيْتُ سبيلَه فأصبَحْتُ، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ما فعَل أسيرُك البارِحَةَ؟، قلتُ: يا رسولَ الله، زعَم أنه يُعَلِّمُني كلماتٍ، ينفَعُني اللهُ بها فخلَّيْتُ سبيلَه، قال: ما هي؟ قلتُ: قال لي: إذا أوَيْتَ إلى فِراشِكَ، فاقرَأْ آيةَ الكرسِيِّ من أوَّلِها حتى تختِمَ: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وقال لي: لن يَزالَ عليك من اللهِ حافِظٌ، ولا يقرَبُك شيطانٌ حتى تُصبِحَ- وكانوا أحرصَ شيءٍ على الخيرِ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: أمَا إنَّه قد صدَقَك وهو كَذوبٌ، تعلَمُ من تُخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هُرَيرَةَ؟ قال: لا، قال: ذاكَ شيطانٌ )) .
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكر اللهُ تعالى أنَّ الكافرين هم الظَّالمون، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بُعِث إلى النَّاس كافَّةً، وكانوا على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم، سواء اليهود والنَّصارى الذين أحْدثوا بِدْعًا في أديانهم وعقائدهم، ونَسبوا اللهَ تعالى إلى ما لا يجوز عليه، أو العرب الذين كانوا قد اتَّخذوا من دون الله أصنامًا آلهةً، وأشركوا بالله، أتى بهذه الآية العظيمة الدَّالة على إفراد الله بالوحدانيَّة، المتضمِّنة صفاتِه العُلا، من: الحياة، وقَيوميَّته، ومُلْكه لما في السَّموات والأرض، وامتناع الشَّفاعة عنده إلَّا بإذنه، وسَعَة عِلْمه، وعدم إحاطة أحدٍ بشيء مِن عِلْمه إلَّا بإرادته، إلى غير ذلك ممَّا تضمَّنته الآية، نبَّههم بها على العقيدةِ الصَّحيحةِ التي هي مَحْض التَّوحيد، وعلى طرَحْ ما سواها .
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا أحدَ معبودٌ بحقٍّ سوى الله تعالى؛ فهو وحده المستحِقُّ للعبادة حبًّا وتعظيمًا له تعالى؛ لكمال صفاته .
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] .
الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
أي: إنَّ الله تبارك وتعالى هو الذي له الحياة الكاملة، التي لم يَسبِقها عَدَمٌ، ولا يَلحَقها زَوال، المُستلزِمة لجميع صِفاتِ الكمال، وهو أيضًا القائم بنفسه؛ فلا يحتاج لأحد، القائمُ بأمور غيره من خَلْقه من الرِّزق وغيره؛ فكلُّ الموجودات إليه مُفتَقِرة، ولا قِوام لها بدونه، وهذه القَيُّوميَّة مُستلزِمةٌ لجميع أفعال الكمال .
كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان: 58] .
وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم: 25] .
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.
أي: ومِن كمال حياته وقيُّوميَّته أنَّه لا يَعتريه سبحانه نُعاسٌ، ولا يَغلِبه نومٌ .
لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: إنَّه يَملِك وحده جميعَ ما في الكون بغير نِدٍّ ولا شريك، والجميعُ عبيده ومملوكون له؛ فلا تنبغي العبادةُ لغيره سبحانه .
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
أي: لا أحدَ يتجاسَر على القيام بالشَّفاعة عند الله تعالى إلَّا بعد إذنه جلَّ وعلا .
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.
أي: إنَّ الله تعالى يعلم ما بين أيدي خلقه من الأمور الماضية، ويعلم أيضًا ما خلفهم من الأمور المستقبلة .
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ.
أي: إنَّ سائر من دونه سبحانه لا يعلمون من علم الله تعالى شيئًا البتَّةَ، فلا يعلمون ما بين أيديهم ولا ما خلفهم ولا غير ذلك، إلَّا ما علَّمهم الله تعالى بمشيئته .
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.
أي: أحاطَ كرسيُّ المَلِك- تعالى وتقدَّس- بالسَّموات والأرض- على اتِّساعهما وعظمتهما- وشَمِلهما.
والكُرسيُّ: هو موضِع قَدَمَي الربِّ عزَّ وجلَّ .
فعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: (الكرسيُّ موضعُ القدميْنِ، والعرشُ لا يَقْدِرُ أحدٌ قدْرَه) .
وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا.
أي: لا يُثقِله ولا يَشقُّ عليه حِفْظ السَّموات والأرض، بل ذلك سَهْلٌ عليه ويسير .
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
أي: إنَّه تَبارك وتقدَّس ذو العُلُوِّ المطلَق على كلِّ مخلوقاته، فهو عليٌّ بذاته فوق عرشه، عليٌّ على خَلْقه بقهره، وكمال صفاته، وهو ذو العَظمة المطلَقة في ذاته وصفاته وسُلطانه، وكلُّ ما سواه حقيرٌ بين يديه، صغيرٌ بالنِّسبة إليه، فلا شيءَ أعظم منه سبحانه وتعالى .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256).
سبب النُّزول:
عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: (كانت المرأةُ من نِساء الأنصار تكون مِقلاةً ، فتَجعَل على نَفْسها إنْ عاش لها ولدٌ أن تُهوِّدَه، فلمَّا أُجليتِ النَّضيرُ كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا نَدَع أبناءَنا؛ فأنزل الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ........ الآية) .
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا اشتملتْ آيةُ الكُرسيِّ السَّابقة على دلائل الوَحدانيَّة، وعظمة الخالق، وتنزيهه عن شوائبِ ما كَفرتْ به الأمم، كان ذلك من شأنه أنْ يسوق ذوي العقول إلى قَبُول هذا الدِّين الواضِح العقيدة، المستقيم الشَّريعة، باختيارهم دون جَبْرٍ ولا إكراه، ومِن شأنه أن يَجعلَ دوامَهم على الشِّرك بمَحَلِّ السُّؤال: أيُتركَون عليه، أم يُكرَهون على الإسلام؟ فكانت الجملة استئنافًا بيانيًّا ، فقال تعالى:
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.
أي: لا ينبغي أن تُرغِموا أحدًا على اعتناق الدِّين الإسلامي؛ إذ لا حاجةَ لذلك؛ فهو أمرٌ واضحٌ وجَلِيٌّ، قدْ تَميَّز من الضَّلال، وتبيَّنت أدلَّته، وظهرتْ حقائقه، فلا خفاءَ فيه ولا غموض، فمَن هداه الله تعالى له، وشرَح صدرَه، دخَل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبَه، فإنَّه لا يُفيده الدخولُ فيه مُكرَهًا عليه.
والمقصودُ: أنَّ دِين الإسلام من حيث هو، واضحةٌ فيه معالمُ الحقِّ، ويتمايَز بجلاء عمَّا سواه من الباطل، ممَّا يُوجِب اعتناقَه مِن قِبَل كلِّ مُنصِفٍ مُرادُه اقتفاءُ الحقِّ .
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا.
أي: إنَّ مَن جحَد ربوبيَّة الطَّاغوت وأُلوهيَّته المزعومتين، فتبرَّأ منه ومن عبادته وطاعته- والطَّاغوت: هو كلُّ ما تَجاوَز به العبدُ حدَّه، من معبود، أو متبوع، أو مُطاع- وآمَن بالله تعالى وحده وجودًا ورُبوبيَّةً وأُلوهيَّةً، وبما له من أسماء حسنى، وصفات عُلا، فعبَده وقَبِل خبرَه، وأذْعن لطلبه واتَّقاه، ممتَثِلًا أمره ومجتنبًا نهيه، فإنَّه قد تَمسَّك تمسُّكًا شديدًا بأقوى رِباط، وأَحْكمِ أمر، وهو دِينُ الله تعالى الحقُّ المبرَم، وهو أَوثَق ما يُتمسَّك به لطلب العِصمة والنَّجاة، فيبقى ثابتًا على الحقِّ، مستقيمًا عليه، دون أن يَخشى انقطاعًا وانفكاكًا بخِذلان الله تعالى له وإسلامه إلى التَّهلُكة .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر: 17] .
وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 60] .
وعن قَيس بن عبَّاد قال: ((كنتُ بالمدينةِ في ناسٍ فيهم بعضُ أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فجاء رجلٌ في وجهِه أثرٌ من خشوعٍ، فقال بعضُ القومِ: هذا رجلٌ من أهلِ الجنةِ، هذا رجلٌ من أهلِ الجنةِ، فصلَّى ركعتينِ يتجوَّزُ فيهما، ثم خرَج فاتَّبَعْتُه، فدخل منزلَه، ودخلتُ، فتحدَّثنا، فلمَّا استأنس، قلتُ له: إنَّك لَمَّا دخلتَ قبلُ، قال رجلٌ: كذا وكذا، قال: سبحان اللهِ ما ينبغي لأحدٍ أن يقول ما لا يعلمُ، وسأُحدِّثك لمَ ذاك، رأيتُ رؤيا على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فقصصتُها عليه، رأيتُني في روضةٍ- ذكَر سَعَتَها وعُشْبَها وخُضْرتَها- ووسَطِ الرَّوضةِ عمودٌ من حديدٍ، أسفلُه في الأرضِ، وأعلاهُ في السَّماءِ، في أعلاهُ عروةٌ، فقيل لي: ارْقَه، فقلتُ له: لا أستطيعُ، فجاءني مِنْصَفٌ- قال ابنُ عونٍ: والمِنْصَفُ: الخادمُ- فقَال بثيابي مِن خَلْفي- وصَفَ أنَّهُ رفعَه من خلفِه بيدِه- فرقِيتُ حتى كنتُ في أعلى العمودِ، فأخذتُ بالعروةِ، فقيل لي: استَمسِك، فلقد استيقظتُ وإنَّها لفي يدي، فقصصتُها على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فقال: تلك الرَّوضةُ: الإسلامُ، وذلك العمودُ عمودُ الإسلامِ، وتلك العُروةُ عُروةُ الوُثْقى، وأنتَ على الإسلامِ حتى تموتَ، قال: والرجلُ عبدُ اللهِ بنُ سلَام )) .
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا كان الكُفْر بالطَّاغوت، والإيمانُ بالله تعالى مُتعلِّقًا بالنُّطق باللِّسان، واعتقاد القلب، قال تعالى :
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى يسمعُ كلَّ شيء، ومنه سَماعُه إعلان من أعلن الكفرَ بالطاغوتِ، والإيمانَ باللهِ، وإعلان من أعلن خلافَ ذلك، ويعلمُ أيضًا كلَّ شيء سبحانه، ومن ذلك علمه بما في صدور خلقه مِن الإيمانِ والكفرِ؛ فيُجازي كلَّ واحدٍ منهم بحسب ما يَنطِق به لسانه، وما تُضمِره نَفْسه؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .
اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
أنَّ قوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا...... الآية وقع موقِعَ التعليلِ لقوله: لَا انْفِصَامَ لَهَا؛ لأنَّ الذين كفروا بالطَّاغوت وآمَنوا بالله، قد تَولَّوُا اللهَ فصار وَلِيَّهم؛ فبذلك يَستمرُّ تَمسُّكهم بالعُروة الوُثقى، ويأمَنون انفصامَها، وبعكسهم الذين اختاروا الكُفْرَ على الإسلام، فإنَّ اختيارهم ذلك دلَّ على خَتْمٍ ضُرِبَ على قلوبهم، فلم يهتدوا، فهم يَزدادون في الضَّلال يومًا فيومًا ؛ لذا قال:
اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
أي: مَن آمَن بالله حقًّا، فإنَّه جلَّ وعلا يتولَّاه على الدوام، فيكون عونًا له ونصيرًا، ويؤيِّده ويوفِّقه، ويمكِّنه من التوغُّل شيئًا فشيئًا في طريق اليقين الأوحد، فيَخرُج من ظلمات الضَّلال، ويَخترِق حُجُبَ الشُّبهات والشَّهوات المظلِمة، فيَنكشِف له نورُ الإيمان واليقين، ويُؤتَى نَفاذَ البصيرةِ، ويتجدَّد له السموُّ في مقامات الإيمان، والصُّعود في درجات اليقين، فيُبصِر قلبُه حقائقَ الأمور أكثرَ فأكثر .
كما قال جلَّ وعلا: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 195-196] .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] .
وقال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحديد: 9] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: إنَّ الكفار يتولَّاهم الطاغوتُ؛ فهو حليفهم الذي يؤيِّدهم ويُعينهم، ويُغوِيهم بدعوى نَصْرهم، وطَلَب فلاحِهم، ومن أعظم الطَّواغيت الشَّيطان؛ فإنَّه يُسلَّط عليهم؛ عقوبةً لهم، فيُزعِجهم إلى الضَّلال إزعاجًا، فيُخرِجهم من الإيمان- إنْ كانوا مؤمنين من قبل- أو يُخرِجهم من نور الفِطرة السَّليمة، أو يُزيِّن لهم مرَّة بعد مرَّة ما هم عليه من الكُفْر والشِّرك، فيَظلُّون باقين في تلك الحُجُبِ المظلِمة التي تزداد كثافةً، وتَحجُب عن أبصارِ قلوبِهم رؤيةَ حقائقِ الإيمان وأدلَّته وطريقه، إلى أنْ يَحينَ انتقالُهم إلى مُستقرِّهم الأخير، فيُلازِمون النَّارَ بلا نهاية، وبئس المصير

.
كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 121-122] .
وقال جل وعلا: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء: 116-121] .
وقال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 39-40] .
الفوائِد التربويَّة :

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ دلالةٌ على أنَّ الإنفاق من مقتضى الإيمان، وأنَّ البُخْل نقْصٌ في الإيمان؛ ولهذا لا يكون المؤمن بخيلًا؛ المؤمن جَوَادٌ بعِلمه، جَوَاد بجاهه، جواد بماله، جواد ببَدَنه
.
2- في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ إشارةٌ إلى أنَّه لا مِنَّةَ للعبد على الله ممَّا أنفقه في سبيله؛ لأنَّ ما أنفقه من رِزْق الله له .
3- التَّنبيه على أنَّ الإنسان لا يُحصِّل الرِّزقَ بمجرَّد كسْبه؛ الكسبُ سببٌ، لكنَّ المسبِّب هو الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ؛ فلا ينبغي أن يُعجَب الإنسانُ بنفسه حتى يجعل ما اكتَسبه من رِزقٍ مِن كسْبه وعمَله، كما في قول القائل: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] .
4- تسلية الإنسان على المصائِب، ورِضاه بقضاء الله عزَّ وجلَّ وقَدَرِه؛ لأنَّه متى عَلِم أنَّ المُلْك لله وحده، رضي بقضائه؛ كما في قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ .
5- التَّحذير من الطُّغيان على الآخَرين؛ لقوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ؛ ولهذا قال الله في سورة النِّساء: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء: 34] ؛ فإذا كنتَ مُتعاليًا في نفْسك فاذكُر عُلُوَّ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وإذا كنتَ عظيمًا في نفْسك فاذكُر عظمةَ الله، وإذا كنتَ كبيرًا في نفْسك فاذكُر كبرياءَ الله .
6- أنَّه لا يَتِمُّ الإخلاص لله إلَّا بنفي جميع الشِّرك؛ لقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ، فمَن آمَن بالله، ولم يَكفُرْ بالطاغوت، فليس بمؤمن

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- أنَّ الكافرين لا تَنفَعهم الشفاعةُ؛ لأنَّه تعالى أَعقَب قولَه: وَلَا شَفَاعَةٌ بقوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، ويؤيِّد ذلك قولُه تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48]
.
2- قوله: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ: انتفاءُ البيع والخُلَّة والشَّفاعة فيه كِنايةٌ عن تَعذُّر التَّدارك للفائت؛ لأنَّ المرء يُحصِّل ما يَعوزه بطُرُق، هي المعاوضَة المعبَّر عنها بالبيع، والارتفاق من الغير، وذلك بسببِ الخُلَّة، أو بسبب توسُّط الواسطة إلى مَن ليس بخليل، وهي الشَّفاعة .
3- أنَّ الكُفْرَ أعظمُ الظُّلم؛ ووجه الدَّلالة منه: حَصْر الظُّلم في الكافرين؛ وطريق الحَصْر هنا ضمير الفصل: هُمْ ، ودخول (أل) على الخبر الظالمون، مما يشعر أنَّهم حصَّلوا الوصف الكامل من الظلم.
4- قوله سبحانه: الحَيُّ القَيُّومُ: اسمان كريمان يَدُلَّانِ على سائر الأسماء الحسنى دَلالةَ مطابقةٍ وتضمُّنٍ ولُزومٍ؛ فالحيُّ: مَن له الحياة الكاملة المُستلزمة لجميع صِفات الذَّات، كالسَّمع والبَصر والعِلم والقُدرة، ونحو ذلك، والقيُّوم: هو الذي قام بنَفْسِه وقام به غيرُه، وذلك مستلزمٌ لجميع الأفعال التي اتَّصف بها ربُّ العالَمين مِن فِعله ما يشاء، من الاستواءِ والنُّزول والكلام والقَول والخَلْق والرَّزْق والإماتة والإحياء، وسائرِ أنواع التَّدبير، كلُّ ذلك داخلٌ في قيوميَّة الباري عزَّ وجلَّ .
5- في قوله تعالى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لم ينفِ الله سبحانه ذكر النوم وحده؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ السِّنَةَ يجوزُ أن تَطْرُقَه، فيُزيل تمكُّنها بنحو ما يَفعَلُ البَشرُ، من نحو مشيٍ، وضربٍ للوجه بماءٍ وغير ذلك، ولم يَذْكُر السِّنة وحدها؛ لأنَّ النوم ربما يهجم بقوة، دفعة واحدة، من غير تدرُّجِ فتورٍ .
6- قُدِّمَت السِّنة على النوم، قيل: مراعاةً للترتيب الوجودي، فلتقدُّمها على النوم في الخارج؛ قُدِّمَت عليه في اللفظ ، وقيل: لأجل التعبير بالأخذ الذي معناه القهر والغلبة قُدِّمت السِّنة، كما لو قيل: فلانٌ لا يغلبه أميرٌ ولا سلطان .
7- احتجَّ بعضُ أهل العلم بقوله تعالى: لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ على أنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله تعالى؛ لأنَّ قوله سبحانه: لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يتناول كلَّ ما في السموات والأرض، وأفعالُ العِباد من جُملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون مُنتسبةً إلى الله تعالى .
8- أنَّ الحُكْم الشَّرعي بين النَّاس، والفصل بينهم، يجب أنْ يكون مُستنِدًا على حُكْم الله تعالى، وأنَّ اعتماد الإنسان على حُكْم المخلوقين، والقوانين الوضعيَّة نوعٌ من الإشراك بالله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الملْك لله عزَّ وجلَّ؛ كما في قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .
9- إثبات الإذن -وهو الأمْر-؛ لقوله تعالى: إِلَّا بِإِذْنِهِ، وذلك الإذن يتعلَّق بالشَّافع والمشفوع فيه، وبوقت الشَّفاعة؛ فليس يَشفعُ إلَّا مَن أذِن الله له في الشَّفاعة، وليس له أن يَشفَعَ إلَّا بعد أنْ يأذنَ الله له، وليس له أنْ يَشفعَ إلَّا فيمَن أذِن الله تعالى له أن يَشفعَ فيه؛ قال تعالى: كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] ، وقال أيضًا: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] ، وقال: مَا مِنْ شَفِيعٍ إلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] .
10- في قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إثباتُ الشفاعة، والردُّ على الخوارج والمعتزلة؛ فهم ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأنَّ مذهبَهما أنَّ فاعل الكبيرة مُخلَّدٌ في النار لا تَنفع فيه شفاعةٌ .
11- في قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ: ردٌّ على القدرية الغلاة؛ فإثبات عموم العِلم يردُّ عليهم؛ لأنَّهم أنكروا عِلمَ الله تعالى بأفعال خَلْقه قَبلَ وقوعِها .
12- أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يُحاط به عِلْمًا، كما لا يُحاط به سمعًا ولا بصرًا؛ قال تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] ، وقال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110] .
13- عظمة خالِق الكُرْسيِّ؛ لأنَّ عِظَم المخلوق يَدُلُّ على عظمة الخالق .
14- إثبات ما تتضمَّنه هذه الجُملة: وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا، وهي العِلْم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والحِكمة، والقوَّة .
15- أنَّ السَّمواتِ والأرضَ تحتاج إلى حِفْظ؛ لقوله تعالى: وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا، ولولا حِفْظ الله لفَسَدتا؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر: 41] .
16- في قوله تعالى: وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا أي: السَّموات والأرض، لم يتعرَّض لذِكر ما فيهما؛ لأنَّ حفظهما مستتبعٌ لحفظه، وخصَّهما بالذِّكر دون الكرسيِّ؛ قيل: لأنَّ حِفظهما أمرٌ مشاهدٌ محسوس .
17- في قوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ ردٌّ على الحُلوليَّة، وعلى المعطِّلة النُّفاة؛ فالحُلوليَّة قالوا: إنَّه ليس بعالٍ؛ بل هو في كلِّ مكان، والمعطِّلة النُّفاة قالوا: لا يُوصَف بعُلوٍّ ولا سُفْل، ولا يمين ولا شِمال، ولا اتِّصال ولا انفِصال .
18- أفاد قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ أنَّه ليس هناك إلَّا رُشْدٌ أو غيٌّ؛ لأنَّه لو كان هناك ثالث لذُكِر؛ لأنَّ المقام مقام حَصْر، ويَدُلُّ على هذا قولُه تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: 32] ، وقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] .
19- أنَّ كلَّ ما عُبِد من دون الله فهو طاغوت؛ لقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ، ووَجْه هذا: أنَّه سبحانه وتعالى جعل الكُفْر بالطَّاغوت قسيمًا للإيمان بالله، وقسيم الشِّيء غيرُ الشيء، بل هو مُنفصِل عنه .
20- أنَّه لا نَجاةَ إلَّا بالكُفْرِ بالطَّاغوت والإيمانِ بالله؛ لقوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى .
21- أنَّ الأعمالَ تتفاضَل؛ يؤخَذ ذلك مِن اسم التَّفضيل: الْوُثْقَى ؛ لأنَّ التَّفضيل يقتضي مُفضَّلًا، ومُفضَّلًا عليه؛ ولا شكَّ أنَّ الأعمال تتفاضل بنصِّ القرآن والسُّنة

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَا شَفَاعَةٌ فيه إطلاقُ العامِّ وإرادة الخصوص به؛ إذ المعنى: ولا شفاعة للكُفَّار، أو: ولا شفاعة إلَّا بإذن الله، فعلى الخصوص بالكفَّار: لا شفاعةَ لهم ولا منهم، وعلى تأويلِ الإذن: لا شَفاعة للمؤمنين إلَّا بإذنه
.
2- قوله: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) فيه من أنواع الفصاحة وعِلْم البيان:
- حُسن الافتتاح؛ لأنَّها افتُتِحت بأجلِّ أسماء الله تعالى ؛ فهذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولًا استبشر به؛ كذلك للتبرك بتقديم ذكر اسم الله عز وجل، ولإظهار المنَّة على هؤلاء بأنَّ الله هو الذي امتنَّ عليهم أولًا، فأخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور .
- تأكيدُ الخبر باسميَّة الجُملة، ونَفْي الأُلوهيَّة عمَّن سوى الله تعالى بـ(لا، وإلَّا) .
- لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ: فيه تَكرار حرْف النَّفي (لا)، وفائدته: بيان انتفائهما على كلِّ حال؛ إذ لو أُسقِطتْ (لا) وقيل: (لا تأخذه سِنَةٌ ونومٌ)، لاحتَمَل انتفاؤهما بقَيدِ الاجتماع .
- قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: (ما): للعموم تَشمَل كلَّ موجود، واللام للمِلْك؛ أخبر تعالى أنَّ مظروفَ السَّموات والأرض مِلكٌ له تعالى، وكرَّر (ما)، للتَّوكيد . وفيه توكيد الخبر باسميَّة الجملة، والصِّلة، وتقديم ما حقُّه التأخير (له) . ويُفيد اختصاص الله تعالى بهذا الملْك؛ لأنَّ الخبرَ حقُّه التَّأخير؛ فإذا قُدِّم أفاد الحصرَ .
- وقوله: يَعْلَمُ...: تقرير وتكميل لِمَا تضمَّنه مجموع جُمْلتَي الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، ولما تضمَّنته جملةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فإنَّ جُمْلتَي الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ دلَّتَا على عموم عِلْمه بما حدَث، ووُجِد من الأكوان، ولم تَدلَّا على عِلْمه بما سيكون، فأكَّد وكمَّل بقوله يَعْلَمُ... الآية، وهي أيضًا تعليلٌ لجُملة مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ولأجْل هذين المعنيين فُصِلتْ الجملةُ عمَّا قبلها، أي: لم تُعطَف عليها بالواو .
- وفي هذه الآية العظيمة ترتَّبتِ الجُملُ من غير حرف عطفٍ؛ ففيها ما يُسمَّى بالفَصْل في عِلْم المعاني؛ وذلك لأنَّه ما منها جُملةٌ إلَّا وهي واردةٌ على سبيل البيان لِمَا ترتَّبت عليه، والبيان مُتَّحِد بالمُبين، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب: بين العصا ولِحائها، فاتَّحد البيانُ بالمُبين في تصوير المُلْك الحقيقيِّ الذي لا يُنازَع فيه، بأرشقِ عبارةٍ، وأدقِّ وصْف .
- وقوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ قيل: عُطِفت هذه الجملةُ على ما قبلها، وهو قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ؛ لمغايرتها لها؛ لأنَّ هذه تُشعر بأنَّه سبحانه يَعلمُ كلَّ شيءٍ، وتلك تُفيد أنه لا يَعلمُه غَيرُه، ومجموعهما دالٌّ على تفرُّده تعالى بكمال العِلم .
- وتضمَّنت الآيةُ كذلك مِن الإيجاز ما لا مَطمحَ فيه لتقليد أو مُحاكاة؛ فقد اشتَملت آيةُ الكُرْسيِّ على ما لم تَشتمِل عليه آيةٌ مِن آياتِ الله سبحانه، وذلك أنَّها مُشتَمِلة على سَبعة عشرَ موضِعًا فيها اسمُ الله تعالى ظاهرًا في بعضها، ومُستكِنًّا في بعضها الآخر، وقد أوصلها البعضُ إلى واحد وعشرين، وهذا مِن أدقِّ مباحث عِلم المعاني .
3- قوله: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ فيه مَعدولُ الخِطاب ، أي: جاء الخطابُ بصِيغة الخبرِ، لكنَّ معناه الأمْر - إذا كان المعنى لا تُكرِهوا على الدِّين أحدًا .
4- قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ قدَّم ذِكْرَ الكُفْر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ لإظهار الاهتمامِ بوجوب الكُفْر بالطاغوت ، ولأنَّه من باب التخلية قبلَ التحلية.
5- وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه التصريحُ بلفظِ الجَلالة (الله)؛ لإدْخال الرَّوعةِ وتربية المهابة، وفيه توكيدُ الخبرِ باسميَّة الجُمْلة، والتعبير بصيغة فعيل (سميع- عليم) للمُبالغةِ في الوَصْف .
6- في قوله: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
جَمَع الظُّلماتِ وأفْرَد النورَ؛ لسرٍّ بلاغيٍّ عجيب، وهو الإشارة إلى وَحْدة الحقِّ، وتعدُّد أنواعِ الظُّلمات التي هي الضَّلالات، وما أكثرَها! ولأنَّ طريق الحقِّ واضِحةُ المعالم، لا لَبْس فيها، ولا تَشعُّب في مسالكها، أمَّا طريق الضلال؛ فهي مُلتَبِسةٌ على مَن يَسلُكها .

===============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (258-260)
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
غريب الكلمات:

فَبُهِتَ: انقَطع، وذهبتْ حُجَّتُه، ودَهِش وتحيَّر
.
خَاوِيَةٌ: خالية، وخراب؛ فأصْلُ الخَوَاء: الخلوُّ، والسُّقوط، والخلاء .
عُرُوشِهَا: سُقُوفها، وأصْل العَرْش: الارتفاعُ في شيء مبني .
أَنَّى: حرْف للبحث عن الحال والمكان، بمعنى (كيف) و(أين)؛ لتضمُّنه معناهما .
لَمْ يَتَسَنَّهْ: لم يتغيَّر بمرِّ السِّنينَ عليه، مأخوذ من السَّنَهْ، وأصْله يتسنَّن، أُبدِلت النُّونُ هاءً .
نُنْشِزُهَا: نُحْيِيها، ونرفعها إلى مواضِعها، ونُحرِّك بعضَها إلى بعض؛ فأصْل النَّشْزِ: الارتفاع والعُلُوُّ .
فَصُرْهُنَّ: أمِلْهُنَّ إليك، واجْمَعهن، وضُمَّهنَ إليكَ، أو صِحْ بِهِنَّ، وصِرهنَّ- بكسر الصَّاد -: قطِّعهنَّ .
سَعْيًا: السَّعي: المشي السَّريع دون العَدْو، وقيل: المعنى هنا: عَدوًا، ويُقال: مشيًا على أرجُلهنَّ؛ لأنَّه لا يُقال للطَّائر إذا طار: سعَى

.
مشكل الإعراب:

قوله: يَأْتِينَك سعيًا: سعيًا: مصدرٌ واقِع موقعَ الحال من ضَمير الطَّير، أي: يأتينك ساعيات، أو ذواتِ سعيٍ، وقيل: هو حالٌ من المخاطَب (إبراهيم عليه السلام) أي: يأتينك وأنتَ تَسعى سعيًا. وقيل غير ذلك

.
المعنى الإجمالي :

يُخبِر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن قصَّة الرَّجل الذي وهَبه اللهُ المُلكَ حين خاصَمَ نبيَّ الله إبراهيمَ عليه السَّلام، وناظَرَه في وجود الله ورُبوبيَّته وأُلوهيَّته، وما حمَله على ذلك وجرَّأه عليه إلَّا المُلْكُ الذي أعطاه اللهُ له، فاستَكبَر وطغى، وأَنكَر وجودَ الله جلَّ وعلا، فأخبره إبراهيمُ عليه السَّلامُ أنَّ الله يُحيي ويُميت، مُستدِلًّا بذلك عليه السَّلامُ على وجود الربِّ تعالى وربوبيَّته وأحقِّيَّته وحده بالعبادة، فردَّ عليه المَلِك- عنادًا- أنَّه أيضًا يَملِك أن يَفعَل هذا الفِعلَ؛ فالإحياء باستبقاء مَن أراد قتْله، أو الإماتة بقتْل مَن أراد إماتته فردَّ إبراهيم عليه السَّلام عليه أنَّ الله َيأتي بالشَّمس كلَّ يوم من جِهة المشرِق، فإنْ كان إلهًا حقًّا، يُحيي ويُميت، فليَجْعلها تَطلُع من جِهة المغرِب، فحينها عَلِمَ ذلك المُحاجِجُ أنه عجَز وانقَطَع عن الإدلاء بحُجَّة، فتحيَّر واندهَش، والله تعالى لا يُوفِّق مَن ظلَم نفسَه بإيثاره الكُفْرَ على الإيمان.
ثم ذكَر الله لنبيِّه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قصَّة الرَّجلِ الذي مرَّ على قرية فارغة، قد مات أهلها جميعًا، وقد خَرِبتْ أَبنيتُها، فتساءل مُستَبعِدًا: كيف يُمكِن أنْ يُعيدَ اللهُ الحياةَ إلى ما كانت عليه سابقًا؟ فقبَض اللهُ رُوحَه مئةَ عامٍ، ثم أحياه بَعدَها، وسألَه عن المدَّة التي لَبِثها في هذا المكان، فكان جوابه: أنَّه لَبِث إمَّا يومًا أو بعضَ يوم، وظنَّ أنَّه كان نائمًا فاستيقظ، فقال له جلَّ وعلا: بل مَكثتَ مئةَ عامٍ، فشَاهِدْ ما معك من طعامٍ وشراب لم يُغيِّره مرورُ كلِّ هذا الوقتِ، مع كَونهما من أسرع الأشياء تغيُّرًا، وشَاهِدْ حمارَكَ وقد مات وبَلِيتْ عِظامُه، وليجعلك الله للناس حُجَّةً على قدْرته سبحانه، وشاهِدِ العِظامَ الباليةَ لحمارك؛ كيف يُحْييها الله، ويُغطِّيها باللحم، فلمَّا اتَّضَح له، أَمَره اللهُ أنْ يَتيقَّن أنَّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، فأقرَّ حينها بيقينِه بذلك.
ثم ذكَر اللهُ لنبيِّه قصَّةَ إبراهيم عليه السَّلام، حين طلَب من ربِّه أن يجعلَه يُشاهِد بعينَيه كيفيَّةَ إحياءِ اللهِ للموتى، فقال له الله تعالى: أَوَلستَ مؤمنًا؟ فأجاب نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام: بأنَّه مؤمن، ولا يَعْتريه أيُّ شكٍّ، ولكنْ أراد أنْ يَزداد طُمأنينةً، فأَمَره تعالى أنْ يأخذ أربعةً من الطُّيور، ويَذبحهنَّ ويُقطِّعهنَّ، ثم يُفرِّقهنَّ على رؤوس عِدَّة جبال، ثم يَدْعوهنَّ فيَجئنَ إليه مُسرِعات، ففعل ذلك فأقْبَلْنَ إليه طائرات، فأَمَره اللهُ تعالى أنْ يتيقَّن أنَّه تعالى عليمٌ حكيم.
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى أنه يُخرِج الذين آمَنوا من الظُّلماتِ إلى النُّور، وأنَّ الطَّاغوت يُخرِجون الذين كفروا من النُّور إلى الظُّلمات، ساق ثلاثةَ شواهدَ على ذلك، هذا أوَّلُها وأجمعها؛ لأنه اشتَمَل على ضَلالِ الكافر، وهُدى المؤمن؛ فكان هذا في قوَّة المِثال
، فقال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ.
أي: ألم تَنظُر يا محمَّد، بقلبك مُتعجِّبًا من هذا المَلِك الذي خاصَم إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلام، وناظَرَه في وجود ربِّه ورُبوببيَّته وأُلوهيَّته؟ هل رأيتَ أحدًا مِثْله يُنكِر أن يكون ثَمَّ إلهٌ غيره؟ وما حمَله على هذا التجرُّؤ والتجاهل والمحاجَّة فيما لا يَقبَل الشكَّ، إلَّا طغيانُه وتجبُّره؛ بسبب تملُّكه على رعيَّته مُلْكًا لا يُنازِعه أحدٌ فيه لمدَّةٍ طويلة، فاستكبَر وبغى، فأَنكَر وجودَ العليِّ الأعلى .
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
أي: ألم ترَ- يا محمَّد- إلى ذلك المُحاجِج في أمرِ الربِّ عزَّ وجلَّ، حين أخبَره إبراهيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام بدليلٍ يُثبِت وجودَ الربِّ ورُبوبيَّته وأحقِّيَّته وحده بالعبادة؛ فهو الخالق المالك المدبِّر، المُنفرِد بأنواع التصرُّف، وقد ذكَر إبراهيمُ منها على سبيل الخصوص: الإحياءَ والإماتةَ، وهي مِن أعظم أنواع التَّدابير التي لا يَقدِر عليها أحدٌ سوى الله تعالى، فيُحْيِي ما كان ميتًا ممَّا يَشاء مِن خَلْقه، ويُميتُ مَن أراد إماتتَه من الأحياء، فحدوثُ هذه الأشياء المشاهَدة بعد عَدَمِها، وعدمها بعد وجودها- دليلٌ قاطِع وواضحٌ على وجود الفاعل المختار؛ لأنَّها لم تَحدُث بنفسها، فلا بدَّ لها من مُوجِدٍ أَوجَدَها، وهو الربُّ الذي دعا إبراهيمُ إلى عبادته وحده لا شريكَ له، فحينها ردَّ عليه المَلِك مُستكبِرًا ومُوهِمًا بأنَّه يَملِك فِعْلَ ذلك أيضًا، غير مُنكِر أنَّ الله تعالى يفعله؛ إذ لم يَقصُر الأمرَ على نفْسه، التي ادَّعى لها هذا المقامَ عنادًا ولَجاجًا بالباطل، مُدَّعيًا أنَّ استبقاءه مَن أراد قتْله، إحياءٌ منه له، وقتْلَه لآخَر إماتةٌ له .
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.
أي: لَمَّا أصرَّ هذا الكافرُ على المُغالطةِ والمُكابَرة، ردَّ عليه إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام من خلال ما زعَمه، بأنَّه إنْ كان حقًّا صادقًا في دعواه بأنَّه يَملِك القُدرةَ على الإحياء والإماتة؛ فإنَّه ينبغي أن يكون قادرًا كذلك على التصرُّف في الوجودِ كتسخير كواكبه، قائلًا: هذه الشَّمس الظَّاهرة للعِيان يُحرِّكها اللهُ الذي أَعبُده، فيأتي بها كلَّ يوم لتَطلُع من جِهة المَشرِق، فإن كنتَ إلهًا تُحيي وتُميت كما تَزعُم، فاجعلْها تَطلُع من جِهة المغرب .
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.
أي: لَمَّا عَلِم هذا المُحاجِجُ عجزَه وانقطاعَه عن الإدلاء بحُجَّة- إذ لا قِبَل له بإيراد شُبْهة تُشوِّش دليلَ إبراهيم عليه السَّلام، ولا عَرْضِ قادحٍ يَقْدَح فيه- تَحيَّر واندهش، فأُخرِس مغلوبًا، وبَطَلت حُجَّته، وقامت عليه حُجَّة الحقِّ .
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنَّ الله تعالى لا يُوفِّق أهلَ الباطلِ الذين ظلموا أنفسَهم بإيثارهم الكُفْرَ على الإيمان، بل يُبقِيهم على كُفْرهم وضَلالهم، ولو كان قَصْدهم الهدايةَ إلى الحقِّ، لوفَّقهم ويسَّر لهم الوصولَ إليه، فحُجَجهم باطِلة، لا يُمكِن أنْ يُبطِلوا بها حُججَ أهلِ الحقِّ عند المحاجَّة والمُناظَرة .
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قرَّر بالآية السابقة ثبوتَ انفرادِ الله بالإلهيَّة، وذلك أصل الإسلام، أَعْقَب بإثبات البعثِ، الذي إنكاره أصْلُ أهلِ الإشراك فقال تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.
أي: أَلَمْ تَنظُر أيضًا يا محمَّد، مُتعجِّبًا من هذا الرجل الذي مرَّ على قرية فارِغةٍ، قد فَنِي أهلُها فماتوا جميعًا، وقد سقطت سُقُوفُها، وخرَّت الجِدران عليها، فخَرِبتْ أبنيتُها، فأصبحت مُوحِشةً بلا أنيس، مُقْفِرةً بلا عمارة .
قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: لَمَّا مرَّ هذا الرجُلُ بذلك الموضِع الخَرِب الذي كان عامرًا بالحياة، مأهولًا بالسُّكان، وقَف عليه مُتفكِّرًا فيما آل إليه حالُ هذا المكان، فتساءل مُستبعِدًا كيف يُمكِن عَوْد الحياة إلى ما كانت عليه سابقًا .
فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
أي: إنَّ الله تعالى أراد أن يُريَه قُدرتَه على ما استَبْعَدَه، بضرْب المَثَل له في نَفْسه، فقبَض اللهُ سبحانه رُوحَه، وظلَّ مَيِّتًا لمدَّة مئة عامٍ كاملة، ثم أحياه الله عزَّ وجلَّ، فسأله عن مدة مُكْثه في هذا المكان، فأجاب- شاكًّا- بأنَّ لُبْثه لن يعدو يومًا كاملًا أو جزءًا من يوم، ظنًّا منه أنَّه كان نائمًا فاستيقظ، قيل: لأنَّه مات في أوَّل النَّهار وبُعِث في آخره بعد مِئة عام، فظنَّ لما رأى آخِرَ النَّهار أنَّه بقيَّة يومه الذي كان فيه حيًّا، أو أنَّه آخِر النَّهار من اليوم التَّالي .
قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ.
أي: ليس الأمرُ كما ذكرتَ، فلمْ تَمكُث يومًا أو بعضَ يوم، وإنما مكثتَ مئة عامٍ بتمامها، فلْتُشاهِد الآن خوارقَ العادتِ الدَّالَّة على قُدْرة الربِّ عزَّ وجلَّ، فانظُرْ أولًا إلى ما بحوزتك من طعامٍ وشراب، فإنه لم يتغيَّر مُطلَقًا بمرور كلِّ تلك السِّنين، خلافًا لما جرتْ به العادة، فإنَّ الطعامَ والشَّراب من أسرع الأشياء تغيُّرًا .
وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ.
أي: انظُر بعينَي رأسِك إلى حمارك، وقد مات وتمزَّق لحمُه وجِلدُه، وتفرَّقت أوصالُه، وبَدَتْ عِظامُه النَّخِرة؛ فانظر كيف يُحيِيه اللهُ عزَّ وجلَّ ؟
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
أي: أَمتْناك مِئةَ عامٍ، ثمَّ بعثناك لنُصيِّرك حُجَّةً ودليلًا وعلامةً مرئيَّةً على قدرة الله تعالى، القادر وحده على فِعْل ما يشاء مِن إحياء وإماتة، وعلى إثبات البعثِ من القبور يوم القيامة؛ مِصداقًا لما أَخبَرتْ به رُسلُ الله عليهم السَّلام، وذلك لمن عرَفه مِن ولدِه وقومه ممن عَلِم موته، فرأوا ذاته وتحقَّقوا صفاتِه، ولعموم النِّاس كذلك .
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: نُنْشِزُهَا قراءتان:
1- نُنْشِزُهَا من النَّشَز، وهو: ما ارتفع مِن الأرضِ، والمعنى: نجعلُها بعدَ بِلاها وهمودِها ناشزةً، أي: نرفعُ بعضَها إلى بعضٍ .
2- نُنْشِرُهَا من الإنشارِ، وهو الإحياءُ، أي: نُحييها بعدَ موتِها .
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا.
أي: انظُر عيانًا إلى تلك العِظام البالية المتفرِّقة لحمارك، وشاهِدْ كيف نُحْييها، وهي ترتفعُ من الأرض فتتَّصلُ ببعضها، فنردُّها إلى مواضعها من الجسد، ونَستُرها باللَّحمِ بعد التئامها، فأحيا الله عزَّ وجلَّ الحِمارَ بالإعادة، من بعد تَحلُّل جَسدِه .
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: قَالَ أَعْلَمُ قراءتان:
1- قراءة اعْلَمْ على معنى أنه أمرٌ من الله عزَّ وجلَّ له بالعلم .
2- قراءة أَعْلَمُ على معنى أنَّ ذلك من مقالة الذي أحياه الله تعالى .
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: فلما اتَّضح له ما كان مُستبعِدًا وقوعه، وظهر له عيانًا، أمره الله سبحانه أن يُدرِك الآن إدراكًا جازمًا بأنَّ الذي فعَل تلك الأشياء العجيبة بقدرته، قادِر أيضًا على أيِّ شيء أراده، فلا يُعجِزه شيء أبدًا، فقال: أُوقِن مطمئنًّا الآن- أكثرَ من أيِّ وقت مضى- بقُدرةِ الله، التي ليستْ لها حدودٌ .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
أنَّ في هذه الآية والتي قبلها دَلالةً على البَعْث المنسوب إلى الله تعالى، في قول إبراهيم للملك الذي خاصمه رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، لكنَّ المارَّ على القريةِ أراه اللهُ ذلك في نفْسِه وفي حماره، وإبراهيم أراه الله ذلك في غيره .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى.
أي: واذْكُرْ يا محمَّد، حين طلَب إبراهيمُ عليه السَّلام من ربِّه أنْ يُشاهِد بعينيه كيفيَّةَ إحياء الموتى .
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
أي: فقال الله تعالى لخليله عليه السَّلام: أَوَلستَ قد آمنتَ؟ يعني: أنَّه ما دُمتَ قد آمَنتَ فلِمَ تَطلُبُ هذه الرؤيةَ؟ فأجاب نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه مؤمن، لا يَعْتري إيمانَه أدنى شكٍّ، ولكنَّه لفَرْط محبَّته للوصولِ إلى مرتبةِ المُعايَنة، رامَ الترقِّي من درجة عِلْم اليقين إلى عَين اليقين، حتى يزدادَ إيمانًا، ويزدادَ قلبُه طُمأنينةً .
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ.
أي: أجاب اللهُ تعالى طلبَه، فأَمَره أنْ يأخذ أربعةَ طيور، وأنْ يَذبَحهنَّ ويُقطِّعهنَّ؛ ليكون ذلك بمرأًى منه، ولِيَتِمَّ الأمرُ على يديه .
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا.
أي: أَمَر اللهُ تعالى إبراهيمَ عليه السَّلام بتفريق أعضاء الطُّيور الأربعة التي قطَّعهنَّ، وقام بتَنْحِيتهنَّ عنه، بتَبدِيدهنَّ أجزاءً على رؤوس عدَّة جبالٍ؛ لتكون ظاهرةً للعِيان، وأَمَره أنْ يدعوهنَّ، ليُقبِلنَ عليه مُسرِعات، ففعل إبراهيمُ عليه السَّلام ذلك، وجئنَ طائراتٍ على أكمل ما يكون من الحياة .
قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] .
وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: اعْلَم يا إبراهيمُ، أنَّ الذي فعَل ذلك له كمالُ العِزَّة، فلا يَغلِبه شيءٌ، ولا يَستعصي عليه شيٌء أراده، وأنَّ أفعاله وأقواله وأقداره وشرائعه كلَّها صادرةٌ عن كمال حِكْمته؛ فيَضَع كلَّ شيء في مُوضِعه الصَّحيح، ولا يَفعل- أبدًا- شيئًا عبثًا

.
الفوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ دلالةٌ على أنَّ النِّعم قد تكون سببًا للطُّغيان؛ لأنَّ هذا الرجُل ما طغى وأَنكَر الخالقَ؛ إلَّا لأنَّ الله آتاه الملْك؛ ولهذا أحيانًا تكون الأمراضُ نعمةً من الله على العبد؛ والفقر والمصائب تكون نعمةً على العبد؛ لأنَّ الإنسان إذا دام في نعمة، وفي رَغَدٍ، وفي عيشٍ هَنِيء، فإنَّه ربَّما يَطْغى، وينسى الله عزَّ وجلَّ
.
2- أنَّ اللهَ لا يمنع فضلَه عن أحدٍ إلَّا إذا كان هذا الممنوع هو السَّببَ؛ لقوله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ فلظُلْمهم لم يَهدِهم اللهُ، وهذا كقوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
3- التَّحذير من الظُّلم؛ لقوله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ ومن الظُّلم أنْ يَتبيَّن لكَ الحقُّ فتُجادِل لنُصْرة قولِكَ؛ لأنَّ العدل أنْ تَنصاعَ للحقِّ، وألَّا تُكابِر عند وضوحه؛ ولهذا ضَلَّ مَن ضلَّ مِنْ أهل الكلام؛ لأنَّه تَبيَّن لهم الحقُّ، ولكنْ جادَلوا؛ فبَقُوا على ما هم عليه من ضَلالٍ .
4- في قوله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: دلالةٌ على أنَّه كلَّما كان الإنسانُ أظلمَ كان عن الهِداية أبعدَ؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ علَّق نَفْي الهدايةِ بالظُّلم؛ وتعليق الحُكْم بالظُّلم يدلُّ على عِلِّيَّتِه؛ وكلما قويتِ العِلَّةُ قوي الحُكْم المُعلَّق عليها .
5- أنَّ مَن أخَذ بالعدل كان حَرِيًّا بالهِداية؛ لمفهوم المُخالفة في قوله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .
6- جوازُ امتِحان العبدِ في معلوماته؛ لقوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ .
7- جواز إخبار الإنسان بما يَغلِب على ظنِّه؛ لقوله تعالى: قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ مع أنَّه لَبِث مئةَ عام .
8- أنَّه ينبغي التَّفكُّر فيما خلَقه الله عزَّ وجلَّ، وأَحدَثه في الكون؛ لأنَّ ذلك يَزيد الإيمانَ، حيث إنَّ هذا الشيء آيةٌ مِن آياتِ الله؛ كما في قوله: فَانْظُرْ... .
9- أنَّه ينبغي النَّظر إلى الآيات على وَجْه الإجمالِ والتَّفصيل؛ لقوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ: مُطلَق، ثم قال تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا... إلخ؛ فيقتضي أنْ نتأمَّل أوَّلًا في الكون من حيث العموم، ثُمَّ من حيث التفصيل؛ فإنَّ ذلك أيضًا يَزيدنا في الإيمان .
10- أنَّ الإنسان بالتَّدبُّر والتَّأمُّل والنَّظر يَتبيَّن له مِن آياتِ الله، ما لا يَتبيَّن لو غَفَل؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ إلخ .
11- أنَّه يَلزَم من النَّظر في الآيات العلمُ واليقينُ؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- أنَّ المحاجَّة لإبطال الباطل، ولإحقاق الحقِّ من مقامات الرُّسل؛ لقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ...
.
2- في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، إشارةٌ إلى أنَّه يَنبغي للإنسان أن يتعلَّم طُرُقَ المناظَرة، والمحاجَّة؛ لأنَّها سُلَّم، ووسيلة لإحقاق الحقِّ، وإبطال البَاطل .
3- أنَّ مُلْك الإنسان ليس مُلْكًا ذاتيًّا من عند نفسه؛ ولكنَّه مُعطًى إيَّاه؛ لقوله تعالى: أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ؛ وهذه الآية كقوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ .
4- إثبات الأفعالِ الاختياريَّة لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: يُحْيِي وَيُمِيتُ .
5- أنَّ الإنسانَ المُجادِل قد يُكابِر فيدَّعي ما يعلم يقينًا أنَّه لا يَملِكه؛ لقول الرجل الطاغية: قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ؛ ومعلوم أنَّ هذا إنَّما قاله في مضايقة المحاجَّة؛ والإنسان في مضايقة المحاجَّة ربَّما يَلتزِم أشياء هو نَفْسه لو رجَع إلى نفسه لعَلِم أنَّها غير صحيحة، لكن ضَيق المُناظَرة أَوجَب له أنْ يقول هذا؛ إنكارًا أو إثباتًا .
6- أنَّ الحقَّ لا تمكن المُجادَلة فيه؛ لقوله تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ .
7- الردُّ على القَدَريَّة؛ لقوله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ الإنسانَ حرٌّ: يَهتدي بنفسه، ويَضِلُّ بنفسه؛ وهذه الآيةُ واضحة في أنَّ الهداية بيد الله .
8- الإشارة إلى أنَّه لا يَنبغي أنْ يَهتمَّ الإنسانُ بأعيان أصحاب القِصَّة؛ إذ لو كان هذا من الأمور المهمَّة، لكان الله يُبيِّن ذلك: يقول: فلان، ويُبيِّن القريةَ، فالعِبْرة بالمعاني والمقاصِد دون الأشخاص .
9- إطلاق القرية على المساكن؛ لقوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، مع أنَّه يَحتمِل أنْ يُراد بهذه الآية المساكنُ والسَّاكن؛ لأنَّ كونها خاويةً على عروشها يَدلُّ على أنَّ أهلها أيضًا مفقودون، وأنَّهم هالِكون .
10- أنَّ الإنسانَ إذا استَبعَد وقوعَ الشَّيء- ولكنَّه لم يَشُكَّ في قدرة الله على هذا الذي استبعده- لا يَكفُر بهذا؛ لقول الرجل الذي مرَّ على القرية: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا .
11- أنَّ الله قد يَمُنُّ على عبده بأنْ يُريه مِن آياتِه ما يَزداد به يقينُه؛ لقوله تعالى: فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ... إلخ .
12- أنَّ قُدرةَ الله فوق ما هو مُعتاد من طبيعة الأمور، حيث بقي هذا الطَّعام والشَّراب مئة سَنةٍ لم يتغيَّر .
13- أنَّ الله يُحدِث للعبدِ ما يكون عِبْرةً لغيره؛ لقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، ومِثْل ذلك قوله تعالى عن مريمَ وابنها عيسى عليهما السَّلام: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ .
14- أنَّ الله عزَّ وجلَّ جعَل اللَّحمَ على العِظام كالكُسْوة؛ بل هو كُسْوة في الواقع؛ لقوله تعالى: ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا، وقال تعالى: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا؛ ولهذا تَجِد اللَّحمَ يَقي العِظام من الكَسْر والضَّرر؛ لأنَّ الضَّرر في العِظام أشدُّ من الضَّرر في اللَّحم .
15- الردُّ على مُنكِري قيام الأفعال الاختياريَّة بالله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: فَأَمَاتَهُ اللهُ.... ثُمَّ بَعَثَهُ، وهذه أفعال مُتعلِّقة بمشيئته، واختياره: متى شاء فعَل، ومتى شاء لم يفعلْ .
16- أنَّ كلام الله عزَّ وجلَّ بحروف، وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ، وقوله تعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ؛ فإنَّ مَقولَ القول حروف بصوت سَمِعه المُخاطَب، وأجاب عليه بقوله: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؛ ولكنَّ الصَّوتَ المسموع من كلام الله عزَّ وجلَّ ليس كصوتِ المخلوقين؛ الحروف هي الحروفُ التي يُعبِّر بها النَّاسُ؛ لكن الصَّوتَ لا؛ لأنَّ الصَّوتَ صِفةُ الربِّ عزَّ وجلَّ؛ والله سبحانه وتعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
17- في قوله: فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُبُوتُ كَراماتِ الأولياء؛ وهي كلُّ أَمْرٍ خارِقٍ للعادة يُجريه الله عزَّ وجلَّ على يدِ أحدِ أوليائه؛ تكريمًا له، وشهادةً بصِدْق الشَّريعة التي كان عليها؛ ولهذا قيل: كل كرامة لِولِيٍّ، فهي آية للنبيِّ الذي اتَّبَعه .
18- أنَّ التَّوسُّل إلى الله برُبوبيَّته من آداب الدُّعاء التي يَتوسَّل بها الرُّسُلُ؛ لقوله تعالى: رَبِّ؛ لأنَّ إجابةَ الدعاء من مُقتضيات الرُّبوبيَّة .
19- أنَّه لا حَرَج على الإنسان أنْ يَطلُب ما يزداد به يقينُه، لقوله تعالى: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى؛ لأنَّه إذا رأى بعينه ازداد يقينُه .
20- إثبات الكلام لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، وقوله تعالى: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً...؛ والله سبحانه وتعالى يتكلَّم بما شاء، متى شاء، كيف شاء، بما شاء: مِن القولِ، متى شاء: في الزَّمن، كيف شاء: في الكيفيَّة .
21- جوازُ الاقتِصار في الجواب على الحرف الدَّالِّ عليه؛ لقوله تعالى: بَلَى؛ وعليه فلو قيل للرجل: أَلَمْ تُطلِّق زوجتَك؟ فقال: (بَلَى)، طلقتْ، ولو قيل للرجل عند عَقْد النِّكاح: أَقبِلتَ النِّكاحَ، وقال: (نعم)، انعَقَد النِّكاحُ؛ لأنَّ حرف الجوابِ يُغني عن ذِكْر الجُمْلة .
22- امتِنان الله على العبدِ بما يَزداد به إيمانُه؛ لقوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ.... إلى قوله تعالى: يَأْتِينَكَ سَعْيًا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- في قوله أَلَم تَرَ: همزةُ الاستفهامِ لإنكارِ النَّفي، وتقريرِ المنفيِّ، أي: أَلَمْ تَنظُرْ، أو ألم يَنتهِ عِلمُك إلى هذا الطَّاغوت المارِدِ كيف تصدَّى لإضلال النَّاس وإخراجهم من النَّور إلى الظُّلمات؟
، وبلاغة القرآن الكريم في عَرْض الأمور العجيبة مَعرِض التَّقرير والاستفهام؛ لأنَّ (التقَّرير) يَحمِل المُخاطَبَ على الإقرار؛ و(الاستفهام) يُثير اهتمامَ الإنسان؛ فجمع بين الاستفهام والتَّقرير .
- النُّكتةُ في الإظهار مقام الإضمار في قوله تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ؛ لأجل أنْ نقول: كلُّ مَن جادَل كما جادَل هذا الرَّجل فهو كافر، ففيها إثباتُ أنَّ مَن جَحَد الله فهو كافر .
- قوله: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فيه إطناب بالتذييل؛ لتقرير مضمون ما قبله، أي: لا يَهدي الذين ظَلموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ المُخلَّد؛ بسبب إعراضِهم عن قَبُول الهداية إلى مناهج الاستدلالِ، أو إلى سبيل النَّجاةِ أو إلى طريق الجنَّةِ يوم القيامة . وفيه توكيدُ الخبر باسميَّة الجملة، والنفي، وإظهارُ لفظة الجلالة (وَاللهُ)؛ لتربية المهابَة .
2- قوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فيه من بَلاغَة القرآن تنويعُ الأدلَّة، والبراهين على الأمور العظيمة؛ فهذه الآية وما قبلها وما بعدها، كلُّها في سِياق قُدرة الله عزَّ وجلَّ على إحياء الموتى .
3- في قوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا أَوْجُه بلاغيَّة؛ منها:
- الاستفهام في أَنَّى؛ للتَّعجُّب، والاستبعادِ، والاستِعظامِ .
- وفيه تقديم المفعول (هذه) على الفاعل (اللهُ)؛ للاعتناء بها من حيثُ إنَّ الاستبعاد ناشئٌ مِن جِهتِها، لا مِن جِهة الفاعلِ .
- وفيه طِباق بين الإحياء والإماتة ، وهو يُبرز المعنى ويوضِّحه.
4- قوله: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عبَّر بصيغةِ المضارعِ (أَعلَمُ)؛ للدَّلالة على أنَّ عِلمَه بذلك مستمِرٌّ ومُتجَدِّد؛ نظرًا إلى أنَّ أصْلَه لم يَتغيَّرْ ولم يتبدَّل، بل إنَّما تَبدَّل بالعِيان وصفُه، إشعارًا بأنَّه إنما قال ما قال بِناءً على الاستبعاد العادي، واستِعْظامًا للأمر .
5- وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ... وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
رَبِّ: كلمة استعطافٍ قُدِّمت بين يدي الدُّعاء مُبالغةً في استِدعاء الإجابةِ .
- أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: فيه توكيدُ الخبرِ بأنَّ، واسميَّة الجملة، والتَّعبير بصِيغة فَعيل عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ للمُبالَغة في الوصف .
- وفي هذه الآية إيجازٌ بالحذْف، حيث حذَف تتمَّة القصَّة، وحَكَى سبحانه أوامرَه، ولم يَتعرَّض لامتثالِ إبراهيم عليه السَّلام لها؛ لأنَّ ذلك مُدرَكٌ بالبَداهة .

===============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (261- 265)
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
غريب الكلمات:

أَذًى: ما يُكره ويُغتمُّ به، ولا يُقَرُّ عليه
.
وَمَغْفِرَةٌ: سَترٌ لخَلَّة المسلم وفاقته، وترْك أذيَّته؛ فأصْل الغَفْر: السَّتر، والوقاية .
رِئَاءَ النَّاسِ: مراءاةً للناس، أي: فِعل الشَّيء ليراه الناس، وأصْله من الرُّؤية .
صَفْوَانٍ: كالصَّفا حَجَر أَمْلس، وهو اسمُ واحدٍ معناه جمعٌ، واحدتُه صَفوانة؛ وأصل الصَّفاء: خُلُوص الشَّيء من الشَّوب، ومنه قيل: الصَّفا، للحجارة الصافية .
وَابِلٌ: المطر الثَّقيل، أو المطر الشَّديد .
صَلْدًا: صلبًا يابسًا أملسَ، وهو الحجر الصُّلب الذي لا يُنبِت؛ فأصْل الصَّلد: الصَّلابة واليُبْس .
رَبْوَةٍ: المكان المرتفِع من الأرض، وأصْل الرَّبو: العُلُوُّ والزِّيادة والنَّماء .
فَطَلٌّ: الطَّلُّ: أضعفُ المَطر، وأصْل الطلِّ: غَضاضةُ الشَّيء، وحُسْنه ونَضْرته؛ سُمِّي أضعفُ المَطَر به؛ لأنَّه يُحسِّن الأرضَ

.
المعنى الإجمالي:

يَضرِب اللهُ المَثَلَ في مضاعفة الحسنات للمُنفِقين في أوجه الخير، بمن بذَر بَذْرةً في أرض طيِّبة، فأَخرجتِ الحبَّةُ سَبْعَ سَنابلَ، في السُّنبلةِ الواحِدة مِئةُ حبَّة، فكان أنْ تَضاعفتِ الحبَّةُ إلى سَبْعمِئة حبَّة، والله يُضاعِف لمن يشاء؛ لأنَّه واسعُ الفَضْل، عليمٌ بمن يَستحِقُّ المضاعفة ممن لا يَستَحِقُّها، ثم يُبيِّن الله تعالى أنَّ الذين يَبذُلون أموالَهم في أوجهِ الخيرِ ومرادهم رضا الله تعالى، ثم لا يُلحِقون ما بذَلوه منًّا على مَن أنفقوا عليهم ولا أذًى، فهؤلاء لهم أجرَهم عند الله، ولهم كذلك ألَّا يخافوا فيما يُستقبَل ولا يحزنون على ما مضى.
ثم يُخبِر تعالى أنَّ ردَّ السَّائل بالقول الحَسَن، والدعاء الطَّيِّب له، وغير ذلك من الأقوال التي تُدخِل السُّرورَ على قلبه، وكذلك سَتْر حالته بالمسامحة، والتَّغاضي عمَّا قد يَصدُر من السائل ممَّا لا ينبغي أنْ يَصدُر منه، أفضل مَن أنْ يُقدِّم له صدقةً مصحوبة بالأذِيَّة والإساءة، والله سبحانه غنيٌّ، وهو حليمٌ لا يُعاجِل بالعقوبة مع قُدْرته عليه.
ثم يَنهَى اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين أن يُحبِطوا أجرَ ما بذلوه من صدقاتٍ إذا صدر منهم منٌّ أو أذًى نحو المتصدَّق عليه، فتُشْبِه حالُهم حينها حالَ المُنافِقِ الذي يُنفِق مالَه من أجْل أن يرى النَّاسُ صنيعَه؛ ليُثْنوا عليه بذلك، وهم لا يعرفون حقيقةَ الأمر، وهو أنَّه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخِر، فلا يَطمَع في الحصول على ثوابٍ جزاءً لعَمَله، فقَلْب هذا المُنافقِ في صَلابته وقسوته، وعدم انتفاعه بما يُنفِقه- لعدم إيمانه، وانتفاء إخلاصه- يُشْبِه الحجرَ الأملس يَعْلوه ترابٌ، يَحسَب مَن رآه أنه صالحٌ للإنبات، فيُصيبه مطرٌ غزيرٌ فيذهب بما على الحجر من التراب، فيَتركه صُلبًا كما كان من قبلُ، لا أمل في إنباته، والله تعالى لا يُوفِّق الكافرين لقَبُول الحقِّ.
ثمَّ ضرَب الله سبحانه مثلًا لمَن يَبذُلون أموالَهم في وجوه البِرِّ والخير دون منٍّ أو أذًى، وإنَّما مقصودهم أنْ ينالوا مرضاةَ الله تعالى، وقد بذَلوا أموالَهم مِن تلقاء أنفسهم، ولم يَحمِلهم على ذلك أحدٌ، أو أنفقوا وهم مُوقِنون بوعد الله تعالى على إثابته للمُنفِقين، فمَثَل نفقةِ هؤلاء كبُستانٍ كثير الشَّجر والظِّلال، بمكانٍ مرتفع من الأرض، فكان أكثرَ خُصوبةً، وأفضل نِتاجًا، وسَقْيه إنما هو من السَّماء، فإمَّا أنْ يُصيبه مطرٌ غزيرٌ، فيتضاعَف ما يُنتِجه من ثمر، أو يُصيبه مطرٌ خفيف، فيكفيه أيضًا ليؤتي ثمارَه مضاعفةً؛ بسبب كَرَم المَنْبتِ، وطيب المَغْرس، وكذا الحال مع نفقة المؤمن؛ فإنَّ الله يُضاعِفها قلَّتْ أو كَثرتْ، ما دام أنها بُذِلتِ ابتغاءَ رِضوان الله، والله تعالى يرى كلَّ ما يعمله النَّاسُ، لا يَخْفى عليه شيءٌ من أعمالهم.
تفسير الآيات:

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر قصَّة المارِّ على قرية وقصَّة إبراهيم، وكانا مِن أدلِّ دليل على البَعْث، ذكَر ما ينتفع به يوم البعث، وما يجد جدواه هناك، وهو الإنفاق في سبيله، كما أَعقَب قصَّة الذين خرجوا مِن ديارهم وهم أُلُوفٌ حَذَرَ الموت بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، وكما أَعقَب قَتْلَ داود عليه السَّلامُ جالوتَ، وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ، فكذلك أَعقَب هنا ذِكْر الإحياء والإماتة بذِكْر النَّفقة في سبيله؛ لأنَّ ثمرة النفقة في سبيله إنما تَظهر حقيقةً يومَ البَعْث: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران: 30] ، واستدعاء النَّفقة في سبيل الله مُذكِّرٌ بالبَعْث؛ لأنَّه لو لم يعتقد وجوده، لَمَا كان يُنفَق في سبيل الله
.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ.
أي: شبَّه الله سبحانه في هذا المَثَل المنفِقَ بالبَاذِر، والنَّفقةَ في سبيله بالبَذْرة؛ فإنَّ مَن يُنفِق في أوجه الخير والبِرِّ ابتغاءَ مَرْضات الله تعالى- ومن ذلك النَّفقة في الجهاد في سبيله- كالذي غيَّب في أرضٍ طيِّبة زكيَّة بَذرةً صالحةً للنُّمو، فأخرجتْ سَبْع سنابل، وقد اشتملت كلُّ واحدة منها على مِئة حَبَّة، فكانت النتيجة سبعَمِئة حبَّة، خرجت من حبَّة واحدة، فكذلك النَّفقة الطَّيِّبة يُنمِّيها الله عزَّ وجلَّ لبَاذِلها، ويُضاعِف له أجرَها سبعمِئة مرَّة .
عن عُقْبة بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: (جاء رَجلٌ بناقةٍ مَخطُومة، فقال: هذه في سبيل اللهِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((لك بها يومَ القيامةِ سَبعُمئةِ ناقةٍ، كلُّها مَخطومة ) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ؛ الحسنةُ عشرُ أمثالها إلى سبعمئةِ ضِعفٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: إلَّا الصَّومَ؛ فإنَّهُ لي، وأنا أَجزي بهِ ...)) الحديث .
وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ.
أي: إنَّ الله تعالى يُضاعِف هذه المضاعفةَ إلى السَّبعمئة، أو إلى أكثرَ من ذلك، بحسَب مشيئته، وذلك وَفْق ما تَقتضيه حِكمتُه، فإنَّ المنفِقين يتفاوتون إيمانًا وإخلاصًا لله تعالى، وتتفاوت نفقاتُهم كذلك بحسَب حِلِّها ونَفْعها، وشدَّة الحاجة إليها .
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إِنَّ اللهَ كتب الحسناتِ والسيِّئاتِ، ثُمَّ بيَّنَ ذلِكَ، فمَنْ هَمَّ بحَسنةٍ فلمْ يَعملْها، كَتبَها اللهُ عندَهُ حسَنَةً كامِلَةً، وإنْ همَّ بِها فعَمِلَها كتَبها اللهُ عزَّ وجلَّ عندَه عشرَ حسنَاتٍ إلى سَبعِمِئَةِ ضعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرَةٍ، وإنْ همَّ بسيِّئَةٍ فلمْ يَعملْها، كَتبَها اللهُ عندَهَ حسَنَةً كامِلَةً، وإنْ هَمَّ بِها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللهُ سيئَةً واحِدَةً)) .
وفِي روايَةٍ وزادَ: ومَحاها اللهُ، ولَا يَهْلِكُ علَى اللهِ إلَّا هالِكٌ )) .
وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى واسعُ الفضل والعطاء؛ ولذا يُضاعِف لمن يشاء هذه المضاعفة أو يَزيد عليها، فلا يَستبعِدنَّ أحدٌ ذلك الأجرَ الكريمَ، أو يتوهَّم أنَّ فيه مُبالَغةً؛ فإنَّ الله تعالى لا يَتعاظمه شيءٌ، ولا يَنقُصه العطاءُ مهما عَظُم، ولكن لا ينبغي أن يُظَنَّ أنَّ سَعَة عطائه سبحانه تقتضي حصولَ تلك الأجور لكلِّ مُنفِق؛ فإنَّه عليمٌ بمن هو أهلٌ لهذا الأجر، ومَن لا يَستَحِقُّه، فإنَّ سَعَة كَرَمه تعالى لا تُناقِض حِكمتَه، بل يَضعُ فضلَه مواضعَه .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا عَظَّم أمرَ الإنفاق في سبيل الله، ورتَّب عليه الثواب المضاعف، أَتْبعه ببيان الأمور التي يجب تحصيلُها حتى يبقَى ذلك الثوابُ، ومنها تَرْكُ المنِّ والأذى ، فقال:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى.
أي: إنَّ الذي يَبذُل أموالَه في أوجه الخير، ابتغاءَ مرضاة الله تعالى، ثم لا يَمتنُّ على مَن أَنفَق عليه، سواء بقلبه، أو بلسانه كأنْ يُخبِره بأنَّه تفضَّل عليه بمنحه شيئًا، وأنَّه مَدين له لِقاء معروفه، ولا يقول أو يفعل أيضًا مكروهًا للمُنفَق عليه يُنافي ما قدَّمه له من إحسان، فذلك محظورٌ لِمَا فيه من تَكبُّر المُنفِق واستعلائه، واستعباد المُنفَق عليه، وكسْر قلبِه وإذلاله، بل على المُعطي في سبيل الله تعالى أنْ يشهد دائمًا أنَّ المتفضِّل والمُنعِم حقيقةً هو الله تعالى وحده، وعليه أنْ يتفكَّر أيضًا في أنَّ أجْره على الله تعالى بأضعافِ ما أَعطى، فأيُّ حقٍّ بقي له على الآخذ المُحتاج حتى يَمتنَّ عليه، أو يؤذيه بصنائع معروفه ؟
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ يومَ القِيامةِ: المَنَّان الذي لا يُعطي شيئًا إلَّا مِنَّةً، والمُنَفِّق سِلْعتَه بالحَلِف الفاجِر، والمُسبِل إزارَه)). وفي روايةٍ: ((ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ، ولا يَنظُر إليهم، ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ )) .
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: إنَّ هؤلاء الذين يُنفِقون أموالَهم في سبيل الله تعالى بلا منٍّ ولا أذًى، يَستحِقُّون- وحْدَهم دون غيرهم من المنفقين- ثوابًا وجزاءً من الله تعالى وحده، قد تَكفَّل به الكريم مُقابِلَ صنيعهم هذا، فهو مُوفِّيه إيَّاهم لا محالة، ولهم مع ذلك أيضًا ألَّا يَخافوا من المستقبل ومِن ذلك، عدَم خوفهم عند مَقدَمهم على الله تعالى حين فِراقِهم للدُّنيا، ولا في أهوال القيامة، فلا يَنالُهم فيها مكروهٌ، ولا يُصيبهم فيها عقابٌ، ولا يحزنون أيضًا على ما مضى، ومن ذلك ما يُخلِّفونه وراءهم في الدنيا من أموالٍ وبنينَ عَقِب موتهم؛ لأنَّهم قد صاروا إلى ما هو خيرٌ لهم من ذلك، فحصَلتْ لهم بذلك الخيراتُ، واندفعت عنهم الشرورُ والسيئات .
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263).
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى.
أي: إنَّ تقديم الإحسان للسَّائلِ حاجةً، عَبْر إسدائه قولًا معروفًا تَعرِفه القلوبُ ولا تُنكِره، بردِّه بالقول الجميل والدُّعاء الطَّيِّب له، وغير ذلك ممَّا يُدخِل السُّرورَ على قلبه، أو تقديم الإحسانِ إليه بسَتْر سوء حالته، أو بمسامحته وتَجاوُزِه عمَّا لا ينبغي أنْ يَصدُر من السائل من قول أو فِعْل، كما لو وجَد منه بعضَ الجَفوةِ أو الغِلْظة بسبب ردِّه، وعدم تلبية حاجته، فالقول المعروف والمغفرة أفضلُ مُطلَقًا من تقديم يدِ العون للمحتاج، بمساعدةٍ مصحوبة بأذِيَّته والإساءة إليه .
وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا تناولت الآياتُ قبلها الإنفاقَ والحثَّ عليه، وبيانَ ما يُجتنب فيه من المنِّ وإتْباعه بالأذى، ختَم الله تعالى هذه الآيةَ بقوله: وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ؛ لأنَّ الله غنيٌّ عن هذه الصَّدقات، فضلًا عن التي فيها منٌّ أو أذًى، ولكمال غِناه يخلِف هذا الإنفاق، وحليمٌ على مَن عصَى بالمنِّ بالصدقة؛ فهي من كبائر الذُّنوب ؛ لذا قال:
وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى غنيٌّ عن خَلْقه، وعمَّا يتصدَّقون به؛ فلن يَنالَه شيءٌ من صدقاتِهم، وإنما نفْعُها عائدٌ عليهم؛ فكيف يمنُّ أحدٌ بصدقته، ويؤذِي بها عبادَ الله تعالى، مع غِنى الله تعالى عنها؟ وهو مع هذا حليمٌ سبحانه، لا يُعاجِلُ هذا المانَّ بالعقوبة مع قُدْرته على ذلك، بل يعفو عنه ويَصفَح، أو يُمهِله ليتوب إليه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا شرَط في الإنفاق أنْ لا يُتْبَع بمنٍّ ولا أذًى، لم يَكتفِ بذلك حتى جعَل المنَّ والأذى مُبطِلًا للصَّدقة، ونهى عن الإبطال بهما؛ ليُقوِّي اجتنابَ المؤمن لهما؛ ولذلك ناداهم بوصْف الإيمان، ولَمَّا جرى ذِكْر المنِّ والأذى مرَّتين، أعادهما هنا بالألف واللام .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: يُحذِّر اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين، من حُبُوط أجرِ ما يَبذُلونه صدقةً في سبيله سبحانه، إنْ صدَر منهم منٌّ أو أذًى على آخِذ الصَّدقة، فيكون حالُهم حينئذٍ موافِقًا لحال المنافِق الذي يَبذُل مالَه لأجل الله تعالى في ظاهرِ الأمر، بينما ينوي في باطِنِه أن يُرِيَ النَّاسَ صَنيعَه؛ ليَحمَدوه ويُثْنوا به عليه، وهم لا يُدركِون في واقع الأمر، حقيقةَ أنَّه لا يؤمن بالله تعالى ولا بالآخرة، فلا يَطمَع في نيل ما فيها من ثواب لِقاء ما يُقدِّمه في الدنيا من معروف .
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا.
أي: إنَّ قلب هذا المنافق الذي يُنفق مالَه رياءً، غيرَ مؤمن بالله ولا باليوم الآخِر، حالُه في صلابته وشِدَّته، وعدم الانتفاع به- لعدم إيمانه وإخلاصِه لله تعالى- تُشبِهُ حالَ حجر أملس، ونفقة هذا المنافق تُشبه ترابًا يعلو هذا الحجرَ، فهو مستندٌ إليه، يَظنُّ مَن يراه أنه أرضٌ طيِّبة صالحة للإنبات، مثلما يظنُّ مَن يشاهد ظاهرَ حال المنافق أنَّ صدقته مبنيَّة على أساس من الإيمان والإخلاص لله عزَّ وجلَّ، فتُثمر له حسناتٍ، وشبَّه الله تعالى تعرُّض التراب لمطرٍ غزيرٍ شديد الوقع، بالمانع الذي أبطل صدقتَه، وذهب بأثرها تمامًا. وكما أصبح الحجر في نهاية الأمر، صلبًا كما عُهِد من قبلُ، وخاليًا لا شيءَ عليه من ترابٍ، ولم يبقَ أملٌ في إنبات نبات، فكذلك صدقات هذا المنافِق تَذهب هباءً، لا تُثمر شيئًا من الحسنات وزيادة الإيمان؛ لأنَّه لا أصل لها تُؤسَّس عليه، ولا لها مقصدٌ طيِّب تنتهي إليه، فكل ما قدَّمه مضمحل.
فإذا كان يومُ القيامة، وجاء وقتُ حصاد الزَّرع وتلقِّي أجور العاملين، وظنُّوا أنهم سيَنتفعون بما قدَّموه، لم يجدوا شيئًا يحصدُونه، ولا أجرًا يتلقَّوْنه، فقد اضمحلَّ ما قدَّموه كلُّه؛ لأنَّه لم يكُن لله تعالى، فلا تكونوا- أيُّها المؤمنون- كهؤلاء المنافقين، فتُبطلوا أجورَ صدقاتكم بمنِّكم وأذاكم على مَن تصدَّقتم عليه .
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.
أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُوفِّق الكفارَ لقَبُول الحقِّ وإصابته في نَفَقاتهم وغيرها؛ فلأنَّهم للباطل مُؤثِرون، تَركَهم في ضلالتهم يَعمَهون، قد انصَرفوا عن طريق الحقِّ إلى طُرُق الغواية، فصرَف الله عزَّ وجلَّ قلوبَهم عن الهداية .
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى مَثَلَ المنفِق الذي يكون مانًّا ومؤذيًا؛ ذكَر مَثَلَ المُنفِق الذي لا يكون كذلك ، فقال:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أي: ضرب الله تعالى مثلًا لصِنفٍ آخرَ من المنفِقين، وهم الذين يُنفِقون أموالَهم صدقةً في أوجه الخير والبِرِّ التي يُحبُّها الله تعالى، كالجهاد في سبيله؛ دون منٍّ أو أذًى، وإنَّما طلبًا لنيل رِضوان الله عزَّ وجلَّ، وقد أَقدَموا صادِقين على البذل من جِهة أنفسهم، لم يَحمِلهم أحدٌ على القيام بذلك، فأنفقوا بعزائمَ قويَّة، مُتحقِّقين ومُوقِنين بوعد الله تعالى على إثابته المنفقين، فلا يَتقاعَسون أو يتردَّدون في الإنفاق، ولا يَشُكُّون بوعْد الله سبحانه على الثَّواب .
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ.
أي: إنَّ نفقة أولئك المنفقين المخلِصين الصادقين، المصدِّقين بوعد ربِّ العالمين، تُشْبِه بُستانًا غزيرَ الأشجار والظِّلال، تُغطِّي ما فيه من كَثْرتها، وهو على مكانٍ مُرتفِع من الأرض فكان خصيبًا جدًّا؛ لأنَّه لَمَّا ارتَفع عن مجرى المسايل والأودية كانتْ أرضه أغلظَ، فكان أحسنَ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، كما أنَّه بارتفاعه يكون مُعرَّضًا أكثرَ للأهوية والرياح، وبائنًا للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فيكون أنضج ثمرًا وأطيبه وأحسنه وأكثره كذلك، وسَقْيه إنَّما يأتي من السَّماء، فإمَّا أنْ يتعرَّض لمطرٍ غزير، فيتضاعف إنتاجُ ثمرِه مرَّتين، الأصل ومثله معه، أو يُصيبه مطرٌ خفيف، كالرَّذاذ، فإنَّه يَكفيه ليُؤتي ثمارَه مضاعفةً؛ بسبب كَرَم مَنْبته وطِيب مَغرَسه، فهذه الجنَّة لا يُعدَم منها حصولُ الخير بحالٍ من الأحوال.
فكذلك المؤمن المنفِق يُضاعِفُ الله تعالى صدقتَه قلَّت أو كَثُرت، فلا تَبور أبدًا، فإذا كان قصدُه مرضاة الله عزَّ وجلَّ والتثبيت من نفسه، فهي زاكيةٌ عند الله تعالى، وناميةٌ في جميع الأحوال .
وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: إنَّ ما تَعمَلونه- أيُّها النَّاس- من الإنفاق وغيره، هو بمَرْأًى مِن الله تعالى، لا يَخْفى عليه، فإنَّه يرى ويعلم مَن المُنفِق منكم بالمنِّ والأذى، ومَن المُنفِق ابتغاءَ مرضاة الله، وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي عليكم ذلك وغيرَه من أعمالكم، حتى يُجازيكم عليها، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر

.
الفوائِد التربويَّة:

1- الإشارة إلى ضرورة الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللهِ، وأن يَقصِدوا بعِمَلهم وجهَ الله عزَّ وجلَّ
.
2- أنَّ ثوابَ الله، وفضْلَه أكثرُ من عَمَلِ العاملِ؛ لأنَّه لو عُومِل العاملُ بالعدل لكانت الحسنة بمِثْلها، لكنَّ الله يُعامِله بالفضل والزِّيادة، فتكون الحبَّة الواحدة سبعمئة حبَّة، بل أَزيدَ؛ لقوله تعالى: وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، ممَّا يَزيد رجاءَ العبدِ في ربِّه.
3- الحثُّ والتَّرغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.... .
4- أنَّ مَن أَتْبَع نفقتَه منًّا أو أذًى، فإنَّه لا أجْرَ له؛ لقوله تعالى: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ فإذا أَتْبَع منًّا، أو أذى بطَل أجرُه، كما هو صريحُ قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى .
5- لقَبُول الصَّدقة شروطٌ سابقة، ومُبطِلاتٌ لاحِقة؛ أمَّا الشُّروط السابقة: فالإخلاص لله تعالى، والمتابَعة، وأمَّا المبطِلات اللَّاحقة: فالمنُّ، والأذى .
6- في قوله تعالى: قَولٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيرٌ، حثٌّ على المغفرة لمَن أساء إليكَ؛ إلا إذا كانت المغفرة تؤدي إلى مفسدةٍ معتبَرة أو كانت راجحةً على مصلحة؛ لقوله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ [الشورى: 40] .
7- أنَّ الأعمال الصَّالحة تَتفاضَل، ويَلزَم مِن تَفاضُلها تَفاضُلُ العاملِ، وزيادة الإيمان، أو نُقْصانه؛ كما في قوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ... .
8- في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، دلالةٌ على أنَّ الواجب أن نَقصِد بأعمالنا أمرين: أولهما: ابتغاء رِضوانه لذاته تعبُّدًا له، وثانيهما: تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشَّوائب التي تَعُوقها عن الكمال، كالبخل والمُبالَغة في حبِّ المال، على أنَّ هذا وسيلة لذاك، وفائدة كلٍّ من الأمرين عائدةٌ علينا، والله غنيٌّ عن العالَمين .
9- أنَّ المنَّ والأذى بالصَّدقة مُنافٍ لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، كأنَّه يقول: (إنَّ مقتضى إيمانِكم ألَّا تفعلوا ذلك؛ وإذا فعلتُموه صار مُنافيًا لهذا الوَصْف، ومنافيًا لكماله) .
10- أنَّ مَن راءى النَّاس بإنفاقه، ففي إيمانه بالله وباليوم الآخر نَقْص؛ لقوله تعالى: وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .
11- بيان ما للنيَّة من تأثير في قَبُول الأعمال واشتراط الإخلاص؛ لقوله تعالى: ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ .
12- بيان أنَّ تثبيتَ الإنسان لنفسه عند الصدقة ولعَمَلِه، واطمئنانه به من أسباب قَبُوله؛ لقوله تعالى: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لأنَّ الإنسان الذي لا يعمل إلَّا كارهًا فيه خَصْلة من خِصال المنافقين؛ كما قال تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة: 54] .
13- فضْلُ الإنفاق على وجه التثبيت من النَّفْس؛ لأنَّه يَندفِع بدافع نفسي؛ لا بتوصية من غيره، أو نصيحة؛ لقوله تعالى: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- ضَرْب الأمثال؛ لأنَّ ذلك أقربُ إلى الفَهْم كما في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ...، وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ...
.
2- الإشارةُ إلى اشتراط مُوافَقة العمل للشَّرع؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لأنَّ فِي للظَّرفيَّة، والسبيل: بمعنى الطريق، وطريق الله: شَرْعه؛ والمعنى: أنَّ هذا الإنفاق لا يَخرُج عن شريعةِ الله؛ والإنفاق الذي يكون مُوافِقًا للشَّرع هو ما ذَكَره بقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .
3- إثبات المِلكيَّة للإنسان؛ لقوله تعالى: أَمْوَالَهُمْ؛ فإنَّ الإضافة هنا تُفيد المَلكيَّة .
4- إثبات الصِّفات الفعليَّة- التي تتعلَّق بمشيئة الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: يُضَاعِفُ؛ و(المُضَاعَفَةُ) فِعْل .
5- أنَّ الله له السُّلطانُ المطلَق في خَلْقه؛ ولا أحد يَعترِض عليه؛ لقوله تعالى: يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ .
6- إنَّما كان المنُّ بالصَّدقة مُفسِدًا لها؛ لأنَّ المِنَّةَ لله تعالى وحده، والإحسانُ كلُّه لله، فالعبد لا يَمُنُّ بنعمة الله وإحسانه وفضْله وهو ليس منه، وأيضًا فإنَّ المانَّ مستعبِدٌ لمن يمنُّ عليه، والذُّل والاستعباد لا ينبغي إلَّا لله عزَّ وجلَّ .
7- قوله: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ: خصَّ الصَّدقةَ بالنِّهي إذ كان المنُّ فيها أعظمَ وأشنعَ .
8- إثباتُ كون القياس دليلًا صحيحًا؛ وَجْه ذلك: التمثيل، والتَّشْبيه؛ فكل تمثيل في القرآن فإنَّه دليل على القياس؛ لأنَّ المقصود به نَقْل حُكْم هذا المُشبَّه به إلى المُشبَّه، وهذه قاعدة .
9- الإشارة إلى تَحسُّر الذين يُنفِقون أموالَهم رياءً عند احتياجهم إلى العمل، وعَجْزهم عنه؛ لقوله تعالى: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا؛ وعجز الإنسانِ عن الشيء بعد محاولة القُدْرة عليه- أشدُّ حسرةً من عَدَمه بالكليَّة .
10- أنَّ المنافق كافِر؛ لقوله تعالى: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ .
11- أنَّه لا إنفاقَ نافع إلَّا ما كان مملوكًا للإنسان؛ لقوله تعالى: أَمْوَالَهُمْ؛ فلو أَنْفَق مالَ غيره لم يُقْبَل منه إلا أن يكون بإذن من الشَّارع، أو المالك .
12- أنَّ الإنفاق لا يُفيد إلَّا إذا كان على وَفْق الشَّريعة؛ لقوله تعالى: ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
في هذا التمثيل تصويرٌ للأضعاف كأنَّها حاضرةٌ بين يدَي الناظر
.
وفي الآية من محاسن البلاغة: الإيجازُ بالحَذْف على طريقة الاحتِباك، حيث حذَف من كلِّ جُملةٍ ما دلَّ عليه في الجملة الأخرى، والتَّقدير: مَثَل الذين يُنفِقون ونفقتهم كمَثَل حبَّة وزارِعها، فذِكْر المنفِق أولًا دليلٌ على حذْف الزارع ثانيًا، وذِكْر الحَبَّة ثانيًا دليلٌ على حذْف النَّفقة أولًا .
وهذا المثَل يتضمَّن التَّحريض على الإنفاق في سبيل الله، وشبَّه الإنفاق بالزَّرع؛ لأنَّ الزَّرع لا يَنقطِع .
وفيها حذفٌ إمَّا من جانب المشبَّه أو المشبَّه به؛ لتحصيل المناسَبة، أي: وتلك الحبَّة أُلقيتْ في الأرض، ثم أَنْبتتْ سَبْعَ سنابل، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ، أي: أنبتتْ ساقًا انشعب سَبْعَ شُعَبٍ، خرج من كلِّ شُعْبة سُنبلةٌ فيها مئة حبَّة، فصارت الحبَّة سبعَمئة حبَّة بمضاعفة الله لها، وهذا المَثَل أبلغُ في النفوس من ذِكْر عدد السَّبعمئة؛ فإنَّ هذا فيه إشارة إلى أنَّ الأعمال الصَّالحة يُنمِّيها الله عزَّ وجلَّ لأصحابها كما يُنمِّي الزَّرعَ لمَن بَذَره في الأرض الطَّيِّبة .
وحذَف ذلك كلَّه إيجازًا؛ لظهور أنَّ الحبَّة لا تُنْبِت ذلك إلَّا كذلك، فهو مَن تشبيه المعقول بالمحسوس، والمشبَّه به هيئة معلومة، وجعَل أصلَ التمثيل في التضعيف حبَّة؛ لأنَّ تضعيفها مِن ذاتها لا بشيء يُزاد عليها، وحَسُن ذِكْر المضاعفة في حسنة الإنفاق في سبيل الله بأنْ يكونَ سبعمئة؛ لأنَّ المُضاعَفة تُنسَب إلى أصلٍ واحد .
2- قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ جُمْلة مُستأنِفة؛ جيء بها لبيان كيفيَّة الإنفاق الذي بيَّن فضْلَه بالتَّمثيل المذكور ، وأعاد الَّذِينَ؛ إظهارًا للاهتمام بهذه الصِّلة .
قوله: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا عبَّر بـ ثُمَّ ؛ لإظهار التفاوت بين الإنفاق وبين ترْك المنِّ والأذى، ولإظهار عُلُوِّ رُتْبة المعطوف . ويُحتَمَل أنْ تكون ثُمَّ للدَّلالة على دوام الفِعل المعطوف بها، وإرخاء الطول في استصحابِه .
مَنًّا وَلَا أَذًى إنَّما قدَّم المنَّ لكَثْرة وقوعه، وتوسيط كلمة لَا؛ للدَّلالة على شُمول النَّفي؛ لإتْبَاع كلِّ واحد منهما .
في قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أُخرج المبتدأ والخبر فيهما مَخرَج الشيء الثَّابت المُستَقِر الذي لا يكاد خبرُه يحتاج إلى تعليقِ استحقاقٍ بوقوع ما قبله، بخلاف ما إذا دخلتِ الفاءُ؛ فإنَّها مُشْعِرةٌ بترتُّب الخبر على المبتدأ، واستِحقاقه به .
وتَخْلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببيَّة ما قبلها لِمَا بعدها؛ للإيذان بأنَّ ترتيب الأجرِ على ما ذُكِر من الإنفاق، وتَرْك إتباعِ الصَّدقة بالمنِّ والأذى - أَمرٌ بيِّنٌ لا يحتاج إلى التَّصريح بالسَّببيَّة .
- في قوله: وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا...: تكرير لا تنبيه على أنَّ انتفاءَ كلٍّ منهما شَرْطٌ لحصول الأجر لَهُمْ، ولم يَقْرِنْه بالفاء؛ إعلامًا بأنَّه ابتداءُ عطاء مِن الله؛ تفخيمًا لمقداره وتعظيمًا لشأنه، حيث لم يجعله مسبَّبًا عن إنفاقهم .
3- قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
تنكير قَوْلٌ مَعْرُوفٌ للتَّقليل، أي: أَقَلُّ قول معروف خيرٌ مِن صدقة يَتْبَعُها أذًى، والمراد به القولُ الحسن، وهو ضدُّ الأذى .
في قوله: يَتْبَعُهَا أَذًى؛لم يُعِد ذِكْرَ المنِّ فيقول: يَتْبَعُها منٌّ وأذى؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ وغيره، وإنما ذُكِر بالتنصيص في قوله: لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى؛ لكثرة وقوعه من المُتصدِّقين، وعُسْر تَحفُّظهم منه؛ ولذلك قُدِّم على الأذى .
4- قول الله سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فيه تعريض بأنَّ الرياء والمنَّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفَّار، ولا بُدَّ للمؤمن أنْ يتجنَّبها .
وفيه من بلاغة القرآن: النَّهي عن المنِّ، والأذى بالصَّدقة بهذه الصِّيغة التي تُوجِب النُّفور؛ وهي: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ، فإنَّها أشدُّ وقعًا مِن (لا تَمنُّوا، ولا تُؤذوا بالصَّدقة) . ولأنَّه لَمَّا كانت النُّفوس مُولَعةً بذِكْر ما يَصدُر عنها من الإحسان للتمدُّح والفَخْر، وكان ذلك مطيَّة الرِّياء، وطريق المنِّ والإيذاء، لا سيما إذا آنس المتصدِّق تقصيرًا في شُكْره على صدقتِه أو احتقارًا لها، فإنَّه لا يكاد يَملِك حينئذ نفسَه ويَكُفُّها عن المنِّ أو الأذى-كان مِن الهُدى القويم ومقتضى البَلاغة أن يُؤتَى في النَّهي عن المنِّ والأذى والرِّياء بعبارات مختلفة؛ لأجل التأثير في التنفير عن ذلك، والحَمْل على تَرْكه .
قوله: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الكاف في قوله: كَالَّذِي فيه قولان الأول: أنَّه مُتعلِّق بمحذوف، والتَّقدير: لا تُبْطِلوا صدقاتِكم بالمنِّ والأذى كإبطال الذي يُنفِق مالَه رئاء الناس، فبيَّن تعالى أنَّ المنَّ والأذى يُبطِلان الصَّدقة، كما أنَّ النِّفاق والرِّياء يُبطِلانها. والقول الثاني: أنْ يكون الكاف في محل النَّصب على الحال، أي: لا تُبطِلوا صدقاتِكم مماثِلِين الذي يُنفِق مالَه رئاء الناس .
قوله: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ الغرض مِن هذا التَّشبيه تَفظيعُ المشبَّه به .
قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا فيه تشبيه تمثيليٌّ، فقد شبَّه إنفاقَ الأموال رئاء الناس بالتُّرابِ الذي يُوضَع على الصَّخر الأملس، يأتي عليه الوابلُ من المطر، فيَذْروه ويَذْهب به، ولا يترك له أثرًا. فأذهب عائدَ نفقته كما أذهب بَذْرَ الحارثِ على الصَّفوانِ وابلُ المطرِ، الذي شأنه أن يُصلِح البَذْرَ، هذا على القول بأنَّ الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ عائد على كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ؛ لقُرْبه منه ولإفراده، فهو مثل، وتَشْبيه للمُنافِق يُري النَّاسَ أنَّ له أعمالًا كما يُرى التُّرابُ على هذا الصَّفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّت وبطَلتْ، كما أذهب الوابلُ ما كان على الصَّفوان من التراب.
ويحتمل أن يكون الضَّمير في: فَمَثَلُهُ عائدًا على المانِّ المؤذي، فيكون شُبِّه بشيئين: أحدهما: بالذي يُنفِق مالَه رئاء النَّاس، والثاني: بصَفوان عليه تُراب، ويكون قد عدَل من خِطاب إلى غَيبة، ومن جمْع إلى إفراد، فيكون فيه التفات .
في قوله: صَفْوَانٍ عبَّر بصيغة (فَعْلان) للمُبالغة في وصْف الحجارة المُلْس الصُّلبة، التي لا تَقبَل انصداعَها بالنَّبات .
قوله: وَاللهُ لًا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تذييل مُقرِّر ومؤكِّد لمضمون ما قبْلَه ، وهي خبرٌ فيه تعريضٌ بأنَّ الرِّئاء والمنَّ والأذى على الإنفاق من صِفات الكفَّار، ولا بدَّ للمؤمن أن يتجنَّب عنها .
5- قوله:وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ... خبرٌ مرادُه التَّحريضُ على تكرير الإنفاق .
وفيه تَشْبيه تَمثيليٌّ، جاءت صُور التشبيه فيه مِن مُتعدِّد؛ فقد شبَّه إنفاقَ الأموالِ الخالصَ من الرِّياء في سبيل الله، وابتغاء مَرضاتِه، بالبُستانِ الوريف الظِّلال، فوق رَبوةٍ عالية، يَكْفيها القليلُ من المطر؛ لتَرْبوَ وتَهتزّ،َ وتَمرُع وتَخصَب .
ووَجْه الشَّبه هو الهيئة الحاصِلة من مجموع أشياء تَكامَل بها تضعيفُ المنفعةِ، والهيئة المُشبَّهة هي النَّفقة التي حُفَّ بها طَلَبُ رِضا الله والتصديق بوعده، فضُوعِفت أضعافًا كثيرة، أو دونها في الكَثْرة، والهيئة المُشبَّهة بها هي هيأة الجنَّة الطَّيِّبة المكان التي جاءها المطر، فزكا ثَمرُها وتَزايد، فأكملتِ الثمرةَ، أو أصابها طَلٌّ فكانت دون ذلك، وقد حصل من تَمثيلِ حالِ الذين يُنفِقون أموالَهم في سبيل الله بحَبَّة ثم بجنَّة، جِناسٌ مُصحَّف بين (حبة وجنة) .
تخصيص الْجَنَّة بأنَّها في رَبوة؛ لأنَّ أشجار الرُّبى تكون أحسن منظرًا، وأزكى ثمرًا، فكان لهذا القيد فائدتان: إحداهما: قوة وَجْه الشَّبَه كما أفاده قول ضِعْفين، والثانية: تَحسين المُشبَّه به، الراجع إلى تحسين المُشبَّه في تَخيُّل السامع .
وقوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فيه من البلاغة وحُسُن التَّعليم: تبيينُ المعقول بالمحسوس؛ وهذا لأنَّه يُقرِّب المعقولَ إلى أذهان النَّاس .
عطف قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ على قوله: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ؛ لزِيادة بيان ما بين المرتَبتَين من البَون، وتأكيدًا للثَّناء على المنفقين بإخلاص، وتَفنُّنًا في التَّمثيل؛ فإنَّه قد مثَّله فيما سلف بحَبَّة أنبتت سبع سَنابل، ومثَّله فيما سلف تمثيلًا غير كثير الترَّكيب؛ لتَحصُل السرعةُ بتخيُّل مضاعفة الثَّواب، فلَمَّا مُثِّل حالَ المنفِق رئاءً بالتَّمثيل الذي مضى، أُعيد تمثيلُ حال المنفِق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حُسْن التخيُّل؛ فإنَّ الأمثال تُبهِج السَّامع كلَّما كانت أكثرَ تركيبًا. وضُمِّنتِ الهيأة المشبَّه بها أحوالًا حَسَنة تُكسِبها حُسْنًا؛ ليَسْري ذلك التحسينُ إلى المُشبَّه، وهذا من جملة مقاصد التَّشبيه .
قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ... فيه إيجاز بالحَذْف؛ إذ لا بدَّ من تقدير مُضاف هنا كما تَقدَّم: إمَّا مِن جانب المُشبَّه أو المُشبَّه به، أي: ومَثَل نفقةِ الذين إلخ، أو كمَثَل غارِس جَنَّة... إلخ؛ رعاية للتَّناسُب .
وفي التَّشبيه وجهان: أحدهما أنَّه مُركَّب، والتَّشبيه لحال النَّفقة بحال الجنَّة بالرَّبوة في كونها زاكية مُتكثِّرة المنافع عند الله كيفما كانت الحال ، والثاني: أنَّ تشبيهَ حالهم بحال الجنَّة على الرَّبوة في أنَّ نَفقتهم- كَثُرتْ أو قلَّت- زاكية زائدة في حُسْن حالهم .
كما أنَّ الجنَّة يُضعِّف أُكلَها قويُّ المطرِ وضعيفُه، وهذا أيضًا تشبيه مُركَّب، إلَّا أنَّه لُوحظ الشَّبه فيما بين المفردات، وحاصله: أنَّ حالهم في اتِّباع القِلَّة والكثرة: تضعيف الأجر، كحال الجنَّة في إنتاج الوابل والطَّلِّ: تضعيف ثِمارها .
لَمَّا ضرب مَثَلَ مَن أنفق مالَه رئاء النَّاس وهو غير مؤمن، ذكَر ضدَّه بتمثيل محسوس للذِّهن وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ، حتى يتصوَّر السامعُ تفاوتَ ما بين الضِّدين، وهذا مِن بديع أساليب فصاحة القرآن. ولَمَّا وصَف صاحبَ النَّفقة بوصفين، قابَل ذلك هنا بوصفين، فقوله: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ مُقَابِلٌ لقوله: رِئاء النَّاس وقوله: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُقابِل لقوله: وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لأنَّ المُراد بالتَّثبيت تَوطين النَّفْس على المحافظة عليه وتَرْك ما يُفسِده، ولا يكون إلَّا عن يقين بالآخرة .
6- قوله: ضِعْفَيْنِ يحتمل أنْ يكون ممَّا لا يُزاد به شَفْع الواحد، بل يكون من التشبيه الذي يُقصَد به التَّكثير، وكأنَّه قيل: فآتت أُكلَها ضِعْفين، ضِعفًا بعد ضِعف، أي: أضعافًا كثيرة، وهذا أبلغُ في التَّشبيه للنَّفقة بالجنَّة؛ لأنَّ الحسنة لا يكون لها ثوابُ حسنتينِ، بل جاء: تُضاعَف أضعافًا كثيرة، وعَشْرَ أمثالِها، وسبعمئة وأزيد .
7- قوله: تَعْلَمُونَ فيه التفاتٌ من الغَيبة إلى الخِطاب الباعِث على فِعلِ الإنفاق الخالِص لوجه الله، والزَّاجِر عن الرِّياء والسُّمعة

==========


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (266- 274)
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
غريب الكلمات:

أَيَوَدُّ: أيحبُّ ويتمنَّى؛ فالودُّ: محبَّة الشَّيء، وتمنِّي كونَه
.
إِعْصَارٌ: الإعصار هو: ريح شَديدة تَعصِف، تَرفَع تُرابًا إلى السَّماء، كأنَّه عمودُ نارٍ، أو هو الغُبار الذي يَسطَع مُستديرًا، أو رِيح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السَّماء، ملتفَّة في الهواء، حاملة للتراب، مستديرة كالعمود .
وَلَا تَيَمَّمُوا: لا تَقصِدوا الرَّديء، ولا تَعمِدوا إليه .
تُغْمِضُوا فِيهِ: تترخَّصوا، وتتسامحوا، وأَصْل الغَمْض: النَّوم العَارِض، ثم استُعير للتَّغافُل والتَّساهُل .
الْفَحْشَاءِ: هي كلُّ شيء مُستقبَح ومُستشنَع، من قولٍ أو فِعلٍ .
الْحِكْمَةَ: العِلم والفِقه، وإصابة الحقِّ بالعِلم والعَقل، وأصل حَكم: المنع، وأوَّل ذلك الحَكْم، وهو المنع من الظُّلم، والإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقَّق الشيء ويحصُل إتقانُه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنعُ جزءُ معناه لا جميع معناه. والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الجَهل .
الْأَلْبَابِ: العقول الزكيَّة، مفردها لُبٌّ، وأصْل اللُّبِّ: الخُلُوص والجَوْدة، والشَّيء المُنتقَى .
نَذْرٍ: إيجابُ المرءِ على نَفْسِه ما ليس بواجبٍ .
تُبْدُوا: تُظهِروا، مِن بدَا بدوًّا وبداءً، أي: ظهَر ظُهُورًا بيِّنًا .
فَنِعِمَّا هِيَ: فنِعمَ شيئًا أو فنِعم الشيءُ هي، وأصْل النِّعمة: التَّرفُّه، وطِيبُ العَيش، والصَّلاح .
يُوَفَّ إِلَيْكُم: تُوفَّوْا أجْرَه، وأصْل التَّوفية: بلوغ التَّمام .
أُحْصِرُوا: أي: مُنِعوا وحُبِسوا عن التَّصرُّف في مَعايِشِهم؛ خَوفَ العَدُوِّ، وأصْل الحَصْر: التَّضييق والمنْع .
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ: ذَهابًا فيها، أي: تِجارةً وغيرها كالسَّفر .
التَّعَفُّفِ: تَرْك السُّؤال، والكفُّ عمَّا لا ينبغي، والعِفَّة كذلك: حصولُ حالة للنَّفس تَمتنِع بها عن غَلبةِ الشَّهوة .
بِسِيمَاهُمْ: بعلاماتهم وآثارهم؛ فأصْل الوَسْم: الأَثَر والمَعلَم .
إِلْحَافًا: إلحاحًا، وأصْله: الاشتمال والمُلازَمة

.
مشكل الإعراب:

1- قوله فَنِعِمَّا هِي: نِعِمَّا: مركَّبة من (نِعم) و(ما)؛ فأمَّا نِعم: ففعل ماضٍ جامد لا يتصرَّف، مبنيٌّ على الفتْح. وما: نكرة موصوفة بمعنى شيئًا، منصوبة على التمييز. والفاعل ضمير مستِتر في نِعْم، تقديرُه: هي، عائدٌ على الصَّدقات. وقيل: (ما) معرفة تامَّة، فاعل نعم، أي: نِعْم الشيءُ. وهي: ضمير مبنيٌّ في محل رفع مبتدأ، والجملة قبله (نِعما) في محل رفْع خبر له، والتقدير: إن تبدوا الصدقات فهِيَ نِعم شيئًا، أو فهي نعم الشيءُ
.
2- قوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ
ويُكفِّرُ: فعل مضارع، يجوز فيه الجزمُ والرَّفْع؛ فمَن جزَمه عطَفَه على موضِع الفاء في قوله: فَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ. ومَن رفَع فعلى القَطْع بتقدير مبتدأ؛ فمَن قرأ بالنون ورفع قدَّره: ونحن نُكفِّرُ، ومَن قرأ بالياء ورفع قدَّره: والله يُكفِّرُ عنكم

.
المعنى الإجمالي :

أيرغبُ أحدُكم- يا مَن تَمُنُّون وتُراؤون- أن يَملِك بستانًا من أشجار النخيل والعِنَب، تجري فيه الأنهار، وقد احتوى أيضًا على جميع أصناف الثِّمار، وكَبِرت سنُّ صاحبه، فازداد حِرْصُه عليه؛ لضَعْفه عن التَّكسُّب، وكان له ذرية يَعولهم لا يستطيعون لضَعْفهم القيامَ بأمورهم، ومع تلك الحاجة الماسَّة إلى ذلك البُستان، حلَّت عليه كارثةٌ، فاجتاحته ريح قويَّة فيها نار، فأَحرقتْ ذلك البُستانَ، فإذا عايَن صاحبُها ما آل إليه بُستانُه، فكم سيكون في قلبه من الغمِّ والحَسرة، والألمِ والحزنِ، فكذلك حالُ مَن أنفق لوجهِ اللهِ أولًا؛ حتى حقَّق الأجرَ العظيم، ثم أَفسَد ذلك بما يُبطِل أجرَه كالمنِّ والأذى، وفي الوقتِ الذي هو أَحْوجُ ما يكون إليها بعد موته يجِد تلك الأجورَ قد تلاشتْ، وبمِثْل هذا البيان يُوضِّح الله الآياتِ؛ ليتفكَّر العبادُ ويتدبَّروا.
ثم يَحُثُّ الله عبادَه المؤمنين أنْ يُخرِجوا زَكواتِهم وصدقاتِهم من أجود أموالهم التي اكتسبوها بالحلال، وممَّا أخرج الله لهم مِن الأرضِ من ثِمار وزُروع وركِاز ومَعادن، مُتْبِعًا ذلك الحثَّ بنهيهم عن أنْ يَقصِدوا الرَّديءَ من أموالهم ليتصدَّقوا به، ذلك الرَّديءُ من الأموال الذي لو كانوا هم في مقامِ آخِذ الصَّدقةِ، فلن يأخذوه إلَّا بإغماضِ بعض بَصَرهم عنه، وأمرهم أن يتيقَّنوا أنَّ الله غنيٌّ حميد.
ثم يُخبِر تعالى عبادَه المؤمنين أنَّ الشيطان يُخوِّفهم الفقرَ إنْ هم تَصدَّقوا، ويأمرهم بالبخلِ وبجميعِ المعاصي والمُنكَرات، والله سبحانه يَعِدُكم- أيُّها المؤمنون- مغفرةً لما يَصدُر منكم، ويَعِدُكم أن يُخلِف عليكم ما تصدَّقتم به، ويَزيد في أجوركم وأرزاقكم، والله واسع عليم؛ يُعطي سبحانه الحِكمةَ مَن يشاء من عباده، ومَن يُكرِمه الله بالحِكمة، فقد أُعْطي خيرًا عظيمًا، ولا يتَّعِظ بمواعظِ الله تعالى- فيذكُر وعْدَه ووعيدَه، فيَمتثِل لِمَا أُمر به، ويَنتهي عمَّا نُهي عنه- إلَّا أصحابُ العقولِ الكاملة.
ثم يُخبِر الله تعالى عبادَه أنَّ أيَّ صَدقةٍ تصدَّقوا بها، أو أي نَذْر أَلزَموا به أنفسَهم، فإنَّ ذلك تحت عِلْم الله، الذي لا يَخْفى عليه شيء، ويُجازيهم عليها، وليس لمَنْ لم يُنفِق ما وجَب عليه ولم يُوفِ بما نذَره أحدٌ يَنصُره من الله يوم القيامة.
ثم يُخاطِب عبادَه سبحانه بأنَّهم إنْ أَظهَروا الصَّدقاتِ، فأَعطَوها علانيةً فنِعْم الشيء هي، ما دام أنَّها لله، وقد حصَل المقصودُ منها، وإن أَخْفَوا الصَّدقات، وأَعْطَوها الفقراءَ سرًّا فهو أفضل من الإظهار، ويُكفِّر الله السيِّئاتِ بهذه الصَّدقات المُعلَنة منها والمخفيَّة، واللهُ مُطَّلِعٌ على ما يعملون من أعمالٍ، فيُحصيها ويُجازيهم بها.
ثم يتوجَّه الخطابُ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فيُخبِره تعالى أنَّه ليس عليه هداية الخَلْق هدايةَ التَّوفيق، ولكن عليه البلاغ والإرشاد؛ فالله هو الذي يَهدي مَن يشاء إلى دِينه. ثم يُخبِر تعالى أنَّ ما يتصدَّق به المُنفِقون من خير فنَفْعه الحقيقي عائدٌ عليهم، وأنَّ النَّفقة النَّافعة لصاحبها هي ما كانت خالصةً لله تعالى، وابتغى بها صاحبُها النظرَ إلى وَجْه الله الكريم، وأنَّ ما يتصدَّقون به من مالٍ يؤدَّى إليهم أجْرُه في الآخرة كاملًا، فلا يَضيعُ عند الله شيء.
ثم أَرْشد سبحانه إلى أنْ تُعطى تلك النَّفقات لمن لا يَملِكون شيئًا يَسُدُّ حاجتَهم، ممن حبَسوا أنفسَهم على الجهاد في سبيل الله، وحبَسهم أيضًا تَربُّص أعدائهم بهم، فلا يستطيعون التصرُّف في أشغال الدُّنيا، ولا الضرب في الأرض طلبًا للرِّزق، يَظُنُّهم مَن يَجهَل أمرَهم، أغنياءَ من شِدَّة تَرْكهم التَّعرضَ لسؤال الناس، وما يُميِّزهم هو آثار الحاجة التي تظهر عليهم، ويَلمَحها ذَوو الفِطنة من خلال ملامح وجوههم، أو نظراتهم، أو بعض عباراتهم، وهم لا يسألون النَّاس مطلقًا، لا مُلْحِفِين مُلِحِّين في المسألة ولا غير مُلِحِّين. ثم أخبَر تعالى أنَّ ما يَبذُلونه من مال قليلًا أو كثيرًا، فإنَّ الله يَعلَمه، وسيُحصيه، وسيَجزيهم عليه أتمَّ الجزاء.
ثم وعَد الله الذين يَبذُلون أموالَهم صدقةً في أيِّ وقت كان، من ليل أو نهار، سواء في السِّرِّ أو العَلَن، بأنَّ لهم يومَ القيامة أجرًا عظيمًا، ولا يُصيبهم خوفٌ على ما يُستقْبَل، ولا يحزنون على ما مضَى.
تفسير الآيات:

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
هذا استئنافٌ بياني أَثارَه ضربُ المثَل العجيب للمُنفِق في سبيل الله بمَثَل حبَّة أنبتت سبع سنابل، ومَثَل جنَّة برَبوة، إلى آخِر ما وصف من المثَلين، ولَمَّا أَتْبع بما يُفيد أنَّ ذلك إنَّما هو للمُنفِقين في سبيل الله الذين لا يُتْبِعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى، ثم أَتْبع بالنهي عن أن يُتْبِعوا صدقاتِهم بالمنِّ والأذى، استشرفت نَفْس السامع لتلقِّي مَثَلٍ لهم يُوضِّح حالَهم الذميمة كما ضرَب المَثَل لمن كانوا بضدِّ حالهم في حالة محمودة
فقال:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.
أي: هل يرغب أحدٌ منكم في أن يمتلك بُستانًا ذا أشجارٍ كثيرة، تَستُر ما بداخله من كثرتها، ويحوي أفضلَ أنواعِ الأشجار، وأشرفَ أنواع الثمار، وأكثرها نفعًا، ممَّا لا يوجد عادةً مجتمعًا في موضعٍ واحدٍ، ألَا وهي أشجار النَّخيل والعِنَب، وتجري في أرض هذا البستان المدهش المياهُ العَذْبة المتفرِّقة في أنحائه، فتسقيه بلا تعبٍ ولا مؤونة، ليس هذا فحسبُ، بل يشتمل أيضًا على جميع أصناف الثِّمار الشهيَّة؛ فهو بُستانٌ ذو مشهدٍ عجيب، متكاملٌ من جميع نواحيه، ممَّا يُوجِب لصاحبه الفرح العظيم، والابتهاج الشديد به .
وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
أي: كبِرتْ سنُّ صاحبِ الجنةِ، فغدا شديدَ التشبُّث بها؛ إذ لم يعُدْ قادرًا بعدُ على مباشرةِ التكسُّب، ومعاناة التجارةِ؛ للحصولِ على قُوته بنفسِه، وقد اشتدَّ حرصُه مع تقدُّمِه في العمرِ، وله عيالٌ يقومُ بحاجاتهم، لا سيَّما وأنهم عاجزون عن القيامِ بذلك بأنفسِهم؛ إمَّا لصغرهم، أو لغير ذلك من أسبابِ العجزِ، فهم كَلٌّ عليه، فكُلُّ هاتيك الشدائدِ مجتمعةً تدفعه نحوَ شدَّةِ التعلُّق بجنَّتِه، فهو أحوجُ ما يكونُ إليها في مِثل هذه الأحوالِ العصيبة، فبينما هو على ذلك إذ حلَّت الكارثةُ بها، حين اجتاحتها ريحٌ عاصفٌ تستديرُ في الأرضِ، ثم ترتفعُ في طبقاتِ الجوِّ كالعمود، وقد احتوت على نارٍ أحرقتْ تلك الجنةَ، فتلفتْ دفعةً واحدةً، فلا تسألْ بعدَها عن فظاعةِ حالِه وسوءِ ما حلَّ به مِن الهمومِ والغمومِ والأحزانِ، وقد أصبح صِفرَ اليدين بلا شيء يملكُه.
فكذلك مَن أنفق لوجهِ الله تعالى بادئَ الأمرِ، فنفقتُه بمنزلةِ البذرِ للزُّروعِ والثِّمارِ، ولا يزال ُكذلك حتى يحقِّقَ مِن عملِه هذا حسناتٍ عظيمةً، بمثابة جنةٍ غنَّاء، في غايةِ الحسنِ والبهاءِ، لكنه أفسدَ نفقاتِه بما يُبطلُ الأجرَ، كالمنِّ والأذَى، وذلك بمنزلةِ الإعصارِ الذي فيه نارٌ، فأحرق جنتَه، وهو أحوجُ ما يكون إليها، فكذلك إذا مات أصبح في حالٍ لا يقدرُ معها على العملِ الصالحِ، ولا له نصيرٌ أو شفيعٌ، فيجدُ أنَّ نفقاتِه التي يرجو نفعَها قد صارت هباءً منثورًا .
عن عُبَيد بن عُمَير قال: قال عمرُ رضي الله عنه يومًا لأصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: (فيمَ تَرون هذه الآية نزلتْ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ؟ قالوا: الله أعلم، فغضِب عمرُ، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عبَّاس: في نفْسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا أخي، قُلْ ولا تَحقِر نَفْسك، قال ابن عبَّاس: ضُربت مَثَلًا لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عبَّاس: لعملٍ. قال عمر: لرجل غني يَعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ، ثم بعث الله له الشيطان، فعمِل بالمعاصي حتى أغرق أعمالَه) .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
أي: كما بيَّن لكم ربُّكم جلَّ وعلا أمرَ النَّفقة في سبيله، كذلك يُبيِّن لكم الآياتِ التنزيليَّة والكونيَّة، فيعرِّفكم أحكامَها وحلالَها وحرامها، ويُوضِّح لكم حُججَها؛ لتتفكَّروا بعقولكم فتتدبَّروا وتعتبِروا وتَفهَموا الأمثالَ والمعاني، وتُنزِلوها على المراد منها؛ لتُطيعوا الله جلَّ وعلا، فلو تَصوَّر مَن له أدنى مُسْكة من عقل هذا المَثَل حقَّ تَصوُّره، وتأمَّلَه كما ينبغي، لم يُقدِم على ما فيه مضرَّته وندامته، ولَمَا سوَّلت له نفْسه إحراقَ أعماله الصالحة، وإضاعة أجورها .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
بعد أنْ ذكَر الله عزَّ وجلَّ فضيلةَ الإنفاق في سبيله ابتغاءَ وَجْهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصَدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ مُبيِّنًا ما يُنفَق منه .
سبب النُّزول:
عن البَراء رضي الله عنه، أنَّه قال في قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ: (نزلت فينا -معشر الأنصار- كنَّا أصحابَ نَخْل، فكان الرجلُ يأتي من نخله على قَدْر كَثْرته وقلَّته، وكان الرجلُ يأتي بالقِنْو والقِنْوين فيُعلِّقه في المسجد، وكان أهل الصُّفَّة ليس لهم طعامٌ، فكان أحدهم إذا جاء أتى القِنْو فضربه بعصاه، فيَسقُط البُسْر والتَّمر فيأكل، وكان ناسٌ ممَّن لا يَرغَب في الخير يأتي الرجل بالقِنْو فيه الشِّيص والحَشَف والقِنْو قد انكسر، فيُعلِّقه فأنزل الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، قال: لو أنَّ أحدكم أُهْدِي إليه مِثْل ما أَعْطى، لم يأخذْه إلَّا على إغماضٍ أو حياءٍ)، قال: فكنَّا بعد ذلك يأتي الرَّجل بصالح ما عنده )) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
أي: يَحُثُّ الله تعالى عبادَه المؤمنين على أن يُزكُّوا ويتصدَّقوا من أجود أموالهم التي اكتسبوها حلالًا بالتِّجارة، وأمرهم أن يُنفِقوا من الثِّمار والزروع والرِّكاز والمعادن التي أخرجها لهم سبحانه من الأرض، فكما منَّ عليهم بتيسير الحصول على ذلك، فلْيُنفِقوا منه شكرًا له عزَّ وجلَّ .
وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ.
أي: لا تَقصِدوا الرَّديء من أموالكم فتتصدَّقوا منه، وتُمسِكوا الجيِّد لأنفسكم؛ فإنَّ هذا ليس من العدل في شيء، ولكن تصدَّقوا من الطيِّب الجيِّد، فإنَّكم لو كنتم مكانَ آخذ الصَّدقة والحالة هذه، فلستم بآخذيها إلَّا على وَجْه التَّسامح والتغاضي عن ذلك، فإنَّكم لكَراهتِكم إيَّاه تُغمِضون بَعضَ بَصَركم عنه؛ إذ لا يملأ أعينَكم لرداءته، فالله عزَّ وجلَّ أحقُّ أن يُبذَل لأجلِه أطايبُ المال؛ فإنَّه سبحانه طيِّبٌ لا يَقْبل إلا طيِّبًا .
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أي: اعلموا أيُّها النَّاس، أنَّ الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عنكم وعن أعمالكم، ومنها صدقاتكم، فلا حاجةَ له بها، وإنَّما أمركم بها؛ رحمةً منه لكم، فنفْعها عائدٌ إليكم؛ إذ يُغْني بها فقيرَكم، ويُقوِّي بها ضعيفَكم، ويُثيبكم عليها.
واعلموا أيضًا أنَّه سبحانه المحمودُ على جميع صِفاته وأفعاله وأقواله وشَرْعه وقَدَره، ومن ذلك غناه، فإنَّه يُحمَد عليه سبحانه، ومن ذلك أيضًا ما يأمركم به من الأوامر الحميدة، والأخلاق الجميلة، وهو عزَّ وجلَّ يَحمَد مَن يَستحِقُّ الحمد؛ فأثنى على أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده .
كما أنَّ غناه وحمْده يَأبيَان قَبُول الرَّديء، فإنَّ مَن يأخذه؛ إمَّا أنْ يَقْبله لحاجته إليه، وإمَّا أنَّ نفسه لا تأباه؛ لعدم كمالها وشرفها، وأمَّا الغنيُّ عنه الكامل الأوصاف سبحانه، فإنَّه لا يَقْبله .
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا رغَّب اللهُ في إنفاق أجودِ ما يَملِكه الإنسان، حذَّر بعد ذلك من وسوسة الشَّيطان فقال:
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ.
أي: إنَّ الشيطان يخوِّفكم- أيُّها المؤمنون- بالافتقار إن تصدَّقتم، فإذا صوَّر لكم هذه الصورة أَمَركم بالبُخل الذي هو من أقبح الفواحش؛ لتُمسِكوا ما بأيديكم فلا تُنفِقوه في مرضاة الله تعالى، وتشمل الفحشاء أيضًا ما سوى البُخل، من قبائح المعاصي والمنكرات .
وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ يَعِدُكم- أيُّها المؤمنون- بأنْ يَسترَ عليكم ما ارتكبْتُموه مِن فحشاء، ويتجاوزَ عن مؤاخذتِكم بها؛ لما تقدِّمونه مِن صدقاتٍ وغيرِها، وهذا في مقابلةِ أمرِ الشيطانِ لكم بالفحشاءِ،كما يعدُكم اللهُ تعالى بأن يعوِّضَكم عمَّا تصدقتم به، بمنحِكم المزيدَ مِن الأجورِ والأرزاقِ في الدنيا والآخرة، وذلك في مقابلةِ تخويفِ الشَّيطانِ لكم بالفقرِ .
وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى واسع الفضل، واسع الصِّفات، ومن ذلك سَعَةُ عِلْمه؛ فهو عليمٌ بمن يَستحِقُّ فضْله منكم، وعليم بنفقاتكم التي تُنفِقون، فيُحصيها لكم ويُجازيكم بها من سَعَة فضله .
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المُشتمِلة على الأسرار والحِكَم، وكانت معرفة ذلك لا تَحصُل لكلِّ أحد، بل لمن منَّ عليه فآتاه الحكمة، ولَمَّا ذَكَر أحوال المنفقين للأموال، وأنَّ الله أعطاهم، ومنَّ عليهم بالأموال التي يُدرِكون بها النَّفقات في مسالك الخيرات، وينالون بها سَنِيَّ المقامات، ذكَر ما هو أفضلُ من ذلك، ولَمَّا كان بذْل النَّفقات المالية التي سبق ذِكْرها، وبذْل الحِكمة العلميَّة، من أفضل ما يتقرَّب به المتقرِّبون إلى الله تعالى، كما جاء عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((لا حسدَ إلَّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ مالًا؛ فسلَّطَه على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجلٌ آتاه اللهُ الحِكمةَ؛ فهو يَقضي بها ويُعلِّمُها )) - قال تعالى :
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعطي الوهَّابُ عزَّ وجلَّ مَن يشاء من عباده معرفةَ الحقِّ، ومعرفة المقصود منه، والعمل به، وبذلك يتمكَّن من الإصابة في القول والعمل، وتنزيل الأمور منازِلَها في نفْسه وفي غيره، ووضْعها في مواضِعها اللائقة بها؛ فإنَّ الإصابةَ في الأمور إنَّما تكون بفَهْم القرآن والفقه في حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، مع الخشية لله تعالى، والنُّبوة من الحكمة؛ لأنَّ الأنبياء مُسدَّدون، مُفهَّمون، ومُوفَّقون لإصابة الصَّواب .
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
أي: إنَّ من يُعطَى تلك الحِكمة من العباد، فيخرج من ظُلْمة الجهل إلى نورِ الهُدى، ومن حُمْق السَّفه والانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصَّواب فيهما، وحصول التَّوفيق والسَّداد، فقد مُنح خيرًا عظيمًا لا يُقدَّر؛ فإنَّ الحكمة أفضلُ الأُعطيات، وهي أجلُّ المنح والهِبات .
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
أي: لا يتَّعظ بما وعظ به الله تعالى في آياتِه المُنفِقين أموالَهم وغيرَهم، فيَذكُر وعدَه ووعيدَه، فيَنزجِر عمَّا زجره عنه ربُّه، ويُطيعه فيما أمره به سبحانه، إلَّا أصحابُ العقول الكاملة، الذين يَعقِلون بها عن الله عزَّ وجلَّ أمرَه ونهيه .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال، ثمَّ حثَّ أولًا: بقوله وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ، وثانيًا: بقوله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، حثَّ عليه ثالثًا فقال:
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ.
أيْ: أَيَّ صدقة بذلتموها، أو أيَّ نَذْر نَذرتموه ممَّا أَلزَم المرءُ به نفسَه، فإنَّ الله تعالى لا يَخْفى عليه من ذلك شيء، فيعلم نيَّتَكم بها، ويعلم ما قدَّمتم منها، فيُحصيه عليكم ويُجازيكم به، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ.
أي: ليس لِمَن لم يُنفِق ما وجب عليه من النَّفقات ولم يوفِّ ما أَوجَبه على نفسه من المنذورات، أو كانت نفقتُه أو نَذْره في غير طاعة الله عزَّ وجلَّ، ما له أحد يَنْصُره من الله يوم القيامة؛ لأنَّه ظالم بوضْعه إنفاقَ ماله أو نَذْرَه في غير موضِعه الصَّحيح، وعلى غير الصِّفة المأمور بها شرعًا .
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أولًا أنَّ الإنفاق منه ما يَتْبَعه المنُّ والأذى، ومنه ما لا يكون كذلك، وذكر حُكْمَ كلِّ واحد من القِسْمين، ثم ذكر أنَّ الإنفاق قد يكون من جيِّدٍ، أو من رَديء، وذكَر حُكْمَ كلِّ واحد من القسمين- ذكر في هذه الآية أنَّ الإنفاق قد يكون ظاهرًا، وقد يكون خفيًّا فقال:
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.
أي: إنْ تُظهِروا الصَّدقاتِ فتُعطوها علانيةً، فنِعْم الشيءُ هي؛ لحصول المقصود بها، ما دام أنَّها لأجْل الله تعالى .
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
أي: إنْ تَستروا صدقتَكم غيرَ المفروضة عليكم، فتُعْطوها الفقراءَ في السرِّ، فإخفاؤكم إيَّاها أفضلُ لكم من إظهارها وإعلانها، ففي إخفائها: السَّترُ على الفقير، وحِفْظ ماء وجهه بعدم تَخجيله وفضيحته بين الناس، وهذا قدْرٌ زائدٌ عن الإحسان إليه بمجرَّد الصَّدقة، مع كونه أَدْعى إلى إخلاص صاحبها، وأَبْعدَ له عن الرِّياء.
وقيَّد تعالى الإخفاءَ بإيتاء الفقراء خاصَّة؛ لأنَّ من الصَّدقة ما لا يُمكِن إخفاؤه كتجهيز الجيش، أو يتَرتَّب على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ، كإظهار شعائر الدِّين، وحصول اقتداء النَّاس به .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((سبعةٌ يُظِلُّهُم اللهُ تعالى في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تَحابَّا في اللهِ؛ اجتَمَعا عليه، وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما تُنْفِقْ يمينُه، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عَيناه )) .
عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا نزلت هذه الآية لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] أو الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، قال أبو طلحة- وكان له حائط- فقال: يا رسول الله، حائطي لله، ولو استطعتُ أنْ أُسِرَّه لم أُعْلِنه، فقال: اجعلْه في قرابتك أو أقربيك )) .
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: ويكفِّر قراءات:
1- قراءة (وَنُكَفِّرُ)، على معنى الإخبارِ مِن الله عزَّ وجلَّ عن نفسِه، على وجهِ التفخيمِ والتعظيمِ .
2- قراءة (وَيُكَفِّرُ) بإضمارِ ضميرٍ يعودُ على اللهِ تعالى في الفعلِ؛ لأنَّه هو المكفِّرُ حقيقةً. وهو الراجح بحمله على قراءة (وَنُكَفِّرُ)، وقيل: إنَّه يعودُ على صرفِ الصَّدقاتِ، أي: ويكفرُ صرفُ الصدقاتِ. وقيل: إنَّه يعودُ على الإخفاءِ المفهومِ من قوله: (وإن تخفوها)، ويجوزُ أن ينسب التَّكفيرِ للصرفِ والإخفاءِ؛ لأنَّهما سببٌ للتكفيرِ، وكما يجوزُ إسنادِ الفعلِ إلى فاعلِه، يجوزُ إسنادُه إلى سببِه .
3- قراءة (وَنُكَفِّرْ) معطوفًا على جوابِ الشرطِ الثاني في قوله تعالى: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، إيذانًا بدخولِ التكفيرِ للسيئاتِ في الجزاءِ، إنْ أُخفِيت الصدقةُ .
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ.
أي: إنَّه لَمَّا امتدَح اللهُ تعالى الصدقةَ عَلَنًا كانت أو سرًّا، لا سيَّما إن كانت سرًّا؛ لأنَّها أفضل للمُتصدِّق، وتضمَّن ذلك حصولُ الثَّواب، بيَّن أنَّه يَسْتُر بها السيِّئاتِ جميعَها، أو بعضَها؛ دفعًا للعقاب .
وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ مُطَّلِعٌ على ما تعملون في صدقاتِكم، من إعلانٍ بها وإسرار، وعلى غير ذلك من أعمالكم، فيُحصيها لكم ويُجازي كلًّا بعمله، فهو سبحانه ذو علمٍ ببواطن الأمور وظواهِرها، لا يَخْفى عليه شيءٌ من أعمالكم ونيَّاتِكم .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272).
سبب النُّزول:
عن سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((كانوا يَكْرَهون أن يَرضَخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرُخِّص لهم، فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون)) .
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((كان يأمرنا ألَّا نَتصدَّق إلَّا على أهلِ الإسلام، حتى نزلت هذه الآية، فأمَرَنا بالصَّدقة بعدها على كلِّ مَن سألك من كل دِين)) .
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
أي: ليس عليك- يا محمَّد- هداية الخَلْق إلى الإسلام هدايةَ توفيقٍ، وإنَّما عليك البلاغ وهو هداية الإرشاد، فلا تَمتنِعْ من بذْل الصَّدقة للكفَّار والمشركين؛ كي يَدخلوا في الإسلام حاجةً منهم إليها، ولكنَّ الله تعالى هو الَّذي يَهدي وحده مَن يشاء من خلْقه إلى الإسلام فيُوفِّقهم له، فلا تمنعهم الصَّدقة ولو لم يهتدوا .
عن أسماءَ بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت: (قَدِمتْ أُمِّي وهي مُشرِكَةٌ، في عهدِ قُريشٍ ومُدَّتِهِم إذ عاهَدوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مع أبيها، فاستَفتَيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقُلْتُ: إنَّ أُمِّي قَدِمَت وهي راغِبَةٌ؟ قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ ) .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ.
أي: إنَّ كلَّ ما تَبذُلونه صدقةً من الأموال- قليلةً أو كثيرةً- على أيِّ شخص- مسلمًا كان أو كافرًا- فنفْعُه في الحقيقة عائدٌ إليكم، وليس لله تعالى حاجةٌ به، والنفقة النافعة لصاحبها والمعتدُّ بها، هي ما كانت خالصةً لله تعالى، وطلَب بها صاحبُها الفوزَ في الآخرة بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه، وتلك هي صدقات المؤمن؛ فإنَّ إيمانهم يُحتِّم عليهم الإخلاصَ لله عزَّ وجلَّ، وإذا تَصدَّق بهذه النيَّة فقد وقع أجرُه على الله تعالى، ولا عليه في نَفْس الأمْر لمن أصاب: ألِبَرٍّ أو فاجرٍ، فهو مُثابٌ في جميع الأحوال على قصْده .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((قال رجلٌ: لأتصدَّقنَّ الليلةَ بصدقةٍ، فخرج بصدقتِه فوضعها في يدِ زانيةٍ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّق الليلةَ على زانيةٍ، قال: اللهمَّ لك الحمد على زانيةٍ، لأَتصدَّقنَّ بصدقةٍ. فخرج بصدقتِه فوضعها في يدِ غَنيٍّ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّق على غنيٍّ، قال: اللهمَّ لك الحمدُ على غنيٍّ، لأَتصدقنَّ بصدقةٍ. فخرج بصدقتِه فوضعها في يد سارقٍ، فأصبحوا يتحدَّثون: تُصُدِّقَ على سارقٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمد على زانيةٍ، وعلى غنيٍّ وعلى سارقٍ، فأُتِيَ فقيل له: أمَّا صدقتُك فقد قُبِلَتْ، أما الزَّانيةُ فلعلَّها تستَعِفُّ بها عن زِناها، ولعلَّ الغنيَّ يَعتَبِر فيُنفِق ممَّا أعطاه اللهُ، ولعلَّ السارقَ يَستعِفُّ بها عن سرقتِه )) .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
أي: إنَّ أيَّ مالٍ تَتصدَّقون به، قليلًا كان أو كثيرًا؛ فإنَّ أجره يُؤدَّى إليكم في الآخرة كاملًا من غير نَقْص؛ فلا يَضيع عنده سبحانه مثقالُ ذرَّةٍ من ذلك .
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى في الآيةِ الأولى أنَّه يجوز صَرْفُ الصَّدقة إلى أيِّ فقير كان، بيَّن في هذه الآية مَن هو أشدُّ النَّاسِ استحقاقًا بصرف الصَّدقة إليه ، فقال:
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ.
أي: اجعلوا صدقاتِكم للمُعْدَمين، الخاليةِ أيديهم من أيِّ شيء يقوم بمعيشتهم، لمَن حبَسوا أنفسَهم على الجهادِ في سبيل الله تعالى، فحبَسهم ذلك بدوره- مع خوفهم مِن تَربُّص أعدائهم بهم- عن التَّصرُّف في أشغال الدنيا، فلا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد؛ ابتغاءَ المعاش وطلب الرزق .
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا.
أي: يَحسَبهم الجاهلُ بأمرهم وحالهم ممَّن لا فِطْنة لديه، أغنياء من شدَّة تَرْكهم التَّعرض لما في أيدي الناس، وكِتمانهم حاجتهم صبرًا منهم على البأساء والضَّراء، لكن بإمكان ذوي الألباب تمييزُهم بالتَّوسُّم والتَّفرُّس فيهم، وعلى رأسهم محمد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فيعلمون حقيقةَ حالهم من خلال علاماتهم، وآثار الحاجة البادية عليهم، من ملامِح وجوههم، أو نظراتهم، أو بعض عباراتهم، أو غير ذلك.
ونفَى اللهُ تعالى عنهم بالكلِّيَّة طلبَ حاجةٍ من الناس، وخاصَّةً الطلب المُصاحِب للشَّرَهِ والضَّراعة التي تكون في المُلحِّين، فهم بعيدون عن ذلك تمامًا؛ لأنهم يَستَمِدُّون العَونَ من الله تعالى وحده.
فهذا الصِّنف من الفقراء هو أَوْلى المستحِقِّين للصَّدقة؛ لدَفْع حاجتهم، وإعانتهم على مَقصِدهم، وشكرًا لهم على ما اتَّصفوا به من جميل الأخلاق، وقصْر أنظارِهم على الخلَّاق .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ليس المِسكينُ الذي تَرُدُّه التمرةُ والتَّمرتان، ولا اللُّقمةُ ولا اللُّقمتان، إنَّما المِسكينُ الذي يَتَعَفَّفُ، واقرَؤوا إن شِئتُم- يعني قولَه: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)) .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ كلَّ ما تُنفِقونه من أيِّ خيرٍ كان قليلًا أو كثيرًا، فإنَّ الله تعالى يعلمه، ويُحصيه لكم، وسيَجزيكم عليه أتمَّ الجزاء .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
قيل لَمَّا حضَّ سبحانه وتعالى على النَّفقة، وبيَّن أنَّ أكمل من تُصرَف إليه النفقة من هو، بيَّن في هذه الآية أنَّ أكمل وجوه الإنفاق كيف هو ، فقال:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274).
أي: إنَّ الإنفاق في أيِّ وقتٍ كان ليلًا أو نهارًا، وعلى أيِّ حالٍ وُجِد سرًّا أو علانيةً، فإنَّه سبب الجزاء على كلِّ حال؛ فليبادرْ إليه العبد- ولا يؤخِّره- في جميع الأوقات والأحوال، فإنَّ مَن يقوم بذلك، له يوم القيامة أجرٌ عظيمٌ، ولا يُصيبه خوفٌ على ما يُستقبَل، ولا يَعْتريه حزنٌ على ما مضَى، فيفوز بحصول المرغوب، والنَّجاة من المرهوب

.
الفوائِد التربويَّة:

1- الحثُّ على التفكُّر فيما يُمكِن الوصول إليه بالتَّفكُّر فيه، كما في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
.
2- أنَّ مِن مُقتضى الإيمان امتثالَ أمر الله، واجتنِابَ نهيه؛ ووجْهه أنَّ الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا؛ فلولا أنَّ للإيمان تأثيرًا، لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغوًا لا فائدة منه .
3- فضيلةُ العقل؛ لقوله تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ؛ لأنَّ التَّذكُّر- بلا شكٍّ- يُحمَد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلَّا مِن صاحب العقل دلَّ ذلك على فضيلة العقل .
4- أنَّه لا يتَّعِظ بالمواعظ الكونيَّة أو الشَّرعيَّة إلَّا أصحابُ العقول، الذين يتدبَّرون ما حصل من الآيات سابقًا ولاحقًا فيَعتبِرون بها، وأمَّا الغافل فلا تَنفْعه؛ قال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .
5- أنَّه ينبغي للإنسان إذا أَنفَق نفقةً أن يَحتسِب الأجرَ على الله؛ لقوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ؛ لأنَّ مَن أنفَق وهو يَشْعُر أنَّ الله يعلم هذا الإنفاقَ، فسوف يَحتسِب الأجرَ على الله .
6- أنَّ إخفاءَ الصَّدقة أفضلُ من إبدائها؛ لأنَّه أقربُ إلى الإخلاص، وأَسْتر ُللمُتصدِّق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحةٌ تَرجُح على إخفائِها- مِثْل أن يكون إبداؤها سببًا لاقتِداء النَّاس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دَفْع ملامة عن المُتصدِّق، أو غير ذلك من المصالِح- فإبداؤها أفضل .
7- إنَّ شأن المؤمن أنه لا ينفق رياءً أو سمعةً؛ طلبًا للتعالي على الناس، أو إرضاءً لأحدٍ منهم، أو إرادةَ تكريمهم له، أو لنيل أيِّ غرضٍ دنيويٍّ آخر، وإنما ينفق ما ينفق خالصًا لله جلَّ وعلا، كما قال سبحانه: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ .
8- الإشارة إلى الفراسة، والفِطْنة؛ لقوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ؛ فإنَّ السِّيما هي العلامة التي لا يَطَّلِع عليها إلَّا ذوو الفراسةِ .
9- في قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ بيانُ عَداوةِ الشَّيطان للإنسان؛ لأنَّه في الواقع عدوٌّ له في الخبر، وعدوٌّ له في الطَّلب؛ في الخبر: يَعِدُه الفقر؛ وفي الطلب: يأمُره بالفحشاء؛ فهو عدوٌّ مخبرًا وطالبًا، والعياذ بالله .
10- أنَّ مَن أَمَر شخصًا بالإمساك عن الإنفاق المشروع، فهو شبيهٌ بالشَّيطان، وكذلك مَن أمَر غيره بالإسراف، فالظَّاهر أنَّه شيطان؛ لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] .
11- أنَّ هذه المغفرةَ التي يَعِدُنا الله بها مغفرةٌ عظيمة؛ لقوله تعالى: مِنْهُ؛ لأنَّ عِظَم العطاءِ مِن عِظَم المُعطي .
12- أنَّه ينبغي للمُنفِق أنْ يتفاءل بما وعَد الله؛ لقوله تعالى: وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا؛ فإذا أَنْفَق الإنسانُ وهو يُحسِن الظنَّ بالله عزَّ وجلَّ أنَّ الله يَغْفِر له الذُّنوبَ، ويَزيده من فضله- كان هذا من خير ما تنطوي عليه السَّريرة .
13- أنَّ ما في الإنسان من العِلْم والرُّشد فهو فَضْل من الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ؛ فإذا مَنَّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعِلم، ورُشْد، وقوَّة، وقُدرة، وسَمْع، وبصر فلا يترفَّع؛ لأنَّ هذه الصفات من الله عزَّ وجلَّ؛ ولو شاء الله لحَرَمه إيَّاها، أو لسَلبه إيَّاها بعد أن أعطاه إيَّاها؛ فقد يسلُب اللهُ العِلْمَ من الإنسان بعد أنْ أعطاه إيَّاه؛ وربما يَسلُب منه الحكمةَ؛ فتكون كلُّ تصرُّفاته طيشًا وضلالًا وهَدَرًا .
14- تحذيرُ العبد من المخالَفة؛ لقوله تعالى: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؛ فإنَّ إخبارَه إيَّانا بذلك يَستلزِم أن نخشَى من خِبرته عزَّ وجلَّ؛ فلا يَفقِدنا حيث أَمَرنا، ولا يرانا حيث نهانا

.
الفوائد العلمية واللَّطائف :

1- بيانُ تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنَّه أَقْرب إلى الفَهْم؛ وَجْه ذلك أنَّ الله سبحانه ضرَب مَثَلًا للمانِّ بالصَّدقة بصاحب الجَنَّة، كما قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ
.
2- وجوب الزكاة في عُروض التَّجارة؛ لقوله تعالى: مَا كَسْبْتُمْ؛ ولا شكَّ أن عُروض التِّجارة كَسْب؛ فإنَّها كَسْب بالمعاملة .
3- يُستفادُ من قوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ أنَّ المال الحرام لا يُؤمَر بالإنفاق منه؛ لأنَّه خبيث؛ والله تعالى طَيِّب لا يَقْبَل إلَّا طيِّبًا .
4- الردُّ على الجَبْريَّة؛ لقوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ؛ ووَجْه الدَّلالة: أنَّه لو كان الإنسان مُجبَرًا على عملِه لم يَصِحَّ أنْ يُوجَّه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنَّه لا يَقدِر على زعْم هؤلاء الجبرية؛ ولأنَّ الله أضاف الكسبَ إلى المخاطَب في قوله تعالى: مَا كَسْبْتُمْ؛ ولو كان مُجبَرًا عليه لم يَصِحَّ أن يكون مَن كَسْبه .
5- وجوب الزَّكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ .
6- في قوله تعالى: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أضاف سبحانه الكسبَ إليهم، وإنْ كان هو الخالقَ لأفعالهم؛ لأنَّه فِعْلُهم القائم بهم، وأَسْنَد الإخراج إليه؛ لأنَّه ليس فِعْلًا لهم، ولا هو مقدورًا لهم، فأضاف مقدورَهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قُدْرة عليه إليه، ففي ضِمْنه الردُّ على مَن سوَّى بين النَّوعين، وسلَب قدرةَ العبد وفِعْله وتأثيره عنه بالكُليَّة .
7- قال تعالى: في قوله تعالى: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، خصَّ سبحانه هذين النَّوعين، وهما: الخارجُ من الأرض، والحاصلُ بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي؛ إمَّا بحسَب الواقع؛ فإنَّهما كانَا أغلبَ أموالِ القوم إذ ذاك، فإنَّ المهاجرين كانوا أصحابَ تِجارة وكسْب، والأنصار كانوا أصحابَ حَرْث وزَرعِ؛ فخصَّ هذين النَّوعين بالذِّكر لحاجتهم إلى بيان حُكْمهما، وعموم وجودهما، وإمَّا لأنَّهما أصولُ الأموال، وما عداهما فعنهما يكون، ومنهما ينشأ؛ فإنَّ الكسْب يدخل فيه التِّجاراتُ كلُّها، على اختلاف أصنافها وأنواعها من: الملابس، والمطاعم، والرقيق، والحيوانات، والآلات، والأمتعة، وسائر ما تتعلَّق به التِّجارة، والخارج من الأرض يتناول حبَّها وثمارَها، ورِكازها ومَعْدِنها، وهذان هما أصولُ الأموال وأغلبها على أهل الأرض؛ فكان ذِكْرهما أهمَّ .
8- وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ .
9- إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ؛ يعني إذا كنتَ لا ترضاه لنَفْسك، فلا ترضاه لغيرك، أي: قِسْ هذا بهذا .
10- إثبات إغواء الشَّياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وأنَّ للشَّيطان تأثيرًا على بني آدم إقدامًا، أو إحجامًا؛ أمَّا الإقدام: فيأمره بالزِّنا مثلًا، ويُزيِّن له حتى يُقدِم عليه، وأما الإحجام: فيأمره بالبُخل، ويَعِدُه الفقرَ لو أَنْفق، وحينئذ يُحجِم عن الإنفاق .
11- من مباحث اللَّفظ في الآية: استعمالُ الوعد في الخير والشَّر، وهو شائع لغة، ثم جرى عُرْف النَّاس أن يَخُصُّوا الوعدَ بالخير، والإيعادَ بالشرِّ، فإذا ذكَروا الوعدَ مع الشرِّ أرادوا به التَّهكُّم، على أنَّ ما يَعِدُ به الشَّيطان من الفقر هو على تقدير الإنفاق، ويلزمه الوعد بالغنى مع البخل الذي يأمر به؛ كما في قوله تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ .
12- إثبات الحكمة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الحكمةَ كمالٌ؛ ومُعْطي الكمال أَوْلى به؛ فيُؤخذ من الآية إثباتُ الحِكمة لله بهذا الطَّريق كما في قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ .
13- في قوله تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ: أنَّ مَن دعا على أخيه وهو ظالم له، فإنَّ الله لا يُجيب دعاءه؛ لأنَّه لو أُجيب لكان نَصْرًا له، وقد قال تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21] .
14- قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، أي: فنِعْم شيء هي، وهذا مدْح لها موصوفة بكونها ظاهرةً بادية، فلا يَتوهَّم مُبديها بُطلانَ أثرِه وثوابِه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تَعترِضه الموانعُ، ويُحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخِّر صدقتَه العلانيَّة بعد حضور وقتها إلى وقت السرِّ، وهذه كانت حالَ الصحابة .
15- في قوله: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ أَطلَق لفْظَ (الفقراء)، ولم يَقُل: (فقراءكم)، فدلَّ ذلك على أنَّ الصَّدقة تُستَحَبُّ على كلِّ فقير- وإن كان كافرًا- فكما وسَعتْ رحمته الكافرَ فلم يَحرِمه لكُفْره من الرِّزق بسعيه، كذلك لم يُحرِّم عليه الصَّدقةَ عند عجزه عن الكسْب الذي يكفيه .
16- تَفاضُل الأعمال، أي: إنَّ بعض الأعمال أفضلُ من بعض؛ لقوله تعالى: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .
17- في قوله تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ إثبات وجه الله عزَّ وجلَّ؛ وهو وجه حقيقي لا يُماثِل أوجهَ المخلوقين على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه؛ وهو من الصِّفات الذاتيَّة الخبريَّة؛ التي لم يَزْل، ولا يزال مُتَّصِفًا بها .
18- أنَّ الإنفاق يكون سببًا لشَرْح الصَّدر، وطرْد الهمِّ، والغمِّ؛ لقوله تعالى: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ؛ وهذا أمْر مُجرَّب مُشاهَد أنَّ الإنسان إذا أَنْفق يبتغي بها وجهَ الله انشرَح صدرُه، وسُرَّتْ نفْسُه، واطمأنَّ قلبه .
19- في تقديم اللَّيل على النَّهار، والسِّر على العلانية إيذانٌ بتفضيل صدقةِ السرِّ، وذلك في قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً

.
بلاغة الآيات:

1- أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فيه عدد من أوجه البلاغة
:
فيه مناسبةٌ حسَنة، حيث ضرب الله هذا مثلًا في مقابل مَثل النفقة لمرضاة الله والتَّصديق، وهو نفقة الرِّئاء، ووجه الشَّبه هو حصولُ خيبةٍ ويَأْسٍ في وقت تمام الرَّجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ [البقرة: 265] الآية .
وجاز عطفُ الماضي على المستقبَل -حيث عطف وَأَصَابَه الكِبَرُ على أَيَوَدُّ-؛ لأنَّ (الواو) للحال لا للعطف، ومعناه: أيودُّ أحدكم أن تكون له جَنَّةٌ حالَ ما أصابه الكِبَر، ثم إنَّها تُحرق، أو حُمل العطف على المعنى- لأنَّه يصح أن يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا- كأنَّه قيل: أيودُّ أحدُكم أن تكون له جنَّةٌ-إنْ كان له جَنَّة- وأصابه الكِبَر .
قوله: جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فيه ذكر الخاصِّ بعد العامِّ، حيث خصَّ جنَّة النخيل والأعناب بالذِّكر، مع أنَّهما من ضِمن الجنَّات؛ لأنَّ النخيل والأعناب أكرمُ الشَّجر، وأكثرها منافعَ، وجعل الجَنَّة منهما - وإن كانت محتويةً على سائر الأشجار - تغليبًا لهما على غيرهما، ثم أرْدَفهما ذِكر كلِّ الثَّمرات .
قوله: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ الإتيان بفعل (أصاب) في هذه الآيات كلِّها: (فأصابه وابل - وأصابه الكبر - فأصابها إعصار)؛ لأنَّه أبلغ وأدلُّ على التأثير بوقوع الفعل على ذلك الشيء، ولو قيل: (وَبِلَ - وكَبِر - وأعصرت)، لم يكُن فيه ما في لفظ الإصابة من المبالَغة .
2- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
قوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ... في هذه الآية من أنواع البلاغة ما يُعرف بـ(التتميم) ، وقد اندرَج التتميم في هذه الآية في صُور كالتالي:
أ- لَمَّا ذكَر سبحانه الجنة لم يكتفِ بذكرها مجرَّدةً من كلِّ قيد؛ لأنَّ الجنة في اللغة لفظ يصدُق على كلِّ شجرٍ متكاثِف ملتفٍّ، يَستر مَن يتفيَّأ بظلاله الوريفة، فتمَّم ذلك النقص بقوله: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، ثم تمَّم ذلك بذكر الأنهار الجارية؛ للدَّلالة على ديمومة الخصب؛ إذ لا فائدةَ منها إذا نضَبتْ فيها الأمواه، وكان مآلها إلى اليبس والذُّبول، ولدفْع الإيهام الذي يُخيَّل الى السَّامعين أنَّ هذه الجنة قد تكون مقتصرةً على هذين الضربين من الثمرات- وهما: النَّخيل والأعناب- تمَّم بقوله: لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ فالحسرة -إذن- على احتراقها أشدُّ، والأسف على فنائها أعمُّ.
ب- ووصف الحادِث المهلِك الذي أدَّى الى فناء الجنة بقوله: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ يجتاح الأخضرَ واليابس، على أنَّ الإعصار مهما يبلغ تأثيره فإنَّه ربما كان مؤجَّلَ الإهلاك، فدفع هذا الإيهام بقوله: فِيهِ نَارٌ فأحرقها بعد أن أوْدَى بأشجارها، ولم يكتفِ بذكر النار؛ لأنَّها قد تأتي على شيء ممَّا تحرقه، ويبقَى بعد ذلك شيءٌ آخر منها، فدفَع هذا الإيهامَ مرةً أخرى بذِكر الاحتراق فَاحْتَرَقَتْ .
قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ... في هذه الآية من طُرق البلاغةِ في الخِطاب: الإفضاء إلى المقصود، حيث أمَر بالصَّدقات بعد أنْ قدَّم بين يديه بمواعظَ وترغيبٍ وتحذير. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجُمل، ونُكتة ذلك: أنَّه قد شاع بين النَّاس الترغيبُ في الصَّدقة، وتكرَّر ذلك في نزول القرآن، فصار غرضًا دينيًّا مشهورًا، وكان الاهتمامُ بإيضاحه، والترغيبُ في أحواله، والتنفير من نقائصه، أَجدرَ بالبيان .
قوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ... وَلَا تَيَمَّمُوا فيه تأكيدُ الأمر بالنهي بعده عن ضدِّه، وعبَّر بصيغة التفعُّل (تيمَّموا)، أي: لا تتكلَّفوا أن تقصدوا، وفيه مبالغة أيضًا .
قوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فيه تخصيص المكتسَب دون الموروث؛ لأنَّ الإنسان بما يكتسبه أضنُّ به ممَّا يرثه؛ فالموروث معقولٌ من فحواه؛ إذ هو أَوْلى، وهو من محاسن البلاغة .
قوله: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فيه إيجاز بالحذف في ومِمَّا أَخْرَجْنَا، والتقدير: من طيِّبات ما أخرجنا، وحُذِف لدلالة ما قبله وما بعده عليه. وكُرِّر حرف الجرِّ (مِن) على سبيل التوكيد، أو إشعارًا بتقدير عامل آخَر، حتى يكون الأمرُ مرَّتين .
قوله: مِنْهُ تُنفِقُونَ فيه تقديم الجار والمجرور (منه) على الفعل (تنفقون)؛ للتخصيص، لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من إنفاقِ الخبيث خاصَّةً، لا لتسويغ إنفاقه مع الطيِّب .
قوله: إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فيه تأكيد الشيء بما يُشبه ضِدَّه - على قول مَن جعَل النفي هنا بمعنى النهي، أي: لا تأخذوه إلَّا إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه. والتعبير بالإغماض: للمبالغة في التغافُل عن المكروه الشَّديد .
قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله، وافتتحه بـ(اعلموا)؛ للاهتمامِ بالخبر، أو نُزِّل المخاطبون الذين نُهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلةَ مَن لا يعلم أنَّ الله غني، فأَعطوا لوجهه ما يقبله المحتاج بكلِّ حال، ولم يَعلموا أنَّه يحمد من يُعطي لوجهه من طيِّب الكسب .
قوله: حَمِيدٌ عبَّر بصيغة (فعيل)؛ للمبالغة، أي: شديد الحمد؛ لأنَّه يُثني على فاعلي الخيرات، ويجوز أن يكون المراد: أنَّه محمود، فيكون حميد بمعنى مفعول، أي: فتخلَّقوا بذلك؛ لأنَّ صفات الله تعالى كمالات .
3- قوله: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ قدَّم هنا اسم الشَّيْطان مسندًا إليه؛ لأنَّ تقديمَه مؤذِنٌ بذمِّ الحُكم الذي سِيق له الكلام، وشؤمه لتحذير المسلمين من هذا الحُكم، ولأنَّ في تقديم المسنَد إليه على الخبر الفعلي تقويَّ الحُكم وتحقيقَه .
4- قوله: وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فيه توكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية .
وعطفها على جملة الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ؛ لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوسُ الشيطان، وبيْن ما تدعو إليه أوامرُ الله تعالى، والوعد فيه حقيقةٌ لا محالة .
5- قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
قوله: وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فقد أوتي خيرًا كثيرًا الجملة اعتراض وتذييلٌ لِمَا تضمَّنتْه آياتُ الإنفاق من المواعظ والآداب وتلقين الأخلاق الكريمة؛ ممَّا يُكسب العاملين به رجاحةَ العقل، واستقامة العمل .
والتنكير في قوله: خَيْرًا كَثِيرًا: للتعظيم، كأنَّه قال: فقد أُوتي أيَّ خير كثير .
6- قوله: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ تذييلٌ للكلام السَّابق المسوق للأمْر بالإنفاق وصِفاته المقبولة، والتحذير من المثبِّطات عنه، والمقصود من هذا التذييل: التذكيرُ بأنَّ الله لا يَخفى عليه شيء من النَّفقات وصفاتها، وأدمج النَّذر مع الإنفاق فكان الكلام جديرًا بأن يكون تذييلًا .
وقوله: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ خبرٌ يُفيد- على اختصاره- الوعدَ العظيم للمطيعين، والوعيدَ الشَّديد للمتمرِّدين . وتصدير الجملة بـ(إنَّ) لتأكيد مضمونها؛ إفادة لتحقيق الجزاء؛ فإنَّه تعالى يجازيكم عليه ألبتةَ، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر؛ فهو ترغيبٌ وترهيب، ووعْد ووعيد .
7- قوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
فيه استعمال العامِّ المراد به الخاصُّ - على القول بأنَّهم هم المشرِكون. أو: هم المنفِقون بالمنِّ والأذى والرِّياء، والمبذِّرون في المعصية. أو: المنفِقو الحرام .
وإيراد صِيغة الجمْع (أنصار) لمقابلة (الظالمين)، أي: وما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار، والجملة اسئنافٌ مقرِّر لـِمَا قبله من الوعيد، مفيدٌ لفظاعة حال مَن يَفعل ما يُفْعَل مِن الظالمين .
8- قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ... فيه نوعُ تفصيل لبعض ما أُجمل في الشرطيَّة، وبيان له؛ ولذلك ترك العطف بينهما بالواو . والألف واللام في الصَّدقات لتعريف الجنس، ومحمله على العموم، فيشمل كلَّ الصَّدقات؛ فرْضَها ونفْلَها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقبَ ذِكر أنواع النفقات .
وقوله: فنِعِمَّا هِي (ما) في (نعما) نكرة غير موصولة ولا موصوفة، في تأويل الشيء، أي: نعم الشيءُ هو، وتمثيله بالنَّكرة أبينُ، والتقدير: نعم شيئًا هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه . وقوله: فنِعِمَّا هي فيه جمْع الأمداح المبهَمة؛ لأنَّ (نِعم) كلمة مبالغة تَجمع المدحَ كلَّه، و(ما) كلمة مُبهمَة تجمع الممدوح؛ فتطابقتَا في الإبهام؛ فإنَّ (نِعْم) و(بئس) للمبالغة، فالمراد بهما التناهي في المدح والذمِّ، ولاختصاصهما بهذا المعنى مُنعِتَا التصرُّف، واقتُصر بهما على المعنى؛ لأنَّ المدح والذمَّ إنما يكونانِ متعلِّقينِ بما ثبَت واستقرَّ، ولا يُمدح الإنسانُ بما لم يقعْ منه .
كذلك قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هي... استئناف بيانيٌّ ناشئ عن قوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ؛ إذ أشْعَر تعميم مِن نَفقةٍ بحال الصَّدقات الخفيَّة، فيتساءل السامع في نفسه: هل إبداء الصدقات يُعدُّ رياءً، وقد سمع قبل ذلك قوله: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئاءَ النَّاسِ؛ ولأنَّ قوله: فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ قد كان قولًا فصلًا في اعتبار نيَّات المتصدِّقين، وأحوال ما يُظهرونه منها، وما يُخفونه من صَدقاتهم، فهذا الاستئناف يدفَع توهمًا من شأنه تعطيلُ الصَّدقات والنفقات، وهو أن يُمسك المرءُ عنها إذا لم يجد بُدًّا من ظهورها، فيخشى أن يصيبه الرياء .
قوله: مِن سيِّئاتكم دخول (مِن)؛ لإفادة التبعيض، أي: ونُكفِّر عنكم بعض سيِّئاتكم؛ لأنَّ السيِّئاتِ كلَّها لا تُكفَّر بذلك، وإنما يُكفَّر بعضها، ثم أَبْهَم الكلامَ في ذلك البعض؛ لأنَّ بيانه كالإغواء بارتكابها إذا عُلِم أنها مكفَّرة، أو تكون (مِن) بمعنى مِن أَجْل، أي: ونكفِّر عنكم مِن أجْل ذنوبكم، كما تقول: ضربتُك من سوء خُلقك، أي: من أجْل ذلك .
قوله: وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خبرٌ مرادٌ منه الترغيبُ في الإسرار .
وفيه مناسبةٌ حسَنة في ختْم هذه الآية بهذه الصِّفة؛ لأنها تدلُّ على العلم بما لَطُف من الأشياء وخفي، فناسَب الإخفاء في قوله: وَإِنْ تُخْفُوهَا ختْمها بالصِّفة المتعلِّقة بما خفي (خبير) .
9- قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ فيه الخِطاب بما ظاهره خاصٌّ -وفي ذلك تسلية له صلَّى الله عليه وسلَّمَ- والمراد منه العامُّ؛ فظاهر قوله لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ خطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ولكن المراد به هو وأمَّته، بدليل قوله: إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ، وهذا خطاب عام، ثم قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، وهو في الظاهر خاصٌّ، ثم قال بعده: ومَا تُنْفِقُوا من خَيرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وهذا عامٌّ؛ فيُفهم من عموم ما قبل الآية وعمومِ ما بعدها عُمومُها أيضًا .
قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ تقديم الخبَر المسنَد (عَلَيْكَ) على اسمِ (لَيْسَ) المسنَد إليه (هُداهم)؛ إمَّا لمجرَّد الاهتمام، بنفي كون هُداهم حقًّا على الرسول، تهوينًا للأمر عليه، وإمَّا أن يكون جرى على خِلاف مقتضى الظاهر، بتنزيلِ السَّامعين منزلةَ مَن يَعتقد أنَّ إيجاد الإيمان في الكفَّار يكون بتكوين الله، وبالإلجاء من المخلوق، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إيَّاهم، لا على عدم الكون في أنَّه على الله، فيلزم من ذلك أنَّه على الله، أي: مُفوَّض إليه .
قوله: ولَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
فيه مع قوله: هُداهم جناس مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسم، والأخرى فِعل .
وجِيء فيه بحرف الاستدراك (لكن)؛ لِمَا في الكلام المنفيِّ من توهُّم إمكان هديهم بالحِرص أو بالإلجاء، فمصبُّ الاستدراك هو الصِّلة (مَن يشاء)، أي: فلا فائدةَ في إلجاء مَن لم يشأ الله هدايته، والتقدير: ولكن هداهم بيدِ الله، وهو يَهدي من يشاء، فإذا شاء أن يَهديهم هداهم .
وفيه: تلوينُ الخطاب؛ إذ الجملة معترضة، جيء بها على تلوين الخِطاب وتوجيهه إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخِطابات المتعلِّقة بالمكلَّفين؛ مبالغةً في حمْلهم على الامتثال؛ فإنَّ الإخبار بعدم وجوب تدارُك أمرهم على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مؤذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعدَه من الشرطيَّة. وعلى القول بأنَّ المعنى: ليس عليك هُدَى مَن خالفَك حتى تمنعَهم الصَّدقة؛ لأجْل دخولهم في الإسلام، فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام، وضمير الغَيبة للمعهودين من فقراء المشركين، بل فيه تلوين للخطاب فقط .
قوله: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ أسلوبٌ ظاهره الخبر، ولكن معناه النَّهي، أي: ولا تُنفقوا إلَّا ابتغاءَ وجه الله .
وتَكرار فِعل النَّفقة - وَمَا تُنْفِقُوا، وَمَا تُنْفِقون، وَمَا تُنْفِقُوا - ثلاثَ مرَّات في الآية؛ لمزيدِ الاهتمام بمدلولِه، وجِيء به مرَّتين بصِيغة الشَّرْط عندَ قصْد بيان الملازمة بين الإنفاق والثَّواب، وجِيء به مرةً في صِيغة النَّفي والاستثناء؛ لأنَّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء، أي: النَّهي عن أن يُنفقوا إلَّا لابتغاء وجه الله .
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ: تقديم (وَأَنْتُم) على الخبر الفِعلي (لا تُظْلَمون)؛ لمجرَّد التقوِّي، وزيادة في التنبيه على أنَّهم لا يُظلمون، وإنَّما يَظلمون أنفسهم .
وجعلت هذه الأحكام جملًا مستقلًّا بعضها عن بعض، ولم تُجعل جملةً واحدةً مقيَّدةً فائدتُها بقيود جميع الجُمل، وأُعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصِيغ مختلفة؛ تكريرًا للاهتمام بشأنه؛ لتكون كلُّ جملة مستقلةً بمعناها، قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني، فتجري مجرى الأمثال .
10- قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
قوله: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ فيه إيجازٌ بالحذف لفَهمِه من السِّياق؛ فالجارُّ (للفقراء) متعلِّق بمحذوف، والتقدير: اعجَبُوا للفقراء، أو اقصدوا الفقراءَ، واجعلوا ما تُنفقون للفقراء .
وفيه كناية، حيث عبَّر بالضَّرب في الأرض عن التِّجارة؛ لأنَّ شأنَ التاجر أن يسافِر ليبتاع ويبيع، فهو يضرب الأرض برجليه أو دابَّته .
قوله: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فيه عِدَّة أوجه بلاغيَّة:
فقوله: التَّعَفُّفِ التعبير بصيغة (التفعُّل) في (التعفُّف)؛ لإفادة الاجتهاد في العِفَّة والمبالغة فيها .
وقوله: تَعْرِفُهم بسِيماهُم الجملة بيانٌ لجملة يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ، كأنَّه قيل: فبماذا تصِل إليهم صدقاتُ المسلمين إذا كان فقرُهم خفيًّا، وكيف يُطَّلع عليهم؟ فأُحيل ذلك على مظنَّة المتأمِّل .
وقوله: بِسيمَاهُم جاءَ التعبير بصيغة (فيعال)؛ للمبالغة من السِّمة والوسم، وهي العلامة الخفيَّة التي تتراءى للمستبصر .
قوله: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحافًا فيه من بديع البيان: ما يُسمَّى بـ(نفي الشيء بإيجابه)، وهو إثبات شيء في ظاهر الكلام، ثم نفْي ما هو مِن سببه؛ ففي هذه الآية: المنفيُّ في ظاهر الكلام هو الإلحاف في السُّؤال، لا نفْس السؤال مجازًا، والمنفيُّ في باطن الكلام حقيقةُ نفْس السؤال؛ إلحافًا كان أو غيرَ إلحاف ، وقد يَرِد نفيُ الشيءِ في القُرآن مُقيَّدًا، والمرادُ نفيُه مطلقًا؛ كما نفَى هنا عنهم السُّؤالَ بنفي صورةٍ مستكرَهة، وهي الإلحافُ في المسألة، والمقصود نفيُ السؤال مطلقًا .
قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ فيه إعادة التحريض على الإنفاق، حيث ذكر مرةً رابعة، وقوله: فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ كنايةٌ عن الجزاء عليه؛ لأنَّ العلم يُكنى به عن أثره كثيرًا، فلمَّا كان الإنفاق مرغَّبًا فيه من الله، وكان عِلم الله بذلك معروفًا للمسلمين، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنه عليمٌ به، أنه عليم بامتثال المنفِق، أي: فهو لا يُضيِّع أجره؛ إذ لا يمنعه منه مانعٌ بعد كونه عليمًا به؛ لأنَّه قدير عليه، وقد حصَل بمجموع هذه المرَّات الأربع من التحريض ما أفاد شدَّةَ فضْل الإنفاق بأنَّه نفْع للمنفِق، وصِلة بينه وبين ربِّه، ونوال الجزاء من الله، وأنَّه ثابتٌ له في عِلم الله .
10- قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فيه تقديم اللَّيل على النهار، والسِّرِّ على العلانية، ولعلَّه يدلُّ على تلك الأفضلية؛ فاللَّيل مظنَّة صَدَقة السرِّ، فقُدِّم الوقت الذي كانت الصَّدقة فيه أفضلَ، والحال التي كانت فيها أفضل .
قوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. فيه إدخالُ الفاء في خبَر الموصول (الذين)؛ للتنبيه على تسبُّب استحقاق الأجْر على الإنفاق؛ لأنَّ المبتدأ لَمَّا كان مشتملًا على صلة مقصود منها التَّعميم، والتَّعليل، والإيماء إلى عِلَّة بناء الخبر على المبتدأ - وهي ينفقون - صحَّ إدخال الفاء في خبره، كما تدخُل في جواب الشَّرط؛ لأنَّ أصل الفاء الدَّلالةُ على التسبُّب .


==============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (275- 281)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ
غريب الكلمات:

الرِّبَا: أصْل الرِّبا الزِّيادة، وخُصَّ في الشَّرع بالزِّيادة على رأسِ المالِ دون وجْه حقٍّ
.
يَتَخَبَّطُهُ: الخَبْط: الضَّرب على غيرِ استواءٍ .
الْمَسِّ: الجُنون، ويُقال لكلِّ أذًى ينال الإنسان: مسٌّ .
مَوْعِظَةٌ: الوعظ: تخويفٌ، أو زجْرٌ مُقترِن بتخويف، وتذكيرٌ بالخيرِ وما يَرِقُّ له القلبُ .
يَمْحَقُ: أي: يُذهِب، ويَنقُص؛ وأصْل المحْق: النُّقصان وذَهاب البركة .
فَأْذَنُوا: أي: أَيقِنوا، واعلَموا ذلك، واسْمَعوه، وأذِن: استَمَع، ويُستعمل ذلك في العِلم الذي يُتوصَّل إليه بالسَّماع؛ إذ هو مبدأُ كثيرٍ من العِلم فِينا .
عُسْرَةٍ: العُسر: نقيض اليُسْر، وأصْله: الصُّعوبة والشِّدة .
فَنَظِرَةٌ: أي: انتظار، وإنظار، وأصْل (نظر): تأمُّل الشيء ومعاينتُه، ويقال: نظرتُه، أي: انتظرته .
مَيْسَرَةٍ: الميسرة واليَسار عِبارة عن الغِنى، وأصْله اليُسرُ: ضدُّ العُسر

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ:
كان: هنا تامَّة غيرُ ناسخةٍ بمعنى وقَع أو حدَث أو وُجِد؛ فلا تحتاج إلى اسمٍ أو خبَر، بل تكتفي بفاعِلها كسائرِ الأفعال. وذو: فاعِل كان، مرفوع وعلامة رفْعه الواو؛ لأنَّه من الأسماء الخمسة. وقيل: إنَّ (كان) ناقصة، وذو اسمها، وخبرها محذوف، والتقدير: وإنْ كان ذو عُسرةٍ لَكُم عليه حقٌّ. أو: وإنْ كان ذو عُسرةٍ غريمًا، أو نحو ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى عن آكِلي الرِّبا أنَّهم لا يَنهضون يومَ القيامة من قُبورهم للبَعْث إلَّا على هيئة مَن تسلَّط عليه الشيطان فأصابه بالجنون، وهذا الذي يُصيبهم بسبب أنَّهم قالوا: إنَّ البيعَ الذي أَحَلَّه الله مِثْل الرِّبا، كلاهما وسيلتان للتَّكسُّب، فلِمَ حُرِّم هذا وأبيح هذا؟ فكذَّبهم تعالى في زعْمهم هذا، بأنَّ الله أَحَلَّ الأرباحَ التي تَنتُج عن التِّجارة والشراء والبيع، وحرَّم الرِّبا، وليسا سواء؛ فمَن بلغه النَّهي عن الرِّبا، والتحذير من أكْله وتعاطيه، فانزَجَر فله ما أكَل منه وأخَذَ فيما مضى، وشأنه إلى الله تعالى في توفيقه أو خِذلانه فيما يستقبل، ومَن عاد لأكلِ الرِّبا بعد أنْ بلَغَه التحريمُ وأصرَّ على ذلك، فقد استوجب النارَ خالدًا فيها، ما لم يمنعه من الخلود فيها إيمانُه.
ثم أخبر تعالى أنَّه يَمْحَق الرِّبا ويَنزِع بركةَ مال المرابي، وبالمقابل يُنمِّي اللهُ أجرَ الصَّدقات للمُتصدِّق حتى تتضاعَف، والله تعالى لا يحبُّ من كفر بنعمه، واستحلَّ أكْلَ الرِّبا، وتمادَى في الإثم، باستمراره فيما نهاه عنه من أكْلِ الرِّبا.
ثمَّ وعَد الله الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات، وأقاموا الصَّلاة كما ينبغي، وأَدَّوا زكاةَ أموالهم لِمَن يَستحِقُّها، بأنَّ ثوابهم عنده تعالى، ولا خوف عليهم مما يَستقبِلون، ولا يحزنون على ما مضى.
ثم يَعِظ الله الذين آمنوا بأمرهم أن يتَّقوه، وأن يتركوا الرِّبا في معاملاتهم التي هي حاضرة وقتَ تلقِّيهم للإنذار، إنْ كانوا صادقين في إيمانهم، فإنْ لم يفعلوا فلْيُعلِموا أنفسَهم وغيرهم أنَّ الله يُوعِدهم بحربٍ منه ومن رسوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فإنْ تابوا وتركوا الرِّبا فلهم رؤوس أموالهم من الدُّيون التي لهم على النَّاس فقط، لا يَظلِمون النَّاس بأخْذ زيادة رِبويَّة، ولا يُظلَمون هم بإعطائهم رؤوسَ أموالهم ناقصةً؛ وأمَّا إنْ كان الذي عليه الدَّين مُعسِرًا لا يَجِد ما يُسدِّد به إليهم رؤوسَ الأموال التي هي دَينهم عليه، فعليهم أن يُمهِلوه حتى يتيسَّر له الوفاءُ، وأن يتصدَّقوا بإسقاط ما لهم على المَدَين المُعسِر من دَين أو بعضه؛ فهو خيرٌ لهم من إمهاله حتى يتيسَّر له القيامُ بردِّه لهم- إنْ كانوا يعلمون.
ثم يأمر اللهُ الناسَ أن يَحذَروا من يوم يَعودون فيه إلى الله بعد زَوال هذه الدُّنيا بما فيها، في ذلك اليوم الذي تستوفي فيه كلُّ نفْس جزاءَها بالعدل من ربِّها على كلِّ عملٍ صالح أو سيِّئ، لا يُنقَصُون شيئًا من ثواب الحسنات، ولا يُزاد عليهم شيءٌ من عقوبة السَّيِّئات.
تفسير الآيات:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر تعالى الأبرارَ المؤدِّين النَّفقات، المُخرِجين الزَّكوات، المتفضِّلين بالبِرِّ والصِّلات، لذوي الحاجات والقَرابات، في جميع الأحوال- شرَع في ذكْر أكَلَةِ الرِّبا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشُّبهات
، فقال تعالى:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.
أي: إنَّ الذين يأخذون الرِّبا، فينتفعون به بأكلٍ، أو شربٍ، أو لِباسٍ، أو سكَنٍ، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع، إنَّما يقومون في الآخرة من قُبورهم لبَعْثهم ونُشُورهم، كهيئةِ المصروعِ الذي أصابه الشيطانُ بالجنونِ، كما كانوا في الدُّنيا كالمجانين في طلَبِ هذا المكسَب الخبيث .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
أي: هذا الذي يُصيبهم يومَ القيامة، من قُبْح حالهم، ووَحْشة قيامهم من قبورهم؛ من أجل أنهم كانوا في الدنيا يَكذِبون فيقولون اعتراضًا على أحكام الله تعالى في شَرْعه -: إنَّما البيعُ الذي أحلَّه الله لعباده مِثْلُ الرِّبا؛ فمَا الفرق بينهما وكلاهما وسيلتان للتَّكسُّب؛ فِلمَ حُرِّم هذا وأُبيح هذا؟ فكذَّبهم الله في قيلهم هذا؛ بأنَّ الله تعالى المُستحِقَّ للعبادة وحده هو الذي أحلَّ الأرباحَ في التجارة والشراء والبيع، وحرَّم أخْذ الزِّيادة بالباطل، وليسا سواءً، فالأمر أمره، والخَلْق خَلْقه، يَقضي فيهم ما يشاء، ويَستعبِدهم بما يُريد، وعليهم طاعته والتسليم لحُكْمه؛ فهو العالم بحقائق الأمور وما ينفع عباده، فيُبيحه لهم، وما يَضُرُّهم، فينهاهم عنه .
فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: مَن بلَغه النَّهي عن الرِّبا والتخويف من أكْله وتعاطيه عمومًا، فكَفَّ عنه وانزَجَر، فله ما أكَل منه وأخَذ فيما مضى قبل نزول تحريمه، وشأن آكِله إلى الله تعالى في توفيقه أو خِذلانه، وكذا عفوُه أو عُقوبته، فيما يَستقبِل من زمانه، فإنْ عَلِم مِن قلبه صحَّةَ توبتِه، غفَر له، وإلَّا عاقبه على ذلك.
ومَن عاد لأكلِ الرِّبا بعدَ بلوغِه تحريمُه مستحلًّا له، وعاد إلى القولِ بأنَّ البيعَ مثلُ الرِّبا، وأصرَّ على ذلك، فقد استوجب عقوبةَ اللهِ تعالى بملازمةِ نارِه خالدًا فيها .
يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا زجَر الله تعالى عن الرِّبا ورغَّب في الصدقات، وكان الدَّاعي لبعض الناس إلى فِعل الرِّبا طلبَ الزيادة في الأموال، والصارف لبعض الناس عن الصَّدقة الاحترازَ عن نُقصان هذه الأموال؛ بَيَّن تعالى أنَّ الرِّبا في حقيقة الأمر نقصانٌ، وأنَّ الصدقةَ في حقيقة الأمر زيادةٌ ، فقال سبحانه:
يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.
أي: يُذهِب الله تعالى مكاسبَ الرِّبا بالكُليَّة من يد صاحبها، أو يَحرِمه بركتَها؛ فلا يَنتفِع بها، بل يُعذِّبه بها في الدنيا، ويُعاقِبه عليها يوم القيامة جزاءً مِن جِنْس ما عمِل، بينما يُنمِّي أجرَ الصَّدقات لصاحبها حتى تَتضاعَف .
كما قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم: 39] .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((مَن تصدَّقَ بعِدْلِ تمرةٍ من كَسْبٍ طَيِّبٍ -ولا يَقبَلُ اللهُ إلَّا الطَّيِّبَ- وإنَّ اللهَ يَتقبَّلُها بيمينِهِ، ثم يُربِّيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّه ، حتى تكونَ مِثْلَ الجبلِ )) .
وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ.
أي: إنَّ الله تعالى لا يحبُّ كلَّ من كان كثيرَ الكُفْران، مُصرًّا على الكُفْر بنِعَمه، مقيمًا على ذلك، مُستحِلًّا أكْلَ الرِّبا، متماديًا في الإثم فيما نهاه عنه من أكْله وتَعاطِيه، وغير ذلك من معاصيه، لا يَرْعوي عنه، ولا يتَّعِظ بموعظة ربِّه؛ ذلك أنَّ المرابي لا يَرضَى بما قسَم اللهُ تعالى له من الحلال، ولا يَكتفي بما شرَع له من التَّكسُّب المُباح، فهو يَسعى في أكْل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحودٌ لما عليه من النِّعمة، ظَلومٌ آثمٌ بأكل أموال الناس بغير وجْه حقٍّ .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ أكَلَةَ الرِّبا، وكان من المعلوم أنَّهم لو كانوا مؤمنين إيمانًا ينفعهم لم يَصدُرْ منهم ما صدَر، ذكَر هنا حالةَ المؤمنين وأجرَهم، فإنَّ أكبر الأسباب لاجتِناب ما حرَّم الله تعالى من المكاسب الرِّبويَّة تكميلُ الإيمان وحقوقه، خصوصًا إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فإنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكَر، والزكاة إحسانٌ إلى الخَلْق، وهذا يُنافي تعاطي الرِّبا، الذي هو ظلمٌ لهم .
وأيضًا لَمَّا ذكَر حالَ آكِل الرِّبا، وحالَ مَن عاد بعدَ مجيء الموعظة، ذكَر ضدَّ هؤلاء؛ ليُبيِّن فَرْق ما بين الحالين، فعادة القرآن أنَّه مهما ذكر وعيدًا ذكَر بعده وعدًا ، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277).
أي: إنَّ المؤمنين بما يجب الإيمان به، ومِن ذلك إيمانهم بما أُنزل إليهم من ربِّهم- والذي شَمِل تحريمَ الرِّبا- وعمِلوا الصَّالحات التي أمرهم الله عزَّ وجلَّ بها، وهي المبنيَّة على الإخلاص لله تعالى، والمتابَعة لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ- ومنها بذْل الصَّدقات في سبيله تعالى- وأَدَّوُا الصَّلاةَ قويمةً بشروطها وأركانها، وواجباتها وسُنَنها، وأَعْطَوا الزَّكاة المفروضة عليهم في أموالهم لمُستحقِّيها، فأولئك لهم ثوابُهم عند الله جلَّ وعلا، ولا خوف عليهم ممَّا يَستقبِلون، ولا هم على ما مضى يَحزنون .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن في الآية المتقدِّمة أنَّ مَن انتهى عن الرِّبا فله ما سَلَف، فقد كان يجوز أن يُظَنَّ أنه لا فرْق بين المقبوضِ منه والباقي في ذِمَّة القوم، وأنَّ الممنوع هو إنشاء عَقدٍ رِبويٍّ بعد التحريم؛ لذا أَزالَ تعالى هذا الاحتمالَ بأنْ أمَر بترك ما بقي من الرِّبا في العقود السابقة، قبل التَّحريم ، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278).
أي: يا أيُّها المؤمنون، امتثِلوا ما أَمَركم الله تعالى به، وانتَهُوا عمَّا نهاكم عنه، فاتركوا ما لكم على الناس من الزِّيادة على رؤوس الأموال من المعاملات الحاضِرة التي بأيديكم، بعد هذا الإنذار الذي تلقَّيتُموه، إنْ كنتم صادقين حقًّا في إيمانكم .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان مِن حقِّ مَن عَاندَ السِّيدَ الأخْذُ؛ سبَّب عن ذلك قوله :
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
القِراءت ذات الأَثَر في التفسير:
في قوله تعالى: فَأْذَنُوا قراءتان :
1- (فَآذِنُوا) من آذنتُه أُوذِنه، إذا أعلنتُه، كقولهم: أَعْلِمُوا مَنْ وراءَكم، فالمعنى: فأَعلِموا غيرَكم أنَّ كلَّ مَن لم يترك الرِّبا فهو حرب، وهذا أعمُّ؛ لأنَّهم إذا أعلَموا غيرَهم بالحرب من الله ورسوله، فقد علِموا هم ذلك.
2- (فَأْذَنُوا) على أنَّه أمرٌ للمُخاطَبين بترك الرِّبا، أُمِروا أن يَعْلموا ذلك هم أنفسهم، فالمعنى: فإن لم تتركوا الرِّبا، فأَيْقِنوا بحربٍ من الله ورسوله.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.
أي: إنْ لم تتركوا ما بقي لكم على النَّاس من زيادةٍ على رأس المال، مُستَمرِّين على تَعاطي الرِّبا بعد إنذاركم، فأَعلِموا أنفسَكم وغيرَكم، مُستيقنين أنَّ الله تعالى يتوعَّدكم بحرب وقتْل مِنه ومن رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام .
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.
أي: إن تُبْتُم فتركتُم أكْلَ الرِّبا، وأَنَبْتُم إلى الله عزَّ وجلَّ، فلكم رؤوس أموالكم من الدُّيون التي لكم على النَّاس دون الزِّيادة التي أحدثتموها على ذلك، فلا تَظْلِمُونَ الناسَ بأخْذ الزِّيادة، وَلا تُظْلَمُون بإعطائكم رؤوسَ أموالكم ناقصةً .
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280).
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ.
أي: إنْ كان الذي عليه الدَّين مُعسِرًا لا يَجِد ما يَردُّ به حقَّكم- وهو رؤوس أموالكم التي أَسلفتُموه إيَّاها دون زيادة- فعليكم أن تُمهِلوه حتى يتيسَّر له الوفاءُ به .
وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: إنَّ تصدُّقَكم على المدينِ المعسرِ بالتنازلِ والعفو عمَّا لكم عليه أو بإسقاط بعضه، خيرٌ لكم من إمهاله حتى يتيسَّر له القيام بردِّه لكم، فقوموا بذلك إذًا إن كنتم من ذوي العِلْم بفضل الصَّدقة، وما لصاحبها من ثوابٍ عظيم .
عن عبد الله بن أبي قَتادةَ: ((أنَّ أبا قَتادةَ رضي الله عنه، طلَب غريمًا لهُ، فتوارى عنهُ، ثم وجدَه، فقال: إنِّي مُعسِرٌ، فقال: آللهِ؟ قال: آللهِ، قال: فإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول: مَن سرَّهُ أن يُنجيَه اللهُ من كُرَبِ يومِ القيامةِ، فلينفِّسْ عن مُعسِرٍ، أو يَضعْ عنهُ )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((مَن نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُرْبةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يَسَّرَ على مُعسِرٍ، يسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ، ومَن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه )) .
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
أنَّ ممَّا يُهوِّن على العبدِ التزامَ الأمور الشرعيَّة، واجتنابَ المعاملات الرِّبوية، والإحسانَ إلى المُعسِرين، عِلْمُه بأنَّ له يومًا يَرجِع فيه إلى الله تعالى، ويُوفِّيه عملَه، ولا يظلمه مِثقالَ ذرَّة؛ ففي الآية ترغيبٌ في فِعْل ما أُمِر به أو نُدِب إليه ممَّا سبق؛ لأنَّ في تَرْك المنهيَّات سلامةً من آثامها، وفي فِعْل المطلوبات استكثارًا من ثوابها، والكلُّ يرجع إلى اتِّقاء ذلك اليوم الذي تُطلَب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح، وهو أيضًا صالح للتَّرهيب من ارتكاب ما نهي عنه ممَّا سبَق النَّهي عنه ؛ لذا قال تعالى:
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281).
أي: احذروا- أيُّها الناس- يومًا تزول فيه هذه الدنيا وما فيها من الأموال وغيرها، فترجعون إلى الله فتَلقَونه فيه، فاحذروا أن تَرِدوا عليه بسيِّئات تُهلِككم، وبلا حسنات تُنجِيكم، فتَستحِقُّوا عقابَ الله تعالى، وهو يوم مُجازاة الأعمال، فتستوفي فيه كلُّ نَفْس جزاءها بالعدل من ربِّها، على ما قدَّمت واكتسَبتْ من سيِّئ وصالح، لا يُنقَصُون شيئًا من ثواب الحسنات، ولا يُزاد عليهم شيءٌ من عقوبة السيِّئات

.
الفوائد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: دلالةٌ على أنَّه لابد مع الإيمان من العمل الصالح، وأنَّ العمل لا يُفيد حتى يكون صالحًا؛ والصَّلاح أن ينبني العملُ على أمرين: الإخلاص لله عزَّ وجلَّ، وضده الشِّرك. والمتابعة، وضدها البِدْعة
.
2- أنَّ أخْذ الرِّبا يُنافي الإيمان؛ لقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
3- رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث حرَّم عليهم ما يتضمَّن الظلم؛ وأكَّد هذا التَّحريم، وأنزل القرآن فيه بلفظ يَحمِل على تَرْك هذا المُحرَّم؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وقوله تعالى: اتَّقُوا اللهَ، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؛ والحُكْم: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا .
4- في قوله: مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ رحمةُ الله سبحانه وتعالى بالعبادِ؛ حيث أَرسَل إليهم الرُّسلَ؛ لأنَّ العقول لا يُمكِن أن تَستقِلَّ بمعرفة ما يَنفَعها ويَضُرُّها على وجه التَّفصيل؛ لقُصُورها، إنَّما تَعرِفه على سبيل الجُمْلة؛ لقوله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ؛ فمِن أجْلِ ذلك أَرسَل اللهُ الرُّسلَ؛ فكان في هذا رحمةٌ عظيمة للخَلْق .
5- مُراعاة العدلِ في معاملة النَّاس بعضهم مع بعض؛ لقوله تعالى: فَلَكُمْ رُوُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ .
6- فضيلة الإبراء من الدَّين، وأنَّه صَدقة؛ لقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ؛ والإبْراءُ سُنَّة، والإنظار واجب، وهنا السُّنَّة أفضلُ من الواجب بنصِّ القرآن؛ لقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ .
7- فضيلة العِلم، وأنَّ العِلم يَهدي صاحبَه إلى الخير؛ لقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- أنَّ مَن تَعامَل بالرِّبا فإنه يُصاب بالنَّهْمة العظيمة في طلَبِه كما في قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا
.
2- قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا: التَّعبير عنه بالأكْل؛ لأنَّه مُعظَم ما قُصِد به، ولشيوعه في المطعومات، مع ما فيه من زيادة تَشنيعٍ لهم، وهو الزِّيادة في المقدار .
3- أنَّ الشَّيطان يتخبَّط بني آدم فيَصرَعه؛ ولا عِبْرة بقول مَن أَنكَر ذلك كما في قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ .
4- مُبالَغة أهل الباطل في ترويج باطلِهم؛ لأنَّهم جعَلوا المقيسَ هو المقيس عليه؛ لقولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا؛ وكان مقتضى الحالِ أن يقولوا: إنَّما الرِّبا مِثْلُ البيعِ .
5- أنَّ الحُكْم لله- تبارك وتعالى- وحده؛ فما أحلَّه فهو حلال؛ وما حرَّمه فهو حرام، سواء علِمْنا الحِكمةَ في ذلك، أم لم نعلم؛ لأنَّه تعالى ردَّ قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا بقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا؛ فكأنَّه قال: ليس الأمرُ إليكم؛ وإنَّما هو إلى الله .
6- أنَّ بين الرِّبا والبيعِ فرقًا أوجب اختلافَهما في الحُكْم؛ فإنَّا نعلم أنَّ الله تعالى لا يُفرِّق بين شيئين في الحُكْم إلَّا وبينهما فرقٌ في العِلَّة، والسبب المقتضي لاختلافهما؛ لقوله تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] ، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] .
7- أنَّ ما أخَذه الإنسانُ من الرِّبا قبل العلم فهو حلالٌ له بشَرْط أنْ يتوب، وينتهي؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ .
8- أنَّه لو تاب من الرِّبا قبل أن يَقبِضه، فإنَّه يجب إسقاطُه؛ لقوله تعالى: فَانْتَهَى؛ ومَن أخَذه بعد العِلم، فإنَّه لم يَنْتَهِ .
9- التَّخويف من التَّفاؤل البعيد لمَن تاب من الرِّبا؛ لأنَّه تعالى قال: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ؛ يعني أنَّ الإنسانَ يتفاءل، ويُؤمِّل؛ لأنَّ الأمر قد لا يكون على حَسَب تفاؤله .
10- رأفة الله تعالى بمَن شاء مِن عباده؛ لقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى؛ وهذه رِبوبيَّة خاصَّة تَستلزِم توفيق العبدِ للتَّوبة، حتى ينتهي عمَّا حرَّم الله عليه .
11- ولَمَّا كان التَّخويفُ من المُحسِن أردعَ؛ لأنَّ النَّفْس منه أَقْبَلُ قال: مِنْ رَبِّهِ: أي: المُربِّي له، المُحسِن إليه بكلِّ ما هو فيه من الخير .
12- في قوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الإشارةُ إلى عظمةِ هذا الثَّواب؛ لأنَّه أضافه إلى نَفْسه- تبارك وتعالى- والمضاف إلى العظيم يكون عظيمًا .
13- أنَّه إذا كان الشيءُ مهمًّا، فإنَّه ينبغي أن يُصدَّر بما يُفيد التَّنبيه من نداء، أو غيره كما في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..... .
14- قوله اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا: فيه مناسبةٌ حسنة، حيث أُمرِوا بتقوى الله قبل الأمر بترْك الرِّبا؛ لأنَّ تقوى الله هي أصلُ الامتثال والاجتناب؛ ولأنَّ تَرْك الرِّبا من جُمْلتها .
15- وجوب ترْك الرِّبا (سواء سمِّي بهذا الاسم الصَّريح، أو سمِّي بغيره كـ«الفائدة»)- وإن كان قد تَمَّ العَقْد عليه؛ لقوله تعالى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا؛ وهذا في عَقْدٍ استُوفي بعضه، وبقِي بعضه .
16- أنه لا يجوز إنفاذُ العقود المُحرَّمة في الإسلام- وإن عُقِدت في حال الشِّرك؛ لعموم قوله تعالى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا .
17- الردُّ على الجبريَّة؛ لقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا؛ لأنَّ الجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسان لا يستطيع الفِعلَ، ولا الترك؛ لأنه مُجبَر، وحقيقة قولهم تعطيل الأمر والنَّهي؛ لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يفعلَ ما أُمِر به، ولا تَرْك ما نُهِي عنه .
18- أنَّ المرابي إذا كان مُعلِنًا الحرب على الله ورسوله، فهو مُعلِن الحرب على أولياء الله ورسوله، وهم المؤمنون؛ وذلك بدَلالة الالتزام؛ لأنَّ كلَّ مؤمن يجب أن يَنتصِر لله، ورسوله؛ فالمؤمنون هم حِزب الله عزَّ وجلَّ ورسوله .
19- أنَّه لا يجوزُ أخْذ ما زاد على رأس المال من الرِّبا لأيِّ غرضٍ كان؛ سواء أخذه ليتصدَّق به، أو ليَصرِفه في وجوه البِرِّ تَخلُّصًا منه، أو لغير ذلك؛ لأنَّ الله أمر بتَرْكه؛ ولو كان هنا طريقٌ يُمكِن صَرْفه فيه لبيَّنه الله عزَّ وجلَّ .
20- الإشارة إلى الحِكمةِ من تحريم الرِّبا، وهي ما فيه من الظُّلم؛ لقوله تعالى: لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ .
21- حِكمة الله عزَّ وجلَّ بانقسِام الناس إلى مُوسِر، ومُعسِر؛ المُوسِر في الآية: الدائن؛ والمُعسِر: المَدين؛ وحِكمة الله عزَّ وجلَّ هذه لا يُمكِن أن تستقيم أمورُ العباد إلَّا بها .
22- أنَّ الحُكمَ يدور مع عِلَّته وجودًا وعَدَمًا؛ لأنَّه لَمَّا كان وجوب الإنظار مُعلَّلًا بالإعسار، صار مستمرًّا إلى أن تزول العِلَّة- وهي العُسْرة- حتى تجوز مطالبته .
23- تَفاضُل الأعمال؛ لقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وتَفاضُل الأعمال يَستلزِم تَفاضُلَ العامل، وأنَّ العاملين بعضهم أفضل من بعض، وهذا أمرٌ معلوم بالضرورة الشَّرعيَّة والعقليَّة؛ أنَّ العمال يَختلِفون .
24- الردُّ على الجبريَّة؛ لقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا؛ لأنَّ توجيه الأمْر إلى العبد- إذا كان مجبرًا- من تكليفِ ما لا يُطاق .
25- في قوله: وَاتَّقُوا يَوْمًا؛ أنَّ التَّقوى قد تُضاف لغير الله- لكن إذا لم تَكُن على وجه العبادة؛ فيُقال: اتَّقِ فلانًا، أو: اتَّقِ كذا؛ وهذا في القرآن والسُّنَّة كثير . حيث المراد بها المعنى اللُّغوي.
26- أنَّ الصَّغير يُكتَب له الثَّواب؛ وذلك لعموم قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ فيه تشبيه تمثيلي، حيث شبَّه آكِلي الرِّبا عند خروجهم من أجداثهم بمَن أصابه مسٌّ فاختلَّ طبعُه، وانتكستْ حاله
.
وقوله: مِنَ المَسِّ فيه تأكيدٌ؛ ليظهر المرادُ من تخبُّط الشَّيطان؛ فلا يظنُّ أنه تخبُّط مجازيٌّ بمعنى الوسوسة .
2- قوله: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فيه تشبيهٌ مقلوب، حيث شبّه البيع بالرِّبا؛ إشارةً إلى أنَّهم عكَسوا الكلام؛ للمبالغة، حتَّى جعلوا الرِّبا أصلًا، والبيع فرعًا فشبَّهوه به، وهو في البلاغة مرتبةٌ عُليا، يُصبح المشبَّه به قائمًا بالمشبَّهِ وتابعًا له .
3- قوله: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ بيْن (الرِّبا) وبين (الصَّدقات) مناسبةٌ من جِهة التضاد؛ وذلك لأنَّ الصَّدقة عبارة عن تنقيص المال بسبب أمْر الله بذلك، والرِّبا عبارة عن طلب الزِّيادة على المال مع نهي الله عنه، فكانَا متضادَّينِ؛ فلمَّا حصَل بين هذين الحُكمين هذا النوع من المناسبة، لا جرمَ ذُكِر عقيب حُكم الصَّدقات حُكمُ الربا .
وفي ذِكر (المَحْق) و(الإرباء) بديعُ الطِّباق، وفي ذِكر (الرِّبا) و(يُربي) بديعُ التَّجنيس المغاير .
4- قوله: وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فيه تغليظُ أمر الرِّبا، وإيذان أنَّه من فِعل الكفَّار لا مِن فِعل أهل الإسلام، وأتى بصيغة المبالغة في الكافِر والآثم (كفَّار- أثيم)، وإنْ كان تعالى لا يحبُّ الكافر؛ تنبيهًا على عِظم أمْر الرِّبا، ومخالفة الله، وأنَّه لا يقول قولَهم ويُسوِّي بين البيع والرِّبا؛ ليستدلَّ به على أكْل الرِّبا، إلَّا مبالِغٌ في الكفر، مبالِغ في الإثم، ومع المبالغة والتوكيد في أثيم فقد أفاد ذِكره أيضًا زوالَ الاشتراك الذي في (كفَّار)؛ إذ يقع على الزرَّاع الذين يسترون الأرض .
ومفاد التركيب: أنَّ الله لا يحبُّ أحدًا من الكافرين الآثمين؛ لأنَّ كلمة (كل) من صيغ العموم؛ فهي موضوعةٌ لاستغراق أفراد ما تُضاف إليه .
5- قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصلاة وآتوا الزكاة فيه ذِكر الخاصِّ بعد العامِّ؛ حيث خصَّص الصَّلاة والزكاة بالذِّكر مع اندراجهما في الصَّالحات؛ لبيان فضلهما، وعلوِّ منزلتهما على سائرِ الأعمال الصالحة، على طريقةِ ذِكر جبريل وميكال عقيبَ الملائكة عليهم السَّلام .
6- قوله: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ تنكير (حرب)؛ للتعظيم . وفي العدول عن إضافة الحرب إلى الله ورسوله حيث لم يقل: (بحرب الله ورسوله)، وإضافة حرف الجر (مِن) سرٌّ بلاغي بديع، حيث أفاد أنَّه نوعٌ من الحرب عظيمٌ من عند الله ورسوله، وأيضًا أفاد أنَّ الحرب مِن الله لهم؛ فالله تعالى هو الذي يحاربهم، ولو قيل: (بحرب الله)، لاحتمل أن تكون الحربُ مضافةً للفاعِل، فيكون الله هو المحارِب لهم، واحتمل أن تكون مضافةً للمفعول، فيكونوا هم المحاربين لله؛ فكونُ الله تعالى محاربَهم أبلغُ وأزجرُ في الموعظة من كونهم محارِبين لله .
7- قوله: تُرْجَعُونَ مَن قرأ بياء الغَيبة (يرجعون) فيكون في التفات؛ ووجهه: أنَّ الله تعالى كأنَّه رفَق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذِكر الرَّجعة؛ إذ هي ممَّا تتفطَّر له القلوب، فقال لهم: وَاتَّقُوا، ثم رجَع في ذِكر الرَّجعة إلى الغيبة رِفقًا بهم فقال: (يرجعون) .
8- قوله: ثُمَّ توفَّى التعبير بأداة التراخي (ثم) فيه إشارة إلى طول وقوفهم ذلك الموقفَ في مقام الهيبة، وتمادِي حبسهم في مشهد الجلال والعَظمة .

===============


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (282- 283)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
غريب الكلمات:

أَجَلٍ: الأجل: غاية الوقتِ المحدَّدة، والمدَّة المضروبة للشيء، يقال: دَينه مؤجَّل، جُعل له أجَل
.
وَلْيُمْلِلِ: من أَمللتُ الكتابَ، أي: أمليتُ على أحدٍ شَيْئًا يكتبُه .
يَبْخَسْ: أي: يَنقُص، وأصْل البَخْس: نَقْص الشيء على سبيل الظُّلم، والشيء الطَّفيف الناقص .
وتَسْأَمُوا: أي: تَمَلُّوا، وأصْل السَّآمة: الملالة ممَّا يَكْثُر لُبْثه .
أَقْسَطُ: أي أَعدْلُ وأصحُّ، والقِسْط: هو النَّصيب بالعدل كالنَّصَف والنَّصفة، والعدل، ويقال منه: أَقسط يُقسِط .
وَأَدْنَى: أي: أَقْرَب، والدُّنوُّ: القُرْب بالذَّات، أو بالحُكم، ويُستعمَل في المكان والزَّمان والمنزلة .
تَرْتَابُوا: تَشُكُّوا؛ فأصلْ الرَّيب: الشكُّ والخوف .
تُدِيرُونَهَا بينكم: أي: تَتبايعونها، أو تتداولونها وتتعاطونها من غير تأجيل، وأصْل الدَّوران: إحداقُ الشَّيء بالشَّيء مِن حَوالَيه .
فَرِهَانٌ: جمْع رهْن، وهو ما يُوضَع وثيقةً للدَّين ؛ فالرهن: توثقةُ الدَّينِ بعَينٍ يمكنُ استيفاءُ الدَّينِ أو بعضِه منها، أو مِن بعضِها

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ:
فرَجُلٌ: مبتدأ. وامرأتانِ: معطوف عليه، والخبر محذوف، والتقدير: فرجلٌ وامرأتانِ يقومانِ مقامَ الرَّجُلين. وقيل: فرجُلٌ خبرٌ، والمبتدأ محذوف، والتقدير: فالشاهد رجلٌ وامرأتان. وقيل غير ذلك
.
2- قوله: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ:
لا يُضارَّ: على قِراءة فتح الرَّاء مع التشديد؛ فلا ناهية جازمة، و(يضارَّ) مضارع مجزوم. وعلى قراءة رَفْع الرَّاء مشدَّدة؛ فلا: نافية لا عملَ لها، ويضارُّ: فعل مضارع لم يدخلْ عليه ناصب ولا جازم فرُفع. ويحتمل في الرَّاء الأُولى منه أن تكونَ مكسورة (يُضارِر) فيكون الفعل مبنيًّا للفاعل، ويكون (كاتبٌ ولا شهيدٌ) فاعلين نُهيَا عن مضارَّة المكتوب له والمشهود له. ويحتمل أن تكون الراء بالفتح (يُضارَر) فيكون الفعل مبنيًّا للمفعول، ويكون (كاتبٌ ولا شَهيد) نائِب الفاعل، والتقدير- قبل البِناء للمفعول -: لا يُضارِرْ أحدٌ الكاتبَ ولا الشَّهيدَ .
3- قوله: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
فرهانٌ: مبتدأ، ومقبوضةٌ: نعت، والخبر محذوف، والتقدير: فرهانٌ مقبوضةٌ تَكفي من ذلك. أو خبَر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فالوثيقةُ- أو فالقائم مقامَ ذلك- رِهانٌ مقبوضةٌ. أو مرفوع بفِعل محذوف، أي: فيَكفي عن ذلِك رهانٌ مقبوضةٌ

.
المعنى الإجمالي:

يُرشِد اللهُ عبادَه المؤمنين أنَّهم إذا حصَل بينهم مداينةٌ إلى وقتٍ معلوم، فليُوثِّقوه بالكتابة، وليكن مَن يَكتُب بينهم عارفًا بالكتابة، معروفًا بالعدل والإنصاف، ولا يمتنع مَن يعرف الكتابةَ أن يكتُب بين النَّاس، كما تفضَّل الله عليه بتعليمه، فأمَر بالكتابة، وأنْ يكون من يُملي على الكاتب هو المَدِين، وليَحذَر من عقاب الله في أن يَنقُص صاحبَ الحقِّ شيئًا، وفي حالة كان المَدِين الذي عليه المال جاهلًا، أو لا يُحسِن التصرُّف، أو ضعيفًا لصِغَر أو جنون، أو ليس بمقدوره الإملاءُ لمانعٍ- فلْيَقُم بالإملاء نيابةً عنه مَن يتوَّلى شؤونه، وليتحرَّ الوليُّ الصدقَ، والعدلَ في إملائه. كما أرشد الله عبادَه المؤمنين أن يُشهِدوا شاهدين من الرجال المسلمين العدول، فإنْ لم يكونَا رجُلينِ، فليَشْهَد من الشُّهود المرضيِّين رجلٌ وامرأتان؛ كي تُذكِّر إحداهما الأخرى إنْ وقع منها نسيانٌ، وليس للشُّهداء أن يمتنعوا من تَحمُّل الشهادة أو أدائها إذا دُعُوا إلى ذلك. ويُرشِد الله عباده أيضًا ألا يَمَلُّوا من كتابة كلِّ الدُّيون قليلها وكثيرها إلى وقتها المسمَّى، فإنَّ تقييدَ الدَّين إلى وقته أعدلُ عند الله وأثبت لشهادة الشهود، فلا يقع بينهم خلافٌ؛ لاجتماعهم على ما هو مكتوب، كما أنَّ ذلك أقرب إلى عدم حصول الرِّيبة والتَّنازع، أمَّا إذا كان البائع والمشتري سيَقبِض كلٌّ منهما حقَّه على الفور، فلا حَرَج ولا إثم في تَرْك الكتابة حينها، لكن الإشهاد في حقِّهما مشروع.
ونهى الله تعالى بعد ذلك أهلَ الحقوقِ من الإضرار بالكاتب والشَّاهد على أيِّ نحوٍ كان ذلك الإضرار، كما أنَّ النَّهي عن الإضرار موجَّهٌ إلى الكاتب والشَّاهد ألَّا يَضُرَّا أحدًا من أهل الحقوق بأيِّ شَكْل؛ لأنَّ ذلك الإضرار خروجٌ عن طاعة الله إلى المعصية، ثم أمرهم الله بتقواه، وأَخبَرهم أنه يُعلِّمهم، والله بكلِّ شيء عليم.
ثم يُرشِد اللهُ عبادَه أنَّهم إنْ كانوا على سفرٍ وتداينوا بدَين إلى وقت معلوم، ولم يجدوا مَن يَكتُب لهم توثيقَ الدَّين ووقَته، فلْيَستبدِلوا بذلك التوثيقِ توثيقًا آخَر، وهو رِهانٌ يَقبِضها الدَّائن تكون عنده حتى يأتيه حقُّه، فإنِ استأمَن الدائنُ المدينَ ورَغِب في أن تكون المداينة بلا رَهْن، فعلى المَدين أن يَرُدَّ الدَّين كاملًا، وليحذر مِن الله أن يُعاقِبه إذا خالَف الأمرَ، وارتكب المنهيَّ عنه في ذلك.
ثم نهى سبحانه عن كِتمان الشَّهادة، وذلك بإنكارها بالكُليِّة، أو بالزِّيادة والنُّقصان فيها، مبيِّنًا جلَّ وعلا أنَّ مَن يَكتُمها فإنَّه فاجرُ القلب، مُكتَسِب للإثم بكِتمانه، والله عليمٌ بكلِّ أعمالِ البشر، يُحصيها ويُجازيهم عليها.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا اهتمَّ القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم، فابتدأ بما به قِوام عامَّتهم من: مواساة الفقير، وإغاثة الملهوف، ووضَّح ذلك بما فيه عِبْرة للمُعتبِر، ثم عطَف عليه التحذير من الرِّبا الذي فيه استغلالٌ للمحتاجين، مع ما في تلك المعاملات من المفاسد- ثلَّث ببيان التَّوثقات الماليَّة من الإشهاد، وما يقوم مَقامَه، وهو الرَّهن والائتمان
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ.
أي: يا أيُّها المؤمنون، إذا داين بعضُكم بعضًا على أنْ يكون ردُّ الدَّين في وقت معلوم بينكم، فاكتبوه- للتوثُّق والحِفْظ-؛ لكَثْرة النِّسيان، ولوقوع المُغالَطات، وللاحتراز من الخونة الذين لا يَخْشَون الله تعالى، واكتبوه بواسطة كاتب عارِف بكتابة ما يَحصُل به التوثُّق، معروف بالعدل والإنصاف، لا يجورُ في كتابته على أحد، ولا يكتُب إلَّا ما اتَّفقوا عليه من غير زيادة ولا نُقصان، ولا يَميل مع أحدٍ منهم لقَرابة أو غيرها، ولا على أحد لعداوة ونحوها .
وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا.
أي: لا ينبغي أن يمتنع مَن يعرف الكتابةَ إذا سُئل أن يكتبَ للنَّاس توثيقَ دُيونهم ووقتَ ردِّها، فكما علَّمه اللهُ ما لم يكن يعلم، فخصَّه بعِلم ذلك، وحرَمه عددًا من خَلْقه، فليُحسِن إلى غيره بأن يُبادِر إلى كتابة ذلك بطريقةٍ مُستوفِية لِمَا ينبغي أنْ تكون عليه.
ولْيُمْللِ المدينُ على الكاتب ما في ذِمَّته من الدَّين، وليَحذَر عقابَ الله تعالى في أن يَنقُص صاحبَ الحقِّ شيئًا من مقداره أو كيفيَّته، أو نوعه أو أَجَله أو غير ذلك من توابِعه .
فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ.
أي: إنْ كان المدينُ- الذي عليه المال- جاهلًا بالصَّواب من الخطأ في الَّذي عليه إملاؤه على الكاتب، أو كان لا يُحسِن التصرُّف، أو ضعيفًا لصِغَره أو جُنونه، أو لا يستطيع الإملالَ لِخَرَسه أو عيِّ لسانه، أو غَيبتِه لسفرٍ أو غيره، فإنَّه ينوبُ عنه في ذلك مَن يتوَّلى شؤونه من أبٍ، أو جدٍّ، أو أخٍ، أو غيرهم، ويَلزَم الوليَّ الإملاءُ بالصِّدق المطابِق للواقع؛ فلا يَزيد، ولا يَنقُص، ولا يَجور على الدائن أو المدين .
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى.
أي: اطْلُبوا أيضًا- لتوثيق حقوقِكم- شهادةَ رَجلين عليها من المسلمين العدول الذين تَرضَونهم، فإنْ لم يكن الشَّاهدان رجُلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان على ذلك؛ كي تُذكِّر إحدى المرأتين الأخرى، إنْ وقع لها نِسيانٌ .
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا.
أي: ليس للشُّهداء أن يَمتنعوا من الإجابة إذا دُعُوا لتحمُّل الشَّهادة أو أدائها .
وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.
أي: لا تَمَلُّوا- أيُّها الذين تُداينون النَّاس- من كتابة قليل الدَّين أو كثيره إلى أجَله المُسمَّى؛ فإنَّ كتابة ذلك أعدلُ عند الله، وأثبتُ لشهادة الشُّهود؛ فلا يقع بينهم اختلاف في ذلك لاجتماعهم على ما حواه الكتاب، وأَقْربُ إلى عدم وقوع الرِّيبة وحصول التَّنازُع، فلا تَشُكُّون فيما شَهِد به الشهود من الحقِّ والأَجَل.
ولا حَرَج ولا إثم على المُتبايعِينَ منكم في تَرْك كتابةِ ذلك؛ إذا كان كلٌّ من البائع والمشتري، يَقبِض حقَّه فورًا بلا تأخير، فيأخذ المشتري سِلعتَه، ويَقبِض البائعُ أجرَه قبل مُفارَقة بعضهما، فلا حاجةَ لهما حينئذٍ إلى الكتابة والتَّوثيق، لكن الإشهاد على حقِّهما مشروع .
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.
نهى الله تعالى أهلَ الحقوقِ عَن إيقاع ضررٍ بأيِّ وَجْه من وجوه الضَّرر على كاتبٍ أو شاهِدٍ على حقوقهم، كما لا يَحِلُّ أيضًا لكاتبٍ أو شاهدٍ أن يَضُرَّا أحدًا من أهل الحقوق بأيِّ ضررٍ كان؛ فإنَّ إحداثَ الضرر في ذلك يُعَدُّ خروجًا عن طاعة الله تعالى إلى معصيته .
وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: خافوا اللهَ- أيُّها المتداينون- في الكتَّاب والشهود أن تُوقِعوا عليهم ضررًا ما، وراقِبوه في غير ذلك من حدوده فلا تُضيِّعوها، واتَّبِعوا أمرَه، واترُكوا نهيَه، والله تعالى يبيِّن لكم على الدوام أحكامَ شريعته فضلًا منه ونعمةً؛ فهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، وعِلْمه محيطٌ بجميع الكائنات، كما أنَّه لا يَخْفى عليه شيءٌ من أعمالكم، فيُحصيها عليكم ويُجازيكم بها .
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283).
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.
أي: إنْ كنتم مسافرين وتَداينتُم بدَين إلى أجل مسمًّى، ولم تَعثُروا على كاتب يكتُب لكم توثيقَ الدَّين وأجلَه، فليكُنْ بدلَ الكتابة رِهانٌ يَقبِضها صاحبُ الحقِّ، وتكون وثيقةً عنده حتى يأتيه حقُّه .
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ.
أي: إنْ كان المَدينُ أمينًا عند صاحب الدَّين فوَثِق فيه، وأحبَّ أن يُعامِله من دون رَهْن، فعلى المَدين أن يردَّ إليه دَينَه كاملًا، غيرَ ظالمٍ له، ولا باخس حقَّه، وليَحذَر ربَّه سبحانه، من أن يُعاقِبه لمخالفته أَمْرَه، وارتكابه نَهْيَه في ذلك .
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
أي: لا تُخْفوا- أيُّها الشُّهود- ما شهِدتم به؛ إمَّا بإنكاره بالكُليَّة، أو بالزِّيادة عليه والنُّقصان منه، ولكن أَجيبوا مَن شَهِدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم بالصِّدق؛ لإثبات حقِّه على غريمه، ومَن يَكتُم شهادتَه فإنَّه فاجرٌ قلبه، مُكتسِب بكِتمانه إيَّاها الإثمَ؛ لأنَّ الحقَّ مبنيٌّ عليها ولا يَثبُت بدونها، فكِتمانها من أعظم الذنوب، والله بما تعملون- في شهادتكم من القيام بها، أو كِتمانها عند حاجة مَن استشهَدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها- عليمٌ؛ يُحصي عليكم أعمالَكم ليَجزيكم بها، إمَّا خيرًا، وإمَّا شرًّا على قدْر استحقاقكم

.
الفوائِد التربويَّة :

1- أنَّ التزامَ هذه الأحكام الواردة في آية الدَّين من مقتضى الإيمان؛ لأنَّه لا يوجَّه الخطابُ بوصْف إلَّا لِمَن كان هذا الوصف سببًا لقَبُوله ذلك الحُكْم؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ...
.
2- أنَّ مُخالَفة هذه الأحكام نَقْصٌ في الإيمان كأنَّه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ لإيمانكم افْعَلوا كذا؛ فإنْ لم تفعلوا فإيمانكم ناقِصٌ؛ لأنَّ كلَّ مَن يدَّعي الإيمان، ثم يُخالِف ما يَقتضيه هذا الإيمانُ، فإنَّ دعواه ناقصةٌ؛ إمَّا نقصًا كليًّا، أو نقصًا جزئيًّا .
3- وجوب تقوى الله عزَّ وجلَّ على مَن عليه الحقُّ، وأن يتحرَّى العدل؛ لقوله تعالى: وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ .
4- أنَّه ينبغي للإنسان أن يتجنَّب كلَّ ما يكون له فيه ارتيابٌ وشَكٌّ؛ لقوله تعالى: وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- العِناية بما ذُكِر من الأحكام في آية الدَّين؛ وذلك لتصدير الحُكْم بالنِّداء، ثم توجيه النِّداء إلى المؤمنين؛ لأنَّ هذا يدلُّ على العناية بهذه الأحكام، وأنَّها جديرة بالاهتمام بها
.
2- بيان أنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ كما يَعتني بالعبادات- التي هي معاملة الخالق- فإنَّه يَعتني بالمعاملات الدَّائرة بين المخلوقين، والردُّ على الذين يقولون: إنَّ الإسلام ما هو إلَّا أعمال خاصَّة بعبادة الله عزَّ وجلَّ، وبالأحوال الشَّخصية، كالمواريث، وما أَشْبهها .
3- أنَّه تَجوزُ جميعُ أنواع المُداينات من سَلَم وغيره؛ لأنَّ الله أخبر عن المُداينة التي عليها المؤمنون إخبارًا مقرِّرًا لها، ذاكرًا أحكامها، وذلك يدلُّ على الجواز .
4- وجوب كتابة الدَّين المؤجَّل؛ لقوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ .
5- حضور كلٍّ من الدائن والمَدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى: بَيْنَكُمْ؛ ولا تتحقَّق البينيَّةُ إلا بحضورهما .
6- يُشترط أن يكونَ الكاتب عارفًا بكتابة الوثائق وما يَلزَم فيها كلَّ واحد منهما، وما يَحصُل به التَّوثُّق؛ لأنَّه لا سبيلَ إلى العدل إلَّا بذلك، وهذا مأخوذٌ من قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ .
7- أنَّه يجب على الكاتب أنْ يكتُبَ بالعدل، بحيث لا يُجحِف مع الدائن، ولا مع المدين؛ و(العدل) هو ما طَابَق الشَّرعَ؛ لقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام: 115] .
8- أنَّه لا يُشتَرط تعيينُ كاتب للنَّاس بشخصِه، وأنَّ أيَّ كاتب يتَّصِف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابتُه ماضيةٌ نافذة؛ لقوله تعالى: كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ؛ وهي نكرة لا تُفيدُ التعيينَ .
9- تذكير الكَتَبة بنِعمة الله، وأنَّ مِن شُكْر نِعمة الله عليهم أن يكتُبوا؛ لقوله تعالى: كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ .
10- أنَّ الإنسان لا يَستقِلُّ بالعِلم؛ لقوله تعالى: كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ؛ حتى في الأمور الحِسيَّة التي تُدرَك عن طريق النَّظر، أو السَّمع، أو الشَّمِّ، لا يَستطيع الإنسان أن يَعلَمها إلَّا بتعليم الله عزَّ وجلَّ .
11- أنَّ الرُّجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيَّته؛ بل في كلِّ ما يتعلَّق به إلى المدَين الذي عليه الحقُّ- لا إلى الدَّائن؛ لقوله تعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لأنَّه لو أملى الذي له الحقُّ فربما يَزيد .
12- في قوله تعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ دلالةٌ على أنَّ إقرارَ الإنسان على نَفْسه مقبول؛ لأنَّ الله أَمَر مَن عليه الحقُّ أن يُمْلي على الكاتب، فإذا كتب إقرارَه بذلك، ثبَت مُوجبه ومضمونه، وهو ما أقرَّ به على نفْسِه، ولو ادَّعى بعد ذلك غَلَطًا أو سهوًا .
13- أنَّه ينبغي في مقام التَّحذير أن يُذكَر كلُّ ما يكون به التَّحذير؛ لقوله تعالى: وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا؛ ففي مقام الألوهيَّة يتَّخِذ التَّقوى عبادة؛ لأنَّ الألوهيَّة هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهدُه الرُّبوبيَّة؛ لأنَّ الربَّ عزَّ وجلَّ خالقٌ مالِك مُدبِّر .
14- أنَّ أسباب القصور ثلاثة: السَّفَه؛ والضَّعف؛ وعدم الاستطاعة؛ فالسَّفَه: ألَّا يُحسِن التَّصرُّف، والضَّعيف: يَشمَل الصَّغير والمجنون؛ ومَن لا يستطيع: يشمل مَن لا يَقدِر على الإملال لخَرَس، أو عِيٍّ، أو نحو ذلك كما في قوله: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ .
15- قَبُول قولِ الوليِّ فيما يُقِرُّ به على مولاه؛ لقوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ .
16- ثُبُوتُ الوَلاية في الأموال؛ لقوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ .
17- أنَّ الحقَّ يكون على الصَّغير والسَّفيه، والمجنون والضَّعيف، لا على وَلِيِّهم، كما قال سبحانه: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ .
18- أنَّ إقرار الصَّغير والسَّفيه، والمجنون والمعتوه ونحوهم، وتصرُّفهم غير صحيح؛ لأنَّ الله جعَل الإملاءَ لوَلِيِّهم، ولم يجعلْ لهم منه شيئًا؛ لطفًا بهم ورحمة؛ خوفًا مِن إتْلافِ أموالهم، كما قال تعالى: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ .
19- قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ... الآية، فيه مشروعيَّة تعلُّم الأمور التي يتوثَّق بها المتداينون، كلُّ واحد من صاحبه؛ لأنَّ المقصودَ من ذلك هو التوثُّقُ والعدل، وما لا يتمُّ المشروع إلا به فهو مشروع .
20- أنَّ تَعلُّم الكتابةِ مشروع، بل هو فَرْض كفاية؛ لأنَّ الله أَمَر بكتابة الدُّيون وغيرها، ولا يَحصُل ذلك إلَّا بالتعلُّم .
21- أنَّ شهادةَ الصِّبيان غير مقبولة؛ لمفهوم لَفْظ الرَّجُل في قوله: فَرَجُلٌ .
22- أنَّ شهادة العبد البالِغ مقبولةٌ كشهادة الحُرِّ؛ لعموم قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، والعبد البالِغُ من رِجالنا .
23- أنَّ شهادة الكُفَّار- ذُكورًا كانوا أو إناثًا- غير مقبولة؛ لأنَّهم ليسوا منَّا، وقد قال الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، ولأنَّ مَبنى الشَّهادة على العَدالة، والكفَّار غير عُدول .
24- في قوله وَامْرَأَتَانِ فضيلة الرجُل على المرأة، وأنَّ الواحد في مقابلة المرأتين؛ لقوة حِفْظه، ونَقْص حِفْظها، لكن قِصَر حِفْظ المرأة وإدراكها عن حِفْظ الرَّجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يُرَدُّ على ذلك بنبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرِّجال .
25- جوازُ شهادة الإنسان فيما نَسِيه إذا ذُكِّر به فذكَر؛ لقوله تعالى: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى؛ فإن ذُكِّر ولم يَذكُر، لم يَشهَد .
26- تسمية المدعوين شُهداءَ باعتبار الأوَّل القريب، وهو المُشارَفة، وكأنَّ في ذلك نُكْتةً عظيمة: وهي الإيماءُ إلى أنَّهم بمجرِّد دعوتهم إلى الإشهاد، قد تعيَّنت عليهم الإجابةُ، فصاروا شهداءَ .
27- أنَّ ما ذُكِر من التوجيهات الإلهيَّة في آية الدَّين فيه ثلاثة فوائد: الأولى: أنَّه أَقْسَط عند الله، أي: أعدل عنده؛ لِمَا فيه من حِفْظ الحقِّ لمن هو له، أو عليه. الثانية: أنَّه أَقومُ للشَّهادة؛ لأنَّه إذا كُتِب لم يَحصُل النِّسيان. الثالثة: أنَّه أَقْربُ لعدم الارتياب .
28- في قوله تعالى: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ دلالةٌ على العمل بالكتابة، واعتمادها حُجَّة شرعيَّة إذا كانت من ثِقةٍ معروفٍ خطُّه .
29- أنَّ الشَّهاداتِ تتفاوت؛ فمنها الأقوم، ومنها القيِّم، ومنها ما ليس بقيِّم؛ فالذي ليس بقيِّم هو الذي لم تَتِمَّ فيه شروط القَبول؛ والقيِّم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكملَ من ذلك؛ بدليل قوله تعالى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ .
30- أنَّ الأصل في التِّجارة الدَّوران؛ لقوله تعالى: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ .
31- أنَّ الإشهاد ينبغي أن يكون حين التَّبايُع؛ بمعنى أنه لا يتقدَّم، ولا يتأخَّر؛ لقوله تعالى: إِذَا تَبَايَعْتُمْ؛ لأنَّ العَقدَ لم يتمَّ إذا كان الإشهاد قَبْله؛ وإذا كان بعده فربَّما يكون المبيعُ قد تغيَّر .
32- في قوله تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ دلالةٌ على أنَّ المضارَّة- سواء وقعتْ من الكاتب، أو الشَّاهد، أو عليهما- فُسُوقٌ؛ والفِسْق يترتَّب عليه زوالُ الولايات العامَّة والخاصَّة إلَّا ما استثُنِي؛ والفاسق يُهجَر؛ إمَّا جوازًا، أو استحبابًا، أو وجوبًا- على حسَب الحال- إنْ كان في الهجرِ إصلاحٌ له .
33- أنَّ الأصل في الإنسان الجهل؛ والعلم طارئ عليه؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ؛ قال الله عزَّ وجلَّ: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] .
34- عِناية الله عزَّ وجلَّ بحِفْظ أموال عباده؛ يعني أنَّه سبحانه وتعالى ذكَر حتى هذه الصُّورة: أنَّ الإنسان إذا دَاينَ غيرَه، ولم يجد كاتبًا، فإنَّه يَرتَهِن رَهْنًا؛ حِفْظًا لماله، وخوفًا من النِّزاع والشِّقاق في المستقبل .
35- أنَّ بعض العلماء استدلَّ بهذه الآية فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ على لُزومِ القَبْض في الرَّهن .
36- أنَّه إذا حصَل الائتمانُ من بعضنا لبعضٍ لم يجب رَهْنٌ، ولا إشهاد، ولا كتابة؛ لقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ .
37- أنَّه لو تلِفتِ العينُ بيَدِ الأمين، فإنَّه لا ضَمانَ عليه ما لم يتعدَّ، أو يُفرِّط؛ لقوله تعالى: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ .
38- الردُّ على غُلاة القَدَريَّة الذين يقولون: إنَّ الله لا يعلم بأفعال العباد إلَّا إذا وقعت؛ فإنَّ قوله تعالى: بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يتضمَّن ما قد عمِلْناه بالفعل، وما سنَعمَله

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ زاد قَيدَ بِدَيْنٍ مع أنَّه مفهوم من قوله: تَدَايَنْتُمْ؛ للتأكيد، وهو إمَّا يكون من باب الإطناب. وإمَّا يكون معادًا للضمير في قوله: فَاكْتُبُوهُ، ولولا ذِكرُه لقال: (فاكْتُبُوا الدَّينَ)، لم يكنِ النظمُ بذلك الحُسن، ولأنَّه أبينُ لتنويع الدَّينِ إلى مؤجَّل وحالٍّ، وليدلَّ على العموم، أي: أيَّ دَين، قليلًا كان أم كثيرًا
.
2- قوله: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فيه التأكيد بـ(مسمًّى)، وليعلم أنَّ مِن حقِّ الأجَل أن يكون معلومًا بالتوقيتِ بالسَّنة والأشهر والأيَّام .
3- قوله: فَلْيَكْتُبْ تفريعٌ على قوله: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وهو تصريحٌ بمقتضى النهي، وتكرير للأمْر في قوله: فَاكْتُبُوهُ؛ إذ يُفيد تأكيد الأمر وتأكيد النَّهي أيضًا، وأُعيد ليرتَّب عليه قوله: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لبُعد الأمر الأول بما وليه .
وفيه تأكيدٌ أيضًا؛ حيث أمَر بالكتابة المُعلَّمة بعدَ النَّهي عن الإِباء عنها تأكيدًا .
4- قوله: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ووَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فيه تكرار للتأكيد؛ فإنَّه أمَر عند المداينة بالكتابة أولًا، ثم بالإشهاد ثانيًا، ثم أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد، فأمر بالكتابة .
- وجاء بصيغة النهي وَلَا يَأْبَ؛ اهتمامًا بما يقع فيه التفريط؛ فإنَّ المتعاقدين يُظنُّ بهما إهمال الإشهاد، فأُمِرَا به، والشهود يُظنُّ بهم الامتناع فنُهوا عنه، وكلٌّ يستلزم ضدَّه .
5- التنكير في قوله: كَاتِبٌ للعموم؛ إذ هي نكرة في سياق النَّهي، فتعمُّ .
6- شَهِيدَينِ: التعبير بلفظة (شهيد) التي على صِيغة فعيل؛ للمبالغة في المعنى في تحقُّق الوصف بالاستبصار والخبرة، وهو مَن كثُرت منه الشهادة، وفي ذلك إشارة إلى العدالة؛ لأنَّه لا يتكرَّر ذلك من الشَّخص عند الحُكَّام إلَّا وهو مقبولٌ عندهم .
7-قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ ذكر قوله: كَاتِبٌ للتأكيد؛ إذ قد فُهِم من قوله: فَلْيَكْتُبْ .
8- قوله: وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فيه من البَلاغة: تصوير المُجسَّد الحاكي ؛ إذ لفظةُ (بخس)، في الأصل اللُّغوي للعين العوراء، يُقال: بخَسَتْ عينُه، أي: عَوِرت، ولا يَخفى ما في هذا التصويرِ مِن التأكيدِ في الدَّلالة والبيان على مجرَّد البيان القولي .
قوله: منه فيه إيجازٌ بديع؛ إذ الضمير عائدٌ إلى الحق، وهو حقٌّ لكِلا المتداينين، فإذا بَخَس منه شيئًا أضرَّ بأحدهما لا محالة .
9- قوله: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ... فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فيه تكرار لفظ (الحقُّ)؛ للتأكيد على الدُّعاء إلى اتِّباعه، وأتى بلفظة (على)؛ للإعلام أنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا واستعلاء .
10- قوله: أنْ يُمِلَّ هُو فيه تأكيد بذِكر الضَّمير (هو) الذي هو تأكيدٌ للضمير المستتر في الفِعل، وفي هذا التوكيد من الفَصاحة ما لا يَخفَى، وفيه التنصيصُ على أنَّه غير مستطيعٍ بنفسه .
وتأكيد الضَّمير المستتر في فِعل (يملَّ) بالضمير البارز (هو) تمهيدٌ لقوله: فلْيُمْلِل؛ لئلَّا يتوهَّم الناس أنَّ عجزَه يُسقِط عنه واجبَ الإشهاد عليه بما يَستدينه .
11- قوله: وَلْيَتَّقِ اللهَ فيه التعبير بالاسم العظيم (الله)؛ ليكون أزجرَ للمأمور، ثم قال: رَبَّه تذكيرًا بأنَّه لإحسانه لا يأمر إلَّا بخير، وترجيةً للعوض في ذلك إذا أدَّى فيه الأمانة في الكمِّ والكيف من الأجَل وغيره؛ وأكَّد ذلك بقوله: وَلَا يَبْخَسْ .
12- قوله: أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فيه تكرار . وإظهار (إحداهما) في مقام الإضمار، وفائدته: قصْد استقلال الجملة بمدلولها؛ كيلَا تحتاج إلى كلام آخَر فيه معاد الضمير لو أُضمر، وذلك يُرشِّح الجملة لأنْ تَجريَ مَجرى المَثَل .
وأيضًا قوله: أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى تعليلٌ لاعتبار العدَد في النِّساء، والعلةُ في الحقيقة هي التذكيرُ، ولكنَّ الضلالَ لَمَّا كان سببًا له، نُزِّل منزلتَه.
وفي قوله: إحْدَاهُمَا ثانيةً: تأكيدٌ للإبهام، والمبالغة في الاحتراز عن توهُّم اختصاصِ الضَّلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى؛ إشارة إلى أنَّهما يتبادلانِ الخطأ والتذكير، والمعنى: أن تضلَّ واحدةٌ منهما؛ فتذكِّر كلُّ واحدة الأُخرى إذا نسيت .
13- قوله: كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فيه تشبيهٌ، أي: كتابة تُشابه الذي علَّمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، أو تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافِئِه، والعوض بمعوضه، أي: يكتُب كتابةً تكافئ تعليمَ الله إيَّاه الكتابة، فينفع الناس بها؛ شكرًا على تيسير الله له أسبابَ علمها، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل، كما في قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] .
14- قوله: وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ فيه النَّهي عن شيء، والمراد النَّهي عن أَثرِه، وهو هنا تَرْك الكتابة؛ لأنَّ السَّآمة تَحصُل للنَّفس من غير اختيار، فلا يُنهى عنها في ذاتها، وقيل: السَّآمة هنا كِناية عن الكسلِ والتَّهاون .
قوله: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا: تقديم الصَّغير على الكبير هنا، مع أنَّ مقتضى الظَّاهر العكس؛ لأنَّه قَصَد هنا إلى التَّنصيص على العموم؛ لدَفْع ما يَطرأ من التوهُّمات في قلَّة الاعتناء بالصَّغير، وهو أكثر، أو اعتقاد عدَم وجوب كتابة الكبير لو اقتصَر في اللَّفظ على الصَّغير .
15- في قوله: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَكرَّر لفظة الجلالة (الله) في الجُمَل الثلاث؛ لأنَّ الذِّكر أدخلُ في التعظيم من الكِناية؛ لإدخال الرَّوْع في القلوب، وإحداث المهابة في النفوس، وترسيخ الحُكم في الأذهان، والإشعار بأنَّه تعالى مطَّلع على السرائر، لا تعزُبُ عنه همساتُ القلوب، وخَلجاتُ الضَّمائر .
وفيه غاية المناسبة في ختْم آياتِ هذه المعاملات بصِفة العِلم بعد الأمْر بالتقوى؛ لِما يفعله المتعاملون من الحِيَل التي يجتلب كلٌّ منهم بها الحظَّ لنفسه، والترغيب في امتثال ما أمرهم به في هذه الجُمل بأنَّه من علمه وتعليمه، وهذا الخَتْم جامعٌ لبشرى التعليم، ونذارة التهديد .
16- وفي هذه الآية: إطنابٌ وبسط شديد، وتأكيداتٌ عديدة في حِفظ الأموال في المعاملات؛ حيث قال أولًا: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، ثم قال ثانيًا: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، ثم قال ثالثًا: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ، فكان هذا كالتَّكرار لقوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله، ثم قال رابعًا: فَلْيَكْتُبْ وهذا إعادة الأمر الأوَّل، ثم قال خامسًا: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وفي قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ كفاية عن قوله: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتُب ما يُملَى عليه. وقال سادسًا: وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وهذا تأكيد، ثم قال سابعًا: وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فهذا كالمستفادِ من قوله: وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ، ثم قال ثامنًا: وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ، وهو أيضًا تأكيدٌ لِمَا مضى، ثم قال تاسعًا: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا، فذكَر هذه الفوائد الثلاث لتلك التأكيدات السالِفة، وكلُّ ذلك يدلُّ على أنَّه لَمَّا حثَّ على ما يَجري مجرى سبب تنقيص المال في الحُكمين الأولين، بالَغَ في هذا الحُكم في الوصية بحِفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك والبوار؛ ليتمكَّن الإنسانُ بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخطِ الله من الرِّبا وغيره، والمواظبة على تقوى الله؛ فهذا من وجوه محاسنِ النَّظم الشريف ولطافتِه .
17- وفي الآية: إيجاز بالحذف في مواضعَ عديدة؛ في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حُذِف متعلق الإيمان. وفي قوله: كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ، أي: الكتابةَ والخط. وفي قوله: وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ، أي: في إملائِه. وفي قوله: سَفِيهًا، أي: في الرأي، أَوْ ضَعِيفًا، أي: في البينة. وفي قوله: مِن رِجَالِكُمْ، أي: المعيَّنين للشهادة المرضيِّين، فَرَجُلٌ، أي: مرضيٌّ، وامْرَأَتَانِ مرضيَّتان، مِن الشُّهَدَاءِ المرضيِّين... إلخ .
18- وفيها: تلوينُ الخِطاب بالالتفات في مواطِن أيضًا؛ في الانتقال من الحُضور إلى الغَيبة، في قوله: فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ، ومن الغَيبة إلى الحضور في قوله: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وَأَشْهِدُوا. ثم انتقل إلى الغَيبة بقوله: وَلَا يُضَارَّ، ثم إلى الحُضور بقوله: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ، ثم إلى الغَيبة بقوله: وَمَنْ يَكْتُمْهَا، ثم إلى الحضور بقوله: بِمَا تَعْمَلُونَ .
19- قوله: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيه جمْع ما بين الاسم الجليل، والنَّعت الجميل؛ للمبالغة في التحذير ، وهو خبَر، غرَضُه التهديد والتحذير من الإقدام على هذا الكِتمان؛ لأنَّ المكلَّف إذا علِم أنَّه لا يعزُب عن علم الله ضميرُ قلبه، كان خائفًا حذرًا من مخالفة أمر الله تعالى؛ لأنَّ القادر لا يَحُول بينه وبين المؤاخذة إلَّا الجهلُ، فإذا كان عليمًا أقام قسطاسَ الجزاء .
20- في قوله: وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ الجمع بين عنوان الألوهيَّة وصِفة الربوبيَّة، فيه تأكيد، وشدَّة تحذير من المخالفة. وذِكر اسم الجلالة فيه- مع إمكان الاستغناء بقوله: (وَلْيَتَّقِ رَبَّه)-؛ لإدخال الرَّوع في ضمير السَّامع، وتربية المهابة .
21- قوله: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ... النهي عن كتمان الشهادة كلِّها بعمومه، والتعقيب به بعدَما سبَق من وصاية للشُّهداء، والأمر أن يكتب الشاهد بالعدل، والنهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين- بمنزلة التذييل لأحكام الشَّهادة في الدَّين .
22- قوله: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فائدة ذِكر القلب- مع أنَّ جملة الجَسَد هي الآثمة لا القلب وحْده؛ لأنَّ كتمان الشهادة إثم مُقترَف بالقلب، فأُسند إليه؛ لأنَّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يُعمل بها أبلغُ، ويُقال عند التوكيد: هذا ممَّا أبصرتْه عيني، وممَّا سمعته أُذني .

=====


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (284-286)
ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ
غريب الكلمات:

غُفْرَانَكَ: أي: اغفِر مغفرتَك، أو نسألك مغفرتَك، والمغفرة: هي السَّتر لخَلَّة المسلم وفاقته، وترْك أذيَّته؛ وأصْل الغَفْر: السَّتر، والوقاية
.
أَخْطَأْنَا: فاتَنا الصَّواب، وعدَلنا عنه، وسَهَوْنا، من غير تعمُّد -مِن أخْطأ-، وأمَّا إذا تعمَّد الذَّنب، وأثِم، فهو من خَطِئ لا مِن أخطأ. وقيل: هما بمعنًى واحد .
إِصْرًا: أي: ثقلًا، وأصْل الأصْرِ: عقْدُ الشَّيء، وحبْسُه بقهره، أو الحَبْس والعَطف

.
المعنى الإجمالي:

إنَّ لله وحْده جلَّ وعلا كلَّ ما في السَّموات والأرض، وهو مُطَّلِعٌ على كلِّ ما فيها، لا يَخْفى عليه شيء من أمور العباد، وسيُحاسِبهم على ما أظْهَروه وما أَسرُّوه في أنفسهم، فيَغفِر بعد المحاسبة لمَن يشاء، ويُعذِّب مَن يشاء، والله تعالى لا يُعجِزه شيء؛ فهو على كلِّ شيء قدير.
ثم يُخبِر تعالى أنَّ رسولَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ آمَن بما أوحاه الله إليه من الكتاب والسُّنَّة، وكذلك فعَل المؤمنون، فكلٌّ من الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين قد آمن بالله وجميعِ ملائكته وكُتُبِه ورُسُله بلا تفريق بينهم، فلا يؤمنون ببعض ويَكْفرون ببعضٍ، وقال جميع المؤمنين: سَمِعنا قولَ ربِّنا، وقبِلناه، وعمِلنا بمقتضاه، ودَعَوا ربَّهم أن يغفر ذنوبهم، مُعترِفين ومُقرِّين بأنَّ إليه المعاد والمرجع.
ثم امتنَّ الله تعالى على عباده أنه لا يُحمِّل نفسًا فوق طاقتها، فلا يَفرِض عليها من العبادة إلَّا ما كان بمقدورها تحمُّله، ولكل نفْس ما عمِلت من خير، وعليها ما عمِلت من شرٍّ، ثم أمَر عباده أن يَدْعُوه بألَّا يُعاقِبهم عند النِّسيان، أو الخطأ، وألَّا يُحمِّلهم من الأعمال الشَّاقة والثَّقيلة عليهم كما كلَّف بها الأممَ الماضية، وألَّا يُكلِّفهم من الأعمال ما لا يُطِيقون القيام به، وأنْ يغفر لهم ويَرْحمهم، فهو وَلِيُّهم وأنْ ينصُرهم على مَن كفَر به عزَّ وجلَّ.
تفسير الآيات:

لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لما ضمَّن الله تعالى هذه السُّورة أكثرَ عِلم الأصول والفروع من: دلائل التَّوحيد، والنُّبوة، والمعاد، والصَّلاة، والزَّكاة، والقِصاص، والصَّوم، والحجِّ، والجهاد، والحيض، والطَّلاق، والعِدَّة، والخُلْع، والإيلاء، والرَّضاعة، والرِّبا، والبيع، وكيفيَّة المُداينة، ناسَب تكليفه إيَّانا بهذه الشرائع أن يذكُر أنَّه تعالى مالكٌ لِمَا في السَّموات وما في الأرض؛ فهو يُلزِم مَن شاء من مملوكاته بما شاء من تعبُّداته وتكليفاته، ولَمَّا كان محل اعتقاد هذه التكاليف هو الأنفُس، وما تنطوي عليه من النيَّات، وثواب مُلتزِمها وعقاب تارِكها إنما يَظهَر في الدَّار الآخرة- نبَّه على صفة العلم التي بها تقَعُ المحاسبةُ في الدَّار الآخرة
، فقال:
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله.
أي: إنَّ لله تعالى وحده ما في السَّموات والأرض وما بَينهما، خَلْقًا ومُلْكًا وتدبيرًا، وهو المُطَّلِع على مَنْ فيهما، لا يَخفى عليه شيء مُطلَقًا، وسيُطْلِعهم على وجه المحاسبة على إظهارِ ما انطوت عليه نفوسُهم، أو إضماره، ممَّا استقرَّ فيها وثبَت، من الكُفْر والنِّفاق، أو من الأوصاف السيِّئة التي تتَّصِف بها، أو من العزائم المصمِّمة على ارتكاب معصية .
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: فيغفر بعد المحاسبة، لِمَن أتى بأسباب المغفرة فضلًا منه، ويُعاقِب مَن يكفُر به، أو يُصِرُّ على المعاصي، في باطنه أو ظاهره عدلًا منه، فالله تعالى لا يُعجِزه شيءٌ، ومن تَمام قُدْرته محاسبةُ الخلائق، وإيصالُ ما يَستحِقُّونه من الثواب والعقاب .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((إنَّ الله تَجاوَز لأُمَّتي ما حدَّثتْ به أنفسَها، ما لم يتكلَّموا، أو يعملوا به )) .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285).
فضْل خواتيم سورة البقرة:
عن عُقْبة بن عمرٍو رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((مَن قرَأ بالآيتَينِ مِن آخِرِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍ كفَتاه ) .
وعَن عبدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه، قال: (لمَّا أُسْريَ برسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ انتُهيَ بِهِ إلى سِدرةِ المنتَهَى، وَهيَ في السَّماءِ السَّادسةِ، إليها يَنتَهي ما يُعرَج بِهِ منَ الأرضِ، فيُقبَض منها، وإليها ينتَهي ما يُهْبَطُ بِهِ مِن فوقِها فيُقبَضُ منها، قالَ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم: 16]، قال: فَرَاشٌ من ذَهَبٍ، قالَ: فأُعْطيَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ثلاثًا: أُعْطيَ الصَّلواتِ الخمسَ، وأُعْطيَ خواتيمَ سورةِ البقرةِ، وغُفِرَ لِمَن لم يُشرِك باللهِ من أمَّتِهِ شيئًا المُقْحِماتُ ) .
وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: (بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، سمِع نقيضًا من فوقِه، فرفع رأسَه، فقال: هذا بابٌ من السَّماءِ فُتِحَ اليومَ، لم يُفتَح قطُّ إلا اليومَ، فنزل منهُ مَلَكٌ، فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرضِ، لم ينزل قطُّ إلا اليومَ، فسلَّم وقال: أبشِر بنورَينِ أُوتِيتَهما لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةُ الكتابِ، وخواتيمُ سورةِ البقرةِ؛ لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطيتَه )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: لَمَّا نَزلَت على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قالَ: فاشتدَّ ذلك على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأتَوْا رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ثمَّ برَكوا علَى الرُّكَبِ، فَقالوا: أيْ رسولَ اللهِ، كُلِّفنا منَ الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصَّلاةَ والصِّيامَ، والجِهادَ والصَّدقةَ، وقد أُنْزِلَت عليكَ هذه الآيةُ، ولا نُطيقها، قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: أتُريدونَ أن تَقولوا كما قالَ أَهْلُ الكتابَينِ من قبلِكُم: سمِعنا وعصَينا؟ بل قولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فلمَّا اقتَرأَها القومُ، ذلَّت بِها ألسنتُهُم، فأنزلَ اللهُ في إثرِها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلمَّا فعَلوا ذلك نسَخها اللهُ تعالى، وأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قالَ: نعَم، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، قالَ: نعَم، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، قالَ: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، قال: نعَم )) .
عن النُّعمانِ بن بَشير رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ كتَب كتابًا قبل أن يَخْلُق السَّمواتِ والأرضَ بأَلْفَي عامٍ أَنْزَلَ منه آيتينِ ختَم بهما سورةَ البقرةِ، ولا يُقرأانِ في دارٍ ثلاثَ ليالٍ فيَقْرَبُها شيطانٌ )) .
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
أنَّه تعالى لَمَّا قال: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ، بيَّن أنه لا يَخْفى عليه مِن سِرِّنا وجَهْرنا، وباطننا وظاهرنا شيءٌ البتَّة، ثم إنَّه تعالى ذكَر عقيبَ ذلك ما يَجْري مجرى المدحِ لنا والثَّناء علينا، فقال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ كأنَّه بفضْله يقول: عبدي، أنا وإن كنتُ أعلمُ جميعَ أحوالك، فلا أُظهر من أحوالك، ولا أذكُر منها إلَّا ما يكون مدحًا لك، وثناءً عليك، حتى تعلم أنِّي كما أنا الكامل في المُلْك والعِلْم والقُدرة، فأنا الكامل في الجُودِ والرَّحمة، وفي إظهار الحسنات، وفي السَّتر على السيِّئات.
وأيضًا لَمَّا بيَّن الله تعالى في الآية المتقدِّمة كمالَ الملْك، وكمال العلم، وكمال القُدرة لله تعالى، وذلك يُوجِب كمال صِفات الرُبوبيَّة أَتْبَع ذلك بأنْ بيَّن كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطَّاعة والخضوع لله تعالى، وذلك هو كمالُ العبوديَّة، وإذا ظهَر لنا كمال الرُّبوبيَّة، وقد ظهر منَّا كمال العبوديَّة، فالمرجوُّ من عميم فضْله وإحسانه أنْ يُظهِر يومَ القيامة في حقِّنا كمالَ العناية والرَّحمة والإحسان .
المناسبة بين فاتحةِ السُّورة وخاتمتِها:
أنَّ الله تعالى مدَحَ في أوَّل السُّورة المتقين، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وبيَّن في آخرِ السورةِ أنَّ الذين مدَحهم في أولِ السورةِ هم أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ. وهذا هو المرادُ بقولِه في أولِ السورةِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ثم قال هاهنا: وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وهو المرادُ بقولِه في أولِ السورةِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، ثم قال هاهنا: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. وهو المرادُ بقولِه في أولِ السورةِ وَبِالآخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ثم حكَى عنهم هاهنا كيفيةَ تضرُّعِهم إلى ربِّهم في قولِهم: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا إلى آخِر السُّورة، وهو المرادُ بقولِه في أولِ السورةِ: أولئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وَأولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فانظرْ كيف حصَلتِ الموافقةُ بينَ أولِ السورةِ وآخرِها .
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.
أي: آمَن رسولُ الله محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأقرَّ وانقاد لِمَا أُوحي إليه من ربِّه من الكتاب والسُّنة، وكذلك آمن المؤمنون، وكلٌّ من الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام والمؤمنين جميعًا يؤمنون حقًّا بالله تعالى وبجميع ملائكته، وجميع كُتُبه، ويُعلِنون إيمانَهم بجميع رُسله عليهم الصَّلاة والسَّلام، دون أيِّ تفريق بين أحدٍ منهم، فلا يؤمنون ببعضٍ، ويَكْفُرون ببعض .
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
أي: قال جميع المؤمنين: سَمِعنا قولَ ربِّنا، وأمْره ونهيه، وفَهِمنا ذلك، فقبِلْناه، وعمِلْنا بما أَمَر، واجتنبْنا ما عنه زجَر، وقالوا: نسألك يا ربَّنا أن تَستُر لنا على الدوام ذنوبَنا، وتتجاوز عن عِقابنا عليها، وأنت يا ربَّنا مَرجِعُنا في كلِّ أمورنا، وإليك مَعادُنا، ومَعاد كلِّ الخلائق فتَجزيهم بما عمِلوا من خيرٍ وشرٍّ .
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286).
سبب النُّزول:
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا نَزلَت علَى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قالَ: فاشتدَّ ذلك على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأتَوا رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ثمَّ برَكوا علَى الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رسولَ الله، كُلِّفنا منَ الأَعمالِ ما نُطيقُ: الصَّلاةَ والصِّيامَ، والجِهادَ والصَّدَقةَ، وقد أُنْزِلَت عليكَ هذه الآيةُ ولا نُطيقُها، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: أتُريدونَ أنْ تَقولوا كما قال أَهْلُ الكتابَينِ من قبلِكُم: سمِعنا وعصَينا؟ بل قولوا: سَمِعنا وأطَعْنا، غُفرانَكَ ربَّنا وإليكَ المَصيرُ، فلمَّا اقتَرأَها القومُ، ذلَّت بِها ألسنتُهُم، فأنزلَ اللهُ في إثرِها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلمَّا فعَلوا ذلك نسخَها اللهُ تعالى، وأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قالَ: نعَم، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، قالَ: نعَم، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، قالَ: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، قال: نعَم )) .
وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((لَمَّا نزلت هذِهِ الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ، قال: دخلَ قلوبَهُم منها شيءٌ لم يدخُل قلوبَهُم من شيءٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: قولوا: سَمِعنا وأطَعْنا وسلَّمنا، قالَ: فألقى اللهُ الإيمانَ في قلوبِهِم، فأنزلَ اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قالَ: قَد فعلتُ، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، قالَ: قد فَعلتُ ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا، قالَ: قد فَعلتُ )) .
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.
أي: لا يُحمِّل الله تعالى نفسًا فوقَ طاقتِها، فلا يتعبَّدها إلَّا بما يَسَعُها تَحمُّله، فلا يُضيِّق عليها، ولا يُجهِدها بما لا قِبل لها به، وهو وإنْ حاسَب وسأل، لكنَّه لا يُعذِّب بما لا يُمكِن للمرء دفْعُه؛ كوسوسة عَرَضتْ له، أو خَطْرة خطَرتْ بقلبه، ولكلِّ نَفْس ما عمِلتْ من خير، لا يَنقُص منها شيءٌ؛ وعليها ما عمِلتَ من شرٍّ، لا يُزاد عليها شيء .
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.
أي: قولوا: يا ربَّنا، لا تُعاقِبْنا إنْ نسِينا القيامَ بفرضٍ، أو تَرْك مُحرَّم، ولا تُعاقِبنا يا ربَّنا، إنْ أخطأنا الصَّوابَ في العمل، جهلًا منَّا بوجْهه الشَّرعي، أو وقَعْنا في معصيتك جهلًا، عن غير قصْدٍ منَّا، بارتكاب نهيك .
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا.
أي: قولوا: يا ربَّنا، لا تُحمِّلنا عهدًا على القيام بأعمالٍ شاقَّةٍ وثقيلةٍ علينا، فنعجِز عن القيام بها، فتَحِلَّ علينا العقوباتُ، كما وقَع لليهود والنصارى وغيرهم ممَّن كُلِّفوا أعمالًا، وأُخِذتْ عليهم العهودُ والمواثيقُ على القيامِ بها، فلم يفعلوا، فعُوقِبوا .
رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ.
أي: قولوا أيضًا: يا ربَّنا لا تُكلِّفنا من الأعمال ما لا نُطيق القيامَ به؛ لثِقَل حَمْله علينا، ولا تَبْتلِنا بما لا قِبَل لنا به .
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.
أي: يا ربَّنا، تَجاوَز عمَّا بيننا وبينك من تقصيرٍ في أداء ما افترضتَه علينا، واستُر علينا فيما بيننا وبين عبادِك، فلا تُظهِرهم على سيِّئاتنا، وتَجاوَز عنها، وجُدْ علينا بالرحمة حتى لا نَقَع في ارتكابِ محظورٍ، أو تَهاوُنٍ في أداء مأمور، ونجِّنا برحمتك من غضبِك وعقابِك .
أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
أنت وليُّنا وناصِرُنا دون مَن عاداك وكَفَر بك؛ لأنَّا حِزبُك المؤمنون بك، والمُطيعون لك فيما أَمَرتنا ونَهيتنا؛ فبوَلايتِك الخاصَّة انصُرنا على الكافرين، الذين جَحدوا وحدانيتَكَ، وأَشرَكوا معك، وأَنكَروا رسالةَ نبيِّك، وعبدوا غيرَك، وأطاعوا الشَّيطانَ في معصيتِك، واجعل لنا العاقبةَ عليهم في الدُّنيا والآخرة

.
الفوائِد التربويَّة :

1- في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ، تحذيرٌ للعبد مَن أنْ يُخفي في قلبه ما لا يَرضاه الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا علِم بأنَّ الله عالمٌ بما يُبدي وبما يُخفي، فسوف يُراقِب اللهَ سبحانه وتعالى؛ خوفًا مِن أنْ يُحاسَب على ما أخفاه كما يُحاسَب على ما أبداه
.
2- في قوله تعالى: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، دلالةٌ على أنَّه ينبغي للإنسان أنْ يسأل اللهَ سبحانه وتعالى العافيةَ، فلا يُحمِّله ما لا طاقةَ له به؛ ففيه ردٌّ على الصُّوفية الذين قالوا: نحن لا نسأل الله تعالى أن يَقِيَنا ما يَشُقُّ علينا؛ لأنَّنا عبيدُه، وإذا حصل لنا ما يَشُقُّ، فإنَّنا نَصبِر عليه؛ لنَكسِب أجرًا .
3- أنَّه ينبغي للإنسان سؤالُ الله العفوَ؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من تقصيرٍ في المأمورات، فيسأل الله العفوَ عن تقصيره؛ لقوله تعالى: وَاعْفُ عَنَّا، وسؤالُ الله المغفرةَ من ذنوبه التي فعَلها؛ لقوله تعالى: واغْفِرْ لَنَا؛ لأنَّ الإنسانَ إن لم يُغفَر له تراكمتْ عليه الذُّنوبُ، ورانت على قلبه، وربَّما تُوبِقه، وتُهلِكه .
4- التوسُّل إلى الله تعالى في الدُّعاء بما يَقتضي الإجابةَ؛ لقوله تعالى: أَنْتَ مَوْلَانَا بعد أنْ ذكَر الدُّعاءَ في قوله تعالى: وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- في قوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، إثبات صفاتِ الكَمال لله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّنا إذا تأمَّلنا في هذا المُلْك الواسع العظيم، وأنه يُدبَّر بانتظام لا مثيلَ له، علِمنا بأنَّ الذي يدبِّره كاملُ الصِّفات؛ فيُؤخَذ منه كل صِفة كمال لله، كالعِلم، والقُدرة، والسَّمع، والبصر، والكلام، والعزَّة، والحِكمة، وغير ذلك من صِفاته عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه لا يُمكِن أن يقومَ بمُلْك هذه الأشياء العظيمة إلَّا من هو مُتَّصِفٌ بصفات الكمال
.
2- عمومُ عِلْم الله وسَعَته؛ لقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ؛ ولا مُحاسبة إلَّا مِن بعد علمٍ .
3- أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يُصرِّح بالمعاقبة؛ ولا يَلزَم من المحاسبة المؤاخذةُ؛ لقوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ .
4- إثبات المشيئة لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ؛ ومشيئته تعالى مقرونةٌ بالحِكمة؛ لقوله تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30] ، وكلُّ شيء أضافه الله إلى مشيئته فهو مقرونٌ بحِكمة؛ لا يَشاءُ شيئًا إلَّا لحِكْمة، أيًّا كان هذا الشَّيء .
5- أنَّه بَعدَ المحاسبة إمَّا أنْ يَغفِر الله تعالى للإنسان، وإمَّا أن يُعذِّبه؛ لقوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، فإن كان كافرًا عُذِّب؛ وإنْ كان مُسلِمًا كان تحت المشيئة؛ كما قال تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] .
6- أنَّ المؤمنين تَبَعٌ للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لقوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ وَجْه التَّبَعيَّة أنه ذكَر ما آمَن به قبل أن يَذكُر التابعَ- يعني لم يقُل: (آمَن الرسولُ والمؤمنون بما أُنزِل إليه)، وهذا يدلُّ على أنَّهم أتباعٌ للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ، لا يَستقِلُّون بشريعةٍ دونه .
7- أنَّه كلَّما كان الإنسان أقوى إيمانًا بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان أشدَّ اتِّباعًا له؛ وَجْهه: أنَّه تعالى قال: أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ يعني: والمؤمنون آمَنَوا بما أُنزِل على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ من ربِّه؛ وعليه فكلُّ من كان أقوى إيمانًا كان أشدَّ اتِّباعًا .
8- في قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ترتيبٌ في غاية الفصاحة؛ لأنَّ الإيمان بالله هو المرتبة الأولى، والإيمان بملائكته هي المرتبة الثانية؛ لأنَّهم كالوسائط بين الله وعباده، والإيمان بالكتُب- الذي هو الوحي الذي يتلقَّنه المَلَك من الله، يُوصِّله إلى البشر- هي المرتبة الثالثة، والإيمان بالرُّسُل الذين يَقتبِسون أنوارَ الوحي؛ فهم متأخِّرون في الدَّرجة عن الكُتُب، وهي المرتبة الرابعة .
9- قوله: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا: فيه مناسبةٌ حسنةٌ بتقديم ذكرِ السَّمعِ والطاعةِ على طَلَب الغُفران؛ لأنَّ تقديمَ الوسيلةِ على المسؤول أدْعى إلى الإجابة والقَبُول، والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافة إليهم (رَبَّنَا)؛ للمُبالغةِ في التضرُّع والجُؤار .
10- أنَّ للإنسان طاقةً محدودة؛ لقوله تعالى: إِلَّا وُسْعَهَا؛ فالإنسان له طاقة محدودة في كل شيء: في العِلم، والفَهْم، والحِفْظ؛ فيُكلَّف بحسَب طاقته .
11- في قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ: أنَّ للإنسان ما كسَب دون أن يَنقُص منه شيء، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا .
12- أنَّ الأعمال الصالحة كَسْب؛ وأنَّ الأعمال السيِّئة غُرْم؛ وذلك مأخوذ من قوله تعالى: لَهَا، ومن قوله تعالى: عَلَيْهَا؛ فإنَّ (على) ظاهرة في أنها غُرْم؛ واللام ظاهرة في أنَّها كَسْب .
13- وفي الإتيان بـكَسَبَ في الخير الدَّال على أنَّ عمل الخير يَحصُل للإنسان بأدنى سعيٍ منه، بل بمُجرَّد نيَّة القلب، وأتى بـاكْتَسَبَ في عملِ الشرِّ؛ للدَّلالة على أنَّ عمل الشرِّ لا يُكتَب على الإنسان حتى يعملَه، ويَحصُل سعيُه .
14- رحمة الله سبحانه وتعالى بالخَلْق، حيث علَّمهم دعاءً يدعونه به، واستجاب لهم إيَّاه في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .
15- أنَّه ينبغي للإنسان أن يتوسَّل في الدُّعاء بالوصف المناسِب، مِثْل الرُّبوبيَّة- التي بها الخَلْق، والتدبير؛ ولهذا كان أكثرُ الأدعية في القرآن مصدَّرةً بوصف الرُّبوبيَّة، مِثْل: رَبَّنَا، ومِثْل: رَبِّ .
16- أنَّ من كان قَبْلنا كانوا مُكلَّفين بأعظمَ ممَّا كُلِّفنا به؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا .
17- أَنْتَ مَوْلَانَا، هذه الكلمة تَدلُّ على نهاية الخضوع والتذلُّل، والاعتراف بأنَّه سبحانه هو المتولِّي لكلِّ نِعْمة يَصِلون إليها، وهو المعطِي لكلِّ مَكرُمة يفوزون بها، فلا جَرَم أَظهروا عند الدعاءِ أنَّهم في كونهم مُتكلِّمين على فضْله وإحسانه بمنزلة الطِّفل الذي لا تَتِمُّ مصلحته إلَّا بتدبير قَيِّمِه، والعبد الذي لا يَنتظِم شَمْلُ مهمَّاته إلَّا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قَيُّوم السَّموات والأرض، والقائم بإصلاح مهمَّات الكل، وهو المتولِّي في الحقيقة للكلِّ

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... حُسنُ الختام، وحُسن المناسبة؛ لأنَّه سبحانه لَمَّا ذكر أنَّ مَن كتَم الشَّهادة فإنَّ قلبَه آثمٌ، ذكَر ما انطوى عليه الضَّمير، فكتَمَه أو أبداه؛ فإنَّ الله يحاسبه به، ففيه وعيدٌ وتهديد لِمَن كتم الشهادة
.
وكذا ناسب ذِكر هذه الآية- بما اشتملتْ عليه من تهديد- خاتمةً لهذه السُّورة؛ فلَمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرة من أمور التوحيد والنبوَّة والشرائع والتكاليف، كالصَّلاة والزكاة، والصوم والحج، والقصاص والجهاد...إلخ - ختَمها بخلاصة ذلك، وبالأصل الذي يَنبني عليه كلُّ تلك الأمور .
وهي تعليلٌ واستدلالٌ على مضمون جملة: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ؛ فإذا كان ذلك تعريضًا بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحًا واستدلالًا عليه، التصريح في جملة وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، والاستدلال في جملة لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وهي اعتراضٌ بين الجملتين المتعاطفتينِ، أو علَّة لجملة وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى: أنَّكم عبيدُه، فلا يفوته عملُكم، والجزاء عليه .
2- قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله؛ فإنَّ كمالَ قُدرته تعالى على جميع الأشياء، مُوجِبٌ لقدرته سبحانه على ما ذُكر من المحاسبة، وما فُرِّع عليه من المغفرة والتعذيب .
3- وقد تَضمَّنت هذه الآية من أنواع الفصاحة، وضروبِ البلاغة أشياء؛ منها:
الطِّباق في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، والتَّكرار في قوله: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، حيث كرَّر (ما) الموصولة؛ تنبيهًا وتوكيدًا .
توحيد الضمير في آمَنَ مع رجوعه إلى كلِّ المؤمنين؛ لأنَّ المرادَ بيانُ إيمانِ كلِّ فردٍ منهم من غير اعتبار الاجتماعِ، كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرينَ، وتغييرُ سبْكِ النَّظم الكريمِ عمَّا قبلَه؛ لتأكيد الإشعارِ بما بين إيمانه صلَّى الله عليه وسلَّم المبنيِّ على المشاهدة والعِيان، وبين إيمانِهم الناشئ عن الحُجَّة والبرهانِ من التفاوت البيِّن، والاختلاف الجليِّ، كأنَّهما مختلفان من كلِّ وجهٍ، حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما، وما فيه من تكرير الإسناد لِمَا في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجْه الآتي من نوعِ خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد، أي: كلُّ واحد منهم آمن .
4- في قوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ... فَذْلكةٌ لجميع ذلك المذكور من قبلُ، وللتأكيد عليه، ولتعظيم نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأتْباعه؛ فإنَّه لَمَّا ذكر الله في هذه السُّورة أحكامًا كثيرة، وقصصًا، ختمَها بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ...، والجملة استئناف ابتدائي وُضِعت في هذا الموقِع لمناسبة ما تقدَّم، وهو انتقالٌ مؤذِن بانتهاء السُّورة؛ لأنَّه لَمَّا انتقل من أغراض متناسبة إلى غرَض آخَر: هو كالحاصل، والفذلكة، فقد أشْعَر بأنَّه استوفى تلك الأغراض .
5- قوله: لا نُفرِّق يحتمل الالتفات: بأنْ يكون من مقول قول محذوف دلَّ عليه السِّياق وعُطف (وقالوا) عليه، أو النون فيه للجلالة، أي: آمَنوا في حال أنَّنا أمرناهم بذلك؛ لأنَّنا لا نُفرِّق، فالجملة معترِضة .
6- في قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ تذييلٌ لِمَا قبله، مقرِّر للحاجة إلى المغفرة؛ لأنَّ الرجوع يكون للحسابِ والجزاء .
7- قوله: لَا تُؤَاخِذْنَا، وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ جاءت هذه الأدعية بصِيغة الجمع وقتَ الدُّعاء؛ لبيان أنَّ قَبول الدعاء عند الاجتماع أكملُ؛ وذلك لأنَّ للهِمم تأثيراتٍ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحد كان حصوله أكملَ، وهذه الأدعية كان المطلوبُ فيها التركَ، فجاءت مقرونةً بلفظ (ربنا). ولم يذكُر لفظ (ربَّنا) في الأدعية التالية لها (واعف - واغفر - وارحمنا - فانصرنا)؛ لأنَّ النِّداء إنما يُحتاج إليه عند البُعد، أمَّا عند القُرب فلا، وإنَّما حذف النِّداء؛ إشعارًا بأنَّ العبد إذا واظب على التضرُّع نال القربَ من الله تعالى، وهذا سرٌّ عظيم يُطَّلع منه على أسرار أُخَر .
أو لم يُؤتَ مع هذه الدَّعوات بقوله: رَبَّنا؛ لأنَّه تكرَّر ثلاثَ مرات، والعرب تَكرَهُ تكرير اللَّفظ أكثرَ من ثلاث مرَّات إلَّا في مقام التهويل، أو لأنَّ تلك الدعوات المقترنة بقوله: ربَّنَا فروعٌ لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استُجيب تلك، حصَلت إجابة هذه بالأَولى؛ فلمَّا كان تعميمًا بعد تخصيص، كان كأنَّه دعاء واحد .
8- قوله: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا فيه التفات ، بالعدول عن الخِطاب إلى الغَيبة بذِكر لفظ الجلالة (الله)؛ وفائدته: إظهار التملُّق بأنَّ له من صِفات العظمة ما يَقتضي العفوَ عن ضَعفهم .
9- قوله: أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا جِيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولًى؛ لأنَّ شأنَ المولى أن ينصُر مولاه، وفي التفريع بالفاء إيذانٌ بتأكيد طلبِ إجابة الدُّعاء بالنصر؛ لأنَّهم جعلوه مرتَّبًا على وصف محقَّق، وهو ولايةُ الله تعالى المؤمنين .
10- قوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ بينهما مقابلة؛ فقد طابَق بين (لها) و(عليها)، وبين (كسبت) و(اكتسبت)؛ فالفعل الأوَّل يختصُّ بالخير، والفعل الثاني يختصُّ بالشرِّ؛ فإنَّ في الاكتساب اعتمالًا، والشرُّ تَتشهَّاه النفْس وتَجنح إليه بالطبع، بخلاف الخير . والمقابلة تُبرز المعنى وتُوضِّحه.
وأيضًا قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ صيغة خبر، والمراد الترغيبُ في المحافظة على مواجب التكليف، والتحذيرُ عن الإخلال بها .
11- وفي الآية: حسنُ الختام لهذه السُّورة العظيمة، التي اشتملتْ على العديد من الأحكام، وانطوتْ على التَّشريع والبيان؛ فناسَب أن يتناول ختامها ما ذُكِر فيها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...