حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

2. سورة البقرة {ج5}



2. سورة البقرة {ج5}


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (208 - 214)
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
غريب الكلمات:

السِّلْمِ: أي: الإسلام. وأصلُ السِّلم: الصُّلح، والسِّلم ضِدُّ الحرْب، والتَّعرِّي من الآفات الظاهرة والباطنة، والاستسلام والانقياد
.
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ: أي: سَبيلَه ومَسْلكَه، وآثارَه وعملَه، وخُطوات جمْع خُطْوَة، والخُطْوَة: ما بين القدمين .
زَلَلْتُمْ: الزَّلَّةُ: استرسال الرِّجْلِ من غير قصْد، يقال: زَلَّتْ رِجله تَزِلُّ، والمَزِلَّةُ: المكان الزَّلق، وقيل للذَّنب من غير قصد: زَلَّةٌ؛ تشبيهًا بزلَّة الرِّجل .
يَنْظُرُونَ: ينتظرون .
الْغَمَامِ: جمع غمامة، وهو سحابٌ أبيضُ يُواري وجْهَ السماء، لكنَّه يُبقيها مستنيرة؛ سُمِّي بذلك لأنَّه يغمُّ السَّماء، أي يَسترُها ويُواريها، وأصل الغَمِّ: ستر الشيءِ .
بَغْيًا: طُغيانًا وتعديًا بالباطِل، وظلمًا وعدوانًا، وحسدًا، أو نتيجةً للحسد، وأصل البَغْي: طلَب الشيءِ، وجِنس من الفَساد، والظُّلم، والترفُّع والعلو، ومنه قيل للحَسد: بغي؛ لأنَّ الباغي طالبُ الظلم، والحاسد يظلم المحسودَ جَهدَه؛ طلبًا لإزالة نِعمة الله تعالى عنه

.
المعنى الإجمالي:

يـأمُرُ اللهُ عبادَه المؤمنين بالعملِ بجميع شرائعِ الإسلامِ، محذِّرًا إيَّاهم مِن طاعة الشَّيطانِ، ومعلِّلًا ذلك بأنَّه عدوٌّ ظاهرٌ لهم؛ فلعداوتِه يُريد أنْ يقودَهم بطاعتِهم له إلى الهلاك، فإنْ وقَعوا في الزَّلل، وخالَفوا تعاليمَ الإسلامِ وشرائعه عامدين، وضلُّوا عن الحقِّ المبين- فلْيعلَموا أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يُعجِزه شيءٌ عن الانتقام منهم، ومجازاتهم؛ فإنَّه يقهَرُ مَن يشاء بقوَّتِه، ويعذِّب مَن أراد بمقتضى حِكمته.
ثم يُنكر سبحانه وتعالى على هؤلاء الذين زلُّوا بعد ما جاءتهم البينات، إعراضَهم عن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّ فعلهم هذا يُعَدُّ وكأنَّه انتظارٌ منهم لموعد هلاكهم، وذلك حين إتيان الرَّبِّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة وإتيان الملائكة، ليقضي سبحانه فيهم بعدله، فيجازيهم على كفرهم، فيهلكون.
ثم يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنْ يسأَل اليهودَ عمَّا أعطاهم سبحانه وتعالى مِن الحُجَجِ الواضحة، والبراهينِ والدَّلائلِ والمعجزات الَّتي تدلُّ على صِدْقِ ما جاءهم به الأنبياءُ والرُّسلُ عليهم السلام، لكنَّهم كفَروا وكذَّبوا، وأعرَضوا عن تلك الآيات، ثم توعَّد اللهُ مَن يختارُ الكفرَ عِوضًا عن نعمةِ الإسلام بعد أنْ بلَغَتْه- بالعقابِ الشَّديد.
ثم يُخبِرُ تعالى أنَّ الدُّنيا جُمِّلت في أعيُنِ الكفَّارِ وقلوبِهم، فرَضُوا بها، وآثَروها على نعيمِ الآخرة، ومع ذلك يستهزئون بالَّذين آمَنوا؛ لعزوفِهم عن الدُّنيا وزُخرفِها، وغفَل هؤلاء الكفَّارُ عن أنَّ المفاضلةَ الحقيقيَّةَ هي في الآخرة؛ حيثُ إنَّ الَّذين امتثَلوا أوامرَ الله واجتنبوا نهيَه هم أعلى منهم، وفوقهم؛ وذلك بدخولِهم الجنَّة، لهم فيها ما يشتَهون، والَّذين كفَروا تحتهم في النار في عذابٍ دائمٍ لا ينقطعُ عنهم، والله يُعطي المتَّقين من فضلِه في الجنَّةِ بلا إحصاءٍ ولا حَصْرٍ.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّ النَّاس كانوا مجتمعينَ منذ عهدِ آدَمَ عليه السلام على دينٍ واحدٍ، وهو الإسلامُ، واستمرُّوا على ذلك الحالِ لمدَّةِ عشرة قرونٍ متواصلة، ثم اختلفوا بعدها في دِينهم حتى عبَدوا الأصنام، فبعَث الله الأنبياءَ ينهَوْن عن الكفر، ويُبشِّرون بالنَّعيم لِمَن أطاعهم، ويُنذِرون بالنَّار مَن عَصاهم، وكان أوَّلَهم نوحٌ عليه السلام، وأنزَل اللهُ مع أنبيائه كتبًا مِن عنده تشتملُ على الأخبارِ الصَّادقة، والأوامر العادلة؛ لتَفْصِل بين النَّاس في كلِّ ما تنازَعوا فيه، وتُوضِّح لهم الحقَّ مِن الضَّلال، والصوابَ مِن الخطأ؛ لتقومَ بذلك حُجَّةُ اللهِ على عِبادِه، ومع كونِ تلك الكُتُبِ قد أُنزِلت ليتَّفق عليها الَّذين اختَلفوا في دِينهم، فإنَّهم خالَفوا مرادَ الله تعالى، فاختلَفوا فيها أيضًا بعد أنْ علِموا بالأدلَّة القطعيَّةِ أنَّ ما فيها هو الحقُّ، وكان الباعثُ لهم على هذا الاختلافِ، تعدِّيَ بعضِهم على بعض بالباطل، فتنازَعوا فيما بينهم، لكنَّ اللهَ أرشَد المؤمنين إلى الطَّريق المستقيم، ووفَّقهم إلى التمسُّكِ بالحقِّ القويم، الذي اشتملت عليه كتبُ الأنبياء، واللهُ تعالى يُرشِدُ للطَّريق الواضحِ البَيِّن مَن يشاءُ مِن خَلْقِه.
ثمَّ يوجِّهُ اللهُ الخطابَ لعباده المؤمنين ألَّا يظنُّوا أنَّ الطَّريقَ إلى الجنَّة خالٍ من الصُّعوبات والعَقَبات فيه، بل هو طريقٌ وَعْرٌ وشائكٌ، محفوفٌ بالعوائقِ والمِحَن والبلايا، مثلما حصَل للأمم قبلهم؛ فقد اكتوَوْا بشدَّةِ الفقر والحاجة، وأصابتهم الأسقامُ والأوجاع، وخُوِّفُوا مِن قِبَل أعدائِهم بأنواع المخاوفِ، حتَّى بلَغ بهم الحال إلى أنْ يتساءَلَ الرُّسلُ والَّذين آمنوا معهم: متى سيأتي نصرُ اللهِ؟ ليرتاحوا من عناءِ ما يُكابِدونه، ومشقَّةِ ما يجدونه، فأكَّد اللهُ تعالى لعباده المؤمنين أنَّ نصرَه لا محالةَ آتٍ عن قريب.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
أي: يا مَعشرَ المؤمنينَ اعْمَلوا بجميع شَرائعِ الإسلام
.
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بالعملِ بجميع شرائعِ الإسلام، حذَّر سبحانه ممَّا يمنَعُ مِن الالتزام بذلك، فقال :
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
أي: لا تُطِيعوا الشَّيطان؛ فتَسلُكوا طُرقَه، فيقودَكم شيئًا فشيئًا إلى التَّهلُكةِ؛ فهو لكم عَدوٌّ ظاهِرُ العَدواة .
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209).
أي: فإن أخطَأْتم وخالَفْتم شرائعَ الإسلام عن عمدٍ، وضلَلْتُم عن الحقِّ عن عِلمٍ، من بعدِ قيام الحُجَجِ والبراهين عليه، فاعلَموا أنَّ اللهَ تعالى لا يُعجِزُه شيءٌ عن الانتقام منكم؛ إذ يقهَر مَن يشاءُ بقوَّتِه، ويُعذِّبُ مَن يشاء بمقتضى حِكمته؛ فإنَّ مِن حِكمته معاقبةَ العُصاةِ بما يُناسب معصيتَهم له سبحانه .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أنَّ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210).
أي: ما ينتظر هؤلاء الذين زلُّوا من بعد ما جاءتهم البينات، فكذَّبوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وما جاء به، إلَّا إتيان الرَّبِّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة في ظُللٍ من الغمام، وإتيان الملائكة، فيقضي الله تعالى بين عباده، ويجازي كل عامل بعمله، فجميع أمور الدنيا والآخرة تؤول إلى الله عزَّ وجلَّ وحده، وحيئذ يكونُ الأمرُ قد انتهى وحقَّ عليهم الهلاك ؟!
قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 25-26] .
وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الأنعام: 158] .
وقال عزَّ وجلَّ: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر: 21 - 23] .
وعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: ((يجمعُ اللهُ الأوَّلين والآخِرين لميقاتِ يومٍ معلومٍ أربعين سَنةً، شاخصةً أبصارُهم إلى السماءِ ينظرون إلى فصلِ القضاءِ، فينزلُ اللهُ من العرشِ إلى الكرسيِّ في ظُلَلٍ من الغمامِ )) .
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211).
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ.
أي: أمَر اللهُ تعالى محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يسأَلَ اليهودَ عمَّا أعطاهم اللهُ تعالى مِن قبلِ مجيئِه عليه الصَّلاة والسَّلام، من دلائلَ ومُعجزاتٍ، وحُجَجٍ واضحات، شاهَدوها على أيدي أنبيائِه ورُسلِه عليهم السَّلام، دالَّات على صِدقهم وصِدْقِ ما جاؤوهم به، ومن ذلك: الإيمانُ بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ووجوبُ متابعته على دِينه، لكنَّهم مع ذلك كلِّه أعرَضوا، وكفَروا، وكذَّبوا .
وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: مَن يترُكْ نعمةَ الإسلام، فيمتنِعْ عن قَبولِها بالدُّخول فيه، والعملِ بجميع شرائعه، ويختار عِوضًا عن ذلك الكفرَ به- فإنَّ اللهَ تعالى سيُعاقبه عِقابًا شديدًا .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذين بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم: 28-29] .
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى مَن يُبدِّل نعمةَ الله مِن بعد ما جاءته، ذكَر السببَ الَّذي لأجله كانتْ هذه طريقتَه، فقال :
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.
أي: زُيِّنت الدُّنيا بزُخرفِها ومباهجِها للكفَّار، فتغلغل حبُّها في شغافِ قلوبهم، وقصَروا أنظارَهم عليها، وآثَروها على نعيمِ الآخرة، فعليها يتكالَبون، وفيها يطلُبونَ ما يشتهون، وهم مع ذلك بالمؤمنين يستهزئون، ومنهم يضحَكون؛ وذلك لزُهدِهم في الدُّنيا، وعزوفِهم عن مناصبِها، وتَرْكِهم المفاخرةَ بزينتِها، والاستزادةَ منها .
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: إنَّ الَّذين امتثلوا ما أمَر اللهُ تعالى به، واجتنبوا ما نهى عنه، هم الأَعْلَوْن في دار الخلودِ، وسيكونون فوقَ الَّذين كفروا يوم القيامة، بدخولِهم الجنَّةَ، يتمتَّعون فيها ويبتهِجون، ولهم فيها ما يشتهونُ .
قال تعالى: إِنَّ الَّذين أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذين آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذين آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 29-36] .
وقال سبحانه: أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 49] .
وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى يُعطي المتَّقين في الجنَّةِ مِن نِعَمه وعطاياه الَّتي لا تنتهي، مِن غير أنْ يخشى نفادَ خزائنه، أو وقوعَ نقصٍ من مُلكه، فلا يحتاج إلى حسابِ ما يُعطي، وإحصاءِ ما يُبقي، بل يُعطيهم ما يشتهون بلا حصرٍ ولا تَعداد؛ فرِزقُه واسعٌ لا نهايةَ له ولا نَفادَ .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى في الآية المتقدِّمة أنَّ سببَ إصرارِ هؤلاء الكفَّارِ على كُفرهم هو حبُّ الدُّنيا- بيَّن في هذه الآية أنَّ هذا المعنى غيرُ مختصٍّ بزمنِ نزول الآية، بل كان حاصلًا في الأزمنة المتقادمة؛ لأنَّ النَّاس كانوا أمَّةً واحدةً قائمةً على الحقِّ، ثم اختلَفوا، وما كان اختلافُهم إلا بسببِ البغيِ والتَّنازُعِ في طلبِ الدُّنيا، فقال سبحانه :
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
أي: إنَّ النَّاس كانوا مجتمعين منذ عهدِ آدمَ عليه السَّلام على دِينٍ واحد، هو دينُ الإسلام، وظلُّوا على ذلك مدَّةَ عشرةِ قرونٍ، فاختلَفوا في دِينهم حتى عبَدوا الأصنام، فبعَث الله النَّبيِّين ينهَوْن عن ذلك الكفرِ، مُبشِّرين مَن أطاعهم بالجنَّةِ، ومُنذِرين مَن عصاهم بالنَّارِ، وكان أوَّلهم نوحٌ عليه السَّلام .
قال سبحانه: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 19] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] .
وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 17] .
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى أنزَل مع النَّبيِّين عليهم السَّلام كُتبًا مِن عنده، مشتملةً على الأخبارِ الصادقة، والأوامرِ العادلة؛ أنزَلها لتفصِلَ بين النَّاس في كلِّ ما اختلَفوا فيه، فيتبيَّن لهم الحقُّ مِن الضَّلال، والصَّواب مِن الخطأ، وتُقامُ بذلك حُجَّةُ اللهِ تعالى على عبادِه .
كما قال تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] .
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى إنزالَه الكتبَ على النَّبيِّين عليهم السَّلام، وكان هذا يقتضي اتِّفاقَ الَّذين اختلَفوا في دِينهم عليها، أخبَر تعالى أنَّهم خالَفوا مرادَ الله تعالى منها، فقال سبحانه :
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ:
أي: إنهم اختلَفوا في تلك الكتب المنزلة، وكان ينبغي أنْ يكونوا أَوْلى النَّاسِ بالاجتماع عليها، والتَّحاكُم إليها، وذلك مِن بعدِ ما علِموا بالأدلَّةِ القاطعات، والحُجَج الباهرات: أنَّ ما فيها هو الحقُّ، وإنَّما حمَلهم على ذلك تعدِّي بعضِهم على بعضٍ بالباطل، ووقوع النِّزاعاتِ والخصومات فيما بينهم .
كما قال تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية: 17] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 93] .
وقال سبحانه: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذين أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] .
فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى أرشَد المؤمنين للحقِّ الَّذي جاءت به كتبُ أولئك الأنبياءِ عليهم السَّلام، واختلَف فيه غيرُهم، ووفَّقهم أيضًا إلى الانقيادِ إلى هذا الحقِّ، والتمسُّك به، بعِلمِه وإرادتِه وتيسيره، ويدخُلُ في هؤلاء المؤمنين أمَّةُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم قطعًا، ويدخُلُ فيهم أيضًا كلُّ مَن آمَن مِن الأمم السَّابقة؛ كمَن آمَن مِن قوم نوحٍ عليه السلام .
وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يُرشِد لطريق الحقِّ الواضح الَّذي لا اعوجاجَ فيه، ويوفِّق للسَّيرِ عليه: مَن يشاء مِن خَلْقه، وهو سبحانه لا يشاءُ إلا ما تقتضيه حِكمتُه البالغة .
أَمْ حَسِبْتُمْ أنَّ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى اختلافَ الأممِ السَّابقة على ما جاءهم به أنبياؤُهم من الحقِّ، وضلالَهم عنه، وذكَر أنَّه هدى المؤمنين إلى الصِّراط المستقيم، بيَّن اللهُ تعالى هنا أيضًا وَعْثاءَ هذا الطَّريق الَّذي هُدُوا إليه، وما يكتنفُه مِن عقباتٍ، عليهم تجاوزُها، فقال سبحانه :
أَمْ حَسِبْتُمْ أنَّ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.
أي: أظننتم- أيُّها المؤمنون- أن تَصِلوا إلى الجنَّةِ دون أنْ تُصيبَكم في الطريق إليها شدائد؟ كلَّا، لا تظنُّوا ذلك، بل لا بدَّ أنْ تعترضَ طريقَكم هذا عوائقُ، وتُصيبَكم فيه مِحَنٌ وبلايا، تُبتلَوْن بها وتمحَّصُون، كما وقَع للَّذين مضَوْا من قبلكم .
كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أنَّ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَحَسِبَ النَّاسُ أنَّ يُتْرَكُوا أنَّ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذين صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 2-3] .
مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ.
أي: إنَّ مَن مَضى مِن مُؤمِني الأممِ السابقة قد أصابهم الفقرُ وشدَّةُ الحاجة، وأصابتهم الأمراضُ والأوجاعُ، وخُوِّفُوا ورُعِبُوا مِن قِبَل أعدائِهم بأنواع المخاوفِ، فأُصيبوا في أموالهم بالبأساءِ، وفي أبدانهم بالضَّرَّاء، وفي قلوبهم بالخوفِ، حتى وصَلَتْ بهم الحال إلى أنْ يتساءَلَ رسلُ اللهِ ومَن آمَن معهم: متى يأتي نصرُ الله تعالى؟ ليخرُجوا ممَّا هم فيه مِن ضيقٍ وكربٍ وشدَّة .
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 9-11] .
وعن خبَّاب بن الأَرتِّ رضي الله عنه، قال: ((شكَونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لهُ في ظلِّ الكعبةِ، قلنا لهُ: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرجلُ فيمَن قبلكم يُحْفَرُ لهُ في الأرضِ، فيُجْعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمنشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثنتيْنِ، وما يصدُّهُ ذلك عن دِينِهِ ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لَحمِهِ من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدُّهُ ذلك عن دِينِهِ، واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يَسيرَ الراكبُ من صَنعاءَ إلى حضرموتٍ، لا يخافُ إلا اللهَ، أو الذئبَ على غنمِهِ، ولكنكم تستعجلونَ )) .
أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ.
أي: أكَّد الله تعالى على أنَّ نصرَه قريب، وأنَّ فرجَه عاجلٌ، فمع العسر يأتي اليُسر، وكلَّما ضاق الأمر اتَّسَع .
كما قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5-6] .
وعن أبي رَزينٍ العُقيليِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ضحِك ربُّنا من قُنوطِ عبادهِ وقُربِ غِيَرِهِ))

.
الفوائد التربويَّة :

1- فضل الإيمان؛ لقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ لأنَّ هذا النداء، نداء تشريف وتكريم
.
2- أنَّ الإيمان مقتضٍ لامتثال الأمر؛ لأنَّ الله صدَّر الأمر بهذا النداء؛ والحُكمُ لا يُقرَن بوصف إلَّا كان لهذا الوصف أثرٌ فيه .
3- حقارة الدنيا؛ لوصفها بالدُّنيا، وهي من الدنوِّ زمنًا، ورتبةً: زمنًا؛ لأنَّها قبل الآخرة. ورُتبةً؛ لأنَّها قليلٌ بالنسبة للآخرة؛ ولهذا لا تجد في الدنيا حال سرور إلَّا مَشوبًا بتنغيصٍ قبله، وبعده؛ لكن هذا التنغيص بالنسبة للمؤمن خير؛ لأنَّ له فيه أجرًا .
4- أنَّ العبرة بكمالِ النِّهاية؛ لقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
5- رحمة الله عزَّ وجلَّ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ .
6- أنَّه كلما قوِي إيمان العبد، كان أقربَ إلى إصابة الحقِّ؛ لقوله تعالى: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا... .
7- أنَّ الإيمان ليس بالتمنِّي، ولا بالتحلِّي؛ بل لا بدَّ من نيَّة صالحة، وصبرٍ على ما ينالُه المؤمن من أذًى في الله عزَّ وجلَّ .
8- أنَّ الصَّبر على البلاء في ذاتِ الله عزَّ وجلَّ من أسباب دخول الجنة؛ لقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا... الآية .
9- تبشير المؤمنين بالنصر؛ ليتقوَّوا على الاستمرار في الجهاد ترقبًا للنَّصر المبشَّرين به، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ .
10- لَمَّا كان الفرج عند الشدَّة، وكلَّما ضاق الأمر اتَّسع، قال تعالى: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ فهكذا كلُّ مَن قام بالحقِّ، فإنَّه يُمتَحن .
11- حِكمة الله عزَّ وجلَّ، حيث يبتلِي المؤمنين بمثل هذه المصائب العظيمة؛ امتحانًا حتى يتبيَّن الصادق من غيره .
12- أنَّه ينبغي للإنسان ألَّا يسألَ النصر إلَّا من القادر عليه، وهو الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: مَتَى نَصْرُ اللهِ

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- وجوب تَطبيق الشَّرع جملةً وتفصيلًا؛ لقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
.
2- قرن الحُكم بعلَّته؛ لقوله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ثم علَّل: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .
3- الوعيد على مَن زلَّ بعد قيام الحجة عليه؛ لقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
4- أنَّه لا تقوم الحجَّة على الإنسان، ولا يستحق العقوبة إلَّا بعد قيام البيِّنة؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ .
5- في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أنَّ يَأْتِيَهُمُ اللهُ إثبات صفة الإتيان لله عزَّ وجلَّ .
6- أنَّ الكفَّار لا يزالون يُسلِّطون أنفسهم على المؤمنين؛ لقوله تعالى: وَيَسْخَرُونَ بالفعل المضارع الذي يفيد التجدُّد والاستمرار .
7- تثبيت المؤمنين، وترسيخ أقدامِهم في إيمانهم؛ لقوله تعالى: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: اصبِروا؛ فإنَّ هذا دأبُهم وشأنهم أن يسخَروا منكم؛ فما دمتم تعرِفون أنَّ هذه عادة الكفَّار، فاصبروا؛ فإنَّ الإنسان إذا عرَف أنَّ هذا الشيء لا بدَّ منه فإنَّه يكون مستعدًّا، وقابلًا له، وغير متأثِّرٍ به .
8- أنَّ مَن يُوصَف بالتبشير إنَّما هم الرُّسل، وأتباعهم؛ وأمَّا ما تسمَّى به دعاة النصرانيَّة بكونهم مبشِّرين، فهم بذلك كاذبون؛ إلَّا أن يُرادَ أنَّهم مبشِّرون بالعذاب الأليم، كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
9- رحمة الله عزَّ وجلَّ بالعباد، حيث لم يكِلْهم إلى عقولهم؛ لأنَّهم لو وُكِلوا إلى عقولهم لفسدتِ السَّموات والأرض، كما قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون: 71] ؛ فكلُّ إنسانٍ يقول: العقل عندي، والصَّواب معي، ولكنَّ الله تعالى بعث النبيِّين، وأنزل معهم الكتاب؛ ليَحكُمَ بين النَّاس فيما اختلفوا فيه .
10- أنَّه يجب على المرء الذي هداه الله ألَّا يعجب بنفسه، وألَّا يظنَّ أنَّ ذلك مِن حولِه، وقوته؛ لقوله تعالى: فَهَدَى اللهُ، ثم قال تعالى: بِإِذْنِهِ أي أمرِه الكوني القدري؛ ولولا ذلك لكانوا مثل هؤلاء الذين ردُّوا الحق بغيًا وعدوانًا .
11- الإيماء إلى أنَّه يَنبغي للإنسان أن يَسألَ الهداية من الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ خبٌر فيه نهايةٌ في الوعيد؛ لأنَّه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيدُ بذِكر العقاب، كما لو قال الوالد لولده: إنْ عصيتني فأنت عارفٌ بي، فيكون هذا الكلامُ في الزَّجر أبلغَ من ذِكر الضرب وغيره
.
2- قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ
هَلْ... استفهامٌ إنكاري في معنى النَّفي؛ ولذلك دخَلت (إلَّا)، وكون (هل) بمعنى النَّفي إذا جاء بعدها إلَّا كثيرُ الاستعمال في القرآن، وفي كلام العرَب .
وفيه: التِفات؛ حيث أعرَض تعالى عن خِطابهم زَللتُم، وأخبَر عنهم إخبارَ الغائبِين يَنظرون؛ مسليًّا لرسوله عن تباطئهم في الدُّخول في الإسلام، وفيه تجديدٌ لنشاط السَّامع .
3- في قوله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
إظهار اسم الجلالة مع أنَّ مقتضى الظاهر أن يُقال: (فإنَّه شديد العقاب)؛ لإدخال الرَّوع في ضمير السَّامع، وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامِع مستقلًّا بنفسه؛ لأنَّها بمنزلة المثل لأمرٍ قدْ علِمه الناس من قبلُ .
4- في قوله: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
جيء في فِعل التزيين بصيغة الماضي زُيِّن، وفي فِعل السُّخرية بصِيغة المضارع يَسْخَرُونَ للدَّلالة على أنَّ معنى فِعل التزيين أمرٌ مستقرٌّ فيهم؛ لأنَّ الماضي يدلُّ على التحقُّق، وأنَّ معنى يَسْخَرُونَ متكرِّر متجدِّد منهم؛ لأنَّ المضارع يُفيد التجدد، ويعلم السامع أن ما هو محقَّق بين الفعلين هو أيضًا مستمرٌّ، وإنَّما اختُير لفِعل التزيين خصوص المضي، ولفعل السخرية خصوص المضارعة؛ إيثارًا لكلٍّ مِن الصِّفتين بالفِعل التي هي به أجدرُ؛ لأنَّ التزيينَ أسبقُ في الوجود، وهو منشأُ السخريَّة، والسخرية مترتِّبة على التزيين وتكرُّرها يَزيد في الذمِّ؛ إذ لا يليقُ بذي المروءة السُّخرية بغيره .
وفيه وضْع الظاهر الَّذِينَ آمَنُوا موضعَ المضمر بِصفة أُخرى وَالَّذِينَ اتَّقَوْا، ومثله في كتاب الله كثير، وذَكر صِفة الإيمان وصِفة التَّقوى؛ ليظهر به أنَّ السعادة الكبرى لا تحصُل إلَّا للمؤمن التقي، وليكون بعثًا للمؤمنين على التقوى .
وفي هذه الآية مُفارقةٌ في الجُمل؛ فقدْ عبَّر عن زِينة الحياة الدنيا في نظر الذين كفروا وعن سُخريتهم من المؤمنين بالفِعليَّة إشارة الى الحدوث، وأنَّ ذلك أمر طارئ لا يلبث أن يزول بصوارف متعدِّدة، أمَّا استعلاء الذين اتقوا عليهم فهو أمرٌ ثابت الدَّيمومة لا يطرأ عليه أي تبديل؛ ولذلك عبَّر بالاسميَّة واَلَّذِينَ اتَّقَوْا .
5- قوله: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ خصَّ بالذِّكر الَّذِينَ أُوتُوهُ تنبيهًا منه على شَناعة فِعلهم، وقَبيح ما فعلوه من الاختلاف، وأتى بلفظ: مِن الدالَّة على ابتداء الغاية، منبِّهًا على أنَّ اختلافهم متَّصل بأوَّل زمان مجيء البيِّنات، لم يقعْ منهم اتفاقٌ على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البيِّنات اختلفوا، لم يتخلَّلْ بينهما فترة .
6- قوله: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فيه تقديم لفظ الاختلاف على لفظ الحقِّ؛ للاهتمام به؛ إذ العناية إنَّما هي بذِكر الاختلافِ .
7- قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَمْ منقطعة بمعنى (بل)، وهمزة الاستفهام فيها للتقرير والتوبيخ، وإنكار الحُسبان واستبعاده. وقال لهم على طريقة الالتِفات التي هي أبلغُ: أَمْ حَسِبْتُمْ، أي: بل أحسِبتم... .

=========


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (215 - 220)
ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
غريب الكلمات :

حَبِطَتْ: أي: بطَلَت؛ فالحبط: البُطلان والألم، وأصلُه: أن تُكثِرَ الدابَّةُ أكلًا حتى ينتفخَ بطنُها
.
الْمَيْسِرِ: القِمارُ، وأصله مِن يَسرت: إذا ضربت بالقِداح .
الْعَفْوَ: الفَضل، يعني: فضْل المال، يُقال: عفا الشَّيء: إذا كثُر .
لأَعْنَتَكُمْ: ضيَّق عليكم وشدَّد، أي: لأهلكَكم، وأصل العنَت: العَسْف، والحَمْل على المكروه

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْمَسْجِدِ: المسجدِ: مجرور، وفي جرِّه أوجهٌ، أقربُها: أنَّه مجرورٌ عطفًا على سَبِيلِ اللهِ، أي: وصدٌّ عن سَبيلِ اللهِ وعن المَسجدِ. وعُطِف قوله: وَكُفْرٌ بِهِ على صَدٌّ قبل أن يَستوفي صَدٌّ ما تعلَّق به وهو والمَسجِدِ الحَرَامِ؛ وقيل: هو معطوف على الضَّمير في به في قوله: وكُفْرٌ بِهِ، أي: وكفرٌ به وكفرُ بالمسجِد، وهو من باب عطف الاسم الظَّاهر على الضَّمير من غيرِ إعادة حرف الجرِّ، والرَّاجح جوازُه مطلقًا؛ لكثرةِ السماعِ الوارد به، وضَعْفِ دليل المانعين، واعتضادِه بالقياس. وقيل: هو معطوفٌ على الشَّهرِ الحَرَامِ، أي: يسألونك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام، ويكون سؤالهم عن شيئين، أحدهما: القتال في الشهر الحرام. والثاني: القتال في المسجد الحرام؛ لأنَّهم لم يسألوا عن ذات الشهر ولا عن ذات المسجد، إنما سألوا عن القِتال فيهما. وقيل غير ذلك

.
المعنى الإجمالي:

يقول الله تعالى لنبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام: إنَّ أصحابَك يا محمَّد، يسألونك عن مقدارِ وجنسِ وكيفيَّةِ ما يُخرِجونه نفقةً، وأمَره أن يُجيبَهم على هذا السُّؤال بأنَّ ما ينفقونه من الأموال لا يُشترط فيه شيءٌ معيَّن، ولا مقدارٌ محدَّد، بل يشمل أيَّ مالٍ، قليلًا كان أو كثيرًا، وأنَّ أولى مَن يُعطَى هذه النفقة هم الأقربُ رحمًا، وهم الوالدان ثم بقيَّة الأقارب، الأقرب فالأقرب، ومِن بَعدِ هؤلاء تُصرَف النفقة إلى أشدِّ النَّاس حاجةً؛ وهم الصِّغار الذي فقدوا آباءهم قبل بلوغِهم، وليس لهم مصدر كسْب، ثمَّ للمساكين الذين لا يجدون ما يسدُّ حاجتَهم، وللمسافر المجتاز الذي يحتاج إلى ما يوصله إلى مقصوده، ثم يُخبرهم تعالى أنَّ كلَّ ما يُقدِّمونه من معروفٍ وإحسانٍ فإنَّه ليس بخافٍ على الله سبحانه، بل هو مطَّلعٌ على تلك الأعمال، فيحصيها ويجازيهم عليها.
ثم يُعْلِم الله تعالى عباده المؤمنين بأنَّه فرَض عليهم القتال مع أنَّه مكروهٌ لهم؛ لِمَا فيه من المشقَّة، والتعرُّض للقتل والإصابة بالجروح، وما يحدُث فيه من خوف، لكنَّ الحقيقة أنَّ ما فيه من المنافع أعظم ممَّا ينتج عنه من أضرار، ومن تلك المنافع العظيمة المرجوَّة منه النصر على الأعداء، وغُنْم البلدان والأموال، والإكرام بالشهادة لمن مات محتسبًا، وحصول الأجر العظيم للمقاتلين في سبيل الله. وأمَّا العزوف عن القتال وإن كان محبوبًا وتميل إليه النفوس، إلَّا أنَّ ما فيه من الشرور يفوقُ على مصلحة قعودهم، ومن تلك الشرور المترتِّبة على القعود تسلُّط أعدائهم عليهم، وفَوات الأجر العظيم، وهكذا الحال في جميع أعمال الخير وإن كرِهتها النفوسُ، وأفعال الشرِّ وإن مالت لها النفوس، والله سبحانه وتعالى أعلم بما ينفعكم، وما يضرُّكم، فالتزموا أمره، واتَّبعوا شرعه.
ثمَّ يقول الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ: يسألك المؤمنون عن القتال في الأشهر الحرم، ولقَّنه تعالى جوابَ ذلك بأنَّ القتال فيها عظيم لحرمتها، لكن ما يقومُ به المشركون من ثَنْي النَّاس عن سلوك الطريق القويم، وكفرهم بالله تعالى، ومَنْعهم النَّاسَ من الوصولِ إلى بيت الله الحرام، وإخراج أهلِه المؤمنين منه أعظمُ جُرمًا عند الله؛ فكلٌّ من تلك الخِصال التي يفعلونها بها فِتنة، والفتنةُ أشدُّ من القتل الذي وقَع من المسلمين في شهرٍ حرام. ثم أعلمَ اللهُ عبادَه بمدى حِقدِ الكفَّار عليهم وعلى دِينهم، وأنهم سيظلُّون يقاتلونهم في سبيل تحقيق غاية لهم، وهي أن يُثنوا المؤمنين عن دِينهم؛ ليعودوا كفَّارًا مثلَهم إنْ قدَروا على ذلك، لكنَّهم لن يستطيعوا ذلك أبدًا. ثم أخبر تعالى أنَّ مَن يرجع من المؤمنين عن دِينه، ويعود للكُفر، مستمرًّا عليه حتى موته بدون توبة، فأولئك تَبطُل أعمالُهم وتتلاشى، ولا يبقى لهم عملٌ صالح يُؤجَرون عليه لا في الدُّنيا ولا في الآخرة، وهم من أهل النار الملازمين لها على الدَّوام.
وأمَّا الذين أقرُّوا بالحقِّ منقادينَ إليه، والذين فارقوا الأوطان؛ فرارًا من مخالطة أهل الشرك، ومحافظةً على دِينهم، والذين قاتلوا أعداءَ الله؛ نُصرةً للدِّين، وإعلاءً لكلمته سبحانه، فأولئك الذين طَمِعوا في رحمة الله ونَيْل كرامته، وسيُكرمون بما رجَوه؛ ذلك بأنَّ الله غفورٌ يستُر ذُنوبَهم ويتجاوز عنها، ورحيمٌ بتوفيقِهم لتلك الأعمال، وبمجازاتهم عليها بالفلاح في الدَّارينِ.
ثم يقول تعالى مخاطبًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّ المؤمنين يسألونك يا محمَّد، عن حُكم كلِّ ما أَسْكَر من الشَّراب، وعن حُكم القِمار، وأمَره أنْ يُجيبَهم بأنَّ في شُرْب المسكِر، ولعب القِمار مفاسدَ كثيرة، وآثامًا كبيرة، منها ما يُحدِثانه من عداوة وبغضاء، وصدٍّ عن ذكر الله وعن الصَّلاةِ، وغير ذلك من المنكرات، وفيهما أيضًا منافعُ للناس كالذي تُحدِثه الخمرُ من الطرب والنَّشوة، أو القمارُ من المكاسِب الماديَّة، لكن عند المقارنة بين المفاسد والمنافع نجد أنَّ المفاسد والآثام المترتِّبة عليهما أكثر من النفع المتحصِّل منهما.
ثمَّ خاطب الله تعالى نبيَّه عليه الصَّلاة والسلام مخبرًا إيَّاه أنَّ المؤمنين يسألونه عن ماهية ما يُنفِقونه من أموالِهم، وأمَره أن يُجيبَهم بأنَّ الفاضلَ عن الاحتياجات الضروريَّة هو المال الذي يُنفق منه صدقةً في سبيل الله تعالى، وأخبره أنهم يسألونه أيضًا عن كيفية التعامل مع اليتامى بعد أنْ شقَّ عليهم التحرُّزُ الشديدُ من أموالهم، فأمره الله سبحانه أن يجيبهم بأنَّ المقصود إصلاح أموالهم، بحفظها واستثمارها لهم، فإنْ فعلوا ذلك لله تعالى دون أن يأخذوا عليه أجرًا فذلك خيرٌ لهم وأعظم أجرًا، وإنْ أخذوا مقابل ما قاموا به شيئًا من أموالهم كأن خالطوهم في طعامٍ أو غيره من الأموال فذلك جائزٌ على وجهٍ لا يضرُّ باليتامى؛ لأنَّهم إخوانهم في الدِّين، والأخ من شأنه أن يخالط أخاه. ومع هذا الإذنِ بالمخالطة تبقى الرِّقابة الإلهيَّة تحذيرًا لمن قد تسوِّلُ له نفسه أكْل أموال اليتامى؛ فالله يعلم مَن نيَّتُه إفساد مال اليتيم، ومَن نيَّته إصلاحه، وسيُجازِي الله تعالى كلًّا بحسب قصده. وهذا التشريع والرخصة من الله عزَّ وجلَّ إنما هي توسعةٌ على عباده، وإزالة للمشقَّة، وإلَّا فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يشقَّ عليهم، فيقعوا في الضِّيق والحرج؛ فإنَّه لعزَّتِه لا يُعجزُه شيء، ولحكمتِه سبحانه يضع كلَّ شيءٍ في موضِعه الذي يليق به.
تفسير الآيات:

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215).
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
أي: يسألك أصحابُك يا محمَّد، عمَّا يُنفَق جنسًا ومقدارًا وكيفيَّةً، فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنَّ ما تنفقونه من الأموال لا يُشترط فيه شيء معيَّن، ولا مقدار محدَّد، بل يشمل أيَّ مال، وسواء كان قليلًا أم كثيرًا، وأنَّ أولى وأحقَّ مَن تُنفق عليه الأموال هم أقرب النَّاس رحمًا وهم الوالدان، ثم بقيَّة الأقارب، الأقرب فالأقرب، ثم تصرف إلى أشدِّ النَّاس حاجةً من بعدهم، وهم الصِّغار الذين فقدوا آباءهم قبل بلوغهم ولا كاسب لهم، ثم للمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم ويُغنِيهم، وكذا للمسافرِ المجتاز الذي يحتاج نفقةً تُوصِله لموطنِه
.
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ كل ما تُقدِّمونه من معروفٍ وبرٍّ وإحسان وطاعة وقربة لله تعالى، فإنَّه لا يخفَى عليه، بل مطَّلِع على أعمالكم، يُحصِيها لكم، ويُجازِيكم عليها .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216).
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ.
أي: فُرِض عليكم- أيُّها المؤمنون- قتال الأعداء من الكفَّار والمشركين، مع أنَّه مكروهٌ لكم، لا تحبُّونه؛ لِمَا فيه من شدَّة ومشقَّة بالغة، ولِمَا يحدُث فيه من التعرُّض للقتل والإصابة بالجراح ووقوع المخاوف .
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
أي: إنَّه مع وقوعِ هذه الكراهيةِ في النفوسِ للقتال، إلَّا أنَّ الحقيقة بخلاف ذلك؛ إذ فيه من الخير والمنافع ما هو أكثرُ وأعظمُ ممَّا يقع فيه من أضرار، ومن ذلك ما يَحصُل بسببِه من النَّصرِ على الأعداء، والتمكُّن من البلدان والأموال، وما تقع فيه من الشَّهادة لمن مات منهم محتسبًا، وحصول الحسنات العظيمة لهم، وغير ذلك، فأمَّا ترك القتال الذي هو محبوبٌ للنفوس ففيه من الشرور ما يَزيدُ على مصلحة قعودِهم، ومنها تسلُّط الأعداء، وفوات الأجور العظيمة، وهكذا الأمرُ في جميع أفعال الخير وإنْ كرِهتها النفوس، وأفعال الشرِّ، وإن أحبَّتها النُّفوس .
وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ يعلم ما هو خيرٌ لكم ممَّا هو شرٌّ لكم، وأعلم منكم بما ينفعكم وما يضرُّكم، فاستجِيبوا له في جميع الأحوال .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217).
سبب النُّزول:
عن جُندُب بن عبد الله رضي الله عنه: ((أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بعث رهطًا، وبعَث عليهم عبدَ الله بن جحش، فلقُوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يَدرُوا أنَّ ذلك اليوم من رجب، أو من جُمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتُم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ. الآية، فقال بعضهم: إنْ لم يكونوا أصابوا وزرًا فليس لهم أجْر، فأنزل الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.
أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن القِتال في شهرٍ حرام (الأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحِجَّة، ومحرَّم، ورجب) ، وقيل: السؤال وقع من المشركين للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ تعييرًا وتشنيعًا على المؤمنين الذين قتَلوا أحد المشركين في شهرٍ حرام، فأمره الله تعالى أن يُجِيب عن ذلك بأنَّ القتال فيه عظيم؛ لعَظمة تلك الأشهر وحُرمتها .
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.
أي: ولكنْ ما يقومون به مِن مَنْع النَّاس من سُلوكِ طريق الحقِّ، أو من الاستمرار عليه لمن آمَن، وكفرهم بالله تعالى، ومنعِهم النَّاس عن الوصول إلى البيت الحرام لحجٍّ أو عمرة، وإخراج أهله المؤمنين منه، وهم عُمَّارُه والأحقُّ به من المشركين- أعظمُ إثمًا وجرمًا عند الله تعالى؛ فكلُّ واحدٍ منها فِتنة، والفِتنة أعظمُ وأشدُّ من القتل الذي وقع من المسلمين في شهرٍ حرام .
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا.
أي: سيظلُّ الكفَّار والمشركون على قتالكم، لا يَهدأ لهم بال، ولا يتوقَّفون عن قتال، لا لغرضٍ دنيويٍّ كالمال؛ بل لأجْل أن ترجِعوا عن دينكم فتُصبِحوا كفَّارًا مثلهم، هذا إن قدروا، لكنَّهم لن يقدروا، فهم عاجزون حقًّا عن ذلك .
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: كلُّ مَن يرجِعْ منكم عن دِين الإسلام، فيختار الكفر ويستمرُّ عليه، حتى مماته، ولم يتُب من كفره، فقد بطَلت أعمالُه واضمحلَّت، فلم يبقَ له عملٌ صالح يُؤجَر عليه في الدُّنيا والآخرة، وهو من أهل النَّار الملازمينَ لها على الدوام .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
أعقَب اللهُ عزَّ وجلَّ الإنذارَ بالبشارة، ونزَّه المؤمنين من احتمال ارتدادِهم؛ فإنَّ المهاجرين لم يرتدَّ منهم أحدٌ .
سبب النُّزول:
عن جُندُبِ بن عبد الله رضي الله عنه: ((أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بعث رهطًا، وبعَث عليهم عبدَ الله بن جحش، فلقُوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يَدرُوا أنَّ ذلك اليوم من رجب، أو من جُمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتُم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ. الآية، فقال بعضُهم: إنْ لم يكونوا أصابوا وزرًا فليس لهم أجْر، فأنزل الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218).
أي: إنَّ الذين صدَّقوا وأقرُّوا بالحقِّ منقادينَ إليه، والذين انتقَلوا من موضعٍ إلى آخَرَ فرارًا من مخالطة المشركين ومساكنتِهم، وربَّما فارَقوا بذلك عشائرهم وأوطانهم؛ حفاظًا على دِينهم، والذين بذلوا جهدَهم في مقاتلة الأعداء نصرًا لدين الله تعالى، وإعلاءً لكلمته، فهؤلاء- ذَوُو الطبقة العالية الرفيعة- لائقون وجديرون حقًّا بأن يطمعوا في نَيل رحمة الله تعالى لهم، وأنْ يُدخِلَهم دار كرامته، وسيَحظَون بما أمَّلوا وطمِعوا فيه؛ ذلك أنَّ الله تعالى غفورٌ رحيم؛ فبمغفرته ستَر ذنوبهم وتجاوز عنها، وأذهب آثارها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، وبرحمته وفَّقهم لتلك الأعمال الجليلة، ويمنحهم في الدَّارين الخيراتِ والمراتبَ النَّبيلة .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219).
سبب النُّزول:
عن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا نزل تحريم الخمر قال: اللهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ قال: فدُعي عمر فقُرئت عليه، فقال: اللهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فكان منادي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ إذا أقام الصَّلاة نادى أن لا يقربنَّ الصَّلاة سكرانُ، فدُعِي عمر فقُرئت عليه، فقال: اللهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعيَ عمر فقُرِئَت عليه، فلما بلغ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: فقال عمر: انتهينا، انتهينا )) .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.
أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد، عن حُكم الخمر- وهي: كلُّ شرابٍ مسكِر يُغطِّي عقل صاحبه- وعن حُكم القِمار .
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.
أي: قلْ لهم يا محمَّد، بأنَّ في شُرب المسكرات وتعاطِي القِمار إثمًا كبيرًا؛ إذ يُحدِثان عداوةً وبغضاءَ وصدًّا عن ذِكر الله تعالى وعن الصَّلاة، وغير ذلك من آثامٍ ومنكرات، هي أعظم ممَّا يتأتَّى منهما من منافع قد تحصُل في النفس والبدن والمال، كالذي تُحدِثه الخمر لشاربها من طربٍ ولذَّةٍ ونشوةٍ، وتشحيذٍ للذِّهن وغير ذلك، وما يأتي به القمار لصاحبه من مكاسبَ وأموال، ولذَّةٍ في اللعب والمغالبة، وقد ذكر الله تعالى آثامهما قبل منافعهما؛ ليقع في نفس المؤمن الاشمئزاز منهما أوَّلًا .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90-91] .
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ.
أي: يسألك المؤمنون يا محمَّد: أيَّ شيء يُنفقون من أموالهم، فيتصدَّقون به؟ فأجبْهم بأنَّ مَن أراد منهم أن يُنفِق في سبيل الله تعالى، فليتصدَّق ممَّا زاد عن حاجاته الضروريَّة .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ....
أي: كما فصَّل الله تعالى هذه الأحكامَ كحُكم الخمر وغيره، وأوضحها غايةَ الإيضاح، فكذلك يُوضِّح الله جلَّ وعلا لنا بمِثل ذلك البيان سائر آياته وأحكامه الشرعيَّة؛ كي نتفكَّر من خلالها فيما شرَعه الله تعالى من أحكام تتعلَّق بشؤون الدارينِ، ولأجْل أن يقودَنا ما جاء فيها من وعدٍ ووعيد وثوابٍ وعقاب، إلى التفكُّر في الدنيا وسرعة انقضائها، وفي إقبال الآخِرة وبقائها، فنزهَد في الأولى، ونُعمِّر الثانية؛ عملًا بطاعة الله تعالى، وتركًا لشهوات يسيرة فانية .
... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى السؤالَ عن الخمر والميسر، وكان في تَرْكهما إصلاحُ أحوالهم وأنفسهم، أمَر بالنَّظر في حال اليتامى؛ إصلاحًا لغيرهم ممَّن هو عاجزٌ أن يصلح نفْسَه، فيكون قد جمَعوا بين النَّفع لأنفسهم ولغيرهم .
سبب النُّزول:
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((لَمَّا نزلت: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى [النساء: 10] الآية انطلق مَن كان عنده يتيم فعَزل طعامَه من طعامه، وشرابَه من شرابه، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكلَه، أو يفسد، فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأنزل الله وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ، فخلطوا طعامهم بطعامه، وشرابهم بشرابه )) .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ.
أي: يسألُك المؤمنون يا محمَّد، عمَّا اشتدَّ عليهم فعله مع اليتامى؛ إذ كانوا يعزلون لهم طعامَهم؛ خوفًا من تناوله معهم، فإذا فضَل منه شيءٌ حبسوه لهم حتى يأكلوه أو يتغيَّر، فأخبَر الله تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُجيبهم بأنَّ المقصودَ إنَّما هو إصلاحُ أموال اليتامى، بحفظها، واستثمارها، والاتِّجار فيها لهم، فإنْ لم تأخذوا أجرًا على قيامكم بذلك فذلك خيرٌ لكم وأعظمُ أجرًا، وإن أصبتم من أموالهم شيئًا في مقابل قيامكم بشؤونهم، كأنْ خالطتموهم في طعامٍ أو غيره من الأموال فجائز- على وجهٍ لا يضرُّ باليتامى-؛ لأنَّهم إخوانكم في الدِّين، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه .
وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
أي: إنَّ الله تعالى وإنْ أذِن للمؤمنين في مخالطة اليتامى على ما سبق ذِكرُه، إلَّا أنَّه خوَّفهم وحذَّرهم من أن تُسوِّل لهم أنفسُهم شيئًا من الخداع لأكل أموال اليتامى بالباطل، فالمعوَّل في ذلك على النيَّة، فمَن خلط مال اليتيم بماله يريد مصلحته، فالله يعلم نيَّته وسيُثِيبه على ذلك، وإنْ حصَل أنْ دخل عليه شيءٌ من ماله من غير قصْدٍ، ولا طمعٍ، فلا حرج عليه؛ لأنَّ الله تعالى يعلم نيَّته، وأمَّا مَن قصد بتلك المخالطة التوصُّل بها إلى أكلِ ماله خديعةً، فالله عزَّ وجلَّ يعلم نيَّته، وسيعاقبه على ذلك .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: إنَّ هذا الحُكم إنَّما شُرِع رخصةً من الله تعالى وتوسعةً على عباده؛ وإلَّا فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يشُقَّ عليهم بنَهيِهم عن خلط أموالهم بأموال اليتامى؛ وأمْرِهم بتقدير طعامهم تقديرًا دقيقًا، بحيث لا يَزيد عن حاجتهم، ولا ينقص عنها، فيقعوا بذلك في ضيقٍ وحرج؛ ويعاقبهم ربُّهم إنْ تركوا أمره، أو ارتكبوا نهيه؛ ذلك بأنَّ الله تعالى لا يعجزه شيء، وهو قاهرٌ لكلِّ شيء، وَفْق ما تقتضيه حِكمته؛ إذ يضَعُ كلَّ شيءٍ في موضعه اللائق به، فيعاقب مَن يستحقُّ ذلك لعناده، ويشرِّع ما فيه الخير والرحمة لعباده

.
الفوائد التربويَّة:

1- أنَّه لا ينبغي للإنسان أن يكون جازمًا بقَبول عمله؛ بل يكون راجيًا؛ حَسن الظنِّ بالله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: أولئك يرجون رحمة الله؛ لأنَّهم لا يغترون بأعمالهم؛ ولا يدلُّون بها على الله؛ وإنَّما يفعلونها وهم راجون رحمة الله تعالى
.
2- أنَّ الدِّين الإسلامي جاء بتحصيل المصالح، ودرء المفاسد؛ لقوله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا .
3- المقارنة في الأمور بين مصالحها، ومفاسدها؛ لقوله تعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا .
4- مراعاة الإصلاح فيمَن ولاه الله تعالى على أحد؛ لقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- حِرصُ الصحابة رضي الله عنهم على السُّؤال عن الِعلم؛ وقد وقع سؤالهم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ في القرآن أكثرَ من اثنتي عشرة مرة
.
2- أنَّه لا حرَجَ على الإنسان إذا كرِه ما كُتِب عليه مِن حيثُ الطبيعةُ؛ أمَّا من حيث أمر الشارع به فالواجب هو الرِّضا، وانشراح الصدر به .
3- ضَعْف الإنسان، وأنَّ الأصل فيه عدم العلم؛ لقوله تعالى: وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ .
4- أنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو مرجِع الصَّحابة في العلم؛ لقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ .
5- أنَّ الأشهر قسمان: أشهر حُرم، وأشهر غير حرم، ويتفرَّع على هذه الفائدة: أنَّ الله يختصُّ من خلقه ما شاء؛ فهناك أماكن حرام، وأماكن غير حرام، وأزمنة حرام، وأزمنة غير حرام، وهناك رسل، وهناك مرسَل إليهم، وهناك صِدِّيقون، وهناك مَن دونهم، والله عزَّ وجلَّ كما يفاضل بين البشر، يفاضل بين الأزمنة والأمكنة .
6- تقديم ما يُفيد العِلِّيَّة؛ لقوله تعالى: عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ؛ المسؤول عنه القتال في الشهر الحرام؛ لكنه قدَّم الشهر الحرام؛ لأنَّه العلة في تحريم القتال .
7- تفاوت الذُّنوب؛ لقوله تعالى: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ إلى قوله تعالى: أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؛ وبتفاوت الذنوب يتفاوت الإيمان؛ لأنَّه كلما كان الذنب أعظم كان نقص الإيمان به أكبر .
8- أنَّ من كان أقومَ بطاعة الله فهو أحقُّ النَّاس بالمسجد الحرام؛ لقوله تعالى: وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ؛ فمع أنَّ المشركين ساكنون في مكَّة؛ لكنَّهم ليسوا أهلَه، كما قال تعالى: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال: 34] .
9- الحذر من الكافرين؛ لقوله تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ؛ وكلمة: لَا يَزَالُونَ تفيد الاستمرار، وأنه ليس في وقت دون وقت، وأنَّ محاولتهم ارتدادَ المسلمين عن دِينهم مستمرةٌ .
10- إطلاق الأخ على مَن هو دونه؛ لأنَّ اليتيم دون مَن كان وليًّا عليه؛ وهذه الأخوة هي أخوَّة الدين

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ فيه تقديم ما حقُّه التأخيرُ، حيث قدَّم قوله: وَكُفْرٌ بِهِ فجُعل معطوفًا على صَدٌّ قبل أن يَستوفي (صَد) ما تعلَّق به وهو (والمسجدِ الحرامِ)، ومُقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: (وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به وصدٌّ عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله)؛ فجاء بهذا الترتيب؛ للاهتمام بتقديم ما هو أفظعُ من جَرائمهم؛ فإنَّ الكفر باللهِ أفظعُ من الصدِّ عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النَّظم على تقديم الأهم فالأهم؛ فإنَّ الصدَّ عن سبيل الإسلام يَجمع مظالمَ كثيرةً
.
2- قوله: حَتَّى يَرُدُّوكُم عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا فيه وقع الشَّرط إنِ اسْتَطَاعُوا موقعَ الاحتراس ممَّا قد تُوهِمه الغايةُ في قوله: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ؛ ولهذا جاء الشَّرط بحرف (إنْ) المشعِر بأنَّ شرْطه مرجوٌّ عدمُ وقوعه؛ ففيه استبعادٌ لاستطاعتِهم، وتعريضٌ وإيذان بأنَّهم لا يستطيعون ردَّ المسلمين عن دِينهم، كقول الرجل لعدوِّه: إن ظفرتَ بي فلا تُبقِ عليَّ. وهو واثقٌ أنه لا يظفر به .
3- في قوله: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
- عبَّر بصيغة المطاوعة في (يرتدد)؛ إشارةً إلى أنَّ رجوعِهم عن الإسلام- إن قُدِّر حصوله- لا يكون إلَّا عن محاولةٍ من المشركين؛ فإنَّ مَن ذاق حلاوة الإيمان لا يَسهُل عليه رجوعُه عنه، ومَن عرَف الحق لا يرجع عنه إلَّا بعَناء .
- ولم يأت هنا مفعول ثان، حيث لم يقل: (من يرتد عن دِينه إلى دِين كذا)؛ لأنَّه لا اعتبار بالدِّين الذي ارتُدَّ إليه، وإنَّما نِيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيِّ دِين .
- وفيه وضْع الظاهر (عن دينه) وضع المضمر (عنه)، للإشعار بفداحة الموقِف، وفَظاعة الجُرم والهلاك .
4- قوله: وَهُوَ كَافِرٌ جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ يَمُتْ، وكأنها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها؛ لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد، وجيء بالحالِ هنا جملةً؛ مبالغةً في التأكيدِ، مِن حيث تكرُّرُ الضميرِ بخلافِ ما لو جِيء بها اسمًا مفردًا .
5- قوله: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا... أُولَئِكَ فيه تَكرار الموصول (الذين)؛ لتعظيم الهجرة والجهاد، كأنَّهما مستقلَّان في تحقيق الرجاء . أو: لَمَّا كان الإيمان هو الأصل أُفرد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرَعينِ عنه أُفردا بموصول واحد؛ لأنَّهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد .
6- قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
- جيء بـ(في) الدَّالة على الظرفية؛ لإفادة شدَّة تعلُّق الإثم والمنفعة بهما؛ لأنَّ الظرفية أشدُّ أنواع التعلُّق، وجُعلت الظرفية متعلِّقة بذات الخمر والميسر للمبالغة، والمراد في استعمالهما .
- وفيه: تَنكير المسند (إثم)؛ وذلك للإيذان بفَداحته وخُطورته، ووصفُه بلفظة (كبير) بيان آخَر لفداحته وخطره .
7- قوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فيه التِفات من غَيبة إلى خِطاب؛ لأنَّ قبله: وَيَسْأَلُونَكَ، فالواو ضميرٌ للغائب، وحِكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخِطاب على المخاطَب؛ ليتهيَّأ لسماع ما يُلقى إليه وقَبوله، والتحرز فيه .
8- قوله: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
- تذييل لِمَا اقتضاه شرْط (لو) من الإمكان وامتناع الوقوع، أي: إنَّ الله عزيز غالب قادر، فلو شاء لكلَّفكم العنَتَ، لكنَّه حكيم يضع الأشياء مواضعها؛ فلذا لم يُكلِّفكموه.
- وفيه تأكيد الخبر بإنَّ، واسمية الجملة، والتعبير بصِيغة فعيل (عزيز حكيم)؛ للمبالغة في الوصْف مبالغةً محمودة .


=======




سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (221 - 224)
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

غريب الكلمات:

عُرْضَةً: مانعًا .
أَنْ تَبَرُّوا: أي: ألَّا تبرُّوا، وأصل البِر: الصِّدقُ في المَحَبَّة

.
المعنى الإجمالي:

يَنهَى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن نِكاح المشرِكات، إلَّا إذا دخلْنَ في دين الإسلام، ولَأَنْ يتزوج المؤمن بجارية مملوكة تؤمن بالله وتوحِّده، خيرٌ من تزوُّجه بامرأة حرَّة لكنَّها مشركةٌ، حتى ولو كان فيها ما يجعلهم يميلون إليها؛ من شدَّة حُسن، أو حسَب عظيم، أو نسَب شريف، أو مال كثير، ونهى الله أيضًا عباده المؤمنين أن يُزوِّجوا نساءهم من رجال مشركين، إلَّا إذا دخلوا في دين الإسلام، ولَأَنْ يُزوِّجوهنَّ بعبيدٍ مماليكَ يؤمنون بالله خيرٌ من أن يزوجوهنَّ برجال أحرار لكنَّهم مُشرِكون حتى لو كان فيهم ما يعجبهم من حُسن، أو حسَب، أو نسب، أو مال؛ وذلك لأنَّ مَن كان يَدين بدِين الشِّرك يقود مَن يعاشره ويخالطه إلى حبِّ الدنيا، وإيثارها على الآخرة، وإلى العمل بما يُدخِل النارَ، والله سبحانه وتعالى يدعو إلى الجنَّة بما يُعلِّمه لعباده من شَرْعه من مأمورات ومنهيَّات، يقود العمل بمقتضاها لدخول الجنة، والنجاة من النار، كما يحثُّ على التوبة والاستغفار، ولزوم العمل الصالح الذي يكفِّر الآثام، فيتجاوز عنها سبحانه ويسترها. ويُظهِر اللهُ للناسِ براهينه وحُججه، ويوضِّح أحكامه وحِكمها؛ لعلَّهم بذلك أن يتذكروا ما نسُوه من الحق، فيعتبروا ويتَّعظوا.
ثم يُخاطِب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ مخبرًا إيَّاه أنَّ المؤمنين يسألونه عن حالهم مع زوجاتهم وقت محيضهنَّ، هل يجتنِبونهنَّ مطلقًا أم يجامعوهنَّ، فلقَّنه الله الإجابة التي يجيب بها عليهم، فأمره أن يقول لهم بأنَّ الحيض دمٌ قذر ونجس؛ فليتركوا مجامعة النساء في فروجِهنَّ عند مجيئه، وليستمرُّوا على ذلك حتى ينقطعَ الدم، ويغتسِلْن فإذا فعَلْنَ ذلك فحينئذٍ لهم أن يُجامعوهنَّ في المكان الذي أباح الله تعالى لهم وهو القُبُل. وتشريعُ هذا الأمر من الله عزَّ وجلَّ جاء لأنَّه يحبُّ من عباده الذين يُطهِّرون بواطنَهم بالمداومة على التوبة، ويُطهِّرون ظواهرهم بالماء من الأنجاس والأحداث.
ثم يُخبِر تعالى عباده بأنَّ نساءهم مُزدرَعٌ لأولادهم، يُلقي الرِّجالُ فيهنَّ النطفة فتنزرع في الرحم، وينمو ليكتمل بشرًا بإذن الله تعالى، فلهم أن يجامعوا نساءهم على أيِّ جِهةٍ وكيفيَّة، ما دام في موضِع الحرث وهو القُبُل، وأمرهم سبحانه أن يعدُّوا لأنفسهم الخيرات والحسنات التي تفيدهم في آخرتِهم، ويجعلوا بينهم وبين غضب الله وعذابه ما يَقِيهم من ذلك بتجنُّب السيِّئات، وليتيقَّنوا أن مردَّهم إلى الله، ثم أمر نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُبشِّر المؤمنين بما سيجدونه عند الله من الأجر.
ثمَّ نَهى اللهُ عِبادَه أن يجعلوا الحَلِف به سبحانه مانعًا من القيام بفعل الخيرات، كالبرِّ بالوالدين والإحسان للقُربى، أو حاجزًا عن تحقيق التَّقوى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، أو أن يقف ذلك الحَلِفُ بينهم وبين السَّعي للإصلاح بين النَّاس، كمَن يحلف أنْ لا يفعل شيئًا من ذلك، فإنْ طُلب منه احتجَّ عن الامتناع بيمينه، فنهى الله عن ذلك، فإذا حدَث أنْ حلَف أحدهم، فليس ذلك بمانعٍ له من فِعل الخير، بل عليه أن يَحنث ويكفِّر عن يمينه، ويفعل الخير الذي حلَف ألَّا يفعله. والله سميع لجميع الأصوات- التي منها أصواتُ الحالفين- عليمٌ بجميع المقاصد والنوايا- التي منها نيَّة الحالفين؛ هل يقصدون خيرًا أو شرًّا.
تفسير الآيات:

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221).
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ.
أي: حرَّم الله تعالى على المؤمنين أن يتزوَّجوا بالنِّساء المشركات إلَّا إذا آمنَّ ووحَّدْنَ الله تعالى بدخولهنَّ في الإسلام ، ولَأَنْ يتزوَّج المؤمن بأمَة مملوكة لكنَّها مؤمنة، خيرٌ له من أن يتزوَّج امرأة حرَّة مشركة، وإن بلَغ الإعجاب بها مبلغًا؛ لشدَّة حُسنِها، أو عِظَم حسَبِها، أو شَرَفِ نَسبِها، أو كثرةِ مالها .
وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ.
أي: حرَّم الله تعالى على المؤمنين أن يُزوِّجوا نساءَهم المؤمنات لرجالٍ مشركين، إلَّا إذا آمنوا ووحَّدوا الله تعالى بدخولهم في الإسلام، ولَأَنْ تزوجوهنَّ بعبدٍ مملوك لكنه مؤمنٌ بالله تعالى، خيرٌ من أن تزوجوهنَّ برجلٍ حرٍّ مشرك، ولو بلغ إعجابكم به ما بلغ لحُسنه، أو حسبه، أو نسبه، أو ماله .
أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ.
أي: إنَّما حرَّمتُ عليكم- أيُّها المؤمنون- تزوُّجَ المشركات وتزويجَ المشركين بالمؤمنات؛ لأنَّهم في حقيقة الأمر يقودونكم عبر معاشرتهم ومخالطتهم بسماع أقوالهم، ورؤية أفعالهم، ومعايشة أحوالهم إلى حبِّ الدُّنيا، وإيثارها على الآخرة، وإلى العمل بما يُدخِلكم النار؛ فلا تغترُّوا بهم، فيردوكم في التهلُكة، والشقاء الأبدي .
وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ.
أي: إنَّ الله تعالى يدعوكم بما يُعلِّمكم مِن شَرْعه من أوامرَ ونواهٍ للعمل بها؛ لتقودَكم لدخول الجنة، وتوجبَ لكم النَّجاةَ من النار بما يمحو من خَطاياكم، التي من آثارها دفْعُ العقوبات، وذلك بالحثِّ على التوبة والاستغفار، ولزومِ العمل الصَّالح الذي يُكفِّر الآثام، فيتجاوز عنها ربُّكم، ويسترها عليكم .
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
أي: يوضِّح براهينه وحُججَه ويُظهِر أحكامه وحِكَمها؛ فيُوجِب لهم ذلك التذكُّر لِمَا نَسُوه من الحقِّ فيعتبروا ويتَّعظوا، ويميِّزوا بين الدعاء إلى النيران، والدعاء إلى الجنَّة ونَيْل الغفران .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222).
مناسبتها لِمَا قبلها:
هذه الآية عطفٌ على جملة: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ، بمناسبة أنَّ تحريم نكاح المشركات يؤذِن بالتنَزُّه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كنَّ حُيَّضًا، وكانوا يُفرِطون في الابتعاد منهنَّ مدَّة الحيض، فناسب تحديد ما يَكثُر وقوعه، وهو من الأحوال التي يُخالف فيها المشركون غيرَهم، ويتساءل المسلمون عن أحقِّ المناهج في شأنها .
سبب النُّزول:
عن أنسٍ رضي الله عنه: ((أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأةُ فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوهنَّ في البيوت، فسأل أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فأنزل الله تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: اصنَعوا كلَّ شيء إلَّا النِّكاح، فبلغ ذلك اليهودَ، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدَع من أمرنا شيئًا إلَّا خالَفَنا فيه؟! فجاء أُسَيد بن حُضَير وعبَّاد بن بِشْر، فقالَا: يا رسول الله، إنَّ اليهود تقول كذا وكذا، فلا نجامعهنَّ؟ فتغيَّر وجهُ رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، حتى ظننَّا أنْ قد وجد عليهما فخرجَا فاستقبلهما هديَّةٌ من لبن إلى النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرَفَا أن لم يجدْ عليهما )) .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ.
أي: يسألُك المؤمنون- يا محمَّد- عن شأنِهم مع زوجاتهم حال حيضهنَّ، هل يجتنبونهنَّ مطلقًا، كما يفعل اليهود، أو يجامعوهنَّ ؟
قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ.
أي: أجابهم الله تعالى بأنَّ الحيض دمٌ قذر، ونجس، وإذا كان كذلك، فمن الحِكمة أن يمنع عباده عنه؛ ولذا نهاهم سبحانه عن جِماع النِّساء في فروجهنَّ .
وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَطْهُرْنَ قراءتان:
1- يَطَّهَّرْنَ أي: حتى يَغتسِلْنَ بالماء بعد انقطاع الدم .
2- يَطْهُرْنَ أي: حتى ينقطعَ الدَّمُ عنهن .
وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ.
أي: لا تجامعوا نساءَكم حال حيضهنَّ إلى أنْ ينقطع دم الحيض ويغتسلن، فإذا فعلن ذلك، فحينها لكم أن تُجامعوهنَّ في الموضِع الذي أباحَ الله تعالى فيه ذلِك، وهو القُبُل .
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
أي: يأمركم الله تعالى بذلك، ويحثُّكم عليه؛ لأنَّه يحبُّ مَن يُطهِّرون بواطنَهم بالمواظبة على كثرة التَّوبة من جميع الذنوب، وإن تكرَّر منهم غشيانها، ويحب مَن يُطهِّرون ظواهرهم بالماء من الأنجاس والأحداث .
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223).
سبب النُّزول:
عن ابن المُنكَدِر قال: سمعتُ جابر بن عبد الله قال: ((كانتِ اليهودُ تقول: إذا جامَعها من ورائِها جاءَ الولدُ أحولَ، فنزلت: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)). وزاد في حديث النُّعمان عن الزهري: ((إنْ شاءَ مُجَبِّيَة ، وإن شاء غير مُجَبِّية، غير أنَّ ذلك في صِمامٍ واحد )) .
وعن أبي النَّضر أنَّه قال لنافع مولى ابن عمر: ((قد أُكثر عليك القول: إنَّك تقول عن ابن عُمر: (إنَّه أفْتى بأنْ يؤتى النساء في أدبارهنَّ)! قال نافع: لقدْ كذبوا عليَّ! ولكن سأخبرك كيف كان الأمر: إنَّ ابن عُمر عرَض عليَّ المصحف يومًا وأنا عنده حتى بلغ: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، قال نافع: هل تدري ما أمر هذه الآية؟ إنَّا كنَّا معشر قريش نُجَبِّي النِّساء، فلمَّا دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردْنا منهنَّ ما كنا نُريد من نسائنا، فإذا هنَّ قد كرهن ذلك وأعظمْنه، وكان نساء الأنصار إنَّما يؤتَين على جنوبِهنَّ، فأنزل الله سبحانه: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)) .
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
أي: إنَّ نساءكم مُزدرَعٌ لأولادكم، مثلما تكون الأرض حرثًا للزارع حيث يبثُّ فيها الحَب؛ فينمو ويخرج نباتًا، فكذلك النِّساء حرث يضع فيه الرجال الماء الدافق (المَنِيَّ)، فينزرع في الرَّحم حتى ينمو ويخرج بشرًا سويًّا بإذن الله تعالى. ولكم يا معاشرَ الرِّجال، أن تجامعوا نساءكم على أيِّ جهة، وبأي كيفيَّة شِئتم، شريطةَ أن يكون جماعهنَّ دومًا في موضع الحرث، وهو القُبُل .
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: أعدُّوا الخيراتِ والحسناتِ لأجْل نفع أنفسكم في الآخرة، واجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وعذابه حاجزًا يَقِيكم ذلك بتجنُّب الشرور والسيِّئات، وكونوا على يقين تامٍّ من أنكم ستلاقون الله تعالى يوم القيامة، وأنه مُجازٍ كلًّا منكم بعمله، إنْ خيرًا فخير وإنْ شرًّا فشر، وبشِّر المؤمنين يا محمَّد بما يسرُّهم فالمؤمنون الذين يحبُّون لقاء الله تعالى، ويُعِدُّون للأمر عُدَّتَه، سيهنَؤون بلقائه سبحانه، وما يُقدِّموا لأنفسهم من خيرٍ سيجدونه عند الله عزَّ وجلَّ، ويُكرِمهم بدخول جنَّته .
كما قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل: 20] .
وعن عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((من أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَه، ومن كرِه لقاءَ اللهِ كرِه اللهُ لقاءَه. قالت عائشةُ أو بعضُ أزواجِه: إنَّا لنكرهُ الموتَ، قال: ليس ذاك، ولكنَّ المؤمنَ إذا حضره الموتُ بُشِّر برضوانِ اللهِ وكرامتِه، فليس شيءٌ أحبَّ إليه ممَّا أمامه، فأحبَّ لقاءَ اللهِ وأحبَّ اللهُ لقاءَه، وإنَّ الكافرَ إذا حُضِر بُشِّر بعذابِ اللهِ وعقوبتِه، فليس شيءٌ أكرهَ إليه ممَّا أمامه، فكرِه لقاءَ اللهِ وكرِه اللهُ لقاءَه )) .
وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224).
وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ.
أي: لا تجعلوا الحَلِفَ بالله تعالى حُجَّةً لكم تمنعُكم من القيام بفِعل الخيرات، كبرِّ الوالدين وذِي القربى، أو تمنعكم من تحقيقِ التَّقوى بامتثال ما أمر الله تعالى به واجتناب ما نهى عنه، أو تمنعكم من السَّعي في الإصلاح بين النَّاس بالمعروف، وذلك كأنْ يحلفَ امرؤٌ بالله تعالى على ألَّا يصل رحِمَه، فإذا طُلب منه أن يَفعل ما أمر الله تعالى به من صِلة الرَّحِم، قال: قد حلفتُ ألَّا أفعل ذلك، فيجعل الحلفَ بالله عزَّ وجلَّ حجَّة يتقوَّى بها على ترك الخيرات، فنهى الله تعالى عباده عن ذلك، فإذا حلف أحدُهم فليس له الامتناعُ من ذلك والتعلُّل باليمين، بل عليه أن يَحنثَ، ويكفِّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير .
قال تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت -كما في حديث الإفك الطويل-: ((... فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات، فلمَّا أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وكان يُنفِق على مِسْطَح بن أُثَاثة؛ لقَرابتِه منه: والله لا أُنفق على مِسطحٍ شيئًا أبدًا، بعد ما قال لعائشة. فأنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى قوله: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فقال أبو بكر: بلى والله، إنِّي لأحبُّ أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطحٍ الذي كان يُجْرِي عليه )) .
وعن زَهْدَمٍ الجَرْميِّ، قال: ((كنَّا عندَ أبي موسى، وكان بينَنا وبين هذا الحَيِّ من جَرْمٍ إخاءٌ ومعروفٌ، قال: فقدَّمَ طعامَه، قال: وقَدَّمَ في طعامه لَحْمَ دَجاجٍ، قال: وفي القوم رجلٌ من بني تَيْمِ اللهِ، أحمرُ كأنَّه مَوْلًى، قال: فلمْ يَدْنُ، فقال له أبو موسى: ادْنُ؛ فإنِّي قد رأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأكلُ منه، قال: إنِّي رأيتُهُ يأكلُ شيئًا قَذِرْتُه، فحَلَفْتُ أنْ لا أَطْعَمَه أبدًا، فقال: ادْنُ أُخْبِرْكَ عن ذلك، أَتَيْنا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في رَهْطٍ من الأَشْعريِّينَ أَستحمِلُه، وهو يَقْسِمُ نَعَمًا من نَعَمِ الصدقة، قال أيُّوبُ: أَحسبُه قال: وهو غَضْبانُ، قال: واللهِ لا أَحْمِلُكم، وما عندي ما أَحمِلُكم عليه. قال: فانطلقْنا، فأُتِيَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بنَهْبِ إبلٍ، فقيل: أين هؤلاءِ الأشعَريُّونَ؟ فأَتَيْنا، فأَمَر لنا بخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى ، قال: فانْدَفَعْنا، فقلتُ لأصحابي: أَتَيْنا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نَستَحمِلُه، فحلف أنْ لا يَحمِلَنا، ثم أرسل إلينا فحَمَلنا، نَسِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يَمِينَه، واللهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمِينَه لا نُفلحُ أبدًا، ارجِعوا بنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلْنُذَكِّرْه يمينَه، فرجَعْنا فقلنا: يا رسولَ الله، أَتَيْناكَ نَستحمِلُكَ فحَلَفْتَ أنْ لا تَحمِلَنا، ثم حَمَلْتَنا، فظَنَنَّا، أو: فَعَرَفْنا أنَّك نَسِيتَ يَمِينَك، قال: انطَلِقوا، فإنَّما حَمَلكم اللهُ، إنِّي واللهِ -إنْ شاء اللهُ- لا أَحْلِفُ على يَمينٍ، فأَرَى غيرَها خيرًا منها، إلَّا أَتَيْتُ الذي هو خيرٌ وتَحَلَّلْتُها )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: ((أعتَمَ رجلٌ عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم رجع إلى أهلِه فوجد الصِّبيةَ قد ناموا، فأتاه أهلُه بطعامِه، فحَلَف لا يأكلُ من أجلِ صِبيتِه، ثم بدَا له فأكل، فأتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فذكر ذلك له. فقال رسولُ اللهِ: مَن حلف على يمينٍ، فرأى غيرَها خيرًامنها، فلْيأتِها، وليكفِّرْ عن يمينِه )) .
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى يسمعُ جميع الأصوات ومن ذلك سماعه لأقوال الحالفين، وهو عزَّ وجلَّ عالِم بجميع المقاصد والنيَّات، ومن ذلك علمُه بمقاصد الحالفين هل يقصدون خيرًا أم شرًّا، وفي ذلك تحذيرٌ للعباد من أن يُظهِروا بألسنتهم، أو يُضمِروا في أنفسهم ما فيه مخالفةٌ لأمر الله تعالى أو ارتكابٌ لنهيه؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ مطلعٌ على ما ظهر وما بطن، لا يَخفى عليه شيء سبحانه

.
الفوائد التربويَّة :

1- أنَّه لا ينبغي أن يمتنعَ الإنسانُ من السؤال عمَّا يُسْتَحيَا منه؛ لقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ .
2- تقديم عِلَّة الحُكم عليه حتى تتهيَّأ النفوس لقَبول الحُكم، والطمأنينة إليه؛ ويكون قَبوله فطريًّا؛ لقوله تعالى: قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ .
3- فضيلة التوبة، وأنَّها أمر مطلوب، وأنها من أسباب محبَّة الله للعبد؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ .
4- فضيلة الإيمان؛ لأنَّ الله علَّق البشارة عليه؛ فقال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنينَ .
5- الحثُّ على البرِّ، والتقوى، والإصلاح بين النَّاس؛ لأنَّه إذا كان الله تعالى قد نهانا أن نجعل اليمين مانعًا من فعل البرِّ؛ فكيف إذا لم تكُن هناك يمين ؟!
6- فضيلة الإصلاح بين النَّاس؛ لقوله تعالى: وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ؛ فنصَّ عليه مع أنَّه من البرِّ؛ والتنصيص على الشيء بعد التَّعميم يدلُّ على العناية والاهتمام به

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ الحُكم يدور مع عِلَّته وجودًا وعدمًا؛ لقوله تعالى: حَتَّى يُؤْمِنَّ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه متى زال الشرك حلَّ النكاح؛ ومتى وجد الشرك حرم النكاح .
2- أنَّ المؤمن خير من المشرك؛ ولو كان في المشرك من الأوصاف ما يُعجب؛ لقوله وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ؛ ومثله قوله تعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة: 100] ؛ فلا تغترَّ بالكثرة؛ ولا تغترَّ بالمهارة؛ ولا بالجودة؛ ولا بالفصاحة؛ ولا بغير ذلك؛ وارجِع إلى الأوصاف الشرعيَّة المقصودة شرعًا .
3- تفاضل النَّاس في أحوالهم، وأنهم ليسوا على حدٍّ سواء؛ لقوله تعالى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ .
4- في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أنَّ محبَّة الله من صفاته الفعليَّة- لا الذاتيَّة-؛ لأنَّها عُلِّقت بالتوبة؛ والتوبة من فِعل العبد تتجدَّد؛ فكذلك محبَّة الله عزَّ وجلَّ تتعلَّق بأسبابها؛ وكلُّ صفةٍ من صفات الله تتعلَّق بأسبابها، فهي من الصِّفات الفعليَّة .
5- حُسن أسلوب القرآن؛ لأنَّه جمع في هذه الآية بين التطهُّر المعنوي الباطني، والتطهُّر الحسي الظاهري؛ لقوله تعالى: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وهي طهارة باطنة، وقوله تعالى: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ، وهي طهارة ظاهرة .
6- أنَّه ينبغي للإنسان أن يَسعَى لكثرة النَّسل؛ لقوله تعالى: حَرْثٌ لَكُمْ .
7- أنَّه ينبغي للإنسان أن يحافظ على امرأته التي سُمِّيت حرثًا له، كما يحافظ على حرث أرضه .
8- من المستحْسَنِ إذا أراد المرءُ إخبار غيره بأمر هامٍّ أن يُقدِّم بين يدي الخبر ما يَقتضي انتباهَه؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا؛ وهذا ممَّا يزيد الإنسان انتباهًا وتحسُّبًا .
9- في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ تحذير غير المؤمنين من هذه الملاقاة؛ وذلك لقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنينَ؛ فدل ذلك على أنَّ غير المؤمنين لا بُشرى لهم

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ... وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ
- فيه: تنكير (أَمَة) و(عَبْد) مع التَّصدير بلام الابتداء؛ للمبالغة في النَّهي والزَّجر، واللام تُشبه لامَ القَسَم في التوكيد .
2- قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ فيه إيجاز بالحذف؛ إذ المراد من السُّؤال عن المحيض السُّؤال عن (قِرْبان النِّساء في المحيض)؛ بدَلالة الاقتضاء، وقدْ علِم السائلون ما سألوا عنه، والجواب أَدلُّ شيء عليه .
3- قوله: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ فيه وضْع المظهَر (النِّساء) موضعَ المضمَر (هُنَّ)؛ للاهتمام، والعناية بترك المأمور به .
4- قوله: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ فيه إبداعُ الإيجاز في الإطناب، حيث عبَّر بلفظ الإتيان (فأتوهنَّ) هنا عن الوطء؛ لبيان المراد بالقِربان المنهيِّ عنه، فقد عبَّر بالاعتزال، ثم قفَّى بالقِربان، ثم قفَّى بالإتيان، ومع كلِّ تعبير فائدةٌ جديدة، وحُكم جديد .
5- قوله: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ... فيه: توكيد الخبر بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة. وفيه: وضع المُظهَر موضعَ المضمر، حيث قال تعالى: إنَّ اللهَ يُحبُّ، ولم يقل: (إنَّه يحبُّ)؛ لتربية المهابَة .
6- قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فيه كِناياتٌ لطيفة، وتعريضات مستحسَنة في التعبير عن جِماعِ النِّساء بهذه الألفاظ؛ وهذه وأشباهها في كلام الله آدابٌ حَسنةٌ، على المؤمنين أن يتعلَّموها ويتأدَّبوا بها، ويتكلَّفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم .
- وفيه: تشبيه بليغ في تشبيه النِّساء بالحرث، لِمَا يُلقَى في أرحامهن من النُّطَف التي منها النَّسل بالبذور .
- وفيه: وضْع المُظهَر موضعَ المُضمر؛ للعناية به؛ حيث قال: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ ولم يقل: (فأتوه) .
7- قوله: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فيه: تلوين الخِطاب؛ مرَّةً للمؤمنين، ومرةً لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ مبالغةً في التشريف والتكريم .


=====


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (225 - 232)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
غريب الكلمات:

بِاللَّغْوِ: اللغو: هو ما يَجري في الكلامِ على غيرِ عَقْد ولا قصْد، ويُعبَّر باللَّغو أيضًا عن الباطِلِ من الكلام
.
يُؤْلُونَ: يَحلِفون- من الأَلية، وهي اليَمين .
تَرَبُّصُ: التَّرَبُّص: الانتِظار والتَّمكُّث .
فَاؤُوا: أي: رجَعوا إلى جِماعِ نِسائهم .
قُرُوءٍ: جمع قُرء، وهو الطُّهر- عند أهل الْحجاز- والحَيْض- عند أهل العرَاق- وهو من الأضدادِ .
وَبُعُولَتُهُنَّ: أزواجهنَّ، جمْع بَعْل، وبَعْل المَرْأةِ زَوجُها .
تَسْرِيحٌ: التسريح: ما يدلُّ على الانطلاق؛ يقال: أمْر سريح، إذا لم يكُن فيه تعويقٌ ولا مطل .
افْتَدَتْ بِهِ: بذَلتِ الشيءَ لزوجِها عن نفْسِها، وأصل (فدي): جَعْلُ شَيْءٍ مكانَ شَيْءٍ حِمًى له .
أَجَلَهُنَّ: الأجَل: غايةُ الوقت، في الموتِ وغيرِه؛ ومنه: انقضاءُ العِدَّة .
تَعْضُلُوهُنَّ: العَضْل: الحبْس والمنع؛ يقال: عضَل الرجل أيِّمَه؛ إذا منعَها من التَّزويج

.
المعنى الإجمالي:

نفى الله تعالى أن يُوقع عقوبةً على عبادِه- سواء كانت دنيويَّة أو أخرويَّة- بسبب ما يجري على ألسنتهم من الحلف على أمور معتادة، دون أن يقصدوا عقد اليمين عليها، ولا على ما يحلفون عليه جازمين بصدقه أو تحقُّق وقوعه، ثمَّ لا يكون الأمر موافقًا لما اعتقدوه، لكنَّ العقوبة على مَن قصد بقلبه الحلِف كاذبًا، وأمَّا مَن حلف ثم حنث في يمينه، فإنَّ عليه حينها أن يُكفِّر عن يمينه في الدُّنيا، وإلَّا فإنَّه معرَّض للعقوبة الأخروية. والله غفور؛ يستر على عباده ما وقع منهم من لغوٍ في أيمانهم، فلا يؤاخذهم بها، حليمٌ؛ فلا يعاجلهم بعقوبة بسبب تقصيرهم في التأدُّب معه بلغوهم في الأيمان، ولا يغضب عليهم لغفلتهم عنه في ذلك.
ثم بيَّن الله تعالى حُكم الإيلاء -وهو أن يحلِف الزوج على ألَّا يجامع زوجتَه- فإن أقصى مدة يحق له فيها الامتناع عن جماعها هي أربعة أشهر فإنْ رجع لجماعِها قبل انتهاء الأربعة الأشهر، أو فور انتهائها فإنَّ له ذلك، والله يغفر له إثمَ حرمان زوجته من الوطء تلك المدة، ورحيم به إذ أبقى له امرأته، ولم يفرض عليه كفارةً كسائر الأيمان. وإن قصد الطلاق عازمًا عليه فليبادرْ به فورًا، ولا يقصد الإضرار بها بتعليقها؛ فإنَّ الله سميع عليم، فيسمع طلاقها منه، ويعلم ما في قلبه من قصد، لا يخفى عليه شيء جلَّ وعلا.
ثم أَخبَر تعالى أنَّ على مَن طُلِّقت مِن النِّساء الحرائر المدخول بهنَّ إذا كنَّ ذوات حيض، ولسنَ بذات حمْل، ألَّا يسارعنَ إلى الزواج، بل ينتظرنَ مدة ثلاثة قروءٍ، والقرء (الطُّهر، أو الحيض)، ويحرم على المطلَّقات أن يخفين حيضهنَّ أو حملهنَّ؛ لِما يترتب على إخفائهما من مفاسد كثيرة، فإنَّ هذا الكتمان لا يصدر إلَّا ممَّن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وأزواجُهنَّ أولى بإرجاعهنَّ إنْ قصدوا إحداثَ ألفةٍ ومودَّةٍ بينهم، ما دمنَ في عدتهنَّ؛ سواء في حال تربُّصِهن ثلاثة قروءٍ، أو في أيام الحمل إن كانت الزوجة حاملًا، وهذا في حق مَن كان طلاقها رجعيًّا.
ثم أَخبَر تعالى أنَّ للزوجات عمومًا- مطلَّقات وغير مطلَّقات- حقوقًا، وعلى أزواجهنَّ القيام بها، فعليهنَّ حقوقٌ تجاه أزواجهنَّ، وعلى كِلا الطرفين القيام بما عليه من الحقوق بما جرَت به العادة، من غير ظلم ولا مخالفة لأمْر الله تعالى، ولأزواجهنَّ عليهنَّ زيادة في الحقوق؛ لِمَا للرَّجُل من فضلٍ على المرأة. والله تعالى ذو الغلبة التامَّة والقهر، ومن تمام غلبته وقهره انتقامه ممَّن خالف العمل بما شرَعه من الأحكام السابقة، حكيمٌ فيما شرَع وقدَّر.
ثم أخبر تعالى أنَّ للطلاق الذي يحلُّ للزوج إرجاع زوجته بعده حدًّا معينًا، وهو مرتان، فإذا طلَّق الرجل امرأته فإنَّه يُخيَّر ما دامت في العدَّة بأن يردَّها لعصمته ويعاشرها بما جرت به عادة النَّاس بلا ظلمٍ لها، أو يتركها حتى تنقضي عدَّتها، ويُطلِق سراحها محسنًا إليها دون أن يضرَّ بها. وإن اختار الطلاق فلا يحلُّ له أن يأخذ ممَّا أعطاها شيئًا، سواء كان مهرًا أو غيره، إلا عند الخوف -سواء من الزوجين أو أوليائهما- من عدم قيام أحد الزوجين بما له من حقوق تجاه الآخر، فلها حينئذٍ أن تخالعه، بأن تطلب منه مفارقتها مقابل عِوَض تُقدِّمه له، ولا حرجَ عليهما في ذلك، لا في دفعها له، ولا في قَبوله وأخْذه. وتلك الأحكام التي تقدَّمت هي من حدود الله، ومنهيٌّ عن تجاوز ما حدَّه الله تعالى، وقد عرَّفه وبيَّنه، ومَن تجاوزها فهو ظالمٌ حقيقةً، وذلكَ بفعله ما لا ينبغي له أن يفعله.
فإذا طلَّق الرجلُ زوجتَه الطلقةَ الثالثة فإنَّها تحرُمُ عليه، وليس بإمكانه إرجاعُها إلا إذا تزوَّجت برجل آخر، ووقع بينهما جماع، فإذا طلقها الزوج الثاني وانقضت عدَّتها، فلا حرَجَ أن يُعِيدها الزَّوجُ الأوَّل إلى عِصمتِه بعقدِ نكاحٍ جديدٍ، بشَرْط أن يتيقَّنا أو يغلب على ظنِّهما أن تكون عشرتهما الجديدة بالمعروف، وأن يقوم كلٌّ منهما بما عليه من حقوقٍ تُجاه الآخَر. وما تقدَّم ذِكرُه من أحكام، من جملة شرائع الله تعالى التي يُوضِّحها لمن تَحَلَّوا بالعلم؛ لأنَّهم هم الذين يفهمونه فهمًا صحيحًا فينتفعون، وينفعون به غيرهم.
وإذا طلقتم- أيُّها الرجالُ- نِساءَكم طلاقًا رجعيًّا، فأوشكتْ عِدَّتهنَّ على الانقضاء، فإمَّا أن تُرجعوهنَّ إلى عِصمة النِّكاح عازمين القيامَ بحقوقهنَّ، أو تتركونهنَّ بلا رجعة ولا إضرار بهنَّ، حتى تنتهي عدتهنَّ، وقد نَهَى الله تعالى عن الإضرار بالنِّساءِ بأن يراجعوهنَّ عند اقترابِ انتهاء العِدَّة؛ لئلَّا يتزوَّجنَ غيرهم، أو لإطالة مدَّة العدَّة، أو لابتغاء طلب الخُلْع حتى يفتدينَ أنفسهنَّ؛ فيتجاوز هؤلاء الرِّجال بفعلِهم هذا، الحلال إلى الحرام، ومَن يفعل ذلك فقد أساء إلى نفسه، فالضرر عائدٌ إليه، لكسبِه بسببِ ذلك الإثمَ، واستحقاقه لعقوبة الله.
ثمَّ نهى سبحانه عن اتِّخاذ ما أنزله في كتابه من الأحكام موضعًا للسُّخرية واللعب والاستهزاء، وأمَر عباده أن يذكروا نعمَهُ التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى عليهم، ومنها ما أوحاه الله عزَّ وجلَّ إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهذا شامل لكتاب الله عزَّ وجلَّ، ولسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ المشتملة على الحكمة، فيُذكِّرهم الله تعالى وينصحهم بما أنزله فيهما ترغيبًا أو ترهيبًا. وأمرهم جلَّ وعلا بتقواه بأن يفعلوا ما أمرهم به، ويجتنبوا ما نهاهم عنه، ولْيتيقنوا أنَّ الله محيط بكلِّ شيء علمً،ا لا يخفى عليه شيء.
ثم نهى اللهُ تعالى أولياءَ النِّساء أن يُضيِّقوا عليهنَّ، بمنعهنَّ من الرجوع إلى أزواجهنَّ الذين طلقوهنَّ طلاقًا رجعيًّا، في حال ما إذا أراد الأزواج إرجاعهنَّ ورضيت المرأة بذلك، ووقع التراضي على المعاشرة بينهما بالمعروف، وهذا النهي يُذكَّرُ ويُزجر به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وامتثالُ حُكم الله في ردِّ الأولياءِ النِّساءَ إلى أزواجهنَّ وعدم عضلهنَّ هو أفضلُ عند الله، وأطهرُ لقلوبهم من الآثامِ والعَدَاوات والرِّيبة، كما أنَّه أطهرُ للأعراض، والله يعلمُ بما يَنفع عبادَه في الدنيا والآخرة، وأمَّا العباد فلا يعلمون أينَ يكون الخير، إلَّا ما علَّمهم الله تعالى؛ لذا يجب التسليمُ لشرعه سبحانه، وإنْ جاء على خلافِ أهوائهم.
تفسير الآيات:

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225).
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ.
أي: لا يُعاقب اللهُ تعالى عِبادَه- فلا تلزمهم كفَّارة في الدُّنيا ولا عقوبة تحلُّ بهم في الآخرة- لِما يَجري على ألسنتهم من الحَلِف على أمورٍ معتادةٍ لديهم، دون قصدٍ منهم إلى عَقد اليمين عليها، وكذا ما يَحلِفون عليه جازمين بصِدقه أو تحقُّق وقوعه، ويكون الأمرُ في الحقيقة على خلاف ما اعتقدوه
.
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.
أي: إنَّ العقوبة تقعُ على مَن قصد بقلبِه تعمُّد الحلف بالله تعالى كاذبًا، وأما مَن حلف على شيءٍ ثم حنث في يمينه فعليه أن يُكفِّر عنها في الدنيا، فإن لم يفعل فهو مُعرَّضٌ كذلك للعقوبة في الآخرة .
وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى يستُرُ على عِبادِه، ويتجاوزُ عنهم فيما لغَوا فيه من أَيْمان، فلا يُؤاخذهم بها في الدنيا بكفَّارةٍ، ولا في الآخرة بعقوبة، وكذا ما وجَبَ في الحِنث ببعضِ الأيمان من كفَّارة، جعَلَها الله تعالى مُغنِيةً عن عقوبة الآخرة. ولَمَّا كانت تلك الأيمانُ الواردةُ على سبيل اللَّغو من قبيل التقصيرِ في الأدبِ مع الله تعالى، جاءَ اقترانُ وصف الله عزَّ وجلَّ بمغفرة الذنوب مع وصفه بالحِلم؛ إذ لم يُعاجِلهم بعقوبة؛ جرَّاءَ تقصيرِهم في التأدُّب معه، أو يغضب لغفلتهم عنه في ذلك .
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى حُكم مُطلَق اليَمين في الآية السَّابقة ذَكَر بعده الإيلاءَ؛ لأنَّه حَلِفٌ مقيَّدٌ، فقدَّم المطلَق وأعقبه بالمقيَّد ، فقال تعالى:
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
أي: إنَّ مَن حلف ألَّا يجامع زوجته أكثر مِن أربعة أشهرٍ، فإنَّ أقصى ما يُمكنه انتظارُه أربعة أشهر دونَ جِماعِها .
فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنْ رجع الزَّوج إلى زوجته فجامعها، فسواء وقع ذلك قبل انتهاء الأربعة أشهر أو فور انتهائها، فإنَّ له ذلك، ويغفر الله تعالى له حرمان امرأته من الوطء تلك المدَّة، فمغفرته سبحانه تُوجِب رفْعَ الإثم عنه، ورحمته عزَّ وجلَّ تُوجِب له بقاء امرأته، وأن تُفرَض عليه الكفَّارة، كما هي الحال في سائر الأيمان التي يُحنَث بها، والجزاءُ من جِنس العمل؛ فكما عاد إلى إرضاءِ زوجتِه، والإحسانِ إليها، عادَ اللهُ تعالى عليه بمغفرتِه ورحمتِه .
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان الحالُ في مدَّة الإيلاء شبيهًا بحال الطَّلاق، وليسَا سواءً، قال سبحانه مبيِّنًا أنَّ الطلاق لا يقعُ بمجرَّد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، بل إمَّا أن يَفيء أو يُطلِّق، فإنْ أبى طلَّق عليه الحاكم، فقال سبحانه :
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227).
أي: خيَّر الله تعالى المُولِي من زوجته بين شيئيْن: إمَّا أن يفيء إليها وإما أن يطلِّقها. ولَمَّا كان الرُّجوع إليها، أحبَّ إلى الله تعالى، بدأ به، فإذا قصد الزَّوج طلاقَها بعزمٍ تامٍّ، أي: بعد تأمُّلٍ فيه، واستقرار رأيه على مفارقة امرأته، فإنَّه يجب عليه أن يُطلِّقها مباشرةً، ولْيعلم أنَّ الله تعالى يسمع طلاقه حين يُطلِّق، وأنه مطَّلعٌ على ما في قلبه، فلْيحذر من المخادعة والتلاعب بأمر الله تعالى، بإرادة تعليقها والإضرار بها؛ فإنَّ الله تعالى لا يَخفى عليه شيءٌ، وسيُجازي عباده بأعمالهم، وليس منه مهربٌ جلَّ وعلا .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها: 

لَمَّا ختَم الله تعالى آيتَي الإيلاء بالطَّلاق بيَّن عِدَّته، فقال تعالى  
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.


لَمَّا ختَم الله تعالى آيتَي الإيلاء بالطَّلاق بيَّن عِدَّته، فقال تعالى :
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.

أي: إنَّ النِّساء الحرائر المدخول بهنَّ إذا كنَّ ذوات حيض وطهرٍ، ولسن بحوامل، وطلقهنَّ أزواجُهنَّ، فعليهنَّ ألَّا يعجلْنَ إلى الزواج، بل يحبسنَ أنفسهنَّ عنه مدَّة ثلاثة قروء. والقُرء قيل: هو الطُّهر، وقيل: هو الحيض .
وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: الذي نُهيَت المرأةُ المطلَّقة عن كتمانِه مِن مُطلِّقها ممَّا خلَق الله في رحِمها: الحيض، والحمل؛ فكتمان ذلك، يقود إلى شرور كثيرة؛ فإنَّها إذا كتمت حملها، أدَّى ذلك إلى إلحاق الجنين بغير مَن هو له، رغبة فيه، أو استعجالًا لانقضاء العدَّة، فإذا ألحقته بغير أبيه، حصلَتْ مفاسدُ أخرى كقطْع الرَّحِم، والإرث، واحتجاب محارمِه عنه، وربَّما يتزوَّج ذواتِ محارمه، وغير ذلك من المفاسِد. وكتمانُ الحيض، يكون بإخبارِها كذبًا بوجوده، وهذا يؤدِّي إلى انقطاع حق الزَّوج عنها، وإباحتِها لغيره ويتفرَّعُ عن ذلك من الشُّرور مثلُ ما سبَق، أو يكون بإخبارِها كذبًا بعدم وجود الحيض؛ كي تطول العِدَّة، فتأخذ منه نفقةً غير واجبة عليه، وقد يُراجعها مُطلِّقُها بعد انقضاء العِدَّة، فيكون ذلك زنًا؛ لأنَّها لا تحلُّ له في هذه الحال؛ فنهاهنَّ الله عزَّ وجلَّ عن كتمانِ الحيض والحمْل، فهذا فِعلُ مَن لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخِر، ولا من أخلاقه، وفي هذا تهديدٌ لهنَّ على قول خلاف الحقِّ، فمَن آمَنت بالله تعالى واليوم الآخِر، وعرَفت أنَّها مجزيَّةٌ عن أعمالها، لم يصدُر عنها شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ الإيمان بهما يحمِل الإنسان على فعل المأمورات، واجتناب المحظورات .
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا.
أي: إنَّ زوج المطلَّقة أحقُّ وأولى بإرجاعها إلى عصمتِه، ما دامتْ في عِدَّتها، أي: حال تربُّصها ثلاثة قروء، أو في أيَّام حملها إن كانت حاملًا، إذا قصد برجعتِها أن يُحدِث ائتلافًا والتئامًا بينه وبينها. (وهذا في المطلَّقة طلاقًا رجعيًّا، أمَّا البائن فلا رجعةَ له عليها) .
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
أي: إنَّ للزَّوجاتِ- سواء كنَّ مُمْسَكات أو مُطلَّقات- حقوقًا، وعلى أزواجهنَّ القيام بها تجاههنَّ، مثلما أنَّ عليهن تُجاه أزواجهن حقوقًا أيضًا، والقيام بها من قِبل الطرفين يكون بما جرت به العادة، من غير وقوع ظلمٍ، أو مخالفةٍ لأمر الله تعالى، ولكنْ للرِّجال عليهن زيادة في الحقوق لِمَا للرجل من فضلٍ على المرأة؛ بسبب الإنفاق عليها وغير ذلك .
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
بعد أنْ بيَّن الله تعالى بعض أحكامه، بيَّن أنَّ له الغلبة التامَّة والقهر، ومن ذلك انتقامه ممَّن خالف العمل بتلك الأحكام، وهو سبحانه حكيمٌ فيما شرع وقدَّر، إذ يضع كلَّ شيءٍ في موضعه اللَّائق به .
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى حقَّ الرجعة الذي يُمكن الزَّوجَ، ذَكَر بعدَه غايةَ الطَّلاق الذي يملكُه الزوجُ من امرأته ، فقال سبحانه:
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.
أي: إنَّ عدد الطَّلَقات التي يحلُّ للزَّوج بعدها رجعة زوجته، مرَّتان، فإذا طلق الرَّجُل زوجته، فإنَّه يُخيَّر بين أمريْن ما دامت عدَّتها باقية، إما أن يردَّها إليه ويعاشرها بما جرت به عادة النَّاس من غير ظلمٍ لها، وإمَّا أن يتركها حتى تنقضي عدَّتها، ويُطلِق سراحها محسنًا إليها، دون أن يظلمها أو يضارَّ بها .
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَخَافَا قراءتان:
1- يُخَافَا بالبناء للمفعول، وتعني: أنَّ الخوف صادرٌ من غيرهما .
2- يَخَافَا بالبِناء للفاعل، وتعني: أنَّ الخوف صادرٌ من الزوجين .
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
أي: إنَّه لا يحِلُّ لكم- أيُّها الرِّجال- إذا أردتم طلاق زَوجاتكم أنْ تأخذوا ممَّا أعطيتموهنَّ شيئًا من المهر أو غيره، إلَّا في حالة واحدة وهي أن يَخشَى الزَّوجانِ، أو أولياؤهما كأقاربهما، من عدمِ قِيام كلِّ واحدٍ منهما بما له على الآخَر من حقوق، وذلك كأنْ تُبغِضَ الزوجةُ زوجَها، ولا تَقدِرَ على مُعاشرتِه؛ لسوء خُلُقه، أو لغير ذلك من أسباب، فتَخشى هي أو غيرها من عدم القيام بحقوق زوجها على الوجه المأمورِ به شرعًا، ويخشى الزَّوج أو غيره من عدم القيام بحقوق زوجته؛ بسبب نُفورِها منه، وبُغضها له، أو تَقصيرِها نتيجةَ ذلك في حقوقه- فلها حينئذٍ أن تُخالعه، أي: تطلُب منه فراقَها مُقابلَ عِوَض تُقدِّمه له، ولا حرجَ عليها في دفْعه، ولا حرجَ عليه في قَبوله وأخْذه .
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّ ما تقدَّم من الأحكام التي شرَعها الله تعالى لعباده، فعرَّفها لهم، وبيَّنها، قد أمرهم سبحانه بالوقوف عندها، وعدم تجاوزها إلى نواهيه، فإنَّ مَن تخطَّى أمره ووقع في نهيه، فإنَّه هو الظالِم حقيقةً؛ إذ فَعَل ما لا ينبغي له فعلُه، وتعامل مع أوامر الله عزَّ وجلَّ بما لا تستحقُّه .
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت الرَّجعةُ والخُلع لا يصحَّانِ إلَّا قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها فلا يبقى شيءٌ من ذلك، ذكَر الله حُكم الرَّجعة، ثم أتْبعه بحُكم الخُلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حُكمَ الطلقة الثالثة؛ لأنَّها كالخاتمة لهذا الأمر، فقال تعالى :
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ.
أي: إذا طلَّق الرَّجُل امرأتَه الطلقة الثالثة، فإنَّها تحرُم عليه، وليس في مقدوره إرجاعُها، إلَّا أنَّها لو تزوَّجت بآخر، بعقدِ نكاحٍ صحيح، وجامعها الزوج الثاني، وكان هذا الزواج واقعًا عن رغبةٍ حقيقية، لا بقصد تحليل المرأة إلى زوجها الأوَّل، فلو طلَّقها زوجُها الثاني وانقضَتْ عِدَّتها، فلا حرجَ حينئذٍ أن يُنشِئَا- الزَّوج الأوَّل والمرأة- عَقْدَ نِكاحٍ جديدًا بينهما، شريطةَ أن يُوقِنا أو يغلب على ظنِّهما أن يتعاشرَا بالمعروف، وأن يقوم كلٌّ منهما بحقوق الآخَر كما ينبغي .
عن عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ رِفاعَةَ القُرَظِيَّ طلَّق امرأتَه فبَتَّ طلاقَها، فتزوَّجَها بعدَه عبدُ الرحمنِ بنُ الزَّبِيرِ، فجاءتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنها كانتْ عِندَ رِفاعَةَ فطلَّقها آخرَ ثلاثَ تطليقاتٍ، فتزوَّجها بعدَه عبدُ الرحمنِ بنُ الزَّبِيرِ، وإنَّه واللهِ ما معَه يا رسولَ اللهِ إلَّا مثلُ هذه الهُدبَةِ ، لهُدبَةٍ أخذَتْها من جِلبابِها، قال: وأبو بكرٍ جالسٌ عِندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وابنُ سعيدِ بنِ العاصِ جالسٌ ببابِ الحُجرةِ ليُؤذَنَ له، فطَفِقَ خالدٌ يُنادي أبا بكرٍ: يا أبا بكرٍ، ألا تَزجُرُ هذه عمَّا تَجهَرُ به عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ وما يَزيدُ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التَبَسُّمِ، ثم قال: لعلكِ تُريدينَ أن تَرجِعي إلى رِفاعَةَ، لا، حتى تَذوقي عُسَيلَتَهُ ويَذوقَ عُسَيلَتَكِ )) .
وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
لَمَّا بيَّن الله عزَّ وجلَّ تلك الأحكام العظيمة، أشار إلى أنَّها من جُملة شرائعه التي يُوضِّحها توضيحًا كاملًا لمَن كان العلم سجيَّتَهم؛ إذ يملكون الاستعدادَ لفَهمه وقَبوله، فيفهمون الأحكام فهمًا صحيحًا يقودُهم للعمل بها كما ينبغي دون تحيُّل، فينتفعون بها وينفعون غيرهم .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
جاءتْ هذه الآية عطفًا على قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا... الآية، عطفَ حُكمٍ على حُكم؛ لقصدِ زيادة الوصاةِ بحُسن المعاملة في الاجتماع والفرقة، وما يتبع ذلك من تحذير، فقال تعالى :
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.
أي: إذا طلَّقتم- أيُّها الرِّجال- نِساءَكم، طلاقًا لكم عليهنَّ فيه رجعةٌ- وذلك في التطليقة الواحدة، والتطليقتين- فقاربْنَ انقضاء عدتهنَّ، وأشرفْنَ على بلوغ أجلهن، فإما أن ترجعوهنَّ إلى عصمة النكاح بإشهادٍ على الرَّجعة، والتزامٍ بحُسن الصُّحبة، وطِيب العِشرة بما يتعارف عليه النَّاس، دون إخلالٍ بمأمور، أو وقوعٍ في محظور، أو اتركوهنَّ يَقضين تمام عدتهنَّ، ثم فارِقوهنَّ وأوفوهنَّ تمام حقوقهنَّ عليكم من مهرٍ ومتعةٍ ونفقةٍ، وغير ذلك، من غير مخاصمةٍ، ولا شقاقٍ، ولا إضرار .
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
أي: لا يكُن إرجاعُكم لنسائكم مع قُرب انقضاء عِدَّتهن لأجْل المضارَّة بهنَّ؛ لئلَّا يتزوَّجْنَ بغيركم، أو لتطوِّلوا عليهنَّ مدَّة العِدَّة، أو لدفعها إلى ابتغاء طلب الخُلع منكم؛ كي تنالوا منهنَّ فدية في سبيل الخَلاص منكم، فكلُّ ذلك تجاوزٌ لما أمر الله تعالى به من إمساكهنَّ بمعروفٍ أو مفارقتهنَّ بإحسان، ومَن يَقُمْ بتلك الاعتداءات، فالضررُ عائدٌ عليه حقًّا، فبذلك يُكسب نفسه آثامًا، ويستحقُّ عقاب الله تعالى .
وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا.
أي: لا تَجعلوا ما أَنزل اللهُ تعالى لكم في كتابه، من تلك الأحكام العِظام، في موضع السُّخرية والاستهزاء واللَّعب بها، بحيث تتركون العمل بها تجرُّؤًا واستخفافًا؛ فالله تعالى لم يُنزلها عبثًا، بل أنزلها بالحقِّ والصِّدق؛ لأجْل العمل على وَفْقها .
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ.
أي: اذكروا نِعَم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى عليكم، ومن ذلك نِعمة الإسلام وما يَحويه من أحكامٍ عِظام، فيها ما يدعو الزَّوجين لتجديد الوئام، أو المفارقة الحَسَنة بعد تَعذُّر الالتئام، فاذكروه سبحانه باللِّسان حمدًا وشكرًا، وبالقلب اعترافًا وتفكُّرًا، وبالجوارح سعيًا وعملًا، ومن تلك النِّعم ما أنزله الله تعالى من الوحي إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا يَشمل كتابَ الله عزَّ وجلَّ، وسُنَّةَ رسوله عليه الصَّلاة والسلام المشتملة على الحِكمة، ومن ذلك ما فيها من ترغيبٍ وترهيب، والله تعالى يُذكِّركم ويَنصحُكم بما أنزله، إمَّا ترغيبًا بما يُليِّن قلوبَكم للخير، وإمَّا ترهيبًا بما يحذِّركم ويزجركم عن الشرِّ .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: اتَّقوا الله عزَّ وجلَّ في جميع أموركم، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالتزموا بأحكامه، ولا تتجاوزوا حدوده، وليكن معلومًا لديكم علمًا يقينيًّا أنَّ الله تعالى محيطٌ بكل شيء علمًا، لا يخفى عليه شيءٌ مطلقًا، فيعلم ما تأتون وما تذرون، ويُجازيكم على ذلك بحسَبه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، ومِن كمال عِلمِه سبحانه أيضًا أنْ شرَع تلك الأحكامَ التي هي في غاية الإحكام، وصالحة في كلِّ زمان ومكان .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232).
سبب النُّزول:
عن الحسن البصريِّ، أنَّه قال في قوله سبحانه: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ: حدَّثني مَعقِل بن يَسَار أنَّها نزلت فيه، قال: ((زوَّجت أختًا لي من رجل فطلَّقها، حتى إذا انقضت عِدَّتها جاء يَخطُبها، فقلت له: زوَّجتُك وفرشتُك وأكرمتُك، فطلقتَها، ثم جئتَ تخطبها، لا واللهِ لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تُريد أن ترجِع إليه، فأنزل الله هذه الآية: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوَّجها إيَّاه )) .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
أي: وإذا طلَّق الرِّجال نساءَهم طلاقًا يمكن إرجاع الواحدة منهن فيه- وذلك في التطليقة الواحدة، والتطليقتين- فقاربْت عِدَّتُها على الانقضاء، وأراد الزوج إرجاعها، ورضيتْ هي بذلك، فحينئذٍ لا يجوزُ لوليِّها- ما دام قد وقَع بينهما التراضي على المعاشرة الحَسَنة، من غير وقوع منكرٍ شرعًا وعُرفًا- أن يُضيِّق عليها بمَنْعها من التزوُّج به؛ غضبًا ونفورًا منه؛ لتطليقِه لها .
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: إنَّ نهي الأولياءِ عن عَضْلهنَّ في تلك الحال، إنَّما يُوجَّه إلى مَن يَلين قلبه بالذِّكرى، ويخاف منزجرًا عن الوقوع في الحرام، وهم الذين يؤمنون بالله تعالى وبالدار الآخرة؛ لأنَّ الإيمان بهما يُحقِّقُ خشية الله تعالى، وخوف الحساب والجزاء، فهؤلاء هم الذين ينتفعون حقًّا بتلك الموعظة .
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.
أي: اتِّباعُكم- يا أولياءَ النِّساءِ- شَرْعَ الله عزَّ وجلَّ في رَدِّهنَّ إلى أزواجهنَّ، وتَرْك عضلهنَّ، خيرٌ لكم وأفضلُ عند الله تعالى، وأطيبُ لنفوسكم، وأطهرُ لقلوبكم من الذُّنوب، ومن العداوات، ومن حصول الرِّيبة، وأطهرُ لعِرْضكم كذلك؛ لأنَّه إذا كان بين الزَّوجين حبٌّ ومودَّة، فقد يَتجاوزانِ ذلك إلى الوقوع في الحرام، وقد يَرتاب فيهما وليُّها وهُما بَريئانِ من ذلك .
وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أي: فلا تستغربوا أنْ أمركم الله عزَّ وجلَّ بخلاف ما جرت به عادتُكم من عضلهنَّ، بل امتثلوا أمْر مَن هو عالِمٌ بمصالحكم وما فيه خيركم ونقاؤكم وطُهركم في الدُّنيا والآخِرة، وذلك في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، أمَّا أنتم- أيُّها العبادُ- فلا تعلمون أين الخِيَرة فيما تأتون وتتركون، إلَّا ما علَّمكم الله تعالى

.
الفوائد التربويَّة :

1- أنَّ للقلوب كسبًا، كما للجوارح؛ فأمَّا ما حدَّث به الإنسان نفسه دون اطمئنان إليه، فإنَّه لا يؤاخذ به؛ لأنَّه ليس بعمل، قال تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
.
2- أنَّ رجوع الإنسان عمَّا هو عليه من المعصية سببٌ للمغفرة؛ لقوله تعالى: فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
3- أنَّه ينبغي تحذير المؤتَمن- الذي لا يَعلم بأمانتِه إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ- من عذاب اليوم الآخِر، إنْ هو لم يقُمْ بواجب الأمانة؛ لقوله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .
4- يُستفاد من قوله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ اعتبار المفاسد، وسلوك الأهون لدفع الأشدِّ؛ لأنَّ الأخذ من مال الزوجة محرَّم بلا شكٍّ؛ لكن إذا أريد به دفْع ما هو أعظم من تضييع حدود الله عزَّ وجلَّ، صار ذلك جائزًا .
5- الاكتفاء بالظنِّ في الأمور المستقبلة؛ لأنَّ طلب اليقين في المستقبل من باب التكليف بما لا يُطاق؛ لقوله تعالى: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ؛ وقد قال الله- تبارك وتعالى -: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286] ، فقال: ((قد فعلتُ )) كما في الحديث .
6- أنَّه لا يَعرِف هذه الحدودَ، ويتبيَّنها إلَّا مَن كان من ذوي العِلم؛ فكلَّما كان أعلمَ كانت الحدود في حقِّه أبينَ وأظهر؛ فطالب العلم يتعلَّم من اللَّفظ مسائل أخرى؛ فالعلم يُغذِّي بعضه بعضًا؛ وطالب العلم رابحٌ بكلِّ حال؛ فهو ليس كطالب المال قد يشتري السِّلعة وهو يظنُّ الرِّبحَ، ثم يخسر؛ فطالب العلم إذا تعلَّم مسألة، فإنَّها مفتاح له لأبواب أخرى؛ ولهذا قال تعالى: يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .
7- في قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ: إغراء المخاطَب باجتناب ظلم غيره؛ لأنَّ الظالم قد يَظنُّ أنَّه منتصرٌ على المظلوم؛ فإذا علِم أنَّه ظالم لنفْسه تهيَّب ذلك، واستقام على العَدل .
8- أنَّ الاتِّعاظ بأحكام الله تزكية للنفس؛ لقوله تعالى: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ؛ فهو ينمِّي النفس، وينمِّي الإيمان، وينمي الأخلاق، ويُنمِّي الآداب؛ فكلَّما كان الإنسان أشدَّ تطبيقًا لأحكام الله كان ذلك أزكى له .
9- أنَّ تطبيق الأحكام أطهرُ للإنسان، أي: أطهرُ للقلب؛ لأنَّ الأعمال الصالحة تُطهِّر القلب من أرجاسِ المعاصي؛ ولذلك تجد عند الإنسانِ المؤمنِ من الحيوية، والنشاط، والسرور، والفرح ما ليس عند غيرِه؛ قال تعالى: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- يُستفاد من قوله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، عدمُ مؤاخذة العبدِ بما لم يَقصدْه في لفظه؛ وهذه الفائدة تُعَدُّ قاعدة عظيمة تترتَّب عليها مسائلُ كثيرة؛ منها: لو جرى لفظُ الطلاق على لِسانه بغير قصدٍ لم تطلق امرأته؛ ولو طلَّق في حال غضبٍ شديدٍ لم تطلق امرأته؛ ولو قال كفرًا في حال فرحٍ شديد لم يَكفُر
.
2- أنَّ الطلاق بيَدِ الزوج؛ لقوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ؛ والضمير يعود على (الذين يُؤلُون من نِسائهم) .
3- أنَّ الطلاق لا يقع بمجرَّد تمام مدَّة الإيلاء؛ لقوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ . وفي هذا إشارة إلى أنَّ الفَيْئة أحبُّ إلى الله تعالى من الطلاق .
4- قوَّة الداعي في المرأة للزواج؛ لقوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ؛ فكأن النفس تحثُّها على أن تُنهِيَ عَلاقتها بالأول، وتتزوج؛ فقيل: (تربصي بنفسك) أي: انتظري .
5- استعمال الاحتراز؛ فلا ينبغي الإطلاقُ في موضعٍ يخشى فيه من التعميم؛ لقوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ .
6- أهميَّة النِّكاح، وبيان أنَّه راجع إلى الأسرة كلِّها؛ لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ، ولم يقل: فإنْ خافا .
7- عناية الله سبحانه وتعالى بعباده في بيان ما يجب عليهم في عبادتهم، وفي معاملة بعضهم لبعض حتى لا تحصُل الفوضى المؤدِّية إلى النِّزاع .
8- أنَّه إذا لزِم من فِعل المباح شيء محرَّم صار الشيء المباح حرامًا؛ لأنَّ رجوع الزوجة حلال في الأصل؛ فإذا لم يظنَّ الإنسان أنَّه يقوم بالحدود صار حرامًا؛ وهو في الأصل حلال، كما قال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ .
9- عناية الله عزَّ وجلَّ بعباده في أن يتعاملوا بينهم بالمعروف، سواء في حال الاتِّفاق، أو في حال الاختلاف؛ لأنَّ ذلك هو الذي يُقِيم وَحْدة الأمة؛ فإنَّ الأمَّة إذا لم تتعامل بالمعروف- بل بالمنكر، والإساءة- تفرَّقت، واختلفت؛ فالأمَّة الإسلاميَّة أمَّة واحدة، كما قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] .
10- في قوله تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا دلالةٌ على أنَّ المعصية نوع من الاستهزاء بالله عزَّ وجلَّ- وإن كانت لا تُخرِج الإنسانَ من الإسلام .
11- أنَّ منَّةَ الله علينا بإنزال الكتاب والحِكمة أعظمُ من كلِّ مِنَّة؛ وذلك لتخصيصِها بعد تعميمِ النِّعم؛ لأنَّ التَّخصيص بعد التَّعميم يدلُّ على أهميتها، قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ .
12- أنَّه لا بدَّ في النِّكاح من وليٍّ؛ فالمرأة لا تزوِّج نفسها؛ لأنَّه لو كانت تملك العقد لنفسها لما كان للعضل أي تأثير؛ ولما قال الله تعالى: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
خبَرٌ في مَعْنَى الأمْر، وأصل الكلام: وليتربَّصِ المطلقات، وفائدة إخراج الأمْر في صورة الخبر التأكيدُ للأمر، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يُتلقَّى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهنَّ امتثلن الأمر بالتربُّص، فهو يُخبِر عنه كأنَّما وُجِد؛ مثل قولهم في الدُّعاء: رحِمك اللهُ، أُخرج في صورة الخبر؛ ثِقةً بالاستجابة، كأنَّما وُجِدت الرحمة، فهو يُخبِرُ عنها
.
وفيه تقديمُ الاسم (المُطلَّقات) على الفِعل (يَتربَّصْن)، وهذا يُفيد من التأكيد والقوة ما لا يُفيده العكس (يتربَّص المطلقات) .
2- قوله: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا هذا كالتوكيد لقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ؛ فنَهاهم ألَّا يكون الإمساكُ ضرارًا .
3- قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ: فيه إبراز (الحدود) بالاسم الظَّاهر، لا بالضمير؛ للدَّلالة على تعظيم حدود الله تعالى .
وفي تَكرار الإضافة في حُدُودُ اللهِ تخصيصٌ لها وتشريف، ويُحسِّن التَّكرارَ بالظاهر كونُ ذلك في جُملٍ مختلفة .
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ : فيه حصْر الظلم في حدود الله تعالى، وتأكيدٌ بالإتيان به في الجملة الاسميَّة الخبريَّة؛ للدَّلالة على أنَّ التعدِّي لحدود الله ظلم عظيم .
4- قوله: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ تخصيصٌ بعدَ تعميم؛ إذ هو معطوفٌ على نِعْمَةَ اللهِ، وهو مِن النِّعمة، وهذا يُسمَّى التجريد .
5- وقد تضمَّنت هذه الآية: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... والتي تليها، أنواعًا من ضروب الفَصاحة والبَلاغة، من عِلم البيان :
منها: الطِّباق : بين الطلاق والإمساك؛ فإنَّهما ضدان، والتسريح طباق ثانٍ؛ لأنَّه ضد الإمساك، وبين العِلم وعدَم العلم؛ لأنَّ عدم العلم هو الجهل.
ومنها: المقابلة في فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا؛ قابَل المعروف بالضرار، والضرار منكَر؛ فهذه مقابلة معنويَّة.
ومنها: التَّكرار في: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ كرَّر اللفظ لتغيير المعنيين.
ومنها: الالتِفات في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، ثم التَفت إلى الأولياء، فقال: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ.


======


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (233 - 242)
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
غريب الكلمات:

حَوْلَيْنِ: مثنَّى حَوْل، وهو العام، وأصله: تحرُّك في دَور، وقيل للعام: حولٌ؛ لأنَّه يَحولُ، أي: يدور
.
وُسْعَهَا: أي: طاقتها، وقُدرتها .
فِصَالًا: فطامًا، وهو التَّفريق بين الصَّبيِّ والرَّضاع؛ يقال: فَصَلتُ الصبيَّ؛ إذا فطمته، ومنه قِيل لولد الناقة إذا قُطِع عن الرَّضاع: فصيل؛ لأنه فُصِل عن أمِّه. وأصل الفَصْل: التفريق، وإبانةُ أحدِ الشَّيئين من الآخَر حتى يكون بينهما فُرجة .
عَرَّضْتُمْ: التَّعْرِيضُ: الإيماءُ والتَّلويح، من غير كَشْفٍ ولا تصريح .
أَكْنَنْتُمْ: سترتُم، وأَضْمَرتُم، مِن أكننتُ الشيء، أي: سترتُه وصُنته .
تَعْزِمُوا: أي: تُوَاقِعوا وتُمضوا، مِن العَزْم والعَزيمة: وهو عقْد القلْب على إمضاء الأمْر .
عُقْدَة: اسم لِمَا يُعقد من نِكاح أو يمين أو غيرهما، وعقْدة كلِّ أمْر: إيجابه وتوثيقه. وأصلُه: الشَّدُّ، وشِدَّة الوثوق .
قَانِتِينَ: مُداومين على الطاعة، والقنوت: دوام الطَّاعة، ولزومها مع الخضوع؛ وأصل قنَت: يدلُّ على طاعةٍ وخيرٍ في دِين .
فَرِجَالًا: أي: مُشَاةً؛ جمْع رَاجِل، اشتُقَّ من الرِّجْل للماشي برِجْله

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: لا تُضارَّ والدةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ:
لا تُضارَّ: على قراءة فتح الراء مع التَّشديد؛ فـ(لا) ناهية جازمة، و(تضار) مضارع مجزوم، وسُكِّنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنة مُدغمة فيها، فالْتقى ساكنان؛ فحُرِّكت الثانية بالفتح؛ لأجْل الألفِ قبلها. وعلى قراءة رفْع الراء مشدَّدة: فـ(لا) نافية لا عَملَ لها، و(تضارُّ) فعل مضارع مرفوع؛ لأنَّه لم يدخلْ عليه ناصب ولا جازم.
وأصل (تضارَّ): تضارر، ويحتمل في الرَّاء الأولى منه الفتح (تُضارَر) فيكون الفعل مبنيًّا للمفعول، وتكون (والدةٌ) مفعولًا لِمَا لم يُسمَّ فاعلُه، وحذف الفاعل للعلم به. ويحتمل أن تكون الراء مكسورة (تُضارِر) فيكون الفعل مبنيًّا للفاعل، وتكون (والدةٌ) حينئذٍ فاعلًا، والمفعول على هذا الاحتمال: محذوف، تقديره: لا تُضارِر والدةٌ زوجَها بسبب ولدِها. ولا يُضارِر مولودٌ له زوجتَه بسببِ ولده
.
2- قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ... مَتَاعًا: متاعًا: منصوب على أنَّه اسم مصدر لفِعلٍ محذوف دلَّ عليه ما قبله (متعوهن)، والتقدير: متعوهنَّ متاعًا. واسم المصدر (متاعًا) جرى مجرَى المصدر (تَمتيع).
ويجوزُ نصبُه على أنه حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في (على الموسِع)، والتقدير: قدرُ الموسع يستقرُّ عليه في حالِ كونه متاعًا .
3- قوله: فنِصفُ مَا فَرضتُم:
فنِصفُ: الفاء رابطة لجواب الشَّرط. ونِصف: مرفوعةٌ مبتدأ، والخبرُ محذوف، والتقدير: فعليكم نصفُ ما فرضتم. أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: فالواجبُ نصفُ...إلخ. وقُرئ بالنَّصب، على أنَّه مفعول به لفِعل محذوف، أي: فأدُّوا نِصفَ ما فرضتُم .
4- قوله: غيرَ إخراجٍ:
غيرَ: منصوب، على أنه نعت لـمَتَاعًا أو بدلٌ منه. أو منصوب على أنَّه حال من الزَّوجات، أو على أنَّه حال من الموصِين، والتقدير: غيرَ مخرجاتٍ، أو: غير مُخرِجين لهم. وقيل غير ذلك

.
المعنى الإجمالي :

يُرشِد الله تعالى الأُمَّهات إلى أن يقُمنَ بإرضاع أولادهنَّ عامين تامَّيْن، إن اتفَّق مطلوب الأب والأمِّ، أو رغب أحدهما في إكمال الرَّضاعة، وفي حال قيامهنَّ بذلك فعلى الأب أن يُقدِّم للأمِّ ما يقوتها من طعام، وما يكسوها من ملبسٍ، بما يتَعارَف النَّاس عليه، ومن غير سرفٍ ولا إقتارٍ، فلا يُوجِب اللهُ على أحدٍ إلا ما أطاقه، وحرَّم اللهُ على الأمِّ أن ترفض إرضاعَ ولدها، أو تطلب أكثر من أُجرة مثلها إضرارًا بأبيه، وحرَّم كذلك على الأب أن يمنعها من إرضاع ولدها إضرارًا بها. وأوجب سبحانه على وارثِ الطفل الذي تُوُفِّي أبوه مثل ما على الأب من النَّفقة والكُسوة لوالدته وعدم الإضرار بها. وأباح الله للوالدين فطامَ المولود قبل انتهاء العامينِ إذا وقع ذلك عَقب تراضٍ منها على فطامِه وتشاورٍ، بحثًا عن مصلحة المولود. كما أباح الله تعالى للآباء أن يبتَغوا لأولادِهم مُرضعات غير أُمَّهاتهم إن كان لا يقصد الإضرار بهنَّ، وإنما لوجود سببٍ يقتضي ذلك، فلا حرج حينئذٍ في هذا الأمر إذا دفَع الوالد أُجرةَ المرضعة، وأوفاها حقَّها تامًّا غيرَ مماطل فيه. ثم يأمر تعالى بتقواه؛ بامتِثال أمْرِه، واجتناب نهيه، وأن يتيقَّنوا أنَّه لا يَخفى عليه شيء سبحانه.
وإذا تُوُفِّي الزَّوجُ فقد أوجب الله سبحانه على زوجتِه أن تعتدَّ من بعدِه، وذلك بحبْسها نفسَها عن الزواج والطيب والزينة والخروج من البيت لغير ضرورة، لمدَّة أربعة أشهر وعشرة أيام- وهذا لغير الحامل فإن عدَّتها تنتهي بوضعها للحمل- فإذا انقضَت هذه المدَّة فلا حرج حينها على أولياء المعتدَّة فيما تفعله في نفسِها من زينة وطيب، ونكاح حلال ونحوه مما أباحه الله تعالى لها. والله تعالى عالمٌ بالسرائر؛ فالتزموا بأحكامه ولا تخالفوها؛ فإنَّه مجازيكم على ذلك.
ولوجوبِ حبْس المعتدَّات أنفسَهنَّ عن النكاح فترة العدَّة لا يجوز للرجال التَّصريح لهنَّ بالنكاح، لكن لا حرجَ من التَّلميح لهنَّ من غير تصريحٍ بالرغبة في الزواج منهنَّ، كما أنَّه لا حرج أيضًا فيما انطوت عليه أنفسُ الرجالِ من العزم على نكاح المعتدَّات بعد انقضاءِ زمن عدَّتِهنَّ. فقد علِم الله أنَّهم سيذكرون لمن هنَّ في العدَّة رغبتهم في الزواج بهنَّ علانيةً، أو سيُضمِرون تلك الرغبة في أنفسهم، فرفَع الله الحرج عنهم في ذلك. ونهى الله عن إجراء عقد النكاح على المعتدَّات حتى تنتهي العدَّة، وحذَّر سبحانه مَن يخالفُ أمره مبيِّنًا أنَّه يعلم ما تُضمِره أنفسهم من الرغبة في نكاح المعتدَّات، فليحذروا إضمار نيَّةٍ مخالفة لأمره تعالى خوفًا من عقابه، ورغبةً في ثوابه. وليكونوا على يقين أيضًا من أن الله يستر ذنوبَ عباده ويتجاوز عنها، ولا يسارع بإيقاع العقوبات عليهم لذنوبهم مع قدرته على ذلك بل يمهلهم سبحانه، فلا يَيئسوا ولا يقنَطوا في حال مخالفتهم لِمَا يُرضي ربَّهم، بل عليهم أن يطلبوا منه سبحانه المغفرة.
ولا حرجَ ولا إثمَ على الرجال في طلاق النِّساء بعد العقد عليهنَّ، وقبل جماعِهنَّ والحال أنهم لم يوجبوا لهنَّ مهرًا محدَّدًا، لكن على الأزواج أن يعطوهنَّ ما يتمتَّعن به من أموالهم بحسب قدرتهم، وعلى ما يتعارف عليه النَّاس، جاعلًا سبحانه هذا الأمر أكثر تأكيدًا على مَن تحلَّى بالإحسان إلى نفسه وإلى الآخرين.
كما أنَّه لا حرجَ على الرِّجال إنْ طلَّقوا النساء قبلَ جِماعنَّ وقد حدَّدوا لهنَّ مهرًا، وبذلك يكون للمُطلَّقات نِصفُ المهر المحدَّد، إلَّا إذا تنازلْنَ عنه لأزواجهنَّ، أو عفا الأزواج عن النصف الآخر لهن، وأعطوهنَّ المهر كاملًا. ورغَّب الله تعالى كِلا الزوجين في التنازل، مخبرًا أنَّ مَن عفا عن نصيبه كان هو الأقربَ للتقوى. كما نهى سبحانه وتعالى الزوجين عن الغفلةِ عن الفضلِ والإحسان، وذلك بإعطاء أحدهما للآخر زيادةً على الحقِّ الواجب له من المهر؛ فإنَّ الله مطَّلعٌ على كلِّ أعمال البَشر، فمَن عفا منهم، فله أجرُه، وسيجزيه الله سبحانه على إحسانه بفضلِه وكرمه.
ثم أمَر سبحانه بالحفاظ على الصَّلواتِ المكتوبة عمومًا بالمداومة على أدائها في أوقاتها، والاهتمام بتأديتِها بشروطها وأركانها، وخصَّ بمزيد تأكيدِ صلاة العصر. آمرًا سبحانه أن يُداوِموا في صلواتِهم على الخشوعِ والطُّمأنينة وترك الكلام في غير ما أمر الله تعالى به فيها من الذِّكر والقرآن.
واستثناءً من الأمر بالقيام بخشوعٍ وطُمأنينة وتركٍ للكلام، ذكر سبحانه حُكم الصَّلاة حال الخوف، ففي هذه الحال عليهم أداء الصَّلاة على أيِّ حالٍ كانوا، سواء ماشينَ على أقدامهم أو راكبينَ على دوابِّهم، مستقبلي القبلةِ أو غير مستقبليها. فإذا زال عنهم الخوف فلْيُقِيموا الصَّلاة على صفتِها التامَّة التي علَّمهم الله إيَّاها من قبلُ، فإن تعليمَه سبحانه لهم ما لم يكونوا يعرفونه من قبل نعمةٌ تستحقُّ أن يُقابِلوها بالشكر، ومنه ذكره سبحانه في الصَّلاة وغيرها.
ثم ذكَر الله تعالى أنَّ على الأزواج أن يُوصُوا قبل وفاتهم إلى ورثتِهم بأن تمكث الزَّوجات في بيوت أزواجهن المتوفَّين مدَّة عام كامل يُمتَّعن فيها بالنفقة والسكنى في منازلهم، دون أن يخرجهنَّ أحدٌ منها. ولا حرج على أولياء الميت إن خرجن وتركنَ الحداد على أزواجهنَّ بأن تجمَّلنَ وتطيَّبنَ ورغِبنَ في النكاح وغير ذلك ممَّا لا يخرج عن حدود الشَّرع والعُرْف. والله عزيزٌ؛ لا يمنعه شيء من انتقامه ممَّن خالف أمره وارتكب نهيه، وحكيم جلَّ وعلا؛ فكلُّ ما شرعه من أحكامٍ في غاية الإتقان.
وهذه الآية منسوخةٌ حُكمًا عند الجمهور بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وقيل: النفقة المذكورة هنا منسوخة بآية المواريث.
ثم أوجبَ الله تعالى على الأزواجِ أن يُعطوا مطلَّقاتهم ما يتمتَّعن به من كسوةٍ أو غيرها، بما يتعارَف عليه النَّاس وبما لا يخالف شرعَ الله عزَّ وجلَّ، وهذا أمرٌ ثابت على كل مَن طلَّق زوجته، وكما بيَّن الله ما سبق من الأحكام بوضوحٍ، يُبيِّن أيضًا باقي آياته وأحكامه بوضوح حتى يفهمها النَّاس ويعملوا بها.
تفسير الآيات:

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233).
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.
أي: أَرْشدَ اللهُ عزَّ وجلَّ الوالدات المطلَّقاتِ إلى أن يرضعنَ أولادهنَّ؛ ذكورًا كانوا أو إناثًا، مدَّة سنتيْنِ تامَّتيْن، إنْ كان كلٌّ من الأب والأم، أو أحدهما يَنشُد كمالَ الرَّضاعة
.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا.
أي: على الوالدِ أن يدفعَ لأُمِّ أولاده ما يَقوتُها من الطَّعام، وما يكسوها من الملبسِ بما يجب لمثلِها على مِثله، ومن غير إسرافٍ أو إقتار، والله تعالى يعلم الغَنيَّ والفقير ومُتوسِّط الحال من خلقِه، ولا يُوجِب على الرِّجال من النفقة إلَّا ما أطاقوه ووجدوا إليه سبيلًا .
قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 6-7] .
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: لَا تُضَارَّ قراءتان:
1- لَا تُضَارُّ على أنَّها خبرٌ يُفيد النهيَ المتقرِّر، وهو أبلغُ من مجرَّد النهي .
2- لَا تُضَارَّ أي على أنَّها نهي .
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا.
أي: يحرُمُ على الأُمِّ الإضرار بالأب، كأنْ تأبى إرْضاعَ مولودها، أو تطلُبَ أكثرَ من أجْرِ مِثلِها، ولا يَحِلُّ للأب أيضًا الإضرارُ بالأُمِّ، كأنْ يَنزِعَ الولدَ من أمِّه، مع رغبتِها في إرضاعه .
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ.
أي: ويحرُمُ على الأب أيضًا الإضرارُ بالأُمِّ، كأنْ ينزِعَ الولدَ من أمِّه، مع رغبتها في إرضاعه، ولا يَحِلُّ للأمِّ أيضًا الإضرارُ بالأب، كأنْ تأبى إرْضاعَ مولودها، أو تطلُبَ أكثرَ من أجْرِ مِثلِها .
وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ.
أي: إنَّ على وارث الطِّفل الذي مات أبوه، مِثلَ ما على الأبِ من النَّفقة والكُسوة لوالدته، وعدم الإضرار بها .
فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.
أي: إذا أراد والدُ المولودِ ووالدتُه فِطامَه عن الرَّضاعة، إذا رَأَيَا ذلك قبل انقضاء نهايةِ عامَيِ الرَّضاعة وبعد وقوع تَراضٍ منهما وتشاورٍ ونظَر؛ هل في ذلك مصلحةٌ لمولودهما أم لا- فلا حرجَ حينئذٍ في ذلك ولا إثم .
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
أي: إذا أردتم أن تطلُبوا لأولادكم مرضعاتٍ غيرَ أمهاِتهم، على غير قصْد الإضرار بهنَّ، وإنَّما لأسبابٍ تدعو لذلك، كأن تعترضَ الأمُّ على أجرة إرضاع ولدها، ويمتنع الرجلُ من دفْع ما تطلبه، فتمتنع من إرضاعه، فلا حرجَ حينئذٍ ولا إثم على الوالدين في ذلك، إذا دفَع الوالد أجرةَ الرَّضاعة المتَّفقَ عليها للمرضعةِ فأوفاها حقَّها من غير نقصٍ ولا مماطلة .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: امتثِلوا ما أمَرَكم الله تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك تلك الحقوق المذكورة في الآيات السَّابقة المتعلِّقة بالأزواج وأولادهم؛ وليكن معلومًا لديكم، علمًا يقينيًّا أنَّ الله تعالى لا يَخفى عليه شيء، فهو يراكم وينظُر ماذا تعملون، فيحفظ أعمالَكم ويُجازيكم عليها؛ فلْيَحذَر العبدُ من أن يراه ربُّه ومولاه حيث نهاه، أو يفقده حيثُ أمره ووصَّاه .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى عدَّة الطلاق وما اتَّصل بذلك من أحكام الإرضاع عقبَ الطَّلاق، أردفَ ذلك ببيان عدَّة الوفاة، فقال سبحانه :
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
أي: إذا تُوفِّي الزَّوج، فيجبُ على زوجته أن تَعتدَّ من بعده، فتَمكُثَ حابسةً نفْسَها عن الزَّواج مُدَّةَ أربعة أشهر وعَشرةَ أيَّام .
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
أي: إذا انقضت مدَّة عدَّة المرأة المتوفَّى عنها زوجها، فلا حرج على أوليائها فيما تفعله في نفسها من تزيُّن وتطيُّب ونِكاح حلال، وغير ذلك ممَّا أباحه الله تعالى لها .
وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى عالِمٌ ببواطنكم، ومطَّلعٌ على حقائق أعمالكم؛ فأقِيمُوا أحكامه ولا تخالفوها، فإنَّه مجازيكم عليها .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا تضمَّنتِ الآياتُ السابقة أحكامَ عِدَّة الطلاق وعِدَّة الوفاة، وعُلِم من الآيات أنَّ التزوُّج في مدة الأجَل حرام، ولَمَّا كان التحدُّث في التزوُّج إنما يَقصد منه المتحدِّث حصولُ الزَّواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خِطبة المعتدة ومواعدتها؛ حرصًا على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة، فبيَّنت الشريعة لهم تحريمَ ذلك، ورخَّصت في شيء منه؛ ولذلك قال تعالى :
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ.
أي: لا حرَج عليكم- أيُّها الرِّجالُ- أن تَذكُروا للنِّساء المعتدَّات من وفاة أزواجهنَّ في كلامِكم ما يُشير ويُلمِّح لهنَّ من غير تصريحٍ إلى الرغبة في الزواج بهنَّ، ولا حرجَ عليكم كذلك فيما انطوت عليه قلوبُكم أثناءَ عدَّتهنَّ، من عزم نكاحهنَّ .
عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا.
أي: علِم الله أنَّكم ستذكرون للمعتدَّات رغبتَكم في الزواج بهنَّ علانيةً بألسنتكم، أو تُضمِرون ذلك في أنفسكم؛ فأذِن لكم بذلك، ورفَع الحرج عنكم فيه، ونهى الله سبحانه عن التَّصريحِ لهنَّ بالرَّغبة في نِكاحهنَّ، ولكن أحلَّ لهم أن يُلمِّحوا إليهنَّ ويُشيروا فحسْبُ برغبتهم في نكاحهنَّ .
وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ.
أي: لا تقوموا بإجراء عقد النِّكاح على المعتدَّات حتى تنتهي عِدَّتهنَّ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ.
أي: ليكن معلومًا لديكم أنَّ الله عزَّ وجلَّ يعلم ما في أنفسكم من هواهنَّ، والرغبة في نكاحهنَّ، وغير ذلك، فكونوا على حيطةٍ من أن تخالفوا أحكامه في ذلك؛ فإنَّه مطَّلعٌ على ما في نفوسكم فلا تُضمِروا فيها نيَّة مخالفة لأمره تعالى، خوفًا من عقابه ورجاءً لثوابه .
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
أي: وليكن معلومًا لديكم كذلك بأنَّكم إن أضمرتم في أنفسكم ما لا يرضاه سبحانه فلا تيئسوا ولا تقنطوا، فإنَّ لديكم طريقًا لتصحيحِ الأمر، وهو طلب المغفرة منه سبحانه، فهو الذي يستر ذنوبَ عباده ويتجاوز عنها، ولا يعاجل عبادَه بالعقوبات على ذُنوبهم مع قدرته على ذلك، بل يمهلهم جلَّ وعلا .
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا جرَى الكلامُ في الآيات السَّابقةِ على الطلاقِ الذي تجِب فيه العِدَّة، وهو طلاقُ المدخول بهنَّ، عرَّج هنا على الطَّلاق الواقِع قبل الدُّخول، فقال سبحانه :
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً.
أي: لا حرجَ عليكم في طلاقِكم النساءَ بعد العقدِ عليهنَّ، وقبل أن تُجامعوهنَّ، وقبل أن تُوجِبوا لهنَّ مهرًا محدَّدًا .
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا كان في طلاقهنَّ قبل جِماعهنَّ، وقبلَ فرْض المهرِ لهنَّ، انكسارٌ لقلوبهنَّ، أمر الله تعالى أزواجهنَّ بتعويضهنَّ بشيءٍ يجبُر خواطرَهنَّ، فقال تعالى :
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
أي: أَعطوهنَّ- أيُّها الأزواجُ- ما يَتمتعْنَ به من أموالِكم، كلٌّ بحسَب قُدرته وأحوالِه غِنًى أو فقرًا، وبحسَب ما يتعارَف عليه الناس، من غيرِ أن تَظلموهنَّ، وجَعَل الله تعالى هذا الأمرَ أكثرَ تأكيدًا على المتَّصفين بالإحسان إلى أنفسهم وإلى الآخَرين .
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237).
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ.
أي: لا حرجَ ولا إثمَ عليكم- أيُّها النَّاس- إنْ طلَّقتُمُ النِّساء قَبلَ جماعِهنَّ وقَدْ قدَّرتُم لهنَّ مهرًا، ولهنَّ في هذه الحالِ نِصفُ هذا المهر .
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.
أي: للنِّساءِ نِصفُ المهر في تلك الحال، إلَّا إذا عفونَ عنه لأزواجِهنَّ، فيكون لهم المهر كاملًا، (وذلك إنْ كُنَّ ممن يصحُّ عفوهنَّ) أو أنْ يعفوَ أزواجُهنَّ عن نِصف المهرِ الآخَر لنِسائهِم، فيكون لهنَّ المهرُ كاملًا، ورغَّب الله تعالى كلًّا من الأزواج والزَّوجات في العفو، بأنَّ مَن يعفو أقربُ للتقوى من الآخَر؛ لأنَّ مَن يعفو قد آثَر فِعل ما ندَبه الله تعالى إليه على هوى نَفْسِه، فهو لِمَا أوجبه الله عزَّ وجلَّ عليه أشدُّ امتثالًا، وِلِمَا نهاه أشد تجنُّبًا، وذلك هو القُرب من التَّقوى التي تَعني فِعلَ المأمور، واجتنابَ المحظور .
وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: لا ينبغي أن يترك الزوجانِ الإحسانَ إلى بعضِهم البعض، بإعطاءِ أحدهما للآخَر زيادةً على الحقِّ الواجب له، وذلك بالعفوِ والتسامُحِ عن بقيَّة المهر، فإنَّ الله تعالى يرى كلَّ عمل يصدُر من الناس، فمَن عفا فله أجره، والله تعالى يحفظ عملَه، ويُجازيه على إحسانه بفضله .
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238).
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى.
أي: يأمر الله تعالى بتعاهُد الصَّلوات المفروضة عمومًا بالمحافظة على مواظبة أدائها في أوقاتها، وحِفظ حدودها، والعناية بأدائها بشروطها وأركانها، وخصَّ الله تعالى من بينها بمزيدِ تأكيد، صلاة العصر .
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ الأحزابِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ملَأ اللهُ بُيوتَهم وقُبورَهم نارًا، شغَلونا عنِ الصَّلاةِ الوُسطى حتى غابَتِ الشمسُ )) .
وعن عبدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه، قال: ((حَبسَ المشركونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن صلاةِ العصرِ. حتى احمرَّتِ الشمسُ أوِ اصفرَّتْ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: شغلونا عن الصَّلاةِ الوُسطى صلاةِ العصرِ. ملأ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا أو قال حشا اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا )) .
وعن البَراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه، قال: ((نزلت هذه الآيةُ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ. فقرأناها ما شاء اللهُ، ثمَّ نسَخَها اللهُ، فنزلت: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فقال رجلٌ كان جالسًا عند شقيقٍ له: هي إذنْ صلاةُ العصرِ. فقال البراءُ: قد أخبرتُك كيف نزلتْ، وكيف نَسخَها اللهُ، واللهُ أعلمُ )) .
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ.
أي: أقيموا الصَّلاة، مواظبين على ذلك، ومداومين فيها على الخُشوع والطُّمأنينة والسُّكوت التامِّ عن سوى ما أمر الله تعالى به فيها من الذِّكر والقرآن .
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَرَ الله تعالى عبادَه بالمحافظة على الصَّلوات، والقيام بحدودِها، والمداومة عليها، ذَكَر الحال التي يَنشغلُ فيها المرءُ عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال الخوف، ولكنَّها ليست عذرًا في ترْك المحافظة على الصَّلوات، فقال سبحانه :
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا.
أي: إنْ خِفْتُم أن تُؤدُّوا صلاتَكم على تِلك الصِّفةِ الكاملة، فصَلُّوها على أيِّ حالٍ كنتم، سواء ماشينَ على أقدامِكم أو راكبين على دوابِّكم- ويلزم من ذلك أن يكونوا مستقبلي القِبلة وغير مستقبليها- فإنَّ ذلك يجزيكم حينئذٍ عن القيام قانتينَ .
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
أي: فإذا زال عنكم الخوف، فأقيموا صلاتكم على الصِّفة الكاملة كما علمكم الله من قبلُ، وتعليمُه إيَّاكم ما ينفعكم في دُنياكم وأُخراكم- ومن ذلك إقامة الصَّلاة بتمامها- نعمةٌ عظيمة تقتضي شُكرها بذكره سبحانه في الصَّلاة وغيرها .
قال سبحانه وتعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [النساء: 103] .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240).
الناسخ والمنسوخ:
جمهور المفسِّرين على أنَّ هذه الآية منسوخةٌ حكمًا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وقيل النفقة كذلك منسوخةٌ بآية المواريث .
فعن عبد الله بن الزُّبَير رضي الله عنهما، قال: ((قُلْتُ لعثمانَ بن عفَّان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا. قد نسخَتْها الآيةُ الأخرَى، فَلِمَ تَكْتُبُها؟ أَوْ تَدَعُها؟ قال: يا ابنَ أخي، لا أُغَيِّرُ شيئًا منه من مكانِه )) .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ.
أي: إنَّ الأزواج الذين يموتون ويتركون وراءهم زوجاتٍ، فعليهم أن يعهَدوا قبل وفاتهم لورثتهم بأن تمكث زوجاتهم في بيوتهم (أي بيوت الأزواج المتوفَّين) مدَّة عام كامل، يتمتَّعن فيه بالنفقة من أموالهم، والسُّكنى في منازلهم، دون أن يُخرِجَهنَّ أحدٌ منها .
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ.
أي: لا حرَج على أولياء الميِّت في خروجهنَّ وتركهنَّ الحدادَ على أزواجهنَّ بالتجمُّل والتطيُّب والتشوُّف للنكاح والتزوُّج، وغير ذلك ممَّا لا يخرج عن حدود الشَّرْع والعُرف .
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى لا يمنعُه شيءٌ من انتقامه ممَّن خالف أمْره وارتكب نهيه، ومن ذلك إخراج المتوفَّى عنها زوجُها من بيته قبل انقِضاء عامٍ، وهي راغبةٌ في المُكْثِ فيه، كما أنَّ ما شرَعه من أحكام في غاية الإتقان، وهي أحكام صادرة عن عزَّته، وحِكمته، فجعل لكلِّ أمر حُكمَه اللائق به .
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى متاعَ المتوفَّى عنهنَّ عقَّبه بذِكر متاعِ المطلَّقات؛ تأكيدًا للحُكم بالتكرير، وتعميمًا بعد تخصيصِ بعض أفراده، فقال تعالى :
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241).
أي: يجِب على الأزواج أن يُعطوا لمطلَّقاتهم ما يتمتَّعن به من كُسوة أو غيرها، بما يتعارف عليه النَّاس، من غير مخالفة لحدود الله تعالى، وهذا الأمر حقٌّ لهنَّ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على كل مطلِّقٍ لزوجته؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يجبُ عليه أن يكون متَّقيًا لله تعالى بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242).
أي: كما بيَّن الله عزَّ وجلَّ ما سبق من أحكام ووضَّحها غاية الإيضاح، يبيِّن لكم أيضًا سائر آياته وأحكامه بوضوحٍ تامٍّ حتى لا يبقى فيها خفاءٌ أو لبسٌ؛ لتفهموها وتعملوا بها

.
الفوائد التربويَّة :

1- أنَّه يَنبغي استعطافُ المخاطَب بما يَقتضي عطفَه على الشَّيء؛ لقوله تعالى: يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حيث أضاف الأولاد إلى المرضعاتِ
.
2- أنَّ وساوس القلوب لا يُؤاخَذ بها؛ لأنَّها ليست من الأعمال؛ لقوله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ .
3- مراعاة الأحوال في الأحكام؛ فيثبت في كل حال ما يناسبها؛ لقوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ .
4- أنَّ الأعمال تتفاضل؛ لقوله تعالى: أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ، ويلزم منه أنَّ النَّاس يتفاضلون في الإيمان؛ لأنَّ تفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ والأعمال من الإيمان .
5- أنَّه ينبغي للإنسانِ ألَّا ينسى الفضلَ مع إخوانه في معاملته؛ لقوله تعالى: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ .
6- سَعة رحمة الله عزَّ وجلَّ، وأن هذا الدين يسر؛ لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا؛ لأنَّ هذا من التيسير على العباد .
7- بيان نقْص الإنسان؛ لكون الأصل فيه الجَهل؛ حيث قال تعالى: كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ؛ فالأصل في الإنسان الجهل حتى يُعلِّمه الله عزَّ وجلَّ .
8- أنَّه ينبغي تأكيدُ الحقوق التي قد يتهاون النَّاس بها؛ لقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ .
9- أنَّه ينبغي ذِكرُ الأوصاف التي تحمل الإنسان على الامتثال فعلًا للمأمور، وتركًا للمحظور؛ لقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ؛ لأنَّ عدم القيام به مخالف للتقوى؛ والقيام به من التقوى

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- يُؤخذ من قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، ومن قوله سبحانه: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف: 15] أنَّ أقلَّ مدَّةٍ للحمل سِتَّة أشهر، وأنَّه يمكن وجود الولد بها
.
2- أنَّ الله عزَّ وجلَّ أرحمُ بخلقِه من الوالدة بولدها؛ لأنَّه أمرها أن ترضعَ مع أنَّ فطرتها، وما جُبِلت عليه تستلزم الإرضاعَ؛ وهذا لأنَّ رحمة الله أعظمُ من رحمة الأمِّ بولدها، ومثله قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء: 11] ؛ فلأنَّ الله أرحمُ بأولادنا منَّا، أوصانا فيهم .
3- عناية الله عزَّ وجلَّ بالرُّضَّع؛ لأنَّه لم يُبِح فطامَهم قبل الحولينِ إلَّا بعد التراضي بين الوالدة، والمولود له، والتشاور؛ قال الله تعالى: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا .
4- امتناع التكليف بما لا يُطاق؛ لقوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ؛ وهذه القاعدة دلَّ عليها القرآن في عدة مواضع؛ منها قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] .
5- في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ جاء في الأمن بـ(إذا)- التي تكون لِمَا يقَع غالبًا، وفي الخوف بـ(إنْ)- التي تكون لِمَا لا يقع غالبًا؛ بشارة للمسلمين بأنَّهم سيكون لهم النصر والأمن .
6- أنَّ المسؤولين عن النِّساء هم الرِّجال؛ لقوله تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ .
7- الردُّ على المفوِّضة- أهل التجهيل؛ وعلى أهل التحريف- الذين يسمُّون أنفسهم بأهل التأويل؛ لقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ؛ لأنَّ أهل التفويض يقولون: إن الله لم يُبيِّن ما أراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وأنها بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم معناها؛ وأهل التحريف يقولون: إنَّ الله لم يبيِّن المعنى المراد في آيات الصِّفات، وأحاديثها؛ وإنَّما وكَل ذلك إلى عقولنا؛ وإنَّما البيان بما ندركه نحن بعقولنا؛ فنقول: لو كان الأمر كما ذكرتم لكان الله سبحانه وتعالى يبيِّنه؛ فلما لم يبيِّن ما قلتم علم أنَّه ليس بمراد .
8- أنَّه لا يمكن أن يوجد في الشرع حكمٌ غير مبيَّن؛ لقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ .
9- الثَّناء على العقل، حيث جعله الله غاية لأمر محمود- وهو تبيين الآيات؛ والمراد عقل الرشد السالم من الشبهات، والشهوات، أي: الإرادات السيِّئة؛ لقوله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ
- خبَر في معنى الأمْر المؤكَّد؛ للمبالغة، وكامِلَيْنِ توكيدٌ كقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ؛ وإنَّما ذكر الكمال؛ لرفْع التوهُّم من أنَّه على مِثل قولهم: أقام فلان بمكانِ كذا حَولَينِ، وإنَّما أقام حولًا وبعضَ الآخَر؛ وذلك لقطع التنازُعِ بين الزوجين إذا تنازعَا في مدَّة الرَّضاع
.
- وفي قوله: أَوْلَادَهُنَّ تصريحٌ بالمفعول مع كونه معلومًا؛ إيماءً إلى أحقيَّة الوالدات بذلك، وإلى ترغيبهنَّ فيه؛ لأنَّ فيه تذكيرًا لهنَّ بداعي الحَنان والشَّفقة .
2- في قوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المولودُ له هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا ولم يعبِّر بلفظ الوالد، ولا بلفظ الأب؛ ليُعلم أنَّ الوالدات إنما وَلَدْنَ لهم؛ فالأولاد للآباء، يُنسَبون إليهم لا إلى الأُمَّهات؛ فكان عليهم أن يرزقوهنَّ ويكسوهنَّ إذا أرضعْنَ ولدهم، وللتنبيه على أنَّ الولدَ إنَّما يَلتحِقُ بالوالدِ؛ لكونه مولودًا على فِراشه، ولِمَا في ذلك من إعلامِ الأب ما منَحَ الله له وأعطاه، إذ اللام في (له)، معناها شبه التمليك .
3- في قوله: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ بناء الفِعل للمَفعولِ، وحذْف الفاعل؛ فيُفيد حذفُه عمومَ الفاعلين، كما يُفيد تنكيرُ نَفْس في سِياق النَّفْي عُمومَ المفعول الأوَّل لفِعل تُكَلَّفُ: وهو الأنفس المكلَّفة .
4- قوله: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ
- في قوله: فَإِنْ أَرَادَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْتِفات؛ فإنَّه خروجٌ من ضمير الغَيبة إلى الخطاب؛ لهزِّهم إلى الامتثال بما أمروا به. وفيه تكوين في الضمائر؛ فإنَّ أَرَادَا ضميرُ تثنية، و أَرَدْتُمْ ضمير جمْع، والمرادُ بهما الآباءُ والأمهاتُ أيضًا، وكأنَّه رَجَعَ بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولودِ له، ولكنَّه غَلَّب المذكَّرَ وهو المولودُ له، وإنْ كان مفردًا لفظًا .
- فِصَالًا: التنكيرُ للإيذان بأنَّه فصالٌ غير معتاد .
5- وفي هذه الجُمل الماضية أنواعٌ من عِلم البيان :
- فمنه: الفَصْل والوَصْل : أمَّا الفَصْل- وهو عدَم العطف- بين قوله: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ وقولِه: لَا تُضَارَّ؛ فلأن قوله: لا تضارَّ كالشَّرح للجملة قبلها؛ لأنَّه إذا لم تكلف النفس إلَّا طاقتها لم يقع ضرر، لا للوالدة ولا للمولود له. وكذلك أيضًا لم يعطف لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ على ما قبلها؛ لأنَّها مع ما بعدها تفسير لقوله بِالْمَعْرُوفِ.
وأمَّا الوصلُ -وهو العطفُ- بين قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ وقولِه: وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حُكمٌ ليس في الأخرى.
- والجملة الأولى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ: أبرزت في صورة المبتدأ والخبر، وجعل الخبر فعلًا؛ لأنَّ الإرضاع ممَّا يتجدَّد دائمًا.
- والجملة الثانية وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ..: أبرزت أيضًا في صورة المبتدأ والخبر، وجعل الخبر جارًّا ومجرورًا بلفظ: عَلَى الدالة على الاستعلاء والوجوب، فأكَّد بذلك مضمونَ الجُملة؛ لأنَّ من عادة المرء منْعَ ما في يده من المال، وإهمالَ ما يجب عليه من الحقوق، فأكَّد ذلك.
- وقدَّم الخَبر على سبيل الاعتناء به، وجاء الرِّزق مقدَّمًا على الكُسوة؛ لأنَّه الأهمُّ في بقاء الحياة، والمتكرِّر في كلِّ يومٍ.
- والجملة الثالثة لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا: أبرزت في صُورة الفِعل ومرفوعه، وأتَى بمرفوعه نكرةً؛ لأنَّه في سياق النفي، فيعم، ويتناول أولًا ما سِيق لأجله: وهو حُكم الوالدات في الإرضاع، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللَّذينِ للوالدات.
- والجملة الرابعة لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا: كالثالثة؛ لأنَّها في سياق النفي، فتعمُّ أيضًا، وهي كالشرح للجملة قبلها؛ لأنَّ النَّفْس إذا لم تُكلف إلَّا طاقتها لا يقع ضررٌ لا للوالدة ولا للمولود له، ولَمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارَّة أحد الزوجين الآخَر ممَّا يَتجدَّد كلَّ وقت، أتى بالجملتين فعليتين. ونبَّه على محلِّ الشفقة بقوله: بِوَلَدِهَا، فأضاف الولد إليها، وبقوله: بِوَلَدِهِ، فأضاف الولد إليه؛ وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق.
6- قوله: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيه إظهار في موضع الإضمار حيث كرَّر اسم اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لكونِه من جُملتين، فتكريره أفخمُ، وترديدُه في النُّفوس أعظمُ .
7- قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ... جاءت الآية بصيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد وُجِد وتمَّ؛ لتأكيد التربُّص؛ مُراعاةً لحقِّ الأزواج، وحِفظًا لقلوب الأقارب، واحتياطًا للنِّكاح .
8- قوله: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ
- فائدة عطْف الإكنان على التعريض في نفْي الجناح: أنَّ المراد التنبيه على أن العزم أمرٌ لا يمكن دفعُه ولا النهيُ عنه، ولأنَّ تكلم العازم بما عزَم عليه جِبلَّةٌ في البشر، لضَّعْف الصبر على الكتمان- بيَّن الله موضعَ الرُّخصة أنَّه الرحمة بالناس، مع الإبقاء على احترام حالة العِدَّة، وبيان عِلة هذا الترخيص، وأنه يرجِع إلى نفي الحرج .
- وأخَّر الإكنانَ في الذِّكر؛ للتنبيه على أنَّه أفضلُ وأبقَى، على ما للعِدَّة من حُرمة، مع التنبيه على أنَّه نادرٌ وقوعه، وخُولِف مقتضى الظاهر، حيث عطَف أَكْنَنتُمْ على عَرَّضْتُمْ وليس العكس؛ ليعلم السامع أنَّ هذه المخالفةَ ترمي إلى غرَض، فحصَل بتأخير ذِكر أَوْ أَكْنَنتُمْ فائدةٌ أخرى، وهي التمهيدُ لقوله: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، وجاء النَّظمُ بَديعًا مُعجِزًا .
9- قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ فيه تأكيد بذِكر العزم؛ مبالغةً في النَّهي عن عُقدة النِّكاح في العِدَّة؛ لأنَّ العَزم على الفِعل يتقدَّمه، فإذا نهى عنه كان عن الفِعل أشد نهيًا .
10- قوله: مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فيه كنايةٌ لطيفةٌ حسنة؛ حيث كنَّى تعالى بقوله: تَمَسُّوهُنَّ عن المجامعة، وفي هذا تأديبٌ للعِباد في اختيار أحسنِ الألفاظ فيما يَتخاطَبون به .
11- قوله: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيه تأكيدُ النهي بالتعبير بالنِّسيان؛ إذ النِّسيان ليس في الوُسع حتى يُنهى عنه، فالمقصود منه التَّرك .
12- في قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلهِ قَانِتين
- النَّقل مِن صِيغة افعلوا (احْفَظُوا) إلى صِيغة فاعِلوا (حَافِظُوا) الدالَّة على غاية العزيمة؛ للمبالغة في رِعاية العمل علمًا وهيئةً، ووقتًا وإقامة، بجميع ما يحصُل به أصلُه، ويتمُّ به عمله .
- قوله: وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى: فيه ذِكر الخاص بعدَ العامِّ؛ للتَّنبيه على فَضْلِ الخاصِّ على غيره من أفراد العام، وللتأكيد على المحافظة عليه خصوصًا .
13- قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
في الآية تفريع على قوله: وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ؛ للتنبيه على أنَّ حالة الخوف لا تكون عذرًا في ترك المحافظة على الصلوات، ولكنَّها عذر في ترك القيام لله قانتين، فأفاد هذا التفريع غرضين: أحدهما بصريح لفظه، والآخر بلازم معناه .
وفيه: إيراد الشرطيَّة الأولى بكلمة (إن) المفيدة لمشكوكية وقوع الخوف ونُدرته، وتصدير الشرطيَّة الثانية بكلمة (إذا) المنبئة عن تحقيق وقوع الأمْن وكثرته، مع الإيجاز في جواب الأُولى، والإطناب في جواب الثانية، وفيه مِن الجزالة ولُطف الاعتبار ما فيه؛ عِبرةً لأولي الأبصار .
14- قوله: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
اللام في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ لام الاستحقاق، والتعريف في (المطلَّقات) يُفيد الاستغراق، ويجوز أن تكون اللامُ للعهد .


=====


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (243 - 252)
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
غريب الكلمات:

يَقْبِضُ: يُضيِّق ويُمسِك، وقبْضُ اليَدِ على الشَّيءِ: جمعُها بعدَ تناوُله، وقَبضُها عنه: جمْعُها قبلَ تناوُله
.
الْمَلَأ: أشراف النَّاسِ ووجوههم .
بَسْطَةً: أي: سَعَةً؛ يقال: بسطت الشيء إذا كان مجموعًا: ففتحتَه ووسعتَه، وأصل (بسط): امتداد الشَّيء وسَعَته .
التَّابُوتُ: الصُّندوق والوِعاء، ومنه سُمِّي القَلب تابوت الحِكمة .
سَكِينَةٌ: طُمأنينة، وزوالٌ للرُّعب، وأصْل سَكَن: خلاف الاضطِرابِ والحرَكَة .
فَصَلَ: أي: خرَج .
بَرَزُوا: خرَجوا إلى الفَضاء والمتَّسع من الأرض، أصله: ظهور الشيء وبُدوُّه، ومنه سُمِّي الفضاء؛ لأنَّه ظاهرٌ وبادٍ غير خفي .
أَفْرِغ: اصْبُبْ علينا، كما يُفرَغ الدَّلوُ، أي: يُصبُّ ما فيه

.
المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى عن قصَّة الذين فرُّوا مِن دِيارهم وهم جموعٌ مكوَّنةٌ من آلاف الأشخاص، وقد كان فرارُهم خوفًا من نزول الموت بهم، إما لوباءٍ حلَّ في موطنِهم، أو لعدوٍّ هاجَمَهم في أرضهم، فأَماتَهم الله عزَّ وجلَّ جميعًا؛ معاملةً لهم بنَقيض قصدِهم، ثم أحياهم بعدَ مُدَّة من الزَّمن تفضلًا منه سبحانه وتعالى عليهم؛ فالله جلَّ جلاله صاحب الإحسان والإنعام على النَّاس كافَّةً، لكنَّ أكثرهم لا يُقابِلون ذلك الفضلَ بما يستحقُّه من شُكرٍ.
ثم أمَر الله عباده المؤمنين بقتال أعداء الدِّين لإعلاء كلمته سبحانه، وأنْ يَعْلَموا أنَّ الله سميع لأقوالهم، عليم بأحوالهم، وذلك مدعاةٌ لهم لأن يحذَروا من مخالفة أمره.
ورغَّب سبحانه وتعالى بعدَها في الإنفاق من المال الحلال؛ احتسابًا للأجْر، وطلبًا لمرضاة الله تعالى في أوجه الخير كالجهاد ونحوه، فإنَّ الله يُثِيب فاعل ذلك على عمله، ويزيده مرَّةً بعد مرَّة زيادات كثيرة، وحتى لا يتوهَّم متوهِّم أنَّ الإنفاق مدعاةٌ إلى الافتقار أخبر الله سبحانه أنَّه هو مَن يُوسِّع رِزق مَن يشاء من عباده، ويقبض الرزق عمَّن يشاء، فلْيُنفِقوا ولا يتخوَّفوا؛ فإليه سبحانه الرجوع يوم القيامة فيجازيهم على أعمالهم.
ثم يُخبِر تعالى عن قصَّة مِن قَصص بني إسرائيل جرَت أحداثها من بعد وفاة موسى عليه السَّلام، حيث اجتمع أشرافُهم ووجهاؤهم طالبينَ من أحد أنبيائهم أن يُعيِّن لهم مَلِكًا يُوحِّد أمرهم، ويُقاتلون جميعًا تحت لوائه أعداءَ الله تعالى، فسألهم نبيُّهم عليه السلام هل يتوقَّعون إنْ فرَض اللهُ عليهم القتالَ أن يَفُوا بما وعَدوا من القيام بالجهاد. فأجابوا بأنَّه لا شيء يحولُ بينهم وبين الجهاد في سبيل الله، وخاصة بعد أنْ أُخرجوا من ديارهم، وسُبي أبناؤهم، فلمَّا فرَض الله عليهم القتالَ لمْ يفوا بالوعد! بل أدْبروا ناكلينَ عن الجهاد إلَّا عددًا قليلًا منهم، والله تعالى يعلم مَن ظلم منهم، وأخلف وعده، وسيجازيه على ظلمه.
ثمَّ أعلمهم نبيُّهم أنَّ الله قد أجابهم إلى ما طلَبوا، وعيَّن لهم طالوتَ ملِكًا عليهم، وكان طالوت رجلًا من عامَّتهم، لا ينتمي إلى سِبط ملوكِ بني إسرائيل، فلم يُسلِّموا لما اختاره الله لهم! بل اعترضوا على ذلك فقالوا: كيف يكون ملِكًا علينا وهو دُوننا في الشَّرف، وهو مع ذلك ليس من أصحاب الأموال، كما هو حال الملوك؟! فأخبرهم نبيُّهم عليه السلام عند ذلك أنَّ الله هو الذي اختاره لهم، واختصَّه مِن بينهم، وأعطاه زيادةً في العِلم، وطولَ قامةٍ، وقوَّةً في الجسد، ثم إنَّ المُلك لله وحْده يؤتيه مَن يشاء، وهو سبحانه واسعُ الفضل والكرم، لا يخصُّ بكرمه شريفًا عن وضيع، أو غنيًّا عن فقير، عليمٌ بكلِّ شيء، ومن ذلك عِلمُه بمَن يصلُح للمُلك من غيره.
وقال لهم نبيُّهم أيضًا: إنَّ العلَامةَ الدالَّة على صحَّة تنصيبِ طالوت ملكًا عليهم هي أن يُردَّ إليهم التابوتُ الذي سُلِب منهم، فتطمئنَّ به قلوبهم، وحاويًا ما يُهدِّئ نفوسهم، وممَّا يحويه أشياء تبقَّت من تَرِكة موسى وهارون عليهما السلام، يحمل هذا التابوتَ إليهم الملائكةُ عليهم السَّلام، وإنَّ في هذا الأمر لعلامةً واضحة لكم على اختيار الله لطالوت؛ ليكونَ ملِكًا عليكم، إنْ كنتم مؤمنين بالله، ومصدِّقين لما أخبرتكم به.
فلمَّا أَذعنوا أخيرًا لِمُلْك طالوت عليهم بعد أنْ جاءهم التابوت، انضمُّوا إليه لقتال عدوِّهم، فلمَّا جاوَزوا موطنهم في طريقهم إلى ملاقاة العدوِّ، أعلمهم طالوت أنَّ الله مختبرُهم بنَهَرٍ؛ ليُظهِر الكاذب من الصادق، ويتميَّز الصابر من الجازع، وأَعلن طالوتُ براءتَه مِن كلِّ مَن يَشربُ منه، وأنَّه لن يَصحبَه مع الجيش إلى القِتال، وأنَّ مَن لم يَطْعَمه- إلَّا أن يَغترِفَ بكفِّه غرفةً واحدة- فإنَّه منه، فشَرِب معظمُهم، ولم يُطعِ الأمر إلا قليلٌ منهم ممَّن وفقهم الله تعالى وثبَّتهم.
فلمَّا تعدَّى طالوت النهر ومَن آمن معه، ممَّن أطاعوه فلم يشربوا من النهر أو شربوا غرفة واحدة- قال بعضُهم لَمَّا رأَوا من كثرة أعدائهم مقارنة بعددهم القليل: لا قُدرةَ لنا هذا اليوم بقتال جالوت وجنودِه؛ لكثرة عددِهم وعَتادهم، فحينها قال لهم الموقِنون برُجوعهم إلى الله تعالى: ما أكثرَ ما تغلبُ الجماعةُ القليلة الجماعةَ الكثيرة! وذلك بمشيئة الله عزَّ وجلَّ؛ فلا تفيد الكثرةُ مَن خَذَله الله، ولا تضرُّ القِلَّةُ مَن وفَّقه الله، والله سبحانه مع الصَّابرين.
ولَمَّا ظهَر المؤمنون- طالوتُ وجُنوده- لجالوتَ وجُنودِه، دعا أهلُ الإيمان ربَّهم أن يُلهِمَهم الصَّبر، ويثبِّت أقدامَهم، وأنْ ينصرَهم على أهل الكفر، فاستجاب الله دُعاءَهم، وغلَب المؤمنون عدوَّهم، وسلَّط اللهُ داودَ عليه السلام على جالوت فقتله، وأعطا الله داودَ المُلكَ والنبوَّة وآتاه من العِلم ما يشاء سبحانه. ولولا أن الله يدفع بالمؤمنين المجاهدين في سبيله كيدَ الكفَّار والفجَّار لحلَّ بالأرض الفساد، ولكن الله ذو فضلٍ واسع على جميع خلقه.
تفسير الآيات:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ذَكَر هذه القصة؛ لأنَّها من عظيم آياته، وبدائِع قدرته، فقال جلَّ وعلا
:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.
أي: ألم تعلمْ يا محمَّد، خبرَ تلك الجموع المؤلَّفة من آلاف الأشخاص، الذين فرُّوا من دُورِهم وموطنِهم ابتغاءَ السَّلامة من الموت، إما حذرًا من إصابتهم بوباءٍ وقع في بلادهم، أو خوفًا من مقاتلة عدوٍّ يدهمهم في أرضهم .
فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ.
أي: أمَر الله تعالى أمرًا كونيًّا بأنْ يموتوا، فماتوا، ثم أحياهم اللهُ تعالى بعدَ مُدَّة، فقاموا، فهؤلاء لَمَّا فروا- إمَّا من الوباء، أو مِن مقاتلةِ الأعداء؛ طلبًا لطولِ الحياةِ والبقاء- عُومِلوا بنقيض ما قَصدوا، وجاءهم الموت جميعًا فحُصدوا، وفي هذا حثٌّ للمؤمنين على جِهاد الأعداء، بإعلامهم أنَّ إليه وحده الإماتةَ والإحياء، وأنَّ الفرار من القتال والبقاء في الدُّور للاختباء، ليس بمُنجٍ أحدًا من وقوع القَدَر والقضاء .
إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ.
أي: إنَّ الله تعالى هو صاحبُ الإحسان والإنعام على عموم النَّاس، ومِن ذلك تفضُّلُه عليهم ببيان آياته، وطريق إحياء أرواحهم بنور الهدى، ومنها إحياء أبدانهم بإنقاذهم من الموت والهلاك، وكان الواجب على النَّاس تقديم الشكر لله تعالى في مقابل تلك النِّعم، إلَّا أنَّ الصفة السَّائدة لديهم هي القيام بجحودِها، بالكفر، أو العصيان، أو الغفلة والنِّسيان .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ الموت لا يصون منه فرارٌ، أمرَ بالجهاد .
وأيضًا لَمَّا بيَّن تعالى بعض ما يتعلَّقُ بالنِّكاح من أحكام، ذكَر حُكم القِتال؛ لأنَّ النكاحَ تحصينٌ للدِّين، والقِتال تحصينٌ للدِّين والأرواح والأموال، فقال تعالى :
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244).
أي: كما أنَّ الحذر لا يُغني من القدْر، فكذلك الفرار من الجهاد وتجنُّبه لا يُقرِّب أجلًا، ولا يُباعِده، فقاتلوا- أيُّها المؤمنون- أعداءَ دِينكم؛ لإعلاء دين ربِّكم الذي هداكم له، واعلموا أنَّه لا يُفيدكم القعود عن القتال شيئًا، وإنْ ظننتم أنَّ في القعود بقاءَكم، فليس الأمر كذلك؛ فلا تجبُنوا عن لقائهم، وتقعُدوا عن حربِهم؛ فإن بيدي حياتَكم وموتَكم، فلا تخافوا الموت على أنفسكم، واشكروا الله تعالى بطاعة ربِّكم، واعلموا أنَّ الله عزَّ وجلَّ سميعٌ لأقوالكم؛ عليمٌ بأحوالكم؛ فاحذروا من المخالفة، وقوموا بما أوجب الله تعالى عليكم، فإنَّ الله سبحانه يُجازي كلًّا بعمله؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .
قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 168] .
وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 77-78] .
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا حثَّ الله عزَّ وجلَّ على القتال، حثَّ على الإنفاق؛ فإنَّ القِتال يَستدعي أموالًا لتجهيزِ الجيش بالعددِ والعَتاد ، فقال تعالى.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ قراءتان:
1- فَيُضَعِّفه، وتعني: المداومة وتكرير الفِعل، أي يستمر في المضاعفة مرَّةً بعد مرَّة .
2- فَيُضَاعِفه، وتعني: كثرة ما يُضاعف .
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
أي: هل ثمَّة أحدٌ يقتطع جزءًا من ماله الحلال، فينفقه احتسابًا للأجْر، وطلبًا لمرضاة الله تعالى، في أوجه الخيرِ كالجِهاد وغيره، طيِّبةً نفسُه بذلك، ودون أن يُتبع نفقتَه منًّا أو أذًى- فإنَّ الله تعالى لا يَقضيه مثله في الأجر وحسب؟ بل يَزيده الغنيُّ الكريم مرَّة بعد مرَّة، زياداتٍ كثيرة، قد تبلغ سبعمئة ضِعفٍ وتزيد .
كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 261-262] .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ينزلُ اللهُ في السَّماءِ الدنيا لِشطرِ الليلِ، أو لِثُلُثِ الليلِ الآخرِ، فيقولُ: مَن يدعوني فأَستجيبَ له! أو يسألُني فأُعطِيَه! ثم يقولُ:مَن يُقْرِضُ غيرَ عديمٍ ولا ظَلُومٍ ؟ )) .
وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا كان الإنسانُ ربَّما يتوهَّم أنَّه إذا أنفق افتقر؛ دفَع سبحانه هذا الوهم بقوله :
وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: يُضيِّق الله تعالى الرزق على مَن يشاء من عباده، ويُوسِّعه على مَن يشاء منهم، فالتصرُّف كلُّه بيديه، والأمور كلُّها راجعةٌ إليه؛ فالإمساكُ لا يبسط الرِّزق، والإنفاقُ لا يقبضه، فأنفِقوا- أيُّها العباد- ولا تُبالُوا؛ فالله هو الرزَّاق، وهو مع ذلك غير مضيِّع أعمالكم، بل تجدون ما قدَّمتموه مُوفَّرًا مُضاعَفًا، يوم ترجعون فيه إلى ربِّكم فيُجازيكم بأعمالِكم .
كما أنَّ اللهَ تعالى هو الذي قبَض الرِّزق عمَّن حثَّ على مَعونتِه وإعطائه؛ ليبتليَه بالصبر، وهو الذي بَسط على آخَر؛ ليمتحنه بعمله فيما بسط عليه، ويجازي يوم القيامة كل واحد منهما على قدر طاعتهما له سبحانه فيما ابتلاهما به، من غنًى وفاقةٍ، وسَعَةٍ وضيقٍ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَرَ سبحانه المؤمنين بالقتالِ في سبيله، بعد قِصَّة الذين خرَجوا من دِيارهم وهم ألوفٌ حذرَ الموت، أردْف ذلك بأنَّ القتال كان مطلوبًا ومشروعًا في الأمم السابقة، فكانتِ النفسُ أميلَ لقَبوله من التكليف الذي يقَعُ على انفراد، ولِيعلمَ المؤمنون حالَ وعاقبةَ مَن الْتزمَ أمْرَ الله تعالى بالقتال في سبيله، ومَن خالفه، فقال عزَّ وجلَّ :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أي: ألم تَنظُرْ يا محمَّد، إلى شأنَ أشراف بني إسرائيل ووجهائهم، من بعد وفاة موسى عليه السَّلام، حين طلبوا من أحد أنبيائهم أن يُعيِّن لهم ملِكًا يوحِّد أمْرهم على جهاد أعداء الله تعالى .
قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.
أي: قال النبيُّ الذي سألوه أنْ يبعث لهم ملكًا؛ ليُجاهدوا معه في سبيل الله: لعلَّكم تَجبُنون عن القِتال إذا فُرِض عليكم ؟
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا.
أي: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم: وأيُّ شيء يمنعنا من الجهاد في سبيل الله تعالى، وما الذي يبقى لنا إذا تركنا القتال، والحال أنَّنا مضطرُّون إليه؛ فالبلاد قد أُخذت، والأبناء قد سُبيَت، فما دام أنَّ الأمر قد بلغ هذا المبلغ فلا بدَّ حينئذٍ من إقامة الجهاد .
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أي: لَمَّا فُرِض عليهم قتال عدوِّهم ما وَفوا بما وَعدوا، بل أَدبر أكثرُهم ناكلينَ عن القتال، وضيَّعوا فرْضَ الجهاد الذي طلبوه ابتداءً من عند أنفسِهم، فجبنوا، واستولى على أكثرهم الضَّعفُ والخور، وبقِي منهم عددٌ قليل قد عصمهم الله تعالى وثبَّتهم، فالتزموا أمر الله عزَّ وجلَّ، والله سبحانه يَعلم مَن ظَلَم نفْسه منهم ومِن غيرهم، ممَّن أخلف وعْدَه، ونكص عن أمر ربِّه، واللهُ تعالى مجازيه على ظُلمه .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247).
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ.
أي: أخبَرهم نبيُّهم بأنَّ الله تعالى قد أجابهم إلى ما سألوا مِن بعث الملِك لمصلحتهم، يُقاتل ويقاتلون معه، فعيَّن لهم طالوت، وكان رجلًا من عامَّتهم، لا يَنتمي إلى السِّبط الذي فيه المُلْك، فكان الواجب عليهم قَبولَ مَن اختاره الله تعالى، والانقيادَ إليه، فأبوا إلَّا أن يعترِضوا، واستبعدوا مُلكه عليهم، فقالوا: كيف يكون ملكًا يسيطر علينا، وهو دُوننا في الشَّرف والنسب؟! فلماذا لم يأتِ الملِك منَّا، ونحن من سِبط الملوك فنحن أولى منه بذلك؟! ثمَّ هو مع هذا رجلٌ لا يمتلك الكثيرَ من الأموال كما هو شأن الملوك الآخرين !
قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ.
أي: لَمَّا اعتقدوا رأيًا فاسدًا، وهو أنَّ الملْك يتطلَّب شرف النَّسَب، وكثرة المال، ولم يدركوا الصِّفات الأساسيَّة المقدَّمة على هذين، قال لهم نبيُّهم: إنَّ الله اختاره لكم، واختصَّه من بينكم، والله أعلم به منكم، ولستُ أنا مَن عيَّنه من تلقاءِ نفسي، بل الله تعالى هو الذي عيَّنه لي لَمَّا طلبتم ذلك، فلزِمكم الانقيادُ إليه، وهو مع هذا قد أعطاه الله تعالى زيادة في العلم، الذي يمنحه حنكةً وقدرةً على تدبير الأمور، وأعطاه طول القامة وقوة الجسد اللَّذيْنِ يمنحانِه هيبةً وشجاعة، فتوفَّرت لديه الأسباب الحقيقيَّة لاستحقاق الملْك دون غيره، فبهاتين القوَّتين: القوة المعنويَّة: قوة العلم والرأي، والقوة الحسيَّة: قوة الجسد، تتمُّ أمور الملك وسياسة الرعية، وتكثر أموال المملكة، ويحصُل النصر على الأعداء، بإذن الله تعالى .
وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ المُلك لله تعالى وحده، وبيده دون غيره، يُؤتيه مَن يشاءُ بحسَب ما تقتضيه حِكمتُه، فيخصه به، فلا تستنكروا يا معشرَ الملأِ من بني إسرائيل أن يبعث الله طالوت ملكًا عليكم، وإنْ لم يكُن من أهل بيت المُلْك؛ فإنَّ المُلْك ليس بميراث عن الآباء والأجداد، ولكنَّه بإيتاءِ الله وحده، فلا تتخيَّروا على الله تعالى، فهو الحاكم الذي ما شاء فعل، ولا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون.
والله تعالى ذو سَعةٍ في جميع صفاته؛ ومن ذلك أنَّه واسعٌ في عِلمه، وواسعٌ في فضله، وكرمه؛ ومِن سَعة فضله أنَّه لا يخصُّ بكرمه شريفًا عن وضيع، أو غنيًّا عن فقير، وأنَّه يُنعم بالملْك حتى على مَن لم يكُن من بيت مُلك، وهو سبحانه واسع العلم، عليم بكلِّ شيء؛ ومِن ذلك علمه بمن يصلح للملْك من غيره .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248).
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ.
أي: إنَّ علامة صِحَّة تنصيبِ طالوت ملكًا عليكم، وإن كان من غير سبطِ ملوككم، هي أن يُردَّ إليكم الصُّندوق الذي سُلب منكم، فتطمئنَّ به قلوبكم ويحوي ما يُهدِّئ نفوسكم، وممَّا يحويه أشياء تبقَّت من تركةِ موسى وهارون عليهما السَّلام، قيل: منها بقيةٌ من آثار ألواح التوراة، تحوي العِلم والحِكمة، وميراث الأنبياء عليهم السلام، ويحمل هذا الصندوقَ إليهم ملائكةُ الربِّ عزَّ وجلَّ .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: إنَّ في رجوعِ التابوت إليكم كما وصفتُ لكم، علَامةً على اختيار الله تعالى لطالوت ملكًا عليكم، وستؤمنون بأنَّها دلالة صحيحة لكم على هذا الأمر، إن كنتم مؤمنين بالله تعالى حقًّا، ومصدِّقيَّ فيما أخبرتكم به .
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ (249).
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
أي: فلمَّا أتاهم التابوت كما أخبرهم نبيُّهم، فصدَّقوه وأذعَنوا لولاية طالوت، انضمُّوا إليه لقتال عدوِّهم، فلما سار طالوت بالجنود متجاوزًا موطنهم، وشاخصًا نحو موضع آخر، أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم بماء نَهَرٍ؛ ليتميَّز منهم الكاذب من الصادق، والصابر من الجازع، ويترتَّب عليه مَن يصحب الجيش حيث وجهته، ومَن يفارقه؛ لكونه ليس أهلًا للجهاد في سبيل الله تعالى، فأخبرهم بأنَّ مَن شرِب من هذا الماء فأنا منه بريء، وليس من أهل طاعتي وولايتي وهو بذلك عاصٍ، فلا يتبعنا لمعصيته وعدم ثباته، ومَن لم يذُقْ منه شيئًا سوى ما اغترفه بكفِّه مرَّةً واحدة، فليصحبنا، فإنَّه من أهل طاعتي وولايتي، فكانت نتيجة هذا الامتحان أنْ شرِب منه معظمُهم، ونكصوا عن قتال عدوِّهم، ولم يبقَ مع طالوت سوى عددٍ قليل قدِ الْتَزموا ما أمَرَهم به !
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: ((حدَّثني أصحابُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ممَّن شهِد بدرًا: أنهم كانوا عِدَّةَ أصحابِ طالوتَ، الذين جازوا معه النهرَ، بضعةَ عشرَ وثلاثمئةٍ. قال البراءُ: لا واللهِ ما جاوز معه النهرَ إلَّا مؤمنٌ )) .
فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ.
أي: فلمَّا تعدَّى طالوتُ النَّهرَ، ومَن معه مِن المؤمنين الذين أطاعوه، فلم يشرَبوا شيئًا من مائه، أو شرِبوا غرفةً واحدةً باليد، قال بعضهم لَمَّا شاهدوا قلَّتَهم وكثرةَ عدوِّهم: لا قدرةَ لنا في هذا اليوم بقتال جالوت وجنودِه؛ لكثرة عَددهم وعُددهم .
قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
أي: قال الذين يعلمون يقينًا أنهم راجعون إلى الله تعالى وملاقوه، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ منهم، قالوا مُطَمْئِنينَ مثبِّتينَ لباقيهم الذين قالوا: لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ: ما أكثرَ ما تغلبُ الجماعةُ القليلةُ الجماعةَ الكثيرة! وذلك بقدر الله تعالى وإرادته، فلا تُغنِي الكثرة مع خذلانِه، ولا تضرُّ القِلَّة مع توفيقِه، والله عزَّ وجلَّ مع الحابسين أنفسهم على رِضاه وطاعتِه، وتجنُّب معصيته، وتحمُّل أقداره، فيُعِينهم على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعاته، ويؤيِّدهم وينصرهم، ويُظهِرهم على أعدائهم الصادِّين عن دينه .
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250).
لَمَّا ظهر حزبُ الإيمان- طالوتُ وجنودُه- لجالوتَ وجنودِه، قالوا: ربَّنا أنزِلْ علينا صبرًا، واملأْ به قلوبنا، وقوِّها على جهادهم؛ لتثبتَ أقدامنا فلا تتزلزل فنجبُنَ ونفرَّ، وانصرنا على هؤلاء القوم الذين كفروا بك .
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ.
أي: فاستجاب لهم ربُّهم دعاءَهم، فغلَب طالوتُ وجنودُه عدوَّهم بقدَرِ الله تعالى وتوفيقه، وباشَر داودُ عليه السَّلام قتْلَ جالوت بنفْسه؛ لشجاعته وقوَّته وصبره، وأعطاه الله السلطان والنبوَّة، وعلَّمه ممَّا يشاؤه سبحانه، ومن ذلك تعليمه صَنعةَ الدروع، كما قال جلَّ وعلا: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 80] .
وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.
أي: لولا أنَّ الله تعالى يدفع بالمجاهدين في سبيله كيد الكفَّار والفجَّار، وإلا لفسَدت الأرض باستيلائهم عليها، وإقامتِهم شعائرَ الكفر ومظاهرَ الفِسق والفجور، ومنعهم من إظهار عِبادة الله تعالى وحده، فتحُلُّ بالأرض وأهلها العقوبات، ويَهلِك الحرثُ والنَّسل؛ فالله سبحانه صاحب الفضل الواسِع على جميع خلقه، ومِن ذلك أنْ شرَع لعباده الجهاد رحمةً بهم ولطفًا؛ إذ فيه سعادتهم، والمدافعة عنهم؛ لتمكينِهم من الأرض .
تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
أي: هذه الآيات التي أنبأتُك بها يا محمَّد هي علاماتٌ على الله تعالى وتوحيده، وحُجج ودلائل على الهدى، تأتيك بالواقع الذي كان عليه الأمرُ، المطابق لِمَا بأيدي أهل الكتاب من الحقِّ الذي يعلمه علماءُ بني إسرائيل؛ فهي أخبارٌ صادقةٌ لا ريبَ فيها؛ ولذا أكَّد الله تعالى لرسوله عليه الصَّلاة والسَّلام رسالتَه، التي مِن جملة أدلَّتها ما قصَّه الله عليه من أخبار الأمم الماضين التي لم يَعلمْها، إلَّا بعد إخبار الله تعالى له بذلك، فدلَّ هذا على أنَّه رسول الله حقًّا، ونبيُّه صدقًا

.
الفوائد التربويَّة :

1- الحثُّ على الإنفاق في سبيل الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافًا كَثِيرَةً؛ فالاستفهام هنا للحثِّ، والتشويق
.
2- إذا طلب الإنسان شيئًا من غيره فعليه أن يذكُرَ له ما يُشجِّعه على إجابة طلبه؛ لقولهم: نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فإن هذا يَبعثُ النبيَّ ويُشجِّعه على أن يبعث لهم الملك .
وينبغي كذلك اختيار الألفاظ التي يكون بها إقناع المخاطَب، وتسليمه للأمر الواقع؛ لقول نبيهم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ .
3- أنَّ الإنسان قد يظنُّ أنَّه يستطيع الصبر على ترك المحظور، أو القيام بالمأمور؛ فإذا ابتلي نكص؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ مع أنهم كانوا متحمِّسين للقتال .
4- أنَّ الإيمان مُوجِب للصبر، والتحمُّل؛ لقوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .
5- أنَّ الله عزَّ وجلَّ عند الابتلاء يرحَمُ الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ؛ لأنَّهم لا بدَّ أن يشربوا للنَّجاة من الموت .
6- أنَّ مَن صدَق اللُّجوءَ إلى الله، وأحسن الظنَّ به، أجاب الله دعاءه حيث قال المؤمنون: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فاستجاب الله تعالى دعاءهم فقال: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ.
7- إسناد الفضل إلى أهله؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ .
8- أنَّ المجيبَ يختار ما يكون به الإقناع بادئًا بالأهمِّ فالأهم؛ لقول نبيِّهم في جوابه: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ... إلخ؛ فبدأ بذكر ما لا جدالَ فيه -وهو اصطفاء الله عليهم- ثم ذكر بقيَّة المؤهلات: وهي أنَّ الله زاده بَسطةً في العِلم، وتدبير الأمَّة، والحروب، وغير ذلك، وأنَّ الله زاده بَسطةً في الجسم: ويشمل القوة، والطول... وأنَّ الله عزَّ وجلَّ هو الذي يُؤتِي مُلكَه مَن يشاء، وفعله هذا لا بدَّ وأن يكون مقرونًا بالحِكمة؛ فلولا أنَّ الحِكمةَ تَقتضي أن يكون طالوتُ هو الملِكَ ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ المُلْك، وأنَّ الله واسعٌ عليم؛ فهو ذو الفضل الذي يَمدُّه إلى مَن يشاء من عباده؛ فله أن يتفضَّل على مَن يشاء، وأنَّ الله أعلمُ حيث يَجعل رِسالتَه، وأعلمُ أيضًا حيث يجعل ولايتَه .
9- أنَّ مِن شأن الأمم الاختلافَ في اختيار الرئيس الذي يكون له المُلْك عليها، والاختلاف مدعاةٌ للتفرُّق، فيجب أن يكون هناك مرجِّح يقبله الجمهور من الأمَّة؛ لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيِّهم، وطلبوا منه أن يختار لهم رجلًا يكون ملِكًا عليهم، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا، وقد جعل الإسلامُ المرجِّحَ لاختيار إمام المسلمين مبايعةَ أُولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحَلِّ والعَقد والمكانة في الأمَّة، الذين هم عون السُّلطان، وقوَّته باحترام الأمَّة لهم، وثقتها بهم .
10- أنَّ اجتماع أهل الكلمة والحَلِّ والعقد، وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورُهم وفَهمه، ثم العمل به، من أكبرِ الأسباب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقَع لأولئك الملأ من بني إسرائيل، حين راجعوا نبيَّهم عليه السلام في تعيين مَلِك تجتمع به كلمتهم ويلمُّ متفرِّقهم، وتحصل له الطاعة منهم .
11- أنَّ الحقَّ كلَّما عُورِض وأُوردت عليه الشُّبه ازداد وضوحًا وتميَّز، وحصل به اليقين التامُّ كما جرى لهؤلاء؛ لَمَّا اعترضوا على استحقاق طالوت للمُلك أُجيبوا بأجوبةٍ حصَل بها الإقناع وزوال الشُّبه والريب .
12- أنَّ العلم والرأي مع القوة؛ بهما كمالُ الولايات، وبفَقْدهما أو فَقْد أحدهما نُقصانُها وضررها؛ لقوله تعالى: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ .
13- أنَّ الاتِّكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فكأنَّ نتيجةَ ذلك أنَّه لَمَّا كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ .
14- أنَّ من حِكمة الله تعالى تمييزَ الخبيث من الطيِّب، والصادق من الكاذب، والصابر من السَّاخط، وأنه لم يكن ليذرَ العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز .
15- أنَّ الإنسان إذا ازداد إيمانًا ازداد فهمًا لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ الشيء إذا عُلِّق على وصف، فإنَّه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلَّما تمَّ الإيمانُ كان انتفاعُ الإنسان بآيات الله أكثرَ، وفَهمُه لها أعظمَ؛ لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
16- أنَّ طاعة الجنود للقائد فيما يأمر به وينهَى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر .
17- أنَّ الإيمان بالله تعالى، والتَّصديق بلقائه من أعظمِ أسباب الصَّبر والثبات في مواقفِ الجِلاد؛ لقوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ... الآيةَ .
18- أنَّ القليل من النَّاس هم الذين يصبرون عند البلوى؛ لقوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ

.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّه لا فرارَ من قدَر الله؛ لقوله تعالى: حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا
.
2- في قوله تعالى: مُوتُوا إثبات أنَّ كلام الله سبحانه وتعالى بحروف مرتَّبة، وفيه ردٌّ على مَن قال: إنَّ كلام الله هو المعنى القائم بنفْسه .
3- أنَّه سبحانه وتعالى يَمدَح نفْسَه بما أنعم به على عباده؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ؛ فهو سبحانه وتعالى يحبُّ أن يُمدح، ويُحمَد؛ لأنَّ ذلك صِدقٌ، وحقٌّ؛ فإنَّه سبحانه وتعالى أحقُّ مَن يُثنَى عليه، وأحقُّ مَن يُحمَد؛ وهو سبحانه وتعالى يحبُّ الحقَّ .
4- أنَّ الجزاء على العمل مضمونٌ كضمان القرض لمقرضه، قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً .
5- أنَّ فضل الله وعطاءه واسع؛ وأنَّ جزاءه للمحسن جزاء فضل؛ لقوله تعالى: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً مع أنَّ أصْلِ توفيقه للعمل الصَّالح فضلٌ منه .
6- في قوله تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ إثباتُ صِفة القَبْض والبَسْط لله عزَّ وجلَّ .
7- الإشارة إلى أنَّ الإنفاق ليس هو سببَ الإقتار والفقر؛ لأنَّ ذِكر هذه الجملة وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ بعد الحثِّ على الإنفاق، يُشير إلى أنَّ الإنفاقَ لا يستلزمُ الإعدامَ، أو التضييق؛ لأنَّ الأمرَ بيد الله سبحانه وتعالى .
8- ترهيب المرء من المخالَفة، وترغيبه في طاعة الله؛ لقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّه راجع إلى ربه لا محالة فإنَّه لا بدَّ أن يكون فاعلًا لِمَا أُمِر به، تاركًا لما نُهِي عنه؛ لأنَّه يخاف من هذا الرجوع .
9- من الفوائد الاجتماعيَّة: أنَّ الأُمم التي تفسد أخلاقها وتضعُف، قد تفكِّر في المدافعة عند الحاجة إليها، وتعزم على القيام بها إذا توفَّرت شرائطها، التي يتخيَّلونها، ثم إذا توفَّرت الشروط يضعُفون ويجبنون، ويزعمون أنَّها غير كافية؛ ليعذروا أنفسهم وما هم بمعذورين، والله عليم بالظالمين، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ .
10- أنَّ مرتبة النبوَّة أعلى من مرتبة الملْك؛ لقولهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا يُخاطبون النبيَّ؛ فالنبيُّ له السُّلطة أن يبعث لهم ملِكًا يتولَّى أمورهم ويدبِّرهم .
11- أنَّ بعض الأسئلة تكون نَكبةً على السائل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة: 101] ، وذلك أنَّ بَني إسرائيلَ طلبوا مِن نبيِّهم أنْ يبعثَ لهم مَلِكًا يُقاتلون معه في سبيل الله تعالى، فلمَّا جاءَهم الملِكُ، وفُرِضَ عليهم القتالُ وقَعوا في الظُّلم بالنُّكوص والإعراض عنه.
12- أنَّ الله قد يُعطي المُلْكَ مَن لا يترقَّبه ، وذلك أنَّ طالوت لم يكُن من سلالة ملوكهم، ولم يكن يتشوَّف إلى المُلك، فاختاره الله تعالى له لأهليَّته لذلك.
13- أنَّ تقديرَ الله عزَّ وجلَّ فوق كلِّ تصوُّر؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ مع أنَّهم قدَحوا فيه من وجهين: أنَّهم أحقُّ بالمُلك منه، وأنَّه لا يَملك أموالًا كثيرة؛ فبيَّن لهم نبيُّهم أنَّ الله اصطفاه عليهم بما تَقتضيه الحِكمة .
14- أنَّ مُلك بني آدم ملكٌ لله؛ لقوله تعالى: وَاللهُ يُؤتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ؛ فهذا الملِك في مملكته هو في الحقيقة ما مَلَك إلَّا بإذن الله عزَّ وجلَّ؛ فالملْك لله سبحانه وتعالى وحده، يُؤتيه من يشاء .
15- أنَّ مُلكنا لِمَا نملكه ليس ملكًا مطلقًا نتصرف فيه كما نشاء؛ بل هو مقيَّدٌ بما أذِن الله به؛ ولهذا لا نتصرَّف فيما نملك إلَّا على حسَب ما شرَعه الله؛ فلو أراد الإنسان أن يتصرَّف في ملكه كما يشاء- يُتلِفه ويحرقه، ويعذِّبه إذا كان حيوانًا- فليس له ذلك؛ لأنَّ مُلْكَه تابعٌ لملْك الله سبحانه وتعالى، كما قال عزَّ وجلَّ: وَاللهُ يُؤتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ .
16- أنَّ من الحِكمة اختبارَ الجند؛ ليظهرَ مَن هو أهلٌ للقتال، ومَن ليس بأهلٍ له، كما قال تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة: 249] .
17- أنَّه يجبُ على القائد أن َيمنع مَن لا يصلُح للحرب، سواء كان مُخذِّلًا، أو مُرجِفًا، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ .
18- أنَّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام ليس عندهم من العلم إلَّا ما علَّمهم الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ؛ فالنبيُّ نفسه لا يعلم الغيب، ولا يعلم الشرع إلَّا ما آتاه الله سبحانه وتعالى؛ ومثل ذلك قول الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى... استفهام غرضُه التقرير، والتَّعجيب من شأنهم
.
2- قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً جملة استفهاميَّة متضمِّنة معنى الطَّلب، فهو استفهام مستعمَل في التحضيض والتهييج على الاتِّصاف بالخير .
3- وفي قوله: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا جناس مغاير ، وصِيغة المفاعلة في (فَيُضَاعِفَهُ)؛ للمبالغة .
4- قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
- فيه إيجازٌ بالحذف، والتقدير: فماتوا ثم أحياهم، والعطف بـ(ثم) يدلُّ على تراخي الإحياء عن الإماتة .
وفيه: طِباق بين الإماتة والإحياء ، وهو يُبرز المعنى ويوضِّحه.
5- قوله: إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ فيه الإظهار أَكْثَرَ النَّاسِ في موضِع الإضمار (أكثرهم)؛ ليكون أنصَّ على العموم، لئلَّا يدَّعي مدَّعٍ أنَّ المراد بالناس في الموضع الأوَّل أهلُ زمان ما، فيخصُّ الثاني أكثرهم، بل ليشملَ جميعَ النَّاس في أيِّ زمانٍ ومكانٍ كانوا .
وجملة إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ واقعة موقعَ التعليل لجملة ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، والمقصود منها بَعْثُ خُلُقِ الاعتماد على الله في نفوس المسلمين في جميع أمورهم، وأنَّهم إنْ شَكروا اللهَ على ما آتاهم من النِّعم، زادهم من فضلِه، ويسَّر لهم ما هو صعب .
6- قوله: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا مدلول (عسى) الإنشاء؛ لأنَّها للترجِّي أو للإِشفاق، ودخَلَتْ عليها (هل) التي تقتضي الاستفهامَ؛ لأنَّ الكلامَ محمولٌ على المعنى، أي: هل قارَبْتم ألَّا تقاتلوا، فأدخل (هل) مستفهِمًا عمَّا هو متوقَّعٌ عنده ومظنون .
7- قوله: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ استفهام، معناه الإنكار .
8- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فيه بيان لعِظم إخلالهم بأوامِر الله تعالى، حيث عبَّر عنهم بـ(الملأ)، وهم الأشراف، والإخلالُ من الشريف أقبح، ومِن أولاد الصلحاء أشنع، فقال: مِن بَنِي إِسْرَائيل. وممَّن تقرَّر له الدِّين، واتَّضحت له المعجزات، واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفْحَش، فقال مِن بَعْدِ مُوسَى أي الذي جاءهم بالآيات .
9- قوله: وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ
فيه تفصيلٌ بعد إجمال، حيثُ شرَع في تفصيل ما جرى بينه عليه السَّلامُ وبينهم من الأقوال والأفعال بعدَ الإشارةِ الإجماليَّة إلى مصير حالِهم .
وتكرار الفعل في: وَقَال؛ للدَّلالة على أنَّ كلامه هذا ليس من بقيَّة كلامه الأوَّل، بل هو حديثٌ آخَر متأخِّر عنه .
10- قوله: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا فيه تأكيد الخبر بـ(إنَّ)؛ للإيذان بأنَّ مِن شأنِ هذا الخبر أن يُتلقَّى بالاستغراب والشك، كما أنبأ عنه قولهم: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا .
11- قوله: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فيه ترتيب بليغ؛ إذ سألوا أولًا إفراغ الصَّبر في قلوبهم الذي هو ملاكُ الأمر، ثم سألوا ثباتَ القلب والقدَمِ في مداحِض الحرب، ثم سألوا النصرَ على العدوِّ المترتِّب عليهما غالبًا، والتعبيرُ عن منحهم الصبر بالإفراغ؛ للكَثرة مع التَّعميم والإحاطة .
12- قوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ
فيه تأكيد بإنَّ واللَّام؛ للاهتمامِ بهذا الخبر. وعبَّر بقوله: مِنَ المُرْسَلِينَ دون أن يقول: (وإنَّك لرسولُ الله)؛ للردِّ على المنكِرين بتذكيرهم أنَّه ما كان بِدعًا من الرُّسُل، وأنَّه أرسله كما أرسل مَن قَبْله .


========


سُورَةُ البَقَرَةِ
الآية (253)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
غريب الكلمات:

الْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالة الواضحة؛ يُقال: بانَ الشيءُ وأبان، إذا اتَّضح وانكَشَف
.
وَأَيَّدْنَاهُ: قوَّيناه، والأَيْد والأدُّ: القوَّة .
بِرُوحِ الْقُدُسِ: جِبريل، وأصْل القُدْس: الطَّهارة

.
المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى أنَّ الرُّسلَ الكِرام، ذَوي المراتب العالية، ليسوا كلُّهم على مَنزلةٍ واحدة في الفضائل؛ فقد جعَل اللهُ تعالى رُتَبَ بعضهم في الفضل مُتقدِّمةً على رُتب الآخرين؛ فمِنهم مَن اختصَّه الله عزَّ وجلَّ بكلامه، ومِنهم مَن رفَعه الله تعالى على غيرِه من الرُّسل درجاتٍ، كمحمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو أفضلُهم وأعلاهم درجةً، وأعطى اللهُ عيسى عليه السَّلام مِن البراهين القاطعة، والمعجزات الواضِحة، والإنجيلِ الذي أنزله عليه، ما يَدلُّ على صِدْق رِسالته، كما أنَّ الله تعالى قوَّاه وأعانه بجبريلَ عليه السَّلام.
ولو أراد الله تعالى لم يَتقاتَلِ الذين جاؤوا مِن بعدِ كلِّ رسول من الرُّسل عليهم السَّلام، مِن بعد أنْ أتاهم من آيات الله تعالى وبيِّناته ما يَدُلُّهم على الحقِّ، ويُبيِّن لهم طريقَه، ولكن ما أدَّى بهم إلى الاقتِتال فيما بينهم هو اختلافُهم في تلك البيِّنات التي جاءتهم؛ فمنهم مَن آمن، ومنهم مَن أعرض عنه وكَفَر، ولو أراد ربُّك أن يمنعَهم من الاقتتال بعِصمته وتوفيقه لَمَا اقتتَلوا ولا اختلَفوا، ولكنَّ إرادةَ الله هي النافذةُ، وهو يَفعل ما يشاء.
تفسير الآيات:

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
في مناسبة هذه الآية لما قَبْلها عدَّة أوجه:
فمنها: أنَّ الله تعالى لَمَّا أنبأ باختبار الرُّسل: (إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السَّلام)، وما عرَض لهم مع أقوامهم، وختَم ذلك بقوله: تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، جمَع ذلك كلَّه في قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ؛ لفتًا إلى العِبَر التي في قَصصِ هؤلاء الرُّسل عليهم السلام.
ومنها: أنَّه لَمَّا أُفيض القولُ في القتال، وفي الحثِّ على الجهاد، والاعتبار بقتال الأُمم الماضية - عَقَّب ذلك بأنَّه لو شاء اللهُ ما اختلَف الناسُ في أمرِ الدِّين من بعد ما جاءتهم البيِّناتُ، ولكنَّهم أساؤوا الفَهْم، فجحَدوا البيِّنات، فأفْضى بهم سوءُ فَهْمهم إلى اشتِطاط الخلاف بينهم، حتى أفضى إلى الاقتِتال
.
ومنها: أنَّه لَمَّا ذكَر اصطِفاءَه طالوتَ على بني إسرائيل، وتَفضيلَه لداودَ عليهم؛ بإيتائه الملك والحِكمة، وتعليمه، ثم خاطَب نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه من المرسَلين، وكان ظاهرُ اللَّفظ يَقتضي التسويةَ بين المرسَلين - بيَّن بأنَّ المرسَلين مُتفاضِلون أيضًا .
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ.
أي: إنَّ عمومَ الرُّسلِ الكرام، عليهم الصَّلاةُ والسلامُ، ذَوي المراتِب العَليَّة، ليسوا على منزلةٍ واحدة في الفضائل، بل مايَزَ اللهُ تعالى بينهم؛ فهُم مراتبُ مُتفاوِتة: فمنهم مَن اختصَّه الله تعالى بتكليمه مباشرةً؛ كموسى عليه السَّلام، ومنهم مَن رفَعه الله تعالى على غيره من الرُّسل درجاتٍ؛ كمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو أفْضلُهم، وأعلاهم درجةً .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء: 55] .
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
أي: أعْطى اللهُ تعالى عيسى عليه السَّلام- الذي هو ابنُ مريمَ عليها السَّلام- من الحُجَج القاطعة، والمعجِزات السَّاطعة، والإنجيل الذي أُنزِل إليه من ربِّه، ما يدلُّ على صِدْق رِسالته، وصحَّةِ ما جاء به، وقد أيَّده الله تعالى بجبريلَ عليه السلام؛ يُقوِّيه ويُعينه .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ.
أي: ولو أراد اللهُ تعالى أنْ لا يَقتَتِلَ أولئك الذين أَتَوا من بعد الرُّسل عليهم السَّلام، مِن بَعْد أنْ جاءهم مِن آيات الله تعالى ما يُوضِّح لهم الحقَّ، ويُرشِدهم إلى طريقِه- لو أراد الله تعالى أنْ لا يَقتتِلوا، ما اقتَتَلوا؛ فالأمرُ إليه وحْده جلَّ وعلا .
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
أي: ولكن السَّبب الذي أَوجَب قتالَهم هو اختلافُهم في تلك البيِّنات الموجِبة لاجتماعهم على الإيمان بالله تعالى ورُسله عليهم السَّلام؛ فمنهم مَن أقرَّ بالحقِّ مُصدِّقًا به، ومُنقادًا إليه، ومنهم مَن جحَده، وأَعرَض عنه مُتعمِّدًا ومُبتغيًا الكُفْرَ، بعدَ قيام الحُجَّة عليه .
وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
أي: ولو أراد الله عزَّ وجلَّ أن يَحجُزَهم عن القِتالِ بعِصمته وتوفيقِه، لَمَا اقتَتَلوا ولا اختَلَفوا؛ فكلُّ ذلك صادرٌ عن قضاء الله وقَدَره؛ فإرادتُه غالبة، ومشيئته نافذة، وهو سبحانه يَفعل ما اقتضتْه حِكمتُه، فيُوفِّق مَن يشاء فضلًا، ويَخذُل مَن يشاء عدلًا

.
الفوائد التربوية :

1- أنَّ فضْلَ الله يُؤتيه مَن يشاء، حتى خواصَّ عباده يُفضِّل بعضَهم على بعض؛ لأنَّ الرُّسل هم أعلى أصناف بني آدَم، ومع ذلك يقَع التفاضلُ بينهم بتفضيل الله تعالى، كما قال سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
.
2- أنَّ الفضائل مَراتِبُ ودرجاتٌ؛ لقوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وهذا يشمل الدَّرجاتِ الحسيَّة، والدَّرجاتِ المعنويَّة .
3- أنَّ البَشَر مهما بلَغوا من قوَّة، فهُم في حاجة إلى مَن يؤيِّدهم ويُقوِّيهم؛ لقوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ

.
الفوائد العلمية واللَّطائف:

1- أنَّ كلام الله للإنسان يُعَدُّ رِفْعةً له؛ لأنَّ الله تعالى ساق قولَه: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ على سبيلِ الثَّناء والمدح
.
2- الردُّ على النَّصارى في زعْمهم أنَّ عيسى إلهٌ؛ لقوله تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ: أي: قوَّيناه، ولازِمُ ذلك أنَّه يحتاج إلى تقوية، والذي يَحتاج إلى تقوية لا يَصلُح أنْ يكون ربًّا وإلهًا .
3- قوله تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ: إنَّما وصف عيسى بهذين- مع أنَّ سائر الرُّسل أُيِّدوا بالبيِّنات وبَرُوح القُدُس-؛ للردِّ على اليهود الذين أَنكَروا رسالتَه ومُعجِزاتِه، وللردِّ على النَّصارى الذين غَلَوا فزَعموا أُلوهيَّتَه، ولأجْل هذا ذُكِر معه اسمُ أُمِّه- مهما ذُكِر-؛ للتَّنبيه على أنَّ ابن الإنسان لا يكون إلهًا

.
بلاغة الآيات :

1- قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ الألف واللام في (الرُّسُل) للاستغراق، وجاءت الإشارة بـ(تلك) التي للبعيد؛ لبُعد ما بينهم وبيْن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الأزمان، أو قُرِن اسم الإشارة (تلك) بكاف البُعد؛ تنويهًا بمراتبهم، وللإيذانِ بعُلُوِّ طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم
.
2- قوله: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فيه إبهامُ ذِكر نبيِّ الله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، حيث عدَل عن التَّصريح بالاسم، أو بالوصف المشهور به؛ لتفخيمِ فضْله، وإعلاءِ قدْره، وللإشارة إلى أنَّه كأنَّه عَلَمٌ لا يَشتبِه، ومُتميِّز لا يَلتبِس، كما يُقال للرَّجل: مَن فعَل هذا؟ فيقول: أحدُكم أو بعضُكم، يريد به الذي تُعورِف واشتَهَر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخمَ من التصريح به، وأنوهَ بصاحبه .
3- قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
فيه التفاتٌ في قوله: كَلَّمَ اللهُ؛ إذ هو خروجٌ إلى ظاهرٍ غائب من ضمير مُتكلِّم؛ لِمَا في ذِكر هذا الاسم العظيم من التَّفخيم والتَّعظيم، ولزوال قَلَق تَكرار ضمير المتكلِّم؛ إذ كان يكون: فضَّلْنَا، و(كلَّمْنا)، و(رفَعْنا)، وآتَيْنا .
وفيه: تفصيلٌ بعدَ إجمال في قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
وفيه: ذِكرٌ للخاصِّ بعد العامِّ، مع المناسبة الحسَنة في هذا الخاصِّ، حيث خَصَّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذِّكر بعد قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ؛ وبَدَأ بوصف موسى؛ لأنَّ آياتِه أكثرُ، ولأنَّ أكثرَ السُّورة في بني إسرائيل، وأكثَر ذلك في أتْباعِ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وثنَّى بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّه النَّاسخ لشريعته، وهو آخِر أنبيائهم.
وفيه: إظهارُ الفضل لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه لا نِسبة لِمَا أُوْتِيَ أحدٌ من الأنبياء إلى ما أُوتِيَ، وإبهامه يَدُلُّ على ذلك، من حيث إنَّه إشارةٌ إلى أنَّ إبهامه في الظُّهور والجلاء كذِكْره؛ لأنَّ ما وُصِف به لا يَنصرِف إلَّا إليه .
وفيه: تَكرار، وتفصيل لِمَا أُجمِل من التَّفضيل؛ لأنَّ المفهوم من قوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هو المفهوم من قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وفائدة هذا التَّكرير وهذا التَّفصيل: أنَّ التَّفضيل الأوَّل يدلُّ على إثبات مُجرَّد تفضيل البعض على البعض، وأمَّا التَّفضيل الثاني ففيه دَلالةٌ على درجات ذلك التَّفضيل؛ فحصَل بهذا التَّكرار فائدةٌ زائدة .
4- قوله: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ... وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلِكَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فيه تَكرار؛ لتأكيد الكلام، ولتكذيب مَن زعَم أنَّهم فعَلوا ذلك الاقتتالَ من عند أنفُسهم، ولم يَجرِ به قضاءٌ ولا قدَرٌ من الله تعالى. والاستدراك بـ(لَكِن)؛ للتَّنبيه على أنَّ اختلافهم ذلِك ليس مُوجِبًا لعدمِ مشيئته تعالى لعدم اقتتالِهم .
ووراء التأكيدِ سرٌّ أخصُّ منه، وهو: أنَّ العرب متى ثبَت أوَّلُ كلامهم على مَقصِد، ثمَّ اعترضها مَقصِد آخَر، وأرادتِ الرُّجوعَ إلى الأوَّل، قصدَتْ ذِكرَه إمَّا بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم طريقٌ من الفصاحة مسلوك، وفي كتاب الله تعالى مواضِعُ في هذا المعنى، وهنا لَمَّا صُدِّر الكلامُ بأنَّ اقتِتالهم كان على وَفْق المشيئة، ثم طال الكلامُ وأُريدَ بيان أنَّ مشيئة الله تعالى كما نَفَذتْ في هذا الأمر الخاصِّ- وهو اقتتال هؤلاء- فهي نافذةٌ في كلِّ فِعْل واقِع، فطَرأَ ذِكْر تَعلُّق المشيئة بالاقتِتَال لإتيانِه بعدَ عُمومِ تَعلُّق المشيئة؛ لتَناسُب الكلام، وليُعرَف كلٌّ بشكله .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغَةِ على:
التَّقسيم: في قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ أي: منهم مَن كلَّمه بلا واسطة، ومنهم مَن كلَّمه بواسطة، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى، وفي: قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وهذا التقسيم ملفوظٌ به.
الحذف: في قوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ، أي: كفاحًا، وفي قوله: يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ؛ يعني: مِن هداية مَن شاء، وضلالة مَن شاء .
======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...