2.سورة البقرة {ج4.}
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (142-150)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
مشكل الإعراب:
قوله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً:
إنْ: هي المخفَّفة من الثقيلة، واسمها (ضمير الشأن) محذوف.
لكبيرةً: اللَّام للفَرْق بين إن المخفَّفة من الثقيلة وإن النافية. وكبيرةً: خبر كان منصوب، واسم كان ضميرٌ مستترٌ تقديره (هي)، دلَّ عليه ما قبله من الكلام، والتقدير: وإنْ كانت التوليةُ، أو الصلاةُ، أو القِبلةُ
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر اللهُ تعالى أنَّ الجاهلين من النَّاس من يهودٍ ومشركين ومنافقين- ممَّن لا يَعرِفون مصالح أنفسهم، بل يُضيعونها- سيتساءلون اعتراضًا- والرِّيبة تملأ قلوبَهم- عن السَّبب الذي صرَف المسلمين عن استقبال بيت المقدِس، فأمَر اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُجيبهم بأنَّ مُلك المشرق والمغرب وما بينهما هو لله سبحانه وتعالى وحْدَه؛ فله أن يأمُرَ باستقبال أيِّ جِهة أراد؛ فإنَّه يُوفِّق مَن يشاء إلى سلوك الطَّريق القويم في امتثال الأمر بالتوجُّه للكعبة وفي كلِّ ما يأمر به سبحانه.
ومِثلُ هذا التوفيق الذي وفَّقه الله تعالى أمَّةَ محمد صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى أفضل قِبلة، اختيارُ الله سبحانه وتعالى لهم ليكونوا أعدلَ الأُمم وخيرَها؛ ليشهدوا على بقيَّة الأمم التي تقدَّمتهم أنَّ أنبياءهم ورسلَهم أدَّوْا إليهم رسالة ربِّهم جلَّ وعلا، ويكون الرسولُ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ شهيدًا على صِدق هذه الأمَّة فيما أخبَرت به من ذلك.
ثم خاطَب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه إنَّما شرَع له استقبال بيت المقدس أولًا، ثمَّ نسخَه بالتوجُّه إلى الكعبة؛ امتحانًا؛ لكي يَعلمَ مَن يُطيع الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ممَّن يرتدُّ عن دِينه، وإنْ كان أمر تحويل القِبلة شاقًّا على النفوس وعظيمًا، إلَّا على مَن وفَّقه الله لطريق الهداية، ثم طمْأنَ الله سبحانه المؤمنين بأنَّه لا ينبغي له جلَّ وعلا أن يُضيع ثوابَ صلاتهم إلى بيت المقدِس، قبل تحويل القِبلة، بل هو محفوظٌ عنده عزَّ وجلَّ؛ فهو سبحانه عظيم الرحمة بالنَّاس.
ثم قال الله سبحانه لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّه رأى تلفُّتَه الكثيرَ ناحيةَ السَّماء وهو يقلِّبُ وجهَه في جِهاتها، يترقَّب وحيًا يُعلِمه بتحويل القِبلة، ثم أخبره تعالى أنَّه سيوجِّهه إلى قِبلةٍ يُحبها صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأمرَهُ أن يتوجَّه في صلاته إلى جهة الكعبة، وفي أيِّ موضع كانوا، فعليهم أن يَستقبلوا الكعبةَ عند إرادة الصَّلاة، وقد علِم اليهود والنَّصارى مِن خلال كتُبهم أنَّ استقبال الكعبة مِن قِبل النبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين حقٌّ مفروض من الله تعالى، والله سبحانه لا يَخفَى عليه أمرُ هؤلاء الذين يَعلمون الحقَّ ويُنكرونه ولا يَتَّبعونه.
ثم بيَّن الله سبحانه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ مدى تعنُّتِ اليهود والنَّصارى وتمسُّكهم بالباطل؛ فلئن جاءهم بكلِّ برهان، وأقام عليهم الحُجج على أنَّ الحقَّ هو ما جاء به من تحوُّل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فإنَّهم لن يتَّبعوه فيما جاء به، ولا هو صلَّى الله عليه وسلَّمَ بمُتابِعِهم على قِبلتهم؛ لتمسُّكه بشَرْع الله، ولا أحدَ منهم يهوديًّا كان أو نصرانيًّا بتابعٍ قِبلةَ الآخَر، ثم حذَّر اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّته تبَع له- مِن اتِّباع أهواء أهل الكتاب بعد أن اتَّضح لهم الحقُّ، فإنَّه إنْ فعَل سيكون معدودًا مع الذين ظَلموا أنفسهم.
ثم أخبَر تعالى أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى يَعرِفون النبيَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّه مُرسَلٌ من ربِّه، وأنَّ ما جاء به حقٌّ، ومنه التوجُّه إلى الكعبة، وذلك من خلال كتُبهم- معرفةً يقينيَّة كما يَعرِفون أبناءَهم؛ فلا يشتبهون عليهم بغَيرِهم، ومع ذلك فإنَّ طائفةً منهم يُخفون الحقَّ عمدًا، والحالُ أنَّهم يُوقِنون بصحَّته!
ثمَّ أعْلمَ الله سبحانه نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأن يَعلم أنَّ الحقَّ هو ما جاءَه من ربِّه، ونهاه أن يَتسرَّب إلى قلبِه شكٌّ فيه.
ثم أخبَر تعالى أنَّ لكل أهل مِلَّةٍ قِبلةً يتوجَّهون إليها في صلواتهم، سواء كانت هذه القِبلة ممَّا شرَعه الله لهم، أو كانت ممَّا ابتدعوه من تِلقاء أنفسهم.
وأمَر سبحانه المؤمنين أن يُبادروا ويُسارعوا إلى الطَّاعات، ومن ذلك استقبال القِبلة التي أمرَهم الله بالتوجُّه إليها، ولتَحْفيزِهم على المسارعةِ إلى الطاعات، وأخبَرهم سبحانه بأنَّه أينما كان موتُهم فإنَّ الله عزَّ وجلَّ سيجمعهم يوم القِيامة، فهو سبحانه لا يُعجِزه شيء؛ لأنه القادر على كلِّ شيء.
ثم أمَر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يَجعل الكعبة قِبلتَه أينما كان؛ فإنَّ ذلك هو الحقُّ الذي ليس فيه أدْنى شكٍّ، والله سبحانه ليس بساهٍ عن عمل أيِّ أحد، بل مطَّلعٌ على أعمال الجَميع، وسيُجازي أصحابَها بحسَبها.
ثم أعاد سبحانه الأمرَ لنبيِّه عليه الصَّلاة والسلام بأن تكون وِجهتُه في صلاته هي الكعبةَ أينما كان، وكذلك المؤمنون مأمورون بأن يَستقبلوا الكعبةَ في أيِّ موضع كانوا، وذلك التحويل قد وقَع؛ كيلا يحتجَّ اليهودُ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين بأنَّه ليس لهم عَيبُ دِينهم أو انتقاصُه، ما داموا قد وافقوهم في صلاتِهم نحو بيت المقدِس؛ فبهذا التحويلِ للقِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة تُدحَضُ تلك الحُجَّة، ولكن تبقى حُجَّةٌ باطلةٌ لمشرِكي قريش بأنَّ المؤمنين ما داموا قد عادُوا إلى قِبلتهم، فلا بدَّ أن يتَّبعوا أيضًا دِينهم.
فنهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن تُساورَهم خشيةٌ من هؤلاء الظَّلمة، أو مِن حُجَجهم الداحضة، وأمرهم بأن يُفردوه جلَّ وعلا وحْدَه بالخشية، فإنَّه لا يستحقُّها أحدٌ سواه.
ثمَّ أخبَر سبحانه أنَّ مِن أسباب تحويل القبلة، إتمامَ شرائع الدِّين للمؤمنين، ورجاءَ أن يمتثلوا أوامرَ الله، ويسلِّموا بها؛ فينالوا هدايتَه سبحانه.
تفسير الآيات:
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا تكرَّر في الآيات السابقةِ التنويهُ بإبراهيم عليه السلام وملَّته، والكعبةِ، وأنَّ مَن يرغب عنها قد سفِه نفْسه، فكانت مثارًا لأنْ يقول المشركون: ما ولَّى محمدًا وأتْباعَه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكَّةَ- أي: استقبال الكعبة- مع أنه يقول: إنَّه على مِلَّة إبراهيم، ويأبى اتِّباع اليهوديَّة والنصرانيَّة؛ فكَيف ترك قِبلةَ إبراهيم واستقبلَ بيت المقدس؟! وقد علم اللهُ تعالى ذلك منهم فأنبأَ رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بقولهم
.
سبب النُّزول:
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ صلَّى نحوَ بيت المقدِس سِتَّةَ عَشرَ، أو سبعةَ عَشرَ شهرًا، وكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يحبُّ أن يُوَجَّه إلى الكعبة، فأنزل الله قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فتوجَّه نحو الكعبة، وقال السفهاء من النَّاس- وهم اليهود -: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فصلَّى مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ رجلٌ، ثمَّ خرَج بعدما صلَّى، فمرَّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر نحوَ بيت المقدس، فقال: هو يَشهدُ أنَّه صلَّى مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأنَّه توجَّه نحوَ الكعبة، فتَحرَّف القومُ حتى توجَّهوا نحوَ الكعبة )) .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
أي: سيتساءل الجُهَّال وخِفاف العقول من النَّاس- وهم اليهود، وأهل النِّفاق، والمشركون- سيتساءلون عن المسلمين مُعترِضين، بحيرةٍ وارتياب: أيُّ شيء صرَفَهم عن التوجُّه إلى بيت المقدِس في صلاتهم؛ فحوَّلوا وجوههم عنه ؟!
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
أي: قلْ يا محمَّدُ، لهؤلاء المتسائلين: لله تعالى وحْده دون غيرِه مُلكُ المشرق والمغرب وما بينهما، فكلُّ الجِهات مخلوقةٌ ومملوكة له؛ فله أن يأمُرَ بالتوجُّه إلى أيِّ جِهةٍ شاء سبحانه .
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: إنَّ الله تعالى يُرشد ويوفِّق بحِكمته مَن يشاء مِن خَلْقه إلى الطَّريق القويم، وقد هدى اللهُ تعالى المؤمنين إلى قِبلة إبراهيمَ عليه السَّلام التي ضلَّ عنها غيرُهم .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (143).
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.
أي: مثل هذا الجَعْل الذي جعْلنا لكم، وهو هدايتُكم إلى أفضلِ قِبلة، جعلناكم أيضًا خيرَ الأمم وأعدلَها، وسطًا بيْن الإفراط والتفريط، وبين الغلوِّ والجَفاء .
كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] .
وعن معاويةَ بن حَيْدةَ القُشيريِّ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أنتُم تُوفُون سَبعينَ أُمَّةً، أنتُم خيرُها وأكرمُها على الله )) .
وعن أبي سَعيد الخُدريِّ رضي الله عنه، قال: ((قرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال: عدلًا)) .
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يجيء النبيُّ يومَ القيامة، ومعه الرَّجل، والنبيُّ ومعه الرَّجُلان، وأكثرُ مِن ذلك، فيُدعى قومُه، فيُقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا! فيُقال له: هل بلَّغتَ قومَك؟ فيقول: نعم، فيُقال له: مَن يَشهد لك؟ فيقول: محمَّد وأمَّتُه، فيُدْعَى وأُمَّته، فيُقال لهم: هل بلَّغ هذا قومَه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلمُكم؟ فيقولون: جاءَنا نبيُّنا، فأخبَرنا: أنَّ الرُّسل قد بلَّغوا، فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] قال: يقول: عدلًا ، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] )) .
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.
أي: جعَل الله تعالى هذه الأمَّةَ المحمديَّةَ خيرَ الأُمم وأعدَلَها؛ ليشهدوا على الأُمم الأخرى بأنَّ رُسلَهم وأنبياءَهم عليهم الصَّلاة والسلام قد بلَّغوهم رِسالة ربِّهم عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((يُدعَى نوحٌ يومَ القِيامة، فيقول: لبَّيْك وسَعديك يا ربِّ، فيقول: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعمْ، فيُقال لأمَّته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: مَن يشهد لك؟ فيقول: مُحمَّدٌ وأمَّتُه، فيَشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرَّسولُ عليكم شهيدًا؛ فذلك قولُه جلَّ ذِكرُه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، والوسط: العدْل )) .
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: ((مَرُّوا بجَنازةٍ فأثنَوْا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَجَبَتْ، ثم مَرُّوا بأخرَى فأثنَوا عليها شرًّا، فقال: وَجَبَتْ، فقال عُمَرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: ما وَجَبَتْ؟ قال: هذا أثنَيتُم عليه خيرًا، فوَجَبَتْ له الجنةُ، وهذا أثنَيتُم عليه شرًّا، فوَجَبَتْ له النارُ؛ أنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرضِ )) .
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
قيل: أي: يَشهد محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على صِدق الأمَّة فيما أخبَرت به عن تبليغ رُسُل الله تعالى رِسالتَه إلى أُممهم، وقيل: يَشهد محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه بلَّغ أمَّته رسالةَ ربِّه، وقيل: يشهد بأنَّهم آمنوا به وبما جاء به من عند الله عزَّ وجلَّ .
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
أي: إنَّما شرَعْنا لك يا محمَّد التوجُّه أولًا إلى بيت المقدِس، ثمَّ صرَفْنا هذه القِبلة عنك إلى الكَعبة؛ امتحانًا؛ لنعلم-عِلمًا تقوم به الحجة على العبد، ويترتَّب عليه الثوابُ والعِقاب- من سيطيعك فيستقبل معك حيثما توجَّهت، ممن يَرتدُّ عن دِينه .
وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ.
أي: وإن كان الشَّأْن أنَّ واقعة صرْفِنا لك يا محمَّد عن التوجه إلى بيت المقدس، وتوليتنا إيَّاك للكعبة، أمرٌ عظيمٌ، شاقٌّ، وثقيلٌ على النُّفوس، عدَا مَن أرشده الله تعالى للحقِّ، ووفَّقه للعمل به، فصَدَّق الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتأسَّى به في التحوُّل إلى الكعبة .
عن عبد الله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما، قال: ((بَيْنا النَّاسُ بقُباءٍ في صلاةِ الصُّبحِ، إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُنزِلَ عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يَستقبِلَ الكعبةَ، فاستقبِلوها، وكانتْ وجوهُهم إلى الشَّأمِ، فاستَداروا إلى الكَعبةِ )) .
وعن أنسٍ رضي الله عنه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان يُصلِّي نحو بيت المقدِس، فنزلت: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144] ، فمرَّ رجلٌ من بني سَلِمة وهم ركوعٌ في صلاة الفجر، وقد صلَّوا ركعةً، فنادى: ألَا إنَّ القِبلة قد حُوِّلت، فمالوا كما هم نحوَ القِبلة )) .
وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ.
سبب النُّزول:
عن البَراء رضي الله عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم صلَّى إلى بيت المقدِس ستَةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عَشرَ شهرًا، وكان يُعجبه أن تكونَ قِبلتُه قِبلَ البيت، وأنَّه صلَّى أوَّلَ صَلاةٍ صلَّاها صَلاةَ العَصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرج رجلٌ ممَّن كان صلَّى معه فمرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهدُ بالله لقدْ صليتُ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّمَ قِبَل مكةَ، فدارُوا كما هم قِبلَ البيت... وفيه: أنَّه ماتَ على القِبْلة قَبلَ أنْ تُحوَّلَ، رِجالٌ قُتِلوا، فلمْ نَدرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ )) .
وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ.
أي: إنَّ الله تعالى يقول عن نفسه بأنَّه لا ينبغي له أن يُضيع ثوابَ صلاتكم إلى بيت المقدس قَبل ذلك، بل هو محفوظٌ عنده سبحانه وتعالى .
إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى عظيم الرَّحمة بالنَّاس؛ ولذا لا يُمكن أن يُضيع أجرَ طاعة عمِلها عبادُه المؤمنون .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144).
سبب النُّزول:
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ صلَّى نحوَ بيت المَقدِس سِتَّة عشرَ أو سَبعةَ عشرَ شهرًا، وكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يحبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبة، فأنزل الله قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فتوجَّه نحو الكعبة، وقال السُّفهاء من النَّاس- وهم اليهود -: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فصلَّى مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ رجلٌ، ثم خرَج بعدما صلَّى، فمرَّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر نحوَ بيت المقدس، فقال: هو يَشهدُ أنَّه صلَّى مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّه توجَّه نحوَ الكعبة، فتحرَّف القوم حتى توجَّهوا نحوَ الكعبة )) .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ.
أي: يُؤكِّد الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ رُؤيتَه له وهو يتلفَّت محوِّلًا وجهَه في جِهات السماء؛ متلهِّفًا لنزول الوحي بخبَر تحويل القِبلة إلى الكعبة .
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا.
أي: فلنوجهنَّك يا محمَّد، إلى قِبلةٍ عظيمةٍ تطمئنُّ إليها، وتحبُّها، وتقبلها .
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: أقبِلْ ببدنِكَ، واصْرِفْ وجهَكَ لأجْل الصَّلاة، إلى جهةِ الكعبة من المسجد الحرام .
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
أي: وفي أيِّ موضعٍ وَجِهةٍ كنتم- أيُّها المؤمنون- فعليكم أن تستقبلوا الكعبةَ وتتوجَّهوا ناحيتَها عند إرادة الصَّلاة .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.
أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعلمون مِن كتُبهم أنَّ استقبال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين الكَعبةَ، أمرٌ حقٌّ، قد فرَضه الله سبحانه وتعالى .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَعْمَلُونَ قراءتان:
1- تَعْمَلُونَ بالخطاب .
2- يَعْمَلُونَ بالغيبة .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ الله تعالى ليس بساهٍ عمَّا يعمل هؤلاء الذين يَعلمون الحقَّ، ويُنكرونه ولا يَتَّبعونه؛ فما يَعملونه من سوءٍ محفوظٌ عند الله تعالى؛ ليعاقبَهم عليه، وبالضدِّ؛ يَحفَظ للمؤمنين امتثالَهم لأوامره، فيُجازيهم بذلك .
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145).
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ.
أي: والله لئن جِئتَ يا محمَّدُ، اليهودَ والنَّصارى بكلِّ برهان، وأقمتَ عليهم كلَّ حُجَّةٍ تُثبت أنَّ الحقَّ هو ما جِئتَهم به، من وجوب التحوُّل من قِبلة بيت المقدِس في الصَّلاة إلى التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام، فلن يَتركوا أهواءَهم، ويتَّبعوك في ذلك .
وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ.
يُنزِّه الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن متابعة قِبلة اليهود أو النَّصارى، ويُخبر عن شدَّة متابعتِه لِمَا أمره الله تعالى به؛ فكما أنَّهم مستمسِكون بأهوائهم، فلا اليهوديُّ يتَّبع قِبلة النصرانيِّ، ولا النصرانيُّ يتَّبع قِبلة اليهوديِّ، فهو أيضًا مستمسِكٌ بأمر الله واتِّباع مرضاته، ولا يتَّبع أهواءهم في جميع أحواله، كما أنَّه لا يُمكنه إرضاؤهم بحالٍ؛ لأنَّ الاختلاف فيما بينهم، واقع؛ ولذا فليس بغريبٍ منهم أنْ لا يتَّبعوا كذلك قِبلةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
وفي هذا تَسليةٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين، وتثبيتٌ لهم على الحقِّ، وإنْ خالفهم مَن خالفَهم، وقطْعُ أطماع أهل الكتاب من متابعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين لقِبلتهم .
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
حذَّر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّته تبعٌ له في ذلك- مِن اتِّباع أهواء اليهود والنَّصارى، بالتوجُّه نحوَ قِبلتهم من بعد مجيء الحقِّ بالتوجُّه قِبل الكعبة؛ فإنَّه إنْ فعَل ذلك فهو معدودٌ مع الظَّالمين أنفسَهم بتَرْك الحقِّ، واتِّباع الباطل .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146).
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعرِفون من توراتهم وإنجيلهم أنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ، وأنَّ ما جاء به- مِثل صِحَّة التوجُّه نحوَ الكعبة في الصَّلاة- حقٌّ؛ يعرفون ذلك عن يقين تامٍّ، يُماثل يقينَهم بأبنائهم؛ إذ لا يَشتبهون عليهم بغيرِهم .
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أي: ومع وضوح الحقِّ، وتيقُّن معرفتِه، إلَّا أنَّ طائفةً منهم يَكتُمون النَّاس عن عمْد، ما في كتُبهم من صِفة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وما جاء به من التوجُّه نحو الكعبة وهو الحق .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147).
أي: اعلمْ يا محمَّد، أنَّ الحقَّ وحده هو الذي جاءك من ربِّك، لا ما يقوله اليهود أو النَّصارى، أو غيرهم؛ فلا يحصُل لك أدنى تردُّدٍ وريبةٍ فيه .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148).
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في مُوَلِّيهَا قراءتان:
1- (مُوَلَّاهَا) بمعنى موجَّهٌ ومصروفٌ إليها .
2- (مُوَلِّيهَا) بمعنى متوجِّهٌ إليها ومستقبلها .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا.
أي: إنَّ لكلِّ أهل مِلَّةٍ قِبلةً يستقبلونها في صلاتهم، سواء كانت ممَّا ابتدعوه من تِلقاء أنفسهم، أو كانت ممَّا شرَع الله تعالى لهم .
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت توليتُهم وجوهَهم نحوَ القِبلة إنما هو لأجْل تزكيةِ النفس وخلاصِها، وكان ذلك لا يحصُل إلَّا بفعل الخير واجتنابِ الشرِّ؛ قال تعالى :
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
أي: بادِروا وسارعوا باغتِنام الطاعات، ومن ذلك استقبال القِبلة التي أمَر الله تعالى بها .
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بالمسابقةِ إلى الخيرات، وكان أقوى ما يَحثُّ النفوسَ على المسارعةِ إلى الخير، ويُنشِّطها: ما رتَّب الله عليها مِن الثوابِ؛ قال :
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
أي: يحثُّ الله تعالى عبادَه على المسارعة إلى الأعمال الصَّالحات قبل الممات، بإعلامهم أنَّ مرجعهم جميعًا إليه، وسيُحشَرون إليه من أي جِهة ماتوا فيها؛ فهو سبحانه القادِر الذي لا يُعجِزه ذلك، ولا أيُّ شيءٍ سواه .
كما قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا عَظُم في شأن القِبلة انتشارُ أقوال أهل الكتاب في تنويعِ شغبِهم وجدالِهم، وكانوا أهلَ عِلم وكتاب، وقد مرَّت لهم دهورٌ وهم موسومون بأنَّهم على صواب، فاشرأبَّ لذلك النِّفاق، ودارت رَحَى الباطِل والشِّقاق، كان الحال مقتضيًا لمزيد تأكيد لأمرها؛ تعظيمًا لشأنها، وتوهيةً لشُبه السُّفهاء فيها، فقال جلَّ وعلا :
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: ومِن أيِّ موضعٍ خرجتَ يا محمَّد، في سفرٍ كان أو غيره، فتوجَّهْ نحوَ الكعبة للصَّلاة .
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
أي: إنَّ توجُّهك نحو الكعبة يا محمَّد، حقٌّ ثابت لا شكَّ فيه .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ الله تعالى ليس بساهٍ عن عمَل أحد، بل هو مطَّلعٌ على الأعمال جميعِها، وسيُجازي صاحب كلِّ عملٍ بحسب ما قدَّمه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا تَقرَّر بما تكرَّر أنَّ تحويل القبلة فرضٌ في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ حتمٌ لا فتورَ عنه، ولا رُخصة فيه؛ إلَّا ما استُثني، أدْخل معه أمَّته؛ ليَعُمَّهم الحُكم، ورَبَأ بالمؤمنين عن أن يكون لأحدٍ عليهم حُجَّة؛ فقال :
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
أي: ومِن أيِّ موضعٍ خرجتَ يا محمَّد، في سفرٍ كان أو غيره، فتوجَّهْ نحوَ الكعبة للصَّلاة، وفي أيِّ موضعٍ وَجِهةٍ كنتم- أيُّها المؤمنون- فعليكم أيضًا أن تستقبلوا الكعبةَ وتتوجَّهوا ناحيتَها عند إرادة الصَّلاة .
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.
أي: حوَّلنا قِبلتَكم إلى الكَعبة؛ كي لا يحتجَّ اليهودُ عليكم قائلين: إنكم ما دُمتم قد وافقتمونا في قِبلتنا نحو بيت المقدس، فلِمَ تَعيبون دِينَنا، ولِـمَ لا تتبعون ملَّتَنا؟ لكن ستبقى حُجَّة الظالمين- وهم مشركو قريش- الذين يحتجُّون عليكم بالباطل قائلين: إنكم ما دُمتم قد عُدتم إلى قِبلتنا، فلا بدَّ أن تتَّبعوا دِيننا .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.
أي: لا تخشَوا هؤلاء الظلمةَ المتعنتين، ولا حُجَجهم الباطلة، وأفرِدوا الخشية لي؛ فإنِّي وحْدي المستحقُّ لذلك .
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ.
أي: شرَعت لكم استقبال الكعبة؛ لأُكمل لكم شرائعَ ملَّتكم الحَنيفيَّة .
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
أي: ومن أسباب تحويل القبلة إلى الكعبة أنْ ترجُوا بامتثال أوامر الله تعالى نيلَ هُداه، فتَعلموا الحق وتعملوا به؛ ابتغاءَ رِضاه
.
الفوائد التربويَّة:
1- تسلية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأصحابه رضِي الله عنهم، حيث أخبر الله تعالى أنَّه لن يَعترِض عليه في أمر تحويل القبلة إلَّا سفيهٌ؛ لقوله سبحانه: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
.
2- في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء...، الإخبار بقولهم قبل وقوعه، وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم، فإنَّ مفاجأة المكروه على النفس أشقُّ وأشدُّ، فالمرء يخبر بما يُتوقَّع حدوثُه؛ ليستعدَّ له .
3- أنَّ الله سبحانه يمتحِن العبادَ بالأحكام الشرعيَّة، إيجابًا، أو تحريمًا، أو غير ذلك؛ لقوله عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ؛ فليتنبَّه المرء لهذا .
4- أنَّ التقدُّمَ حقيقةً إنَّما يكون بتطبيق تعاليم الإسلام، وأنَّ الرجعيَّةَ حقيقةً إنَّما تكون بمخالفتها؛ لقوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ؛ فإنَّ هذا حقيقة الرجوع على غير هدًى؛ لأنَّ الذي ينقلب على عقبيه كالأعمى لا يُبصِر ما وراءه .
5- أنَّ امتثال بعض الأوامر الشرعيَّة، واجتناب بعض النواهي الشرعيَّة فيه مشقَّة على المكلَّفين، لكن بتمام الإيمان تزول هذه المشقَّة، وتكون سهلةً ويسيرة؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ .
6- مراعاة الشَّريعة اجتماعَ المسلمين على وِجهةٍ واحدة؛ لقوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ؛ فالمسلمون في جميع أنحاء العالم يتَّجهون إلى قِبلة واحدة .
7- وجوب الانقياد للحقِّ إذا ظهرت آياته؛ لقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ .
8- في قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إشارةٌ إلى أنَّ من عرف الله تعالى حقَّ معرفته، فمن المحال أن يرتدَّ، فإن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدُّ. قيل: إن الذي يقدَّر أنه معرفة، هو ظنٌّ متصوَّرٌ بصورة العلم، فأمَّا أن يحصل له العلم الحقيقيُّ ثم يعقبه الارتداد- فبعيد .
9- أنَّ الظلم، والعدل، وغير ذلك مقْرُونٌ بالأعمال لا بالأشخاص؛ فليس بيْن الله تعالى وبين أحدٍ من الخلق شيءٌ يُحابيه، ويُراعيه به؛ فكلُّ مَن خالفه فهو ظالم؛ لقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
10- بيان أنَّ العلم حقيقةً هو علمُ الشريعة؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ: فأتى بـــ(أل) المفيدة للكمال، ولا شكَّ أنَّ العلم الكامل الذي هو محلُّ الحمْد والثَّناء هو العِلم بالشَّريعة .
11- دلَّ قولُه تعالى: من بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ على أنَّ توجُّه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرِهم .
12- تحذير الأمَّة من اتِّباع أهواء غير المؤمنين؛ لقوله تعالى إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ فإذا كان الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُوصَف بالظلم لو اتَّبع أهواءَهم، فمَن دُونه مِن باب أَوْلى .
13- أنَّ كلَّ شيء خالَف ما جاء عن الله تعالى، فهو باطل؛ لقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ .
14- تَكرار الأمر الهام؛ لتثبيته والثبات عليه، ودفْع المعارضة فيه، وبيان أهميَّته؛ لأنَّه كلَّما كُرِّر كان مقتضاه أنَّ الأمر ثابتٌ مُحكَم يجب الثبوت عليه؛ وذلك لأنَّ الله تعالى كرَّر الأمر باستقبال القِبلة في عِدَّة آيات .
15- دفْع ملامة اللائمين ما أمكَن؛ لقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ .
16- أنَّ الظالم لا يَدفع ملامتَه شيء، بمعنى: أنَّه سيلوم وإنْ لم يكُن ثمَّة محلٌّ للوم؛ لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ إثبات عِلم الله تعالى بما سيكون، وتحقُّق وقوع ما أخبر به؛ لأنَّهم قالوا ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم سيقولونه
.
2- فضيلةُ هذه الأمَّة، حيث هداها اللهُ إلى استِقبال بيته الذي هو أوَّل بيت وُضِع للنَّاس .
3- فضْل هذه الأمَّة على جميع الأُمم؛ لقوله تعالى: وَسَطًا .
4- عَدالة هذه الأمَّة؛ لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ؛ والشهيد قولُه مقبولٌ .
5- أنَّ هذه الأمَّة تشهد على الأُمم يوم القيامة؛ لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ .
6- في قوله: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ دلالةٌ على أنَّ العمل من الإيمان، وهذا مذهب أهل السُّنة والجماعة؛ لأنَّ الله تعالى سمَّى الصَّلاة إيمانًا .
7- في قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، إثبات عُلوِّ الله تعالى؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان يُقلِّب وجهَه في السَّماء؛ لأنَّ الوحي يأتيه من السَّماء .
8- أنَّ النَّظر إلى السَّماء ليس سوءَ أدَبٍ مع الله؛ لقوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، لكن لا يَنبغي للمصلِّي أن يرفع بصرَه إلى السَّماء؛ لورود الوعيد الشَّديد به .
9- أنَّ الإنسان لا يُؤاخذ بالمخالفة إلَّا بعد قِيام الحُجة؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ .
10- التلطُّف في الخِطاب للرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لقوله تعالى: لَمِنَ الظَّالِمِينَ؛ فلو قُلت لرجل: أنت ظالم، لكان أشدَّ وقعًا من قولك له: أنت من الظالمين .
11- تقوية الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ على ما هو عليه من الحقِّ- وإنْ كتَمه أهل الكتاب-؛ لقوله تعالى: الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .
12- عِناية الله سبحانه وتعالى بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ بذِكره بالربوبيَّة الخاصَّة؛ لقوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ .
13- أنَّه قد يُنهَى عن الشيء مع استحالة وقوعه؛ لقوله تعالى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ؛ فإنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ لا يمكن أن يكونَ من الممترين .
14- عِناية الله سبحانه وتعالى بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ بالتثبيت؛ لأنَّ قوله تعالى له: الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يَقتضي ثباته عليه؛ وقوله تعالى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ يَقتضي استمرارَه على هذا الثَّبات، ولا شكَّ أنَّ في هذا من تأييد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتثبيتِه ما هو ظاهِر .
15- في قوله تعالى: عَمَّا تَعْمَلُونَ ردٌّ على الجَبريَّة بإضافة العَمل إلى الإنسان .
16- أنَّ تنفيذ أوامر الله، وخشيته سببٌ للهداية بنوعيها: هداية الإرشاد؛ وهداية التوفيق؛ لقوله تعالى: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
17- في قوله تعالى: ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إثبات حِكمة الله سبحانه وتعالى
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ
- فيه الإخبارُ بالشَّيء قبل وقوعه، وفائدتُه: توطين النفس، وإعداد الجواب، وإظهار المعجزة؛ فإنَّ مفاجأة المكروه أشدُّ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدَّمه من توطين النفس، وأنَّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردُّ لشغبِه
.
- وفي قوله: مِنَ النَّاسِ وصفَهم بهذا مع كونه معلومًا، وفائدتُه: التنبيه على بلوغهم الحدَّ الأقصى من السَّفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء؛ فإذا قُسم نوعُ الإنسان أصنافًا، كان هؤلاء صنفَ السُّفهاء، فيُفهم أنه لا سفيهَ غيرهم على وجهِ المبالغة .
2- قوله: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ استفهامٌ على جِهة الاستهزاء والتعجُّب، وهو مُستعمَل في التعريض بالتخطئة، واضطراب العقل .
3- في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
- جيء مع الشَّهادة بحَرْف الاستعلاء (على)، ولم يقل (لهم)؛ لأنَّ الشَّهيد كالرقيب والمهيمِن على المشهود له، وقيل: لتكونوا شهداءَ على النَّاس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار .
- وأُخِّرت صِلة الشَّهادة أولًا في قوله: شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وقُدِّمت آخرًا في قوله: عَلَيْكُمْ شَهِيدًا؛ لأنَّ الغرَض في الأوَّل إثباتُ شهادتهم على الأُمم، وفي الآخر اختصاصُهم بكون الرسول شهيدًا عليهم، فيكون من باب تقديم الأهمِّ؛ لأنَّ المنَّةَ عليهم في الجانبين: ففي الأوَّلِ بثبوت كونهم شهداءَ، وفي الثاني بثبوتِ كونهم مشهودًا لهم بالتزكية .
أو مِن باب الاتِّساع في الكلام للفَصاحة، وللاهتمام بتشريف أمْر هذه الأمَّة، حتى أنَّها تَشهَد على الأمم والرسل، وهي لا يَشهَد عليها إلَّا رسولُها، ولأنَّ شَهِيدًا أشبهُ بالفواصل والمقاطع من قوله: عَلَيْكُمْ، فكان قوله: شَهِيدًا، تمامَ الجملة، ومقطعها دون عليكم، وهذا من بدائع فصاحة القرآن .
4- قوله: إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ
- فيه تذييلٌ، فائدته: التأكيدُ على عدَم إضاعة إيمانهم، وإظهار المِنَّة، والتعليم بأنَّ الحُكم المنسوخ إنما يُلغَى العملُ به في المستقبل لا في ما مضى .
وذِكر اسم الجلالة من باب الإظهار في مقامِ الإضمار؛ للتَّعظيم .
وتقديم بِالنَّاسِ على متعلِّقه وهو لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ؛ للتنبيه على عِنايته بهم إيقاظًا لهم ليشكروه، مع مراعاة الفواصل أيضًا .
5- قوله: قَدْ نَرَى جيء بالمضارع مع (قد)- التي تكون للتكثير غالبًا إذا دخلت على المضارع؛ للدَّلالة على التجدُّد ، والقاعدة: أن (قد) إذا دخلت على المضارع المسنَد إلى اللهِ تعالى فهي للتحقيقِ دائمًا .
6- في قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا...
الفاء للتعقيب؛ لتأكيد الوعد بالصَّراحة بعد التمهيدِ بالكِناية في قوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ .
وفيه إضمار قَسَم باللام الموطِّئة للقَسَم؛ للمبالغة في التأكيد على وقوعِه؛ لأنَّ القَسَم يُؤكِّد مضمون الجملة المُقسَم عليها .
ومجيء الوعد قبل الأمْر؛ لفرح النفس بالإجابة، ثم بإنجاز الوعْد؛ فيتوالى السرورُ مرَّتين، ولأنَّ بلوغ المطلوب بعد الوعدِ به آنسُ في التوصُّل من مفاجأة وقوع المطلوب .
ونُكِّرت القِبلة؛ لأنَّه لم يَجرِ قبلها ما يَقتضي أن تكون معهودةً، فتُعرَّف بالألف واللام .
7- قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ خبرٌ مؤكَّدٌ بمؤكِّدين (إنَّ، واللام)؛ لينفي ما يتبادر من ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبالَ الكعبة أنَّهم أنكروه لاعتقادهم بطلانَه، وأنَّ المسلمين يظنُّونهم معتقدين ذلك، وليظهر موقعُ قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الذي هو تهديدٌ بالوعيد .
8- قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ خبرٌ متضمِّنٌ الوعيد، وفيه التِفاتٌ من الغيبة في قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ إلى الخِطاب في قوله: تَعملون؛ ووجهه: أنَّ في خِطابهم بأنَّ الله لا يغفل عن أعمالهم تحريكًا لهم بأنْ يعملوا بما علِموا من الحقِّ؛ لأنَّ المواجهة بالشيءِ تقتضي شدَّةَ الإنكار، وعِظَمَ الشَّيءِ الذَّي يُنْكَر .
9- في قوله: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ
أَفرد القِبلة في قوله: قِبْلَتَهُمْ، وإن كانت مثنَّاة؛ إذ لليهود قبلة، وللنَّصارى قبلة مغايرة لتلك القِبلة؛ لأنَّ كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحقِّ، فكانتَا بحُكم الاتَّحاد في البُطلان قبلةً واحدة ، وحسَّن ذلك المقابلةُ في اللفظ؛ لأنَّ قبْلَه ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ .
وفي هذه الجملة مبالغةٌ في النَّفي بعِدَّة مؤكِّدات، وهي: اسميَّة الجُملة، وتكرُّر الاسم فيها مرَّتين، وتأكيد النفي بالباء في قوله: بتابع .
10- قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
فيه: لُطفٌ للسامعين، وزيادةُ تحذير، واستفظاعٌ لحال مَن يترك الدَّليل بعد إنارته ويتَّبع الهوى، وتهييجٌ وإلهابٌ للثَّباتِ على الحقِّ؛ إذ قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ كلامٌ وارد على سبيل الفَرْض والتقدير .
وقيل: إنَّ ظاهر الخِطاب وإنْ كان مع الرسول إلا أنَّ المراد منه غيرُه، بغرضه ألَّا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحدٌ من الأمَّة، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصُل التباعد منه .
وقيل: تعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط، ويفهم من ذلك الاستحالة؛ لأنَّ المعلَّق على المستحيل مستحيلٌ. والمعنى: لا تُعَدُّ ظالمًا، ولا تكونه؛ لأنك لا تتَّبع أهواءهم .
وفيه: تأكيدُ التهديد، والمبالغة في هذا التحذير أيضًا، باشتمال مجموع الشَّرط والجزاء على عِدَّة مؤكِّدات، وهي: القَسَم المدلول عليه باللام، واللام الموطِّئة للقَسَم؛ لأنَّها تزيد القسم تأكيدًا، وحرف التوكيد في جملة الجزاء (إنَّ)، ولام الابتداء في خبرها، واسميَّة الجملة، وتركيبه من جُملةٍ فِعليَّة وجُملةٍ اسميَّة، وجَعْل حرف الشَّرْط الحرفَ الدالَّ على الشَّك، وهو (إِنْ)، والإتيان بـ(إذن) الدالَّة على الجزائية؛ فإنَّها أكَّدْت ربْط الجزاء بالشرط، والإجمال ثم التفصيل في قوله: مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ؛ فإنَّه يدلُّ على الاهتمامِ، وجعْل ما نزل عليه هو نفْسُ العلم.
والتعريف في الظَّالِمِين للدَّلالة على أنَّ هذا الوصف لهم سجيَّة ثابتة، وصيغة الجمع في الظَّالِمِينَ، ولم يقل: إنَّك ظالم؛ لأنَّ في الاندراج معهم إيهامًا بحصول أنواع الظلم، والتقييد بمجيء العلم؛ تعظيمًا للحق المعلوم، وتحريصًا على اقتفائه، وتحذيرًا عن متابعة الهوى، واستفظاعًا لصدور الذَّنب عن الأنبياء .
11- قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ فيه إضمارُ ما لم يَسبق له ذِكر (الرَّسول) ؛ لأنَّ الكلام يدلُّ عليه ولا يلتبس على السَّامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيمٌ وإشعارٌ بأنَّه لشُهرته وكونِه عَلَمًا معلومًا بغير إعلام .
أو هو مِن من باب الالتِفات؛ لأنَّه قال تعالى: قدْ نرى تقلُّب وجهك... فَلَنُولِّينَّك... فولِّ وجْهَكَ، ثم قال: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ...، فهذه كلُّها ضمائرُ خِطاب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم التفَت عن ضمير الخِطاب إلى ضمير الغَيبة، وحِكمته والله أعلم: أنَّه سبحانه لَمَّا فرغ من الإقبال عليه بالخطاب، أقبل على الناس فقال: الذين آتيناهم الكتاب واخترناهم لتحمُّل العلم والوحي، يَعرِفون هذا الذي خاطبناه في الآي السَّابقة وأمرناه ونهيناه، لا يَشكُّون في معرفته...إلخ .
12- قوله: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ظاهر لفظ (الأبناء) الاختصاص بالذُّكور؛ فيكونُ ذَكَرهم هنا؛ لأنَّهم أشهرُ وأعرف، وهم لصُحبة الآباء- مباشرةً ومعاشرةً- ألزم، وبقلوبهم ألْصق، ويحتمل أن يُراد بالأبناء: الأولاد (الذُّكور والإناث)، فيكون ذِكرُهم هنا مَن باب التَّغليب .
13- قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فيه مبالغةٌ وتأكيدٌ بالنَّهي عن كونه منهم؛ لأنَّه أبلغ من النهي عن نفْس الفِعل. لأنَّ (لا تمترِ) نهيٌ عن الالتباس بالامتراء. وقوله: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نهيٌ عن الكون بهذه الصِّفة، والنَّهيُ عن الكون على صِفةٍ، أبلغُ من النَّهي عن تِلك الصِّفة .
14- قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ:وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ وَ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...
فيه تَكريرٌ؛ لتأكيد أمْر القِبلة وتشديده؛ وفائدته: أنَّ النَّسخَ من مظانِّ الفِتنة والشبهة وتسويل الشَّيطان، والحاجة إلى التَّفصِلة بينه وبين البَداء ، فكرَّر عليهم؛ ليثبتوا ويعزموا ويجدُّوا، ولأنَّه نِيط بكلِّ واحد ما لم يُنَطْ بالآخر فاختلفت فوائدها. وأيضًا لَمَّا عظُم في شأن القبلة انتشارُ أقوال السفهاء وتنوُّع شَغَبِهم وجدالهم، كان الحال مقتضيًا لمزيدِ تأكيدٍ لأمرها؛ تعظيمًا لشأنها، وتوهيةً لشبههم، فحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيدٌ للحُكم؛ ليترتَّب عليه قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وأيضًا كرَّر هذا الحكم؛ لتعدُّد عِلله، فإنَّه تعالى ذكر للتحويل ثلاث عِلل: تعظيم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بابتغاء مرضاته، وجرْي العادة الإِلهية على أن يولي أهلَ كلِّ مِلَّة وصاحب دعوة وجهةً يستقبلها ويتميز بها، ودفْع حُجج المخالفين، وقرَن بكلِّ علة معلولها، كما يَقرن المدلول بكلِّ واحد من دلائله تقريبًا وتقريرًا، مع أنَّ القبلة لها شأن، وقيل غير ذلك في فائدة التَّكرار، كما أنَّ بعض العلماء قد ذكر في هذه الآيات مخصصاتٍ تُخرجها بذلك عن التأكيد
.
غريب الكلمات:
السُّفَهَاءُ: أي: الجُهَّال، والسَّفه: الجهل، وخِفَّة العقل، والضَّعْف والحُمق
.
وَلَّاهُمْ: صَرَفهم وحوَّلهم، وأصل الفِعل (ولي)، وإذا عُدِّي بـ(عن) اقتَضى معنى الإعراضِ والتركِ، وإذا عُدِّي بنَفْسه اقتَضَى معنى الولاية .
وَسَطًا: عدلًا خيارًا .
عَقِبَيْهِ: مثنَّى العقب: وهو مؤخَّر الرِّجل، وجمْعه: أَعقاب؛ يقال: انقلَب على عَقِبيه، مثل: رجع على حافرته، وارتدَّ على أدباره .
تَقَلُّبَ: التقلُّب: تحوُّل الشَّيءِ عن جِهته .
شَطْرَ: نحوَ، أو جِهَة .
الْمُمْتَرِينَ: المتردِّدين، من المِرية: وهي التردُّد في الأمْر، وهو أخصُّ من الشك .
مُوَلِّيهَا: مستقبِلُها .
فلا تَخْشَوْهُمْ: أي: فلا تخافوهم، والخَشْية: أكثر ما تكونُ عن عِلمٍ بما يُخشَى منه، وقيل: هي خوفٌ يشوبُه تعظيم .
======
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (151-157)
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
غريب الكلمات:
يُزَكِّيكُمْ: يطهِّركم، وأصل الزَّكاة: النَّماء والزِّيادة مع التَّطهيرِ
.
الْحِكْمَةَ: إصابة الحقِّ بالعلم والعقل، وأصل (حَكَم): المنْع، وأوَّل ذلك الحَكْم، وهو المنع من الظُّلم. والإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقَّق الشيء ويحصُل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنع جزءُ معناه لا جميع معناه. والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الجَهل، وقيل: المقصود بها هنا: السُّنة .
وَاشْكُرُوا لي: الشُّكر: ظهورُ أثَر نِعمة الله على لسانِ عبده: ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه: شهودًا ومحبَّةً، وعلى جوارحِه: انقيادًا وطاعةً، وأصلُه: الثناءُ على صانعِ المعروف، وهو ضدُّ الكُفر .
وَلَا تَكْفُرُونِ: الكُفْر: السِّتر والتَّغطية، وهو ضدُّ الشُّكر، وكُفر النِّعمة: ستْرُها بترك أداء شُكرها، ونسيانُها .
صَلواتٌ: أي: ثناء، وأصل الصَّلَاة: الدُّعاء
.
مشكل الإعراب:
قوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ:
أَمْوَاتٌ: خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: لا تقولوا: هم أمواتٌ.
بَلْ: حرف إضراب، وعطف.
أَحْيَاءٌ: أيضًا خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: بل هم أحياءٌ، وقد راعى لفظَ (مَنْ)- وهو الإفراد- مرةً فأفردَ في قولِه: يُقْتَلُ، وراعى معناها مرةً أخرى- وهو العموم- فجمَع في قولِه: أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ. وجملةُ (هم أموات) في محلِّ نصب بالقول وَلَا تَقُولُوا؛ لأنَّها محكيَّة به، وجملة (بل هم أحياء) تحتمل أن تكون ابتدائيَّةً فلا يكون لها محلٌّ من الإعراب، وتحتمل: أن يكون محلها النَّصب بقولٍ محذوف أي: (بل قولوا هم أحياء)، ولا يجوز أن تنتصبَ بالقول الأوَّل وَلَا تَقُولُوا؛ لفساد المعنى
.
المعنى الإجمالي :
حين أَخبَر تعالى أنَّ مِن أسباب تحويل القِبلة من بيت المقدِس إلى الكعبة إتمامَ نِعمته ببيان شرائع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام، أخبر تعالى أيضًا أنَّ تلك النِّعمة هي مِثل إنعامه من قبلُ بإرسال محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى العَربِ وهو منهم، يَعرِفون نَسبَهُ وأخلاقَهُ الفاضلة، فجاء إليهم ليقرأ عليهم القرآن، ويُطهِّرهم من أدران الشِّرك، وقذَر المعاصي، وسوء الأخلاق، ويوضِّح لهم معانيَ القرآن، ويَنشُر فيهم سُنَّته، ويُعلِّمهم أمورًا لم يكونوا يعلمونها من قبل، من الأخبار الماضية، أو الآتية، وكل ما لا تستقل بمعرفته العقول حيث لا سبيل إلى معرفته إلا من خلال الوحي، وأمر اللهُ عبادَه أنْ يذكروه عزَّ وجلَّ قولًا وعملًا، وسيكونُ جزاءُ ذلك أنْ يَذكُرهم سبحانه، وما أعظمَه من جزاء! كما أمرَهم جلَّ وعلا بشُكره على نِعمه، وعدم جُحودها.
ثم أمَر اللهُ عبادَهُ المؤمنين بالاستعانةِ في جميع أمورهم الدينيَّة والدنيويَّة بالصبر، وهو حبس النَّفْس وكفُّها عمَّا تكره، وأن يَستعينوا بالصَّلاة، مخبرًا سبحانه أنَّه مع الصَّابرين؛ معيَّةً خاصَّةً تَقتضي القُربَ منهم، ومحبَّتهم، ونَصْرهم وإعانتهم.
ونَهى سبحانه وتعالى عن القول الذي يُصاحبه اعتقادٌ بموتِ مَن يُقتلُ في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ، وأخبر أنَّهم أحياءٌ عند الله تعالى، يتمتَّعون فيها بنعيم الجنَّة، وإنْ كان النَّاسُ لا يَشعُرون بهذا الأمر.
ثمَّ أخبَر الله تعالى عبادَهُ المؤمنين أنَّه سيبتليهم بقليل من الخوف، والجوع، وذَهابِ بعضٍ من أموالهم، وموتِ بعضٍ منهم، وحُصولِ نقصٍ من ثمراتهم، وأمَر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يبشر الصَّابرين على الابتلاء، الذين يقولون عن يقينٍ جازمٍ عندما تُصيبهم المصيبة: إنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أي: إنَّهم مملكون للهِ، خاضِعون له، وسيَنتقلون إليه بعد موتهم، ومَصيرُهم بين يديه يومَ القيامة؛ ليجازيَ كلَّ شخصٍ بما عمِل، فأولئك الصَّابرون لهم من اللهِ عزَّ وجلَّ الثناءُ والتنويه بشأنهم، وتتنزَّل عليهم من ربِّهم سُبحانه الرَّحماتُ، وهؤلاء هم الذين أَرشدهم الله عزَّ وجلَّ للحقِّ، ووفَّقهم للعمل به.
تفسير الآيات:
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151).
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ.
أي: بيَّنَّا لكم شرائعَ ملَّة إبراهيم الحَنيفيَّة، فأمرْناكم باستقبال الكَعبة؛ نِعمةً من الله تعالى عليكم، مِثل ما أنعم عليكم أيضًا أوَّلَ مرَّة، بإرسال محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ منكم- أيُّها العربُ-؛ إذ يتحدَّث بلِسانكم، وتَعرِفون نَسبَه وخُلُقه؛ وذلك إجابةً لدعوة إبراهيمَ عليه السَّلام
.
وكان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربَّهُ قائلًا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] .
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.
أي: هذا الرَّسول الذي أنعمْنا عليكم بإرساله فيكم، أتَى ليقرأ عليكم القُرآن، ويُطهِّركم من دَنَس الشِّرك والكُفران، ورَذائل الأخلاق والعِصيان، ويبيِّن لكم السُّنَّة ومعاني كلامِ الرَّحمن .
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
أي: ويُنبِّئكم بأخبار مَن سلَف، وأخبار ما يأتي من الغُيوب .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152).
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
أي: عليكم بذِكري في مقابل تلك النعم التي تقدَّم ذكرها. وهذا الذِّكر المأمور به عامٌّ يَشمل ذِكر الله قولًا باللِّسان، وعملًا بالقلب وبالجوارح، ورتَّب الله عزَّ وجلَّ على هذا الذِّكر جزاءً عظيمًا، وهو أن يَذكُر هو سبحانَه مَن ذكَره .
فعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((يقول اللهُ تعالَى: أنا عندَ ظنِّ عَبْدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نفسِه ذَكرتُه في نفْسي، وإنْ ذَكَرَنِي في ملأٍ ذَكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((وما اجتَمعَ قومٌ في بيتِ مِن بيوتِ اللهِ، يتْلون كتابَ اللهِ، ويَتدارسونه بينهم، إلَّا نَزلتْ عليهم السَّكينةُ، وغَشِيتْهم الرحمةُ، وحفَّتْهم الملائكةُ، وذَكرَهم اللهُ فيمَن عِنده )) .
وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ.
أي: اشكُروني على ما مَنحتُكم من نِعمٍ باللِّسانِ وبالقلب والجوارح، ولا تجحدوا إحساني إليكم. ومن أعظمِ ذلك: نِعمةُ الإسلام، وإرسالُ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسلام، والهدايةُ إلى الشَّرائع الصَّحيحة، ومنها استقبالُ الكعبة الشريفة .
كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا فرَغ تعالى من بيان الأمر بالشُّكر، شَرَعَ في بيان الصَّبر، والإرشادِ إلى الاستعانة بالصَّبر والصَّلاة؛ فإنَّ العبدَ إمَّا أن يكونَ في نِعمةٍ فيَشكرَ عليها، وإمَّا في نِقمةٍ فيَصبرَ عليها فقال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ.
أي: يا مَعشرَ المؤمنين، عليكم بالْتزامِ الصَّبر وأداءِ الصَّلاة؛ فهُما عونٌ لكم على عظيمِ الأعمال. وذلك مِثل تحمُّل الطاعات كالقِتال في سبيل الله، وترْك المحظورات، وعلى ما يُصيب العبدَ من مصيبات .
إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
أي: إنَّه سبحانه وتعالى مع الصَّابرين معيَّةً خاصَّةً تَقتضي قُربَه منهم، ومحبَّتَه لهم، ونصْرهم وتأييدَهم، وإعانتهم .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154).
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ.
أي: ولا تقولوا: إنَّ مَن قُتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فهو ميِّت .
كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169 - 171] .
بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ.
أي: ليس الأمرُ كما ظننتم، فالحقُّ أنَّ الشُّهداءَ من بعد مقتلهم، وحتى قِيامِ السَّاعة، أحياءٌ عند الله تعالى، حياةً برزخيَّةً يتمتَّعون فيها في الجَنَّة، ويُصاحبهم الفرحُ العظيم بما أعطاهم الله تعالى من فضْله، ولكن لا يَشعُر النَّاسُ بهذا الأمر في الدُّنيا؛ فليس لديهم أيُّ إدراكٍ لرؤية ذلك، أو الشُّعور به .
عن مَسروق بن الأَجدع، قال: ((سألْنا عبدَ اللهِ (هو ابنُ مسعودٍ) عن هذه الآيةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قال: أمَا إنَّا سألْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرحُ من الجنةِ حيث شاءت، ثمَّ تأوي إلى تِلك القَناديلِ، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطَّلاعةً، فقال: هل تَشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشتهي، ونحن نسرحُ من الجنةِ حيثُ شِئْنا؟! ففَعَل ذلك بهم ثلاثَ مراتٍ، فلمَّا رأَوا أنَّهم لن يُترَكوا من أن يَسألوا، قالوا: يا ربِّ، نُريد أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا )) .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155).
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ.
أي: ولَنَختبرنَّكم بشَيءٍ يَسيرٍ يقَع في قلوبِكم من الخوف، وفي أَجسادِكم من الجُوع، ولَنَبتلينَّكم بذَهاب بعض أموالِكم، وموتِ بعضِكم، كأبنائِكم وأَهلِيكم وأقارِبكم، وحُصولِ النَّقْص في ثِمارِكم .
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
أي: أخبِر الصَّابرين يا محمَّد، خبرًا يَسرُّهم لم يسبقْ أنْ أخبَرهم به أحدٌ من قبلُ .
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156).
بيَّن سبحانه هنا مَن الصَّابرون الذين أمَر نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ ببِشارتهم، فأخبَر أنَّهم الذين يقولون- عن اعتقاد ويقين -: إنَّهم عبيدٌ مملوكون لله الذي له مُطلَق التصرُّف فيهم بحِكمته ورحمته، وإنَّهم منتقِلون من هذه الدُّنيا الفانية وممَّا فيها من مصائب، وصائِرون إليه وحْدَه يومَ المعاد، فيُجازي كلَّ عاملٍ بعمله .
عن أمِّ سَلمةَ رضي الله عنها، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ما من مُسلمٍ تُصيبُه مُصيبةٌ فيقولُ ما أمره اللهُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعون! اللَّهمَّ أْجُرْني في مُصيبتي وأَخْلِفْ لي خيرًا منها- إلَّا أخلف اللهُ له خيرًا منها. قالت: فلمَّا مات أبو سَلمةَ قلتُ: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمةَ؟! أوَّلُ بيتٍ هاجر إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ثمَّ إنِّي قلتُها، فأخلف اللهُ لي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قالت: أرسل إليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَاطبَ بنَ أبي بَلْتَعةَ يَخطُبُني له، فقلتُ: إنَّ لي بنتًا وأنا غيورٌ، فقال: أمَّا ابنتُها فنَدعو اللهَ أن يُغنيَها عنها، وأَدْعو اللهَ أن يَذْهَبَ بالغيْرةِ )) .
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157).
أي: إنَّ هؤلاءِ الصَّابرين المبشَّرين الذين يقولون: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لهم من الله تعالى ثناءٌ عليهم وتنويهٌ بشأنهم، وتتنزَّل عليهم منه سبحانه الرَّحمات، وهؤلاء هم الذين أرْشدَهم الله تعالى للحقِّ، ووفَّقهم للعمل به
.
الفوائد التربويَّة :
1- وجوبُ الشُّكر؛ لقوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي؛ و(الشُّكر) يكون بالقلب، وباللِّسان، وبالجوارح؛ ولا يكون إلَّا في مقابلة نِعمة
.
2- تحريم كفر النعمة؛ لقوله تعالى: وَلَا تَكْفُرُونِ ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة، فإنه يحبُّ أن يرى أثر نعمته عليه .
3- قرَن الله تعالى بين الصَّبر والصَّلاة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ؛ لأنهما عونانِ على مصالحِ الدنيا والآخِرة، وذَكَر الصبر ثُم الصلاة؛ لأنَّها تُعين على الصَّبر .
4- أنَّ في جزاء الصَّبر المذكور تنشيطًا على الأعمال، والثَّبات عليها؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ؛ فإذا آمَن الإنسانُ بأنَّ الله معه، ازداد نشاطًا، وثباتًا .
5- التَّنبيه على الإخلاص في القِتال؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللهِ .
6- أنَّ ثوابَ الله سبحانه وتعالى للعامل أجَلُّ وأعلى؛ وذلك لأنَّ الشهيدَ عرَّض نفْسه للموت ابتغاءَ ثواب الله، فأثابَه الله تعالى بأنْ جعَله حيًّا بعد موته حياةً برزخيَّةً أكملَ من حياة الدنيا؛ لقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .
7- اشتملتِ الآيتان من قوله: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ.... إلى وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ على توطين النُّفوس على المصائب قَبل وقوعها؛ لتخفَّ وتسهُل إذا وقعَتْ، وبيان ما تُقابَل به، وهو الصَّبر، وبيان ما يُعين على الصَّبر، وما للصَّابر من الأجْر .
8- في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ... وأُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ: أنَّ للعبد من الصلوات والرحمة بقَدْر ما له من تحقيق الصَّبر، وهكذا كلُّ وصْف رُتِّب عليه خيرٌ وأجرٌ وثواب، وكلُّ وصفٍ نَهى الله عنه ورتَّب عليه وعلى الاتِّصافِ به عُقوبةً وشرًّا ونقصًا؛ لأنَّ الحُكم المعلَّق على وصْف يَزيد بزيادته، ويَنقُص بنُقصانه
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ كون الرَّسول صلى الله عليه وسلم مِنَّا يَقتضي أنْ تكون قريش أوَّل مَن يُصدِّق به؛ لأنَّهم يعرفونه، ويَعرِفون نَسبَه، ويَعرِفون أمانته؛ ولهذا وبَّخهم الله تعالى على الكُفر به، ووصْفِه بالضَّلال، والجُنون، فقال جلَّ وعلا: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم: 2] ، وقال جلَّ وعلا: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22]
.
2- أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ علَّم الأمَّة لفظَ القرآن، ومعناه؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ؛ ولهذا كان الصَّحابةُ رضي الله عنهم إذا استشكلوا شيئًا من المعنى، سألوه، فعَلَّمهم، ولكن الغالب أنَّهم لا يَستشكلون؛ لأنَّه نزَل بلُغتهم، وفي عصرهم، يَعرِفون معناه، ومَغزاه، وأسبابه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا فيه تنكيرُ (الرسول) للتعظيم؛ ولتجري عليه الصِّفات التي كلُّ واحدةٍ منها نِعمةٌ خاصَّة
.
2- قوله: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فيه تكرار الفعل (يعلم)؛ ليدلَّ على أنه جِنسٌ آخَر .
- وقدّم هنا وَيُزَكِّيكُمْ على وَيُعَلِّمُكُمُ عكس ما في الآية السابقة في حِكاية قول إبراهيم عليه السَّلام: وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] ؛ لأنَّ المقام هنا للامتنان على المسلمين؛ فقُدِّم فيها ما يُفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم، وهي منفعة تزكية نفوسهم؛ اهتمامًا بها، وبعثًا لها بالحِرص على تحصيل وسائلها، وتعجيلًا للبشارة بها، فأما في دعوة إبراهيم فقد رُتِّبت الجمل على حسب ترتيب حصولِ ما تضمَّنتْه في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنُّن .
3- قوله: وَلَا تَكْفُرُونِ فيه إيجازٌ بالحذْف؛ لأنَّه من كُفر النِّعمة، أي: ولا تكفروا نعمتي، ولو كان من الكفر الذي هو ضدُّ الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي، والنون نون الوِقاية، حُذفت ياء المتكلم بعدَها تخفيفًا؛ لتناسُب الفواصل .
4- قوله: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ تذييلٌ في معنى التعليل، أي: اصبروا؛ ليكون الله معكم؛ لأنَّه مع الصابرين .
5- قوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ فيه إيجاز بالحذف؛ حيث حذف المبتدأ (هم)؛ لأهميَّة ذِكر الخبر؛ لأنَّهم ما كانوا يتصوَّرون أنَّهم أحياء .
6- قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
- فيه: تقديمُ الوعدِ بالبَلاء قبل كَونِه؛ وإنما أَخبرَ به قبل الوقوعِ ليُوطِّنوا عليه نفوسَهم، ويزدادَ يقينُهم عند مشاهدتِهم له حسبما أَخبرَ به .
- وجيء بكلمة شَيْءٍ مفردة، ولم يقل: (بأشياء)؛ لبيان أنَّ كلَّ بلاءٍ أصاب الإنسان- وإنْ جلَّ- ففوقه ما يقلُّ إليه، وليخفِّف عليهم، ويُريَهم أنَّ رحمته معهم في كلِّ حال لا تزايلهم، وليعلموا أنَّه شيءٌ يسير، له عاقبةٌ حميدةٌ. ولئلَّا يوهِم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيءٍ مِن كذا، وشيء من كذا. أو قلَّله بالنِّسبة إلى ما يُصيب به معانديهم في الآخِرة .
7- قوله: قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فيه التوكيد بـ(إنَّ)؛ لأنَّ المقام مقام اهتمام، ولأنه يُنزَّل المصاب فيه منزلةَ المنكر؛ لكونه مِلكًا لله تعالى وعبدًا له؛ إذ تُنسيه المصيبة ذلك، ويَحُول هولُها بينه وبين رُشده، واللام في لله للمِلك .
8- قول الله سبحانه: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
- قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ... الإشارة بـ(أولئك) الذي فيه معنى البعد؛ للإيذان بعلوِّ رُتبتِهم، وفيه تنبيهٌ على أنَّ الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتِّبٌ على تلك الأوصاف، وهذا بيانٌ لجزاء صبرهم .
- قوله: صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ: جاءت صَلَواتٌ بصيغة الجمع؛ تنبيهًا على كثرتها منه، وأنَّها حاصلةٌ في الدنيا توفيقًا وإرشادًا، وفي الآخرة ثوابًا ومغفرة، وإضافة اسم الرب إلى ضَميرهم رَبِّهم؛ لإظهارِ مزيدِ العناية بهم، وأنَّ عليهم رحمةً واسعة فائضةً من مالك أمورِهم، ومبلِّغِهم إلى كمالاتهم اللائقةِ بهم .
- قوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ: فيه تَكرار اسم الإشارة أُولَئِكَ؛ لإظهارِ كمالِ العناية بهم .
- وأيضًا في قوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ: تأكيدٌ بقوله: هُمُ وبالألف واللام، كأنَّ الهداية انحصرت فيهم، وباسم الفاعل؛ ليدلَّ على الثبوت؛ لأنَّ الهداية ليستْ من الأفعال المتجدِّدة وقتًا بعد وقت، فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصفٌ ثابت .
- والجُملتان الثابتتان في قوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ تدلَّان على الاعتناء بأمر المخبَر عنه، وبُدئ بالجملة الأولى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ؛ لأنَّها أهمُّ في حصول الثواب المترتِّب على الوصف الذي قبله، وأُخِّرت جملة وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ؛ لأنَّها تنزَّلت ممَّا قبلها منزلةَ العِلَّة؛ لأنَّ ذلك القول المترتِّب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدُر إلَّا عمَّن سبقت هدايته .
============
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (158-163)
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ
غريب الكلمات:
شَعَائِرِ: جمْع شَعيرَة، وهي مَا جعَله الله تعالى عَلَمًا لطاعتِه
.
لا جُناحَ: لَا بَأْس، والجُناحَ: الإثم، وأصل الجنوح: المَيل والعدوان .
تَطَوَّعَ: فَعَل خيرًا غيرَ واجب عليه .
يُنْظَرُونَ: يُنتَظرون، ويُؤخَّرون
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر الله تعالى أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة من معالِم دِينه الظاهِرة، التي شُرِعت في الحجِّ، فمَن قصَدَ البيتَ ناويًا أداء النُّسك من حجٍّ أو عُمرةٍ، فلا يَتحرجنَّ من الطَّواف بينهما؛ لأجْل أنَّهم في الجاهليَّة يَعبُدون الأصنام عِندهما.
وتَرغيبًا في فِعل الطاعة والاستزادة منها أخْبَر تعالى أنَّ مَن يأتي بالطاعات، سواء ما كان منها مَفروضًا أو مستحبًّا، ويَزداد منها؛ فإنَّ الله مُجازيه على عمَله خيرَ الجزاء، فهو سبحانه شاكرٌ لا يُضيع أجْرَ مَن أحسن عملًا، عليمٌ لا يَخفَى عليه ذاك الإحسانُ.
ثم ذكَر الله- في معرِض الذمِّ- عُلماءَ اليهود والنَّصارى الذين يُخفون عن النَّاس ما في التوراة والإنجيل من الأدلَّة الواضحة، التي تُثبِت نبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتبيِّن وصْفَه، وهذا الذمُّ يعمُّ كلَّ مَن فعَل فِعلهم فأخْفى الحقَّ الذي أنزله الله في القرآن الكريم من بعدِ أن بيَّنه سبحانه، هؤلاء جميعًا جزاؤهم الطردُ من رحمة الله تعالى، وأنْ تُلاحِقَهم اللَّعَناتُ من الملائكة والمؤمنين- وقيل: من جميع الخَلق- إلَّا مَن تراجع عن هذا الكِتمان للحق البيِّن، وعاد إلى ربِّه تائبًا مقرًّا بذنبه، وبيَّنَ ما كان أخْفاه من الحقِّ عن النَّاس- فأولئك يتوبُ الله عليهم كما أخبر، فهو سبحانه المتقبِّل لتوبة عِباده، بعد أن يُوفِّقهم لها، رحيمٌ بهم سبحانه وتعالى.
ثم أخبَر جلَّ وعلا أنَّ الذين جَحدوا دِين الله تعالى، فلم يَقبلوا به، ولم يَنقادوا إليه، ولم يتوبوا في حَياتهم، بل استمرُّوا على الكُفر حتى ماتوا عليه- أخْبَر أنَّ أولئك سيطردهم اللهُ تعالى من رحمته طردًا دائمًا، وتُلاحقَهم اللَّعنة من الله والملائكة وجميعِ النَّاس، وسَيُخلَّدون في تلك اللَّعنة والتي ستُصاحبهم في دُنياهم وحتى يوم القِيامة؛ لتظلَّ معهم وتلازمهم في جهنَّم، حيث لا يُخفَّف عنهم عذابُها، ولا هم يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب.
ثم أخْبَر تعالى أنَّ الإلهَ المستحِقَّ للعبادة واحدٌ، لا شريكَ له سبحانه، ولا معبودَ سواه، وهو الله سبحانه ذو الرَّحمات، التي أوْصَلها وعمَّ بها كلَّ البريَّات.
تفسير الآيات:
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158).
مناسبة الآية لِمَا قبلها:
قيل: لَمَّا بيَّن الله تعالى أنه إنما حوَّل القبلة إلى الكعبة، وكان في ذلك إحياءٌ لشرائع إبراهيم ودِينه، وكان السعيُ بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذُكِر في قصة بناء الكعبة، وسعي هاجر بين الجبلين- فلما كان الأمر كذلك ذكَر الله تعالى هذا الحُكم.
وقيل: لأنَّه تعالى لَمَّا قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ...، إلى قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، قال: إنَّ الصَّفا والمروة من شعائر الله؛ وإنَّما جعلهما كذلك لأنَّهما من آثار هاجر وإسماعيل ممَّا جرى عليهما مِن البلوى
.
سبب النُّزول:
عن عُروةَ بن الزُّبَير قال: ((سألتُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، فقلتُ لها: أَرأيتِ قَوْلَ اللهِ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا؛ فواللهِ ما على أَحَدٍ جُنَاحٌ أنْ لا يطوفَ بالصَّفا والمروةِ، قالت: بَئْسَ ما قلتَ يا ابنَ أختي! إنَّ هذهِ لو كانت كَمَا أَوَّلْتَهَا عليه، كانت: لا جُنَاحَ عليهِ أنْ لا يَتَطَوَّفَ بهما، ولكنَّها أُنْزِلَتْ في الأنصارِ، كانوا قبلَ أن يُسلِموا، يُهِلُّونَ لـمَناةَ الطَّاغية، التي كانوا يَعبُدونها عندَ المُشلَّلِ، فكان مَن أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أنْ يطوفَ بالصَّفا والمروةِ، فلمَّا أسلموا، سألوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن ذلكَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا نتحرَّجُ أن نطوفَ بينَ الصَّفا والمروةِ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ الآية، قالت عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: وقد سَنَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الطَّوافَ بينهما، فليس لِأَحَدٍ أن يترُكَ الطوافَ بينهما، ثم أَخْبَرْتُ أبا بكرِ بنَ عبدِ الرَّحمنِ فقال: إنَّ هذا لَعِلْمٌ ما كنتُ سمعتُهُ، ولقد سمعتُ رِجالًا من أهلِ العِلم يَذكرونَ: أنَّ النَّاسَ- إلَّا مَن ذَكرتْ عائشةُ- ممَّن كان يُهِلُّ بمناةَ، كانوا يطوفونَ كلُّهم بالصَّفا والمروةِ، فلمَّا ذكرَ اللهُ تعالى الطَّوافَ بالبيتِ، ولم يذكُرِ الصَّفا والمروةَ في القرآنِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كُنَّا نطوفُ بالصَّفا والمروةِ، وإنَّ اللهَ أنزَلَ الطوافَ بالبيتِ فلمْ يذكُرِ الصَّفا، فهل علينا من حَرَجٍ أن نطوفَ بالصَّفا والمروةِ، فأنزلَ اللهُ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ الآيةُ. قال أبو بكرٍ: فأسمعُ هذهِ الآيةَ نزلتْ في الفَريقيْنِ كِلَيهما، في الَّذين كانوا يَتحرَّجونَ أن يَطوفوا بالجاهليةِ بالصَّفا والمروةِ، والذينَ يَطوفونَ ثم تَحرَّجوا أن يَطوفوا بهما في الإسلامِ؛ من أَجْلِ أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بالطَّوافِ بالبيتِ، ولم يذكُرِ الصَّفا، حتى ذَكرَ ذلكَ بعدَما ذكرَ الطَّوافَ بالبيتِ )) .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ.
أي: إنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة من معالم الدِّين الظاهِرة، التي شرَعها الله تعالى لعباده في الحجِّ .
وفي حديث جابِرٍ الطويلِ في صِفة حَجَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال رضي الله عنه: ((ثمَّ خرَج من الباب إلى الصَّفا، فلمَّا دنا مِن الصَّفا قرأ: إنَّ الصَّفَا وَالمْرَوْةَ َمِنْ شَعَائِرِ اللهِ أبدأُ بما بدأَ اللهُ به، فبدأ بالصَّفا، فرقِيَ عليه )) .
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا.
أي: مَن قصَد البيت الحرام لأداء مناسك الحجِّ، أو العمرة، فلا يَتحرَّجَنَّ من الطواف بين الصَّفا والمروة؛ لشُبهة أنَّه من أفعال الجاهليَّة وأنَّهم كانوا يُعظِّمونهما، ويطوفون بينهما .
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ.
أي: مَن أتى بالطَّاعات المفروضة والمستحبَّة وازداد منها، فلْيعلمْ بأنَّ الله تعالى سيُجازيه بإحسانه؛ لأنَّ الله شاكِر لا يُضيع أجْرَ محسِن، عليمٌ لا يَخفى عنه إحسانُه .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159).
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ.
أي: إنَّ عُلماءَ اليهود والنَّصارى الذين أخْفَوا عن النَّاس ما في التَّوراة والإنجيل، من دَلائل إثبات مَبعث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وبيان صِفاته، الذي بيَّنه الله تعالى فيهما بوضوحٍ تامٍّ.
وهذه الآية تعمُّ كلَّ مَن كتَم عن النَّاس ما أوْضحَه الله تعالى في القرآن من البيِّنات، وهي الأدلَّةُ والبَراهين الواضِحة التي تُظهر الحقَّ وتُثبِته، والهدى- وهو العلمُ النَّافع المرشِد لطريق الحقِّ .
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
أي: يطردُهم الله عزَّ وجلَّ من رحمته، ويطلُب اللاعنون من الله تعالى أن يلعنَهم، واللاعنون قيل: هم الملائكة والمؤمِنون ، وقيل: هم جميعُ الخلائق، حتى البَهائم تلعنهم .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن سُئِلَ عن علْمٍ علِمَهُ، ثُمَّ كتَمَه، أُلجِمَ يومَ القِيامَة بلِجامٍ من نارٍ )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: ((يقولون: إنَّ أبا هريرةَ يُكْثِرُ الحديثَ، واللهُ الموعدُ! ويقولون: ما لِلمُهاجرين والأنصارِ لا يُحَدِّثون مثلَ أحاديثِه؟! وإنَّ إِخوتي مِن المهاجرين كان يَشْغَلُهم الصَّفْقُ بالأسواقِ، وإنَّ إخوتي مِن الأنصارِ كان يَشْغَلُهم عملُ أموالِهم، وكنتُ امرأً مسكينًا، أَلْزَمُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على مِلءِ بطني، فأَحْضُرُ حينَ يَغِيبون، وأَعِي حين يَنْسَوْن، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يومًا: لن يَبْسُطَ أحدٌ منكم ثوبَه، حتى أَقْضِيَ مقالتي هذه، ثم يَجْمَعَه إلى صَدرِه فيَنْسى من مقالتي شيئًا أبدًا، فبَسَطْتُ نَمِرَةً ليس عليَّ ثوبٌ غيرَها، حتى قضى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مقالتَه، ثم جَمَعْتُها إلى صدْري، فوالذي بعَثَه بالحقِّ، ما نَسِيتُ مِن مقالتِه تلك إلى يومي هذا، واللهِ لولا آيتانِ في كتابِ اللهِ، ما حدَّثْتُكم شيئًا أبدًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ إلى قوله: الرَّحِيمُ)) .
وعن حِمران، قال: ((فلمَّا توضَّأ عثمانُ قال: واللهِ لَأُحَدِّثَنَّكم حديثًا، واللهِ لولا آيةٌ في كتابِ اللهِ ما حَدَّثْتُكُموه! إني سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ: لا يتوضأُ رجلٌ فيُحسِنُ وُضوءَه، ثم يُصلِّي الصَّلاةَ، إلا غُفِرَ له ما بينَه وبينَ الصَّلاةِ التي تَلِيها، قال عُروةُ: الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، إلى قوله: اللَّاعِنُونَ)) .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160).
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا.
أي: استثنى الله عزَّ وجلَّ منهم مَن رجَع عن كِتمانه، معترفًا لله تعالى بذنبه، مُصلحًا حالَ نفْسه، مبيِّنًا للنَّاس ما كتَمَه .
فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: هؤلاء الذين فعَلوا هذا الذي وصفتُ منهم، هم الذين أَقبل توبتَهم؛ فأنا التوَّاب- أي: كثير التوب- الذي يوفِّق عباده للتوبة أولًا، ويَقبلها منهم ثانيًا، فضلًا منِّي ورحمة، فبِتَوبتي أغفِر لهم المعاصي والسيِّئات، وبِرَحمتي أُيسِّر لهم الطَّاعات والخيرات .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161).
مناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا لعَن الله الكاتمين؛ واستثنى منهم التائبين، ذكَر المُصرِّين، معبِّرًا عن كتمانهم بالكُفر؛ لتعمَّ العبارةُ كلَّ كُفر، فقال :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.
أي: إنَّ الكفار الذين ظلُّوا على كفرهم حتَّى مماتِهم، ولم يتوبوا .
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
أي: إنَّ الله تعالى يطردُ أولئك الكفَّار من رحمته، وأمَّا الملائكة وجميع النَّاس فيَسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُبعدَهم ويطردَهم من رحمته .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162).
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.
أي: هم خالدون أبدًا في هذه اللَّعنة المستَتْبِعةِ للخلود الأَبديِّ في نار جهنَّمَ، التي لا يَنقُص فيها عذابُهم زمنًا ولا مِقدارًا؛ فهُم في عذابٍ دائمٍ وشديد .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
أي: لا يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163).
أي: إنَّ معبودَكم واحدٌ، لا معبود بحقٍّ سواه، فهو المنفرِد في ذاته وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه جلَّ وعلا، وهو الذي وسعتْ رحمتُه كلَّ شيء، ومن رحمته: أنْ أَوجَد عباده، وعرَّفهم على نفْسه بآياته وآلائِه
.
الفوائد التربويَّة:
- دلَّ تقييدُ التطوُّع بالخير في قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا على أنَّ مَن تطوَّع بالبِدع، التي لم يَشرَعْها الله ولا رسولُه، أنَّه لا يحصُل له إلَّا العناءُ، وليس في هذا التطوُّع خيرٌ له، بل قد يكون شرًّا له، إنْ كان متعمِّدًا، عالِمًا بعدم مشروعيَّة العمل
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- قُبْح هذا الكِتمان الذي سلَكه المذكورون في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ؛ لأنَّه كتمانٌ بعدَ بيان؛ فليس لهم أن يقولوا: (لم نتكلَّم؛ لأنَّ الأمر مشتبهٌ علينا)؛ فالإنسان الذي لا يَتكلَّم بالشيء لاشتباه الأمْر عليه قد يُعذر، لكن الذي لا يَتكلَّم مع أنَّ الله بيَّنه للناس يكون هذا أعظمَ قُبحًا-والعياذ بالله
.
2- في قوله تعالى: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161] ، جاء ذِكرُ لعنة الملائكة والنَّاس- مع أنَّ لعنة الله وحده كافيةٌ في خزيهم ونكالهم- قد يكون لبيان أنَّ جميع مَن يعلم حالهم من العوالِم العلويَّة والسُّفليَّة يراهم محلًّا للعنة الله ومقْته، فلا يُرجى أن يَرأف بهم رائِف، ولا أن يَشفَع لهم شافِع .
3- أنَّ الكافر يلعنه الكافِر؛ لقوله تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ وقد أخبَر الله تعالى عن أهل النَّار أنَّه كلَّما دخلتْ أُمَّة لعَنتْ أُختها، وقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ [البقرة: 166] إلخ؛ فالكافِر- والعياذ بالله- ملعونٌ حتَّى ممَّن شاركه في كُفره
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فيه تأكيدُ الجملة بـ(إنَّ)؛ لأنَّ المخاطبَين متردِّدون في كونهما من شعائر الله، وهم أميلُ إلى اعتقاد أنَّ السَّعي بينهما من أحوال الجاهليَّة
.
2- قوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
- تذييلٌ لِمَا أفادته الآية من الحثِّ على السَّعي بين الصفا والمروة، ومقصده: الإتيان بحُكمٍ كلِّيٍّ في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل، أو نوافل فقط، فليس المقصود من خَيرًا خصوص السعي؛ لأنَّ خيرًا نكرة في سياق الشَّرط، فهي عامَّة؛ ولهذا عُطِفت الجملة بالواو دون الفاء؛ لئلَّا يكون الخيرُ قاصرًا على الطوافِ بين الصفا والمروة .
- وخُتمت الآية بصِفتين مناسبتَينِ، ووقعتَا الموقع الحَسَن؛ لأنَّ التطوُّع بالخير يتضمَّن الفعل والقصد، فناسَب ذكر الشُّكر باعتبار الفعل، وذِكر العِلم باعتبار القَصد .
3- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ فيه التعبير بالفعل المضارع في يَكْتُمُونَ؛ للدَّلالة على أنَّهم في الحال كاتمون للبيِّنات والهدى، ولو وقَع بلفظ الماضي لتوهَّم السامعُ أن المعنيَّ به قومٌ مضَوْا، مع أنَّ المقصود إقامة الحُجَّة على الحاضرين .
4- في قوله: أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
- اختير اسم الإشارة للبعيد (أُولَئِكَ)؛ ليكون أبعثَ للسامع على التأمُّل فيهم، والالتفات إليهم، أو تحقيرًا لهم؛ لبُعدهم عن رحمة الله تعالى .
- وإبراز الخبر في صورة جملتين مع تكرير الفِعل يَلْعَنُهُم؛ للتوكيد والتعظيم، وأتى بالفِعل المضارع يَلْعَنُهُم المقتضي للتجدُّد؛ لتجدُّد مقتضيه، وهو قوله تعالى: يَكْتُمُونَ .
- وفي قوله تعالى: يَلْعَنُهُمُ اللهُ التفات، وكان السِّياق يَقتضي بأن يقول: (نلعنهم)، ولكنَّه التفت إلى الغائب؛ للدَّلالة على إظهار السخط عليهم، وليكون الكلام أوغلَ في إنزال اللَّعْن عليهم، وإلحاق الطَّرد بهم، وإبراز اسم الجلالة بلفظ الله فيه مِن الفخامة ما لا يكون في الضَّمير .
5- في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ قُرِنَتِ الجملة فَأُولَئِكَ... بالفاء- التي تكون للتعقيب مع السُّرعة-؛ للدلالة على شيءٍ زائد على مفادِ الاستثناء، وهو أنَّ توبتهم يَعقبُها رِضَا الله عنهم .
6- قوله: وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
- اعتراضٌ تذييليٌّ محقِّقٌ لمضمون ما قبْله .
- وفيه التفاتٌ من الغَيْبة إلى التَّكلُّم؛ وفي هذا الالتفات تلويحٌ ورمزٌ إلى اختلاف المبدأ في فِعْليهِ تعالى السَّابقِ واللَّاحِقِ .
- وجيء بالجُملة الاسميَّة؛ لدَّلالتها على الثَّبات والاستقرار؛ ليكونوا غيرَ آيِسِين من التوبة، بخِلاف قوله: يَلْعَنُهُمُ اللهُ، فالمقصود التجدُّد .
7- قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فيه ترتيبٌ بديع؛ حيث بدأ تعالى بنفسه، وناهيك بذلك طردًا وإبعادًا؛ ولأنَّ لعنةَ الله هي التي تجرُّ لعنة الملائكة والناس. ثم ثنَّى بالملائكة؛ لِمَا في النفوس من عِظم شأنهم، وعلوِّ منزلتهم وطهارتهم. ثم ثلَّث بالناس؛ لأنَّهم من جِنسهم، فهو شاقٌّ عليهم .
8- قوله: خَالِدِينَ فِيهَا فيه إضمار النار قَبل الذِّكر؛ تفخيمًا لشأنها وتهويلًا، أو اكتفاء بدَلالة اللَّعن عليه .
9- قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فيه توكيد لمعنى الوحدانية، ونفْي الإلهيَّة عن غيره. بنفي كلِّ فردٍ من الآلهة، ثم حصْر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلَّ قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ على نِسبة الواحديَّة إليه تعالى، ودلَّ قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناصِّ على ذلك، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك؛ لدفع توهُّم وجود إلهٍ غيرِه، فأكَّده بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وحُقَّ لهذا المعنى أن يكون مؤكَّدًا، وتُكرَّر عليه الألفاظ؛ إذ هو مبدأ مقصود العِبادة ومُنتهاه .
====
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (164-167)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
غريب الكلمات:
الْفُلْكِ: السُّفن، وواحده وجمْعه بلفظٍ واحد، وأصل الفَلَك: الاستدارةُ في الشَّيء، ولعلَّ السُّفن سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدار في الماء
.
بَثَّ: فرَّق ونشَر .
الْمُسَخَّرِ: المُذلَّل، وَالمُيسَّر .
أَنْدَادًا: أمثالًا، ونُظراء مُناوئين، وشركاء .
تَبَرَّأَ: تَباعَد وفارَق، ولـ(بَرَأَ) أصلانِ ترجع إليهما فروع معانيه؛ الأوَّل: التقصِّي ممَّا يُكره مجاورتُه، والتباعُدُ من الشيءِ ومزايلتُه، ومنه: البُرء والبَراء والتَّبرِّي والتبرُّؤ. الثاني: الخَلْقُ؛ يُقالُ: بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ يَبرؤُهمْ بَرْءًا .
الْأَسْبَابُ: أي: الوصلاتُ، وأصل (سَبَب): الحَبْل يشدُّ بالشَّيْء فيجذب به، ثمَّ جُعِل كلُّ ما جرَّ شَيْئًا (سَببًا)، وسُمِّي كلُّ ما يُتوصَّل به إلى شيءٍ (سببًا) .
كَرَّةً: رَجْعَة إلى الدُّنيا، والكَرُّ: الرُّجوع إلى الشَّيءِ بعدَ المرَّة الأولى، والعطف عليه بالذَّات أو بالفِعل .
حَسَرَاتٍ: الحسراتُ جمْع حَسْرة، وهي أشدُّ النَّدامة على ما فاتَ ولا يُمكن ارتجاعُه؛ والغمُّ عليه، وأصل (حسر): كَشْف الشَّيْء؛ ومِنه الحَسرة، كأنَّه انحسرَ- انكشَف- عنه الجهلُ الذي حمَله على ما ارتكبَه، أو انحسَر قواه من فَرط غمٍّ، أو أدركه إعياءٌ مِن تدارُك ما فرط منه
.
المعنى الإجمالي :
عدَّد الله سبحانه وتعالى في مَطلع هذه الآيات بعضًا مِن نِعمه العظيمة، وآلائه الجَزيلة، مخبرًا أنَّ فيها أدلَّةً واضحة، وعلاماتٍ بيَّنة على وَحدانيته جلَّ وعلا، وعلى كمال صِفاته، لكنَّ هذه الدلائلَ والعلامات يَعيها مَنْ مَنَّ الله عليه بعقلٍ يتدبَّر به، فيَفهَم مقصود الله عزَّ وجلَّ منها.
وتِلك النِّعم التي عدَّدها الله عزَّ وجلَّ هي إنشاؤه السَّمواتِ والأرضَ، وما أودَع فيها من العجائب، والتعاقُب الدَّائم لليل والنَّهار، بحيث لا يتَّأخر أحدُهما عن الآخَر، واختلافهما ضِياءً وظُلمة، وحرًّا وبردًا، وطولًا وقِصرًا، والسُّفن التي تشقُّ البحرَ متنقلةً عبرَه من مكان لآخَر بما يعود نفعُه على النَّاس، والمطر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السَّحاب، والذي بسبِبه أنبتت الأرض بعدَ أنْ كانت مجدبة، ونشرْه سبحانه في أنحائها الدَّوابَّ بمختلف أنواعها وأشكالها، وتنويعه الرِّيح ركودًا وهبوبًا، وجعْلها تهبُّ من اتجاهات عِدَّة، واختلافها في الشِّدَّة والضَّعف، والنَّفع والضر، وتذليله سبحانه السَّحابَ بين السَّماء والأرض لمصالح خَلْقه.
ثم ذكَر سبحانه أنَّ صِنفًا من النَّاس جعَلوا من بعض خَلق الله نُظراءَ له، يُساوونهم به في المحبَّة، فيُحبُّون هؤلاء النظراءَ كما يحبُّون الله، وأخبر أنَّ الذين آمَنوا حقًّا أكثرُ حبًّا لله من محبَّة هؤلاء لله تعالى وللأنداد.
ثم خاطَب اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لو أبصرَ حال هؤلاء الذين اتَّخذوا الأندادَ مع اللهِ يُحبُّونهم كحُبِّه، وأبصروا هم أيضًا حالَهم تلك، حين يُعاينون عذابَ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامة، فيَتيقَّنون أنَّ القوةَ والقدرة كلَّها لله تعالى وحده، وأنَّ ما أعدَّه الله من العذاب لِمَن يستحقُّه ممَّن كفر به أو أشرك لشديدٌ.
ويتبرَّأ المتبوعون على الشِّركِ والكفرِ والضلالِ ممَّن اتَّبعهم حين يُعاينون عذابَ الله تعالى، ويتيقَّن الأتباعُ حين يُعاينون العذاب كذلك، أنَّهم سيُعذَّبون فيها لا محالةَ، وتتقطَّع كلُّ وسيلة تمسَّكوا بها من قبلُ للنجاة، ومنها جعْلهم للهِ نُظراءَ يُساوونه بهم في المحبَّة، ويسقط الجميعُ في النار.
ويَتمنَّى حينها الأتباعُ لو تَسنح لهم فرصةٌ أخرى للرُّجوع إلى الدُّنيا؛ ليتبرَّؤوا من هؤلاء المتَّبَعين الذين خذَلوهم وتبرؤوا منهم، بعدَ أنِ اتَّخذوهم أندادًا من دون الله، لكن الله أخبَر أنَّه يُريهم أعمالهم الخبيثةَ كما أراهم العذابَ؛ ليتحسَّروا ويندموا، ويُعاتِبوا أنفسَهم: لِمَ فعَلوها، ولمَ لمْ يَعملوا أحسنَ منها، لكن هذا التحسُّر والندم لا يُفيدهم شيئًا؛ فإنَّهم باقون في النار غير خارجين منها.
تفسير الآيات:
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
وقَعتْ هذه الآية موقعَ الحُجَّة مِن الدَّعوى؛ فإنَّه لَمَّا ذكر تعالى أنَّه واحد، وأنَّه منفرد بالإلهيَّة، لم يَكتفِ بالإخبار حتى أورد دلائلَ الاعتبار، ثم مع كونها دلائلَ، هي نِعم كذلك من الله على عباده، فكانت أوضحَ لِمَن يتأمَّل، وأبهرَ لِمَن يَعقل؛ إذ التنبيه على ما فيه النَّفع باعثٌ على الفِكر، فقال تعالى
:
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: إنَّ في إنشاء السَّموات والأرض وابتداعهما، وما أودَع الله تعالى فيهما من العَجائب .
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: تعاقبِها الدَّائم، بحيث يَجيء أحدُهما، ثم يذهب، ويخلُفه الآخَر مباشرةً دون أن يتأخَّر عنه لحظة، وكذا اختلافهما في الضِّياء والظُّلمة، والحرِّ والبَرد، والطُّول والقِصَر .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] .
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ.
أي: السُّفن التي تَسير في البحر، فيَنتفع النَّاسُ بالتنقُّل عبْرَها من مكان لآخَر، وبجلْب البضائع، وصَيد الأسماك، وغير ذلك .
وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: المطر الذي أنزله الله تعالى من السَّحاب، فأنبتتْ بسببه الأرضُ بعدَ أن كانت قاحلةً مُجدِبةً .
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.
أي: نشَر في أقطارِ الأرض جميعها، كلَّ ما يمشي على وجهِها من مختلف أنواعِ الحيوان .
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ.
أي: تَنويعِها في الركود والهُبوب، وفي الاتِّجاه، والشِّدَّة والنَّفع، فتهبُّ من عِدَّة اتجاهات، وتختلف شِدَّةً وضعفًا، ونفعًا للنَّاس، أو هلاكًا وضرًّا .
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أي: السَّحاب الواقِع في جوِّ السَّماء، المذلَّل بأمْر الله تعالى لمصالح الخَلْق .
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
أي: في تِلك الأمور المذكورة، علاماتٌ ودَلالات واضحةٌ على وَحدانية الله تعالى، وعلى كمال صِفاته، وعظيم أفعاله، ولكن لِمَن لديه عقلٌ رشيد، يتدبَّر به، ويَفهم عن الله تعالى مقصودَه .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله عزَّ وجلَّ وحدانيته وأدلَّتها القاطعة، وبراهينها السَّاطعة، الموصلة إلى عِلم اليقين، المزيلة لكل شكٍّ، ذكَر هنا أنَّه مع هذا البيانِ التامِّ يوجد من الناس مَن لا يؤمن بوحدانية الله تعالى، فقال :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ.
أي: إنَّ بعض النَّاس يجعَلون من بعض الخَلق نُظَراءَ لله سبحانه، بمساواتهم معه في المحبَّة، فيحبُّونهم كما يحبُّون الله تعالى .
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.
أي: إنَّ المؤمنين أشدُّ حبًّا للهِ عزَّ وجلَّ من محبَّةِ أولئك لله تعالى ولأندادهم .
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يرى قراءتان:
1- (تَرَى) ومعناها: ولو ترَى يا محمَّد هؤلاء المشركين عند رُؤيتهم العذابَ .
2- (يَرَى) ومعناها: ولو رأى الذين كانوا يُشركون في الدنيا عذابَ الآخرة .
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ.
أي: لو عاينتَ يا محمَّدُ، حالَ هؤلاء الَّذين نَقَصوا اللهَ تعالى حقَّه، ونَقَصوا أنفسهم حقَّها باتِّخاذهم أندادًا يُحبُّونهم كحبِّهم لله، وعاينوا هم أيضًا حالهم تلك، حين يرون عذابَ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامة فيَعلمون حينها يقينًا أنَّ القوة والقدرة كلَّها لله تعالى وحده، ويَعلمون شِدَّة عذابه لِمَن كفَر أو أشرك به، وأنه ليس للأنداد التي اتَّخذوها شيءٌ من تلك القدرة الإلهيَّة؛ فيتبيَّن لهم عندئذٍ عَجزُها وضعفُها، وأنَّها لا تدفع عنهم ضرًّا، ولا تجلب لهم نفعًا .
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166).
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا.
أي: أخبر اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ المتبوعين على الكفر والشرك والضلال، يتبرَّؤُون حين يعاينون عذاب الآخرة ممَّن اتبعهم واتخذهم أندادًا يحبهم كحبه لله تعالى، ويتنصَّلون منهم ومن عبادتهم لهم .
كما قال الله عزَّ وجلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وقال جلَّ وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33] .
وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف: 53] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ.
أي: عايَن الأتباعُ عذابَ جهنَّم، وأيقَنوا أنهم وارِدوها، لكن لا حيلةَ لهم للفرار منها، وانقطعت كلُّ وسيلةٍ تشبَّثوا بها من قبلُ للنجاة؛ كاتخاذِهم أندادًا يساوونهم بالله تعالى في محبَّتِه، انقطعت بهم انقطاعًا شديدًا، فسقط الجميعُ- أتباعًا ومتبوعين- هالكينَ في النَّار .
كما قال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167).
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا.
أي: تمنَّى أتباعُ الضَّلالة نادمينَ أنْ لو كانت لهم فرصةٌ أخرى للرُّجوع إلى الدُّنيا دارِ العمل؛ لِيتمكَّنوا فيها من التبرُّؤ ممن اتَّخذوهم أندادًا، ولِيُخلِصوا المحبَّةَ والعملَ لله تعالى وحده، ولِيَشْفوا غيظَ قلوبهم من مَتْبوعيهم الذين تبرَّؤوا منهم وخذَلوهم .
كما قال سبحانه: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 91-102] .
وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 27-28] .
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ.
أي: أخبَر الله تعالى عن شُعورِهم بالنَّدم الشَّديد حين انكشف لهم خُبثُ أعمالِهم، وتفريطُهم في جَنْبِ الله تعالى، وقد تبيَّن لهم يقينًا أنَّ ما رأَوْه مِن عملِهم في الدنيا خيرًا قد تلاشى واضمحلَّ هباءً منثورًا، كسرابٍ من الأوهام تعلَّقوا به للنَّجاة، وحين أتَوْه لم يرَوْا من أعمالهم شيئًا، عدا أثرها مِن الحسَرات والعقوبات .
وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
أي: إنَّ هؤلاء الذين وصَف الله تعالى حالَهم، لا يَنفعُهم تحسُّرُهم وندمُهم؛ فهم باقون في النَّار، غيرُ خارجينَ منها إلى غيرِ حدٍّ ولا نهاية
.
الفوائد التربويَّة:
- كلَّما تدبَّر العاقلُ في هذه المخلوقات، وتغلغل فِكرُه في بدائع المبتَدَعات، وازداد تأمُّله للصَّنعة، وما أودع فيها مِن لطائف البِرِّ والحِكَم الباهرات- علِم بذلك أنَّها خُلِقت للحقِّ وبالحقِّ، وأنَّها صحائفُ آيات، وكتُب دلالات
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، دلالةٌ على أنَّ محبَّةَ الله سبحانه مِن العبادة؛ لأنَّ اللهَ جعَل مَن سوَّى غيرَه به فيها مشرِكًا متَّخذًا لله ندًّا؛ فالمحبَّةُ مِن العبادة، بل هي أساس العبادة؛ لأنَّ أساس العبادة مبنيٌّ على الحبِّ والتَّعظيم
.
2- أنه كلَّما ازداد إيمانُ العبد ازدادت محبَّتُه لله؛ وذلك لأن اللهَ سبحانه وتعالى رتَّب شدَّةَ المحبَّةِ على الإيمان فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وقد عُلِم أنَّ الحُكْم إذا عُلِّق على وصفٍ فإنَّه يقوى بقوةِ ذلك الوصف، وينقُصُ بنقصِه؛ فكلما ازداد الإنسانُ إيمانًا بالله عزَّ وجلَّ ازداد حبًّا له
.
بلاغة الآيات:
1- في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...
- التأكيد بـإنَّ هنا للاهتمام بالخبَر؛ للفت الأنظار إليه، ويُحتمل أنهم نُزِّلوا منزلةَ مَن يُنكر أن يكونَ في ذلك آياتٌ لقوم يعقلون؛ لأنَّهم لم يجروا على ما تدلُّ عليه تلك الآيات
.
- وفي الآية: ترتيبٌ بديع في الذِّكر لهذه الدَّلائل والنِّعم؛ حيث بدأ أولًا بخلق السَّموات والأرض، ثم ثنَّى بذِكر ما نشأ عن العالَم العُلوي، ثم أتى ثالثًا بذِكْر ما نشأ عن العالم السُّفلي، ثم أتى بالمشترَك، ثم ختَم ذلك بما لا تتمُّ النِّعمة للإنسان إلَّا به .
2- في قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ جعل الصِّفة موصولًا الَّتِي صِلتُه تَجْرِي بصيغة المضارع؛ للدَّلالة على تجدُّد ذلك الوصف لها في كلِّ وقت يُراد منها، وذكر مكان تلك الصِّفة فِي الْبَحْرِ على سبيل التوكيد؛ إذ مِن المعلوم أنَّها لا تجْري إلَّا في البحر .
3- في قوله: لَآياتٍ جاء التَّنكير للتفخيم كمًّا وكيفًا، أي: عظيمة كثيرة .
4- قوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
- فيه حذْف جواب (لو)؛ لقصْد التَّفخيمِ وتهويلِ الأمْر؛ لتذهبَ النفسُ في تصوير العذاب كلَّ مذهب ممكن، ولبيان أنَّه حصَل منهم إذ عاينوا العذابَ يوم القيامة ما لا يدخُل تحتَ الوصف من النَّدم والحسْرة، ووقوع العِلم بظلمهم وضَلالهم .
5- قوله: إِذْ تَبَرَّأَ جيء بالفِعل بعد إِذ هنا ماضيًا، مع أنَّه سيحصُل في الآخرة، وهو مستقبلٌ في المعنى؛ للتَّنبيه على تحقُّق وقوعه .
6- قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ عدَل عن الجملة الفِعليَّة (وما يخرجون) إلى الجملة الاسميَّة؛ للمبالغة في الخلود، والإقناطِ من الخَلاص والرُّجوع إلى الدنيا، وللدَّلالة على أنَّ هذا الحُكم ثابتٌ، وأنه من صفاتهم .
=========
غريب الكلمات
المعنى الإجمالي
تفسير الآيات
الفوائد التربويَّة
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف
بلاغة الآيات
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (168-173)
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
غريب الكلمات :
الْفَحْشَاءِ: ما عظُم قبُحه وفحُش، مِن الأفعال والأقوال
.
أَلْفَيْنَا: وجْدنا .
يَنْعِقُ: يَصيح؛ يقال: نعَق بالغنمِ يَنعِق بها إذا صاح بها، فلا تَدري ما يقول لها، إلَّا أنَّها تنزجر بالصَّوت عمَّا هي فيه .
اضْطُرَّ: أُلْجِئَ، والاضْطِرَارُ: يُطلق على حمْل الإنسانِ على ما يَضُرُّهُ وما يكرهه، إمَّا بسببٍ خارج؛ كمَن يُضرَب، أو يُهدَّد، حتى يفعلَ منقادًا، ويُؤْخَذ قهرًا، وإمَّا بسببٍ داخل؛ كالقهر بقوَّةٍ يناله بدفعها الهلاك، كمَن اشتدَّ به الجوعُ فَاضْطُرَّ إلى أكْل ميتة .
غير بَاغٍ: غير طالبٍ ما ليس له طلبُه .
وَلَا عَادٍ: وَلَا متجاوزٍ الحَدَّ
.
المعنى الإجمالي:
يأمُر اللهُ جميعَ البَشر المؤمنَ منهم والكافرَ أنْ يأكلوا مِن كلِّ ما في الأرض نباتًا كان أو حيوانًا إذا توفَّر فيه شرطانِ: أنْ يكونَ ممَّا أحلَّه اللهُ، وأنْ يكون طاهرًا لا ضرَرَ فيه.
ونهاهم أنْ يتَّبِعوا خُطُوات الشيطان؛ وذلك بطاعتِه في تحريمِ ما أحلَّ اللهُ، أو تحليلِ ما حرَّم من المآكل، فإنَّه عدوٌّ لهم، ظاهرُ العداوة، لا يمكن أنْ يريدَ لهم نفعًا، بل يأمُرُهم بكل سيِّئٍ من الأعمال، وبجميع القبائحِ التي بلَغت في القُبح منتهاها، وأن يفتَرُوا على الله الكذبَ؛ باختلاقِ أفعالٍ باطلة، ونِسبتها إلى الله عزَّ وجلَّ بلا علم؛ كتحريمِ الحلالِ، وتحليل الحرام من المأكولات.
ويُخبِر تعالى عن المشركين أنَّهم إذا أُمِروا بالالتزام بما جاء مِن عندِ الله، وأن يكونَ ما يحلُّونه ويحرِّمونه على وَفْقِ الشَّريعة المنزَّلة، كان جوابهم أنَّهم لن يتَّبِعوا إلا ما وجَدوا عليه أسلافَهم، بما فيه من تحليلٍ وتحريم مخالفٍ لِما أراد الله، فأنكَر اللهُ عليهم هذه التبعيَّةَ والتَّقليد الأعمى، فكيف يتَّبِعون آباءهم وهم على حالٍ لا تؤهِّلُهم لأنْ يُتَّبعوا؛ فهم لا عقلَ لهم يُرشِدهم إلى الحق، ولا يحمِلون العِلم النَّافع الذي يقوِّم عمَلَهم، ويُنِير طريقهم.
ثم ضرَب الله مثلًا للكفَّار حين يدعوهم الداعي إلى الإيمان، ولا ينتفعون بما يَسمعونه منهم، فمَثَلهم كالبهائمِ التي يُصوِّت لها الراعي ويَصيح بها فتَسمع صوتَه ولا تَفهم ما يقول، فكذلك هؤلاء الكفَّار لَمَّا لم تُؤمن قلوبُهم أولَ مرة، تعطَّل انتفاعهم بحواسِّهم، فلا يسمعون الحقَّ سماعَ فَهم وقَبول، ولا يتكلَّمون به، ولا يُبصرون سبيله، فينتج عن ذلك أنَّهم لا يعقلون شيئًا من الحق.
ثم يأمر اللهُ تعالى المؤمنين أن يكونَ مأكولهم هو الطِّاهِرَ النافع من المطعومات، التي رزقهم إيَّاها، وأنْ يقوموا بشكره جلَّ وعلا بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، فإنْ كانوا ملتزمين بالخضوعِ والطاعةِ لله عزَّ وجلَّ وحْدَه، فسيَمتثِلون هذين الأمرين.
وبَعدَ أنْ ذكَر اللهُ تعالى إباحةَ الأكْل الطيِّب لعباده، عدَّد لهم أجناس المحرَّمات؛ ليجتنبوها، فحرَّم تعالى لحومَ الأنعام التي ماتتْ حتفَ أنفها، ولم تُذكَّ ذكاةً شرعيَّة، والدَّمَ المسفوح، ولحم الخنزير، وما ذُبِحَ على غير اسم الله تعالى، كالذي يُذبَح للأوثان، ويُسمَّى عليه بغير اسمه سبحانه، مع الجهر بذلك، ويُستثنى من تحريم أكْلها مَن ألجأته ضرورةٌ إلى الأكل منها، غيرَ مُتجاوزٍ للقَدْر الذي يَدفَع به الضرورة، فمَن كانت هذه حالتَه، فلا إثمَ عليه لو تناول منها، والله عزَّ وجلَّ غفورٌ، حيث رفع الإثم عنه، رحيمٌ حين وسَّع لعباده وشرَع لهم هذا الاستثناء؛ حتى لا يقعوا في الحرَج.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا.
يُخاطب اللهُ تعالى جميع النَّاس؛ مؤمنهم وكافرهم، آذِنًا لهم بأن يأكلوا مِن جميع ما في الأرض من نباتاتٍ وحيوانات، بشرْط أنْ يكونَ حلالًا، وطاهرًا غيرَ ضارٍّ
.
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
أي: لا تسلكوا طريقَ الشَّيطان، ولا تَقتفوا أثرَه الذي أضلَّ فيه أتْباعه، وهو ما دعا إليه ممَّا هو خلاف طاعة الله عزَّ وجلَّ، ومن ذلك: تحريمُ ما أحلَّ اللهُ تعالى من المآكل، وتحليلُ ما حرَّم منها، والدَّعوة إلى تناوُل خبيثها، وتَرْك طيِّبها، لا تُطيعوا هذا العدوَّ الظاهر العدواة، الذي يُريد أنْ يقودَكم شيئًا فشيئًا إلى التَّهلُكة .
كما قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام: 140-142] .
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169).
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ.
أي: إنَّ الشيطانَ يأمُرُ بالأعمال السيِّئة الآثِمة التي تسُوءُ عاقبتُها، وتسُوء صاحبَها، كما يأمُرُ أيضًا بما هو أغلظ من ذلك مما يتناهى قُبحُه، ويتجاوزُ حدَّه كالزِّنا .
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
أي: يأمُرُ الشَّيطانُ النَّاسَ أيضًا باختلاقِ أعمالٍ باطلة تُنسب مشروعيَّتُها إلى الله عزَّ وجلَّ، كذِبًا وافتراءً عليه جلَّ وعلا، وإلا فليس لهم مستنَدٌ مِن علمٍ صحيحٍ يُثبتُ أمرَ اللهِ تعالى بها، ومن ذلك تحريمُ ما أحلَّ الله تعالى، أو تحليل ما حرَّمه مِن المأكولات .
كما قال سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 114-116] .
وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 27-28] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 32-33] .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ.
أي: إذا قيل للمشركين: التزِموا باتِّباع الوحيِ الإلهيِّ فحسبُ؛ فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، دون التَّقوُّلِ على الله تعالى بلا عِلمٍ واتِّباعِ الأوهام .
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.
أي: أعرَضوا عن الوحي، وهو العلم النَّافع حقًّا، وأخَذوا بما وجَدوا عليه أسلافهم، فقلَّدوهم فيه، ومن ذلك تحريمُ ما أحلَّ اللهُ تعالى، وتحليلُ ما حرَّمه .
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ.
أي: أيتَّبعون آباءَهم حتى لو كانوا على هذه الحالِ التي لا يستحقُّون أنْ يُتَّبعوا فيها؛ إذ ليس لديهم عقلٌ سليم يُرشِدهم إلى اتِّباع الحقِّ، ويزجُرُهم عن اتِّباع الباطل، ولا يحمِلون عِلمًا نافعًا يعمَلون على وَفْقِه عملًا صالحًا؛ فكيف يتَّبعون هؤلاء ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدى بهم ؟!
كما قال سبحانه: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [المائدة: 103-104] .
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 20-21] .
وقال جلَّ وعلا: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 69-70] .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171).
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً.
أي: شبَّه اللهُ تعالى الكفَّارَ عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان -كالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- شبَّههم بالبهائمِ التي يصوِّت لها راعيها، فتسمَعُ الصَّوت ولا تفهَمُ المعنى، فكذلك حالُ الكفَّارِ الَّذين لا ينتفعون مِن تلك الدَّعوة بشيء، لكنَّهم يسمعون ما تُقام عليهم به الحجَّة .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: إنَّ قلوبهم لَمَّا لم تؤمن، تعطَّل انتفاعهم الحقيقي بحواسِّهم تبعًا لذلك، فلا يسمعون الحق سماع فَهمٍ وقَبول، ولا ينطقون به، ولا يبصرون طريقه، فقلوبهم لا تعقل شيئًا من الحق .
كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ تَحْسَبُ أنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .
وقال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .
وقال أيضًا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وقال سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يونس: 42-43] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا الله.
أي: يأمُرُ اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بالأكل ممَّا أحلَّ اللهُ تعالى لهم؛ من أنواع المطعوماتِ الطَّاهرة النَّافعة، التي رزَقهم إيَّاها، كما أمَرهم أيضًا بالقيام بشُكره؛ بقلوبهم، وألسنتِهم، وجوارحهم .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87-88] .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أيها النَّاسُ، إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ثم ذكَر الرجلَ يُطيلُ السَّفرَ، أشعثَ أغبَرَ، يمدُّ يدَيه إلى السَّماءِ، يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعَمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، وملبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟! )) .
وعن أنسٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إن اللهَ لَيَرضَى عن العبدِ أنْ يأكلَ الأَكْلةَ فيحمَدَه عليها، أو يشرَبَ الشَّربةَ فيحمَدَه عليها )) .
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
أي: إنْ كنتم تُطيعون الله تعالى حقًّا، وتخضَعون له ممتثلينَ لأوامرِه، ومجتنبين لنواهيه، فكُلوا ممَّا رزَقكم اللهُ تعالى، واشكروه على ما أنعَم به عليكم .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قيَّد سبحانه وتعالى الإذنَ لعباده بالطيِّب من الرِّزق، افتقَر الأمرُ إلى بيان الخبيث منه ليُجتَنَب، فبيَّن صريحًا ما حرَّم عليهم ممَّا كان المشركون يستحلُّونه ويحرِّمون غيرَه، وأفهَم حِلَّ ما عداه، وأنه كثيرٌ جدًّا؛ ليزدادَ المخاطَب شكرًا ، فقال:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ.
أي: قد حرَّم الله تعالى عليكم- أيُّها المؤمنون- الميتةَ التي ماتت حتْفَ أنفها دون ذكاةٍ شرعيَّة، والدَّم المسفوح، ولحم الخنزير- ويدخُل فيه شحمُه- وما ذُبح على غير اسم الله عزَّ وجلَّ، كالذي يُذبَح للأصنام، ويُسمَّى عليه بغير اسمه سبحانه، مع رفْع الصَّوت بذلك .
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْه.
أي: مَن ألجأتْه الضرورةُ إلى الأكْل من تلك المحرَّمات وهو غير مبتغٍ لتناولِها مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، وغير متجاوزٍ قدْرَ الضَّرورة، فلا يتناول منها إلَّا بمقدارِ ما يسدُّ جوعه، فمَن كانت حاله كذلك فليس عليه إثمٌ مِن تناولِ تلك المحرَّمات .
ثم ذكَر تعالى تعليلَ الحُكمِ بانتفاءِ الإثم، فقال :
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى يَغفِر ذنوبَ عباده، فيسترها ويتجاوز عن المؤاخذةِ بها، ومن ذلك أنَّه رفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه
.
الفوائد التربويَّة:
1- أن مَن تعصَّب لمذهبٍ مع مخالفة الدليل ففيه شَبَهٌ من هؤلاء المذكورين في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، والواجب أنَّ الإنسان إذا قيل له: (اتَّبِعْ ما أنزَل اللهُ) أنْ يقولَ: (سمِعْنا وأطَعْنا)
.
2- أن كلَّ مَن خالَف الحقَّ وما أنزَل اللهُ، فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] .
3- توجيه المرء إلى طلَب الرِّزق من الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: مَا رَزَقْنَاكُمْ؛ فإذا كان هذا الرِّزق مِن الله سبحانه وتعالى فلنطُلْبه منه، مع فِعل الأسباب التي أمَرنا بها .
4- أنَّ الشُّكر لله عزَّ وجلَّ من تحقيق العبادة؛ لقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ .
5- وجوب الإخلاص لله في العبادة؛ يُؤخَذ ذلك من اللام في قوله تعالى: لِلَّهِ، ومِن تقديم المعمول (إيَّاه) في قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- إثبات رحمةِ الله سبحانه وتعالى بعباده من وجهين: أولًا: من أمرِه إيَّاهم بالأكل من الطيِّباتِ؛ لأنَّ بذلك حِفظًا لصحَّتِهم، ثانيًا: من قوله تعالى: مَا رَزَقْنَاكُمْ؛ فإنَّ الرِّزقَ بلا شكٍّ من رحمة الله
.
2- أنَّ التحريمَ والتحليل إلى الله تعالى؛ فهو حقٌّ خاصٌّ به وحده؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ .
3- قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فيه أنَّ الشِّركَ- وإن كانت نجاستُه معنويَّة- قد يؤدِّي إلى خُبثِ الأعيان؛ إذ هذه البهيمة التي أُهلَّ لغير الله بها نجسةٌ خبيثة محرَّمة، والتي ذُكِر اسمُ الله عليها طيِّبةٌ حلال
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ذكر (إنَّ) للاهتمام بالخبر؛ لأنَّ عداوةَ الشيطان معلومة لكل أحد، أو تُجعَل (إنَّ) للتأكيد بتنزيل غير المتردِّد في الحُكم منزلةَ المتردِّد أو المنكِر؛ لأنَّهم لاتباعهم الإشاراتِ الشيطانيَّةَ بمنزلة مَن يُنكر عداوته، وهي تُفيد معنى التعليل والربط في مِثل هذا، وتغني غناء الفاء، وهو شأنها بعد الأمر والنهي
.
2- في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ جاء بناء قِيلَ لِمَا لم يُسمَّ فاعله؛ لأنَّه أخصر؛ فلو ذُكِر الآمرون لطال الكلام؛ لأنَّ الآمِر بذلك هو الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام ومَن يتبعه من المؤمنين .
3- في قوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ
- الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكارِ والتقريع، والتعجُّب من حالهم؛ فهي بمعنى الردِّ لا بمعنى النَّفي، وإنَّما جُعلت همزة الاستفهام لذلك؛ لأنَّها تقتضي الإقرارَ بشيءٍ يكون الإقرارُ به فضيحةً، كما يقتضي الاستفهام الإخبارَ عن المستفهَم عنه .
- وهذا التركيب من بديع التَّراكيب العربيَّة وأعلاها إيجازًا؛ فـ(لو) للشرط، وجوابها محذوف دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، تقديره: لاتَّبعوهم، والمستفهَم عنه هو الارتباط الذي بيْن الشَّرْط وجوابه .
4- قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فيه من البلاغة: إيجاز بالحذف على طريقة (الاحتباك)، حيث حذف من الأوَّل ما أثبت نَظيره في الثاني، وحذف من الثاني ما أثبت نَظيره في الأول، والتقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعِق والذي يُنعَق به؛ فحذف من الأوَّل الأنبياء؛ لدلالة الذي ينعق عليه، وحذف من الثاني الذي يُنعَق به؛ لدلالة الذين كفروا عليه .
5- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
- فيه إيجازٌ بالحذف بليغ؛ حيث عدَل هاهنا عن ذِكر تعداد المباحات، فأجملها لكثرتها، بينما ذكر في الآية التي تليها تفاصيلَ المحرَّمات لقلَّتها، كما حُذف جواب إنْ الشرطية، (فاشكروه)، وحذفه شائعٌ في كلام العرب؛ لدلالة السِّياق عليه .
- وفي قوله: وَاشْكُرُوا للهِ التفات؛ إذ خرج من ضمير المتكلِّم في رَزَقْنَاكُمْ إلى اسم الغائب؛ لأنَّ هذا الاسم الظاهر متضمِّنٌ لجميع الأوصاف التي منها وصْفُ الإنعامِ والرزق، والشُّكرُ ليس على هذا الإذن الخاص، بل يُشكَر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص .
- وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: قدم المفعولَ به إيَّاه على الفعل والفاعل تَعبدُون؛ لإفادة الاختصاص؛ لأنَّه سبحانه مختصٌّ وحده باستحقاق العبادة .
=== ===
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (174 - 176)
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ
غريب الكلمات:
شِقَاقٍ: أي: عداوةٍ واختلاف، ومباينةٍ ومباعدة، وأصل (شقَّ) يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيْءِ، ومنه الشِّقاقُ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى انصِداع الجماعَة وتفَرُّقها
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر تعالى عن اليهود الذين يُخْفُونَ نبوَّةَ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ التي قد ثبَتَت عندهم في التَّوراة، ويُخْفُونَ كذلك بعضًا من أحكام الله فيها، ويغيِّرونها؛ يبتغون نَيْلَ شيءٍ من الأموال والمناصب وغيرها من عَرَض الدُّنيا- أخبَر أنَّ جزاءَهم أنْ يأكلوا في بطونهم نارًا مقابلَ ما أكَلوه من الحرام عن طريق كِتمان العِلم الذي في كُتبِهم، ولا يكلِّمهم سبحانه وتعالى يوم القيامة كلامَ رضًا، ولا يُطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يُثْني عليهم، ولهم فوق هذا كلِّه عذابٌ موجِع.
أولئك الكاتِمون للعِلم قد استبدلوا -بفِعلِهم هذا- بطريقِ الهداية طريقَ الغواية، واستبدلوا بنَيْلِ مغفرة الله تعالى استحقاقَ عذابِه، ثم تعجَّب سبحانه وتعالى مِن جُرأتِهم على هذا الفعل وهم يعلَمون أنَّ عاقبتَه النَّارُ، وكيف حبَسوا أنفسهم على ارتكابه وهو يوصلهم إلى العذابِ الشديد.
واستحقَّ أولئك العذابَ على ما كتَموه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أنزَل كتابه عليهم بالحقِّ، فيجبُ ألا يُكتَم، بل الواجب بيان ما فيه؛ لذلك كان الإخفاءُ مخالفًا لمراد الله من إنزال الكتاب.
ثم أخبَر تعالى أنَّ الَّذين آمنوا ببعض الكتاب وكفَروا ببعض، وكتَموا منه أشياءَ، وأظهَروا أشياء- لَفِي جانبٍ بعيدٍ عن الحقِّ.
تفسير الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174).
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: إنَّ اليهود الَّذين كتَموا أمر نبوَّةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ الثابتةِ في توراتهم، وكتَموا بعض أحكام الله تعالى فيها، وبدَّلوها- كتحريمهم ما أحلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ- يبتغون بهذا الكتمانِ نَيْلَ عَرَضٍ من حُطام الدُّنيا الفاني؛ من الأموال، والرِّئاسات، وغيرها
.
أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ.
أي: إنَّ جزاءَهم في الآخرة مِن جِنس ما عمِلوه في الدُّنيا، فكما أكَلوا في بطونهم ما حرَّم الله تعالى بما اكتَسَبوه من مالٍ حرامٍ؛ لكتمانِهم العِلمَ- فكذلك يُطعَمون يومَ القيامة نارًا في بطونهم؛ جزاءً وِفاقًا .
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: لا يُكلِّمهم الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بكلامِ إكرامٍ ورضًا يسُرُّهم؛ لأنَّه غاضبٌ عليهم، ولا يطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يثني عليهم خيرًا؛ لأنَّ قلوبَهم وأعمالَهم دَنِسة، لا تستحقُّ المدحَ والثناء، ولهم مع ذلك كلِّه عذابٌ موجِعٌ، فجمَع الله تعالى لهم بين الألَمِ النَّفسانيِّ والجُسماني .
ولَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى جزاءهم، أتبَعه بترجمةِ حالهم ، فقال:
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175).
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ.
أي: إنَّ أولئك الَّذين وصَفهم الله تعالى بكتمانِ العلم، قد استبدلوا- بفِعلهم هذا- بطريقِ الهُدى الذي يقودُهم إلى رضوان الله عزَّ وجلَّ ونعيمِ الآخرة؛ استبدلوه به طُرُقَ الهَوَى التي أضلَّتهم عن الصِّراط المستقيم، وبفِعلهم هذا قد استبدَلوا أيضًا بنَيْلِ مغفرةِ الله تعالى استحقاقَ عذابِه .
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.
أي: تعجَّب اللهُ سبحانه وتعالى من أولئك القوم الَّذين كتموا وحيَ الله تعالى، كيف حبَسوا أنفسَهم ووطَّنوها على ارتكاب هذا العمل المودِي بهم إلى عذابٍ شديد، وكيف تجرَّؤُوا على هذا الصَّنيع وهم يعلَمون سوء عاقبته ؟!
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر جلَّ وعلا جزاءهم، ذكَر السَّبب الموجِبَ لهذا العقاب العظيم، فقال :
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.
أي: إنَّهم استحقُّوا العذابَ على كتمانهم؛ بسبب أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل كتابَه عليهم بالحقِّ، فحقُّه ألَّا يُكتَم، بل يبيَّن ما يحويه، وكتمانُهم شيئًا من الكتاب كتمانٌ للحقِّ، وذلك مخالِفٌ لمراد الله تعالى؛ لأنَّ ما يُكتَم مِن الحق يخلُفُه الباطلُ، فحقَّ عليهم العذابُ .
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
أي: إنَّ الَّذين آمنوا ببعض الكتاب وكفَروا ببعض؛ فكتَموا منه أشياءَ، وأظهَروا أشياءَ- قد فارَقوا الحقَّ، وجانَبوا طريقَ الصواب
.
الفوائد التربويَّة:
1- وجوب نشْر العِلم؛ لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...، ويتأكَّدُ وجوب نشْره إذا دعتِ الحاجةُ إليه بالسؤالِ عنه؛ إما بلسان الحال، وإما بلسان المَقال
.
2- إقامة العَدل في الجَزاء؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؛ فجعَل عقوبتَهم من النَّارِ بقَدْرِ ما أكَلوه من الحرام .
3- أنَّ الاختلافَ ليس رحمة، بل إنه شِقاقٌ وبلاءٌ، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- إطلاق المسبَّب على السبب؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؛ فإنَّهم لا يأكلون النَّار، ولكن يأكلونَ المالَ، وهو سببٌ للنار
.
2- في قوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ إثباتُ صفة التعجُّب لله تبارك وتعالى .
3- إثبات العِلل والأسباب؛ لقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ، والباء للسببيَّة، وقد ذكَر بعض أهلُ العلم أنَّ في القرآن أكثرَ من مئة موضعٍ، كلُّها تُفيدُ إثبات العِلَّة؛ خلافًا للجَبْريَّة الَّذين يقولون: (إنَّ فِعْلَ الله عزَّ وجلَّ ليس لحِكمةٍ، بل لمجرَّد المشيئة)؛ تعالى اللهُ عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: فيه تأكيدُ الأكْل وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول؛ فإنَّ فِي بُطُونِهِمْ متعلِّق بـ يَأْكُلُونَ، وذكَر بطونهم تنبيهًا على شَرَهِهم، وتَقبيحًا لتضييع أعظم النِّعم لأجْل المطعوم، وللتنبيه على مذهبهم، بأنَّهم باعوا آخرتَهم بحَظِّهم من المطعَم الذي لا خطرَ له
.
2- في قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
- (ما) تعجبيَّة، أو استفهاميَّة صحِبَها معنى التعجُّب؛ فهو تعجُّبٌ من حالهم في الْتباسِهم بموجبات النارِ من غير مبالاةٍ منهم. أو: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم ؟!
- وفيه: تنزيلُ غيرِ الواقع منزلةَ الواقع؛ لشدَّة استحضار السامع إيَّاه بما وُصِف به من الصِّفات الماضية؛ إذ شأن التعجُّب أن يكون ناشئًا عن مشاهدة صبرهم على العذاب، وهذا الصَّبر غيرُ حاصلٍ في وقتِ نزول هذه الآية .
3- في قوله: ذَلِكَ بأنَّ اللهَ نزَّلَ الكتابَ بالحقِّ جِيء باسم الإشارة لرَبْط الكلام اللَّاحِق بالسَّابق، على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصلُ بين الشيء وما ارتبَط به من حُكمٍ أو عِلَّةٍ، أو نحوهما .
4- قوله: فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ فيه الإظهار في موضع الإضمار؛ حيث قال: فِي الكِتَابِ، ولم يقل: (فيه)، وفائدته: أن يكون التذييلُ مستقلًّا بنفسه؛ لجريانه مجرَى المَثَل .
========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (177 - 179)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
غريب الكلمات:
البِرَّ: التوسُّع في فِعل الخير، والاتِّساع فِي الْإِحْسَان، ومن أصوله: الصِّدْقُ
.
بِعَهْدِهِمْ عَاهَدُوا: العَهد: حِفظُ الشيء ومراعاتُه، حالًا بعد حال، والمِيثاقُ، فَسمِّي الشيءُ الموثَّقُ الذي يلزم مراعاتُه عهدًا .
عُفِيَ: تُرِك، والعَفْوُ: هو ترْك العقوبة، والتَّجافي عن الذَّنب؛ يُقال: عفوتُ عنه، أي: قصدتُ إزالة ذنبِه صارفًا عنه .
الْقِصَاصُ: مُقابلةُ الفِعل بمثلِه، وتتبُّع الدَّم بالقَوَدِ (أي: قتْل القاتِلِ بالقتيل)، وأصل (قصَّ) يدلُّ على تتبُّع الشيءِ، ومن ذلك اشتقاق القِصاص في الجراح؛ لأنَّه يُفعل به مِثل فعله بالأوَّل، فكأنَّه اقتصَّ أثره .
أُولِي الْأَلْبَابِ: أصحابِ العقول الزَّكيَّة؛ واللُّبُّ: العقل الخالص من الشَّوائب؛ وسمِّي بذلك لكونه خالصَ ما في الإنسان من معانيه
.
مشكل الإعراب :
1- قوله: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا:
البِرَّ: قُرِئ بالنَّصب والرَّفْع؛ فعَلى قِراءة النصب، فـالبرَّ خبَر ليسمقدَّم، وقوله: أَن تُوَلُّوا- وهو مصدر مُؤوَّل، أي: توليتُكم- في محلِّ رفْع اسم ليس مؤخَّر.
وأمَّا على قراءة رفع البر، فلا تقديم ولا تأخير. فـالبر اسم ليس، وأن تولوا خبرُها
.
2- قوله: وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ:
البِرَّ: إذا كان بمعنى البارِّ، فهو اسم لكنَّ- على قِراءة التَّشديد-، وخبرها مَن آمَن.
وعلى قراءة تخفيف لكنْ، فالبِرُّ مبتدأ مرفوع، ومَن آمَن خبر، ولا إشكال في هذا الوجه.
وأمَّا إذا كان على معناه البِر، فالتقدير: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَن آمن، أو: ولكنَّ ذَا البِرِّ مَن آمن، ثم حُذِف المضاف، وأُعرِب المضافُ إليه إعرابَه .
3- قوله: وَالْمُوفُونَ: مرفوع، وفي رفْعه ثلاثةُ أوجه: إمَّا يكون عطفًا على الضمير في آمَن، أي: من آمنوا هُم والموفون، أو على (مَن) في قوله: مَن آمن، أو: يكون خبرًا لمبتدأ محذوف على إضمار (وهم) على المدح للمضمرين، والتقدير: وهم الموفون .
4- قوله: وَالصَّابِرِينَ: مفعول به منصوب لفِعلٍ محذوف، تقديره: أمدح، أو أخص، أو أعني. أو يكون معطوفًا على ذَوَي القُرْبَى- ولا يتَّجه هذا الوجه إلَّا على القول برفْع وَالمُوفُونَ على العطف على الضَّمير في آمَن؛ ليكون داخلًا في صلة مَن؛ لأنه لا يُفصل بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر الله عزَّ وجلَّ أنه ليس في التمسُّك بالتوجُّه إلى ناحية المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إنْ لم يكن عن أمْرِ الله تعالى، ولكن الخير الحقيقي هو الإيمانُ الجازم بالله تعالى، واليومِ الآخِر، وملائكتِه، وجميعِ كتبه، وكل أنبيائه ورُسلِه، وأنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وحريصٌ عليه، لقرابته، ولليتامى، وللذين لا يجِدون ما يَكفيهم، وللمسافر الذي يمرُّ به وليس معه نفقةٌ توصله لوطنه، وللمستجدي الذي يطلُبُ العطاء، ولأجل فكِّ الرِّقاب.
كذلك من البِرِّ: الإتيانُ بالصَّلاة تامَّة، وإعطاء الزَّكاة المفروضة لمن يستحقُّها، والالتزام بالعهود والوفاء بها، سواء تلك التي مع الله، أو مع الخَلْق.
ومن البِرِّ أيضًا: الصَّبرُ في حال الفقر، والمرض، وحين القتال، وهو أنْ يحبِس المرءُ نفسه عن الجزَع والسَّخَط والشَّكوى؛ فكلُّ مَن اتصف بتلك الصِّفاتِ السالفة الذِّكْر، المشتملة على عقائدَ وأعمالٍ وأخلاق- هم الصَّادقون في إيمانهم، وهم المتَّقون؛ بفِعْلهم المأمورَ، واجتنابهم المنهيَّ عنه.
ثم أعلَم اللهُ المؤمنين بما فرَضه عليهم من المساواة، واعتبارِ المماثَلة في القِصاص بين القتلى، فيُقتل الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَر بالذَّكَر، والأُنثى بالأُنثى.
فإذا عفا أولياءُ المقتول عن الدَّم، سقَط القِصاص عن القاتل، ووجبتِ الدِّيَة، ففي هذه الحالة يجب على العافي ألَّا يُتبِع عفوَه المنَّ والأذى، ولا يكلِّفَ القاتلَ ما لم يوجبه الله تعالى، ولا ما فيه مشقَّة، ممَّا لا يدخُل تحت القُدرة، وعلى القاتل أنْ يُؤدِّيَ ما لزِمه إلى أولياء المقتول من غير مَطْلٍ ولا نَقْصٍ مما وجب عليه، ولا يسيء بقولٍ أو فعل لِمَن عفا عنه.
وفي هذه الأحكام التي شرَعها الله عزَّ وجلَّ من إباحةِ العفو عن القاتل، وأخْذ الدِّيَة بدلًا عن القِصاص: تيسيرٌ وتخفيفٌ من الله تعالى لهذه الأمَّة، ورحمةٌ منه بعباده، لكن مَن يتعدَّى حدودَ الله بعد حدوث العفو- كأن يَقتُلَ الوليُّ القاتلَ بعد عفوِه عنه، أو يُكرِّر القاتلُ جنايتَه مرَّةً أخرى- فللمعتدي في هذا الحال عقابٌ موجِعٌ.
ثمَّ أخبَر الله تعالى عبادَه أنَّ لهم في تشريع القِصاص حياةً، وسيتَّضح لهم ذلك إنْ أعمَلوا عقولَهم وتدبَّروا الآثارَ المترتِّبة على هذا التشريع، فإنَّ مَن أراد القتلَ إذا استحضَر أنَّ وراءه قِصاصًا ينتظرُه، سيكفُّ عن القتلِ، وإذا رأى النَّاسُ القاتلَ مقتولًا قِصاصًا، انزَجروا عن تَكرارِ هذا العمل.
تفسير الآيات:
لَيْسَ الْبِرَّ أنَّ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177).
لَيْسَ الْبِرَّ أنَّ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
أي: ليس الشَّأن في حصول الخير بلزوم التوجه في الصلاة نحو هذه الجهة أو تلك
.
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ.
أي: مَن اتَّصفَ بهذه الأمورِ الآتيةِ من الاعتقادات والأعمال والأخلاق، فقد أخَذَ بمجامعِ الخيرِ كلِّه، فأمَّا الاعتقادات فهي الإيمانُ بالله تعالى، ومن ذلك: الإيمانُ بوجوده وربوبيَّته، وأُلوهيَّته، وأسمائه وصفاتِه، والإيمانُ باليومِ الآخر، ومنه: الإيمانُ بالبَعث والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة، والإيمانُ بملائكة الرحمن، كالإيمان بوجودِهم وأعمالهم وصِفاتهم، والإيمانُ بالكتب، كالإيمانِ بأنَّ نزولها من عند الله عزَّ وجلَّ، والإيمانُ بأنبيائه عليهم السَّلام، ومن ذلك: الإيمان بأنَّ رسالتهم حقٌّ من عند الله تبارك وتعالى .
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ.
أي: ومِن الأعمال الدَّاخلةِ في مسمَّى البِرِّ: أنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وراغبٌ فيه، فيدفعه صدقةً لأقاربِه، وللصِّغار الَّذين فقدوا آباءهم وهم دون البلوغ ولا كاسبَ لهم، وللمساكين الَّذين لا يجِدون ما يَكفيهم ويُغْنيهم، وللمسافر المجتاز يريد نفقةً تُوصلُه لموطنه، وللطَّالبين حاجةً ممَّا يعرِضُ لهم مِن سوء، ولعِتْق الرِّقاب ونحوها .
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا.
أي: وأتَوْا بالصَّلاة تامَّةً ومستقيمة، وأعطَوُا الزَّكاة التي فرَضها اللهُ تعالى عليهم إلى مستحقِّيها، وأتمُّوا ما التزموا به من عهودٍ مع الله عزَّ وجلَّ ومع الخَلْق، فلم يَنقُضوها من بعدِ ميثاقها .
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.
أي: الَّذين حبَسوا أنفسهم عن الجزَع والتسخُّطِ وعمَّا يكرَهُه الله عزَّ وجلَّ، في حال فقرِهم، ومرَضِهم، وفي وقت اشتداد القتال في حربِ الأعداء .
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
أي: إنَّ أولئك المتَّصِفين بما سبَق ذِكرُه من عقائدَ وأعمالٍ وأخلاق، هم الصَّادقون في إيمانهم؛ لأنَّ أعمالَهم قد صدَّقت إيمانَهم، وهم المتَّقون؛ لأنَّهم فعَلوا ما أُمروا به، واجتنَبوا ما نُهوا عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى.
أي: فُرِض عليكم- أيُّها المؤمنون- تحقيقُ المساواة واعتبارُ المماثَلة في القِصاص بين القتلى، فيُقتَل الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر، والأُنثى بالأُنثى، فلا تتعدوا بالقصاص إلى غير القاتل والجاني (كما لو قَتلت الأُنثى أُنثى أُخرى، فإنَّ الأنثى الجانية هي التي تُقتل، ولا يَحِلُّ أن يُقتل بهذه الأنثى المقتولة رجلٌ لم يقتلها، ومثل ذلك: الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر) .
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.
أي: إذا عفا أولياءُ المقتول فلم يُطالِبوا بدَمِه، سقَط القِصاصُ عن القاتل، ووجبت عليه الدِّيَةُ، والواجب على العافي عند قَبضِ الدِّيَة ألَّا يكلِّفَ القاتلَ ما لم يوجِبْه الله تعالى عليه، ولا يشُقَّ عليه بما لا طاقةَ له به، وعلى القاتل أداءُ ما لزِمه لأولياء المقتولِ من غيرِ مماطَلةٍ ولا إنقاصٍ للدِّيَة، ولا صدورِ إساءةٍ فِعليَّةٍ أو قوليَّةٍ منه لهم، فعلى أولياء المقتول حُسنُ الاقتضاء، وعلى القاتل حُسنُ القضاء .
ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.
أي: إنَّ ما شرَعه اللهُ عزَّ وجلَّ من إباحةِ العفوِ عن القاتل وأخْذِ الدِّيَة عوضًا عن القِصاص- حُكْمٌ فيه تخفيفٌ من الله تعالى لهذه الأمَّة، ورحمةٌ منه بعباده .
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: مَن تجاوَز ما حدَّه الله تعالى مِن الأحكام السَّابقة للقِصاص- كأنْ يَقتلَ وليُّ المقتولِ القاتلَ بعد العفوِ عنه، أو يعودَ القاتلُ إلى جِنايتِه مرة أخرى- فإنَّ له عقابًا موجعًا، قيل: هو قتلُه في الدنيا، وقيل: عقوبتُه في الآخرة .
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179).
أي: إنَّ في مشروعيةِ القِصاص حياةً، لِمَن أعمَل عقلَه؛ ليتدبَّرَ ويفهمَ عن الله تعالى مرادَه من هذا الحُكم، فينزجِر ويجتنِب القتل؛ فإنَّ مَن أراد القتل إذا علِم أنَّه يُقتَل قِصاصًا بمن قتَله، كفَّ عن القتل؛ فكان في ذلك حياةٌ له ولِمَن أراد قَتْلَه، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا انزَجر بذلك غيرُه، كما أنَّه كان في أهل الجاهليَّةِ مَن إذا قُتل الرَّجلُ مِن قومهم قتَلوا به أكثرَ مِن واحد من عشيرةِ القاتل؛ فشرَع اللهُ تعالى القِصاص، فلا يُقتَلُ بالمقتولِ غيرُ قاتلِه، وفي ذلك حياةٌ لقومِه
.
الفوائد التربويَّة:
1- في قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ الترتيب في الإنفاق، فأولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، ثمَّ اليتامى؛ لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى، ثمَّ المساكين الذين لا مال لهم حاضرًا ولا غائبًا، ثمَّ ابن السبيل الذي قد يكون له مالٌ غائب، ثم السائلين الذين منهم صادقٌ وكاذب، ثم ذَكَرَ الرِّقاب الذين لهم أربابٌ يَعُولُونهم. فكلُّ واحدٍ ممن أُخِّر ذكره أقلُّ فقرًا ممن قُدِّم عليه
.
2- ينبغي الصَّبرُ على جميع أنواع الضُّر، وقد استوعبتْ هذه الجملة وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ جميعَ أنواع الضرِّ؛ لأنَّه إمَّا يحتاج إلى الصبر في شيءٍ يَعوزُ الإنسانَ أو يُريده فلا يناله، وهو البأساء، أو فيما نال جِسمَه من ألَمٍ وسقمٍ، وهو الضرَّاء، أو في مدافعةٍ مُؤذيةٍ له، وهو البأس
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ في نصْبِ الصَّابِرِينَ- بتقدير: أخصُّ أو أمدَحُ- تنبيهًا على خَصيصيةِ الصَّابرين ومزيَّةِ صفتِهم الَّتي هي الصبرُ
.
2- في قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى دَلالةٌ على أنَّ تنفيذَ القِصاص من مقتضى الإيمان؛ لأنَّ الخطابَ موجَّهٌ للمؤمنين .
3- أنَّ فاعلَ الكبيرة لا يخرُجُ مِن الإيمان بالكليَّة؛ لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؛ فجعَل اللهُ المقتولَ أخًا للقاتل، ولو خرَج من الإيمانِ لم يكُنْ أخًا له .
4- أنَّ كونَ القِصاص حياةً يحتاج إلى تأمُّل وعقلٍ؛ لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ فيه إيجازٌ بحذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مقامَه؛ إذ التقدير: (ولكن البِرَّ بِرُّ مَن آمن)، أو يكون من باب المبالغة إذا جُعِل (البارّ) نفْس البِر
.
2- قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
- قوله: عَلَى حُبِّهِ أي: مع حبِّ المال، ففيه تَتْميم وتوكيدٌ واحتراس؛ للمبالغة، وللدَّلالة على عِظمِ الأجْر؛ فإنَّ بذْل الإنسان من الشَّيء الذي يحبُّه أبلغ، وأكثر أجرًا وأدْعى لزيادته .
وقوله ذَوِي مفعولٌ أوَّل لـ(آتَى) قُدِّم عليه مفعولُه الثاني (المال)؛ للاهتمام به، أو لأنَّ في الثاني معَ ما عُطف عليه طُولًا؛ ولو رُوعي الترتيبُ، لفات تجاوبُ الأطراف في الكلام، وهو الذي اقتضى تقديمَ الحال أيضًا والله أعلم. وقيل: هو المفعولُ الثاني .
3- في قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا إيثارُ التعبير بصِيغة الفاعِل في وَالْمُوفُونَ وعدم التعبير بالفعل (وأَوفوا)؛ للدَّلالة على وجوب استمرار الوفاءِ .
4- قوله: وَالصَّابِرِينَ نُصِب على الاختصاص والمدح، ولم يُعطَف على ما قبله وَالْمُوفُونَ؛ إظهارًا لفضل الصَّبر في الشدائد، ومواطن القِتال على سائر الأعمال، وحسُن هنا التخالف في إعراب الصِّفات الكثيرة وعدم جعْلها كلِّها جاريةً على موصوفها؛ لأنَّ هذا موضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خُولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل؛ لأنَّ الكلام عند الاختلاف يَصير كأنَّه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، ويُسمَّى ذلك قطعًا؛ لأنَّ تغييرَ المألوفِ يدلُّ على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكورِ ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه .
5- وفي هذه الآية ترتيبٌ حسنٌ بديع:
- ففي قوله: آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ قدَّم الإيمان بالله واليوم الآخِر على الإيمان بالملائكة والكتُب والرسل؛ لأنَّ المكلَّف له مبدأ، ووسط، ومنتهًى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذَّات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخِر، وأمَّا معرفة مصالح الوسط فلا تتمُّ إلَّا بالرِّسالة، وهي لا تتمُّ إلَّا بأمورٍ ثلاثة: الملائكة الآتِين بالوحي، والمُوحَى به: وهو الكِتاب، والموحَى إليه: وهو الرَّسول .
- وقوله: وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ فالمَلَك يوجد أولًا، ثم يحصُل بوساطة تبليغه نزولُ الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرَّسول، فقدَّم الملائكة والكتُب على الرُّسل، وإنْ كان الإيمانُ بوجود الملائكة وصِدق الكتُب لا يحصُل إلَّا بواسطة الرُّسل؛ لأنَّ ذلك رُوعي فيه الترتيبُ الوجوديُّ الخارجي، لا الترتيب الذِّهني .
- وقدَّم الإيمانَ على أفعال الجوارح، وهو: إيتاءُ المال والصَّلاة والزَّكاة؛ لأنَّ أعمال القلوب أشرفُ من أعمال الجوارح، ولأنَّ أعمال الجوارح النافِعة عند الله تعالى إنَّما تنشأ عن الإيمان .
- وفي قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ قدَّم مَن كان أَوْلى أن يتفقدَّه الإنسان بمعروفه وهم أقاربه، ثمَّ عقَّبه باليتامى؛ لأنَّ مواساتهم بعد الأقارب أوْلى، ثمَّ ذكَر المساكين الذين لا مالَ لهم يكفيهم حاضرًا ولا غائبًا، ثمّ ذكر ابنَ السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادقٌ وكاذب، ثم ذَكَر الرِّقاب الذين لهم أربابٌ يَعولُونهم؛ فكلُّ واحد ممَّن أُخِّر ذِكرُه أقلُّ فقرًا ممَّن قُدِّم ذِكره، والله أعلم .
7- قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
- فيه تعدية الفعلعُفِي باللام مع أنَّه يعدى بـ(عن)؛ لأنَّه يتعدَّى بـ(عن) إلى الجاني وإلى الذَّنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذَنبه، وأمَّا إذا تعدَّى إلى الذَّنب والجاني معًا قيل: عفوت لفُلان عمَّا جنَى، فكأنه قيل: فمن عُفي له عَن جِنايته، فاستُغني عن ذِكر الجناية .
- وتنكير شَيْءٌ؛ للإشعار بأنَّه إذا عُفي له طرَفٌ من العفو وبعضٌ منه، بأنْ يُعفى عن بعض الدَّم، أو عفا عنه بعضُ الورثة، فقد تمَّ العفو وسقَط القصاص، ولم تجبْ إلَّا الدِّية .
- وفيه تسمية وليِّ الدم أخًا للقاتل؛ اعتبارًا بأُخوَّة الإسلام، أو استعطافًا له عليه، أو لكونه ملابسًا له مِن قِبَلِ أنَّه وليٌّ للدم، ومطالِبٌ به .
8- التنكير في قوله: حَيَاةٌ يفيد التعظيم؛ فيدلُّ على أنَّ في القصاص حياةً متطاولةً .
=========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (180 - 182)
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
غريب الكلمات:
جَنَفًا: ميلًا ظاهرًا، وعدولًا؛ يقال: جنَف، إذا عدَل وجار
.
مشكل الإعراب:
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ... الْوَصِيَّةُ:
الْوَصِيَّةُ: مرفوعةٌ بالابتداء، والخبرُ محذوف، أي: فعليكم الوصيةُ. ونائب الفاعل لـكُتِبَ حينئذٍ محذوفٌ، تقديره (هو)، أي: الإيصاء، دلَّ عليه قوله: الْوَصِيَّةُ. أو نائب الفاعل عَلَيْكُم.
أو تكون الْوَصِيَّةُ نائبَ الفاعِل للفِعل كُتِبَ، وجاز تذكيرُ الفِعل مع أنَّ لفظ الوصية مؤنَّث؛ لأنَّه أراد بالوصية الإيصاء، أو لكونِ القائمِ مقامَ الفاعل الْوَصِيَّةُ مؤنَّثًا مجازيًّا، وفُصل بينه وبين مرفوعه بفاصل؛ لأنَّ الكلام لَمَّا طال كان الفاصل بين المؤنَّث والفِعل كالعِوَض من تاء التأنيث، والعرب تقول: حضَر القاضي امرأةٌ، فيُذكِّرون؛ لأنَّ القاضي بين الفِعل وبين المرأة
.
المعنى الإجمالي:
فرَض اللهُ على المؤمنينَ في هذه الآياتِ حين يشرف أحدُهم على الموت، وتأتيه أسبابُه إنْ كان لديه مال: أنْ يوصيَ ببعضِه إلى والديه وأقاربِه، مَن كان منهم غيرَ وارثٍ، مِن غير سرَفٍ ولا تقتير، مراعيًا فيه الأقربَ والأحوجَ، من غير ضررٍ بالوَرَثَة، هذا الأمرُ بالوصيَّة أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على مَن اتَّصَف بالتَّقوى.
فمَن غيَّر الوصيةَ بعد سماعِه لها من الموصي بالزِّيادةِ أو النقصان، أو غيرِ ذلك، فقد تحمَّل هو الإثمَ، وبرِئَت ذِمَّة الموصي، والله تعالى سميعٌ عليمٌ وسيُجازي كلًّا بما يستحقُّ.
ومَن خشِي أنْ يَميلَ الموصي في وصيَّتِه عن الحقِّ والعدلِ، سواء بالخطأ غيرِ المقصود، أو كان متعمِّدًا، فلا إثمَ عليه أنْ يقومَ بنصيحتِه وتوضيحِ التَّصرُّف الصَّحيح للموصي، أو يقومَ بتعديلها بما يوافقُ الشَّرعَ بعد موتِ الموصي، وبهذا يزولُ فسادُ الوصية، ويحلُّ ما قد يحصُلُ مِن شِقاقٍ بين الموصي والوَرَثَة، أو بين الوَرَثَة مع الموصَى لهم.
تفسير الآيات:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان في الخِطاب السَّابق ذِكْرُ القَتْلِ، والقِصاص الذي هو حالُ حضور الموتِ، انتظَم به ذِكرُ الوصيَّة؛ لأنَّه حالُ مَن حضَره الموتُ، فقال تعالى
:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180).
أي: فُرِضَ عليكم- أيُّها المؤمنون- إذا أتَتْكم أسبابُ الموت ومقدِّماتُه، وكان لديكم مالٌ: أنْ تعهَدوا ببعضِ هذا المال إلى الوالديْنِ اللَّذيْن لا يرثان لمانع، وإلى الأقارب الذين لا يرثون، وذلك مِن غير إسرافٍ ولا تقتير، ولا اقتصارٍ على الأبعدِ دون الأقرب، بل يُرتَّبون على القُربِ والحاجة، ودون إجحافٍ بالوَرَثةِ، فلا تُتجاوَزُ الوصيةُ لأولئك بأكثرَ من ثُلُث المال، وهذا أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على المتَّصفين بالتَّقوى .
عن أبي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في خطبتهِ عامَ حجةِ الوداعِ: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى، قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيةَ لوارثٍ )) .
وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((تشكَّيتُ بمكةَ شكوى شديدةً، فجاءني النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يعودني، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إني أترك مالًا، وإني لم أترك إلا ابنةً واحدةً، فأوصي بثُلثَيْ مالي وأتركُ الثُّلثَ؟ فقال: لا. قلتُ: فأُوصي بالنِّصفِ وأترك النصفَ؟ قال: لا. قلتُ: فأوصي بالثلثِ وأترك لها الثُّلثين؟ قال: الثُّلثُ، والثُّلثُ كثيرٌ )) .
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ سبحانه وتعالى أمرَ الوصيةِ ووجوبها، وعظَّم أمرها، أتبَعه بما يَجري مجرى الوعيد في تغييرها، فقال تعالى :
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181).
أي: فمَن غيَّر الوصية بعدَما سمعها من الموصي بأنْ زاد فيها أو أنقَص أو غير ذلك، فقد تعلَّق الإثمُ به، أمَّا الموصي من غير جَنَفٍ ولا إثم فقد برِئَتْ ذمَّته، والله تعالى يسمع ويعلَمُ حالَ الاثنينِ، الموصي والمبدِّلِ وصيَّتَه، ويجازي كلًّا بما يستحقُّ .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182).
أي: فَمَنْ خاف أنْ يَحيد الموصي في وصيَّته عن الحقِّ، سواءٌ عن غير قصدٍ منه، أو متعمدًا؛ وذلك كأن يوصيَ لغير الورثة بأكثرَ من ثُلث ماله، فهذا لا إثمَ عليه إنْ نصَح الموصي في حياتِه بتبديل الوصيةِ، فبدَّلها، أو قام المصلحُ بتبديلها بعد موته، فعدَّلها على الوجهِ الشَّرعي، وبهذا يزول فسادُ الوصية، ويزول معه أيُّ شِقاقٍ وقَع بين الموصِي والوَرَثة، أو بين الوَرَثة والموصَى لهم
.
الفوائد التربويَّة:
1- أهميَّة صِلة الرَّحِم؛ حيث أوجب الله الوصيةَ للوالدينِ والأقربين بعد الموت؛ لأنَّ صِلة الرَّحِم من أفضل الأعمال المقرِّبةِ إلى الله تعالى
.
2- أنَّ المتَّقين هم الَّذين يراعون فرائضَ الله؛ ولذلك وجَّه الخطابَ إليهم؛ لقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ .
3- فضيلة القيام بالإصلاح؛ لقوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، خَصَّ الوالديْنِ والأقربين بالوصية؛ قيل: لأنَّهم مظنَّة النِّسيان من الموصي؛ لأنَّهم كانوا يُورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة، وقدَّم الوالدينِ للدلالة على أنَّهما أَوْلى وأحقُّ في البَدْءِ بالوصيَّةِ لهما
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ فيه تقديمٌ وتأخير، حيث أخَّر (الوصية) الذي هو نائِب فاعل (كُتِب)؛ للتشوُّف إليه
. وهذا بناءً على أنَّ (الوصية) نائب فاعل لـ(كتب)، وأمَّا على كون (الوصية) مرفوعة بالابتداء؛ فليس فيها تقديم ولا تأخير.
2- قوله: لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ قدَّم الوالدين؛ للدَّلالة على أنَّهما أرجحُ في الابتداء بالوصية لهما .
3- قوله: حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ فيه تأكيد للوجوب بقوله: حَقًّا، وكذا قوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ؛ فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على مَن يسأله عن النَّقير والقِطمير .
4- قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فيه حصر، والضَّمير في قوله: إِثْمُهُ عائد إلى التبديل، أي: إنَّ إِثم ذلك التبديل لا يعود إلَّا إلى المبدِّل .
- وفيه: إقامة الظاهر مقامَ المضمر؛ لزيادة الاهتمام بشأنه، ولو جرَى على نسَق الكلام السابق لقال: (فإنَّما إثمُه عليه وعلى مَن يبدِّله)؛ وذلك للتَّشهير والمناداة بفضائح المبدِّلين، وليشعر بعِلِّيَّة الإثم الحاصل، وهو التبديل .
5- قوله: إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في هاتين الصِّفتين: سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديدٌ ووعيدٌ للمبدِّلين؛ إذ لا يَخفى عليه تعالى شيءٌ، فهو يُجازيهم على تبديلهم شرَّ الجزاء ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبر بـإِنَّ واسميَّة الجملة، وما في صِيغة (فَعيل) من المبالغة.
===========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (183 - 188)
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
غريب الكلمات:
فِدْيَةٌ: عِوض؛ وأصل (فدي): جَعْلُ شَيْءٍ مكانَ شَيْءٍ حِمًى له
.
الْفُرْقَانِ: المُخرِج من الشُّبهة، والمميِّز بيْن الحقِّ والباطل، وأصلُه من الفَرْق، وهو الانفصال، والتمييز والتزييل بين شيئين .
الرَّفَثُ: المقصود به هنا الجِماع، والرَّفث في الأصل: هو التصريحُ بِمَا يجب أَن يُكنى عَنهُ من ذِكر النِّكَاح، وكلِّ كلامٍ يُستحيا مِن إظهارِه والإفصاح عنه؛ فيشمل الجماعَ ومُقدِّماتِه، وما يتَّصل به من قولٍ وفِعل .
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُم: أي: بمنزلة اللِّباس، وهو كنايةٌ عن شِدَّة المخالطة التي تُوجِبُ قِلَّةَ الصبر عنهنَّ، أو لأنَّ كلًّا منهما يستُر حالَ صاحبِه، ويمنعُه من الفجور؛ فأصلُ اللِّباس: المخالطة والمداخلة، والسِّتر كذلك .
تَخْتَانُونَ: تخونون بارتكابِ ما حُرِّم عليكم، وهو افتِعالٌ من الخِيانة، وهي مخالفة الحقِّ بنقض العهد في السِّرِّ .
عَاكِفُونَ: مُقِيمون، جمْع عاكِف؛ يقال: عكَف على كذا إذا أقام عليه .
تُدْلُوا بها: تُصانِعوا، وتدْفَعوا بها، وأصل (دلي) يدلُّ على مُقاربةِ الشَّيءِ ومُداناتِه بِسُهولةٍ ورِفقٍ
.
مشكل الإعراب:
1- قوله: فِدْيَةٌ طَعَامُ:
فِدْيةٌ: مرفوعٌ بالابتداء، وخبرها محذوف، والتقدير: فعَليهِ فِديةٌ.
طَعَامُ: مرفوعٌ، بدلٌ مِن (فِديةٌ)، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: (هي)- على قراءة تنوين (فديةٌ)، أو مجرور مضاف إليه لفِدية على قراءةِ ضم (فديةُ) من غير تنوين
.
2- قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ:
قَرِيبٌ: خبرٌ أوَّل لـ(إنَّ).
وجملة أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ: خبَر ثان لـ(إنَّ)، وليس صفةً له
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِر اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بفَرْض الصِّيام عليهم؛ من أجلِ تحقيقِ التَّقوى، وأنَّه قد فُرِض أيضًا على الأُمَم السابقةِ من قَبلهم.
ومِن تيسيره سبحانه على عبادِه أنْ فرَض الصيامَ أيَّامًا قليلة، وأنَّ مَن كان مريضًا، أو مسافرًا فأفطَر، فعليه قضاءُ ما أفطره، ثم خيَّر اللهُ تعالى مَن كان قادرًا على الصِّيام، بَيْن الصِّيام والفِطر، فإنْ أفطَر، فعليه إطعامُ مِسكينٍ عن كلِّ يوم أفْطَره، فإنْ أطعَم أكثرَ من مسكين فهو أفضلُ، والصَّوم أفضلُ من جميعِ ذلك؛ فمَن علِم ما فيه مِن الخير، فإنَّه لن يتهاونَ فيه، ثمَّ نسَخ عزَّ وجلَّ هذا التَّخييرَ في حقِّ القادر، فأوجَب عليه الصَّومَ، وبقِي الفِطرُ والإِطعام للعاجِز عن الصِّيام.
ومدَح اللهُ عزَّ وجلَّ شهرَ رمضان، مبيِّنًا إحدى أعظمِ فضائِله، وهي نزولُ القرآن فيه، ووصَفَه بأنَّه يُرشد النَّاس إلى كلِّ خير، وأنَّه مشتملٌ على الآياتِ الواضِحات، ومبيِّنٌ لطُرق الهداية، وفارقٌ بين الحقِّ والباطل، ثمَّ بيَّن جلَّ وعلا وجوبَ صيام هذا الشَّهر العظيم على مَن كان حاضرًا مُقِيمًا، وأمَّا مَن كان مريضًا أو مسافرًا فأفطر، فعليه القضاءُ لإكمالِ عِدَّة ما أفطَر؛ وهذا تيسيرٌ منه سبحانه على عِباده، وهو يحبُّ منهم أنْ يُعظِّموه شاكرينَ له على ما هداهم إليه من نِعمة الصِّيام، وفضْلِه بتيسيرِ الأحكام.
ثمَّ خَاطَب اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم: إذا سألَك عِبادُ الله عن قُربه، فإنَّه قريبٌ، يستجيبُ دعاءَ مَن دَعاه، فعليهم أنْ يُطيعوه وينقادوا له، ويتيَقَّنوا أنَّه يُثِيب مَن أطاع، ويُجيب مَن دعا؛ لعلَّهم يُوفَّقون بهذا إلى الحقِّ.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه أباح لعباده مُجامَعةَ نسائهم في ليالي الصيام؛ فإنَّ كلًّا من الزَّوجين بمثابةِ اللِّباس للآخَر، وأخبَرهم أنَّه علِم أنَّهم كانوا يُراودون أنفسَهم على مباشرةِ نسائهم ليلًا، وعلى الأكْل بعد النوم، قبل أن يطلُعَ الفجر، بل إنَّ بعضهم قد فعَلَ ذلك، فأباحَ اللهُ لهم الأكْلَ والشُّرب والجِماعَ في ليالي الصوم رحمةً بهم، إلَّا أنَّه سبحانه قد تجاوَز عنهم ما فعَلوه من قبلُ، وتاب عليهم، فأباح لهم ما كان حرامًا من المواقَعة للنِّساء، فلهم الآن أنْ يجامِعوهنَّ، قاصدين بذلك ما قدَّره الله تعالى من الولَدِ، وليلةَ القَدْر التي ينبغى ألَّا تشغَلَهم متعةُ الجِماع عنها، بل عليهم الحرصُ على طَلبِها، وممَّا أباحه اللهُ لهم أيضًا أنْ يأكلوا ويَشرَبوا في جميع أوقات اللَّيل، حتى يتضحَ بياضُ النَّهارِ من سواد اللَّيل، فحِينَها يجبُ عليهم الإمساكُ عن الأكْل والشُّربِ والجِماع إلى أنْ غُروبِ الشَّمس، ثمَّ نهى الله عزَّ وجلَّ المؤمنين عن الجِماعِ وهم معتكِفون في المساجدِ، مبيِّنًا أنَّ الأمورَ التي يجبُ اجتنابُها مِن الأكْل والشُّربِ والجِماع في نهارِ رمضانَ، والجِماع حالَ الاعتكاف في المساجد- محرَّماتٌ يجب أنْ يَجتنبوها، وألَّا يَقرَبوها، وكما بيَّن اللهُ أحكامَ الصِّيام بيانًا تامًّا، يُبيِّن أيضًا باقيَ أحكام الشَّريعة الأخرى في كتابه، وعلى لسانِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ليعلَم النَّاسُ كيف يُطيعون الله؛ فِعلًا للمأموراتِ، واجتنابًا للمنهيَّاتِ.
ثمَّ نهاهم اللهُ سبحانه وتعالى عن أكْلِ أموال بعضهم بعضًا بغير حقٍّ، ونهاهم عن الاحتيالِ بأنْ يتوصَّلوا بحُكْم الحاكم إلى أكلِ طائفةٍ من أموال النَّاس بالحرام، مع عِلمهم بأنَّ ما يقُومون به حرامٌ.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ.
أي: يُخبِر اللهُ تعالى المؤمنينَ به وبرسولِه مِن هذه الأمَّةِ بفَرْض عِبادةِ الصِّيام عليهم
.
والصِّيام: هو التعبُّدُ لله تعالى بالإمساكِ عن الأكْلِ والشُّرب والجِماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
أي: فُرِضَت عليكم عِبادةُ الصِّيام كَما فُرِضت أيضًا على الأُممِ السَّابِقة .
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
أي: من أجل الوصولِ بصِيامِكم إلى مَرتبةِ التَّقوى .
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) .
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ.
أي: إنَّ هذا الصِّيامَ مفروضٌ عليكم في أيَّامٍ قليلةٍ، مَحصيَّة ساعاتُها ، وهي أيَّامُ شهرِ رَمضانَ .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
أي: مَن كان مِن المؤمنين في حالِ مرضٍ أو سَفَر، فأفطَر، فعليه أنْ يَقضيَ صيامَ الأيَّام الَّتي أفطَرها في أيَّامٍ أخرى .
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ... وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الناسخ والمنسوخ:
هذا الحُكمُ المذكور في الآية منسوخٌ؛ إذ لَمَّا فرَض الله تعالى الصَّومَ في صدْر الإِسلام، كان المسلِمُ يُخيَّر بين الصَّوم وإطعامِ مسكينٍ عن كلِّ يوم أفْطَره، فإنِ اختار الصيامَ كان خيرًا له، ثمَّ نَسَخ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا التخييرَ في حقِّ القادِر على الصيام بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فأوجب عليه الصومَ، وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنه .
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ.
أي: يجبُ على مَن استطاع الصِّيامَ ولم يصُمْ، أنْ يُقدِّمَ عن كلِّ يومٍ أفطَره طعامًا لمسكينٍ .
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
أي: مَن أطعَم أكثرَ مِن مسكين، فذلك أفضلُ من إطعامِ مسكينٍ واحدٍ عن كلِّ يومٍ أفطَره .
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
أي: صيامُ ما كُتِبَ لكم، خيرٌ لكم مِن أنْ تُفطِروا وتُطعِموا .
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: إذا عرَفتُم ما في الصَّومِ مِن الخيرِ لكم، فإنَّكم لن تتهاونوا في الصِّيام .
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185).
شَهْرُ رَمَضَانَ.
أي: الأيَّامُ المعدودات هي شهرُ رمضانَ .
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
قيل: المعنى: أنَّ القرآنَ نزَل جُملةً واحدة- أي:كاملًا- مِن اللَّوحِ المحفوظ إلى السَّماء الدُّنيا في ليلة القَدْر مِن شَهرِ رمضان ، وقيل: المعنى: أنَّ ابتداءَ نزولِ القُرآنِ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان في ليلةِ القَدْر من شهرِ رَمضانَ .
هُدًى لِلنَّاسِ.
أي: إنَّ القرآنَ يُرشد النَّاسَ، ويدُلُّهم على طريقِ الحقِّ .
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.
أي: إنَّ القرآنَ مشتمِلٌ على آياتٍ واضحات، وهي دَلائلُ وبراهينُ جليَّةٌ، تبيِّن الحقَّ، وتُرشِد إليه، وتُثبِت صِدقَ ما في القرآن مِن أخبارٍ، وعَدْلَ ما فيه من أحكامٍ، وتَفصِل بين الحقِّ والباطل .
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
أي: فمَن كان حاضرًا مُقِيمًا في بلدِه، فقد وجَب عليه صيامُ ما حضَرَه من أيَّام الشَّهر .
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
أي: إنَّ مَن كان في حالِ المرَض أو السَّفر، فأفطَر، فعليه أنْ يقضيَ الصِّيامَ في أيَّامٍ أخرى، بعدَد الأيَّام الَّتي أفطَرها .
يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
أي: إنَّما رخَّص اللهُ تعالى في الإفطار لِمَن كان مريضًا، أو مسافرًا، وشرَعَ قضاءَ ما أفطَره؛ لأنَّه يحبُّ أنْ يُخفِّف عن المؤمنين، ويُسهِّل عليهم أحكامَه .
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.
أي: ويُريد اللهُ تعالى أنْ تُكمِلوا العِدَّة، والمعنى: يريدُ اللهُ شرعًا- أي: يُحِبُّ- أنْ تُكمِلوا عدَّةَ شهر رمضان بقضاءِ الأيَّام الَّتي أفطَرْتموها منه .
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ.
أي: ويُريد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تُكبِّرُوه، والمعنى: يُريد اللهُ شرعًا- أي: يُحبُّ- أنْ تُعظِّموه بقول: اللهُ أكبَرُ، وذلك بعد انقضاءِ شهرِ رمضانَ؛ لِمَا أنعَم به عليكم من إرشادكم إلى هذا الشَّهرِ، وتشريع صومه وأحكامه، وتوفيقكم لتحقيق صيامه وإتمامِه .
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: من أجْل أنْ تكونوا بتكبيرِكم اللهَ عزَّ وجلَّ، وبالقيام بغير ذلك من أنواع شكره كأداء فرائضه وترك محارمه، مِن الشَّاكرين لنِعمة اللهِ تعالى عليكم بصِيام شهرِ رمضانَ، وتيسيرِه أحكامَه عليكم .
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186).
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.
أي: إذا سأَلك المؤمنون عن قُرْبي يا محمَّدُ، فأنا قريبٌ منهم، وأستجيبُ لدعاءِ مَن دعاني منهم، سواءٌ كان دعاءَ عبادةٍ فأُثيبهم عليها، أو دعاءَ مسألةٍ فأُعطيهم ما طلبوا .
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
أي: فلينقادوا لي، ممتثِلين أوامري، ومجتَنِبين نواهيَّ، وليؤمنوا بأنِّي أُثيبهم على انقيادِهم لي، وأُجِيب دعاءَهم وتضرُّعَهم لي، من أجل إصابةَ الحقِّ بذلك، والتَّوفيقَ للعِلم النَّافع والعملِ الصالح .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).
سبب النُّزول:
عن البَرِاء رضي الله عنه، قال: ((كان أصحابُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم إذا كان الرجلُ صائمًا، فحضَر الإفطارُ، فنام قبل أنْ يُفطِر، لَم يأكُلْ ليلتَه ولا يومَه حتى يُمسِيَ، وإنَّ قيسَ بنَ صِرْمَةَ الأنصاريَّ كان صائمًا، فلمَّا حضَر الإفطارُ أتى امرأتَه فقال لها: أعندكِ طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أنطلِقُ فأطلُب لك، وكان يومَه يعملُ فغلبتْه عيناه، فقالت: خيبةً لكَ، فلمَّا انتصَف النَّهارُ، غُشِي عليه، فذُكِر ذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فنزَلَتْ هذه الآيةُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، ففرِحوا بها فرَحًا شديدًا، ونزلت : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)) .
وعن البَراءِ رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا نزَل صومُ شهر رمضان، كانوا لا يقرَبون النِّساءَ رمضانَ كلَّه، فكان رجالٌ يخُونون أنفسَهم، فأنزَل اللهُ: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ الآية) )َ .
وعن سَهْلِ بن سعدٍ رضي الله عنه، قال: ((أُنزِلت: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، ولم ينزل:مِنَ الْفَجْرِ، فكان رِجالٌ إذا أرادوا الصومَ ربَط أحدُهم في رِجْليه الخيطَ الأبيضَ والخيطَ الأسود، فلا يزال يأكل ويشرَبُ حتى يتبيَّنَ له رؤيتُهما، فأنزَل الله بعدُ: مِنَ الْفَجْرِ، فعلِموا أنَّه إنَّما يعني اللَّيلَ والنَّهارَ )) .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.
أي: أُبِيح لكم في ليالي الصِّيام الإفضاءُ إلى نسائِكم، أي: مجامعتُهنَّ .
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ.
أي: إنَّ كلًّا مِن الزَّوجِ والزَّوجة بمثابةِ اللِّباس للآخَر، وذلك تعبيرٌ عن انضمامِهما متجرِّدَيْنِ، وشدةِ امتزاجِهما ببعضِهما حال الجِماعِ .
عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ.
أي: عَلِم اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّكم كنتم- أيُّها المؤمنون- تخُونون أنفسَكم بمعصيةِ الله سبحانه، فلا تَفُون بأمرِ الله تعالى لكم بالامتناعِ عن الجِماعِ لياليَ الصِّيام، إلَّا أنَّه قد تاب عليكم بأنْ أحلَّ لكم هذا الَّذي حرَّم عليكم من قبلُ، وتجاوَز عنكم ما سلَف من التخوُّنِ .
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ.
أي: فالآنَ بعد هذه السَّعةِ بإباحة جِماعِ نسائكم، لكم أنْ تُجامِعوهنَّ، واطلُبوا بجِماعِهنَّ ما قدَّر اللهُ تعالى لكم مِن الولد ، وممَّا كتَب الله تعالى لكم أيضًا ليلة القَدْرِ، مِن ليالي شهرِ رمضانَ، فلا ينبغي لكم أنْ تشتغلوا بلذَّةِ الجِماعِ عنها، فتُفوِّتوا أجرها .
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.
أي: أباح تعالى الأكلَ والشُّرب في أيِّ وقتٍ من الليل شاءه الصائمُ، حتى يظهَر ويتميَّز بياضُ النَّهار من سواد اللَّيل، وحينها يجبُ الإمساكُ عن الأكل والشُّربِ والجِماع إلى غروب الشمس .
عن عمرَ بنِ الخطَّابِ، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((إذا أقبَل اللَّيلُ مِن هاهنا، وأَدبَر النَّهار مِن هاهنا، وغربتِ الشَّمسُ، فقد أفطَر الصَّائمُ )) .
وعن عَديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، قال: (( لَمَّا نزلتْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. عَمَدْتُ إلى عِقَالٍ أسودَ وإلى عِقَالٍ أبيضَ، فجَعلتُهما تحتَ وسَادتي، فجعلتُ أنظرُ في الليلِ فلا يَسْتَبِينُ لي، فَغَدَوتُ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فذكرتُ لهُ ذلكَ، فقالَ: إنَّما ذاكَ سوادُ الليلِ وبياضُ النهارِ )) .
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ.
نهى اللهُ تعالى المؤمنين عن الجِماعِ حالَ اعتكافهم للعبادة في بيوتِ اللهِ تبارك وتعالى .
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا.
أي: هذا الَّذي بيَّنه اللهُ تعالى مِن الأحكامِ في هذه الآيةِ- كتحريمِ الأكلِ، والشُّرب، والجِماعِ في نهار الصِّيام، وغير ذلك مِن محرَّمات- قد عرَّفها اللهُ تعالى لعباده، وبيَّنها، لتفصلها عن الحلالِ، وتتميَّزَ لهم، وعليهم أنْ يُبقُوا أنفسَهم بعيدةً عنها .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أي: كما بيَّن اللهُ تعالى لعباده أحكامَ الصِّيام أتمَّ تبيينٍ، فكذلك يُبيِّن أيضًا سائرَ الأحكام الأخرى في كتابِه أو على لسانِ رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ، ويوضِّحُها لهم أكملَ إيضاح؛ كي يقوموا بأحكامِه؛ فِعلًا لِما أمَر، واجتنابًا لِما نهى .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا حذَّر الله تعالى من الجُرأة على مخالفة حُكم الصِّيام غيرِ المأذون فيه في قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ، وهو ضربٌ من الأكْل الحرام- عطَف عليه أكلًا آخَرَ مُحرَّمًا، وهو أكلُ المال بالباطل . وأيضًا لَمَّا سبَق في آيات الصِّيام تحريمٌ لأشياءَ خاصَّة في زمانٍ خاصٍّ- ذكَر عَقِبَه ما تحريمُه عامٌّ في زمانه، وهو أكْل أموال النَّاس بالباطل ، فقال:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
أي: لايأخُذْ بعضُكم أموالَ بعضٍ بغير الطُّرق التي أباحها اللهُ تعالى لذلك .
ثم أفرد الله تعالى بالذِّكر أحدَ أنواع أكْل أموال الناس بالباطل، فقال:
وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ.
أي: لا تتوصَّلوا بحُكم الحاكم إلى أكلِ الأموال بغير حقٍّ؛ وذلك كأن يجحَدَ امرؤٌ الحقَّ الذي عليه، وليس عليه بيِّنة، ثمَّ يُخاصمه عند القاضي، فيطلُب القاضي من المدَّعِي بيِّنةً، فإن لم تكُنْ له بيِّنة طلَب من المدَّعَى عليه اليمينَ، فإذا حلَف بَرِئ، فتوصَّل إلى جَحدِ مالِ غيره بالمحاكمة، أو يتوصَّل إلى ذلك برِشْوة الحاكم بالمالِ؛ ليحكمَ له بتلك الأموالِ بغير حقٍّ .
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: فتكونون بذلك آكِلينَ طائفةً مِن أموال النَّاس بالحرامِ، وأنتم تعلَمون أنَّكم واقِعونَ في الحرام
.
الفوائد التربويَّة:
1- النَّظر في حِكمة الله سبحانه وتعالى في تنويعِ العبادات؛ فمِنها ما هو ماليٌّ محضٌ: كالزَّكاة، ومنها ما هو بدنيٌّ محضٌ؛ كالصَّلاة، ومنها ما هو مركَّبٌ منهما: بدَنيٌّ، وماليٌّ: كالحجِّ، ومنها ما هو مِن قَبيل التُّروك: كالصِّيام؛ وذلك ليتمَّ اختبارُ المكلَّف؛ لأنَّ مِن النَّاس مَن يَهُون عليه العملُ البدنيُّ دون الماليِّ، ومنهم مَن يكونُ بعكسِ ذلك، وهكذا
.
2- تَسليةُ المكلِّف لِمَن كلَّفه بعمل؛ ليهُون عليه القيامُ به، ومن ذلك: الإشارةُ إلى تكليفِ غيرِه به من قَبلُ؛ لقوله تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذين مِنْ قَبْلِكُمْ، ومن ذلك أيضًا: التعبيرُ بكلماتٍ يكونُ بها تهوينُ الأمرِ على المكلَّف؛ لقوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودُاتٍ .
3- يَنبغي سلوكُ الأسبابِ الموصِّلة إلى تحقيقِ التَّقوى؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أوجَب الصِّيامَ لهذه الغايةِ في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
4- النَّظَر في حِكمةِ الله سبحانه وتعالى في التدرُّج بالتَّشريع؛ حيث كان الصِّيامُ أوَّلَ الأمرِ على سبيلِ التَّخيير، فإمَّا أنْ يصومَ، وإمَّا أنْ يُطعِمَ كما قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، ثمَّ تعيَّن الصِّيامُ على القادرِ بعد ذلك .
5- أنَّ مِن شرط إجابةِ الدُّعاء أنْ يكونَ الدَّاعي صادقَ الدَّعوة في دعوةِ الله عزَّ وجلَّ؛ بحيث يكون مخلصًا مُشعِرًا نفسَه بالافتقار إلى ربِّه، ومشعِرًا نفسَه بكرَمِ الله وجُودِه؛ لقوله تعالى: إِذَا دَعَانِ .
6- أنَّ الإنسانَ كما يخُون غيرَه قد يخُون نفسَه؛ وذلك إذا أوقَعها في معاصي اللهِ؛ فإن هذا خيانةٌ، وعلى هذا فنفسُ الإنسان أمانةٌ عنده؛ لقوله تعالى: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 187] .
7- أنَّه ينبغي البُعدُ عن المحارمِ؛ لقوله تعالى: فَلَا تَقْرَبُوهَا .
8- أنَّ العِلم سببٌ للتَّقوى؛ لقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، ووجهُه: أنَّه ذكَره عقِبَ قولِه تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ؛ فدلَّ هذا أنَّه كلَّما تبيَّنتِ الآياتُ حصَلت التَّقوى، ويؤيِّدُ ذلك قولُه تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، فكلَّما ازداد الإنسانُ عِلمًا بآياتِ الله، ازداد تُقًى؛ ولهذا يُقال: مَن كان باللهِ أعرَفَ كان منه أخوَفَ .
9- في قوله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187] ، إشارةٌ إلى علوِّ مرتبةِ التَّقوى؛ لكونِ الآياتِ تبيَّنُ للناسِ مِن أجلِ الوصول إليها
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف :
1- مِن فوائدِ التَّشبيه المذكور في قوله تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذين مِنْ قَبْلِكُمْ: استكمالُ هذه الأمَّةِ للفضائلِ الَّتي سَبَقت إليها الأممُ السَّابقة، وليكون للمسلمين فيه أُسوةٌ، وليجتهدوا في أداءِ هذا الفرض بأكملَ ممَّا فعَله مَن سبَقهم
.
2- ثبوتُ تفاضُلِ الأعمال؛ لقوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وتفاضُلُ الأعمال يستلزم تفاضُلَ العامل .
3- في قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إثباتُ صِفة العلوِّ لله تعالى؛ لأنَّه أَنزَل القرآن، والإنزالُ إنَّما يكون من عُلْوٍ .
4- أنَّ المشقَّةَ تَجلِب التَّيسيرَ؛ لقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ لأنَّ المرَضَ والسَّفر مَظِنَّةُ المشقَّةِ .
5- في قوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ إثباتُ صِفة الإرادةِ لله تعالى، والمرادُ بها هنا: الإرادةُ الشَّرعيَّة، وهي بمعنى المحبَّة .
6- قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي... إِذَا دَعَانِ تخلَّل الدُّعاء أحكامَ الصيام؛ إشارةً إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدَّة، بل وعند كلِّ فِطر .
7- قيل: إنما قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ ولم يقل: (فقل لهم إني قريب) إيجازًا لظهوره من قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، وتنبيهًا على أنَّ السؤال مفروضٌ غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفةٌ قرآنية، وهي إيهام أنَّ الله تعالى تولَّى جوابهم عن سؤالهم مباشرةً منه إليهم؛ إذ حذف في اللفظ ما يدلُّ على وساطة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تنبيهًا على شدَّة قُرب العبد من ربِّه في مقام الدُّعاء، واحتيج للتأكيد بـ(إنَّ)؛ لأنَّ الخبر غريبٌ، وهو أن يكون تعالى قريبًا مع كونهم لا يرونه .
8- قُيِّدَت هذه الآية بالمشيئة فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء، وأمَّا قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فأطلقت فيه إجابة الدعوة دون تقييدٍ بالمشيئة؛ قيل لأنَّ الآية التي قُيِّدت: جاءت في دعاء الكفار، وجاءت الآية الأخرى في دعاء المؤمنين فلم تُقيَّد بالمشيئة؛ لأنَّ دعاء المؤمن لا يُرَد إلا إذا كان بإثمٍ أو قطيعة، وما جرى مجرى ذلك .
9- قيل: جاء قولُه تعالى: إِذَا دَعَانِ بعد قوله تعالى: الدَّاعِ مع أن الدَّاعي لا يُوصَف بأنه داعٍ إلَّا إذا دعا؛ لأن المراد بقوله تعالى: إِذَا دَعَانِ: إذا صدق في دعائه إيَّاي؛ بأنْ شعَر بأنَّه في حاجةٍ إلى الله تعالى، وأنَّ الله سبحانه قادرٌ على إجابته، وأخلص الدعاء لله عزَّ وجلَّ بحيث لا يتعلق قلبه بغيره .
10- أنَّ الزَّوجةَ سِترٌ للزَّوج، وهو سِترٌ لها، وأنَّ بينهما مِن القُربِ كما بين الثِّيابِ ولابِسِيها، ومِن التَّحصينِ للفُروج ما هو ظاهرٌ؛ لقوله تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ .
11- أنَّه ينبغي أنْ يكونَ الإنسان قاصدًا بوَطْئِه طلَبَ الولَدِ؛ لقوله تعالى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ .
12- جوازُ أنْ يُصبِح الصائمُ جُنُبًا؛ لأنَّ اللهَ أباح الجِماعَ حتَّى يتبيَّنَ الفجرُ، ولازِمُ هذا أنَّه إذا أخَّر الجِماعَ لَم يغتسِلْ إلَّا بعد طلوعِ الفجرِ، وقد ثبَت عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه كان يُصبِح جُنُبًا مِن جِماع أهلِه، ثم يصومُ .
13- أنَّ بياضَ النَّهار وسوادَ الليل يتعاقبانِ، فلا يجتمعانِ؛ لقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ .
14- أنَّ الاعتكافَ مشروعٌ في كلِّ مسجد؛ لعموم قوله تعالى: فِي الْمَسَاجِدِ .
15- استنبط بعضُ أهل العلم أنَّ الاعتكافَ يكون في رمضان في آخره؛ لأنَّ الله تعالى ذكَر حُكْمه عقِبَ آياتِ الصِّيام؛ وهذا هو الذي جاءت به السُّنَّة .
16- جاء قولُه سبحانه وتعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تقْرَبُوها؛ عقب محرماتٍ، فناسب أن يُنهى عن قربانها، والنهي عن قِربان شيءٍ أبلغُ من النهي عن فعله، وجاء في موضعٍ آخر: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تَعْتَدُوها عَقِبَ أوامر؛ فناسب أن يُنهى عن مجاوزتها .
17- حِرص الشَّارعِ على حِفظ الأموال؛ لقوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ؛ فالأموالُ تقُوم بها أمورُ الدِّين، وأمورُ الدنيا؛ كما قال تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فيه تَكرارٌ للنِّداء؛ لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ، ولبيان حُكمٍ آخَر من الأحكام الشرعيَّة، بعدما سبَق تفصيلُه في الآيات الماضية عن القِصاص
.
2- قوله: كُتِب مبنيٌّ للمفعول- وكذا أمثاله من المكتوبات- وحُذِف الفاعل للعِلم به؛ إذ هو: الله تعالى-؛ لأنَّها مشاقُّ صعبةٌ على المكلَّف، فناسَب أنْ لا تُنسب إلى الله تعالى، وإنْ كان الله تعالى هو الذي كتَبها، وحين يكون المكتوبُ للمكلَّف فيه راحةٌ واستبشار يُبنى الفعل للفاعِل، كما في قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] ، وقوله: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ، وأمثالها، وهذا من لَطيف عِلم البيان .
3- قوله: عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فيه تقديمٌ وتأخير، حيث قدَّم شِبه الجملة عَلَيْكُمُ على نائب الفاعل الصِّيَامُ، والأصل تأخيرها عنه؛ لأنَّ البَداءةَ بذِكر المكتوب عليه آكَدُ مِن ذكر المكتوب؛ لتعلُّق الكَتْب بمَن يؤدِّي .
4- في قوله تعالى: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ عُبِّر عن رمضانَ بأيَّامٍ، وهي جمْع قِلَّة، ووُصفَت بمَعدوداتٍ، وهي جمْعُ قِلَّة أيضًا؛ تهوينًا لأمرِه على المكلَّفين، والمعدوداتُ كنايةٌ عن القلَّة؛ لأنَّ الشيءَ القليل يُعدُّ عدًّا؛ ولذلك يقولون: الكثيرُ لا يُعَدُّ، ولأجْل هذا اختير في وصفِ الجمْعِ مجيئُه بلَفْظ مَعْدُودَاتٍ، وإنْ كان مجيئُه بلفظ (مَعْدودَة)- على طريقةِ الجمْع المُكسَّر الذي فيه هاءُ تأنيثٍ- أكثرَ
5- قوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه حذْف معمول تَعْلَمُونَ؛ إمَّا للاقتصار، أي: إنْ كنتم مِن ذوي العِلم والتَّمييز، وإمَّا للاختصار؛ للدَّلالة عليه، وفَهمه من السِّياق .
6- قوله: فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فيه حذْفٌ، ووضْعٌ للمُظهر المتأخِّر مكانَ المضمَر الأوَّل؛ إذ أصله: فمن شهد فيه فليصم فيه؛ فأضمر (فيه) الأولى، وهذا يُفيد التعظيم والمبالَغة في البيان .
7- وفي قوله: عَنِّي و: إنِّي من قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ: التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ؛ لأنَّ قبلَه، وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ، والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، وفيه ما لا يَخفْى من تشريفِه ورفعِ محلِّه .
- وقوله فَإِنِّي: فيه تقريبُ الجواب، وتنبيهٌ على شِدَّة قُرب العبد من ربِّه في مقام الدُّعاء، وإخباره سبحانه وتعالى بنفسه الشريفة دون واسطة؛ إشعارًا بفرط قُربه وحضوره مع كلِّ سائل فقال: فإنِّي دون (فقل إني)، فإنَّه لو أثبت (قل)، لأوهم بُعدًا وليس المقام كذلك، ولكان قوله: فَإِنِّي، موهمًا فيحتاج إلى أن يقال: (إنَّ الله) أو نحوه، ومع ذلك فلا ينفكُّ عن إشكال؛ وإذا كان هذا التلطُّف بالسَّائلين؛ فما ظنُّك بالسالكين السائرين ؟!
- واحتيج للتأكيد بـ(إنَّ)؛ لتأكيد كونه تعالى قريبًا منهم، مع كونِهم لا يَرَوْنه .
8- وردَ قوله تعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بعد قوله سبحانه: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ من باب ذِكر الخاصِّ بعد العامِّ، وفائدته: بيان شدَّة شَناعة هذه الصورة، ولأنها جامعةٌ لمحرماتٍ كثيرة .
=========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (189 - 195)
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
غريب الكلمات:
مَوَاقِيتُ: جمْع مِيقات، وهو مِفْعالٌ من الوقت، وهو الوقتُ المضروبُ للشيء، والوعدُ الذي جُعِل له وَقْتٌ، وقد يُقال المِيقَاتُ للمكان الذي يُجعَل وَقْتًا للشيء، كمِيقَاتِ الحجِّ
.
ثَقِفْتُمُوهُمْ: وجدتُموهم، وظفِرتم بهم، وأصل ثقِف: الحِذق في إدراك الشَّيء وفِعله، وإقامة عِوَج الشيء .
التَّهْلُكَةِ: الهَلَاك، وهو مصير الشيء بحيث لا يُدرى أين هو
.
المعنى الإجمالي:
سأَل النَّاسُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن الحِكمة من تغيُّر أحوال القمَر صِغرًا وكِبرًا على مراحلَ، فأعلَمه الله سبحانه بالجواب الذي يردُّ به على تساؤلِهم، وهو أنَّ الحكمةَ من خَلْق ذلك أنْ يضبطَ به النَّاس شوؤنهم المؤقَّتة بأوقاتٍ؛ كصومِهم، وفِطرهم، وعدَّة نسائهم، وآجالِ ديونهم، وأوقات حَجِّهم، وغيرها.
ثم أخبَر سبحانه أنَّه ليس من الخير ما كان يفعلُه أهلُ الجاهليَّة من غير القُرَشيين، حيث يمتنعون حالَ إحرامِهم من دخول البيوت من قِبَل الأبواب، وإنَّما من الخَلْف، وأعلَمهم أنَّ البِرَّ والخيرَ في تقوى الله تعالى بامتثال أوامرِه، واجتناب مناهيه، وعليهم أنْ يدخلوا البيوتَ من أبوابها، وأن يلتزموا بالتَّقوى؛ بفعلهم المأمورَ، وتركِهم المنهيَّ عنه، رجاء أنْ يصِلوا بتقواهم تلك إلى الظَّفَر بما يطلُبون، والنَّجاةِ ممَّا يحذَرون.
ثمَّ أمَر الله المؤمنين بالقتال في سبيله، مَن يقاتِلُهم مِن مُقاتِلة الكفَّار، ولا يتجاوزوا ذلك إلى قَتْل النِّساء والأطْفال والشيوخ، وغيرهم ممَّن لم يشتركوا في قتالهم؛ فإنَّ ذلك تعدٍّ، والله تعالى لا يحبُّ المتجاوزين لحدودِ ما شرَع.
ثمَّ أمرَ اللهُ تعالى المؤمنين أنْ يقتلوا الكفَّار المقاتِلين لهم في أيِّ موضعٍ وجَدوهم، وأن يقوموا بإخراجِهم من الأماكن الَّتي أخرَجوا الَّذين آمَنوا منها من قبلُ؛ فإنَّ ما هم فيه من الشِّرك بالله تعالى أعظمُ من إزهاق أنفسِهم، كما أنَّ صدَّ المشركين للمؤمنين عن دِينهم؛ ليصيروا مِثلَهم، أشدُّ مِن أنْ يُقْتَلَ المؤمنون وهم مُتمسِّكون بدِينهم.
ونَهى الله المؤمنين عن ابتداءِ الكفَّار بقَتْلٍ وقِتالٍ في المسجد الحرام، لكن إذا ابتدأ الكفَّار فيه بذلك فليقتلهم المؤمنون؛ عُقوبةً لهم مثلما هي عُقوبة كلِّ كافرٍ مُعْتَدٍ، فإنْ تابوا وأسلموا وترَكوا القتالَ، فإنَّ الله يتجاوز عن سيئاتهم، ويرحمهم بتوفيقهم للخير.
ثمَّ كرَّر اللهُ الأمرَ بقتال المشركين؛ لئلَّا يكونَ ثمَّ إشراكٌ باللهِ، وتكون الطَّاعةُ والعبادة لله وحده. فإنْ ترَك هؤلاء المشركون القتالَ، وتابوا إلى الله فقد وجَب الكفُّ عن قتالهم؛ لأنَّه لا يستحقُّ المعاقَبةَ إلا مَن وقع في الظُّلم بشِرك، أو كُفر، أو قَتْل، أو مقاتَلة، وهؤلاء بتوبتِهم قد تخلَّصوا من الظُّلم.
ثم بيَّنَ اللهُ لعباده المؤمنين أنهم إن قاتَلهم المشركون في أحَدِ الأشهر الحُرُم، فليقاتلوهم فيه، فكما انتهكوا للمؤمنين حرمةَ شهرِهم الحرام، فإنَّ للمؤمنين أن يَنتهكوا حُرمةَ شَهرِهم جزاءً عادلًا، ومَن تعدَّى على المؤمنين، فليردُّوا عليه عدوانَه بمِثله، وأمَرَهم بتقواه عزَّ وجلَّ؛ حتَّى لا يتجاوزوا الحدَّ الَّذي رخَّص لهم في المعاقَبة به، وهو العقوبة بالمِثل، وليتيقَّنوا أنَّ اللهَ مع مَن اتَّقاه؛ فامْتَثل المأمورَ وترَكَ المحظورَ.
ثمَّ أمرَ اللهُ المؤمنين بإنفاق المال في أوجهِ القُرَب، ومنها: الإنفاقُ في جهاد أعداء الدِّين؛ إعلاءً لكلمةِ الله تعالى، ونَهاهم عن الوقوعِ فيما يكون سببًا لهلاكهم وعذابهم؛ وذلك بتَرْك ما أمَر الله تعالى به، أو بفِعْل ما نهاهم عنه، ومِنه: بُخْلهم عن الإنفاقِ في سبيل الله، وأمَرهم سبحانه أنْ يتحلَّوا بالإحسانِ في جميع أحوالهم، في معاملتِهم لخالقِهم، وفي تعاملِهم مع المخلوقين مثلهم؛ وذلك لأنَّ الله تعالى يحبُّ مَن كان متَّصفًا بالإحسانِ.
تفسير الآيات:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أتمَّ الله سبحانه وتعالى البيانَ لِمَا أراده ممَّا شرَعه في شهر الصَّوم ليلًا ونهارًا، وبعض ما تبِع ذلك، وكان كثيرٌ من الأحكام يدور على الهلال، لا سيَّما الحجُّ، وكانت الأهلَّة كالحُكَّام تُوجب أشياءَ وتَنفي غيرها؛ كالصِّيام والدُّيون والزَّكوات، قال سبحانه
:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
أي: يسألُك أصحابُك يا محمَّد عن القمرِ حين يبدو هلالًا في بدايات الشَّهر ونهاياته: ما حِكمةُ هذا التغيُّر، خلافًا للشمس الباقية على هَيئةٍ ثابتة؟ فلقَّنه الله تعالى الإجابةَ بأنَّها خُلِقت؛ ليعرفَ النَّاسُ بها أوقاتَ حَجِّهم، وشهر صومهم، ويوم فِطرهم، وعِدَد نِسائهم، وغير ذلك من أحكامهم .
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا.
سبب النُّزول:
عن أبي إسحاقَ قال: سمعتُ البَراء رضي الله عنه يقول: ((نزلت هذه الآيةُ فينا، كانت الأنصارُ إذا حجُّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن مِن ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخَل من قِبَل بابه، فكأنَّه عُيِّرَ بذلك فنزلت : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) .
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا.
أي: إنَّ هذا العملَ مع اعتقاده قُربةً، ليس مِن الخير في شيء، فنفَى الله تعالى مشروعيَّتَه؛ وذلك أنَّ أهلَ الجاهلية من سوى القُرشيِّين، كانوا إذا أحرَموا بحجٍّ أو عُمرة لم يدخلوا البيوتَ من أبوابها؛ تعبُّدًا لله عزَّ وجلَّ، فإذا احتاجوا منها شيئًا دخلوا من خلفِها، يظنُّون ذلك خيرًا يتقرَّبون به إلى الله عزَّ وجلَّ .
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا.
أي: إنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو أنَّ يتَّقيَ العبدُ ربَّه عزَّ وجلَّ؛ بامتثال أوامره، واجتنابِ نواهيه، لا التعبُّد بما لم يشرَعْه الله جل وعلا؛ ولذا أمَر بإتيان البيوتِ مِن أبوابها كما هو الأصلُ الَّذي جرَتْ به العادة؛ إذ لا دليلَ يمنَعُ مِن ذلك حال الإحرام .
وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: افعَلوا ما أمَركم الله تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك: تَرْكُ الابتداع، والالتزام بالاتباع، من أجل أنْ تظفَروا بما تطلُبون، وتنجُوا ممَّا تحذَرون .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190).
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ.
أي: قاتِلوا- أيُّها المؤمنون-؛ لأجلِ الله تعالى وحْده، وإعلاءً لدِينه، وبالطريقة الَّتي شرَعها سبحانه، من يُقاتِلونكم من الكفَّار دون مَن سواهم .
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
أي: لا تتجاوَزوا ما حدَّه اللهُ تعالى لكم ممَّا شرَعه مِن أحكام القتال، ومن ذلك عدمُ قتلِ النِّساء والأطفال والشيوخ، وغيرهم ممَّن لم يُعاونوا بأيِّ وسيلةٍ على قتالِ المؤمنين؛ وذلك لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يحبُّ مَن تجاوَز حدودَ ما شرعه، فوقَع في المحرَّمات، سواءٌ في القتال أو غيره .
عن بُرَيدةَ بن الحُصَيب رضي الله عنه: ((أنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سَريَّةٍ، أوصاه في خاصَّتِه بتقوَى اللهِ، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغْزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتِلوا مَن كفَر باللهِ، اغزوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتُلوا وليدًا، وإذا لقِيتَ عدوَّك مِن المشركين فادعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ- أو خِلالٍ-، فأيَّتهنَّ ما أجابوك، فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم )) .
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191).
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
أي: اقتُلوا الكفَّارَ الَّذين يُقاتِلون المؤمنين، في أيِّ مكانٍ ظفِرْتم فيه بهم، وإن لم يكونوا في ساحةِ القتال .
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ.
أي: أخرِجوا هؤلاء الَّذين يقاتلونكم مِن دياركم الَّتي أخرَجوكم منها من قبلُ .
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
أي: إنَّ ما هم عليه من الشِّرك بالله تعالى والكفر به، أمرٌ أعظمُ من إزهاق نفوسهم، كما أنَّ محاولاتهم لصدِّ المؤمنين عن دِينهم؛ ليصيروا مِثلهم من المشركين، أشدُّ مِن أنْ يُقتلوا وهم مستمسِكون بدِينهم؛ فالفتنة تتكرَّر أضرارُها، بينما يحدُث ألَمُ القتلِ مرَّةً واحدة، والقتل يقطَع عن الدُّنيا، لكن الفِتنة قد تقطَع عن نعيم الآخرة .
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، يُقَاتِلُوكُمْ، قَاتَلُوكُمْ قراءتان لكلٍّ منها:
1- وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، يَقْتُلُوكُمْ، قَتَلُوكُمْ أي وَلَا تَقْتُلُوهُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يقتلُوا بَعْضكُم، فإنْ قتلوا بَعْضكُم فاقتلوهم .
2- وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، يُقَاتِلُوكُمْ، قَاتَلُوكُمْ أي لا تحاربوهم حَتَّى يحاربوكم فَإِن حاربوكم فاقتلوهم، والمراد النهي عن قصدِهم بالقتال حتى يكون الابتداء منهم، والقِتَال من اثنين، والقَتْل من الواحد .
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
أي: نهى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين عن ابتداءِ الكفَّار بقتلٍ أو قتالٍ في المسجد الحرام حتى يكونوا هم الَّذين يبدَؤون بذلك، فإن قاتَلوكم أو قتَلوكم، فاقتُلوهم دَفْعًا لعُدوانهم عليكم .
كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.
أي: كما قرَّرنا القتل جزاءً على من قاتلكم أو قتلكم، فجزاء الكافرين (المعتدين) أيضًا القتلُ، وفي هذا تهديدٌ لهم .
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فإنْ ترَكوا القتال وأسلَموا، فإنَّ الله تعالى يتجاوَزُ عن كلِّ ما سلَف منهم من سيِّئات، وبرحمته يوفِّقُهم للخير الَّذي يُثِيبهم عليه حسنات .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193).
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ.
أي: قاتِلوا المشركين الَّذين يقاتِلونكم حتى لا يكونَ ثَمَّ شِركٌ بالله تعالى، فتكون العبادة والطَّاعة لله عزَّ وجلَّ وحده دون غيره، فهذا هو المقصودُ مِن القتال .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، قال: ((جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: الرجلُ يُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ شَجاعَةً، ويُقاتِلُ رِياءً، فأيُّ ذلك في سبيلِ اللهِ؟ قال: مَن قاتَل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، فهو في سبيلِ اللهِ )) .
فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
أي: فإنْ توقَّفوا عن قتالكم وأسلَموا، وأخلَصوا العبادةَ لله تعالى وحده، فقد تخلَّصوا من الظُّلم، فكُفُّوا عنهم؛ فإنَّه لا تحلُّ معاقَبة أحدٍ بقتاله أو قتله، إلَّا لِمَا وقَع منه من ظلمٍ بشِرك أو كُفر أو قَتْل أو مقاتَلة .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أُمرتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فمن قال: لا إلهَ إلا اللهُ، فقدْ عصَم منِّي نفسَه ومالَه إلَّا بحقِّه، وحسابُه على اللهِ )) .
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194).
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ.
أي: إنْ قاتَلوكم في أَحدِ الأشهر الحُرُم، فقاتِلوهم فيه، وقيل: المراد أنَّ الشهرَ الحرام الذي قضى فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمسلمين معه العُمرةَ (وهو شهر ذي القَعدة) أيضًا، جاء في مُقابِل الشَّهر الحرام (شهر ذي القَعدة) الذي صدَّهم فيه المشرِكون عن العُمرة في العام الَّذي سبَق عمرةَ القضاء .
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.
أي: كما انتهكوا لكم حُرمةَ شهرِكم، فقد انتهكتم منهم حرمةَ شهرهم أيضًا، سواءً بسواءٍ، جزاءً عادلًا، وكذا كلُّ شيء يُحترم كالبلدِ الحرام، وغيره من جميع ما أمَر الشرعُ باحترامه، فمن تجرَّأ عليه وانتهك حُرمته، فإنَّه يُقتصُّ منه بمِثله .
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
أي: هذا أمرٌ من الله تعالى بالعدلِ حتى في شأنِ المعاقَبة، فيُقتصُّ مِن المعتدي بمِثل عُدوانه، دون زيادة .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت النفوسُ لا تقف في الغالب على حدِّها الذي رُخِّص لها في المعاقَبة؛ وذلك لرغبتِها في التَّشفِّي قال تعالى :
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
أي: أمَر تعالى بلزوم تقواه، بعدمِ تجاوزِ ما وجب لهم من القِصاص، ولْيعلَموا معتقدين جازمين بأن اللهَ عزَّ وجلَّ مع عباده المتَّقين الَّذين يمتثلون أوامرَه، ويجتنبون نواهيَه، فيؤيِّدهم وينصُرُهم ويوفِّقهم .
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195).
سبب النُّزول:
عن حُذَيْفَة رضي الله عنه: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ قال: نَزلَتْ في النَّفَقةِ )) .
وعن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه، قال: ((كنَّا بمدينةِ الرُّومِ، فأَخْرَجوا إلينا صَفًّا عظيمًا من الرُّومِ، فخرج إليهم من المسلمينَ مِثْلُهم أو أكثرُ، وعلى أهلِ مصرَ عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، وعلى الجماعةِ فَضَالةُ بنُ عُبَيدٍ، فحمل رجلٌ من المسلمينَ على صَفِّ الرُّومِ، حتى دخل عليهم، فصاح النَّاسُ وقالوا: سبحانَ اللهِ! يُلْقِي بيَدَيْهِ إلى التهلُكةِ، فقام أبو أيوبَ الأنصاريُّ فقال: يا أَيُّها النَّاسُ، إنَّكم لَتُؤَوِّلُونَ هذه الآيةَ هذا التأويلَ، وإنما نَزَلَت هذه الآيةُ فينا مَعْشَرَ الأنصارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللهُ الإسلامَ وكَثُرَ ناصِرُوه، فقال بعضُنا لبعضٍ سِرًّا دون رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أموالَنا قد ضاعَت، وإنَّ اللهَ قد أَعَزَّ الإسلامَ وكَثُرَ ناصِرُوه، فلو أَقَمْنا في أموالِنا فأَصْلَحْنا ما ضاع منها، فأنزل اللهُ تبارك وتعالى على نَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرُدُّ علينا ما قُلْنا؛ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ، فكانت التَّهْلُكَةُ الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وتَرْكَنا الغَزْوَ، فما زال أبو أيوبَ شاخصًا في سبيلِ اللهِ حتى دُفِنَ بأرضِ الرُّومِ )) .
ولا تعارضَ بين الرِّوايتينِ، بل إنَّ رِواية أبي أيُّوبَ رضي الله عنه هي مُبيِّنة ومفسِّرة للإجمالِ الوارد في رِواية حُذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه السَّابقة .
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
أي: أَنفِقوا قُربةً لله عزَّ وجلَّ في وجوه الطاعات- ومن ذلك: الإنفاق في جهاد أعداء الدِّين؛ لإعلاءِ كلمة الله تعالى- واجتَنِبوا إلْقاءَ أنفُسِكم فيما فيه هلاكُها وعذابُها، وذلك بتَرْك ما أمَر الله تعالى به، أو فِعْل ما نهى عنه، ومن ذلك: تَرْك الإنفاق في الجهاد؛ فليستِ التَّهلكةُ أن يُقتَل الرَّجُلُ في سبيل الله تعالى، ولكنَّ التَّهلكةَ في ترْك الإنفاق في سبيله سبحانه .
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: أمَر اللهُ تعالى عبادَه بأن يُحسنوا في كل شيء؛ في معاملتِهم للخالق عزَّ وجلَّ بعبادته كأنَّهم يرَوْنه، وفي معاملتِهم للمخلوقين؛ بذلًا للمعروف، وكفًّا للأذى؛ وذلك لأنَّ الله تعالى يحبُّ المحسنين .
عن شدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ كتَب الإحسانَ على كلِّ شيٍء، فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذَّبحَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، فليُرِحْ ذبيحتَه ))
.
الفوائد التربويَّة:
1- أنَّ العاداتِ لا تجعَل غيرَ المشروع مشروعًا؛ لقوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، مع أنَّهم اعتادوه واعتقَدوه من البِرِّ، فمن اعتاد شيئًا يعتقده بِرًّا، فإنَّ عليه أنْ يعرِضَه على شريعة الله
.
2- أنَّه ينبغي للإنسان أنْ يأتيَ الأمور من أبوابها؛ ليحصلَ على مقصوده؛ لقوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فإن هذه الآيةَ كما تناوَلتِ البيوت الحسِّيَّة تناولت أيضًا الأمورَ المعنويَّة .
3- أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا نَهَى عن شيءٍ فتَح لعباده مِن المأذون ما يقومُ مقامَه؛ فإنَّه لَمَّا نفى أنْ يكونَ إتيانُ البيوت من ظهورها من البِرِّ، بيَّن ما يقومُ مقامَه؛ فقال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا .
4- أنَّه ينبغي للمتكلِّم أنْ يذكُرَ للمخاطَب ما يهيِّجه على الامتثال؛ لقوله تعالى: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ .
5- حُسن تعليمِ الله عزَّ وجلَّ؛ حيث يقرنُ الحُكمَ بالحِكْمَة؛ لقوله تعالى: وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
6- فضيلة التَّقوى؛ حيث ينال العبدُ بها مَعيَّةَ الله؛ وإذا كان الله معك فإنَّه ينصُرك، ويُؤيِّدك، ويثبِّتُك، فهذا يدلُّ على فضيلة السَّبب الذي هو التقوى؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وقد أكَّد الله تعالى هذه المعيَّةَ للمتَّقين بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا؛ فلم يقتصر على مجرَّدِ الإخبار بها، بل أمَرنا أنْ نعلَمَ بذلك .
7- الإشارة إلى الإخلاص في العمل؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللهِ، ويدخل في هذا: القصد، والتنفيذ؛ بأنْ يكون القصدُ لله، وأن يكون التنفيذُ على حسَب شريعةِ الله؛ كما قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .
8- أن المعتديَ لا يُجازَى بأكثرَ مِن عدوانه؛ لقوله تعالى: بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فلا يقول الإنسان: أنا أريد أنْ أعتديَ بأكثرَ للتشفِّي، ومن ثَمَّ قال العلماء: إنه لا يُقتَصُّ مِن الجاني إلَّا بحضرة السلطان أو نائبِه؛ خوفًا من الاعتداء؛ لأنَّ الإنسانَ يريدُ أنْ يتشفَّى لنفسِه، فربما يعتدي بأكثرَ .
9- في قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الأمر بالإنفاق في سائر وجوه القُربات والطاعات، ومن أهمها: صرف الأموال في قِتال الأعداء، وبذْلها فيما يقوى به المسلمون على عدوِّهم، وأنَّ الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكةٌ للنفس بالشُّحِّ، وتهلكةٌ للجماعة بالعجز والضَّعف، وبخاصَّة في نظامٍ يقوم على التطوُّع، كما كان يقوم الإسلام
10- في الأمرِ بالإحسان بعد ذِكْر الأمر بالاعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهيِ عن الإلقاء باليدِ إلى التَّهلُكة: إشارةٌ إلى أنَّ كلَّ هذه الأحوال يلابِسُها الإحسان ويحفُّ بها؛ ففي الاعتداء مثلًا يكون الإحسانُ بالوقوف عند الحدود، والاقتصاد في الاعتداء، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرِّفق بالأسير والمغلوبِ، وبحِفْظ أموال المغلوبين وديارِهم من التَّخريبِ والتحريق، وغير ذلك . وقوله: وَأَحْسِنُوا يشمَلُ جميعَ أنواع الإحسان؛ لأنَّه لَم يقيِّدْه بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسانُ بالمال، وبالجاه، وبالشَّفاعات، وغير ذلك
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- حِرص الصَّحابة رضي الله عنهم على العلم؛ لقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
.
2- بيان عِلم الله، وسَمْعه، ورحمته؛ لقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ؛ علِم اللهُ بسؤالهم، وسمِعه، ورحِمهم بالإجابة .
3- أنَّ الميقات المعتبرَ هو الذي وضَعه الله للناس- وهو الأهلَّة- فالأصل أنْ يكونَ هو الميقاتَ العالَمي؛ لقوله تعالى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ، وأمَّا التوقيتُ بالأشهر الإفرنجيَّة فلا أصلَ له .
4- إثبات العَدْل لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، والجزاء من جِنس العمل .
5- أنَّ ما كان سببًا للضَّرر فإنَّه منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ .
بلاغة الآيات:
1- قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
- فيه اختصار بليغ؛ إذ نبَّه تعالى بقوله: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ على جميع المنافِع التي تكون في اختلاف أحوال القمر؛ لأنَّ تعديد جميع هذه الأمور يَقضي إلى الإطناب، والاقتصار على البعض دون البعض ترجيحٌ من غير مرجِّح؛ فلم يبقَ إلَّا الاقتصار على كونه ميقاتًا، فكان هذا الاقتصار دليلًا على الفصاحة العظيمة لهذا الكلام البليغ .
- وإفرادُ الحجِّ بالذِّكر لبيان أنَّ الحجَّ مقصورٌ على الأشهُر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه، وأنَّه لا يجوز نقْل الحجِّ من تلك الأشهُر إلى أشهرٍ أخرى، كما كانتِ العربُ تَفعَل ذلك في النَّسيء .
2- قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إيجازٌ بديع؛ فقوله: فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جواب الشرط، وكلُّ سامعٍ يعلم أنَّ وصْف الله تعالى بالمغفرة والرحمة لا يترتَّب على الانتهاءِ، فيَعلم أنَّه تنبيهٌ لحصول المغفرة والرحمة لهم إنِ انتهوا، وهذا من إيجاز الحذْف .
3- قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
- وضع قوله: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ موضعَ (على المنتهين)، أي: فلا تظلموا إلَّا الظالمين غيرَ المنتهين، فوضَع العِلَّة موضعَ الحُكم، وسمَّى جزاء الظالمين عدوانًا؛ للمشاكلة، والفاء الأُولى للتعقيب، والثانية للجزاء .
- وفي قوله سبحانه فَلَا عُدْوَانَ نفيٌ عامٌّ يُراد به النَّهي، أي: فلا تعتدوا، وذلك على سبيل المبالغة؛ فالعدول عن النهي إلى النفي المحض العام، ألزمَ في المنع؛ إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلًا .
4- قوله: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فيه الإخبار عن الحُرمات بلفظ قِصاص، وهو من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة .
5- قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ تفريعٌ عن قوله: وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ، ونتيجةٌ له؛ ففيه من البلاغة: فَذْلَكة التقرير، وسُمِّي جزاءُ الاعتداء اعتداءً؛ مشاكلةً .
6- قوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييلٌ للترغيب في الإحسان؛ لأنَّ محبة الله عبدَه غايةُ ما يطلبه الناس؛ إذ محبَّة اللهِ العبدَ سببُ الصلاحِ والخيرِ دُنيا وآخِرة، واللام للاستغراق العُرفي، والمراد المحسنون من المؤمنين .
==========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (196 - 203)
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
غريب الكلمات:
أُحْصِرْتُمْ: مُنِعتُم، وأصل الحصْر: الجمْع والحبْس والمنع
.
اسْتَيْسَرَ: تَيَسَّرَ، وَسَهُلَ .
الْهَدْيِ: مُختصٌّ- في هذا الموضِع- بما يُهْدَى إلى البيتِ من الأنعام؛ قربةً إلى الله، وواحدتُه: هديَّة، وهي: كلُّ ما يُهدَى إلى ذِي مَوَدَّةٍ .
مَحِلَّهُ: المَحِلُّ: الموضِع الذي يَحلُّ فيه نَحْر الهدْي .
أَذًى: مَا يُكره ويُغتمُّ به .
نُسُكٍ: جَمْع نسيكة، وهي الذَّبيحة التي تُوزَّع على فُقراء الحرم، وأصل (نسك): يدُلُّ على عبادةٍ وتقَرُّبٍ إلى اللهِ تعالى؛ ومنه قيل للعابد: ناسِك، واختصَّ بأعمال الحجِّ .
جُنَاحَ: إثْمَ، سمِّي بذلك لِمَيله عن طريق الحقِّ؛ فأصله: جَنَح، إذا مال وتعدَّى .
أَفَضْتُمْ: دَفعتُم بِكَثْرَة، وأصل الفيض: جَريانُ الشيء بسُهولة .
خَلَاق: نصيبٌ، وحظٌّ في الخير
.
مشكل الإعراب:
قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ:
فَمَا: الفاء رابطةٌ لجواب الشرط، و(ما) موصولةٌ بمعنى الذي، وهي مبتدأ في محلِّ رفْع، والخبر محذوف، أي: فعليه ما استيسر، ويجوزُ أن تكون (ما) في موضِع نصب مفعول لفِعلٍ محذوف، والتقدير: فلْيُهدِ ما استيسر
.
المعنى الإجمالي:
يأمر اللهُ تعالى مَنْ شرعوا في الحجِّ أو العمرة بإتمام ما شَرَعوا فيه منهما، بأركانه وواجباته، مُخلِصين لله تعالى في ذلك، فإنْ مُنعُوا من الوصول للبيت الحرام لمانعٍ من خوفٍ أو مرضٍ أو لسبب آخر، فلْيَذبحوا ما تيسَّرَ لهم من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وأمرهم سبحانه ألَّا يحلُّوا من إحرامهم إذا أُحصروا إلَّا بعد أن يَبلُغَ الهديُ الذي أوجبه الله عليهم محلَّ نَحْره، وهو موضع الإحصار- فأمَّا غير المُحصَر فيذبحه في الحرم، وإنْ كان في حجٍّ فينحره في يوم النحر منه- ومَن احتاج إلى حلْق رأسه لمرض، أو كان في رأسه ما يُؤذيه كالقمل، فله أنْ يَحلقَه، فإنْ فعل فهو مخيَّرٌ بين أن يصومَ عِوضًا عن ذلك ثلاثةَ أيَّام، أو يُطعِمَ سِتَّةَ مساكين، لكلِّ مسكين نصفُ صاع، أو يذبح شاةً.
فإذا زال المانعُ، وقدَروا على الوصول إلى البيت الحرام، فمَنْ أتى بعمرةٍ ثمَّ حلَّ منها متمتِّعًا بذلك الحلِّ إلى أن يَشرَع في أعمال الحجِّ- وكذا مَن قرَن بين الحج والعمرة- فإنَّ عليه ذبحَ ما قدر على ذبْحِه من الإبل، أو البقر، أو الغنم، فمَن لم يجِد، فلْيصُمْ بدلًا من ذلك، عشرة أيام، ثلاثة منها في أثناء الحجِّ، وسبعة إذا عاد إلى أهلِه وموطنِه بعد فراغه من أداء نُسكه، وهذا الحُكم للمتمتِّع الذي ليس أهله من حاضري المسجد الحرام، ثم أمَر سبحانه وتعالى بتقواه، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ولْيعلمِ العبادُ أنَّ الله شديدُ العقوبة لمَنْ خالف ما أمرَ به، وارتكبَ ما نهى عنه سبحانه وتعالى.
ثمَّ يخبر عزَّ وجلَّ عن توقيت الحجِّ، وأنه واقعٌ في أشهرٍ معلومة هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فمَن أحرم بالحجِّ في تلك الأشهر فعليه أن يجتنبَ جِماعَ النِّساء ومقدِّماته، ولا يتحدَّثَ بذلك في حضرتهنَّ، ويجتنبَ أيضًا جميعَ المعاصي والتي منها محظورات الإحرام، وسبابَ المسلم، ويدَعَ الجدالَ بالباطل، ومنه المجادلة في وقتِ الحجِّ وأحكامه، فقد بيَّنها تعالى أتمَّ بيان وأوضحَه، وعليه أن يدعَ المراءَ والمنازعة والمخاصمة. وأخبر سبحانه عبادَه أنَّ ما يعملونه من خيرٍ فإنَّه به عالمٌ، وسيجزيهم عليه أفضلَ الجزاء، وأمَرَهم بالتزوُّد من الأقوات التي تُعينهم على الوصول إلى البيتِ الحرام، وأداء العبادة، وأعْلمهم أنَّ خيرَ الزاد هو ما أعانهم على الوصول إلى نعيمِ الآخرة، وهو التقوى بامتثال أوامرِه سبحانه وتعالى، واجتناب نواهيه، وأمَر بها أصحابَ العقول الذين يُدركون حقيقةَ التقوى وثمارها.
ثم شرَع سبحانه في بيان بعض أفعال الحجِّ، فأمر الحُجَّاجَ أن يذكروه سبحانه عند المزدلفة بعدَ أن يدفعوا إليها من عَرفات، وهذا الذِّكر الذي أمر الله به يدخُل فيه الصلاةُ والدعاء عندها، ولْيذكروه سبحانه شُكرًا له على أنْ أرشدهم إلى طريق الهداية وإنْ كانوا من قبلِ أن يرشدهم إليها لفي زيغٍ وضلال، واذكروه كذلك وفقَ الصِّفة المشروعة التي هداكم إليها.
ثم أمَر الله عزَّ وجلَّ عبادَه من الحُمْس
وهم قريش الذين كانوا لا يُفيضون من عرفات، أمرهم بالإفاضة منها كما كانتِ العرب قاطبةً تُفيض منها، وأمرَ سبحانه الحجاجَ أيضًا أن يطلبوا منه التجاوزَ عن ذنوبهم، وسترها لأنه جلَّ وعلا غفَّار الذنوب، والرَّحيم بعباده المؤمنين.
ثم خاطَب اللهُ عباده الحجاج أنَّهم إن أتمُّوا مناسك حجهم، وتحللوا من إحرامهم فلْيكثروا من ذكره سبحانه وتعالى، ولْيكن ذكرهم له كذكرهم مآثر آبائهم، بل عليهم أن يذكروه بأشدَّ من ذلك.
ثمَّ أَرشدَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى دُعائه بعد الأمْر بالإكثار من ذكره؛ فإنَّ ذلك أَحْرى بالإجابة، وذمَّ سبحانه مَن لا يسأله إلَّا متاعَ الدُّنيا، وليس له في ثواب الآخرة أي نصيب، ومدَحَ المؤمنين الذين يسألون الله عزَّ وجلَّ من خيرَيِ الدنيا والآخرة، ويَطلُبون منه سبحانه أن يَصرِفَ عنهم عذابَ النار، فأصحابُ هذا القِسم لهم ثوابٌ عظيم على حَجِّهم الذي قاموا به، وسيُجيبهم الله إلى ما دَعوا به من خيرَيِ الدنيا والآخرة، والله سريعٌ في إحصاء أعمال عبادِه، سريعٌ في مجازاتهم.
ثم أمرَ جلَّ وعلا عبادَه بالتكبير في أيَّام التشريق، ويشمل ذلك التكبيرَ عند ذبح الأضاحي، والتكبيرَ المطلَقَ في سائر الأوقات، والتكبيرَ المقيَّد بعدَ الصلوات المفروضة، والتكبيرَ عند رمي الجِمار، ثم يُخبر تعالى أنه لا حرَجَ على الحاجِّ في تعجُّله بخروجه من مِنًى قبل غروب شمس اليوم الثاني من أيَّام التشريق، أو تأخُّره ببقائه فيها إلى اليوم الثالث لرمْي الجمرات، ما دام أنَّه في كلا الأمرين ممتثلٌ ما أمر الله به، مجتنبٌ ما نهاه عنه، ثم أوصى اللهُ عبادَه بتقواهُ بإطاعةِ أوامرهِ والانزجارِ عن نواهيه، وليتيقنوا أنَّهم سيُحشرون إليه سبحانه يوم القيامة.
تفسير الآيات:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196).
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ.
أي: يا مَن شرَعتم في أعمال الحجِّ والعمرة، عليكم إتمامَهما بأركانِهما وواجباتهما، بإخلاصٍ لله تبارك وتعالى
.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: فإنْ منَعكم وحبسكم خوفُ عدوٍّ، أو إصابةٌ بمرض، أو وقوع علَّةٍ أخرى، عن الوصول إلى البيت الحرام، فاذبحوا ما تيسَّر من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الغنم .
وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
أي: لا تَحِلُّوا من إحرامِكم إذا أُحصِرْتم عن حجٍّ أو عُمرة، حتى يبلغَ الهديُ- الذي أوجبتُه عليكم- محلَّ ذَبْحه، وهو موضع الإحصار .
وحُكم الآية عامٌّ يَشمل غيرَ المُحصَر كذلك، فمحلُّ نَحْره في الحجِّ: في الحَرم يومَ النَّحر، وأمَّا في العُمرة ففي الحرم أيضًا .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
سبب النُّزول:
عن عبد الرَّحمن بنِ أبي لَيلى أنَّ كعبَ بن عُجْرة حدَّثه قال: ((وقفتُ على رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم بالحُديبيَة ورأسي يتهافت قملًا، فقال: يؤذيك هوامُّكَ، قلت: نَعم، قال: فاحلِقْ رأسَك، أو احلِقْ، قال: فيَّ نزلت هذه الآيةُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ إلى آخرِها، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو تصدَّق بفَرَقٍ بين سِتَّةٍ، أو انسُكْ ممَّا تيسَّر )) .
وعن عبد الله بن مَعقِل قال: ((قعدْتُ إلى كعبِ بنِ عُجْرَةَ في هذا المسجدِ- يعني مسجد الكوفة- فسألتُه عن فديةٍ من صيام، فقال: حُمِلْتُ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والقَمْلُ يَتَناثَرُ على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أنَّ الجَهْدَ قد بلَغَ بك هذا، أمَا تَجِدُ شاةً؟ قلتُ: لا، قال: صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أَطْعِمْ ستَّةً مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ مِن طعامٍ، واحلِقْ رأسَك، فنزلت فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّة )) .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
أي: إنَّ مَن مرض فاحتاج إلى حلق رأسه، أو كان برأسه أذًى كالقمل فحلَق رأسه، فعليه أن يقومَ- عِوضًا عن هذا الفعل- بصِيام ثلاثة أيَّام، أو إطعام سِتَّة مساكين لكلِّ مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، فهو مخيَّرٌ بين هذه الثلاثة .
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: إذا زالتِ الموانعُ وقدَرتُم على الوصولِ إلى البيت الحرام، فمَن أتى منكم بالعمرة متمتِّعًا بحِلِّه منها بما أحلَّه الله تعالى له من محظوراتِ الإحرامِ- إلى أنْ يَشْرَعَ في أعمال الحج- ومِثل ذلك مَن كان قارنًا بين الحجِّ والعُمرة- فعليه ذبحُ ما قدَر عليه من بهيمةِ الأنعام؛ من الإبل، أو البقر، أو الغَنم .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.
أي: إنْ لم يَجِد المتمتِّعُ هديًا أو لم يجِدْ ثَمنَه، فعليه أن يصوم عوضًا عن ذلك ثلاثةَ أيَّام في أثناءِ الحج، وسبعةً إذا فرَغ من أعمال الحجِّ ورجَع إلى أهلِه وموطنِه، ثمَّ أكَّد الله تعالى صيامَ هذه الأيام بذِكر كامِلِ عددِها .
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: إنَّ وجوب الهدي وبدله من الصيام، إنَّما هو للمتمتِّع إنْ كان أهله من غيرِ حاضري المسجد الحرام، وقد قِيل بأنَّ حاضري المسجد الحرام هم مَن حوله ممَّن بينهم وبينه من المسافةِ ما لا تُقصر إليه الصلوات ، وقيل: هم أهلُ الحرم فقط .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: امتثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ، واجتنبوا نواهيَه، ومن ذلك: امتثالُ المأموراتِ، واجتنابُ المحظورات المذكورة في هذه الآية، واعتقِدوا جازمين بأنَّه سبحانه شديدُ العقوبةِ لِمَن خالَف أمْرَه، وارتكَب نَهْيَه .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197).
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ.
أي: إنَّ وقتَ الحجِّ واقعٌ في أشهُرٍ معلومات، وهي: شوَّال، وذو القَعدة، وعشرٌ من ذي الحجَّة .
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ قراءتان:
1- فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ على أنَّ لا هنا ناهية، أي يحرم وقوع ذلك .
2- فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ على أنَّ لا هنا نافية، تدلُّ على النفي العام لجميع الرَّفث وجميع الفسوق، وهذا النفي بمعنى النهي .
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
أي: إنَّ مَن أحرَم بالحجِّ (ذلك لأن الشُّروعَ فيه يُصيِّره فرضًا ولو كان تطوُّعًا في حقِّه)، فعليه أنْ يجتنبَ جِماعَ النِّساء ومقدِّماته، ولا يتحدَّث بذلك في حَضرتِهنَّ، وعليه اجتنابُ جميع المعاصي، ومن ذلك: محظورات الإحرام، وسِباب المسلِم، ويجتنب الجدالَ بالباطل، ومن ذلك: المجادَلة في وقت الحجِّ وأحكامِه؛ فقد بيَّنها اللهُ عزَّ وجلَّ أتمَّ بيانٍ، وعليه أنْ يترُكَ المِراءَ والمنازَعة والمخاصَمة .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: سَمعتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن حجَّ للهِ، فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ، رجَع كيومَ ولدَتْه أمُّه )) .
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا نهاهم اللهُ عزَّ وجلَّ عن فِعل الرَّذائل والمنكَرات، حثَّهم على فِعْل الفضائل والخيرات بقوله :
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ.
أي: كل ما يُقدِّمه العبادُ من الخيرِ من كثيرٍ أو قليل، فالله عزَّ وجلَّ عالمٌ به فيُحصيه لهم، ويَجزيهم عليه بالثَّوابِ الجزيل .
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
سبب النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((كان أهلُ اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون، يقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدِموا مكَّةَ سأَلوا النَّاس؛ فأنزَل الله عزَّ وجلَّ : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) .
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
أي: تزوَّدوا مِن أقواتكم بما يُعِينكم على الوصولِ للبيت الحرام، وأداءِ مناسِكِ الحجِّ؛ فإنَّ في التزوُّدِ استغناءً عن المخلوقين، وإعانةً للمحتاجين، ولَمَّا أمَرهم الله عزَّ وجلَّ بأخذِ الزَّاد الدُّنيويِّ غذاءً لأجسادهم، أرشَدهم إلى الزَّاد الأخرويِّ الموصل لدار النَّعيم الأبديِّ، غذاءً لقلوبهم، وهو استصحابُ التَّقوى؛ بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه .
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
أي: واتَّقونِ يا أصحابَ العُقولِ الصَّحيحة والأفهام السَّليمة، التي تُدركون بها حقيقةَ التَّقوى وثَمرتَها، وتُميِّزون بها بين الحقِّ والباطل .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198).
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
سبب النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((كانت عُكاظٌ ومَجنَّةُ وذو المجاز أسواقًا في الجاهليَّة، فلمَّا كان الإسلامُ تأثَّموا من التِّجارة؛ فأنزَل اللهُ تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ» قرأ ابنُ عبَّاس هكذا )) .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: إنَّه لا حرَجَ على المؤمنين في التكسُّب من التِّجارةِ في مواسم الحجِّ .
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
أي: إذا دفَعْتُم مِن عرفاتٍ إلى مزدلفة، فاذكروا اللهَ تعالى عند مزدَلِفة، ويدخُلُ في ذلك الصَّلاةُ والدُّعاء عندها .
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
أي: اذكُروا اللهَ عزَّ وجلَّ شُكرًا على هِدايتِه لكم، ومِن ذلك: الإرشادُ إلى مناسِكِ الحجِّ الصَّحيحةِ، واذكروه على الصِّفة الَّتي هداكم لها، أي: وَفْق ما شرَعه سبحانه، وقد كنتم مِن قبلِ هذا الهُدى في ضلالٍ عن الطَّريق المستقيم، كأداءِ مَناسِكِ الحجِّ في الجاهليَّة خلافًا لِما جاء به إبراهيمُ الخليلُ عليه الصَّلاة والسَّلام .
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199).
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.
أي: أمر الله عزَّ وجلَّ عباده من الحُمْس، وهم قريش الذين كانوا لا يقفون بعرفات، بأن يُفيضوا منها كما كانتِ العربُ كلُّها تُفيض منها .
عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ((كانت العربُ تطوف بالبيتِ عُراةً، إلَّا الحُمْسَ، والحُمْسُ قريشٌ وما ولَدَتْ، كانوا يطوفون عُراةً، إلَّا أنْ تعطيَهم الحُمْسُ ثيابًا، فيُعطي الرِّجالُ الرِّجالَ، والنِّساء النِّساء، وكانت الحُمْسُ لا يخرُجون من المزدَلِفة، وكان النَّاس كلُّهم يبلغون عرفاتٍ، قال هشام: فحدَّثني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: الحُمْسُ هم الَّذين أنزَل الله عزَّ وجلَّ فيهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، قالت: كان النَّاسُ يُفِيضون من عرفاتٍ، وكان الحُمْس يُفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نُفِيض إلَّا من الحرَم، فلمَّا نزلت: أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، رجَعوا إلى عرفاتٍ )) .
وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: أمَر اللهُ تعالى حُجَّاج بيته أنْ يطلبوا المغفرةَ منه سبحانه، أي: ستْرَ ذنوبهم، والتجاوز عنها؛ فهو سبحانه وتعالى أهلٌ لأنْ يُطلَبَ منه ذلك؛ لأنَّه غفورٌ ورحيمٌ بعباده المؤمنين .
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200).
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.
أي: فإذا أتممتُم أداءَ مناسكِ الحجِّ، وتحلَّلتُم من النُّسك، فأَكْثِروا مِن ذِكْر الله عزَّ وجلَّ؛ شُكرًا له سُبحانه على إنعامِه بالتَّوفيق لأداء هذه العبادةِ العظيمة، وليكُن ذِكرُكم لله تعالى لا يقلُّ عن ذِكركم لآبائِكم، وذِكرِ مآثرِهم، بل عليكم أنْ تَذكروه بأشدَّ من ذلك .
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
مُناسبتُها لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بذِكره، أرشدَ إلى دُعائه؛ فإنَّه مظنَّةُ الإجابة ، فقال:
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
أي: فمِن الناس مَن لا يَسألُ اللهَ تعالى إلَّا مصالحَ دُنياه، فيَسأله متاعَها وزِينتَها، ولا نَصيبَ له في ثواب الآخِرة؛ لرغبتِه عنها، وقُصورِ همَّته على الدُّنيا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201).
أي: ومن النَّاس مؤمِنون يسألون اللهَ تعالى من خيريِ الدُّنيا والآخرة- سواءٌ في مناسِك الحجِّ، أو بعدَ أدائها، أو في غيرِ ذلك من الأوقات- وهذا شاملٌ للعِلم النَّافِع والعمَل الصالح، والرِّزق الحسَن، والعافية، وغير ذلك، وأما حسنةُ الآخرةِ الَّتي يطلُبونها فهي نعيمُ الجنَّة، كما أنَّهم يسأَلون ربَّهم عزَّ وجلَّ أنْ يصرِفَ عنهم عذابَ النَّار .
كما قال تعالى حكايةً عن موسى عليه السَّلام: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: 156] .
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عاد رجلًا من المسلمينِ قد خَفَتَ فصار مِثلَ الفرْخِ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنتُ أقولُ: اللهم ما كنتَ مُعاقِبي به في الآخرةِ، فعَجِّلْه لي في الدُّنيا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: سبحان اللهِ! لا تُطيقُه- أو لا تستطيعُه- أفلا قلتَ: اللهمَّ آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ؟ قال: فدعا اللهَ له، فشفاه )) .
وسأل قَتادةُ أنسًا رضي الله عنه: ((أيُّ دعوةٍ كان يدعو بها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أكثرُ؟ قال: كان أكثرُ دعوةٍ يدعو بها يقولُ: اللهمَّ آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرِة حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ، قال: وكان أنسٌ إذا أراد أنْ يدعوَ بدعوةٍ، دعا بها، فإذا أراد أنْ يدعوَ بدعاءٍ، دعا بها فيهِ )) .
وعن عبد الله بن السَّائبِ رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول ما بين الرُّكنين: ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ )) .
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202).
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
أي: إنَّ أُولئك الَّذين يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ- لهم ثوابٌ جَزيل على حَجِّهم الَّذي باشَروا معاناتَه بأنفسهم وأموالهم، وسيؤتيهم اللهُ تعالى حظًّا ممَّا سألوه من خيريِ الدنيا والآخرة، وذلك بحسَب أحوالهم، وما تقتضيه حِكمة الله عزَّ وجلَّ .
وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: إنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ العباد بسرعة، دون الحاجة إلى عقد أصابع، أو استخدام آلةٍ، وبلا حاجةٍ إلى فِكرٍ أو رَوِيَّة، كما يفعَلُ الخَلق، وهو سريع المحاسَبة للخَلْق يوم القيامة دون أنْ يظلِمَ أحَدًا شيئًا، ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، كما أنَّه سبحانه سريعُ المجازاة لعباده .
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203).
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ.
أي: أمَر اللهُ تعالى عبادَه- مِن حُجَّاج بيته وغيرِهم- بتكبيرِه في أيَّام منًى، وهي أيَّامُ التَّشريق الَّتي تشمَل ثلاثةَ أيَّام بعد يوم النَّحر، ويتعلَّقُ بذلك التكبيرُ عند ذَبْح الهدي والأضاحيِّ، والتكبير المطلَق في سائر الأحوال، والتكبير المقيَّد بعد الصلوات الخمسِ المفروضة، والتكبير عند رَمْيِ الجِمار .
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى.
أي: إنَّه لاحرَج على الحاجِّ، سواءٌ خرَج من منًى قبل غروب شمس اليوم الثَّاني مِن أيَّام التَّشريق، أو بقِي فيها إلى اليومِ الثَّالث لرَمْيِ الجمَرات، فله أنْ يختارَ ما شاء، ما دام أنَّه ممتثلٌ ما أمَر اللهُ تعالى به، ومجتنبٌ ما نهى عنه، وخاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالحجِّ من مأموراتٍ ومحظورات ، كما أنَّ كُلًّا من المتعجِّلين والمتأخِّرين إذا اتَّقَوُا اللهَ تعالى في حجِّهم فلم يرفُثوا أو يفسُقوا، خرَجوا من حَجِّهم بلا إثمٍ، طاهرينَ من الذُّنوب كيوم ولَدَتْهم أمَّهاتهم .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ تفرُّق النَّاس مِن الحجِّ إلى سائر البلدان بعد اجتماعهم في مشاعرِ الحج، ذكَّرهم باجتماعِهم عنده يومَ القيامة، فأمَرهم بما ينفَعُهم في ذلك اليوم فقال :
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: امتثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ، واجتنبوا نواهيَه في الحجِّ وغيرِه، واعْلَموا أنَّكم تُجمَعون إلى الله تعالى يومَ القيامة، فتُجازَوْن بأعمالِكم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ
.
الفوائد التربويَّة:
1- وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ: يعني أتموهما للهِ لا لغيره، لا تُراعوا في ذلك جَاهًا، ولا رُتبةً، ولا ثناءً مِن النَّاس
.
2- تيسير اللهِ على العباد؛ لقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، والدِّينُ كلُّه مِن أوَّلِه إلى آخرِه مبنيٌّ على اليُسر .
3- أنَّ العِلمَ بشدَّةِ عقوبةِ الله من أهمِّ العلوم؛ ولهذا أمَر الله سبحانه وتعالى به بخصوصِه؛ لأنَّه يُورِث الخوفَ مِن الله، والهرَبَ مِن معصيَتِه، فقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .
4- تذكير الإنسان بحالِه قبل كماله؛ ليعرِفَ بذلك قدرَ نعمةِ الله عليه؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ .
5- بيَّن الله تعالى أولًا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر فقال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ثم بيَّن أنَّ الأَوْلى أن يترك ذِكر غيره، وأنْ يقتصرَ على ذِكره سبحانه، ثم بيَّن بعد ذلك كيفيةَ الدُّعاء، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ... وما أحسنَ هذا الترتيبَ! فإنَّه لا بدَّ من تقديم العبادة لكسْر النفس وإزالة ظُلماتها، ثم بعد العبادة لا بدَّ من الاشتغال بذِكر الله تعالى؛ لتنويرِ القلب، وتجلي نور جلاله، ثم بعد ذلك الذِّكر يشتغل الرجل بالدعاء؛ فإنَّ الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقًا بالذكر .
6- قرنُ المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- لَمَّا كان لفظ القرآن في بيان الرُّخصة، جاء بالأسهل فالأسهل، فقال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
.
2- سَعةُ فضلِ الله عزَّ وجلَّ، وتيسيرُه في أحكامه، بوقوع الفِدْية على التَّخيير، وجَعْلِ الأكثرِ من صيام الفِدْيَة بعد رجوعه؛ لقوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ، كما جعَل الإنسانَ مخيَّرًا بين أنْ يبقى ثلاثةَ أيَّام، أو يتعجَّل في يومين .
3- البُعْد حالَ الإحرام عن كلِّ ما يشوِّش الفِكر، ويشغَلُ النَّفس؛ لقوله تعالى: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ .
4- أنَّه ينبغي للإنسان في حالِ بيعِه وشرائه أنْ يكونَ مترقِّبًا لفضلِ الله، لا معتمِدًا على قوَّتِه وكَسْبِه؛ لقوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ .
5- ظهور منَّةِ الله على عباده بما أباح لهم من المكاسبِ، وأنَّ ذلك مِن مقتضى ربوبيَّتِه سبحانه وتعالى؛ حيث قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ .
6- أنَّ الذِّكر المشروعَ ما وافَق الشَّرع؛ لقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ .
7- قرنُ الحُكم بالعلَّة؛ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقَرْنُ الحُكم بالعلَّةِ في مِثل هذا يُفيد الإقدامَ والنَّشاطَ على استغفارِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
8- في الأمر بالذِّكر عند انقضاء النُّسك في قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، إشارةٌ إلى أنَّ سائرِ العبادات تَنقضي ويُفرَغ منها، وذِكر الله عزَّ وجلَّ باقٍ لا يَنقضي ولا يُفرَغ منه، بل هو مستمرٌّّ للمؤمنين في الدنيا والآخرة .
9- أنَّ الأجدادَ داخِلون في مسمَّى الآباء؛ لأنَّ العربَ كانوا يفتخِرون بأمجادِ آبائهم، وأجدادهم، وقبائلهم، كما قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ .
10- في قوله تعالى: وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ إثباتُ صِفة السُّرعة لله عزَّ وجلَّ .
11- أنَّ الأعمالَ الَّتي يُخيَّر فيها العبدُ إنَّما ينتفي الإثمُ عنها إذا فعَلها على سبيل التَّقوى لله عزَّ وجلَّ دون التهاونِ بأوامره؛ لقوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى؛ فمَن فعَل ما يُخيَّر فيه على سبيل التَّقوى لله عزَّ وجلَّ والأخذ بتيسيره، فهذا لا إثمَ عليه، وأمَّا مَن فعَلها على سبيل التهاونِ، وعدمِ المبالاة، فإن عليه الإثمَ بتَرْك التَّقوى، وتهاونِه بأوامرِ الله تعالى
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: فمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
في قوله تعالى: فمَنْ لمْ يَجِدْ؛ حُذف المفعول؛ لأجْل العموم؛ ليشمل مَن لم يجِد الهدي أو ثمنه؛ فاستُفيد زيادة المعنى، مع اختصار اللفظ
.
قوله: عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ: فيه فذلكة الحِساب ، أي: جِماعُه؛ فقوله: عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فَذْلَكةٌ لقوله: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ... وسَبْعَةٍ، وفائدتها: أنَّ الواو قد تجيء بمعنى (أو) التي للتَّخيير، فيحتمل المعنى فِصيام ثلاثة أيام أو سَبعة؛ ففُذْلِكت نفيًا لتوهُّم التخيير، وأيضًا ففائدة الفَذْلكة في كلِّ حساب أن يُعلم العدد جملةً كما عُلِم تفصيلًا؛ ليُحاط به من جِهتين، فيتأكَّد العِلم؛ فإن أكثر العرب لم يُحسنوا الحساب، وفي أمثال العرب: عِلمان خيرٌ من عِلم، وليُعْلَم أنَّ المراد بالسبعة هو العددُ دون الكثرة؛ فإنَّه يطلق لهما. وكذلك كامِلَةٌ تأكيدٌ آخَر؛ فهي صِفة مؤكِّدة تُفيد المبالغة في محافظة العدد، أو مبيِّنة كمال العشرة؛ فإنَّه أوَّل عدد كامل؛ إذ به تنتهي الآحادُ وتتمُّ مراتبها، وفيه زيادة توصية بصيامها، وألَّا يُتهاون بها ولا ينقص من عددها .
وقوله: فَصِيَامُ... خبرٌ معناه الأمر بالصيام، وإنَّما عدَل عن لفظ الأمْر إلى لفظ الخبَر؛ لأنَّ التكليف بالشيء إذا كان متأكِّدًا جدًّا، فالظاهر دخولُ المكلَّف به في الوجود؛ فلهذا السبب عبَّر بالإخبار عن الشيءِ بالوقوع الذي استقرَّ؛ لتأكُّد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه .
وفي قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ التفات، وحمْلٌ على معنى (مَن)، أمَّا الالتفات؛ فإنَّ قوله: فَمَن تَمَتَّعَ فَمَن لَّمْ يَجِدْ اسمٌ غائب؛ ولذلك استتر في الفِعلين ضميرُ الغائب، فلو جاء على هذا النَّظم لكان الكلام (إذا رجَع)، وأما الحمل على المعنى فإنَّه أتى بضمير الجمع رَجَعْتُمْ، ولو راعى اللَّفْظ لأفرد فقال (رجع) .
2- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ إظهارُ الاسمِ الجليلِ الله في موضِع الإضمار، وتكريره؛ لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة، ولئلَّا يُفهِم الإضمارُ تقييدَ شديدِ عِقابه بخشية ممَّا مضى فقال: وَاعْلَمُوا تنبيهًا على أن الباعث على المخافة إنَّما هو العلم أَنَّ اللهَ أي: الذي لا يُدانِي عظمتَه شيءٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ هذا مع مناسبة هذا الخِتام لِمَا بعده من النهي عن الرَّفث وغيره .
3- قوله: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فِي الْحَجِّ فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بشأنه، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم؛ فإنَّ زيارةَ البيت المعظَّم والتقرُّبَ بها إلى الله عزَّ وجلَّ من موجبات تَركِ الأمورِ المذكورة، وإيثارُ النَّفي على النَّهي للمُبالغة في النَّهي، حتى جُعلت كأنَّها قد نهي الحاج عنها فانتهى، فانتفت أجناسها، وللدَلالة على أنَّ ذلك حقيقٌ بألَّا يكون؛ فإنَّ ما كان مُنْكرًا مستقبَحًا في نفسه، فهو في الحجِّ أقبحُ .
4- قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ عبَّر بـثُم لتفاوت ما بين الإفاضتين (من عرفاتٍ، ومن المزدلفة)، وأنَّ إحداهما صوابٌ (التي من عَرَفات)، والثانية خَطأ (التي من مزدلِفة). ووقوع العطف بحَرْف المهلة ثُم، الذي يستدعي التراخي مضافًا إلى التغاير، وليس بين الإضافة المطلَقة والمقيَّدة تراخٍ؛ لأنَّ التراخي كما يكون باعتبار الزَّمان، قد يكون باعتبار علوِّ المرتبة وبُعدها في العلوِّ بالنسبة إلى غيرها ويعرف بـ(التراخي الرتبي) . وهذا بناءً على القول بأنَّ المقصود بالناسِ في الآية هم العرب، وأنَّ الإفاضةَ المقصودةَ هنا هي الإفاضةُ من عَرفات.
======
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (204 - 207)
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
غريب الكلمات:
أَلَدُّ الخِصَامِ: أي: شديد الخُصومة، أو أشَدُّهم خصومةً؛ أصل اللَّدد: الشِدَّة؛ والْأَلَدُّ: الخَصيم الشَّديد التَّأبِّي، والخِصام: جمْع خَصم، أو مصدَر خاصَم
.
الحَرْثَ: الزَّرع، والبساتين والمزارع، وأصْلُه: إلقاء البَذر في الأرض وتهيئتها للزَّرع، والكَسبُ والجَمْعُ .
النَّسْلَ: الوَلد والنَّجْل، وهو في الأصل: الانفصالُ عن الشَّيءِ .
المِهَادُ: الفِراش، والقَرار، وأصل مَهَد: من توطئة الشيء وتسهيله .
يَشْرِي: يَبِيع
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ صِنفًا من النَّاس هم من المنافقين، يستحسنُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ فصاحتَهم، ويُعجِبه منطقُهم، لكنَّ حديثهم متعلِّق بالدنيا فقط، ولا يتطرَّق لأمور الآخِرة، أو يُعجِبه ظاهرُ حديثهم عن أمور الدِّين، لكنَّه حديثٌ لا ينفع أولئك المنافقين إلَّا في الدُّنيا فقط، ولا يكتفي الواحدُ منهم بحُسن كلامه، بل يُؤكِّده بأنَّ اللهَ يعلَمُ بأن ما في قلبه موافقٌ لِما تكلَّم به، وهو كاذبٌ في ذلك، شديدُ الخصومةِ والمجادلةِ بالباطل، فاجرٌ في خِصامِه، ناطقٌ بالزُّورِ في قوله، فإذا خرَج مِن عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ سار في الأرضِ مفسِدًا فيها بالكفر، والظُّلم، والمعاصي؛ كإخافةِ السَّبيل، وقَطْع الطُّرق، ويُتلِف الزروعَ والثمارَ ونسلَ الحيوانات، واللهُ سبحانه لا يحبُّ كلَّ ما كان فسادًا.
وإذا خُوِّف هذا المنافقُ وأُمِر بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، ومنها تَرْكُ سعيه بالفساد، وإتلاف الزَّرع والحيوانات- استكبَر، وأخذَتْه الحميَّةُ بسبب وقوعه في الإثم، وحملَتْه الأَنَفةُ على ارتكابِ المزيدِ من السيِّئات، فكفى هذا المنافقَ عقوبةً نارُ جهنَّمَ، ولبئس الفراشُ والوِطاءُ جهنَّمُ.
وهناك صِنفٌ من النَّاس يبيعون أنفسَهم، ويبذُلون أرواحَهم من أجلِ أنْ ينالوا رضا الله عزَّ وجلَّ، والله ذو رأفةٍ بعبادِه، وخاصَّة مَن باعوا أنفسَهم له جلَّ وعلا، ومِن رأفته بهم توفيقُه لهم ورضاه عنهم.
تفسير الآيات:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204).
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: إنَّ بعضَ النَّاس، مِن المنافقين، مَن تستحسنُ يا محمَّد، مَنطقَه وظاهرَ قوله، فتُعجِبك فصاحتُه، لكنه يتحدَّث في شؤون الدُّنيا بعيدًا عمَّا يتعلَّقُ بأمور الآخرة، أو يُعجِبُك ظاهرُ حديثِه عن أمور الدِّين؛ كنُصرةِ الإسلام والمسلمين، وحبِّ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسلام، وغير ذلك، لكنه حديثٌ ينفَعُه في الدنيا فحسب، أما في الآخرة فلا ينتفع به البتَّةَ
.
وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ.
أي: ويُقرنُ حُسنَ كلامِه ويؤكِّد ظاهرَ حديثِه بأنْ يُخبِرَ أنَّ الله تعالى يعلَمُ بأنَّ ما في قلبه موافقٌ لِما نطَق به، وهو كاذبٌ في ذلك؛ فهو في الحقيقةِ يُبارِزُ اللهَ عزَّ وجلَّ بما ينطوي عليه قلبُه من الكفرِ .
كما قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون: 1 - 4] .
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ.
أي: يُشْهِد اللهَ تعالى على أنَّه محقٌّ في قولِه ذلك؛ لشِدَّة خصومتِه، وتجدُه- لاعتمادِه على فصاحتِه- مُجادِلًا بالباطل، وناطقًا بالزُّور مِن القول، كاذبًا في حديثِه، وفاجرًا في خِصامِه؛ فالمُنافِق أسوأُ المخاصِمينَ، وأعوجُهم، وأشدُّهم عداوةً .
عن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أبغضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الألدُّ الخَصِمُ )) .
وعن عبدِ الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أربعُ خلالٍ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا: مَن إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا عاهَد غدَرَ، وإذا خاصَمَ فجَر، ومَن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ منَ النِّفاقِ حتَّى يدَعَها )) .
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205).
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا.
أي: كما أنَّ مقالَه مُعْوجٌّ، واعتقاده فاسدٌ، فأفعاله كذلك سيِّئةٌ وقبيحة، فإذا خرَج وانصرف عنك هذا الذي يُعجِبُك قولُه، سار في الأرض مجتهدًا في إفسادِها بالكفر، والظُّلم، وعمَل المعاصي؛ كقَطْع الطَّريق، وإخافة السَّبيل، وغير ذلك .
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.
أي: هِمَّتُه في إتلاف الحَرْث، وهو: محلُّ نَماء الزُّروع والثِّمار، وإتلاف النسل، وهو: نتاجُ الحيوانات؛ فهذانِ لا قِوام للنَّاس إلا بهما، وبإتلافِهما يختلُّ نظامُ الحياة، كما أنَّه إذا سعى في الأرض فسادًا بالكفرِ والظُّلم والمعاصي، منَع اللهُ تعالى القطرَ من السَّماءِ عقوبةً؛ فتَتْلَف الزُّروع، وتموت الحيوانات .
كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96] .
وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
أي: إنَّ الله تعالى لا يحبُّ تلك الأفعالَ، ولا مَن قام بها، وإنْ قال بلسانه قولًا يُعجِب النَّاسَ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206).
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.
أي: إذا أُمِر هذا المنافقُ بتقوى الله عزَّ وجلَّ؛ بامتثالِ ما أمَر به، واجتنابِ ما نهى عنه، ومِن ذلك: تَرْكُ الإفساد في الأرض بالكفر والظُّلم والمعاصي، وإهلاكِ الزُّروع والحيوانات، إذا أُمر بذلك، استكبَر، وأخذَتْه حميَّةٌ بسبب وقوعِه في الآثام، وحملَتْه هذه الأَنَفةُ على ارتكاب المزيدِ من السَّيِّئاتِ .
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ.
أي: كفاه عقوبةً مِن غيِّه وضلالِه، صَلْيُه نارَ جهنَّمَ، ولبئس الفِراشُ والوِطاءُ جهنَّمُ، الَّتي وطَّأها لنفسِه بنِفاقِه وفُجوره .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207).
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ.
أي: إنَّ هناك صِنفًا من النَّاس يبيعون أنفسَهم، ويبذلونها ثمنًا لنيلِ مرضاةِ الله عزَّ وجلَّ .
وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ.
أي: واللهُ ذو رحمةٍ عظيمة بعباده، ولعبوديَّتِهم له يرأَفُ بهم، وخاصةً مَن يبيعون أنفسَهم له سبحانه، ومِن رأفته بهولاء أنْ يوفِّقَهم لذلك، ويرضى عنهم
.
الفوائد التربويَّة:
1- الإشارة إلى ذمِّ الجدل والخِصام؛ لقوله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ؛ لأنَّ الخُصوماتِ في الغالب لا يكونُ فيها بركةٌ
.
2- التَّحذير من ردِّ النَّاصحين؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَل هذا مِن أوصاف هؤلاء المنافِقين؛ فقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فمَن ردَّ آمرًا بتقوى الله، ففيه شَبَه مِن المنافقين، والواجب على المرء إذا قيل له: (اتَّقِ اللهَ) أنْ يقولَ: (سمِعْنا وأطَعْنا) تعظيمًا لتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ .
3- الإشارة إلى إخلاص النِّيَّة؛ لقوله تعالى: ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ .
4- الموفَّقون هم الَّذين باعوا أنفسَهم وأرخصوها وبذَلوها طلبًا لمرضاةِ الله، ورجاءً لثوابه، كما قال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ الأَنَفةَ قد تحمِلُ صاحبَها على الإثمِ؛ لقوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
.
2- في قوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ... إثبات عِلم الله عزَّ وجلَّ بما في الصُّدور؛ لأنَّ ما في القلبِ لا يعلَمُه إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ .
3- في قوله تعالى:وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ إثبات محبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ للصَّلاح، فإنَّ نفيَه محبَّةَ الفسادِ دليلٌ على ثبوت أصلِ المحبة .
4- في قوله تعالى: مَرْضَاتِ اللهِ إثبات الرِّضا لله؛ ورضَا اللهِ صفةٌ حقيقيَّةٌ لله عزَّ وجلَّ متعلِّقة بمشيئتِه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ التعبير بالفعل المبني للمفعول (قِيلَ) فيه بلاغة تامَّةٌ في حذفِ الفاعل؛ ليشمَلَ كلَّ مَن يقول له ذلك؛ فيكون ردُّه لكراهةِ الحقِّ لا للقائل به
.
2- قوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فيه نوعٌ من البديع يُسمَّى التَّتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة ترفع عنه اللَّبس، وتقربه للفَهم، كقوله تعالى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] ؛ وذلك أنَّ العِزَّة محمودةٌ ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، فلمَّا قال: بالإثمِ، اتَّضح المعنى وتمَّ، وتبيَّن أنها العزةُ المذمومة المؤثَّم صاحبُها .
3- قوله: وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ تذييل، أي: رؤوفٌ بالعباد الصالحين الذين منهم مَن يشري نفْسَه؛ ابتغاءَ مرضاة الله، ومناسبة هذا التَّذييل للجملة: أنَّ المخبَر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله، وجَعَلوا أنفسهم عَبيدَه .
- وعدَل عن الإضمار بِهم إلى الإظهارِ بِالعِبَادِ؛ ليكونَ هذا التذييلُ بمنزلةِ المَثَل مستقلًّا بنفسه، وهو من لوازم التذييل، وليدلَّ على أن سبب الرأفة بهم أنَّهم جعَلوا أنفسهم عبادًا له .
4- وفي هذه الآية، والتي قَبلها من عِلم البديع: حُسن التَّقسيم .
الآيات (142-150)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
مشكل الإعراب:
قوله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً:
إنْ: هي المخفَّفة من الثقيلة، واسمها (ضمير الشأن) محذوف.
لكبيرةً: اللَّام للفَرْق بين إن المخفَّفة من الثقيلة وإن النافية. وكبيرةً: خبر كان منصوب، واسم كان ضميرٌ مستترٌ تقديره (هي)، دلَّ عليه ما قبله من الكلام، والتقدير: وإنْ كانت التوليةُ، أو الصلاةُ، أو القِبلةُ
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر اللهُ تعالى أنَّ الجاهلين من النَّاس من يهودٍ ومشركين ومنافقين- ممَّن لا يَعرِفون مصالح أنفسهم، بل يُضيعونها- سيتساءلون اعتراضًا- والرِّيبة تملأ قلوبَهم- عن السَّبب الذي صرَف المسلمين عن استقبال بيت المقدِس، فأمَر اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُجيبهم بأنَّ مُلك المشرق والمغرب وما بينهما هو لله سبحانه وتعالى وحْدَه؛ فله أن يأمُرَ باستقبال أيِّ جِهة أراد؛ فإنَّه يُوفِّق مَن يشاء إلى سلوك الطَّريق القويم في امتثال الأمر بالتوجُّه للكعبة وفي كلِّ ما يأمر به سبحانه.
ومِثلُ هذا التوفيق الذي وفَّقه الله تعالى أمَّةَ محمد صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى أفضل قِبلة، اختيارُ الله سبحانه وتعالى لهم ليكونوا أعدلَ الأُمم وخيرَها؛ ليشهدوا على بقيَّة الأمم التي تقدَّمتهم أنَّ أنبياءهم ورسلَهم أدَّوْا إليهم رسالة ربِّهم جلَّ وعلا، ويكون الرسولُ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ شهيدًا على صِدق هذه الأمَّة فيما أخبَرت به من ذلك.
ثم خاطَب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه إنَّما شرَع له استقبال بيت المقدس أولًا، ثمَّ نسخَه بالتوجُّه إلى الكعبة؛ امتحانًا؛ لكي يَعلمَ مَن يُطيع الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ممَّن يرتدُّ عن دِينه، وإنْ كان أمر تحويل القِبلة شاقًّا على النفوس وعظيمًا، إلَّا على مَن وفَّقه الله لطريق الهداية، ثم طمْأنَ الله سبحانه المؤمنين بأنَّه لا ينبغي له جلَّ وعلا أن يُضيع ثوابَ صلاتهم إلى بيت المقدِس، قبل تحويل القِبلة، بل هو محفوظٌ عنده عزَّ وجلَّ؛ فهو سبحانه عظيم الرحمة بالنَّاس.
ثم قال الله سبحانه لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنَّه رأى تلفُّتَه الكثيرَ ناحيةَ السَّماء وهو يقلِّبُ وجهَه في جِهاتها، يترقَّب وحيًا يُعلِمه بتحويل القِبلة، ثم أخبره تعالى أنَّه سيوجِّهه إلى قِبلةٍ يُحبها صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأمرَهُ أن يتوجَّه في صلاته إلى جهة الكعبة، وفي أيِّ موضع كانوا، فعليهم أن يَستقبلوا الكعبةَ عند إرادة الصَّلاة، وقد علِم اليهود والنَّصارى مِن خلال كتُبهم أنَّ استقبال الكعبة مِن قِبل النبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين حقٌّ مفروض من الله تعالى، والله سبحانه لا يَخفَى عليه أمرُ هؤلاء الذين يَعلمون الحقَّ ويُنكرونه ولا يَتَّبعونه.
ثم بيَّن الله سبحانه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ مدى تعنُّتِ اليهود والنَّصارى وتمسُّكهم بالباطل؛ فلئن جاءهم بكلِّ برهان، وأقام عليهم الحُجج على أنَّ الحقَّ هو ما جاء به من تحوُّل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فإنَّهم لن يتَّبعوه فيما جاء به، ولا هو صلَّى الله عليه وسلَّمَ بمُتابِعِهم على قِبلتهم؛ لتمسُّكه بشَرْع الله، ولا أحدَ منهم يهوديًّا كان أو نصرانيًّا بتابعٍ قِبلةَ الآخَر، ثم حذَّر اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّته تبَع له- مِن اتِّباع أهواء أهل الكتاب بعد أن اتَّضح لهم الحقُّ، فإنَّه إنْ فعَل سيكون معدودًا مع الذين ظَلموا أنفسهم.
ثم أخبَر تعالى أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى يَعرِفون النبيَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّه مُرسَلٌ من ربِّه، وأنَّ ما جاء به حقٌّ، ومنه التوجُّه إلى الكعبة، وذلك من خلال كتُبهم- معرفةً يقينيَّة كما يَعرِفون أبناءَهم؛ فلا يشتبهون عليهم بغَيرِهم، ومع ذلك فإنَّ طائفةً منهم يُخفون الحقَّ عمدًا، والحالُ أنَّهم يُوقِنون بصحَّته!
ثمَّ أعْلمَ الله سبحانه نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأن يَعلم أنَّ الحقَّ هو ما جاءَه من ربِّه، ونهاه أن يَتسرَّب إلى قلبِه شكٌّ فيه.
ثم أخبَر تعالى أنَّ لكل أهل مِلَّةٍ قِبلةً يتوجَّهون إليها في صلواتهم، سواء كانت هذه القِبلة ممَّا شرَعه الله لهم، أو كانت ممَّا ابتدعوه من تِلقاء أنفسهم.
وأمَر سبحانه المؤمنين أن يُبادروا ويُسارعوا إلى الطَّاعات، ومن ذلك استقبال القِبلة التي أمرَهم الله بالتوجُّه إليها، ولتَحْفيزِهم على المسارعةِ إلى الطاعات، وأخبَرهم سبحانه بأنَّه أينما كان موتُهم فإنَّ الله عزَّ وجلَّ سيجمعهم يوم القِيامة، فهو سبحانه لا يُعجِزه شيء؛ لأنه القادر على كلِّ شيء.
ثم أمَر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يَجعل الكعبة قِبلتَه أينما كان؛ فإنَّ ذلك هو الحقُّ الذي ليس فيه أدْنى شكٍّ، والله سبحانه ليس بساهٍ عن عمل أيِّ أحد، بل مطَّلعٌ على أعمال الجَميع، وسيُجازي أصحابَها بحسَبها.
ثم أعاد سبحانه الأمرَ لنبيِّه عليه الصَّلاة والسلام بأن تكون وِجهتُه في صلاته هي الكعبةَ أينما كان، وكذلك المؤمنون مأمورون بأن يَستقبلوا الكعبةَ في أيِّ موضع كانوا، وذلك التحويل قد وقَع؛ كيلا يحتجَّ اليهودُ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين بأنَّه ليس لهم عَيبُ دِينهم أو انتقاصُه، ما داموا قد وافقوهم في صلاتِهم نحو بيت المقدِس؛ فبهذا التحويلِ للقِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة تُدحَضُ تلك الحُجَّة، ولكن تبقى حُجَّةٌ باطلةٌ لمشرِكي قريش بأنَّ المؤمنين ما داموا قد عادُوا إلى قِبلتهم، فلا بدَّ أن يتَّبعوا أيضًا دِينهم.
فنهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن تُساورَهم خشيةٌ من هؤلاء الظَّلمة، أو مِن حُجَجهم الداحضة، وأمرهم بأن يُفردوه جلَّ وعلا وحْدَه بالخشية، فإنَّه لا يستحقُّها أحدٌ سواه.
ثمَّ أخبَر سبحانه أنَّ مِن أسباب تحويل القبلة، إتمامَ شرائع الدِّين للمؤمنين، ورجاءَ أن يمتثلوا أوامرَ الله، ويسلِّموا بها؛ فينالوا هدايتَه سبحانه.
تفسير الآيات:
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا تكرَّر في الآيات السابقةِ التنويهُ بإبراهيم عليه السلام وملَّته، والكعبةِ، وأنَّ مَن يرغب عنها قد سفِه نفْسه، فكانت مثارًا لأنْ يقول المشركون: ما ولَّى محمدًا وأتْباعَه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكَّةَ- أي: استقبال الكعبة- مع أنه يقول: إنَّه على مِلَّة إبراهيم، ويأبى اتِّباع اليهوديَّة والنصرانيَّة؛ فكَيف ترك قِبلةَ إبراهيم واستقبلَ بيت المقدس؟! وقد علم اللهُ تعالى ذلك منهم فأنبأَ رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بقولهم
.
سبب النُّزول:
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ صلَّى نحوَ بيت المقدِس سِتَّةَ عَشرَ، أو سبعةَ عَشرَ شهرًا، وكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يحبُّ أن يُوَجَّه إلى الكعبة، فأنزل الله قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فتوجَّه نحو الكعبة، وقال السفهاء من النَّاس- وهم اليهود -: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فصلَّى مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ رجلٌ، ثمَّ خرَج بعدما صلَّى، فمرَّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر نحوَ بيت المقدس، فقال: هو يَشهدُ أنَّه صلَّى مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وأنَّه توجَّه نحوَ الكعبة، فتَحرَّف القومُ حتى توجَّهوا نحوَ الكعبة )) .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
أي: سيتساءل الجُهَّال وخِفاف العقول من النَّاس- وهم اليهود، وأهل النِّفاق، والمشركون- سيتساءلون عن المسلمين مُعترِضين، بحيرةٍ وارتياب: أيُّ شيء صرَفَهم عن التوجُّه إلى بيت المقدِس في صلاتهم؛ فحوَّلوا وجوههم عنه ؟!
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
أي: قلْ يا محمَّدُ، لهؤلاء المتسائلين: لله تعالى وحْده دون غيرِه مُلكُ المشرق والمغرب وما بينهما، فكلُّ الجِهات مخلوقةٌ ومملوكة له؛ فله أن يأمُرَ بالتوجُّه إلى أيِّ جِهةٍ شاء سبحانه .
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أي: إنَّ الله تعالى يُرشد ويوفِّق بحِكمته مَن يشاء مِن خَلْقه إلى الطَّريق القويم، وقد هدى اللهُ تعالى المؤمنين إلى قِبلة إبراهيمَ عليه السَّلام التي ضلَّ عنها غيرُهم .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (143).
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.
أي: مثل هذا الجَعْل الذي جعْلنا لكم، وهو هدايتُكم إلى أفضلِ قِبلة، جعلناكم أيضًا خيرَ الأمم وأعدلَها، وسطًا بيْن الإفراط والتفريط، وبين الغلوِّ والجَفاء .
كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] .
وعن معاويةَ بن حَيْدةَ القُشيريِّ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أنتُم تُوفُون سَبعينَ أُمَّةً، أنتُم خيرُها وأكرمُها على الله )) .
وعن أبي سَعيد الخُدريِّ رضي الله عنه، قال: ((قرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال: عدلًا)) .
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يجيء النبيُّ يومَ القيامة، ومعه الرَّجل، والنبيُّ ومعه الرَّجُلان، وأكثرُ مِن ذلك، فيُدعى قومُه، فيُقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا! فيُقال له: هل بلَّغتَ قومَك؟ فيقول: نعم، فيُقال له: مَن يَشهد لك؟ فيقول: محمَّد وأمَّتُه، فيُدْعَى وأُمَّته، فيُقال لهم: هل بلَّغ هذا قومَه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلمُكم؟ فيقولون: جاءَنا نبيُّنا، فأخبَرنا: أنَّ الرُّسل قد بلَّغوا، فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] قال: يقول: عدلًا ، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] )) .
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.
أي: جعَل الله تعالى هذه الأمَّةَ المحمديَّةَ خيرَ الأُمم وأعدَلَها؛ ليشهدوا على الأُمم الأخرى بأنَّ رُسلَهم وأنبياءَهم عليهم الصَّلاة والسلام قد بلَّغوهم رِسالة ربِّهم عزَّ وجلَّ .
كما قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((يُدعَى نوحٌ يومَ القِيامة، فيقول: لبَّيْك وسَعديك يا ربِّ، فيقول: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعمْ، فيُقال لأمَّته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: مَن يشهد لك؟ فيقول: مُحمَّدٌ وأمَّتُه، فيَشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرَّسولُ عليكم شهيدًا؛ فذلك قولُه جلَّ ذِكرُه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، والوسط: العدْل )) .
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: ((مَرُّوا بجَنازةٍ فأثنَوْا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَجَبَتْ، ثم مَرُّوا بأخرَى فأثنَوا عليها شرًّا، فقال: وَجَبَتْ، فقال عُمَرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: ما وَجَبَتْ؟ قال: هذا أثنَيتُم عليه خيرًا، فوَجَبَتْ له الجنةُ، وهذا أثنَيتُم عليه شرًّا، فوَجَبَتْ له النارُ؛ أنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرضِ )) .
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
قيل: أي: يَشهد محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على صِدق الأمَّة فيما أخبَرت به عن تبليغ رُسُل الله تعالى رِسالتَه إلى أُممهم، وقيل: يَشهد محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه بلَّغ أمَّته رسالةَ ربِّه، وقيل: يشهد بأنَّهم آمنوا به وبما جاء به من عند الله عزَّ وجلَّ .
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
أي: إنَّما شرَعْنا لك يا محمَّد التوجُّه أولًا إلى بيت المقدِس، ثمَّ صرَفْنا هذه القِبلة عنك إلى الكَعبة؛ امتحانًا؛ لنعلم-عِلمًا تقوم به الحجة على العبد، ويترتَّب عليه الثوابُ والعِقاب- من سيطيعك فيستقبل معك حيثما توجَّهت، ممن يَرتدُّ عن دِينه .
وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ.
أي: وإن كان الشَّأْن أنَّ واقعة صرْفِنا لك يا محمَّد عن التوجه إلى بيت المقدس، وتوليتنا إيَّاك للكعبة، أمرٌ عظيمٌ، شاقٌّ، وثقيلٌ على النُّفوس، عدَا مَن أرشده الله تعالى للحقِّ، ووفَّقه للعمل به، فصَدَّق الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتأسَّى به في التحوُّل إلى الكعبة .
عن عبد الله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما، قال: ((بَيْنا النَّاسُ بقُباءٍ في صلاةِ الصُّبحِ، إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُنزِلَ عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يَستقبِلَ الكعبةَ، فاستقبِلوها، وكانتْ وجوهُهم إلى الشَّأمِ، فاستَداروا إلى الكَعبةِ )) .
وعن أنسٍ رضي الله عنه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان يُصلِّي نحو بيت المقدِس، فنزلت: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144] ، فمرَّ رجلٌ من بني سَلِمة وهم ركوعٌ في صلاة الفجر، وقد صلَّوا ركعةً، فنادى: ألَا إنَّ القِبلة قد حُوِّلت، فمالوا كما هم نحوَ القِبلة )) .
وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ.
سبب النُّزول:
عن البَراء رضي الله عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم صلَّى إلى بيت المقدِس ستَةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عَشرَ شهرًا، وكان يُعجبه أن تكونَ قِبلتُه قِبلَ البيت، وأنَّه صلَّى أوَّلَ صَلاةٍ صلَّاها صَلاةَ العَصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرج رجلٌ ممَّن كان صلَّى معه فمرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهدُ بالله لقدْ صليتُ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّمَ قِبَل مكةَ، فدارُوا كما هم قِبلَ البيت... وفيه: أنَّه ماتَ على القِبْلة قَبلَ أنْ تُحوَّلَ، رِجالٌ قُتِلوا، فلمْ نَدرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ )) .
وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ.
أي: إنَّ الله تعالى يقول عن نفسه بأنَّه لا ينبغي له أن يُضيع ثوابَ صلاتكم إلى بيت المقدس قَبل ذلك، بل هو محفوظٌ عنده سبحانه وتعالى .
إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى عظيم الرَّحمة بالنَّاس؛ ولذا لا يُمكن أن يُضيع أجرَ طاعة عمِلها عبادُه المؤمنون .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144).
سبب النُّزول:
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ صلَّى نحوَ بيت المَقدِس سِتَّة عشرَ أو سَبعةَ عشرَ شهرًا، وكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يحبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبة، فأنزل الله قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فتوجَّه نحو الكعبة، وقال السُّفهاء من النَّاس- وهم اليهود -: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فصلَّى مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ رجلٌ، ثم خرَج بعدما صلَّى، فمرَّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر نحوَ بيت المقدس، فقال: هو يَشهدُ أنَّه صلَّى مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّه توجَّه نحوَ الكعبة، فتحرَّف القوم حتى توجَّهوا نحوَ الكعبة )) .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ.
أي: يُؤكِّد الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ رُؤيتَه له وهو يتلفَّت محوِّلًا وجهَه في جِهات السماء؛ متلهِّفًا لنزول الوحي بخبَر تحويل القِبلة إلى الكعبة .
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا.
أي: فلنوجهنَّك يا محمَّد، إلى قِبلةٍ عظيمةٍ تطمئنُّ إليها، وتحبُّها، وتقبلها .
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: أقبِلْ ببدنِكَ، واصْرِفْ وجهَكَ لأجْل الصَّلاة، إلى جهةِ الكعبة من المسجد الحرام .
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
أي: وفي أيِّ موضعٍ وَجِهةٍ كنتم- أيُّها المؤمنون- فعليكم أن تستقبلوا الكعبةَ وتتوجَّهوا ناحيتَها عند إرادة الصَّلاة .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.
أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعلمون مِن كتُبهم أنَّ استقبال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين الكَعبةَ، أمرٌ حقٌّ، قد فرَضه الله سبحانه وتعالى .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَعْمَلُونَ قراءتان:
1- تَعْمَلُونَ بالخطاب .
2- يَعْمَلُونَ بالغيبة .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ الله تعالى ليس بساهٍ عمَّا يعمل هؤلاء الذين يَعلمون الحقَّ، ويُنكرونه ولا يَتَّبعونه؛ فما يَعملونه من سوءٍ محفوظٌ عند الله تعالى؛ ليعاقبَهم عليه، وبالضدِّ؛ يَحفَظ للمؤمنين امتثالَهم لأوامره، فيُجازيهم بذلك .
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145).
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ.
أي: والله لئن جِئتَ يا محمَّدُ، اليهودَ والنَّصارى بكلِّ برهان، وأقمتَ عليهم كلَّ حُجَّةٍ تُثبت أنَّ الحقَّ هو ما جِئتَهم به، من وجوب التحوُّل من قِبلة بيت المقدِس في الصَّلاة إلى التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام، فلن يَتركوا أهواءَهم، ويتَّبعوك في ذلك .
وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ.
يُنزِّه الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن متابعة قِبلة اليهود أو النَّصارى، ويُخبر عن شدَّة متابعتِه لِمَا أمره الله تعالى به؛ فكما أنَّهم مستمسِكون بأهوائهم، فلا اليهوديُّ يتَّبع قِبلة النصرانيِّ، ولا النصرانيُّ يتَّبع قِبلة اليهوديِّ، فهو أيضًا مستمسِكٌ بأمر الله واتِّباع مرضاته، ولا يتَّبع أهواءهم في جميع أحواله، كما أنَّه لا يُمكنه إرضاؤهم بحالٍ؛ لأنَّ الاختلاف فيما بينهم، واقع؛ ولذا فليس بغريبٍ منهم أنْ لا يتَّبعوا كذلك قِبلةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
وفي هذا تَسليةٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين، وتثبيتٌ لهم على الحقِّ، وإنْ خالفهم مَن خالفَهم، وقطْعُ أطماع أهل الكتاب من متابعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين لقِبلتهم .
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
حذَّر الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وأمَّته تبعٌ له في ذلك- مِن اتِّباع أهواء اليهود والنَّصارى، بالتوجُّه نحوَ قِبلتهم من بعد مجيء الحقِّ بالتوجُّه قِبل الكعبة؛ فإنَّه إنْ فعَل ذلك فهو معدودٌ مع الظَّالمين أنفسَهم بتَرْك الحقِّ، واتِّباع الباطل .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146).
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعرِفون من توراتهم وإنجيلهم أنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ، وأنَّ ما جاء به- مِثل صِحَّة التوجُّه نحوَ الكعبة في الصَّلاة- حقٌّ؛ يعرفون ذلك عن يقين تامٍّ، يُماثل يقينَهم بأبنائهم؛ إذ لا يَشتبهون عليهم بغيرِهم .
وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أي: ومع وضوح الحقِّ، وتيقُّن معرفتِه، إلَّا أنَّ طائفةً منهم يَكتُمون النَّاس عن عمْد، ما في كتُبهم من صِفة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وما جاء به من التوجُّه نحو الكعبة وهو الحق .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147).
أي: اعلمْ يا محمَّد، أنَّ الحقَّ وحده هو الذي جاءك من ربِّك، لا ما يقوله اليهود أو النَّصارى، أو غيرهم؛ فلا يحصُل لك أدنى تردُّدٍ وريبةٍ فيه .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148).
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في مُوَلِّيهَا قراءتان:
1- (مُوَلَّاهَا) بمعنى موجَّهٌ ومصروفٌ إليها .
2- (مُوَلِّيهَا) بمعنى متوجِّهٌ إليها ومستقبلها .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا.
أي: إنَّ لكلِّ أهل مِلَّةٍ قِبلةً يستقبلونها في صلاتهم، سواء كانت ممَّا ابتدعوه من تِلقاء أنفسهم، أو كانت ممَّا شرَع الله تعالى لهم .
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت توليتُهم وجوهَهم نحوَ القِبلة إنما هو لأجْل تزكيةِ النفس وخلاصِها، وكان ذلك لا يحصُل إلَّا بفعل الخير واجتنابِ الشرِّ؛ قال تعالى :
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
أي: بادِروا وسارعوا باغتِنام الطاعات، ومن ذلك استقبال القِبلة التي أمَر الله تعالى بها .
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بالمسابقةِ إلى الخيرات، وكان أقوى ما يَحثُّ النفوسَ على المسارعةِ إلى الخير، ويُنشِّطها: ما رتَّب الله عليها مِن الثوابِ؛ قال :
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
أي: يحثُّ الله تعالى عبادَه على المسارعة إلى الأعمال الصَّالحات قبل الممات، بإعلامهم أنَّ مرجعهم جميعًا إليه، وسيُحشَرون إليه من أي جِهة ماتوا فيها؛ فهو سبحانه القادِر الذي لا يُعجِزه ذلك، ولا أيُّ شيءٍ سواه .
كما قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا عَظُم في شأن القِبلة انتشارُ أقوال أهل الكتاب في تنويعِ شغبِهم وجدالِهم، وكانوا أهلَ عِلم وكتاب، وقد مرَّت لهم دهورٌ وهم موسومون بأنَّهم على صواب، فاشرأبَّ لذلك النِّفاق، ودارت رَحَى الباطِل والشِّقاق، كان الحال مقتضيًا لمزيد تأكيد لأمرها؛ تعظيمًا لشأنها، وتوهيةً لشُبه السُّفهاء فيها، فقال جلَّ وعلا :
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: ومِن أيِّ موضعٍ خرجتَ يا محمَّد، في سفرٍ كان أو غيره، فتوجَّهْ نحوَ الكعبة للصَّلاة .
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
أي: إنَّ توجُّهك نحو الكعبة يا محمَّد، حقٌّ ثابت لا شكَّ فيه .
وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ الله تعالى ليس بساهٍ عن عمَل أحد، بل هو مطَّلعٌ على الأعمال جميعِها، وسيُجازي صاحب كلِّ عملٍ بحسب ما قدَّمه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا تَقرَّر بما تكرَّر أنَّ تحويل القبلة فرضٌ في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ حتمٌ لا فتورَ عنه، ولا رُخصة فيه؛ إلَّا ما استُثني، أدْخل معه أمَّته؛ ليَعُمَّهم الحُكم، ورَبَأ بالمؤمنين عن أن يكون لأحدٍ عليهم حُجَّة؛ فقال :
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
أي: ومِن أيِّ موضعٍ خرجتَ يا محمَّد، في سفرٍ كان أو غيره، فتوجَّهْ نحوَ الكعبة للصَّلاة، وفي أيِّ موضعٍ وَجِهةٍ كنتم- أيُّها المؤمنون- فعليكم أيضًا أن تستقبلوا الكعبةَ وتتوجَّهوا ناحيتَها عند إرادة الصَّلاة .
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.
أي: حوَّلنا قِبلتَكم إلى الكَعبة؛ كي لا يحتجَّ اليهودُ عليكم قائلين: إنكم ما دُمتم قد وافقتمونا في قِبلتنا نحو بيت المقدس، فلِمَ تَعيبون دِينَنا، ولِـمَ لا تتبعون ملَّتَنا؟ لكن ستبقى حُجَّة الظالمين- وهم مشركو قريش- الذين يحتجُّون عليكم بالباطل قائلين: إنكم ما دُمتم قد عُدتم إلى قِبلتنا، فلا بدَّ أن تتَّبعوا دِيننا .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.
أي: لا تخشَوا هؤلاء الظلمةَ المتعنتين، ولا حُجَجهم الباطلة، وأفرِدوا الخشية لي؛ فإنِّي وحْدي المستحقُّ لذلك .
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ.
أي: شرَعت لكم استقبال الكعبة؛ لأُكمل لكم شرائعَ ملَّتكم الحَنيفيَّة .
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
أي: ومن أسباب تحويل القبلة إلى الكعبة أنْ ترجُوا بامتثال أوامر الله تعالى نيلَ هُداه، فتَعلموا الحق وتعملوا به؛ ابتغاءَ رِضاه
.
الفوائد التربويَّة:
1- تسلية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأصحابه رضِي الله عنهم، حيث أخبر الله تعالى أنَّه لن يَعترِض عليه في أمر تحويل القبلة إلَّا سفيهٌ؛ لقوله سبحانه: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
.
2- في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاء...، الإخبار بقولهم قبل وقوعه، وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم، فإنَّ مفاجأة المكروه على النفس أشقُّ وأشدُّ، فالمرء يخبر بما يُتوقَّع حدوثُه؛ ليستعدَّ له .
3- أنَّ الله سبحانه يمتحِن العبادَ بالأحكام الشرعيَّة، إيجابًا، أو تحريمًا، أو غير ذلك؛ لقوله عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ؛ فليتنبَّه المرء لهذا .
4- أنَّ التقدُّمَ حقيقةً إنَّما يكون بتطبيق تعاليم الإسلام، وأنَّ الرجعيَّةَ حقيقةً إنَّما تكون بمخالفتها؛ لقوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ؛ فإنَّ هذا حقيقة الرجوع على غير هدًى؛ لأنَّ الذي ينقلب على عقبيه كالأعمى لا يُبصِر ما وراءه .
5- أنَّ امتثال بعض الأوامر الشرعيَّة، واجتناب بعض النواهي الشرعيَّة فيه مشقَّة على المكلَّفين، لكن بتمام الإيمان تزول هذه المشقَّة، وتكون سهلةً ويسيرة؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ .
6- مراعاة الشَّريعة اجتماعَ المسلمين على وِجهةٍ واحدة؛ لقوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ؛ فالمسلمون في جميع أنحاء العالم يتَّجهون إلى قِبلة واحدة .
7- وجوب الانقياد للحقِّ إذا ظهرت آياته؛ لقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ .
8- في قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إشارةٌ إلى أنَّ من عرف الله تعالى حقَّ معرفته، فمن المحال أن يرتدَّ، فإن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدُّ. قيل: إن الذي يقدَّر أنه معرفة، هو ظنٌّ متصوَّرٌ بصورة العلم، فأمَّا أن يحصل له العلم الحقيقيُّ ثم يعقبه الارتداد- فبعيد .
9- أنَّ الظلم، والعدل، وغير ذلك مقْرُونٌ بالأعمال لا بالأشخاص؛ فليس بيْن الله تعالى وبين أحدٍ من الخلق شيءٌ يُحابيه، ويُراعيه به؛ فكلُّ مَن خالفه فهو ظالم؛ لقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
10- بيان أنَّ العلم حقيقةً هو علمُ الشريعة؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ: فأتى بـــ(أل) المفيدة للكمال، ولا شكَّ أنَّ العلم الكامل الذي هو محلُّ الحمْد والثَّناء هو العِلم بالشَّريعة .
11- دلَّ قولُه تعالى: من بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ على أنَّ توجُّه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرِهم .
12- تحذير الأمَّة من اتِّباع أهواء غير المؤمنين؛ لقوله تعالى إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ فإذا كان الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُوصَف بالظلم لو اتَّبع أهواءَهم، فمَن دُونه مِن باب أَوْلى .
13- أنَّ كلَّ شيء خالَف ما جاء عن الله تعالى، فهو باطل؛ لقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ .
14- تَكرار الأمر الهام؛ لتثبيته والثبات عليه، ودفْع المعارضة فيه، وبيان أهميَّته؛ لأنَّه كلَّما كُرِّر كان مقتضاه أنَّ الأمر ثابتٌ مُحكَم يجب الثبوت عليه؛ وذلك لأنَّ الله تعالى كرَّر الأمر باستقبال القِبلة في عِدَّة آيات .
15- دفْع ملامة اللائمين ما أمكَن؛ لقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ .
16- أنَّ الظالم لا يَدفع ملامتَه شيء، بمعنى: أنَّه سيلوم وإنْ لم يكُن ثمَّة محلٌّ للوم؛ لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ إثبات عِلم الله تعالى بما سيكون، وتحقُّق وقوع ما أخبر به؛ لأنَّهم قالوا ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم سيقولونه
.
2- فضيلةُ هذه الأمَّة، حيث هداها اللهُ إلى استِقبال بيته الذي هو أوَّل بيت وُضِع للنَّاس .
3- فضْل هذه الأمَّة على جميع الأُمم؛ لقوله تعالى: وَسَطًا .
4- عَدالة هذه الأمَّة؛ لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ؛ والشهيد قولُه مقبولٌ .
5- أنَّ هذه الأمَّة تشهد على الأُمم يوم القيامة؛ لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ .
6- في قوله: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ دلالةٌ على أنَّ العمل من الإيمان، وهذا مذهب أهل السُّنة والجماعة؛ لأنَّ الله تعالى سمَّى الصَّلاة إيمانًا .
7- في قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، إثبات عُلوِّ الله تعالى؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان يُقلِّب وجهَه في السَّماء؛ لأنَّ الوحي يأتيه من السَّماء .
8- أنَّ النَّظر إلى السَّماء ليس سوءَ أدَبٍ مع الله؛ لقوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، لكن لا يَنبغي للمصلِّي أن يرفع بصرَه إلى السَّماء؛ لورود الوعيد الشَّديد به .
9- أنَّ الإنسان لا يُؤاخذ بالمخالفة إلَّا بعد قِيام الحُجة؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ .
10- التلطُّف في الخِطاب للرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لقوله تعالى: لَمِنَ الظَّالِمِينَ؛ فلو قُلت لرجل: أنت ظالم، لكان أشدَّ وقعًا من قولك له: أنت من الظالمين .
11- تقوية الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ على ما هو عليه من الحقِّ- وإنْ كتَمه أهل الكتاب-؛ لقوله تعالى: الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .
12- عِناية الله سبحانه وتعالى بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ بذِكره بالربوبيَّة الخاصَّة؛ لقوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ .
13- أنَّه قد يُنهَى عن الشيء مع استحالة وقوعه؛ لقوله تعالى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ؛ فإنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ لا يمكن أن يكونَ من الممترين .
14- عِناية الله سبحانه وتعالى بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ بالتثبيت؛ لأنَّ قوله تعالى له: الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يَقتضي ثباته عليه؛ وقوله تعالى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ يَقتضي استمرارَه على هذا الثَّبات، ولا شكَّ أنَّ في هذا من تأييد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتثبيتِه ما هو ظاهِر .
15- في قوله تعالى: عَمَّا تَعْمَلُونَ ردٌّ على الجَبريَّة بإضافة العَمل إلى الإنسان .
16- أنَّ تنفيذ أوامر الله، وخشيته سببٌ للهداية بنوعيها: هداية الإرشاد؛ وهداية التوفيق؛ لقوله تعالى: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
17- في قوله تعالى: ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إثبات حِكمة الله سبحانه وتعالى
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ
- فيه الإخبارُ بالشَّيء قبل وقوعه، وفائدتُه: توطين النفس، وإعداد الجواب، وإظهار المعجزة؛ فإنَّ مفاجأة المكروه أشدُّ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدَّمه من توطين النفس، وأنَّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردُّ لشغبِه
.
- وفي قوله: مِنَ النَّاسِ وصفَهم بهذا مع كونه معلومًا، وفائدتُه: التنبيه على بلوغهم الحدَّ الأقصى من السَّفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء؛ فإذا قُسم نوعُ الإنسان أصنافًا، كان هؤلاء صنفَ السُّفهاء، فيُفهم أنه لا سفيهَ غيرهم على وجهِ المبالغة .
2- قوله: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ استفهامٌ على جِهة الاستهزاء والتعجُّب، وهو مُستعمَل في التعريض بالتخطئة، واضطراب العقل .
3- في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
- جيء مع الشَّهادة بحَرْف الاستعلاء (على)، ولم يقل (لهم)؛ لأنَّ الشَّهيد كالرقيب والمهيمِن على المشهود له، وقيل: لتكونوا شهداءَ على النَّاس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار .
- وأُخِّرت صِلة الشَّهادة أولًا في قوله: شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وقُدِّمت آخرًا في قوله: عَلَيْكُمْ شَهِيدًا؛ لأنَّ الغرَض في الأوَّل إثباتُ شهادتهم على الأُمم، وفي الآخر اختصاصُهم بكون الرسول شهيدًا عليهم، فيكون من باب تقديم الأهمِّ؛ لأنَّ المنَّةَ عليهم في الجانبين: ففي الأوَّلِ بثبوت كونهم شهداءَ، وفي الثاني بثبوتِ كونهم مشهودًا لهم بالتزكية .
أو مِن باب الاتِّساع في الكلام للفَصاحة، وللاهتمام بتشريف أمْر هذه الأمَّة، حتى أنَّها تَشهَد على الأمم والرسل، وهي لا يَشهَد عليها إلَّا رسولُها، ولأنَّ شَهِيدًا أشبهُ بالفواصل والمقاطع من قوله: عَلَيْكُمْ، فكان قوله: شَهِيدًا، تمامَ الجملة، ومقطعها دون عليكم، وهذا من بدائع فصاحة القرآن .
4- قوله: إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ
- فيه تذييلٌ، فائدته: التأكيدُ على عدَم إضاعة إيمانهم، وإظهار المِنَّة، والتعليم بأنَّ الحُكم المنسوخ إنما يُلغَى العملُ به في المستقبل لا في ما مضى .
وذِكر اسم الجلالة من باب الإظهار في مقامِ الإضمار؛ للتَّعظيم .
وتقديم بِالنَّاسِ على متعلِّقه وهو لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ؛ للتنبيه على عِنايته بهم إيقاظًا لهم ليشكروه، مع مراعاة الفواصل أيضًا .
5- قوله: قَدْ نَرَى جيء بالمضارع مع (قد)- التي تكون للتكثير غالبًا إذا دخلت على المضارع؛ للدَّلالة على التجدُّد ، والقاعدة: أن (قد) إذا دخلت على المضارع المسنَد إلى اللهِ تعالى فهي للتحقيقِ دائمًا .
6- في قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا...
الفاء للتعقيب؛ لتأكيد الوعد بالصَّراحة بعد التمهيدِ بالكِناية في قوله: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ .
وفيه إضمار قَسَم باللام الموطِّئة للقَسَم؛ للمبالغة في التأكيد على وقوعِه؛ لأنَّ القَسَم يُؤكِّد مضمون الجملة المُقسَم عليها .
ومجيء الوعد قبل الأمْر؛ لفرح النفس بالإجابة، ثم بإنجاز الوعْد؛ فيتوالى السرورُ مرَّتين، ولأنَّ بلوغ المطلوب بعد الوعدِ به آنسُ في التوصُّل من مفاجأة وقوع المطلوب .
ونُكِّرت القِبلة؛ لأنَّه لم يَجرِ قبلها ما يَقتضي أن تكون معهودةً، فتُعرَّف بالألف واللام .
7- قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ خبرٌ مؤكَّدٌ بمؤكِّدين (إنَّ، واللام)؛ لينفي ما يتبادر من ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبالَ الكعبة أنَّهم أنكروه لاعتقادهم بطلانَه، وأنَّ المسلمين يظنُّونهم معتقدين ذلك، وليظهر موقعُ قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ الذي هو تهديدٌ بالوعيد .
8- قوله: وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ خبرٌ متضمِّنٌ الوعيد، وفيه التِفاتٌ من الغيبة في قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ إلى الخِطاب في قوله: تَعملون؛ ووجهه: أنَّ في خِطابهم بأنَّ الله لا يغفل عن أعمالهم تحريكًا لهم بأنْ يعملوا بما علِموا من الحقِّ؛ لأنَّ المواجهة بالشيءِ تقتضي شدَّةَ الإنكار، وعِظَمَ الشَّيءِ الذَّي يُنْكَر .
9- في قوله: وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ
أَفرد القِبلة في قوله: قِبْلَتَهُمْ، وإن كانت مثنَّاة؛ إذ لليهود قبلة، وللنَّصارى قبلة مغايرة لتلك القِبلة؛ لأنَّ كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحقِّ، فكانتَا بحُكم الاتَّحاد في البُطلان قبلةً واحدة ، وحسَّن ذلك المقابلةُ في اللفظ؛ لأنَّ قبْلَه ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ .
وفي هذه الجملة مبالغةٌ في النَّفي بعِدَّة مؤكِّدات، وهي: اسميَّة الجُملة، وتكرُّر الاسم فيها مرَّتين، وتأكيد النفي بالباء في قوله: بتابع .
10- قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ
فيه: لُطفٌ للسامعين، وزيادةُ تحذير، واستفظاعٌ لحال مَن يترك الدَّليل بعد إنارته ويتَّبع الهوى، وتهييجٌ وإلهابٌ للثَّباتِ على الحقِّ؛ إذ قوله: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ كلامٌ وارد على سبيل الفَرْض والتقدير .
وقيل: إنَّ ظاهر الخِطاب وإنْ كان مع الرسول إلا أنَّ المراد منه غيرُه، بغرضه ألَّا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحدٌ من الأمَّة، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصُل التباعد منه .
وقيل: تعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط، ويفهم من ذلك الاستحالة؛ لأنَّ المعلَّق على المستحيل مستحيلٌ. والمعنى: لا تُعَدُّ ظالمًا، ولا تكونه؛ لأنك لا تتَّبع أهواءهم .
وفيه: تأكيدُ التهديد، والمبالغة في هذا التحذير أيضًا، باشتمال مجموع الشَّرط والجزاء على عِدَّة مؤكِّدات، وهي: القَسَم المدلول عليه باللام، واللام الموطِّئة للقَسَم؛ لأنَّها تزيد القسم تأكيدًا، وحرف التوكيد في جملة الجزاء (إنَّ)، ولام الابتداء في خبرها، واسميَّة الجملة، وتركيبه من جُملةٍ فِعليَّة وجُملةٍ اسميَّة، وجَعْل حرف الشَّرْط الحرفَ الدالَّ على الشَّك، وهو (إِنْ)، والإتيان بـ(إذن) الدالَّة على الجزائية؛ فإنَّها أكَّدْت ربْط الجزاء بالشرط، والإجمال ثم التفصيل في قوله: مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ؛ فإنَّه يدلُّ على الاهتمامِ، وجعْل ما نزل عليه هو نفْسُ العلم.
والتعريف في الظَّالِمِين للدَّلالة على أنَّ هذا الوصف لهم سجيَّة ثابتة، وصيغة الجمع في الظَّالِمِينَ، ولم يقل: إنَّك ظالم؛ لأنَّ في الاندراج معهم إيهامًا بحصول أنواع الظلم، والتقييد بمجيء العلم؛ تعظيمًا للحق المعلوم، وتحريصًا على اقتفائه، وتحذيرًا عن متابعة الهوى، واستفظاعًا لصدور الذَّنب عن الأنبياء .
11- قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ فيه إضمارُ ما لم يَسبق له ذِكر (الرَّسول) ؛ لأنَّ الكلام يدلُّ عليه ولا يلتبس على السَّامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيمٌ وإشعارٌ بأنَّه لشُهرته وكونِه عَلَمًا معلومًا بغير إعلام .
أو هو مِن من باب الالتِفات؛ لأنَّه قال تعالى: قدْ نرى تقلُّب وجهك... فَلَنُولِّينَّك... فولِّ وجْهَكَ، ثم قال: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ...، فهذه كلُّها ضمائرُ خِطاب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم التفَت عن ضمير الخِطاب إلى ضمير الغَيبة، وحِكمته والله أعلم: أنَّه سبحانه لَمَّا فرغ من الإقبال عليه بالخطاب، أقبل على الناس فقال: الذين آتيناهم الكتاب واخترناهم لتحمُّل العلم والوحي، يَعرِفون هذا الذي خاطبناه في الآي السَّابقة وأمرناه ونهيناه، لا يَشكُّون في معرفته...إلخ .
12- قوله: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ظاهر لفظ (الأبناء) الاختصاص بالذُّكور؛ فيكونُ ذَكَرهم هنا؛ لأنَّهم أشهرُ وأعرف، وهم لصُحبة الآباء- مباشرةً ومعاشرةً- ألزم، وبقلوبهم ألْصق، ويحتمل أن يُراد بالأبناء: الأولاد (الذُّكور والإناث)، فيكون ذِكرُهم هنا مَن باب التَّغليب .
13- قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فيه مبالغةٌ وتأكيدٌ بالنَّهي عن كونه منهم؛ لأنَّه أبلغ من النهي عن نفْس الفِعل. لأنَّ (لا تمترِ) نهيٌ عن الالتباس بالامتراء. وقوله: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نهيٌ عن الكون بهذه الصِّفة، والنَّهيُ عن الكون على صِفةٍ، أبلغُ من النَّهي عن تِلك الصِّفة .
14- قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ:وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ وَ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...
فيه تَكريرٌ؛ لتأكيد أمْر القِبلة وتشديده؛ وفائدته: أنَّ النَّسخَ من مظانِّ الفِتنة والشبهة وتسويل الشَّيطان، والحاجة إلى التَّفصِلة بينه وبين البَداء ، فكرَّر عليهم؛ ليثبتوا ويعزموا ويجدُّوا، ولأنَّه نِيط بكلِّ واحد ما لم يُنَطْ بالآخر فاختلفت فوائدها. وأيضًا لَمَّا عظُم في شأن القبلة انتشارُ أقوال السفهاء وتنوُّع شَغَبِهم وجدالهم، كان الحال مقتضيًا لمزيدِ تأكيدٍ لأمرها؛ تعظيمًا لشأنها، وتوهيةً لشبههم، فحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيدٌ للحُكم؛ ليترتَّب عليه قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وأيضًا كرَّر هذا الحكم؛ لتعدُّد عِلله، فإنَّه تعالى ذكر للتحويل ثلاث عِلل: تعظيم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بابتغاء مرضاته، وجرْي العادة الإِلهية على أن يولي أهلَ كلِّ مِلَّة وصاحب دعوة وجهةً يستقبلها ويتميز بها، ودفْع حُجج المخالفين، وقرَن بكلِّ علة معلولها، كما يَقرن المدلول بكلِّ واحد من دلائله تقريبًا وتقريرًا، مع أنَّ القبلة لها شأن، وقيل غير ذلك في فائدة التَّكرار، كما أنَّ بعض العلماء قد ذكر في هذه الآيات مخصصاتٍ تُخرجها بذلك عن التأكيد
.
غريب الكلمات:
السُّفَهَاءُ: أي: الجُهَّال، والسَّفه: الجهل، وخِفَّة العقل، والضَّعْف والحُمق
.
وَلَّاهُمْ: صَرَفهم وحوَّلهم، وأصل الفِعل (ولي)، وإذا عُدِّي بـ(عن) اقتَضى معنى الإعراضِ والتركِ، وإذا عُدِّي بنَفْسه اقتَضَى معنى الولاية .
وَسَطًا: عدلًا خيارًا .
عَقِبَيْهِ: مثنَّى العقب: وهو مؤخَّر الرِّجل، وجمْعه: أَعقاب؛ يقال: انقلَب على عَقِبيه، مثل: رجع على حافرته، وارتدَّ على أدباره .
تَقَلُّبَ: التقلُّب: تحوُّل الشَّيءِ عن جِهته .
شَطْرَ: نحوَ، أو جِهَة .
الْمُمْتَرِينَ: المتردِّدين، من المِرية: وهي التردُّد في الأمْر، وهو أخصُّ من الشك .
مُوَلِّيهَا: مستقبِلُها .
فلا تَخْشَوْهُمْ: أي: فلا تخافوهم، والخَشْية: أكثر ما تكونُ عن عِلمٍ بما يُخشَى منه، وقيل: هي خوفٌ يشوبُه تعظيم .
======
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (151-157)
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
غريب الكلمات:
يُزَكِّيكُمْ: يطهِّركم، وأصل الزَّكاة: النَّماء والزِّيادة مع التَّطهيرِ
.
الْحِكْمَةَ: إصابة الحقِّ بالعلم والعقل، وأصل (حَكَم): المنْع، وأوَّل ذلك الحَكْم، وهو المنع من الظُّلم. والإحكام هو الفصل والتمييز، والفرق والتحديد الذي به يتحقَّق الشيء ويحصُل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنع جزءُ معناه لا جميع معناه. والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبه من الجَهل، وقيل: المقصود بها هنا: السُّنة .
وَاشْكُرُوا لي: الشُّكر: ظهورُ أثَر نِعمة الله على لسانِ عبده: ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه: شهودًا ومحبَّةً، وعلى جوارحِه: انقيادًا وطاعةً، وأصلُه: الثناءُ على صانعِ المعروف، وهو ضدُّ الكُفر .
وَلَا تَكْفُرُونِ: الكُفْر: السِّتر والتَّغطية، وهو ضدُّ الشُّكر، وكُفر النِّعمة: ستْرُها بترك أداء شُكرها، ونسيانُها .
صَلواتٌ: أي: ثناء، وأصل الصَّلَاة: الدُّعاء
.
مشكل الإعراب:
قوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ:
أَمْوَاتٌ: خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: لا تقولوا: هم أمواتٌ.
بَلْ: حرف إضراب، وعطف.
أَحْيَاءٌ: أيضًا خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: بل هم أحياءٌ، وقد راعى لفظَ (مَنْ)- وهو الإفراد- مرةً فأفردَ في قولِه: يُقْتَلُ، وراعى معناها مرةً أخرى- وهو العموم- فجمَع في قولِه: أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ. وجملةُ (هم أموات) في محلِّ نصب بالقول وَلَا تَقُولُوا؛ لأنَّها محكيَّة به، وجملة (بل هم أحياء) تحتمل أن تكون ابتدائيَّةً فلا يكون لها محلٌّ من الإعراب، وتحتمل: أن يكون محلها النَّصب بقولٍ محذوف أي: (بل قولوا هم أحياء)، ولا يجوز أن تنتصبَ بالقول الأوَّل وَلَا تَقُولُوا؛ لفساد المعنى
.
المعنى الإجمالي :
حين أَخبَر تعالى أنَّ مِن أسباب تحويل القِبلة من بيت المقدِس إلى الكعبة إتمامَ نِعمته ببيان شرائع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام، أخبر تعالى أيضًا أنَّ تلك النِّعمة هي مِثل إنعامه من قبلُ بإرسال محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى العَربِ وهو منهم، يَعرِفون نَسبَهُ وأخلاقَهُ الفاضلة، فجاء إليهم ليقرأ عليهم القرآن، ويُطهِّرهم من أدران الشِّرك، وقذَر المعاصي، وسوء الأخلاق، ويوضِّح لهم معانيَ القرآن، ويَنشُر فيهم سُنَّته، ويُعلِّمهم أمورًا لم يكونوا يعلمونها من قبل، من الأخبار الماضية، أو الآتية، وكل ما لا تستقل بمعرفته العقول حيث لا سبيل إلى معرفته إلا من خلال الوحي، وأمر اللهُ عبادَه أنْ يذكروه عزَّ وجلَّ قولًا وعملًا، وسيكونُ جزاءُ ذلك أنْ يَذكُرهم سبحانه، وما أعظمَه من جزاء! كما أمرَهم جلَّ وعلا بشُكره على نِعمه، وعدم جُحودها.
ثم أمَر اللهُ عبادَهُ المؤمنين بالاستعانةِ في جميع أمورهم الدينيَّة والدنيويَّة بالصبر، وهو حبس النَّفْس وكفُّها عمَّا تكره، وأن يَستعينوا بالصَّلاة، مخبرًا سبحانه أنَّه مع الصَّابرين؛ معيَّةً خاصَّةً تَقتضي القُربَ منهم، ومحبَّتهم، ونَصْرهم وإعانتهم.
ونَهى سبحانه وتعالى عن القول الذي يُصاحبه اعتقادٌ بموتِ مَن يُقتلُ في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ، وأخبر أنَّهم أحياءٌ عند الله تعالى، يتمتَّعون فيها بنعيم الجنَّة، وإنْ كان النَّاسُ لا يَشعُرون بهذا الأمر.
ثمَّ أخبَر الله تعالى عبادَهُ المؤمنين أنَّه سيبتليهم بقليل من الخوف، والجوع، وذَهابِ بعضٍ من أموالهم، وموتِ بعضٍ منهم، وحُصولِ نقصٍ من ثمراتهم، وأمَر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يبشر الصَّابرين على الابتلاء، الذين يقولون عن يقينٍ جازمٍ عندما تُصيبهم المصيبة: إنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أي: إنَّهم مملكون للهِ، خاضِعون له، وسيَنتقلون إليه بعد موتهم، ومَصيرُهم بين يديه يومَ القيامة؛ ليجازيَ كلَّ شخصٍ بما عمِل، فأولئك الصَّابرون لهم من اللهِ عزَّ وجلَّ الثناءُ والتنويه بشأنهم، وتتنزَّل عليهم من ربِّهم سُبحانه الرَّحماتُ، وهؤلاء هم الذين أَرشدهم الله عزَّ وجلَّ للحقِّ، ووفَّقهم للعمل به.
تفسير الآيات:
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151).
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ.
أي: بيَّنَّا لكم شرائعَ ملَّة إبراهيم الحَنيفيَّة، فأمرْناكم باستقبال الكَعبة؛ نِعمةً من الله تعالى عليكم، مِثل ما أنعم عليكم أيضًا أوَّلَ مرَّة، بإرسال محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ منكم- أيُّها العربُ-؛ إذ يتحدَّث بلِسانكم، وتَعرِفون نَسبَه وخُلُقه؛ وذلك إجابةً لدعوة إبراهيمَ عليه السَّلام
.
وكان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربَّهُ قائلًا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] .
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.
أي: هذا الرَّسول الذي أنعمْنا عليكم بإرساله فيكم، أتَى ليقرأ عليكم القُرآن، ويُطهِّركم من دَنَس الشِّرك والكُفران، ورَذائل الأخلاق والعِصيان، ويبيِّن لكم السُّنَّة ومعاني كلامِ الرَّحمن .
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
أي: ويُنبِّئكم بأخبار مَن سلَف، وأخبار ما يأتي من الغُيوب .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152).
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
أي: عليكم بذِكري في مقابل تلك النعم التي تقدَّم ذكرها. وهذا الذِّكر المأمور به عامٌّ يَشمل ذِكر الله قولًا باللِّسان، وعملًا بالقلب وبالجوارح، ورتَّب الله عزَّ وجلَّ على هذا الذِّكر جزاءً عظيمًا، وهو أن يَذكُر هو سبحانَه مَن ذكَره .
فعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((يقول اللهُ تعالَى: أنا عندَ ظنِّ عَبْدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نفسِه ذَكرتُه في نفْسي، وإنْ ذَكَرَنِي في ملأٍ ذَكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((وما اجتَمعَ قومٌ في بيتِ مِن بيوتِ اللهِ، يتْلون كتابَ اللهِ، ويَتدارسونه بينهم، إلَّا نَزلتْ عليهم السَّكينةُ، وغَشِيتْهم الرحمةُ، وحفَّتْهم الملائكةُ، وذَكرَهم اللهُ فيمَن عِنده )) .
وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ.
أي: اشكُروني على ما مَنحتُكم من نِعمٍ باللِّسانِ وبالقلب والجوارح، ولا تجحدوا إحساني إليكم. ومن أعظمِ ذلك: نِعمةُ الإسلام، وإرسالُ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسلام، والهدايةُ إلى الشَّرائع الصَّحيحة، ومنها استقبالُ الكعبة الشريفة .
كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا فرَغ تعالى من بيان الأمر بالشُّكر، شَرَعَ في بيان الصَّبر، والإرشادِ إلى الاستعانة بالصَّبر والصَّلاة؛ فإنَّ العبدَ إمَّا أن يكونَ في نِعمةٍ فيَشكرَ عليها، وإمَّا في نِقمةٍ فيَصبرَ عليها فقال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ.
أي: يا مَعشرَ المؤمنين، عليكم بالْتزامِ الصَّبر وأداءِ الصَّلاة؛ فهُما عونٌ لكم على عظيمِ الأعمال. وذلك مِثل تحمُّل الطاعات كالقِتال في سبيل الله، وترْك المحظورات، وعلى ما يُصيب العبدَ من مصيبات .
إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
أي: إنَّه سبحانه وتعالى مع الصَّابرين معيَّةً خاصَّةً تَقتضي قُربَه منهم، ومحبَّتَه لهم، ونصْرهم وتأييدَهم، وإعانتهم .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154).
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ.
أي: ولا تقولوا: إنَّ مَن قُتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فهو ميِّت .
كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169 - 171] .
بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ.
أي: ليس الأمرُ كما ظننتم، فالحقُّ أنَّ الشُّهداءَ من بعد مقتلهم، وحتى قِيامِ السَّاعة، أحياءٌ عند الله تعالى، حياةً برزخيَّةً يتمتَّعون فيها في الجَنَّة، ويُصاحبهم الفرحُ العظيم بما أعطاهم الله تعالى من فضْله، ولكن لا يَشعُر النَّاسُ بهذا الأمر في الدُّنيا؛ فليس لديهم أيُّ إدراكٍ لرؤية ذلك، أو الشُّعور به .
عن مَسروق بن الأَجدع، قال: ((سألْنا عبدَ اللهِ (هو ابنُ مسعودٍ) عن هذه الآيةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قال: أمَا إنَّا سألْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرحُ من الجنةِ حيث شاءت، ثمَّ تأوي إلى تِلك القَناديلِ، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطَّلاعةً، فقال: هل تَشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشتهي، ونحن نسرحُ من الجنةِ حيثُ شِئْنا؟! ففَعَل ذلك بهم ثلاثَ مراتٍ، فلمَّا رأَوا أنَّهم لن يُترَكوا من أن يَسألوا، قالوا: يا ربِّ، نُريد أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا )) .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155).
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ.
أي: ولَنَختبرنَّكم بشَيءٍ يَسيرٍ يقَع في قلوبِكم من الخوف، وفي أَجسادِكم من الجُوع، ولَنَبتلينَّكم بذَهاب بعض أموالِكم، وموتِ بعضِكم، كأبنائِكم وأَهلِيكم وأقارِبكم، وحُصولِ النَّقْص في ثِمارِكم .
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
أي: أخبِر الصَّابرين يا محمَّد، خبرًا يَسرُّهم لم يسبقْ أنْ أخبَرهم به أحدٌ من قبلُ .
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156).
بيَّن سبحانه هنا مَن الصَّابرون الذين أمَر نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ ببِشارتهم، فأخبَر أنَّهم الذين يقولون- عن اعتقاد ويقين -: إنَّهم عبيدٌ مملوكون لله الذي له مُطلَق التصرُّف فيهم بحِكمته ورحمته، وإنَّهم منتقِلون من هذه الدُّنيا الفانية وممَّا فيها من مصائب، وصائِرون إليه وحْدَه يومَ المعاد، فيُجازي كلَّ عاملٍ بعمله .
عن أمِّ سَلمةَ رضي الله عنها، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((ما من مُسلمٍ تُصيبُه مُصيبةٌ فيقولُ ما أمره اللهُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعون! اللَّهمَّ أْجُرْني في مُصيبتي وأَخْلِفْ لي خيرًا منها- إلَّا أخلف اللهُ له خيرًا منها. قالت: فلمَّا مات أبو سَلمةَ قلتُ: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمةَ؟! أوَّلُ بيتٍ هاجر إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! ثمَّ إنِّي قلتُها، فأخلف اللهُ لي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قالت: أرسل إليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَاطبَ بنَ أبي بَلْتَعةَ يَخطُبُني له، فقلتُ: إنَّ لي بنتًا وأنا غيورٌ، فقال: أمَّا ابنتُها فنَدعو اللهَ أن يُغنيَها عنها، وأَدْعو اللهَ أن يَذْهَبَ بالغيْرةِ )) .
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157).
أي: إنَّ هؤلاءِ الصَّابرين المبشَّرين الذين يقولون: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لهم من الله تعالى ثناءٌ عليهم وتنويهٌ بشأنهم، وتتنزَّل عليهم منه سبحانه الرَّحمات، وهؤلاء هم الذين أرْشدَهم الله تعالى للحقِّ، ووفَّقهم للعمل به
.
الفوائد التربويَّة :
1- وجوبُ الشُّكر؛ لقوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي؛ و(الشُّكر) يكون بالقلب، وباللِّسان، وبالجوارح؛ ولا يكون إلَّا في مقابلة نِعمة
.
2- تحريم كفر النعمة؛ لقوله تعالى: وَلَا تَكْفُرُونِ ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمة، فإنه يحبُّ أن يرى أثر نعمته عليه .
3- قرَن الله تعالى بين الصَّبر والصَّلاة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ؛ لأنهما عونانِ على مصالحِ الدنيا والآخِرة، وذَكَر الصبر ثُم الصلاة؛ لأنَّها تُعين على الصَّبر .
4- أنَّ في جزاء الصَّبر المذكور تنشيطًا على الأعمال، والثَّبات عليها؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ؛ فإذا آمَن الإنسانُ بأنَّ الله معه، ازداد نشاطًا، وثباتًا .
5- التَّنبيه على الإخلاص في القِتال؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللهِ .
6- أنَّ ثوابَ الله سبحانه وتعالى للعامل أجَلُّ وأعلى؛ وذلك لأنَّ الشهيدَ عرَّض نفْسه للموت ابتغاءَ ثواب الله، فأثابَه الله تعالى بأنْ جعَله حيًّا بعد موته حياةً برزخيَّةً أكملَ من حياة الدنيا؛ لقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .
7- اشتملتِ الآيتان من قوله: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ.... إلى وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ على توطين النُّفوس على المصائب قَبل وقوعها؛ لتخفَّ وتسهُل إذا وقعَتْ، وبيان ما تُقابَل به، وهو الصَّبر، وبيان ما يُعين على الصَّبر، وما للصَّابر من الأجْر .
8- في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ... وأُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ: أنَّ للعبد من الصلوات والرحمة بقَدْر ما له من تحقيق الصَّبر، وهكذا كلُّ وصْف رُتِّب عليه خيرٌ وأجرٌ وثواب، وكلُّ وصفٍ نَهى الله عنه ورتَّب عليه وعلى الاتِّصافِ به عُقوبةً وشرًّا ونقصًا؛ لأنَّ الحُكم المعلَّق على وصْف يَزيد بزيادته، ويَنقُص بنُقصانه
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ كون الرَّسول صلى الله عليه وسلم مِنَّا يَقتضي أنْ تكون قريش أوَّل مَن يُصدِّق به؛ لأنَّهم يعرفونه، ويَعرِفون نَسبَه، ويَعرِفون أمانته؛ ولهذا وبَّخهم الله تعالى على الكُفر به، ووصْفِه بالضَّلال، والجُنون، فقال جلَّ وعلا: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم: 2] ، وقال جلَّ وعلا: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22]
.
2- أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ علَّم الأمَّة لفظَ القرآن، ومعناه؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ؛ ولهذا كان الصَّحابةُ رضي الله عنهم إذا استشكلوا شيئًا من المعنى، سألوه، فعَلَّمهم، ولكن الغالب أنَّهم لا يَستشكلون؛ لأنَّه نزَل بلُغتهم، وفي عصرهم، يَعرِفون معناه، ومَغزاه، وأسبابه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا فيه تنكيرُ (الرسول) للتعظيم؛ ولتجري عليه الصِّفات التي كلُّ واحدةٍ منها نِعمةٌ خاصَّة
.
2- قوله: يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فيه تكرار الفعل (يعلم)؛ ليدلَّ على أنه جِنسٌ آخَر .
- وقدّم هنا وَيُزَكِّيكُمْ على وَيُعَلِّمُكُمُ عكس ما في الآية السابقة في حِكاية قول إبراهيم عليه السَّلام: وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] ؛ لأنَّ المقام هنا للامتنان على المسلمين؛ فقُدِّم فيها ما يُفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم، وهي منفعة تزكية نفوسهم؛ اهتمامًا بها، وبعثًا لها بالحِرص على تحصيل وسائلها، وتعجيلًا للبشارة بها، فأما في دعوة إبراهيم فقد رُتِّبت الجمل على حسب ترتيب حصولِ ما تضمَّنتْه في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنُّن .
3- قوله: وَلَا تَكْفُرُونِ فيه إيجازٌ بالحذْف؛ لأنَّه من كُفر النِّعمة، أي: ولا تكفروا نعمتي، ولو كان من الكفر الذي هو ضدُّ الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي، والنون نون الوِقاية، حُذفت ياء المتكلم بعدَها تخفيفًا؛ لتناسُب الفواصل .
4- قوله: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ تذييلٌ في معنى التعليل، أي: اصبروا؛ ليكون الله معكم؛ لأنَّه مع الصابرين .
5- قوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ فيه إيجاز بالحذف؛ حيث حذف المبتدأ (هم)؛ لأهميَّة ذِكر الخبر؛ لأنَّهم ما كانوا يتصوَّرون أنَّهم أحياء .
6- قوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
- فيه: تقديمُ الوعدِ بالبَلاء قبل كَونِه؛ وإنما أَخبرَ به قبل الوقوعِ ليُوطِّنوا عليه نفوسَهم، ويزدادَ يقينُهم عند مشاهدتِهم له حسبما أَخبرَ به .
- وجيء بكلمة شَيْءٍ مفردة، ولم يقل: (بأشياء)؛ لبيان أنَّ كلَّ بلاءٍ أصاب الإنسان- وإنْ جلَّ- ففوقه ما يقلُّ إليه، وليخفِّف عليهم، ويُريَهم أنَّ رحمته معهم في كلِّ حال لا تزايلهم، وليعلموا أنَّه شيءٌ يسير، له عاقبةٌ حميدةٌ. ولئلَّا يوهِم بأشياء من كل واحد، فيدل على ضروب الخوف والتقدير بشيءٍ مِن كذا، وشيء من كذا. أو قلَّله بالنِّسبة إلى ما يُصيب به معانديهم في الآخِرة .
7- قوله: قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فيه التوكيد بـ(إنَّ)؛ لأنَّ المقام مقام اهتمام، ولأنه يُنزَّل المصاب فيه منزلةَ المنكر؛ لكونه مِلكًا لله تعالى وعبدًا له؛ إذ تُنسيه المصيبة ذلك، ويَحُول هولُها بينه وبين رُشده، واللام في لله للمِلك .
8- قول الله سبحانه: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
- قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ... الإشارة بـ(أولئك) الذي فيه معنى البعد؛ للإيذان بعلوِّ رُتبتِهم، وفيه تنبيهٌ على أنَّ الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتِّبٌ على تلك الأوصاف، وهذا بيانٌ لجزاء صبرهم .
- قوله: صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ: جاءت صَلَواتٌ بصيغة الجمع؛ تنبيهًا على كثرتها منه، وأنَّها حاصلةٌ في الدنيا توفيقًا وإرشادًا، وفي الآخرة ثوابًا ومغفرة، وإضافة اسم الرب إلى ضَميرهم رَبِّهم؛ لإظهارِ مزيدِ العناية بهم، وأنَّ عليهم رحمةً واسعة فائضةً من مالك أمورِهم، ومبلِّغِهم إلى كمالاتهم اللائقةِ بهم .
- قوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ: فيه تَكرار اسم الإشارة أُولَئِكَ؛ لإظهارِ كمالِ العناية بهم .
- وأيضًا في قوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ: تأكيدٌ بقوله: هُمُ وبالألف واللام، كأنَّ الهداية انحصرت فيهم، وباسم الفاعل؛ ليدلَّ على الثبوت؛ لأنَّ الهداية ليستْ من الأفعال المتجدِّدة وقتًا بعد وقت، فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصفٌ ثابت .
- والجُملتان الثابتتان في قوله تعالى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ تدلَّان على الاعتناء بأمر المخبَر عنه، وبُدئ بالجملة الأولى أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ؛ لأنَّها أهمُّ في حصول الثواب المترتِّب على الوصف الذي قبله، وأُخِّرت جملة وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ؛ لأنَّها تنزَّلت ممَّا قبلها منزلةَ العِلَّة؛ لأنَّ ذلك القول المترتِّب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدُر إلَّا عمَّن سبقت هدايته .
============
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (158-163)
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ
غريب الكلمات:
شَعَائِرِ: جمْع شَعيرَة، وهي مَا جعَله الله تعالى عَلَمًا لطاعتِه
.
لا جُناحَ: لَا بَأْس، والجُناحَ: الإثم، وأصل الجنوح: المَيل والعدوان .
تَطَوَّعَ: فَعَل خيرًا غيرَ واجب عليه .
يُنْظَرُونَ: يُنتَظرون، ويُؤخَّرون
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر الله تعالى أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة من معالِم دِينه الظاهِرة، التي شُرِعت في الحجِّ، فمَن قصَدَ البيتَ ناويًا أداء النُّسك من حجٍّ أو عُمرةٍ، فلا يَتحرجنَّ من الطَّواف بينهما؛ لأجْل أنَّهم في الجاهليَّة يَعبُدون الأصنام عِندهما.
وتَرغيبًا في فِعل الطاعة والاستزادة منها أخْبَر تعالى أنَّ مَن يأتي بالطاعات، سواء ما كان منها مَفروضًا أو مستحبًّا، ويَزداد منها؛ فإنَّ الله مُجازيه على عمَله خيرَ الجزاء، فهو سبحانه شاكرٌ لا يُضيع أجْرَ مَن أحسن عملًا، عليمٌ لا يَخفَى عليه ذاك الإحسانُ.
ثم ذكَر الله- في معرِض الذمِّ- عُلماءَ اليهود والنَّصارى الذين يُخفون عن النَّاس ما في التوراة والإنجيل من الأدلَّة الواضحة، التي تُثبِت نبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وتبيِّن وصْفَه، وهذا الذمُّ يعمُّ كلَّ مَن فعَل فِعلهم فأخْفى الحقَّ الذي أنزله الله في القرآن الكريم من بعدِ أن بيَّنه سبحانه، هؤلاء جميعًا جزاؤهم الطردُ من رحمة الله تعالى، وأنْ تُلاحِقَهم اللَّعَناتُ من الملائكة والمؤمنين- وقيل: من جميع الخَلق- إلَّا مَن تراجع عن هذا الكِتمان للحق البيِّن، وعاد إلى ربِّه تائبًا مقرًّا بذنبه، وبيَّنَ ما كان أخْفاه من الحقِّ عن النَّاس- فأولئك يتوبُ الله عليهم كما أخبر، فهو سبحانه المتقبِّل لتوبة عِباده، بعد أن يُوفِّقهم لها، رحيمٌ بهم سبحانه وتعالى.
ثم أخبَر جلَّ وعلا أنَّ الذين جَحدوا دِين الله تعالى، فلم يَقبلوا به، ولم يَنقادوا إليه، ولم يتوبوا في حَياتهم، بل استمرُّوا على الكُفر حتى ماتوا عليه- أخْبَر أنَّ أولئك سيطردهم اللهُ تعالى من رحمته طردًا دائمًا، وتُلاحقَهم اللَّعنة من الله والملائكة وجميعِ النَّاس، وسَيُخلَّدون في تلك اللَّعنة والتي ستُصاحبهم في دُنياهم وحتى يوم القِيامة؛ لتظلَّ معهم وتلازمهم في جهنَّم، حيث لا يُخفَّف عنهم عذابُها، ولا هم يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب.
ثم أخْبَر تعالى أنَّ الإلهَ المستحِقَّ للعبادة واحدٌ، لا شريكَ له سبحانه، ولا معبودَ سواه، وهو الله سبحانه ذو الرَّحمات، التي أوْصَلها وعمَّ بها كلَّ البريَّات.
تفسير الآيات:
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158).
مناسبة الآية لِمَا قبلها:
قيل: لَمَّا بيَّن الله تعالى أنه إنما حوَّل القبلة إلى الكعبة، وكان في ذلك إحياءٌ لشرائع إبراهيم ودِينه، وكان السعيُ بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذُكِر في قصة بناء الكعبة، وسعي هاجر بين الجبلين- فلما كان الأمر كذلك ذكَر الله تعالى هذا الحُكم.
وقيل: لأنَّه تعالى لَمَّا قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ...، إلى قوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، قال: إنَّ الصَّفا والمروة من شعائر الله؛ وإنَّما جعلهما كذلك لأنَّهما من آثار هاجر وإسماعيل ممَّا جرى عليهما مِن البلوى
.
سبب النُّزول:
عن عُروةَ بن الزُّبَير قال: ((سألتُ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها، فقلتُ لها: أَرأيتِ قَوْلَ اللهِ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا؛ فواللهِ ما على أَحَدٍ جُنَاحٌ أنْ لا يطوفَ بالصَّفا والمروةِ، قالت: بَئْسَ ما قلتَ يا ابنَ أختي! إنَّ هذهِ لو كانت كَمَا أَوَّلْتَهَا عليه، كانت: لا جُنَاحَ عليهِ أنْ لا يَتَطَوَّفَ بهما، ولكنَّها أُنْزِلَتْ في الأنصارِ، كانوا قبلَ أن يُسلِموا، يُهِلُّونَ لـمَناةَ الطَّاغية، التي كانوا يَعبُدونها عندَ المُشلَّلِ، فكان مَن أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أنْ يطوفَ بالصَّفا والمروةِ، فلمَّا أسلموا، سألوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن ذلكَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا نتحرَّجُ أن نطوفَ بينَ الصَّفا والمروةِ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ الآية، قالت عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: وقد سَنَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الطَّوافَ بينهما، فليس لِأَحَدٍ أن يترُكَ الطوافَ بينهما، ثم أَخْبَرْتُ أبا بكرِ بنَ عبدِ الرَّحمنِ فقال: إنَّ هذا لَعِلْمٌ ما كنتُ سمعتُهُ، ولقد سمعتُ رِجالًا من أهلِ العِلم يَذكرونَ: أنَّ النَّاسَ- إلَّا مَن ذَكرتْ عائشةُ- ممَّن كان يُهِلُّ بمناةَ، كانوا يطوفونَ كلُّهم بالصَّفا والمروةِ، فلمَّا ذكرَ اللهُ تعالى الطَّوافَ بالبيتِ، ولم يذكُرِ الصَّفا والمروةَ في القرآنِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كُنَّا نطوفُ بالصَّفا والمروةِ، وإنَّ اللهَ أنزَلَ الطوافَ بالبيتِ فلمْ يذكُرِ الصَّفا، فهل علينا من حَرَجٍ أن نطوفَ بالصَّفا والمروةِ، فأنزلَ اللهُ تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ الآيةُ. قال أبو بكرٍ: فأسمعُ هذهِ الآيةَ نزلتْ في الفَريقيْنِ كِلَيهما، في الَّذين كانوا يَتحرَّجونَ أن يَطوفوا بالجاهليةِ بالصَّفا والمروةِ، والذينَ يَطوفونَ ثم تَحرَّجوا أن يَطوفوا بهما في الإسلامِ؛ من أَجْلِ أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بالطَّوافِ بالبيتِ، ولم يذكُرِ الصَّفا، حتى ذَكرَ ذلكَ بعدَما ذكرَ الطَّوافَ بالبيتِ )) .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ.
أي: إنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة من معالم الدِّين الظاهِرة، التي شرَعها الله تعالى لعباده في الحجِّ .
وفي حديث جابِرٍ الطويلِ في صِفة حَجَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، قال رضي الله عنه: ((ثمَّ خرَج من الباب إلى الصَّفا، فلمَّا دنا مِن الصَّفا قرأ: إنَّ الصَّفَا وَالمْرَوْةَ َمِنْ شَعَائِرِ اللهِ أبدأُ بما بدأَ اللهُ به، فبدأ بالصَّفا، فرقِيَ عليه )) .
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا.
أي: مَن قصَد البيت الحرام لأداء مناسك الحجِّ، أو العمرة، فلا يَتحرَّجَنَّ من الطواف بين الصَّفا والمروة؛ لشُبهة أنَّه من أفعال الجاهليَّة وأنَّهم كانوا يُعظِّمونهما، ويطوفون بينهما .
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ.
أي: مَن أتى بالطَّاعات المفروضة والمستحبَّة وازداد منها، فلْيعلمْ بأنَّ الله تعالى سيُجازيه بإحسانه؛ لأنَّ الله شاكِر لا يُضيع أجْرَ محسِن، عليمٌ لا يَخفى عنه إحسانُه .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159).
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ.
أي: إنَّ عُلماءَ اليهود والنَّصارى الذين أخْفَوا عن النَّاس ما في التَّوراة والإنجيل، من دَلائل إثبات مَبعث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وبيان صِفاته، الذي بيَّنه الله تعالى فيهما بوضوحٍ تامٍّ.
وهذه الآية تعمُّ كلَّ مَن كتَم عن النَّاس ما أوْضحَه الله تعالى في القرآن من البيِّنات، وهي الأدلَّةُ والبَراهين الواضِحة التي تُظهر الحقَّ وتُثبِته، والهدى- وهو العلمُ النَّافع المرشِد لطريق الحقِّ .
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
أي: يطردُهم الله عزَّ وجلَّ من رحمته، ويطلُب اللاعنون من الله تعالى أن يلعنَهم، واللاعنون قيل: هم الملائكة والمؤمِنون ، وقيل: هم جميعُ الخلائق، حتى البَهائم تلعنهم .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن سُئِلَ عن علْمٍ علِمَهُ، ثُمَّ كتَمَه، أُلجِمَ يومَ القِيامَة بلِجامٍ من نارٍ )) .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: ((يقولون: إنَّ أبا هريرةَ يُكْثِرُ الحديثَ، واللهُ الموعدُ! ويقولون: ما لِلمُهاجرين والأنصارِ لا يُحَدِّثون مثلَ أحاديثِه؟! وإنَّ إِخوتي مِن المهاجرين كان يَشْغَلُهم الصَّفْقُ بالأسواقِ، وإنَّ إخوتي مِن الأنصارِ كان يَشْغَلُهم عملُ أموالِهم، وكنتُ امرأً مسكينًا، أَلْزَمُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ على مِلءِ بطني، فأَحْضُرُ حينَ يَغِيبون، وأَعِي حين يَنْسَوْن، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يومًا: لن يَبْسُطَ أحدٌ منكم ثوبَه، حتى أَقْضِيَ مقالتي هذه، ثم يَجْمَعَه إلى صَدرِه فيَنْسى من مقالتي شيئًا أبدًا، فبَسَطْتُ نَمِرَةً ليس عليَّ ثوبٌ غيرَها، حتى قضى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مقالتَه، ثم جَمَعْتُها إلى صدْري، فوالذي بعَثَه بالحقِّ، ما نَسِيتُ مِن مقالتِه تلك إلى يومي هذا، واللهِ لولا آيتانِ في كتابِ اللهِ، ما حدَّثْتُكم شيئًا أبدًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ إلى قوله: الرَّحِيمُ)) .
وعن حِمران، قال: ((فلمَّا توضَّأ عثمانُ قال: واللهِ لَأُحَدِّثَنَّكم حديثًا، واللهِ لولا آيةٌ في كتابِ اللهِ ما حَدَّثْتُكُموه! إني سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ: لا يتوضأُ رجلٌ فيُحسِنُ وُضوءَه، ثم يُصلِّي الصَّلاةَ، إلا غُفِرَ له ما بينَه وبينَ الصَّلاةِ التي تَلِيها، قال عُروةُ: الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، إلى قوله: اللَّاعِنُونَ)) .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160).
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا.
أي: استثنى الله عزَّ وجلَّ منهم مَن رجَع عن كِتمانه، معترفًا لله تعالى بذنبه، مُصلحًا حالَ نفْسه، مبيِّنًا للنَّاس ما كتَمَه .
فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: هؤلاء الذين فعَلوا هذا الذي وصفتُ منهم، هم الذين أَقبل توبتَهم؛ فأنا التوَّاب- أي: كثير التوب- الذي يوفِّق عباده للتوبة أولًا، ويَقبلها منهم ثانيًا، فضلًا منِّي ورحمة، فبِتَوبتي أغفِر لهم المعاصي والسيِّئات، وبِرَحمتي أُيسِّر لهم الطَّاعات والخيرات .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161).
مناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا لعَن الله الكاتمين؛ واستثنى منهم التائبين، ذكَر المُصرِّين، معبِّرًا عن كتمانهم بالكُفر؛ لتعمَّ العبارةُ كلَّ كُفر، فقال :
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.
أي: إنَّ الكفار الذين ظلُّوا على كفرهم حتَّى مماتِهم، ولم يتوبوا .
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
أي: إنَّ الله تعالى يطردُ أولئك الكفَّار من رحمته، وأمَّا الملائكة وجميع النَّاس فيَسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُبعدَهم ويطردَهم من رحمته .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162).
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ.
أي: هم خالدون أبدًا في هذه اللَّعنة المستَتْبِعةِ للخلود الأَبديِّ في نار جهنَّمَ، التي لا يَنقُص فيها عذابُهم زمنًا ولا مِقدارًا؛ فهُم في عذابٍ دائمٍ وشديد .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
أي: لا يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163).
أي: إنَّ معبودَكم واحدٌ، لا معبود بحقٍّ سواه، فهو المنفرِد في ذاته وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه جلَّ وعلا، وهو الذي وسعتْ رحمتُه كلَّ شيء، ومن رحمته: أنْ أَوجَد عباده، وعرَّفهم على نفْسه بآياته وآلائِه
.
الفوائد التربويَّة:
- دلَّ تقييدُ التطوُّع بالخير في قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا على أنَّ مَن تطوَّع بالبِدع، التي لم يَشرَعْها الله ولا رسولُه، أنَّه لا يحصُل له إلَّا العناءُ، وليس في هذا التطوُّع خيرٌ له، بل قد يكون شرًّا له، إنْ كان متعمِّدًا، عالِمًا بعدم مشروعيَّة العمل
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- قُبْح هذا الكِتمان الذي سلَكه المذكورون في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ؛ لأنَّه كتمانٌ بعدَ بيان؛ فليس لهم أن يقولوا: (لم نتكلَّم؛ لأنَّ الأمر مشتبهٌ علينا)؛ فالإنسان الذي لا يَتكلَّم بالشيء لاشتباه الأمْر عليه قد يُعذر، لكن الذي لا يَتكلَّم مع أنَّ الله بيَّنه للناس يكون هذا أعظمَ قُبحًا-والعياذ بالله
.
2- في قوله تعالى: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161] ، جاء ذِكرُ لعنة الملائكة والنَّاس- مع أنَّ لعنة الله وحده كافيةٌ في خزيهم ونكالهم- قد يكون لبيان أنَّ جميع مَن يعلم حالهم من العوالِم العلويَّة والسُّفليَّة يراهم محلًّا للعنة الله ومقْته، فلا يُرجى أن يَرأف بهم رائِف، ولا أن يَشفَع لهم شافِع .
3- أنَّ الكافر يلعنه الكافِر؛ لقوله تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ وقد أخبَر الله تعالى عن أهل النَّار أنَّه كلَّما دخلتْ أُمَّة لعَنتْ أُختها، وقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ [البقرة: 166] إلخ؛ فالكافِر- والعياذ بالله- ملعونٌ حتَّى ممَّن شاركه في كُفره
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فيه تأكيدُ الجملة بـ(إنَّ)؛ لأنَّ المخاطبَين متردِّدون في كونهما من شعائر الله، وهم أميلُ إلى اعتقاد أنَّ السَّعي بينهما من أحوال الجاهليَّة
.
2- قوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
- تذييلٌ لِمَا أفادته الآية من الحثِّ على السَّعي بين الصفا والمروة، ومقصده: الإتيان بحُكمٍ كلِّيٍّ في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل، أو نوافل فقط، فليس المقصود من خَيرًا خصوص السعي؛ لأنَّ خيرًا نكرة في سياق الشَّرط، فهي عامَّة؛ ولهذا عُطِفت الجملة بالواو دون الفاء؛ لئلَّا يكون الخيرُ قاصرًا على الطوافِ بين الصفا والمروة .
- وخُتمت الآية بصِفتين مناسبتَينِ، ووقعتَا الموقع الحَسَن؛ لأنَّ التطوُّع بالخير يتضمَّن الفعل والقصد، فناسَب ذكر الشُّكر باعتبار الفعل، وذِكر العِلم باعتبار القَصد .
3- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ فيه التعبير بالفعل المضارع في يَكْتُمُونَ؛ للدَّلالة على أنَّهم في الحال كاتمون للبيِّنات والهدى، ولو وقَع بلفظ الماضي لتوهَّم السامعُ أن المعنيَّ به قومٌ مضَوْا، مع أنَّ المقصود إقامة الحُجَّة على الحاضرين .
4- في قوله: أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
- اختير اسم الإشارة للبعيد (أُولَئِكَ)؛ ليكون أبعثَ للسامع على التأمُّل فيهم، والالتفات إليهم، أو تحقيرًا لهم؛ لبُعدهم عن رحمة الله تعالى .
- وإبراز الخبر في صورة جملتين مع تكرير الفِعل يَلْعَنُهُم؛ للتوكيد والتعظيم، وأتى بالفِعل المضارع يَلْعَنُهُم المقتضي للتجدُّد؛ لتجدُّد مقتضيه، وهو قوله تعالى: يَكْتُمُونَ .
- وفي قوله تعالى: يَلْعَنُهُمُ اللهُ التفات، وكان السِّياق يَقتضي بأن يقول: (نلعنهم)، ولكنَّه التفت إلى الغائب؛ للدَّلالة على إظهار السخط عليهم، وليكون الكلام أوغلَ في إنزال اللَّعْن عليهم، وإلحاق الطَّرد بهم، وإبراز اسم الجلالة بلفظ الله فيه مِن الفخامة ما لا يكون في الضَّمير .
5- في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ قُرِنَتِ الجملة فَأُولَئِكَ... بالفاء- التي تكون للتعقيب مع السُّرعة-؛ للدلالة على شيءٍ زائد على مفادِ الاستثناء، وهو أنَّ توبتهم يَعقبُها رِضَا الله عنهم .
6- قوله: وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
- اعتراضٌ تذييليٌّ محقِّقٌ لمضمون ما قبْله .
- وفيه التفاتٌ من الغَيْبة إلى التَّكلُّم؛ وفي هذا الالتفات تلويحٌ ورمزٌ إلى اختلاف المبدأ في فِعْليهِ تعالى السَّابقِ واللَّاحِقِ .
- وجيء بالجُملة الاسميَّة؛ لدَّلالتها على الثَّبات والاستقرار؛ ليكونوا غيرَ آيِسِين من التوبة، بخِلاف قوله: يَلْعَنُهُمُ اللهُ، فالمقصود التجدُّد .
7- قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فيه ترتيبٌ بديع؛ حيث بدأ تعالى بنفسه، وناهيك بذلك طردًا وإبعادًا؛ ولأنَّ لعنةَ الله هي التي تجرُّ لعنة الملائكة والناس. ثم ثنَّى بالملائكة؛ لِمَا في النفوس من عِظم شأنهم، وعلوِّ منزلتهم وطهارتهم. ثم ثلَّث بالناس؛ لأنَّهم من جِنسهم، فهو شاقٌّ عليهم .
8- قوله: خَالِدِينَ فِيهَا فيه إضمار النار قَبل الذِّكر؛ تفخيمًا لشأنها وتهويلًا، أو اكتفاء بدَلالة اللَّعن عليه .
9- قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فيه توكيد لمعنى الوحدانية، ونفْي الإلهيَّة عن غيره. بنفي كلِّ فردٍ من الآلهة، ثم حصْر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلَّ قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ على نِسبة الواحديَّة إليه تعالى، ودلَّ قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناصِّ على ذلك، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك؛ لدفع توهُّم وجود إلهٍ غيرِه، فأكَّده بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وحُقَّ لهذا المعنى أن يكون مؤكَّدًا، وتُكرَّر عليه الألفاظ؛ إذ هو مبدأ مقصود العِبادة ومُنتهاه .
====
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (164-167)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
غريب الكلمات:
الْفُلْكِ: السُّفن، وواحده وجمْعه بلفظٍ واحد، وأصل الفَلَك: الاستدارةُ في الشَّيء، ولعلَّ السُّفن سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدار في الماء
.
بَثَّ: فرَّق ونشَر .
الْمُسَخَّرِ: المُذلَّل، وَالمُيسَّر .
أَنْدَادًا: أمثالًا، ونُظراء مُناوئين، وشركاء .
تَبَرَّأَ: تَباعَد وفارَق، ولـ(بَرَأَ) أصلانِ ترجع إليهما فروع معانيه؛ الأوَّل: التقصِّي ممَّا يُكره مجاورتُه، والتباعُدُ من الشيءِ ومزايلتُه، ومنه: البُرء والبَراء والتَّبرِّي والتبرُّؤ. الثاني: الخَلْقُ؛ يُقالُ: بَرَأَ اللهُ الخَلْقَ يَبرؤُهمْ بَرْءًا .
الْأَسْبَابُ: أي: الوصلاتُ، وأصل (سَبَب): الحَبْل يشدُّ بالشَّيْء فيجذب به، ثمَّ جُعِل كلُّ ما جرَّ شَيْئًا (سَببًا)، وسُمِّي كلُّ ما يُتوصَّل به إلى شيءٍ (سببًا) .
كَرَّةً: رَجْعَة إلى الدُّنيا، والكَرُّ: الرُّجوع إلى الشَّيءِ بعدَ المرَّة الأولى، والعطف عليه بالذَّات أو بالفِعل .
حَسَرَاتٍ: الحسراتُ جمْع حَسْرة، وهي أشدُّ النَّدامة على ما فاتَ ولا يُمكن ارتجاعُه؛ والغمُّ عليه، وأصل (حسر): كَشْف الشَّيْء؛ ومِنه الحَسرة، كأنَّه انحسرَ- انكشَف- عنه الجهلُ الذي حمَله على ما ارتكبَه، أو انحسَر قواه من فَرط غمٍّ، أو أدركه إعياءٌ مِن تدارُك ما فرط منه
.
المعنى الإجمالي :
عدَّد الله سبحانه وتعالى في مَطلع هذه الآيات بعضًا مِن نِعمه العظيمة، وآلائه الجَزيلة، مخبرًا أنَّ فيها أدلَّةً واضحة، وعلاماتٍ بيَّنة على وَحدانيته جلَّ وعلا، وعلى كمال صِفاته، لكنَّ هذه الدلائلَ والعلامات يَعيها مَنْ مَنَّ الله عليه بعقلٍ يتدبَّر به، فيَفهَم مقصود الله عزَّ وجلَّ منها.
وتِلك النِّعم التي عدَّدها الله عزَّ وجلَّ هي إنشاؤه السَّمواتِ والأرضَ، وما أودَع فيها من العجائب، والتعاقُب الدَّائم لليل والنَّهار، بحيث لا يتَّأخر أحدُهما عن الآخَر، واختلافهما ضِياءً وظُلمة، وحرًّا وبردًا، وطولًا وقِصرًا، والسُّفن التي تشقُّ البحرَ متنقلةً عبرَه من مكان لآخَر بما يعود نفعُه على النَّاس، والمطر الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السَّحاب، والذي بسبِبه أنبتت الأرض بعدَ أنْ كانت مجدبة، ونشرْه سبحانه في أنحائها الدَّوابَّ بمختلف أنواعها وأشكالها، وتنويعه الرِّيح ركودًا وهبوبًا، وجعْلها تهبُّ من اتجاهات عِدَّة، واختلافها في الشِّدَّة والضَّعف، والنَّفع والضر، وتذليله سبحانه السَّحابَ بين السَّماء والأرض لمصالح خَلْقه.
ثم ذكَر سبحانه أنَّ صِنفًا من النَّاس جعَلوا من بعض خَلق الله نُظراءَ له، يُساوونهم به في المحبَّة، فيُحبُّون هؤلاء النظراءَ كما يحبُّون الله، وأخبر أنَّ الذين آمَنوا حقًّا أكثرُ حبًّا لله من محبَّة هؤلاء لله تعالى وللأنداد.
ثم خاطَب اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لو أبصرَ حال هؤلاء الذين اتَّخذوا الأندادَ مع اللهِ يُحبُّونهم كحُبِّه، وأبصروا هم أيضًا حالَهم تلك، حين يُعاينون عذابَ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامة، فيَتيقَّنون أنَّ القوةَ والقدرة كلَّها لله تعالى وحده، وأنَّ ما أعدَّه الله من العذاب لِمَن يستحقُّه ممَّن كفر به أو أشرك لشديدٌ.
ويتبرَّأ المتبوعون على الشِّركِ والكفرِ والضلالِ ممَّن اتَّبعهم حين يُعاينون عذابَ الله تعالى، ويتيقَّن الأتباعُ حين يُعاينون العذاب كذلك، أنَّهم سيُعذَّبون فيها لا محالةَ، وتتقطَّع كلُّ وسيلة تمسَّكوا بها من قبلُ للنجاة، ومنها جعْلهم للهِ نُظراءَ يُساوونه بهم في المحبَّة، ويسقط الجميعُ في النار.
ويَتمنَّى حينها الأتباعُ لو تَسنح لهم فرصةٌ أخرى للرُّجوع إلى الدُّنيا؛ ليتبرَّؤوا من هؤلاء المتَّبَعين الذين خذَلوهم وتبرؤوا منهم، بعدَ أنِ اتَّخذوهم أندادًا من دون الله، لكن الله أخبَر أنَّه يُريهم أعمالهم الخبيثةَ كما أراهم العذابَ؛ ليتحسَّروا ويندموا، ويُعاتِبوا أنفسَهم: لِمَ فعَلوها، ولمَ لمْ يَعملوا أحسنَ منها، لكن هذا التحسُّر والندم لا يُفيدهم شيئًا؛ فإنَّهم باقون في النار غير خارجين منها.
تفسير الآيات:
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
وقَعتْ هذه الآية موقعَ الحُجَّة مِن الدَّعوى؛ فإنَّه لَمَّا ذكر تعالى أنَّه واحد، وأنَّه منفرد بالإلهيَّة، لم يَكتفِ بالإخبار حتى أورد دلائلَ الاعتبار، ثم مع كونها دلائلَ، هي نِعم كذلك من الله على عباده، فكانت أوضحَ لِمَن يتأمَّل، وأبهرَ لِمَن يَعقل؛ إذ التنبيه على ما فيه النَّفع باعثٌ على الفِكر، فقال تعالى
:
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: إنَّ في إنشاء السَّموات والأرض وابتداعهما، وما أودَع الله تعالى فيهما من العَجائب .
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
أي: تعاقبِها الدَّائم، بحيث يَجيء أحدُهما، ثم يذهب، ويخلُفه الآخَر مباشرةً دون أن يتأخَّر عنه لحظة، وكذا اختلافهما في الضِّياء والظُّلمة، والحرِّ والبَرد، والطُّول والقِصَر .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] .
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ.
أي: السُّفن التي تَسير في البحر، فيَنتفع النَّاسُ بالتنقُّل عبْرَها من مكان لآخَر، وبجلْب البضائع، وصَيد الأسماك، وغير ذلك .
وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: المطر الذي أنزله الله تعالى من السَّحاب، فأنبتتْ بسببه الأرضُ بعدَ أن كانت قاحلةً مُجدِبةً .
وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ.
أي: نشَر في أقطارِ الأرض جميعها، كلَّ ما يمشي على وجهِها من مختلف أنواعِ الحيوان .
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ.
أي: تَنويعِها في الركود والهُبوب، وفي الاتِّجاه، والشِّدَّة والنَّفع، فتهبُّ من عِدَّة اتجاهات، وتختلف شِدَّةً وضعفًا، ونفعًا للنَّاس، أو هلاكًا وضرًّا .
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أي: السَّحاب الواقِع في جوِّ السَّماء، المذلَّل بأمْر الله تعالى لمصالح الخَلْق .
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
أي: في تِلك الأمور المذكورة، علاماتٌ ودَلالات واضحةٌ على وَحدانية الله تعالى، وعلى كمال صِفاته، وعظيم أفعاله، ولكن لِمَن لديه عقلٌ رشيد، يتدبَّر به، ويَفهم عن الله تعالى مقصودَه .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله عزَّ وجلَّ وحدانيته وأدلَّتها القاطعة، وبراهينها السَّاطعة، الموصلة إلى عِلم اليقين، المزيلة لكل شكٍّ، ذكَر هنا أنَّه مع هذا البيانِ التامِّ يوجد من الناس مَن لا يؤمن بوحدانية الله تعالى، فقال :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ.
أي: إنَّ بعض النَّاس يجعَلون من بعض الخَلق نُظَراءَ لله سبحانه، بمساواتهم معه في المحبَّة، فيحبُّونهم كما يحبُّون الله تعالى .
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.
أي: إنَّ المؤمنين أشدُّ حبًّا للهِ عزَّ وجلَّ من محبَّةِ أولئك لله تعالى ولأندادهم .
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يرى قراءتان:
1- (تَرَى) ومعناها: ولو ترَى يا محمَّد هؤلاء المشركين عند رُؤيتهم العذابَ .
2- (يَرَى) ومعناها: ولو رأى الذين كانوا يُشركون في الدنيا عذابَ الآخرة .
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ.
أي: لو عاينتَ يا محمَّدُ، حالَ هؤلاء الَّذين نَقَصوا اللهَ تعالى حقَّه، ونَقَصوا أنفسهم حقَّها باتِّخاذهم أندادًا يُحبُّونهم كحبِّهم لله، وعاينوا هم أيضًا حالهم تلك، حين يرون عذابَ الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامة فيَعلمون حينها يقينًا أنَّ القوة والقدرة كلَّها لله تعالى وحده، ويَعلمون شِدَّة عذابه لِمَن كفَر أو أشرك به، وأنه ليس للأنداد التي اتَّخذوها شيءٌ من تلك القدرة الإلهيَّة؛ فيتبيَّن لهم عندئذٍ عَجزُها وضعفُها، وأنَّها لا تدفع عنهم ضرًّا، ولا تجلب لهم نفعًا .
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166).
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا.
أي: أخبر اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ المتبوعين على الكفر والشرك والضلال، يتبرَّؤُون حين يعاينون عذاب الآخرة ممَّن اتبعهم واتخذهم أندادًا يحبهم كحبه لله تعالى، ويتنصَّلون منهم ومن عبادتهم لهم .
كما قال الله عزَّ وجلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وقال جلَّ وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33] .
وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف: 53] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ.
أي: عايَن الأتباعُ عذابَ جهنَّم، وأيقَنوا أنهم وارِدوها، لكن لا حيلةَ لهم للفرار منها، وانقطعت كلُّ وسيلةٍ تشبَّثوا بها من قبلُ للنجاة؛ كاتخاذِهم أندادًا يساوونهم بالله تعالى في محبَّتِه، انقطعت بهم انقطاعًا شديدًا، فسقط الجميعُ- أتباعًا ومتبوعين- هالكينَ في النَّار .
كما قال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167).
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا.
أي: تمنَّى أتباعُ الضَّلالة نادمينَ أنْ لو كانت لهم فرصةٌ أخرى للرُّجوع إلى الدُّنيا دارِ العمل؛ لِيتمكَّنوا فيها من التبرُّؤ ممن اتَّخذوهم أندادًا، ولِيُخلِصوا المحبَّةَ والعملَ لله تعالى وحده، ولِيَشْفوا غيظَ قلوبهم من مَتْبوعيهم الذين تبرَّؤوا منهم وخذَلوهم .
كما قال سبحانه: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 91-102] .
وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 27-28] .
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ.
أي: أخبَر الله تعالى عن شُعورِهم بالنَّدم الشَّديد حين انكشف لهم خُبثُ أعمالِهم، وتفريطُهم في جَنْبِ الله تعالى، وقد تبيَّن لهم يقينًا أنَّ ما رأَوْه مِن عملِهم في الدنيا خيرًا قد تلاشى واضمحلَّ هباءً منثورًا، كسرابٍ من الأوهام تعلَّقوا به للنَّجاة، وحين أتَوْه لم يرَوْا من أعمالهم شيئًا، عدا أثرها مِن الحسَرات والعقوبات .
وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
أي: إنَّ هؤلاء الذين وصَف الله تعالى حالَهم، لا يَنفعُهم تحسُّرُهم وندمُهم؛ فهم باقون في النَّار، غيرُ خارجينَ منها إلى غيرِ حدٍّ ولا نهاية
.
الفوائد التربويَّة:
- كلَّما تدبَّر العاقلُ في هذه المخلوقات، وتغلغل فِكرُه في بدائع المبتَدَعات، وازداد تأمُّله للصَّنعة، وما أودع فيها مِن لطائف البِرِّ والحِكَم الباهرات- علِم بذلك أنَّها خُلِقت للحقِّ وبالحقِّ، وأنَّها صحائفُ آيات، وكتُب دلالات
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، دلالةٌ على أنَّ محبَّةَ الله سبحانه مِن العبادة؛ لأنَّ اللهَ جعَل مَن سوَّى غيرَه به فيها مشرِكًا متَّخذًا لله ندًّا؛ فالمحبَّةُ مِن العبادة، بل هي أساس العبادة؛ لأنَّ أساس العبادة مبنيٌّ على الحبِّ والتَّعظيم
.
2- أنه كلَّما ازداد إيمانُ العبد ازدادت محبَّتُه لله؛ وذلك لأن اللهَ سبحانه وتعالى رتَّب شدَّةَ المحبَّةِ على الإيمان فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وقد عُلِم أنَّ الحُكْم إذا عُلِّق على وصفٍ فإنَّه يقوى بقوةِ ذلك الوصف، وينقُصُ بنقصِه؛ فكلما ازداد الإنسانُ إيمانًا بالله عزَّ وجلَّ ازداد حبًّا له
.
بلاغة الآيات:
1- في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...
- التأكيد بـإنَّ هنا للاهتمام بالخبَر؛ للفت الأنظار إليه، ويُحتمل أنهم نُزِّلوا منزلةَ مَن يُنكر أن يكونَ في ذلك آياتٌ لقوم يعقلون؛ لأنَّهم لم يجروا على ما تدلُّ عليه تلك الآيات
.
- وفي الآية: ترتيبٌ بديع في الذِّكر لهذه الدَّلائل والنِّعم؛ حيث بدأ أولًا بخلق السَّموات والأرض، ثم ثنَّى بذِكر ما نشأ عن العالَم العُلوي، ثم أتى ثالثًا بذِكْر ما نشأ عن العالم السُّفلي، ثم أتى بالمشترَك، ثم ختَم ذلك بما لا تتمُّ النِّعمة للإنسان إلَّا به .
2- في قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ جعل الصِّفة موصولًا الَّتِي صِلتُه تَجْرِي بصيغة المضارع؛ للدَّلالة على تجدُّد ذلك الوصف لها في كلِّ وقت يُراد منها، وذكر مكان تلك الصِّفة فِي الْبَحْرِ على سبيل التوكيد؛ إذ مِن المعلوم أنَّها لا تجْري إلَّا في البحر .
3- في قوله: لَآياتٍ جاء التَّنكير للتفخيم كمًّا وكيفًا، أي: عظيمة كثيرة .
4- قوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
- فيه حذْف جواب (لو)؛ لقصْد التَّفخيمِ وتهويلِ الأمْر؛ لتذهبَ النفسُ في تصوير العذاب كلَّ مذهب ممكن، ولبيان أنَّه حصَل منهم إذ عاينوا العذابَ يوم القيامة ما لا يدخُل تحتَ الوصف من النَّدم والحسْرة، ووقوع العِلم بظلمهم وضَلالهم .
5- قوله: إِذْ تَبَرَّأَ جيء بالفِعل بعد إِذ هنا ماضيًا، مع أنَّه سيحصُل في الآخرة، وهو مستقبلٌ في المعنى؛ للتَّنبيه على تحقُّق وقوعه .
6- قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ عدَل عن الجملة الفِعليَّة (وما يخرجون) إلى الجملة الاسميَّة؛ للمبالغة في الخلود، والإقناطِ من الخَلاص والرُّجوع إلى الدنيا، وللدَّلالة على أنَّ هذا الحُكم ثابتٌ، وأنه من صفاتهم .
=========
غريب الكلمات
المعنى الإجمالي
تفسير الآيات
الفوائد التربويَّة
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف
بلاغة الآيات
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (168-173)
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
غريب الكلمات :
الْفَحْشَاءِ: ما عظُم قبُحه وفحُش، مِن الأفعال والأقوال
.
أَلْفَيْنَا: وجْدنا .
يَنْعِقُ: يَصيح؛ يقال: نعَق بالغنمِ يَنعِق بها إذا صاح بها، فلا تَدري ما يقول لها، إلَّا أنَّها تنزجر بالصَّوت عمَّا هي فيه .
اضْطُرَّ: أُلْجِئَ، والاضْطِرَارُ: يُطلق على حمْل الإنسانِ على ما يَضُرُّهُ وما يكرهه، إمَّا بسببٍ خارج؛ كمَن يُضرَب، أو يُهدَّد، حتى يفعلَ منقادًا، ويُؤْخَذ قهرًا، وإمَّا بسببٍ داخل؛ كالقهر بقوَّةٍ يناله بدفعها الهلاك، كمَن اشتدَّ به الجوعُ فَاضْطُرَّ إلى أكْل ميتة .
غير بَاغٍ: غير طالبٍ ما ليس له طلبُه .
وَلَا عَادٍ: وَلَا متجاوزٍ الحَدَّ
.
المعنى الإجمالي:
يأمُر اللهُ جميعَ البَشر المؤمنَ منهم والكافرَ أنْ يأكلوا مِن كلِّ ما في الأرض نباتًا كان أو حيوانًا إذا توفَّر فيه شرطانِ: أنْ يكونَ ممَّا أحلَّه اللهُ، وأنْ يكون طاهرًا لا ضرَرَ فيه.
ونهاهم أنْ يتَّبِعوا خُطُوات الشيطان؛ وذلك بطاعتِه في تحريمِ ما أحلَّ اللهُ، أو تحليلِ ما حرَّم من المآكل، فإنَّه عدوٌّ لهم، ظاهرُ العداوة، لا يمكن أنْ يريدَ لهم نفعًا، بل يأمُرُهم بكل سيِّئٍ من الأعمال، وبجميع القبائحِ التي بلَغت في القُبح منتهاها، وأن يفتَرُوا على الله الكذبَ؛ باختلاقِ أفعالٍ باطلة، ونِسبتها إلى الله عزَّ وجلَّ بلا علم؛ كتحريمِ الحلالِ، وتحليل الحرام من المأكولات.
ويُخبِر تعالى عن المشركين أنَّهم إذا أُمِروا بالالتزام بما جاء مِن عندِ الله، وأن يكونَ ما يحلُّونه ويحرِّمونه على وَفْقِ الشَّريعة المنزَّلة، كان جوابهم أنَّهم لن يتَّبِعوا إلا ما وجَدوا عليه أسلافَهم، بما فيه من تحليلٍ وتحريم مخالفٍ لِما أراد الله، فأنكَر اللهُ عليهم هذه التبعيَّةَ والتَّقليد الأعمى، فكيف يتَّبِعون آباءهم وهم على حالٍ لا تؤهِّلُهم لأنْ يُتَّبعوا؛ فهم لا عقلَ لهم يُرشِدهم إلى الحق، ولا يحمِلون العِلم النَّافع الذي يقوِّم عمَلَهم، ويُنِير طريقهم.
ثم ضرَب الله مثلًا للكفَّار حين يدعوهم الداعي إلى الإيمان، ولا ينتفعون بما يَسمعونه منهم، فمَثَلهم كالبهائمِ التي يُصوِّت لها الراعي ويَصيح بها فتَسمع صوتَه ولا تَفهم ما يقول، فكذلك هؤلاء الكفَّار لَمَّا لم تُؤمن قلوبُهم أولَ مرة، تعطَّل انتفاعهم بحواسِّهم، فلا يسمعون الحقَّ سماعَ فَهم وقَبول، ولا يتكلَّمون به، ولا يُبصرون سبيله، فينتج عن ذلك أنَّهم لا يعقلون شيئًا من الحق.
ثم يأمر اللهُ تعالى المؤمنين أن يكونَ مأكولهم هو الطِّاهِرَ النافع من المطعومات، التي رزقهم إيَّاها، وأنْ يقوموا بشكره جلَّ وعلا بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، فإنْ كانوا ملتزمين بالخضوعِ والطاعةِ لله عزَّ وجلَّ وحْدَه، فسيَمتثِلون هذين الأمرين.
وبَعدَ أنْ ذكَر اللهُ تعالى إباحةَ الأكْل الطيِّب لعباده، عدَّد لهم أجناس المحرَّمات؛ ليجتنبوها، فحرَّم تعالى لحومَ الأنعام التي ماتتْ حتفَ أنفها، ولم تُذكَّ ذكاةً شرعيَّة، والدَّمَ المسفوح، ولحم الخنزير، وما ذُبِحَ على غير اسم الله تعالى، كالذي يُذبَح للأوثان، ويُسمَّى عليه بغير اسمه سبحانه، مع الجهر بذلك، ويُستثنى من تحريم أكْلها مَن ألجأته ضرورةٌ إلى الأكل منها، غيرَ مُتجاوزٍ للقَدْر الذي يَدفَع به الضرورة، فمَن كانت هذه حالتَه، فلا إثمَ عليه لو تناول منها، والله عزَّ وجلَّ غفورٌ، حيث رفع الإثم عنه، رحيمٌ حين وسَّع لعباده وشرَع لهم هذا الاستثناء؛ حتى لا يقعوا في الحرَج.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا.
يُخاطب اللهُ تعالى جميع النَّاس؛ مؤمنهم وكافرهم، آذِنًا لهم بأن يأكلوا مِن جميع ما في الأرض من نباتاتٍ وحيوانات، بشرْط أنْ يكونَ حلالًا، وطاهرًا غيرَ ضارٍّ
.
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
أي: لا تسلكوا طريقَ الشَّيطان، ولا تَقتفوا أثرَه الذي أضلَّ فيه أتْباعه، وهو ما دعا إليه ممَّا هو خلاف طاعة الله عزَّ وجلَّ، ومن ذلك: تحريمُ ما أحلَّ اللهُ تعالى من المآكل، وتحليلُ ما حرَّم منها، والدَّعوة إلى تناوُل خبيثها، وتَرْك طيِّبها، لا تُطيعوا هذا العدوَّ الظاهر العدواة، الذي يُريد أنْ يقودَكم شيئًا فشيئًا إلى التَّهلُكة .
كما قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام: 140-142] .
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169).
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ.
أي: إنَّ الشيطانَ يأمُرُ بالأعمال السيِّئة الآثِمة التي تسُوءُ عاقبتُها، وتسُوء صاحبَها، كما يأمُرُ أيضًا بما هو أغلظ من ذلك مما يتناهى قُبحُه، ويتجاوزُ حدَّه كالزِّنا .
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
أي: يأمُرُ الشَّيطانُ النَّاسَ أيضًا باختلاقِ أعمالٍ باطلة تُنسب مشروعيَّتُها إلى الله عزَّ وجلَّ، كذِبًا وافتراءً عليه جلَّ وعلا، وإلا فليس لهم مستنَدٌ مِن علمٍ صحيحٍ يُثبتُ أمرَ اللهِ تعالى بها، ومن ذلك تحريمُ ما أحلَّ الله تعالى، أو تحليل ما حرَّمه مِن المأكولات .
كما قال سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 114-116] .
وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 27-28] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 32-33] .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ.
أي: إذا قيل للمشركين: التزِموا باتِّباع الوحيِ الإلهيِّ فحسبُ؛ فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، دون التَّقوُّلِ على الله تعالى بلا عِلمٍ واتِّباعِ الأوهام .
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا.
أي: أعرَضوا عن الوحي، وهو العلم النَّافع حقًّا، وأخَذوا بما وجَدوا عليه أسلافهم، فقلَّدوهم فيه، ومن ذلك تحريمُ ما أحلَّ اللهُ تعالى، وتحليلُ ما حرَّمه .
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ.
أي: أيتَّبعون آباءَهم حتى لو كانوا على هذه الحالِ التي لا يستحقُّون أنْ يُتَّبعوا فيها؛ إذ ليس لديهم عقلٌ سليم يُرشِدهم إلى اتِّباع الحقِّ، ويزجُرُهم عن اتِّباع الباطل، ولا يحمِلون عِلمًا نافعًا يعمَلون على وَفْقِه عملًا صالحًا؛ فكيف يتَّبعون هؤلاء ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدى بهم ؟!
كما قال سبحانه: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [المائدة: 103-104] .
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 20-21] .
وقال جلَّ وعلا: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 69-70] .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171).
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً.
أي: شبَّه اللهُ تعالى الكفَّارَ عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان -كالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- شبَّههم بالبهائمِ التي يصوِّت لها راعيها، فتسمَعُ الصَّوت ولا تفهَمُ المعنى، فكذلك حالُ الكفَّارِ الَّذين لا ينتفعون مِن تلك الدَّعوة بشيء، لكنَّهم يسمعون ما تُقام عليهم به الحجَّة .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: إنَّ قلوبهم لَمَّا لم تؤمن، تعطَّل انتفاعهم الحقيقي بحواسِّهم تبعًا لذلك، فلا يسمعون الحق سماع فَهمٍ وقَبول، ولا ينطقون به، ولا يبصرون طريقه، فقلوبهم لا تعقل شيئًا من الحق .
كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ تَحْسَبُ أنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .
وقال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .
وقال أيضًا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وقال سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يونس: 42-43] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا الله.
أي: يأمُرُ اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بالأكل ممَّا أحلَّ اللهُ تعالى لهم؛ من أنواع المطعوماتِ الطَّاهرة النَّافعة، التي رزَقهم إيَّاها، كما أمَرهم أيضًا بالقيام بشُكره؛ بقلوبهم، وألسنتِهم، وجوارحهم .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87-88] .
وعن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أيها النَّاسُ، إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ثم ذكَر الرجلَ يُطيلُ السَّفرَ، أشعثَ أغبَرَ، يمدُّ يدَيه إلى السَّماءِ، يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعَمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، وملبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟! )) .
وعن أنسٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إن اللهَ لَيَرضَى عن العبدِ أنْ يأكلَ الأَكْلةَ فيحمَدَه عليها، أو يشرَبَ الشَّربةَ فيحمَدَه عليها )) .
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
أي: إنْ كنتم تُطيعون الله تعالى حقًّا، وتخضَعون له ممتثلينَ لأوامرِه، ومجتنبين لنواهيه، فكُلوا ممَّا رزَقكم اللهُ تعالى، واشكروه على ما أنعَم به عليكم .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قيَّد سبحانه وتعالى الإذنَ لعباده بالطيِّب من الرِّزق، افتقَر الأمرُ إلى بيان الخبيث منه ليُجتَنَب، فبيَّن صريحًا ما حرَّم عليهم ممَّا كان المشركون يستحلُّونه ويحرِّمون غيرَه، وأفهَم حِلَّ ما عداه، وأنه كثيرٌ جدًّا؛ ليزدادَ المخاطَب شكرًا ، فقال:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ.
أي: قد حرَّم الله تعالى عليكم- أيُّها المؤمنون- الميتةَ التي ماتت حتْفَ أنفها دون ذكاةٍ شرعيَّة، والدَّم المسفوح، ولحم الخنزير- ويدخُل فيه شحمُه- وما ذُبح على غير اسم الله عزَّ وجلَّ، كالذي يُذبَح للأصنام، ويُسمَّى عليه بغير اسمه سبحانه، مع رفْع الصَّوت بذلك .
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْه.
أي: مَن ألجأتْه الضرورةُ إلى الأكْل من تلك المحرَّمات وهو غير مبتغٍ لتناولِها مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، وغير متجاوزٍ قدْرَ الضَّرورة، فلا يتناول منها إلَّا بمقدارِ ما يسدُّ جوعه، فمَن كانت حاله كذلك فليس عليه إثمٌ مِن تناولِ تلك المحرَّمات .
ثم ذكَر تعالى تعليلَ الحُكمِ بانتفاءِ الإثم، فقال :
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ الله سبحانه وتعالى يَغفِر ذنوبَ عباده، فيسترها ويتجاوز عن المؤاخذةِ بها، ومن ذلك أنَّه رفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه
.
الفوائد التربويَّة:
1- أن مَن تعصَّب لمذهبٍ مع مخالفة الدليل ففيه شَبَهٌ من هؤلاء المذكورين في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، والواجب أنَّ الإنسان إذا قيل له: (اتَّبِعْ ما أنزَل اللهُ) أنْ يقولَ: (سمِعْنا وأطَعْنا)
.
2- أن كلَّ مَن خالَف الحقَّ وما أنزَل اللهُ، فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] .
3- توجيه المرء إلى طلَب الرِّزق من الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: مَا رَزَقْنَاكُمْ؛ فإذا كان هذا الرِّزق مِن الله سبحانه وتعالى فلنطُلْبه منه، مع فِعل الأسباب التي أمَرنا بها .
4- أنَّ الشُّكر لله عزَّ وجلَّ من تحقيق العبادة؛ لقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ .
5- وجوب الإخلاص لله في العبادة؛ يُؤخَذ ذلك من اللام في قوله تعالى: لِلَّهِ، ومِن تقديم المعمول (إيَّاه) في قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- إثبات رحمةِ الله سبحانه وتعالى بعباده من وجهين: أولًا: من أمرِه إيَّاهم بالأكل من الطيِّباتِ؛ لأنَّ بذلك حِفظًا لصحَّتِهم، ثانيًا: من قوله تعالى: مَا رَزَقْنَاكُمْ؛ فإنَّ الرِّزقَ بلا شكٍّ من رحمة الله
.
2- أنَّ التحريمَ والتحليل إلى الله تعالى؛ فهو حقٌّ خاصٌّ به وحده؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ .
3- قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فيه أنَّ الشِّركَ- وإن كانت نجاستُه معنويَّة- قد يؤدِّي إلى خُبثِ الأعيان؛ إذ هذه البهيمة التي أُهلَّ لغير الله بها نجسةٌ خبيثة محرَّمة، والتي ذُكِر اسمُ الله عليها طيِّبةٌ حلال
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ذكر (إنَّ) للاهتمام بالخبر؛ لأنَّ عداوةَ الشيطان معلومة لكل أحد، أو تُجعَل (إنَّ) للتأكيد بتنزيل غير المتردِّد في الحُكم منزلةَ المتردِّد أو المنكِر؛ لأنَّهم لاتباعهم الإشاراتِ الشيطانيَّةَ بمنزلة مَن يُنكر عداوته، وهي تُفيد معنى التعليل والربط في مِثل هذا، وتغني غناء الفاء، وهو شأنها بعد الأمر والنهي
.
2- في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ جاء بناء قِيلَ لِمَا لم يُسمَّ فاعله؛ لأنَّه أخصر؛ فلو ذُكِر الآمرون لطال الكلام؛ لأنَّ الآمِر بذلك هو الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام ومَن يتبعه من المؤمنين .
3- في قوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ
- الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكارِ والتقريع، والتعجُّب من حالهم؛ فهي بمعنى الردِّ لا بمعنى النَّفي، وإنَّما جُعلت همزة الاستفهام لذلك؛ لأنَّها تقتضي الإقرارَ بشيءٍ يكون الإقرارُ به فضيحةً، كما يقتضي الاستفهام الإخبارَ عن المستفهَم عنه .
- وهذا التركيب من بديع التَّراكيب العربيَّة وأعلاها إيجازًا؛ فـ(لو) للشرط، وجوابها محذوف دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، تقديره: لاتَّبعوهم، والمستفهَم عنه هو الارتباط الذي بيْن الشَّرْط وجوابه .
4- قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فيه من البلاغة: إيجاز بالحذف على طريقة (الاحتباك)، حيث حذف من الأوَّل ما أثبت نَظيره في الثاني، وحذف من الثاني ما أثبت نَظيره في الأول، والتقدير: ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعِق والذي يُنعَق به؛ فحذف من الأوَّل الأنبياء؛ لدلالة الذي ينعق عليه، وحذف من الثاني الذي يُنعَق به؛ لدلالة الذين كفروا عليه .
5- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
- فيه إيجازٌ بالحذف بليغ؛ حيث عدَل هاهنا عن ذِكر تعداد المباحات، فأجملها لكثرتها، بينما ذكر في الآية التي تليها تفاصيلَ المحرَّمات لقلَّتها، كما حُذف جواب إنْ الشرطية، (فاشكروه)، وحذفه شائعٌ في كلام العرب؛ لدلالة السِّياق عليه .
- وفي قوله: وَاشْكُرُوا للهِ التفات؛ إذ خرج من ضمير المتكلِّم في رَزَقْنَاكُمْ إلى اسم الغائب؛ لأنَّ هذا الاسم الظاهر متضمِّنٌ لجميع الأوصاف التي منها وصْفُ الإنعامِ والرزق، والشُّكرُ ليس على هذا الإذن الخاص، بل يُشكَر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص .
- وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: قدم المفعولَ به إيَّاه على الفعل والفاعل تَعبدُون؛ لإفادة الاختصاص؛ لأنَّه سبحانه مختصٌّ وحده باستحقاق العبادة .
=== ===
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (174 - 176)
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ
غريب الكلمات:
شِقَاقٍ: أي: عداوةٍ واختلاف، ومباينةٍ ومباعدة، وأصل (شقَّ) يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيْءِ، ومنه الشِّقاقُ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى انصِداع الجماعَة وتفَرُّقها
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر تعالى عن اليهود الذين يُخْفُونَ نبوَّةَ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ التي قد ثبَتَت عندهم في التَّوراة، ويُخْفُونَ كذلك بعضًا من أحكام الله فيها، ويغيِّرونها؛ يبتغون نَيْلَ شيءٍ من الأموال والمناصب وغيرها من عَرَض الدُّنيا- أخبَر أنَّ جزاءَهم أنْ يأكلوا في بطونهم نارًا مقابلَ ما أكَلوه من الحرام عن طريق كِتمان العِلم الذي في كُتبِهم، ولا يكلِّمهم سبحانه وتعالى يوم القيامة كلامَ رضًا، ولا يُطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يُثْني عليهم، ولهم فوق هذا كلِّه عذابٌ موجِع.
أولئك الكاتِمون للعِلم قد استبدلوا -بفِعلِهم هذا- بطريقِ الهداية طريقَ الغواية، واستبدلوا بنَيْلِ مغفرة الله تعالى استحقاقَ عذابِه، ثم تعجَّب سبحانه وتعالى مِن جُرأتِهم على هذا الفعل وهم يعلَمون أنَّ عاقبتَه النَّارُ، وكيف حبَسوا أنفسهم على ارتكابه وهو يوصلهم إلى العذابِ الشديد.
واستحقَّ أولئك العذابَ على ما كتَموه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أنزَل كتابه عليهم بالحقِّ، فيجبُ ألا يُكتَم، بل الواجب بيان ما فيه؛ لذلك كان الإخفاءُ مخالفًا لمراد الله من إنزال الكتاب.
ثم أخبَر تعالى أنَّ الَّذين آمنوا ببعض الكتاب وكفَروا ببعض، وكتَموا منه أشياءَ، وأظهَروا أشياء- لَفِي جانبٍ بعيدٍ عن الحقِّ.
تفسير الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174).
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: إنَّ اليهود الَّذين كتَموا أمر نبوَّةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ الثابتةِ في توراتهم، وكتَموا بعض أحكام الله تعالى فيها، وبدَّلوها- كتحريمهم ما أحلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ- يبتغون بهذا الكتمانِ نَيْلَ عَرَضٍ من حُطام الدُّنيا الفاني؛ من الأموال، والرِّئاسات، وغيرها
.
أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ.
أي: إنَّ جزاءَهم في الآخرة مِن جِنس ما عمِلوه في الدُّنيا، فكما أكَلوا في بطونهم ما حرَّم الله تعالى بما اكتَسَبوه من مالٍ حرامٍ؛ لكتمانِهم العِلمَ- فكذلك يُطعَمون يومَ القيامة نارًا في بطونهم؛ جزاءً وِفاقًا .
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: لا يُكلِّمهم الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بكلامِ إكرامٍ ورضًا يسُرُّهم؛ لأنَّه غاضبٌ عليهم، ولا يطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يثني عليهم خيرًا؛ لأنَّ قلوبَهم وأعمالَهم دَنِسة، لا تستحقُّ المدحَ والثناء، ولهم مع ذلك كلِّه عذابٌ موجِعٌ، فجمَع الله تعالى لهم بين الألَمِ النَّفسانيِّ والجُسماني .
ولَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى جزاءهم، أتبَعه بترجمةِ حالهم ، فقال:
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175).
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ.
أي: إنَّ أولئك الَّذين وصَفهم الله تعالى بكتمانِ العلم، قد استبدلوا- بفِعلهم هذا- بطريقِ الهُدى الذي يقودُهم إلى رضوان الله عزَّ وجلَّ ونعيمِ الآخرة؛ استبدلوه به طُرُقَ الهَوَى التي أضلَّتهم عن الصِّراط المستقيم، وبفِعلهم هذا قد استبدَلوا أيضًا بنَيْلِ مغفرةِ الله تعالى استحقاقَ عذابِه .
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.
أي: تعجَّب اللهُ سبحانه وتعالى من أولئك القوم الَّذين كتموا وحيَ الله تعالى، كيف حبَسوا أنفسَهم ووطَّنوها على ارتكاب هذا العمل المودِي بهم إلى عذابٍ شديد، وكيف تجرَّؤُوا على هذا الصَّنيع وهم يعلَمون سوء عاقبته ؟!
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر جلَّ وعلا جزاءهم، ذكَر السَّبب الموجِبَ لهذا العقاب العظيم، فقال :
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.
أي: إنَّهم استحقُّوا العذابَ على كتمانهم؛ بسبب أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل كتابَه عليهم بالحقِّ، فحقُّه ألَّا يُكتَم، بل يبيَّن ما يحويه، وكتمانُهم شيئًا من الكتاب كتمانٌ للحقِّ، وذلك مخالِفٌ لمراد الله تعالى؛ لأنَّ ما يُكتَم مِن الحق يخلُفُه الباطلُ، فحقَّ عليهم العذابُ .
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
أي: إنَّ الَّذين آمنوا ببعض الكتاب وكفَروا ببعض؛ فكتَموا منه أشياءَ، وأظهَروا أشياءَ- قد فارَقوا الحقَّ، وجانَبوا طريقَ الصواب
.
الفوائد التربويَّة:
1- وجوب نشْر العِلم؛ لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...، ويتأكَّدُ وجوب نشْره إذا دعتِ الحاجةُ إليه بالسؤالِ عنه؛ إما بلسان الحال، وإما بلسان المَقال
.
2- إقامة العَدل في الجَزاء؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؛ فجعَل عقوبتَهم من النَّارِ بقَدْرِ ما أكَلوه من الحرام .
3- أنَّ الاختلافَ ليس رحمة، بل إنه شِقاقٌ وبلاءٌ، كما قال سبحانه وتعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- إطلاق المسبَّب على السبب؛ لقوله تعالى: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؛ فإنَّهم لا يأكلون النَّار، ولكن يأكلونَ المالَ، وهو سببٌ للنار
.
2- في قوله تعالى: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ إثباتُ صفة التعجُّب لله تبارك وتعالى .
3- إثبات العِلل والأسباب؛ لقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ، والباء للسببيَّة، وقد ذكَر بعض أهلُ العلم أنَّ في القرآن أكثرَ من مئة موضعٍ، كلُّها تُفيدُ إثبات العِلَّة؛ خلافًا للجَبْريَّة الَّذين يقولون: (إنَّ فِعْلَ الله عزَّ وجلَّ ليس لحِكمةٍ، بل لمجرَّد المشيئة)؛ تعالى اللهُ عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: فيه تأكيدُ الأكْل وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول؛ فإنَّ فِي بُطُونِهِمْ متعلِّق بـ يَأْكُلُونَ، وذكَر بطونهم تنبيهًا على شَرَهِهم، وتَقبيحًا لتضييع أعظم النِّعم لأجْل المطعوم، وللتنبيه على مذهبهم، بأنَّهم باعوا آخرتَهم بحَظِّهم من المطعَم الذي لا خطرَ له
.
2- في قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
- (ما) تعجبيَّة، أو استفهاميَّة صحِبَها معنى التعجُّب؛ فهو تعجُّبٌ من حالهم في الْتباسِهم بموجبات النارِ من غير مبالاةٍ منهم. أو: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم ؟!
- وفيه: تنزيلُ غيرِ الواقع منزلةَ الواقع؛ لشدَّة استحضار السامع إيَّاه بما وُصِف به من الصِّفات الماضية؛ إذ شأن التعجُّب أن يكون ناشئًا عن مشاهدة صبرهم على العذاب، وهذا الصَّبر غيرُ حاصلٍ في وقتِ نزول هذه الآية .
3- في قوله: ذَلِكَ بأنَّ اللهَ نزَّلَ الكتابَ بالحقِّ جِيء باسم الإشارة لرَبْط الكلام اللَّاحِق بالسَّابق، على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصلُ بين الشيء وما ارتبَط به من حُكمٍ أو عِلَّةٍ، أو نحوهما .
4- قوله: فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ فيه الإظهار في موضع الإضمار؛ حيث قال: فِي الكِتَابِ، ولم يقل: (فيه)، وفائدته: أن يكون التذييلُ مستقلًّا بنفسه؛ لجريانه مجرَى المَثَل .
========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (177 - 179)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
غريب الكلمات:
البِرَّ: التوسُّع في فِعل الخير، والاتِّساع فِي الْإِحْسَان، ومن أصوله: الصِّدْقُ
.
بِعَهْدِهِمْ عَاهَدُوا: العَهد: حِفظُ الشيء ومراعاتُه، حالًا بعد حال، والمِيثاقُ، فَسمِّي الشيءُ الموثَّقُ الذي يلزم مراعاتُه عهدًا .
عُفِيَ: تُرِك، والعَفْوُ: هو ترْك العقوبة، والتَّجافي عن الذَّنب؛ يُقال: عفوتُ عنه، أي: قصدتُ إزالة ذنبِه صارفًا عنه .
الْقِصَاصُ: مُقابلةُ الفِعل بمثلِه، وتتبُّع الدَّم بالقَوَدِ (أي: قتْل القاتِلِ بالقتيل)، وأصل (قصَّ) يدلُّ على تتبُّع الشيءِ، ومن ذلك اشتقاق القِصاص في الجراح؛ لأنَّه يُفعل به مِثل فعله بالأوَّل، فكأنَّه اقتصَّ أثره .
أُولِي الْأَلْبَابِ: أصحابِ العقول الزَّكيَّة؛ واللُّبُّ: العقل الخالص من الشَّوائب؛ وسمِّي بذلك لكونه خالصَ ما في الإنسان من معانيه
.
مشكل الإعراب :
1- قوله: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا:
البِرَّ: قُرِئ بالنَّصب والرَّفْع؛ فعَلى قِراءة النصب، فـالبرَّ خبَر ليسمقدَّم، وقوله: أَن تُوَلُّوا- وهو مصدر مُؤوَّل، أي: توليتُكم- في محلِّ رفْع اسم ليس مؤخَّر.
وأمَّا على قراءة رفع البر، فلا تقديم ولا تأخير. فـالبر اسم ليس، وأن تولوا خبرُها
.
2- قوله: وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ:
البِرَّ: إذا كان بمعنى البارِّ، فهو اسم لكنَّ- على قِراءة التَّشديد-، وخبرها مَن آمَن.
وعلى قراءة تخفيف لكنْ، فالبِرُّ مبتدأ مرفوع، ومَن آمَن خبر، ولا إشكال في هذا الوجه.
وأمَّا إذا كان على معناه البِر، فالتقدير: ولكنَّ البِرَّ بِرُّ مَن آمن، أو: ولكنَّ ذَا البِرِّ مَن آمن، ثم حُذِف المضاف، وأُعرِب المضافُ إليه إعرابَه .
3- قوله: وَالْمُوفُونَ: مرفوع، وفي رفْعه ثلاثةُ أوجه: إمَّا يكون عطفًا على الضمير في آمَن، أي: من آمنوا هُم والموفون، أو على (مَن) في قوله: مَن آمن، أو: يكون خبرًا لمبتدأ محذوف على إضمار (وهم) على المدح للمضمرين، والتقدير: وهم الموفون .
4- قوله: وَالصَّابِرِينَ: مفعول به منصوب لفِعلٍ محذوف، تقديره: أمدح، أو أخص، أو أعني. أو يكون معطوفًا على ذَوَي القُرْبَى- ولا يتَّجه هذا الوجه إلَّا على القول برفْع وَالمُوفُونَ على العطف على الضَّمير في آمَن؛ ليكون داخلًا في صلة مَن؛ لأنه لا يُفصل بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه
.
المعنى الإجمالي:
أخبَر الله عزَّ وجلَّ أنه ليس في التمسُّك بالتوجُّه إلى ناحية المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة، إنْ لم يكن عن أمْرِ الله تعالى، ولكن الخير الحقيقي هو الإيمانُ الجازم بالله تعالى، واليومِ الآخِر، وملائكتِه، وجميعِ كتبه، وكل أنبيائه ورُسلِه، وأنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وحريصٌ عليه، لقرابته، ولليتامى، وللذين لا يجِدون ما يَكفيهم، وللمسافر الذي يمرُّ به وليس معه نفقةٌ توصله لوطنه، وللمستجدي الذي يطلُبُ العطاء، ولأجل فكِّ الرِّقاب.
كذلك من البِرِّ: الإتيانُ بالصَّلاة تامَّة، وإعطاء الزَّكاة المفروضة لمن يستحقُّها، والالتزام بالعهود والوفاء بها، سواء تلك التي مع الله، أو مع الخَلْق.
ومن البِرِّ أيضًا: الصَّبرُ في حال الفقر، والمرض، وحين القتال، وهو أنْ يحبِس المرءُ نفسه عن الجزَع والسَّخَط والشَّكوى؛ فكلُّ مَن اتصف بتلك الصِّفاتِ السالفة الذِّكْر، المشتملة على عقائدَ وأعمالٍ وأخلاق- هم الصَّادقون في إيمانهم، وهم المتَّقون؛ بفِعْلهم المأمورَ، واجتنابهم المنهيَّ عنه.
ثم أعلَم اللهُ المؤمنين بما فرَضه عليهم من المساواة، واعتبارِ المماثَلة في القِصاص بين القتلى، فيُقتل الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَر بالذَّكَر، والأُنثى بالأُنثى.
فإذا عفا أولياءُ المقتول عن الدَّم، سقَط القِصاص عن القاتل، ووجبتِ الدِّيَة، ففي هذه الحالة يجب على العافي ألَّا يُتبِع عفوَه المنَّ والأذى، ولا يكلِّفَ القاتلَ ما لم يوجبه الله تعالى، ولا ما فيه مشقَّة، ممَّا لا يدخُل تحت القُدرة، وعلى القاتل أنْ يُؤدِّيَ ما لزِمه إلى أولياء المقتول من غير مَطْلٍ ولا نَقْصٍ مما وجب عليه، ولا يسيء بقولٍ أو فعل لِمَن عفا عنه.
وفي هذه الأحكام التي شرَعها الله عزَّ وجلَّ من إباحةِ العفو عن القاتل، وأخْذ الدِّيَة بدلًا عن القِصاص: تيسيرٌ وتخفيفٌ من الله تعالى لهذه الأمَّة، ورحمةٌ منه بعباده، لكن مَن يتعدَّى حدودَ الله بعد حدوث العفو- كأن يَقتُلَ الوليُّ القاتلَ بعد عفوِه عنه، أو يُكرِّر القاتلُ جنايتَه مرَّةً أخرى- فللمعتدي في هذا الحال عقابٌ موجِعٌ.
ثمَّ أخبَر الله تعالى عبادَه أنَّ لهم في تشريع القِصاص حياةً، وسيتَّضح لهم ذلك إنْ أعمَلوا عقولَهم وتدبَّروا الآثارَ المترتِّبة على هذا التشريع، فإنَّ مَن أراد القتلَ إذا استحضَر أنَّ وراءه قِصاصًا ينتظرُه، سيكفُّ عن القتلِ، وإذا رأى النَّاسُ القاتلَ مقتولًا قِصاصًا، انزَجروا عن تَكرارِ هذا العمل.
تفسير الآيات:
لَيْسَ الْبِرَّ أنَّ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177).
لَيْسَ الْبِرَّ أنَّ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
أي: ليس الشَّأن في حصول الخير بلزوم التوجه في الصلاة نحو هذه الجهة أو تلك
.
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ.
أي: مَن اتَّصفَ بهذه الأمورِ الآتيةِ من الاعتقادات والأعمال والأخلاق، فقد أخَذَ بمجامعِ الخيرِ كلِّه، فأمَّا الاعتقادات فهي الإيمانُ بالله تعالى، ومن ذلك: الإيمانُ بوجوده وربوبيَّته، وأُلوهيَّته، وأسمائه وصفاتِه، والإيمانُ باليومِ الآخر، ومنه: الإيمانُ بالبَعث والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الآخرة، والإيمانُ بملائكة الرحمن، كالإيمان بوجودِهم وأعمالهم وصِفاتهم، والإيمانُ بالكتب، كالإيمانِ بأنَّ نزولها من عند الله عزَّ وجلَّ، والإيمانُ بأنبيائه عليهم السَّلام، ومن ذلك: الإيمان بأنَّ رسالتهم حقٌّ من عند الله تبارك وتعالى .
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ.
أي: ومِن الأعمال الدَّاخلةِ في مسمَّى البِرِّ: أنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وراغبٌ فيه، فيدفعه صدقةً لأقاربِه، وللصِّغار الَّذين فقدوا آباءهم وهم دون البلوغ ولا كاسبَ لهم، وللمساكين الَّذين لا يجِدون ما يَكفيهم ويُغْنيهم، وللمسافر المجتاز يريد نفقةً تُوصلُه لموطنه، وللطَّالبين حاجةً ممَّا يعرِضُ لهم مِن سوء، ولعِتْق الرِّقاب ونحوها .
وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا.
أي: وأتَوْا بالصَّلاة تامَّةً ومستقيمة، وأعطَوُا الزَّكاة التي فرَضها اللهُ تعالى عليهم إلى مستحقِّيها، وأتمُّوا ما التزموا به من عهودٍ مع الله عزَّ وجلَّ ومع الخَلْق، فلم يَنقُضوها من بعدِ ميثاقها .
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.
أي: الَّذين حبَسوا أنفسهم عن الجزَع والتسخُّطِ وعمَّا يكرَهُه الله عزَّ وجلَّ، في حال فقرِهم، ومرَضِهم، وفي وقت اشتداد القتال في حربِ الأعداء .
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
أي: إنَّ أولئك المتَّصِفين بما سبَق ذِكرُه من عقائدَ وأعمالٍ وأخلاق، هم الصَّادقون في إيمانهم؛ لأنَّ أعمالَهم قد صدَّقت إيمانَهم، وهم المتَّقون؛ لأنَّهم فعَلوا ما أُمروا به، واجتنَبوا ما نُهوا عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى.
أي: فُرِض عليكم- أيُّها المؤمنون- تحقيقُ المساواة واعتبارُ المماثَلة في القِصاص بين القتلى، فيُقتَل الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر، والأُنثى بالأُنثى، فلا تتعدوا بالقصاص إلى غير القاتل والجاني (كما لو قَتلت الأُنثى أُنثى أُخرى، فإنَّ الأنثى الجانية هي التي تُقتل، ولا يَحِلُّ أن يُقتل بهذه الأنثى المقتولة رجلٌ لم يقتلها، ومثل ذلك: الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر) .
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.
أي: إذا عفا أولياءُ المقتول فلم يُطالِبوا بدَمِه، سقَط القِصاصُ عن القاتل، ووجبت عليه الدِّيَةُ، والواجب على العافي عند قَبضِ الدِّيَة ألَّا يكلِّفَ القاتلَ ما لم يوجِبْه الله تعالى عليه، ولا يشُقَّ عليه بما لا طاقةَ له به، وعلى القاتل أداءُ ما لزِمه لأولياء المقتولِ من غيرِ مماطَلةٍ ولا إنقاصٍ للدِّيَة، ولا صدورِ إساءةٍ فِعليَّةٍ أو قوليَّةٍ منه لهم، فعلى أولياء المقتول حُسنُ الاقتضاء، وعلى القاتل حُسنُ القضاء .
ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.
أي: إنَّ ما شرَعه اللهُ عزَّ وجلَّ من إباحةِ العفوِ عن القاتل وأخْذِ الدِّيَة عوضًا عن القِصاص- حُكْمٌ فيه تخفيفٌ من الله تعالى لهذه الأمَّة، ورحمةٌ منه بعباده .
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: مَن تجاوَز ما حدَّه الله تعالى مِن الأحكام السَّابقة للقِصاص- كأنْ يَقتلَ وليُّ المقتولِ القاتلَ بعد العفوِ عنه، أو يعودَ القاتلُ إلى جِنايتِه مرة أخرى- فإنَّ له عقابًا موجعًا، قيل: هو قتلُه في الدنيا، وقيل: عقوبتُه في الآخرة .
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179).
أي: إنَّ في مشروعيةِ القِصاص حياةً، لِمَن أعمَل عقلَه؛ ليتدبَّرَ ويفهمَ عن الله تعالى مرادَه من هذا الحُكم، فينزجِر ويجتنِب القتل؛ فإنَّ مَن أراد القتل إذا علِم أنَّه يُقتَل قِصاصًا بمن قتَله، كفَّ عن القتل؛ فكان في ذلك حياةٌ له ولِمَن أراد قَتْلَه، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا انزَجر بذلك غيرُه، كما أنَّه كان في أهل الجاهليَّةِ مَن إذا قُتل الرَّجلُ مِن قومهم قتَلوا به أكثرَ مِن واحد من عشيرةِ القاتل؛ فشرَع اللهُ تعالى القِصاص، فلا يُقتَلُ بالمقتولِ غيرُ قاتلِه، وفي ذلك حياةٌ لقومِه
.
الفوائد التربويَّة:
1- في قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ الترتيب في الإنفاق، فأولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، ثمَّ اليتامى؛ لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى، ثمَّ المساكين الذين لا مال لهم حاضرًا ولا غائبًا، ثمَّ ابن السبيل الذي قد يكون له مالٌ غائب، ثم السائلين الذين منهم صادقٌ وكاذب، ثم ذَكَرَ الرِّقاب الذين لهم أربابٌ يَعُولُونهم. فكلُّ واحدٍ ممن أُخِّر ذكره أقلُّ فقرًا ممن قُدِّم عليه
.
2- ينبغي الصَّبرُ على جميع أنواع الضُّر، وقد استوعبتْ هذه الجملة وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ جميعَ أنواع الضرِّ؛ لأنَّه إمَّا يحتاج إلى الصبر في شيءٍ يَعوزُ الإنسانَ أو يُريده فلا يناله، وهو البأساء، أو فيما نال جِسمَه من ألَمٍ وسقمٍ، وهو الضرَّاء، أو في مدافعةٍ مُؤذيةٍ له، وهو البأس
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ في نصْبِ الصَّابِرِينَ- بتقدير: أخصُّ أو أمدَحُ- تنبيهًا على خَصيصيةِ الصَّابرين ومزيَّةِ صفتِهم الَّتي هي الصبرُ
.
2- في قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى دَلالةٌ على أنَّ تنفيذَ القِصاص من مقتضى الإيمان؛ لأنَّ الخطابَ موجَّهٌ للمؤمنين .
3- أنَّ فاعلَ الكبيرة لا يخرُجُ مِن الإيمان بالكليَّة؛ لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؛ فجعَل اللهُ المقتولَ أخًا للقاتل، ولو خرَج من الإيمانِ لم يكُنْ أخًا له .
4- أنَّ كونَ القِصاص حياةً يحتاج إلى تأمُّل وعقلٍ؛ لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ فيه إيجازٌ بحذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مقامَه؛ إذ التقدير: (ولكن البِرَّ بِرُّ مَن آمن)، أو يكون من باب المبالغة إذا جُعِل (البارّ) نفْس البِر
.
2- قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
- قوله: عَلَى حُبِّهِ أي: مع حبِّ المال، ففيه تَتْميم وتوكيدٌ واحتراس؛ للمبالغة، وللدَّلالة على عِظمِ الأجْر؛ فإنَّ بذْل الإنسان من الشَّيء الذي يحبُّه أبلغ، وأكثر أجرًا وأدْعى لزيادته .
وقوله ذَوِي مفعولٌ أوَّل لـ(آتَى) قُدِّم عليه مفعولُه الثاني (المال)؛ للاهتمام به، أو لأنَّ في الثاني معَ ما عُطف عليه طُولًا؛ ولو رُوعي الترتيبُ، لفات تجاوبُ الأطراف في الكلام، وهو الذي اقتضى تقديمَ الحال أيضًا والله أعلم. وقيل: هو المفعولُ الثاني .
3- في قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا إيثارُ التعبير بصِيغة الفاعِل في وَالْمُوفُونَ وعدم التعبير بالفعل (وأَوفوا)؛ للدَّلالة على وجوب استمرار الوفاءِ .
4- قوله: وَالصَّابِرِينَ نُصِب على الاختصاص والمدح، ولم يُعطَف على ما قبله وَالْمُوفُونَ؛ إظهارًا لفضل الصَّبر في الشدائد، ومواطن القِتال على سائر الأعمال، وحسُن هنا التخالف في إعراب الصِّفات الكثيرة وعدم جعْلها كلِّها جاريةً على موصوفها؛ لأنَّ هذا موضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خُولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل؛ لأنَّ الكلام عند الاختلاف يَصير كأنَّه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، ويُسمَّى ذلك قطعًا؛ لأنَّ تغييرَ المألوفِ يدلُّ على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكورِ ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه .
5- وفي هذه الآية ترتيبٌ حسنٌ بديع:
- ففي قوله: آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ قدَّم الإيمان بالله واليوم الآخِر على الإيمان بالملائكة والكتُب والرسل؛ لأنَّ المكلَّف له مبدأ، ووسط، ومنتهًى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذَّات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخِر، وأمَّا معرفة مصالح الوسط فلا تتمُّ إلَّا بالرِّسالة، وهي لا تتمُّ إلَّا بأمورٍ ثلاثة: الملائكة الآتِين بالوحي، والمُوحَى به: وهو الكِتاب، والموحَى إليه: وهو الرَّسول .
- وقوله: وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ فالمَلَك يوجد أولًا، ثم يحصُل بوساطة تبليغه نزولُ الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرَّسول، فقدَّم الملائكة والكتُب على الرُّسل، وإنْ كان الإيمانُ بوجود الملائكة وصِدق الكتُب لا يحصُل إلَّا بواسطة الرُّسل؛ لأنَّ ذلك رُوعي فيه الترتيبُ الوجوديُّ الخارجي، لا الترتيب الذِّهني .
- وقدَّم الإيمانَ على أفعال الجوارح، وهو: إيتاءُ المال والصَّلاة والزَّكاة؛ لأنَّ أعمال القلوب أشرفُ من أعمال الجوارح، ولأنَّ أعمال الجوارح النافِعة عند الله تعالى إنَّما تنشأ عن الإيمان .
- وفي قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ قدَّم مَن كان أَوْلى أن يتفقدَّه الإنسان بمعروفه وهم أقاربه، ثمَّ عقَّبه باليتامى؛ لأنَّ مواساتهم بعد الأقارب أوْلى، ثمَّ ذكَر المساكين الذين لا مالَ لهم يكفيهم حاضرًا ولا غائبًا، ثمّ ذكر ابنَ السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادقٌ وكاذب، ثم ذَكَر الرِّقاب الذين لهم أربابٌ يَعولُونهم؛ فكلُّ واحد ممَّن أُخِّر ذِكرُه أقلُّ فقرًا ممَّن قُدِّم ذِكره، والله أعلم .
7- قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
- فيه تعدية الفعلعُفِي باللام مع أنَّه يعدى بـ(عن)؛ لأنَّه يتعدَّى بـ(عن) إلى الجاني وإلى الذَّنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذَنبه، وأمَّا إذا تعدَّى إلى الذَّنب والجاني معًا قيل: عفوت لفُلان عمَّا جنَى، فكأنه قيل: فمن عُفي له عَن جِنايته، فاستُغني عن ذِكر الجناية .
- وتنكير شَيْءٌ؛ للإشعار بأنَّه إذا عُفي له طرَفٌ من العفو وبعضٌ منه، بأنْ يُعفى عن بعض الدَّم، أو عفا عنه بعضُ الورثة، فقد تمَّ العفو وسقَط القصاص، ولم تجبْ إلَّا الدِّية .
- وفيه تسمية وليِّ الدم أخًا للقاتل؛ اعتبارًا بأُخوَّة الإسلام، أو استعطافًا له عليه، أو لكونه ملابسًا له مِن قِبَلِ أنَّه وليٌّ للدم، ومطالِبٌ به .
8- التنكير في قوله: حَيَاةٌ يفيد التعظيم؛ فيدلُّ على أنَّ في القصاص حياةً متطاولةً .
=========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (180 - 182)
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
غريب الكلمات:
جَنَفًا: ميلًا ظاهرًا، وعدولًا؛ يقال: جنَف، إذا عدَل وجار
.
مشكل الإعراب:
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ... الْوَصِيَّةُ:
الْوَصِيَّةُ: مرفوعةٌ بالابتداء، والخبرُ محذوف، أي: فعليكم الوصيةُ. ونائب الفاعل لـكُتِبَ حينئذٍ محذوفٌ، تقديره (هو)، أي: الإيصاء، دلَّ عليه قوله: الْوَصِيَّةُ. أو نائب الفاعل عَلَيْكُم.
أو تكون الْوَصِيَّةُ نائبَ الفاعِل للفِعل كُتِبَ، وجاز تذكيرُ الفِعل مع أنَّ لفظ الوصية مؤنَّث؛ لأنَّه أراد بالوصية الإيصاء، أو لكونِ القائمِ مقامَ الفاعل الْوَصِيَّةُ مؤنَّثًا مجازيًّا، وفُصل بينه وبين مرفوعه بفاصل؛ لأنَّ الكلام لَمَّا طال كان الفاصل بين المؤنَّث والفِعل كالعِوَض من تاء التأنيث، والعرب تقول: حضَر القاضي امرأةٌ، فيُذكِّرون؛ لأنَّ القاضي بين الفِعل وبين المرأة
.
المعنى الإجمالي:
فرَض اللهُ على المؤمنينَ في هذه الآياتِ حين يشرف أحدُهم على الموت، وتأتيه أسبابُه إنْ كان لديه مال: أنْ يوصيَ ببعضِه إلى والديه وأقاربِه، مَن كان منهم غيرَ وارثٍ، مِن غير سرَفٍ ولا تقتير، مراعيًا فيه الأقربَ والأحوجَ، من غير ضررٍ بالوَرَثَة، هذا الأمرُ بالوصيَّة أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على مَن اتَّصَف بالتَّقوى.
فمَن غيَّر الوصيةَ بعد سماعِه لها من الموصي بالزِّيادةِ أو النقصان، أو غيرِ ذلك، فقد تحمَّل هو الإثمَ، وبرِئَت ذِمَّة الموصي، والله تعالى سميعٌ عليمٌ وسيُجازي كلًّا بما يستحقُّ.
ومَن خشِي أنْ يَميلَ الموصي في وصيَّتِه عن الحقِّ والعدلِ، سواء بالخطأ غيرِ المقصود، أو كان متعمِّدًا، فلا إثمَ عليه أنْ يقومَ بنصيحتِه وتوضيحِ التَّصرُّف الصَّحيح للموصي، أو يقومَ بتعديلها بما يوافقُ الشَّرعَ بعد موتِ الموصي، وبهذا يزولُ فسادُ الوصية، ويحلُّ ما قد يحصُلُ مِن شِقاقٍ بين الموصي والوَرَثَة، أو بين الوَرَثَة مع الموصَى لهم.
تفسير الآيات:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان في الخِطاب السَّابق ذِكْرُ القَتْلِ، والقِصاص الذي هو حالُ حضور الموتِ، انتظَم به ذِكرُ الوصيَّة؛ لأنَّه حالُ مَن حضَره الموتُ، فقال تعالى
:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180).
أي: فُرِضَ عليكم- أيُّها المؤمنون- إذا أتَتْكم أسبابُ الموت ومقدِّماتُه، وكان لديكم مالٌ: أنْ تعهَدوا ببعضِ هذا المال إلى الوالديْنِ اللَّذيْن لا يرثان لمانع، وإلى الأقارب الذين لا يرثون، وذلك مِن غير إسرافٍ ولا تقتير، ولا اقتصارٍ على الأبعدِ دون الأقرب، بل يُرتَّبون على القُربِ والحاجة، ودون إجحافٍ بالوَرَثةِ، فلا تُتجاوَزُ الوصيةُ لأولئك بأكثرَ من ثُلُث المال، وهذا أمرٌ ثابتٌ ومؤكَّدٌ على المتَّصفين بالتَّقوى .
عن أبي أمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في خطبتهِ عامَ حجةِ الوداعِ: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى، قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيةَ لوارثٍ )) .
وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: ((تشكَّيتُ بمكةَ شكوى شديدةً، فجاءني النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يعودني، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إني أترك مالًا، وإني لم أترك إلا ابنةً واحدةً، فأوصي بثُلثَيْ مالي وأتركُ الثُّلثَ؟ فقال: لا. قلتُ: فأُوصي بالنِّصفِ وأترك النصفَ؟ قال: لا. قلتُ: فأوصي بالثلثِ وأترك لها الثُّلثين؟ قال: الثُّلثُ، والثُّلثُ كثيرٌ )) .
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ سبحانه وتعالى أمرَ الوصيةِ ووجوبها، وعظَّم أمرها، أتبَعه بما يَجري مجرى الوعيد في تغييرها، فقال تعالى :
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181).
أي: فمَن غيَّر الوصية بعدَما سمعها من الموصي بأنْ زاد فيها أو أنقَص أو غير ذلك، فقد تعلَّق الإثمُ به، أمَّا الموصي من غير جَنَفٍ ولا إثم فقد برِئَتْ ذمَّته، والله تعالى يسمع ويعلَمُ حالَ الاثنينِ، الموصي والمبدِّلِ وصيَّتَه، ويجازي كلًّا بما يستحقُّ .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182).
أي: فَمَنْ خاف أنْ يَحيد الموصي في وصيَّته عن الحقِّ، سواءٌ عن غير قصدٍ منه، أو متعمدًا؛ وذلك كأن يوصيَ لغير الورثة بأكثرَ من ثُلث ماله، فهذا لا إثمَ عليه إنْ نصَح الموصي في حياتِه بتبديل الوصيةِ، فبدَّلها، أو قام المصلحُ بتبديلها بعد موته، فعدَّلها على الوجهِ الشَّرعي، وبهذا يزول فسادُ الوصية، ويزول معه أيُّ شِقاقٍ وقَع بين الموصِي والوَرَثة، أو بين الوَرَثة والموصَى لهم
.
الفوائد التربويَّة:
1- أهميَّة صِلة الرَّحِم؛ حيث أوجب الله الوصيةَ للوالدينِ والأقربين بعد الموت؛ لأنَّ صِلة الرَّحِم من أفضل الأعمال المقرِّبةِ إلى الله تعالى
.
2- أنَّ المتَّقين هم الَّذين يراعون فرائضَ الله؛ ولذلك وجَّه الخطابَ إليهم؛ لقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ .
3- فضيلة القيام بالإصلاح؛ لقوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، خَصَّ الوالديْنِ والأقربين بالوصية؛ قيل: لأنَّهم مظنَّة النِّسيان من الموصي؛ لأنَّهم كانوا يُورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة، وقدَّم الوالدينِ للدلالة على أنَّهما أَوْلى وأحقُّ في البَدْءِ بالوصيَّةِ لهما
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ فيه تقديمٌ وتأخير، حيث أخَّر (الوصية) الذي هو نائِب فاعل (كُتِب)؛ للتشوُّف إليه
. وهذا بناءً على أنَّ (الوصية) نائب فاعل لـ(كتب)، وأمَّا على كون (الوصية) مرفوعة بالابتداء؛ فليس فيها تقديم ولا تأخير.
2- قوله: لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ قدَّم الوالدين؛ للدَّلالة على أنَّهما أرجحُ في الابتداء بالوصية لهما .
3- قوله: حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ فيه تأكيد للوجوب بقوله: حَقًّا، وكذا قوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ؛ فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على مَن يسأله عن النَّقير والقِطمير .
4- قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فيه حصر، والضَّمير في قوله: إِثْمُهُ عائد إلى التبديل، أي: إنَّ إِثم ذلك التبديل لا يعود إلَّا إلى المبدِّل .
- وفيه: إقامة الظاهر مقامَ المضمر؛ لزيادة الاهتمام بشأنه، ولو جرَى على نسَق الكلام السابق لقال: (فإنَّما إثمُه عليه وعلى مَن يبدِّله)؛ وذلك للتَّشهير والمناداة بفضائح المبدِّلين، وليشعر بعِلِّيَّة الإثم الحاصل، وهو التبديل .
5- قوله: إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في هاتين الصِّفتين: سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديدٌ ووعيدٌ للمبدِّلين؛ إذ لا يَخفى عليه تعالى شيءٌ، فهو يُجازيهم على تبديلهم شرَّ الجزاء ، مع ما فيه من تأكيدِ الخبر بـإِنَّ واسميَّة الجملة، وما في صِيغة (فَعيل) من المبالغة.
===========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (183 - 188)
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
غريب الكلمات:
فِدْيَةٌ: عِوض؛ وأصل (فدي): جَعْلُ شَيْءٍ مكانَ شَيْءٍ حِمًى له
.
الْفُرْقَانِ: المُخرِج من الشُّبهة، والمميِّز بيْن الحقِّ والباطل، وأصلُه من الفَرْق، وهو الانفصال، والتمييز والتزييل بين شيئين .
الرَّفَثُ: المقصود به هنا الجِماع، والرَّفث في الأصل: هو التصريحُ بِمَا يجب أَن يُكنى عَنهُ من ذِكر النِّكَاح، وكلِّ كلامٍ يُستحيا مِن إظهارِه والإفصاح عنه؛ فيشمل الجماعَ ومُقدِّماتِه، وما يتَّصل به من قولٍ وفِعل .
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُم: أي: بمنزلة اللِّباس، وهو كنايةٌ عن شِدَّة المخالطة التي تُوجِبُ قِلَّةَ الصبر عنهنَّ، أو لأنَّ كلًّا منهما يستُر حالَ صاحبِه، ويمنعُه من الفجور؛ فأصلُ اللِّباس: المخالطة والمداخلة، والسِّتر كذلك .
تَخْتَانُونَ: تخونون بارتكابِ ما حُرِّم عليكم، وهو افتِعالٌ من الخِيانة، وهي مخالفة الحقِّ بنقض العهد في السِّرِّ .
عَاكِفُونَ: مُقِيمون، جمْع عاكِف؛ يقال: عكَف على كذا إذا أقام عليه .
تُدْلُوا بها: تُصانِعوا، وتدْفَعوا بها، وأصل (دلي) يدلُّ على مُقاربةِ الشَّيءِ ومُداناتِه بِسُهولةٍ ورِفقٍ
.
مشكل الإعراب:
1- قوله: فِدْيَةٌ طَعَامُ:
فِدْيةٌ: مرفوعٌ بالابتداء، وخبرها محذوف، والتقدير: فعَليهِ فِديةٌ.
طَعَامُ: مرفوعٌ، بدلٌ مِن (فِديةٌ)، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: (هي)- على قراءة تنوين (فديةٌ)، أو مجرور مضاف إليه لفِدية على قراءةِ ضم (فديةُ) من غير تنوين
.
2- قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ:
قَرِيبٌ: خبرٌ أوَّل لـ(إنَّ).
وجملة أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ: خبَر ثان لـ(إنَّ)، وليس صفةً له
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِر اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين بفَرْض الصِّيام عليهم؛ من أجلِ تحقيقِ التَّقوى، وأنَّه قد فُرِض أيضًا على الأُمَم السابقةِ من قَبلهم.
ومِن تيسيره سبحانه على عبادِه أنْ فرَض الصيامَ أيَّامًا قليلة، وأنَّ مَن كان مريضًا، أو مسافرًا فأفطَر، فعليه قضاءُ ما أفطره، ثم خيَّر اللهُ تعالى مَن كان قادرًا على الصِّيام، بَيْن الصِّيام والفِطر، فإنْ أفطَر، فعليه إطعامُ مِسكينٍ عن كلِّ يوم أفْطَره، فإنْ أطعَم أكثرَ من مسكين فهو أفضلُ، والصَّوم أفضلُ من جميعِ ذلك؛ فمَن علِم ما فيه مِن الخير، فإنَّه لن يتهاونَ فيه، ثمَّ نسَخ عزَّ وجلَّ هذا التَّخييرَ في حقِّ القادر، فأوجَب عليه الصَّومَ، وبقِي الفِطرُ والإِطعام للعاجِز عن الصِّيام.
ومدَح اللهُ عزَّ وجلَّ شهرَ رمضان، مبيِّنًا إحدى أعظمِ فضائِله، وهي نزولُ القرآن فيه، ووصَفَه بأنَّه يُرشد النَّاس إلى كلِّ خير، وأنَّه مشتملٌ على الآياتِ الواضِحات، ومبيِّنٌ لطُرق الهداية، وفارقٌ بين الحقِّ والباطل، ثمَّ بيَّن جلَّ وعلا وجوبَ صيام هذا الشَّهر العظيم على مَن كان حاضرًا مُقِيمًا، وأمَّا مَن كان مريضًا أو مسافرًا فأفطر، فعليه القضاءُ لإكمالِ عِدَّة ما أفطَر؛ وهذا تيسيرٌ منه سبحانه على عِباده، وهو يحبُّ منهم أنْ يُعظِّموه شاكرينَ له على ما هداهم إليه من نِعمة الصِّيام، وفضْلِه بتيسيرِ الأحكام.
ثمَّ خَاطَب اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم: إذا سألَك عِبادُ الله عن قُربه، فإنَّه قريبٌ، يستجيبُ دعاءَ مَن دَعاه، فعليهم أنْ يُطيعوه وينقادوا له، ويتيَقَّنوا أنَّه يُثِيب مَن أطاع، ويُجيب مَن دعا؛ لعلَّهم يُوفَّقون بهذا إلى الحقِّ.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه أباح لعباده مُجامَعةَ نسائهم في ليالي الصيام؛ فإنَّ كلًّا من الزَّوجين بمثابةِ اللِّباس للآخَر، وأخبَرهم أنَّه علِم أنَّهم كانوا يُراودون أنفسَهم على مباشرةِ نسائهم ليلًا، وعلى الأكْل بعد النوم، قبل أن يطلُعَ الفجر، بل إنَّ بعضهم قد فعَلَ ذلك، فأباحَ اللهُ لهم الأكْلَ والشُّرب والجِماعَ في ليالي الصوم رحمةً بهم، إلَّا أنَّه سبحانه قد تجاوَز عنهم ما فعَلوه من قبلُ، وتاب عليهم، فأباح لهم ما كان حرامًا من المواقَعة للنِّساء، فلهم الآن أنْ يجامِعوهنَّ، قاصدين بذلك ما قدَّره الله تعالى من الولَدِ، وليلةَ القَدْر التي ينبغى ألَّا تشغَلَهم متعةُ الجِماع عنها، بل عليهم الحرصُ على طَلبِها، وممَّا أباحه اللهُ لهم أيضًا أنْ يأكلوا ويَشرَبوا في جميع أوقات اللَّيل، حتى يتضحَ بياضُ النَّهارِ من سواد اللَّيل، فحِينَها يجبُ عليهم الإمساكُ عن الأكْل والشُّربِ والجِماع إلى أنْ غُروبِ الشَّمس، ثمَّ نهى الله عزَّ وجلَّ المؤمنين عن الجِماعِ وهم معتكِفون في المساجدِ، مبيِّنًا أنَّ الأمورَ التي يجبُ اجتنابُها مِن الأكْل والشُّربِ والجِماع في نهارِ رمضانَ، والجِماع حالَ الاعتكاف في المساجد- محرَّماتٌ يجب أنْ يَجتنبوها، وألَّا يَقرَبوها، وكما بيَّن اللهُ أحكامَ الصِّيام بيانًا تامًّا، يُبيِّن أيضًا باقيَ أحكام الشَّريعة الأخرى في كتابه، وعلى لسانِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ليعلَم النَّاسُ كيف يُطيعون الله؛ فِعلًا للمأموراتِ، واجتنابًا للمنهيَّاتِ.
ثمَّ نهاهم اللهُ سبحانه وتعالى عن أكْلِ أموال بعضهم بعضًا بغير حقٍّ، ونهاهم عن الاحتيالِ بأنْ يتوصَّلوا بحُكْم الحاكم إلى أكلِ طائفةٍ من أموال النَّاس بالحرام، مع عِلمهم بأنَّ ما يقُومون به حرامٌ.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ.
أي: يُخبِر اللهُ تعالى المؤمنينَ به وبرسولِه مِن هذه الأمَّةِ بفَرْض عِبادةِ الصِّيام عليهم
.
والصِّيام: هو التعبُّدُ لله تعالى بالإمساكِ عن الأكْلِ والشُّرب والجِماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
أي: فُرِضَت عليكم عِبادةُ الصِّيام كَما فُرِضت أيضًا على الأُممِ السَّابِقة .
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
أي: من أجل الوصولِ بصِيامِكم إلى مَرتبةِ التَّقوى .
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) .
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ.
أي: إنَّ هذا الصِّيامَ مفروضٌ عليكم في أيَّامٍ قليلةٍ، مَحصيَّة ساعاتُها ، وهي أيَّامُ شهرِ رَمضانَ .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
أي: مَن كان مِن المؤمنين في حالِ مرضٍ أو سَفَر، فأفطَر، فعليه أنْ يَقضيَ صيامَ الأيَّام الَّتي أفطَرها في أيَّامٍ أخرى .
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ... وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الناسخ والمنسوخ:
هذا الحُكمُ المذكور في الآية منسوخٌ؛ إذ لَمَّا فرَض الله تعالى الصَّومَ في صدْر الإِسلام، كان المسلِمُ يُخيَّر بين الصَّوم وإطعامِ مسكينٍ عن كلِّ يوم أفْطَره، فإنِ اختار الصيامَ كان خيرًا له، ثمَّ نَسَخ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا التخييرَ في حقِّ القادِر على الصيام بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فأوجب عليه الصومَ، وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنه .
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ.
أي: يجبُ على مَن استطاع الصِّيامَ ولم يصُمْ، أنْ يُقدِّمَ عن كلِّ يومٍ أفطَره طعامًا لمسكينٍ .
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
أي: مَن أطعَم أكثرَ مِن مسكين، فذلك أفضلُ من إطعامِ مسكينٍ واحدٍ عن كلِّ يومٍ أفطَره .
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
أي: صيامُ ما كُتِبَ لكم، خيرٌ لكم مِن أنْ تُفطِروا وتُطعِموا .
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: إذا عرَفتُم ما في الصَّومِ مِن الخيرِ لكم، فإنَّكم لن تتهاونوا في الصِّيام .
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185).
شَهْرُ رَمَضَانَ.
أي: الأيَّامُ المعدودات هي شهرُ رمضانَ .
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
قيل: المعنى: أنَّ القرآنَ نزَل جُملةً واحدة- أي:كاملًا- مِن اللَّوحِ المحفوظ إلى السَّماء الدُّنيا في ليلة القَدْر مِن شَهرِ رمضان ، وقيل: المعنى: أنَّ ابتداءَ نزولِ القُرآنِ على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان في ليلةِ القَدْر من شهرِ رَمضانَ .
هُدًى لِلنَّاسِ.
أي: إنَّ القرآنَ يُرشد النَّاسَ، ويدُلُّهم على طريقِ الحقِّ .
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.
أي: إنَّ القرآنَ مشتمِلٌ على آياتٍ واضحات، وهي دَلائلُ وبراهينُ جليَّةٌ، تبيِّن الحقَّ، وتُرشِد إليه، وتُثبِت صِدقَ ما في القرآن مِن أخبارٍ، وعَدْلَ ما فيه من أحكامٍ، وتَفصِل بين الحقِّ والباطل .
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
أي: فمَن كان حاضرًا مُقِيمًا في بلدِه، فقد وجَب عليه صيامُ ما حضَرَه من أيَّام الشَّهر .
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
أي: إنَّ مَن كان في حالِ المرَض أو السَّفر، فأفطَر، فعليه أنْ يقضيَ الصِّيامَ في أيَّامٍ أخرى، بعدَد الأيَّام الَّتي أفطَرها .
يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
أي: إنَّما رخَّص اللهُ تعالى في الإفطار لِمَن كان مريضًا، أو مسافرًا، وشرَعَ قضاءَ ما أفطَره؛ لأنَّه يحبُّ أنْ يُخفِّف عن المؤمنين، ويُسهِّل عليهم أحكامَه .
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.
أي: ويُريد اللهُ تعالى أنْ تُكمِلوا العِدَّة، والمعنى: يريدُ اللهُ شرعًا- أي: يُحِبُّ- أنْ تُكمِلوا عدَّةَ شهر رمضان بقضاءِ الأيَّام الَّتي أفطَرْتموها منه .
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ.
أي: ويُريد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تُكبِّرُوه، والمعنى: يُريد اللهُ شرعًا- أي: يُحبُّ- أنْ تُعظِّموه بقول: اللهُ أكبَرُ، وذلك بعد انقضاءِ شهرِ رمضانَ؛ لِمَا أنعَم به عليكم من إرشادكم إلى هذا الشَّهرِ، وتشريع صومه وأحكامه، وتوفيقكم لتحقيق صيامه وإتمامِه .
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: من أجْل أنْ تكونوا بتكبيرِكم اللهَ عزَّ وجلَّ، وبالقيام بغير ذلك من أنواع شكره كأداء فرائضه وترك محارمه، مِن الشَّاكرين لنِعمة اللهِ تعالى عليكم بصِيام شهرِ رمضانَ، وتيسيرِه أحكامَه عليكم .
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186).
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.
أي: إذا سأَلك المؤمنون عن قُرْبي يا محمَّدُ، فأنا قريبٌ منهم، وأستجيبُ لدعاءِ مَن دعاني منهم، سواءٌ كان دعاءَ عبادةٍ فأُثيبهم عليها، أو دعاءَ مسألةٍ فأُعطيهم ما طلبوا .
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
أي: فلينقادوا لي، ممتثِلين أوامري، ومجتَنِبين نواهيَّ، وليؤمنوا بأنِّي أُثيبهم على انقيادِهم لي، وأُجِيب دعاءَهم وتضرُّعَهم لي، من أجل إصابةَ الحقِّ بذلك، والتَّوفيقَ للعِلم النَّافع والعملِ الصالح .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).
سبب النُّزول:
عن البَرِاء رضي الله عنه، قال: ((كان أصحابُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم إذا كان الرجلُ صائمًا، فحضَر الإفطارُ، فنام قبل أنْ يُفطِر، لَم يأكُلْ ليلتَه ولا يومَه حتى يُمسِيَ، وإنَّ قيسَ بنَ صِرْمَةَ الأنصاريَّ كان صائمًا، فلمَّا حضَر الإفطارُ أتى امرأتَه فقال لها: أعندكِ طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أنطلِقُ فأطلُب لك، وكان يومَه يعملُ فغلبتْه عيناه، فقالت: خيبةً لكَ، فلمَّا انتصَف النَّهارُ، غُشِي عليه، فذُكِر ذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فنزَلَتْ هذه الآيةُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، ففرِحوا بها فرَحًا شديدًا، ونزلت : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)) .
وعن البَراءِ رضي الله عنه، قال: ((لَمَّا نزَل صومُ شهر رمضان، كانوا لا يقرَبون النِّساءَ رمضانَ كلَّه، فكان رجالٌ يخُونون أنفسَهم، فأنزَل اللهُ: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ الآية) )َ .
وعن سَهْلِ بن سعدٍ رضي الله عنه، قال: ((أُنزِلت: كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، ولم ينزل:مِنَ الْفَجْرِ، فكان رِجالٌ إذا أرادوا الصومَ ربَط أحدُهم في رِجْليه الخيطَ الأبيضَ والخيطَ الأسود، فلا يزال يأكل ويشرَبُ حتى يتبيَّنَ له رؤيتُهما، فأنزَل الله بعدُ: مِنَ الْفَجْرِ، فعلِموا أنَّه إنَّما يعني اللَّيلَ والنَّهارَ )) .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.
أي: أُبِيح لكم في ليالي الصِّيام الإفضاءُ إلى نسائِكم، أي: مجامعتُهنَّ .
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ.
أي: إنَّ كلًّا مِن الزَّوجِ والزَّوجة بمثابةِ اللِّباس للآخَر، وذلك تعبيرٌ عن انضمامِهما متجرِّدَيْنِ، وشدةِ امتزاجِهما ببعضِهما حال الجِماعِ .
عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ.
أي: عَلِم اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّكم كنتم- أيُّها المؤمنون- تخُونون أنفسَكم بمعصيةِ الله سبحانه، فلا تَفُون بأمرِ الله تعالى لكم بالامتناعِ عن الجِماعِ لياليَ الصِّيام، إلَّا أنَّه قد تاب عليكم بأنْ أحلَّ لكم هذا الَّذي حرَّم عليكم من قبلُ، وتجاوَز عنكم ما سلَف من التخوُّنِ .
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ.
أي: فالآنَ بعد هذه السَّعةِ بإباحة جِماعِ نسائكم، لكم أنْ تُجامِعوهنَّ، واطلُبوا بجِماعِهنَّ ما قدَّر اللهُ تعالى لكم مِن الولد ، وممَّا كتَب الله تعالى لكم أيضًا ليلة القَدْرِ، مِن ليالي شهرِ رمضانَ، فلا ينبغي لكم أنْ تشتغلوا بلذَّةِ الجِماعِ عنها، فتُفوِّتوا أجرها .
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.
أي: أباح تعالى الأكلَ والشُّرب في أيِّ وقتٍ من الليل شاءه الصائمُ، حتى يظهَر ويتميَّز بياضُ النَّهار من سواد اللَّيل، وحينها يجبُ الإمساكُ عن الأكل والشُّربِ والجِماع إلى غروب الشمس .
عن عمرَ بنِ الخطَّابِ، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((إذا أقبَل اللَّيلُ مِن هاهنا، وأَدبَر النَّهار مِن هاهنا، وغربتِ الشَّمسُ، فقد أفطَر الصَّائمُ )) .
وعن عَديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، قال: (( لَمَّا نزلتْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. عَمَدْتُ إلى عِقَالٍ أسودَ وإلى عِقَالٍ أبيضَ، فجَعلتُهما تحتَ وسَادتي، فجعلتُ أنظرُ في الليلِ فلا يَسْتَبِينُ لي، فَغَدَوتُ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فذكرتُ لهُ ذلكَ، فقالَ: إنَّما ذاكَ سوادُ الليلِ وبياضُ النهارِ )) .
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ.
نهى اللهُ تعالى المؤمنين عن الجِماعِ حالَ اعتكافهم للعبادة في بيوتِ اللهِ تبارك وتعالى .
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا.
أي: هذا الَّذي بيَّنه اللهُ تعالى مِن الأحكامِ في هذه الآيةِ- كتحريمِ الأكلِ، والشُّرب، والجِماعِ في نهار الصِّيام، وغير ذلك مِن محرَّمات- قد عرَّفها اللهُ تعالى لعباده، وبيَّنها، لتفصلها عن الحلالِ، وتتميَّزَ لهم، وعليهم أنْ يُبقُوا أنفسَهم بعيدةً عنها .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أي: كما بيَّن اللهُ تعالى لعباده أحكامَ الصِّيام أتمَّ تبيينٍ، فكذلك يُبيِّن أيضًا سائرَ الأحكام الأخرى في كتابِه أو على لسانِ رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ، ويوضِّحُها لهم أكملَ إيضاح؛ كي يقوموا بأحكامِه؛ فِعلًا لِما أمَر، واجتنابًا لِما نهى .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا حذَّر الله تعالى من الجُرأة على مخالفة حُكم الصِّيام غيرِ المأذون فيه في قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ، وهو ضربٌ من الأكْل الحرام- عطَف عليه أكلًا آخَرَ مُحرَّمًا، وهو أكلُ المال بالباطل . وأيضًا لَمَّا سبَق في آيات الصِّيام تحريمٌ لأشياءَ خاصَّة في زمانٍ خاصٍّ- ذكَر عَقِبَه ما تحريمُه عامٌّ في زمانه، وهو أكْل أموال النَّاس بالباطل ، فقال:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
أي: لايأخُذْ بعضُكم أموالَ بعضٍ بغير الطُّرق التي أباحها اللهُ تعالى لذلك .
ثم أفرد الله تعالى بالذِّكر أحدَ أنواع أكْل أموال الناس بالباطل، فقال:
وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ.
أي: لا تتوصَّلوا بحُكم الحاكم إلى أكلِ الأموال بغير حقٍّ؛ وذلك كأن يجحَدَ امرؤٌ الحقَّ الذي عليه، وليس عليه بيِّنة، ثمَّ يُخاصمه عند القاضي، فيطلُب القاضي من المدَّعِي بيِّنةً، فإن لم تكُنْ له بيِّنة طلَب من المدَّعَى عليه اليمينَ، فإذا حلَف بَرِئ، فتوصَّل إلى جَحدِ مالِ غيره بالمحاكمة، أو يتوصَّل إلى ذلك برِشْوة الحاكم بالمالِ؛ ليحكمَ له بتلك الأموالِ بغير حقٍّ .
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: فتكونون بذلك آكِلينَ طائفةً مِن أموال النَّاس بالحرامِ، وأنتم تعلَمون أنَّكم واقِعونَ في الحرام
.
الفوائد التربويَّة:
1- النَّظر في حِكمة الله سبحانه وتعالى في تنويعِ العبادات؛ فمِنها ما هو ماليٌّ محضٌ: كالزَّكاة، ومنها ما هو بدنيٌّ محضٌ؛ كالصَّلاة، ومنها ما هو مركَّبٌ منهما: بدَنيٌّ، وماليٌّ: كالحجِّ، ومنها ما هو مِن قَبيل التُّروك: كالصِّيام؛ وذلك ليتمَّ اختبارُ المكلَّف؛ لأنَّ مِن النَّاس مَن يَهُون عليه العملُ البدنيُّ دون الماليِّ، ومنهم مَن يكونُ بعكسِ ذلك، وهكذا
.
2- تَسليةُ المكلِّف لِمَن كلَّفه بعمل؛ ليهُون عليه القيامُ به، ومن ذلك: الإشارةُ إلى تكليفِ غيرِه به من قَبلُ؛ لقوله تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذين مِنْ قَبْلِكُمْ، ومن ذلك أيضًا: التعبيرُ بكلماتٍ يكونُ بها تهوينُ الأمرِ على المكلَّف؛ لقوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودُاتٍ .
3- يَنبغي سلوكُ الأسبابِ الموصِّلة إلى تحقيقِ التَّقوى؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أوجَب الصِّيامَ لهذه الغايةِ في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
4- النَّظَر في حِكمةِ الله سبحانه وتعالى في التدرُّج بالتَّشريع؛ حيث كان الصِّيامُ أوَّلَ الأمرِ على سبيلِ التَّخيير، فإمَّا أنْ يصومَ، وإمَّا أنْ يُطعِمَ كما قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، ثمَّ تعيَّن الصِّيامُ على القادرِ بعد ذلك .
5- أنَّ مِن شرط إجابةِ الدُّعاء أنْ يكونَ الدَّاعي صادقَ الدَّعوة في دعوةِ الله عزَّ وجلَّ؛ بحيث يكون مخلصًا مُشعِرًا نفسَه بالافتقار إلى ربِّه، ومشعِرًا نفسَه بكرَمِ الله وجُودِه؛ لقوله تعالى: إِذَا دَعَانِ .
6- أنَّ الإنسانَ كما يخُون غيرَه قد يخُون نفسَه؛ وذلك إذا أوقَعها في معاصي اللهِ؛ فإن هذا خيانةٌ، وعلى هذا فنفسُ الإنسان أمانةٌ عنده؛ لقوله تعالى: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 187] .
7- أنَّه ينبغي البُعدُ عن المحارمِ؛ لقوله تعالى: فَلَا تَقْرَبُوهَا .
8- أنَّ العِلم سببٌ للتَّقوى؛ لقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، ووجهُه: أنَّه ذكَره عقِبَ قولِه تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ؛ فدلَّ هذا أنَّه كلَّما تبيَّنتِ الآياتُ حصَلت التَّقوى، ويؤيِّدُ ذلك قولُه تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، فكلَّما ازداد الإنسانُ عِلمًا بآياتِ الله، ازداد تُقًى؛ ولهذا يُقال: مَن كان باللهِ أعرَفَ كان منه أخوَفَ .
9- في قوله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187] ، إشارةٌ إلى علوِّ مرتبةِ التَّقوى؛ لكونِ الآياتِ تبيَّنُ للناسِ مِن أجلِ الوصول إليها
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف :
1- مِن فوائدِ التَّشبيه المذكور في قوله تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذين مِنْ قَبْلِكُمْ: استكمالُ هذه الأمَّةِ للفضائلِ الَّتي سَبَقت إليها الأممُ السَّابقة، وليكون للمسلمين فيه أُسوةٌ، وليجتهدوا في أداءِ هذا الفرض بأكملَ ممَّا فعَله مَن سبَقهم
.
2- ثبوتُ تفاضُلِ الأعمال؛ لقوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وتفاضُلُ الأعمال يستلزم تفاضُلَ العامل .
3- في قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إثباتُ صِفة العلوِّ لله تعالى؛ لأنَّه أَنزَل القرآن، والإنزالُ إنَّما يكون من عُلْوٍ .
4- أنَّ المشقَّةَ تَجلِب التَّيسيرَ؛ لقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ لأنَّ المرَضَ والسَّفر مَظِنَّةُ المشقَّةِ .
5- في قوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ إثباتُ صِفة الإرادةِ لله تعالى، والمرادُ بها هنا: الإرادةُ الشَّرعيَّة، وهي بمعنى المحبَّة .
6- قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي... إِذَا دَعَانِ تخلَّل الدُّعاء أحكامَ الصيام؛ إشارةً إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدَّة، بل وعند كلِّ فِطر .
7- قيل: إنما قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ ولم يقل: (فقل لهم إني قريب) إيجازًا لظهوره من قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، وتنبيهًا على أنَّ السؤال مفروضٌ غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفةٌ قرآنية، وهي إيهام أنَّ الله تعالى تولَّى جوابهم عن سؤالهم مباشرةً منه إليهم؛ إذ حذف في اللفظ ما يدلُّ على وساطة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تنبيهًا على شدَّة قُرب العبد من ربِّه في مقام الدُّعاء، واحتيج للتأكيد بـ(إنَّ)؛ لأنَّ الخبر غريبٌ، وهو أن يكون تعالى قريبًا مع كونهم لا يرونه .
8- قُيِّدَت هذه الآية بالمشيئة فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء، وأمَّا قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فأطلقت فيه إجابة الدعوة دون تقييدٍ بالمشيئة؛ قيل لأنَّ الآية التي قُيِّدت: جاءت في دعاء الكفار، وجاءت الآية الأخرى في دعاء المؤمنين فلم تُقيَّد بالمشيئة؛ لأنَّ دعاء المؤمن لا يُرَد إلا إذا كان بإثمٍ أو قطيعة، وما جرى مجرى ذلك .
9- قيل: جاء قولُه تعالى: إِذَا دَعَانِ بعد قوله تعالى: الدَّاعِ مع أن الدَّاعي لا يُوصَف بأنه داعٍ إلَّا إذا دعا؛ لأن المراد بقوله تعالى: إِذَا دَعَانِ: إذا صدق في دعائه إيَّاي؛ بأنْ شعَر بأنَّه في حاجةٍ إلى الله تعالى، وأنَّ الله سبحانه قادرٌ على إجابته، وأخلص الدعاء لله عزَّ وجلَّ بحيث لا يتعلق قلبه بغيره .
10- أنَّ الزَّوجةَ سِترٌ للزَّوج، وهو سِترٌ لها، وأنَّ بينهما مِن القُربِ كما بين الثِّيابِ ولابِسِيها، ومِن التَّحصينِ للفُروج ما هو ظاهرٌ؛ لقوله تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ .
11- أنَّه ينبغي أنْ يكونَ الإنسان قاصدًا بوَطْئِه طلَبَ الولَدِ؛ لقوله تعالى: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ .
12- جوازُ أنْ يُصبِح الصائمُ جُنُبًا؛ لأنَّ اللهَ أباح الجِماعَ حتَّى يتبيَّنَ الفجرُ، ولازِمُ هذا أنَّه إذا أخَّر الجِماعَ لَم يغتسِلْ إلَّا بعد طلوعِ الفجرِ، وقد ثبَت عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه كان يُصبِح جُنُبًا مِن جِماع أهلِه، ثم يصومُ .
13- أنَّ بياضَ النَّهار وسوادَ الليل يتعاقبانِ، فلا يجتمعانِ؛ لقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ .
14- أنَّ الاعتكافَ مشروعٌ في كلِّ مسجد؛ لعموم قوله تعالى: فِي الْمَسَاجِدِ .
15- استنبط بعضُ أهل العلم أنَّ الاعتكافَ يكون في رمضان في آخره؛ لأنَّ الله تعالى ذكَر حُكْمه عقِبَ آياتِ الصِّيام؛ وهذا هو الذي جاءت به السُّنَّة .
16- جاء قولُه سبحانه وتعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تقْرَبُوها؛ عقب محرماتٍ، فناسب أن يُنهى عن قربانها، والنهي عن قِربان شيءٍ أبلغُ من النهي عن فعله، وجاء في موضعٍ آخر: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تَعْتَدُوها عَقِبَ أوامر؛ فناسب أن يُنهى عن مجاوزتها .
17- حِرص الشَّارعِ على حِفظ الأموال؛ لقوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ؛ فالأموالُ تقُوم بها أمورُ الدِّين، وأمورُ الدنيا؛ كما قال تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فيه تَكرارٌ للنِّداء؛ لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ، ولبيان حُكمٍ آخَر من الأحكام الشرعيَّة، بعدما سبَق تفصيلُه في الآيات الماضية عن القِصاص
.
2- قوله: كُتِب مبنيٌّ للمفعول- وكذا أمثاله من المكتوبات- وحُذِف الفاعل للعِلم به؛ إذ هو: الله تعالى-؛ لأنَّها مشاقُّ صعبةٌ على المكلَّف، فناسَب أنْ لا تُنسب إلى الله تعالى، وإنْ كان الله تعالى هو الذي كتَبها، وحين يكون المكتوبُ للمكلَّف فيه راحةٌ واستبشار يُبنى الفعل للفاعِل، كما في قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] ، وقوله: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ، وأمثالها، وهذا من لَطيف عِلم البيان .
3- قوله: عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فيه تقديمٌ وتأخير، حيث قدَّم شِبه الجملة عَلَيْكُمُ على نائب الفاعل الصِّيَامُ، والأصل تأخيرها عنه؛ لأنَّ البَداءةَ بذِكر المكتوب عليه آكَدُ مِن ذكر المكتوب؛ لتعلُّق الكَتْب بمَن يؤدِّي .
4- في قوله تعالى: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ عُبِّر عن رمضانَ بأيَّامٍ، وهي جمْع قِلَّة، ووُصفَت بمَعدوداتٍ، وهي جمْعُ قِلَّة أيضًا؛ تهوينًا لأمرِه على المكلَّفين، والمعدوداتُ كنايةٌ عن القلَّة؛ لأنَّ الشيءَ القليل يُعدُّ عدًّا؛ ولذلك يقولون: الكثيرُ لا يُعَدُّ، ولأجْل هذا اختير في وصفِ الجمْعِ مجيئُه بلَفْظ مَعْدُودَاتٍ، وإنْ كان مجيئُه بلفظ (مَعْدودَة)- على طريقةِ الجمْع المُكسَّر الذي فيه هاءُ تأنيثٍ- أكثرَ
5- قوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه حذْف معمول تَعْلَمُونَ؛ إمَّا للاقتصار، أي: إنْ كنتم مِن ذوي العِلم والتَّمييز، وإمَّا للاختصار؛ للدَّلالة عليه، وفَهمه من السِّياق .
6- قوله: فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فيه حذْفٌ، ووضْعٌ للمُظهر المتأخِّر مكانَ المضمَر الأوَّل؛ إذ أصله: فمن شهد فيه فليصم فيه؛ فأضمر (فيه) الأولى، وهذا يُفيد التعظيم والمبالَغة في البيان .
7- وفي قوله: عَنِّي و: إنِّي من قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ: التفاتٌ من غَيْبَة إلى تَكَلُّمٍ؛ لأنَّ قبلَه، وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ، والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، وفيه ما لا يَخفْى من تشريفِه ورفعِ محلِّه .
- وقوله فَإِنِّي: فيه تقريبُ الجواب، وتنبيهٌ على شِدَّة قُرب العبد من ربِّه في مقام الدُّعاء، وإخباره سبحانه وتعالى بنفسه الشريفة دون واسطة؛ إشعارًا بفرط قُربه وحضوره مع كلِّ سائل فقال: فإنِّي دون (فقل إني)، فإنَّه لو أثبت (قل)، لأوهم بُعدًا وليس المقام كذلك، ولكان قوله: فَإِنِّي، موهمًا فيحتاج إلى أن يقال: (إنَّ الله) أو نحوه، ومع ذلك فلا ينفكُّ عن إشكال؛ وإذا كان هذا التلطُّف بالسَّائلين؛ فما ظنُّك بالسالكين السائرين ؟!
- واحتيج للتأكيد بـ(إنَّ)؛ لتأكيد كونه تعالى قريبًا منهم، مع كونِهم لا يَرَوْنه .
8- وردَ قوله تعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بعد قوله سبحانه: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ من باب ذِكر الخاصِّ بعد العامِّ، وفائدته: بيان شدَّة شَناعة هذه الصورة، ولأنها جامعةٌ لمحرماتٍ كثيرة .
=========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (189 - 195)
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
غريب الكلمات:
مَوَاقِيتُ: جمْع مِيقات، وهو مِفْعالٌ من الوقت، وهو الوقتُ المضروبُ للشيء، والوعدُ الذي جُعِل له وَقْتٌ، وقد يُقال المِيقَاتُ للمكان الذي يُجعَل وَقْتًا للشيء، كمِيقَاتِ الحجِّ
.
ثَقِفْتُمُوهُمْ: وجدتُموهم، وظفِرتم بهم، وأصل ثقِف: الحِذق في إدراك الشَّيء وفِعله، وإقامة عِوَج الشيء .
التَّهْلُكَةِ: الهَلَاك، وهو مصير الشيء بحيث لا يُدرى أين هو
.
المعنى الإجمالي:
سأَل النَّاسُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن الحِكمة من تغيُّر أحوال القمَر صِغرًا وكِبرًا على مراحلَ، فأعلَمه الله سبحانه بالجواب الذي يردُّ به على تساؤلِهم، وهو أنَّ الحكمةَ من خَلْق ذلك أنْ يضبطَ به النَّاس شوؤنهم المؤقَّتة بأوقاتٍ؛ كصومِهم، وفِطرهم، وعدَّة نسائهم، وآجالِ ديونهم، وأوقات حَجِّهم، وغيرها.
ثم أخبَر سبحانه أنَّه ليس من الخير ما كان يفعلُه أهلُ الجاهليَّة من غير القُرَشيين، حيث يمتنعون حالَ إحرامِهم من دخول البيوت من قِبَل الأبواب، وإنَّما من الخَلْف، وأعلَمهم أنَّ البِرَّ والخيرَ في تقوى الله تعالى بامتثال أوامرِه، واجتناب مناهيه، وعليهم أنْ يدخلوا البيوتَ من أبوابها، وأن يلتزموا بالتَّقوى؛ بفعلهم المأمورَ، وتركِهم المنهيَّ عنه، رجاء أنْ يصِلوا بتقواهم تلك إلى الظَّفَر بما يطلُبون، والنَّجاةِ ممَّا يحذَرون.
ثمَّ أمَر الله المؤمنين بالقتال في سبيله، مَن يقاتِلُهم مِن مُقاتِلة الكفَّار، ولا يتجاوزوا ذلك إلى قَتْل النِّساء والأطْفال والشيوخ، وغيرهم ممَّن لم يشتركوا في قتالهم؛ فإنَّ ذلك تعدٍّ، والله تعالى لا يحبُّ المتجاوزين لحدودِ ما شرَع.
ثمَّ أمرَ اللهُ تعالى المؤمنين أنْ يقتلوا الكفَّار المقاتِلين لهم في أيِّ موضعٍ وجَدوهم، وأن يقوموا بإخراجِهم من الأماكن الَّتي أخرَجوا الَّذين آمَنوا منها من قبلُ؛ فإنَّ ما هم فيه من الشِّرك بالله تعالى أعظمُ من إزهاق أنفسِهم، كما أنَّ صدَّ المشركين للمؤمنين عن دِينهم؛ ليصيروا مِثلَهم، أشدُّ مِن أنْ يُقْتَلَ المؤمنون وهم مُتمسِّكون بدِينهم.
ونَهى الله المؤمنين عن ابتداءِ الكفَّار بقَتْلٍ وقِتالٍ في المسجد الحرام، لكن إذا ابتدأ الكفَّار فيه بذلك فليقتلهم المؤمنون؛ عُقوبةً لهم مثلما هي عُقوبة كلِّ كافرٍ مُعْتَدٍ، فإنْ تابوا وأسلموا وترَكوا القتالَ، فإنَّ الله يتجاوز عن سيئاتهم، ويرحمهم بتوفيقهم للخير.
ثمَّ كرَّر اللهُ الأمرَ بقتال المشركين؛ لئلَّا يكونَ ثمَّ إشراكٌ باللهِ، وتكون الطَّاعةُ والعبادة لله وحده. فإنْ ترَك هؤلاء المشركون القتالَ، وتابوا إلى الله فقد وجَب الكفُّ عن قتالهم؛ لأنَّه لا يستحقُّ المعاقَبةَ إلا مَن وقع في الظُّلم بشِرك، أو كُفر، أو قَتْل، أو مقاتَلة، وهؤلاء بتوبتِهم قد تخلَّصوا من الظُّلم.
ثم بيَّنَ اللهُ لعباده المؤمنين أنهم إن قاتَلهم المشركون في أحَدِ الأشهر الحُرُم، فليقاتلوهم فيه، فكما انتهكوا للمؤمنين حرمةَ شهرِهم الحرام، فإنَّ للمؤمنين أن يَنتهكوا حُرمةَ شَهرِهم جزاءً عادلًا، ومَن تعدَّى على المؤمنين، فليردُّوا عليه عدوانَه بمِثله، وأمَرَهم بتقواه عزَّ وجلَّ؛ حتَّى لا يتجاوزوا الحدَّ الَّذي رخَّص لهم في المعاقَبة به، وهو العقوبة بالمِثل، وليتيقَّنوا أنَّ اللهَ مع مَن اتَّقاه؛ فامْتَثل المأمورَ وترَكَ المحظورَ.
ثمَّ أمرَ اللهُ المؤمنين بإنفاق المال في أوجهِ القُرَب، ومنها: الإنفاقُ في جهاد أعداء الدِّين؛ إعلاءً لكلمةِ الله تعالى، ونَهاهم عن الوقوعِ فيما يكون سببًا لهلاكهم وعذابهم؛ وذلك بتَرْك ما أمَر الله تعالى به، أو بفِعْل ما نهاهم عنه، ومِنه: بُخْلهم عن الإنفاقِ في سبيل الله، وأمَرهم سبحانه أنْ يتحلَّوا بالإحسانِ في جميع أحوالهم، في معاملتِهم لخالقِهم، وفي تعاملِهم مع المخلوقين مثلهم؛ وذلك لأنَّ الله تعالى يحبُّ مَن كان متَّصفًا بالإحسانِ.
تفسير الآيات:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا أتمَّ الله سبحانه وتعالى البيانَ لِمَا أراده ممَّا شرَعه في شهر الصَّوم ليلًا ونهارًا، وبعض ما تبِع ذلك، وكان كثيرٌ من الأحكام يدور على الهلال، لا سيَّما الحجُّ، وكانت الأهلَّة كالحُكَّام تُوجب أشياءَ وتَنفي غيرها؛ كالصِّيام والدُّيون والزَّكوات، قال سبحانه
:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
أي: يسألُك أصحابُك يا محمَّد عن القمرِ حين يبدو هلالًا في بدايات الشَّهر ونهاياته: ما حِكمةُ هذا التغيُّر، خلافًا للشمس الباقية على هَيئةٍ ثابتة؟ فلقَّنه الله تعالى الإجابةَ بأنَّها خُلِقت؛ ليعرفَ النَّاسُ بها أوقاتَ حَجِّهم، وشهر صومهم، ويوم فِطرهم، وعِدَد نِسائهم، وغير ذلك من أحكامهم .
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا.
سبب النُّزول:
عن أبي إسحاقَ قال: سمعتُ البَراء رضي الله عنه يقول: ((نزلت هذه الآيةُ فينا، كانت الأنصارُ إذا حجُّوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن مِن ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخَل من قِبَل بابه، فكأنَّه عُيِّرَ بذلك فنزلت : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) .
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا.
أي: إنَّ هذا العملَ مع اعتقاده قُربةً، ليس مِن الخير في شيء، فنفَى الله تعالى مشروعيَّتَه؛ وذلك أنَّ أهلَ الجاهلية من سوى القُرشيِّين، كانوا إذا أحرَموا بحجٍّ أو عُمرة لم يدخلوا البيوتَ من أبوابها؛ تعبُّدًا لله عزَّ وجلَّ، فإذا احتاجوا منها شيئًا دخلوا من خلفِها، يظنُّون ذلك خيرًا يتقرَّبون به إلى الله عزَّ وجلَّ .
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا.
أي: إنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو أنَّ يتَّقيَ العبدُ ربَّه عزَّ وجلَّ؛ بامتثال أوامره، واجتنابِ نواهيه، لا التعبُّد بما لم يشرَعْه الله جل وعلا؛ ولذا أمَر بإتيان البيوتِ مِن أبوابها كما هو الأصلُ الَّذي جرَتْ به العادة؛ إذ لا دليلَ يمنَعُ مِن ذلك حال الإحرام .
وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أي: افعَلوا ما أمَركم الله تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك: تَرْكُ الابتداع، والالتزام بالاتباع، من أجل أنْ تظفَروا بما تطلُبون، وتنجُوا ممَّا تحذَرون .
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190).
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ.
أي: قاتِلوا- أيُّها المؤمنون-؛ لأجلِ الله تعالى وحْده، وإعلاءً لدِينه، وبالطريقة الَّتي شرَعها سبحانه، من يُقاتِلونكم من الكفَّار دون مَن سواهم .
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
أي: لا تتجاوَزوا ما حدَّه اللهُ تعالى لكم ممَّا شرَعه مِن أحكام القتال، ومن ذلك عدمُ قتلِ النِّساء والأطفال والشيوخ، وغيرهم ممَّن لم يُعاونوا بأيِّ وسيلةٍ على قتالِ المؤمنين؛ وذلك لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يحبُّ مَن تجاوَز حدودَ ما شرعه، فوقَع في المحرَّمات، سواءٌ في القتال أو غيره .
عن بُرَيدةَ بن الحُصَيب رضي الله عنه: ((أنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سَريَّةٍ، أوصاه في خاصَّتِه بتقوَى اللهِ، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغْزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتِلوا مَن كفَر باللهِ، اغزوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتُلوا وليدًا، وإذا لقِيتَ عدوَّك مِن المشركين فادعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ- أو خِلالٍ-، فأيَّتهنَّ ما أجابوك، فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم )) .
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191).
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
أي: اقتُلوا الكفَّارَ الَّذين يُقاتِلون المؤمنين، في أيِّ مكانٍ ظفِرْتم فيه بهم، وإن لم يكونوا في ساحةِ القتال .
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ.
أي: أخرِجوا هؤلاء الَّذين يقاتلونكم مِن دياركم الَّتي أخرَجوكم منها من قبلُ .
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
أي: إنَّ ما هم عليه من الشِّرك بالله تعالى والكفر به، أمرٌ أعظمُ من إزهاق نفوسهم، كما أنَّ محاولاتهم لصدِّ المؤمنين عن دِينهم؛ ليصيروا مِثلهم من المشركين، أشدُّ مِن أنْ يُقتلوا وهم مستمسِكون بدِينهم؛ فالفتنة تتكرَّر أضرارُها، بينما يحدُث ألَمُ القتلِ مرَّةً واحدة، والقتل يقطَع عن الدُّنيا، لكن الفِتنة قد تقطَع عن نعيم الآخرة .
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، يُقَاتِلُوكُمْ، قَاتَلُوكُمْ قراءتان لكلٍّ منها:
1- وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، يَقْتُلُوكُمْ، قَتَلُوكُمْ أي وَلَا تَقْتُلُوهُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يقتلُوا بَعْضكُم، فإنْ قتلوا بَعْضكُم فاقتلوهم .
2- وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، يُقَاتِلُوكُمْ، قَاتَلُوكُمْ أي لا تحاربوهم حَتَّى يحاربوكم فَإِن حاربوكم فاقتلوهم، والمراد النهي عن قصدِهم بالقتال حتى يكون الابتداء منهم، والقِتَال من اثنين، والقَتْل من الواحد .
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
أي: نهى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين عن ابتداءِ الكفَّار بقتلٍ أو قتالٍ في المسجد الحرام حتى يكونوا هم الَّذين يبدَؤون بذلك، فإن قاتَلوكم أو قتَلوكم، فاقتُلوهم دَفْعًا لعُدوانهم عليكم .
كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ.
أي: كما قرَّرنا القتل جزاءً على من قاتلكم أو قتلكم، فجزاء الكافرين (المعتدين) أيضًا القتلُ، وفي هذا تهديدٌ لهم .
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فإنْ ترَكوا القتال وأسلَموا، فإنَّ الله تعالى يتجاوَزُ عن كلِّ ما سلَف منهم من سيِّئات، وبرحمته يوفِّقُهم للخير الَّذي يُثِيبهم عليه حسنات .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193).
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ.
أي: قاتِلوا المشركين الَّذين يقاتِلونكم حتى لا يكونَ ثَمَّ شِركٌ بالله تعالى، فتكون العبادة والطَّاعة لله عزَّ وجلَّ وحده دون غيره، فهذا هو المقصودُ مِن القتال .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، قال: ((جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: الرجلُ يُقاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقاتِلُ شَجاعَةً، ويُقاتِلُ رِياءً، فأيُّ ذلك في سبيلِ اللهِ؟ قال: مَن قاتَل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، فهو في سبيلِ اللهِ )) .
فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
أي: فإنْ توقَّفوا عن قتالكم وأسلَموا، وأخلَصوا العبادةَ لله تعالى وحده، فقد تخلَّصوا من الظُّلم، فكُفُّوا عنهم؛ فإنَّه لا تحلُّ معاقَبة أحدٍ بقتاله أو قتله، إلَّا لِمَا وقَع منه من ظلمٍ بشِرك أو كُفر أو قَتْل أو مقاتَلة .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أُمرتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فمن قال: لا إلهَ إلا اللهُ، فقدْ عصَم منِّي نفسَه ومالَه إلَّا بحقِّه، وحسابُه على اللهِ )) .
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194).
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ.
أي: إنْ قاتَلوكم في أَحدِ الأشهر الحُرُم، فقاتِلوهم فيه، وقيل: المراد أنَّ الشهرَ الحرام الذي قضى فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمسلمين معه العُمرةَ (وهو شهر ذي القَعدة) أيضًا، جاء في مُقابِل الشَّهر الحرام (شهر ذي القَعدة) الذي صدَّهم فيه المشرِكون عن العُمرة في العام الَّذي سبَق عمرةَ القضاء .
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.
أي: كما انتهكوا لكم حُرمةَ شهرِكم، فقد انتهكتم منهم حرمةَ شهرهم أيضًا، سواءً بسواءٍ، جزاءً عادلًا، وكذا كلُّ شيء يُحترم كالبلدِ الحرام، وغيره من جميع ما أمَر الشرعُ باحترامه، فمن تجرَّأ عليه وانتهك حُرمته، فإنَّه يُقتصُّ منه بمِثله .
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.
أي: هذا أمرٌ من الله تعالى بالعدلِ حتى في شأنِ المعاقَبة، فيُقتصُّ مِن المعتدي بمِثل عُدوانه، دون زيادة .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت النفوسُ لا تقف في الغالب على حدِّها الذي رُخِّص لها في المعاقَبة؛ وذلك لرغبتِها في التَّشفِّي قال تعالى :
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
أي: أمَر تعالى بلزوم تقواه، بعدمِ تجاوزِ ما وجب لهم من القِصاص، ولْيعلَموا معتقدين جازمين بأن اللهَ عزَّ وجلَّ مع عباده المتَّقين الَّذين يمتثلون أوامرَه، ويجتنبون نواهيَه، فيؤيِّدهم وينصُرُهم ويوفِّقهم .
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195).
سبب النُّزول:
عن حُذَيْفَة رضي الله عنه: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ قال: نَزلَتْ في النَّفَقةِ )) .
وعن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه، قال: ((كنَّا بمدينةِ الرُّومِ، فأَخْرَجوا إلينا صَفًّا عظيمًا من الرُّومِ، فخرج إليهم من المسلمينَ مِثْلُهم أو أكثرُ، وعلى أهلِ مصرَ عُقْبَةُ بنُ عامِرٍ، وعلى الجماعةِ فَضَالةُ بنُ عُبَيدٍ، فحمل رجلٌ من المسلمينَ على صَفِّ الرُّومِ، حتى دخل عليهم، فصاح النَّاسُ وقالوا: سبحانَ اللهِ! يُلْقِي بيَدَيْهِ إلى التهلُكةِ، فقام أبو أيوبَ الأنصاريُّ فقال: يا أَيُّها النَّاسُ، إنَّكم لَتُؤَوِّلُونَ هذه الآيةَ هذا التأويلَ، وإنما نَزَلَت هذه الآيةُ فينا مَعْشَرَ الأنصارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللهُ الإسلامَ وكَثُرَ ناصِرُوه، فقال بعضُنا لبعضٍ سِرًّا دون رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ أموالَنا قد ضاعَت، وإنَّ اللهَ قد أَعَزَّ الإسلامَ وكَثُرَ ناصِرُوه، فلو أَقَمْنا في أموالِنا فأَصْلَحْنا ما ضاع منها، فأنزل اللهُ تبارك وتعالى على نَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرُدُّ علينا ما قُلْنا؛ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ، فكانت التَّهْلُكَةُ الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وتَرْكَنا الغَزْوَ، فما زال أبو أيوبَ شاخصًا في سبيلِ اللهِ حتى دُفِنَ بأرضِ الرُّومِ )) .
ولا تعارضَ بين الرِّوايتينِ، بل إنَّ رِواية أبي أيُّوبَ رضي الله عنه هي مُبيِّنة ومفسِّرة للإجمالِ الوارد في رِواية حُذيفةَ بن اليمان رضي الله عنه السَّابقة .
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
أي: أَنفِقوا قُربةً لله عزَّ وجلَّ في وجوه الطاعات- ومن ذلك: الإنفاق في جهاد أعداء الدِّين؛ لإعلاءِ كلمة الله تعالى- واجتَنِبوا إلْقاءَ أنفُسِكم فيما فيه هلاكُها وعذابُها، وذلك بتَرْك ما أمَر الله تعالى به، أو فِعْل ما نهى عنه، ومن ذلك: تَرْك الإنفاق في الجهاد؛ فليستِ التَّهلكةُ أن يُقتَل الرَّجُلُ في سبيل الله تعالى، ولكنَّ التَّهلكةَ في ترْك الإنفاق في سبيله سبحانه .
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: أمَر اللهُ تعالى عبادَه بأن يُحسنوا في كل شيء؛ في معاملتِهم للخالق عزَّ وجلَّ بعبادته كأنَّهم يرَوْنه، وفي معاملتِهم للمخلوقين؛ بذلًا للمعروف، وكفًّا للأذى؛ وذلك لأنَّ الله تعالى يحبُّ المحسنين .
عن شدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ كتَب الإحسانَ على كلِّ شيٍء، فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذَّبحَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، فليُرِحْ ذبيحتَه ))
.
الفوائد التربويَّة:
1- أنَّ العاداتِ لا تجعَل غيرَ المشروع مشروعًا؛ لقوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، مع أنَّهم اعتادوه واعتقَدوه من البِرِّ، فمن اعتاد شيئًا يعتقده بِرًّا، فإنَّ عليه أنْ يعرِضَه على شريعة الله
.
2- أنَّه ينبغي للإنسان أنْ يأتيَ الأمور من أبوابها؛ ليحصلَ على مقصوده؛ لقوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فإن هذه الآيةَ كما تناوَلتِ البيوت الحسِّيَّة تناولت أيضًا الأمورَ المعنويَّة .
3- أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا نَهَى عن شيءٍ فتَح لعباده مِن المأذون ما يقومُ مقامَه؛ فإنَّه لَمَّا نفى أنْ يكونَ إتيانُ البيوت من ظهورها من البِرِّ، بيَّن ما يقومُ مقامَه؛ فقال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا .
4- أنَّه ينبغي للمتكلِّم أنْ يذكُرَ للمخاطَب ما يهيِّجه على الامتثال؛ لقوله تعالى: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ .
5- حُسن تعليمِ الله عزَّ وجلَّ؛ حيث يقرنُ الحُكمَ بالحِكْمَة؛ لقوله تعالى: وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
6- فضيلة التَّقوى؛ حيث ينال العبدُ بها مَعيَّةَ الله؛ وإذا كان الله معك فإنَّه ينصُرك، ويُؤيِّدك، ويثبِّتُك، فهذا يدلُّ على فضيلة السَّبب الذي هو التقوى؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وقد أكَّد الله تعالى هذه المعيَّةَ للمتَّقين بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا؛ فلم يقتصر على مجرَّدِ الإخبار بها، بل أمَرنا أنْ نعلَمَ بذلك .
7- الإشارة إلى الإخلاص في العمل؛ لقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللهِ، ويدخل في هذا: القصد، والتنفيذ؛ بأنْ يكون القصدُ لله، وأن يكون التنفيذُ على حسَب شريعةِ الله؛ كما قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .
8- أن المعتديَ لا يُجازَى بأكثرَ مِن عدوانه؛ لقوله تعالى: بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فلا يقول الإنسان: أنا أريد أنْ أعتديَ بأكثرَ للتشفِّي، ومن ثَمَّ قال العلماء: إنه لا يُقتَصُّ مِن الجاني إلَّا بحضرة السلطان أو نائبِه؛ خوفًا من الاعتداء؛ لأنَّ الإنسانَ يريدُ أنْ يتشفَّى لنفسِه، فربما يعتدي بأكثرَ .
9- في قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الأمر بالإنفاق في سائر وجوه القُربات والطاعات، ومن أهمها: صرف الأموال في قِتال الأعداء، وبذْلها فيما يقوى به المسلمون على عدوِّهم، وأنَّ الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكةٌ للنفس بالشُّحِّ، وتهلكةٌ للجماعة بالعجز والضَّعف، وبخاصَّة في نظامٍ يقوم على التطوُّع، كما كان يقوم الإسلام
10- في الأمرِ بالإحسان بعد ذِكْر الأمر بالاعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهيِ عن الإلقاء باليدِ إلى التَّهلُكة: إشارةٌ إلى أنَّ كلَّ هذه الأحوال يلابِسُها الإحسان ويحفُّ بها؛ ففي الاعتداء مثلًا يكون الإحسانُ بالوقوف عند الحدود، والاقتصاد في الاعتداء، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرِّفق بالأسير والمغلوبِ، وبحِفْظ أموال المغلوبين وديارِهم من التَّخريبِ والتحريق، وغير ذلك . وقوله: وَأَحْسِنُوا يشمَلُ جميعَ أنواع الإحسان؛ لأنَّه لَم يقيِّدْه بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسانُ بالمال، وبالجاه، وبالشَّفاعات، وغير ذلك
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- حِرص الصَّحابة رضي الله عنهم على العلم؛ لقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
.
2- بيان عِلم الله، وسَمْعه، ورحمته؛ لقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ؛ علِم اللهُ بسؤالهم، وسمِعه، ورحِمهم بالإجابة .
3- أنَّ الميقات المعتبرَ هو الذي وضَعه الله للناس- وهو الأهلَّة- فالأصل أنْ يكونَ هو الميقاتَ العالَمي؛ لقوله تعالى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ، وأمَّا التوقيتُ بالأشهر الإفرنجيَّة فلا أصلَ له .
4- إثبات العَدْل لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، والجزاء من جِنس العمل .
5- أنَّ ما كان سببًا للضَّرر فإنَّه منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ .
بلاغة الآيات:
1- قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
- فيه اختصار بليغ؛ إذ نبَّه تعالى بقوله: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ على جميع المنافِع التي تكون في اختلاف أحوال القمر؛ لأنَّ تعديد جميع هذه الأمور يَقضي إلى الإطناب، والاقتصار على البعض دون البعض ترجيحٌ من غير مرجِّح؛ فلم يبقَ إلَّا الاقتصار على كونه ميقاتًا، فكان هذا الاقتصار دليلًا على الفصاحة العظيمة لهذا الكلام البليغ .
- وإفرادُ الحجِّ بالذِّكر لبيان أنَّ الحجَّ مقصورٌ على الأشهُر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه، وأنَّه لا يجوز نقْل الحجِّ من تلك الأشهُر إلى أشهرٍ أخرى، كما كانتِ العربُ تَفعَل ذلك في النَّسيء .
2- قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إيجازٌ بديع؛ فقوله: فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جواب الشرط، وكلُّ سامعٍ يعلم أنَّ وصْف الله تعالى بالمغفرة والرحمة لا يترتَّب على الانتهاءِ، فيَعلم أنَّه تنبيهٌ لحصول المغفرة والرحمة لهم إنِ انتهوا، وهذا من إيجاز الحذْف .
3- قوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
- وضع قوله: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ موضعَ (على المنتهين)، أي: فلا تظلموا إلَّا الظالمين غيرَ المنتهين، فوضَع العِلَّة موضعَ الحُكم، وسمَّى جزاء الظالمين عدوانًا؛ للمشاكلة، والفاء الأُولى للتعقيب، والثانية للجزاء .
- وفي قوله سبحانه فَلَا عُدْوَانَ نفيٌ عامٌّ يُراد به النَّهي، أي: فلا تعتدوا، وذلك على سبيل المبالغة؛ فالعدول عن النهي إلى النفي المحض العام، ألزمَ في المنع؛ إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلًا .
4- قوله: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فيه الإخبار عن الحُرمات بلفظ قِصاص، وهو من باب الإخبار بالمصدر للمبالغة .
5- قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ تفريعٌ عن قوله: وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ، ونتيجةٌ له؛ ففيه من البلاغة: فَذْلَكة التقرير، وسُمِّي جزاءُ الاعتداء اعتداءً؛ مشاكلةً .
6- قوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييلٌ للترغيب في الإحسان؛ لأنَّ محبة الله عبدَه غايةُ ما يطلبه الناس؛ إذ محبَّة اللهِ العبدَ سببُ الصلاحِ والخيرِ دُنيا وآخِرة، واللام للاستغراق العُرفي، والمراد المحسنون من المؤمنين .
==========
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (196 - 203)
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
غريب الكلمات:
أُحْصِرْتُمْ: مُنِعتُم، وأصل الحصْر: الجمْع والحبْس والمنع
.
اسْتَيْسَرَ: تَيَسَّرَ، وَسَهُلَ .
الْهَدْيِ: مُختصٌّ- في هذا الموضِع- بما يُهْدَى إلى البيتِ من الأنعام؛ قربةً إلى الله، وواحدتُه: هديَّة، وهي: كلُّ ما يُهدَى إلى ذِي مَوَدَّةٍ .
مَحِلَّهُ: المَحِلُّ: الموضِع الذي يَحلُّ فيه نَحْر الهدْي .
أَذًى: مَا يُكره ويُغتمُّ به .
نُسُكٍ: جَمْع نسيكة، وهي الذَّبيحة التي تُوزَّع على فُقراء الحرم، وأصل (نسك): يدُلُّ على عبادةٍ وتقَرُّبٍ إلى اللهِ تعالى؛ ومنه قيل للعابد: ناسِك، واختصَّ بأعمال الحجِّ .
جُنَاحَ: إثْمَ، سمِّي بذلك لِمَيله عن طريق الحقِّ؛ فأصله: جَنَح، إذا مال وتعدَّى .
أَفَضْتُمْ: دَفعتُم بِكَثْرَة، وأصل الفيض: جَريانُ الشيء بسُهولة .
خَلَاق: نصيبٌ، وحظٌّ في الخير
.
مشكل الإعراب:
قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ:
فَمَا: الفاء رابطةٌ لجواب الشرط، و(ما) موصولةٌ بمعنى الذي، وهي مبتدأ في محلِّ رفْع، والخبر محذوف، أي: فعليه ما استيسر، ويجوزُ أن تكون (ما) في موضِع نصب مفعول لفِعلٍ محذوف، والتقدير: فلْيُهدِ ما استيسر
.
المعنى الإجمالي:
يأمر اللهُ تعالى مَنْ شرعوا في الحجِّ أو العمرة بإتمام ما شَرَعوا فيه منهما، بأركانه وواجباته، مُخلِصين لله تعالى في ذلك، فإنْ مُنعُوا من الوصول للبيت الحرام لمانعٍ من خوفٍ أو مرضٍ أو لسبب آخر، فلْيَذبحوا ما تيسَّرَ لهم من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وأمرهم سبحانه ألَّا يحلُّوا من إحرامهم إذا أُحصروا إلَّا بعد أن يَبلُغَ الهديُ الذي أوجبه الله عليهم محلَّ نَحْره، وهو موضع الإحصار- فأمَّا غير المُحصَر فيذبحه في الحرم، وإنْ كان في حجٍّ فينحره في يوم النحر منه- ومَن احتاج إلى حلْق رأسه لمرض، أو كان في رأسه ما يُؤذيه كالقمل، فله أنْ يَحلقَه، فإنْ فعل فهو مخيَّرٌ بين أن يصومَ عِوضًا عن ذلك ثلاثةَ أيَّام، أو يُطعِمَ سِتَّةَ مساكين، لكلِّ مسكين نصفُ صاع، أو يذبح شاةً.
فإذا زال المانعُ، وقدَروا على الوصول إلى البيت الحرام، فمَنْ أتى بعمرةٍ ثمَّ حلَّ منها متمتِّعًا بذلك الحلِّ إلى أن يَشرَع في أعمال الحجِّ- وكذا مَن قرَن بين الحج والعمرة- فإنَّ عليه ذبحَ ما قدر على ذبْحِه من الإبل، أو البقر، أو الغنم، فمَن لم يجِد، فلْيصُمْ بدلًا من ذلك، عشرة أيام، ثلاثة منها في أثناء الحجِّ، وسبعة إذا عاد إلى أهلِه وموطنِه بعد فراغه من أداء نُسكه، وهذا الحُكم للمتمتِّع الذي ليس أهله من حاضري المسجد الحرام، ثم أمَر سبحانه وتعالى بتقواه، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ولْيعلمِ العبادُ أنَّ الله شديدُ العقوبة لمَنْ خالف ما أمرَ به، وارتكبَ ما نهى عنه سبحانه وتعالى.
ثمَّ يخبر عزَّ وجلَّ عن توقيت الحجِّ، وأنه واقعٌ في أشهرٍ معلومة هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فمَن أحرم بالحجِّ في تلك الأشهر فعليه أن يجتنبَ جِماعَ النِّساء ومقدِّماته، ولا يتحدَّثَ بذلك في حضرتهنَّ، ويجتنبَ أيضًا جميعَ المعاصي والتي منها محظورات الإحرام، وسبابَ المسلم، ويدَعَ الجدالَ بالباطل، ومنه المجادلة في وقتِ الحجِّ وأحكامه، فقد بيَّنها تعالى أتمَّ بيان وأوضحَه، وعليه أن يدعَ المراءَ والمنازعة والمخاصمة. وأخبر سبحانه عبادَه أنَّ ما يعملونه من خيرٍ فإنَّه به عالمٌ، وسيجزيهم عليه أفضلَ الجزاء، وأمَرَهم بالتزوُّد من الأقوات التي تُعينهم على الوصول إلى البيتِ الحرام، وأداء العبادة، وأعْلمهم أنَّ خيرَ الزاد هو ما أعانهم على الوصول إلى نعيمِ الآخرة، وهو التقوى بامتثال أوامرِه سبحانه وتعالى، واجتناب نواهيه، وأمَر بها أصحابَ العقول الذين يُدركون حقيقةَ التقوى وثمارها.
ثم شرَع سبحانه في بيان بعض أفعال الحجِّ، فأمر الحُجَّاجَ أن يذكروه سبحانه عند المزدلفة بعدَ أن يدفعوا إليها من عَرفات، وهذا الذِّكر الذي أمر الله به يدخُل فيه الصلاةُ والدعاء عندها، ولْيذكروه سبحانه شُكرًا له على أنْ أرشدهم إلى طريق الهداية وإنْ كانوا من قبلِ أن يرشدهم إليها لفي زيغٍ وضلال، واذكروه كذلك وفقَ الصِّفة المشروعة التي هداكم إليها.
ثم أمَر الله عزَّ وجلَّ عبادَه من الحُمْس
وهم قريش الذين كانوا لا يُفيضون من عرفات، أمرهم بالإفاضة منها كما كانتِ العرب قاطبةً تُفيض منها، وأمرَ سبحانه الحجاجَ أيضًا أن يطلبوا منه التجاوزَ عن ذنوبهم، وسترها لأنه جلَّ وعلا غفَّار الذنوب، والرَّحيم بعباده المؤمنين.
ثم خاطَب اللهُ عباده الحجاج أنَّهم إن أتمُّوا مناسك حجهم، وتحللوا من إحرامهم فلْيكثروا من ذكره سبحانه وتعالى، ولْيكن ذكرهم له كذكرهم مآثر آبائهم، بل عليهم أن يذكروه بأشدَّ من ذلك.
ثمَّ أَرشدَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى دُعائه بعد الأمْر بالإكثار من ذكره؛ فإنَّ ذلك أَحْرى بالإجابة، وذمَّ سبحانه مَن لا يسأله إلَّا متاعَ الدُّنيا، وليس له في ثواب الآخرة أي نصيب، ومدَحَ المؤمنين الذين يسألون الله عزَّ وجلَّ من خيرَيِ الدنيا والآخرة، ويَطلُبون منه سبحانه أن يَصرِفَ عنهم عذابَ النار، فأصحابُ هذا القِسم لهم ثوابٌ عظيم على حَجِّهم الذي قاموا به، وسيُجيبهم الله إلى ما دَعوا به من خيرَيِ الدنيا والآخرة، والله سريعٌ في إحصاء أعمال عبادِه، سريعٌ في مجازاتهم.
ثم أمرَ جلَّ وعلا عبادَه بالتكبير في أيَّام التشريق، ويشمل ذلك التكبيرَ عند ذبح الأضاحي، والتكبيرَ المطلَقَ في سائر الأوقات، والتكبيرَ المقيَّد بعدَ الصلوات المفروضة، والتكبيرَ عند رمي الجِمار، ثم يُخبر تعالى أنه لا حرَجَ على الحاجِّ في تعجُّله بخروجه من مِنًى قبل غروب شمس اليوم الثاني من أيَّام التشريق، أو تأخُّره ببقائه فيها إلى اليوم الثالث لرمْي الجمرات، ما دام أنَّه في كلا الأمرين ممتثلٌ ما أمر الله به، مجتنبٌ ما نهاه عنه، ثم أوصى اللهُ عبادَه بتقواهُ بإطاعةِ أوامرهِ والانزجارِ عن نواهيه، وليتيقنوا أنَّهم سيُحشرون إليه سبحانه يوم القيامة.
تفسير الآيات:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196).
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ.
أي: يا مَن شرَعتم في أعمال الحجِّ والعمرة، عليكم إتمامَهما بأركانِهما وواجباتهما، بإخلاصٍ لله تبارك وتعالى
.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: فإنْ منَعكم وحبسكم خوفُ عدوٍّ، أو إصابةٌ بمرض، أو وقوع علَّةٍ أخرى، عن الوصول إلى البيت الحرام، فاذبحوا ما تيسَّر من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الغنم .
وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
أي: لا تَحِلُّوا من إحرامِكم إذا أُحصِرْتم عن حجٍّ أو عُمرة، حتى يبلغَ الهديُ- الذي أوجبتُه عليكم- محلَّ ذَبْحه، وهو موضع الإحصار .
وحُكم الآية عامٌّ يَشمل غيرَ المُحصَر كذلك، فمحلُّ نَحْره في الحجِّ: في الحَرم يومَ النَّحر، وأمَّا في العُمرة ففي الحرم أيضًا .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
سبب النُّزول:
عن عبد الرَّحمن بنِ أبي لَيلى أنَّ كعبَ بن عُجْرة حدَّثه قال: ((وقفتُ على رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم بالحُديبيَة ورأسي يتهافت قملًا، فقال: يؤذيك هوامُّكَ، قلت: نَعم، قال: فاحلِقْ رأسَك، أو احلِقْ، قال: فيَّ نزلت هذه الآيةُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ إلى آخرِها، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو تصدَّق بفَرَقٍ بين سِتَّةٍ، أو انسُكْ ممَّا تيسَّر )) .
وعن عبد الله بن مَعقِل قال: ((قعدْتُ إلى كعبِ بنِ عُجْرَةَ في هذا المسجدِ- يعني مسجد الكوفة- فسألتُه عن فديةٍ من صيام، فقال: حُمِلْتُ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والقَمْلُ يَتَناثَرُ على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أنَّ الجَهْدَ قد بلَغَ بك هذا، أمَا تَجِدُ شاةً؟ قلتُ: لا، قال: صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أَطْعِمْ ستَّةً مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ مِن طعامٍ، واحلِقْ رأسَك، فنزلت فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّة )) .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
أي: إنَّ مَن مرض فاحتاج إلى حلق رأسه، أو كان برأسه أذًى كالقمل فحلَق رأسه، فعليه أن يقومَ- عِوضًا عن هذا الفعل- بصِيام ثلاثة أيَّام، أو إطعام سِتَّة مساكين لكلِّ مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، فهو مخيَّرٌ بين هذه الثلاثة .
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: إذا زالتِ الموانعُ وقدَرتُم على الوصولِ إلى البيت الحرام، فمَن أتى منكم بالعمرة متمتِّعًا بحِلِّه منها بما أحلَّه الله تعالى له من محظوراتِ الإحرامِ- إلى أنْ يَشْرَعَ في أعمال الحج- ومِثل ذلك مَن كان قارنًا بين الحجِّ والعُمرة- فعليه ذبحُ ما قدَر عليه من بهيمةِ الأنعام؛ من الإبل، أو البقر، أو الغَنم .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.
أي: إنْ لم يَجِد المتمتِّعُ هديًا أو لم يجِدْ ثَمنَه، فعليه أن يصوم عوضًا عن ذلك ثلاثةَ أيَّام في أثناءِ الحج، وسبعةً إذا فرَغ من أعمال الحجِّ ورجَع إلى أهلِه وموطنِه، ثمَّ أكَّد الله تعالى صيامَ هذه الأيام بذِكر كامِلِ عددِها .
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: إنَّ وجوب الهدي وبدله من الصيام، إنَّما هو للمتمتِّع إنْ كان أهله من غيرِ حاضري المسجد الحرام، وقد قِيل بأنَّ حاضري المسجد الحرام هم مَن حوله ممَّن بينهم وبينه من المسافةِ ما لا تُقصر إليه الصلوات ، وقيل: هم أهلُ الحرم فقط .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: امتثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ، واجتنبوا نواهيَه، ومن ذلك: امتثالُ المأموراتِ، واجتنابُ المحظورات المذكورة في هذه الآية، واعتقِدوا جازمين بأنَّه سبحانه شديدُ العقوبةِ لِمَن خالَف أمْرَه، وارتكَب نَهْيَه .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197).
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ.
أي: إنَّ وقتَ الحجِّ واقعٌ في أشهُرٍ معلومات، وهي: شوَّال، وذو القَعدة، وعشرٌ من ذي الحجَّة .
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ قراءتان:
1- فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ على أنَّ لا هنا ناهية، أي يحرم وقوع ذلك .
2- فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ على أنَّ لا هنا نافية، تدلُّ على النفي العام لجميع الرَّفث وجميع الفسوق، وهذا النفي بمعنى النهي .
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
أي: إنَّ مَن أحرَم بالحجِّ (ذلك لأن الشُّروعَ فيه يُصيِّره فرضًا ولو كان تطوُّعًا في حقِّه)، فعليه أنْ يجتنبَ جِماعَ النِّساء ومقدِّماته، ولا يتحدَّث بذلك في حَضرتِهنَّ، وعليه اجتنابُ جميع المعاصي، ومن ذلك: محظورات الإحرام، وسِباب المسلِم، ويجتنب الجدالَ بالباطل، ومن ذلك: المجادَلة في وقت الحجِّ وأحكامِه؛ فقد بيَّنها اللهُ عزَّ وجلَّ أتمَّ بيانٍ، وعليه أنْ يترُكَ المِراءَ والمنازَعة والمخاصَمة .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: سَمعتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن حجَّ للهِ، فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ، رجَع كيومَ ولدَتْه أمُّه )) .
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا نهاهم اللهُ عزَّ وجلَّ عن فِعل الرَّذائل والمنكَرات، حثَّهم على فِعْل الفضائل والخيرات بقوله :
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ.
أي: كل ما يُقدِّمه العبادُ من الخيرِ من كثيرٍ أو قليل، فالله عزَّ وجلَّ عالمٌ به فيُحصيه لهم، ويَجزيهم عليه بالثَّوابِ الجزيل .
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
سبب النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((كان أهلُ اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون، يقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدِموا مكَّةَ سأَلوا النَّاس؛ فأنزَل الله عزَّ وجلَّ : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) .
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
أي: تزوَّدوا مِن أقواتكم بما يُعِينكم على الوصولِ للبيت الحرام، وأداءِ مناسِكِ الحجِّ؛ فإنَّ في التزوُّدِ استغناءً عن المخلوقين، وإعانةً للمحتاجين، ولَمَّا أمَرهم الله عزَّ وجلَّ بأخذِ الزَّاد الدُّنيويِّ غذاءً لأجسادهم، أرشَدهم إلى الزَّاد الأخرويِّ الموصل لدار النَّعيم الأبديِّ، غذاءً لقلوبهم، وهو استصحابُ التَّقوى؛ بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه .
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
أي: واتَّقونِ يا أصحابَ العُقولِ الصَّحيحة والأفهام السَّليمة، التي تُدركون بها حقيقةَ التَّقوى وثَمرتَها، وتُميِّزون بها بين الحقِّ والباطل .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198).
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
سبب النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((كانت عُكاظٌ ومَجنَّةُ وذو المجاز أسواقًا في الجاهليَّة، فلمَّا كان الإسلامُ تأثَّموا من التِّجارة؛ فأنزَل اللهُ تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ» قرأ ابنُ عبَّاس هكذا )) .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: إنَّه لا حرَجَ على المؤمنين في التكسُّب من التِّجارةِ في مواسم الحجِّ .
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
أي: إذا دفَعْتُم مِن عرفاتٍ إلى مزدلفة، فاذكروا اللهَ تعالى عند مزدَلِفة، ويدخُلُ في ذلك الصَّلاةُ والدُّعاء عندها .
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
أي: اذكُروا اللهَ عزَّ وجلَّ شُكرًا على هِدايتِه لكم، ومِن ذلك: الإرشادُ إلى مناسِكِ الحجِّ الصَّحيحةِ، واذكروه على الصِّفة الَّتي هداكم لها، أي: وَفْق ما شرَعه سبحانه، وقد كنتم مِن قبلِ هذا الهُدى في ضلالٍ عن الطَّريق المستقيم، كأداءِ مَناسِكِ الحجِّ في الجاهليَّة خلافًا لِما جاء به إبراهيمُ الخليلُ عليه الصَّلاة والسَّلام .
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199).
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.
أي: أمر الله عزَّ وجلَّ عباده من الحُمْس، وهم قريش الذين كانوا لا يقفون بعرفات، بأن يُفيضوا منها كما كانتِ العربُ كلُّها تُفيض منها .
عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ((كانت العربُ تطوف بالبيتِ عُراةً، إلَّا الحُمْسَ، والحُمْسُ قريشٌ وما ولَدَتْ، كانوا يطوفون عُراةً، إلَّا أنْ تعطيَهم الحُمْسُ ثيابًا، فيُعطي الرِّجالُ الرِّجالَ، والنِّساء النِّساء، وكانت الحُمْسُ لا يخرُجون من المزدَلِفة، وكان النَّاس كلُّهم يبلغون عرفاتٍ، قال هشام: فحدَّثني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: الحُمْسُ هم الَّذين أنزَل الله عزَّ وجلَّ فيهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، قالت: كان النَّاسُ يُفِيضون من عرفاتٍ، وكان الحُمْس يُفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نُفِيض إلَّا من الحرَم، فلمَّا نزلت: أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، رجَعوا إلى عرفاتٍ )) .
وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: أمَر اللهُ تعالى حُجَّاج بيته أنْ يطلبوا المغفرةَ منه سبحانه، أي: ستْرَ ذنوبهم، والتجاوز عنها؛ فهو سبحانه وتعالى أهلٌ لأنْ يُطلَبَ منه ذلك؛ لأنَّه غفورٌ ورحيمٌ بعباده المؤمنين .
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200).
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.
أي: فإذا أتممتُم أداءَ مناسكِ الحجِّ، وتحلَّلتُم من النُّسك، فأَكْثِروا مِن ذِكْر الله عزَّ وجلَّ؛ شُكرًا له سُبحانه على إنعامِه بالتَّوفيق لأداء هذه العبادةِ العظيمة، وليكُن ذِكرُكم لله تعالى لا يقلُّ عن ذِكركم لآبائِكم، وذِكرِ مآثرِهم، بل عليكم أنْ تَذكروه بأشدَّ من ذلك .
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
مُناسبتُها لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بذِكره، أرشدَ إلى دُعائه؛ فإنَّه مظنَّةُ الإجابة ، فقال:
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
أي: فمِن الناس مَن لا يَسألُ اللهَ تعالى إلَّا مصالحَ دُنياه، فيَسأله متاعَها وزِينتَها، ولا نَصيبَ له في ثواب الآخِرة؛ لرغبتِه عنها، وقُصورِ همَّته على الدُّنيا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201).
أي: ومن النَّاس مؤمِنون يسألون اللهَ تعالى من خيريِ الدُّنيا والآخرة- سواءٌ في مناسِك الحجِّ، أو بعدَ أدائها، أو في غيرِ ذلك من الأوقات- وهذا شاملٌ للعِلم النَّافِع والعمَل الصالح، والرِّزق الحسَن، والعافية، وغير ذلك، وأما حسنةُ الآخرةِ الَّتي يطلُبونها فهي نعيمُ الجنَّة، كما أنَّهم يسأَلون ربَّهم عزَّ وجلَّ أنْ يصرِفَ عنهم عذابَ النَّار .
كما قال تعالى حكايةً عن موسى عليه السَّلام: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: 156] .
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عاد رجلًا من المسلمينِ قد خَفَتَ فصار مِثلَ الفرْخِ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنتُ أقولُ: اللهم ما كنتَ مُعاقِبي به في الآخرةِ، فعَجِّلْه لي في الدُّنيا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: سبحان اللهِ! لا تُطيقُه- أو لا تستطيعُه- أفلا قلتَ: اللهمَّ آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ؟ قال: فدعا اللهَ له، فشفاه )) .
وسأل قَتادةُ أنسًا رضي الله عنه: ((أيُّ دعوةٍ كان يدعو بها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أكثرُ؟ قال: كان أكثرُ دعوةٍ يدعو بها يقولُ: اللهمَّ آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرِة حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ، قال: وكان أنسٌ إذا أراد أنْ يدعوَ بدعوةٍ، دعا بها، فإذا أراد أنْ يدعوَ بدعاءٍ، دعا بها فيهِ )) .
وعن عبد الله بن السَّائبِ رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول ما بين الرُّكنين: ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ )) .
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202).
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
أي: إنَّ أُولئك الَّذين يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ- لهم ثوابٌ جَزيل على حَجِّهم الَّذي باشَروا معاناتَه بأنفسهم وأموالهم، وسيؤتيهم اللهُ تعالى حظًّا ممَّا سألوه من خيريِ الدنيا والآخرة، وذلك بحسَب أحوالهم، وما تقتضيه حِكمة الله عزَّ وجلَّ .
وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: إنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ العباد بسرعة، دون الحاجة إلى عقد أصابع، أو استخدام آلةٍ، وبلا حاجةٍ إلى فِكرٍ أو رَوِيَّة، كما يفعَلُ الخَلق، وهو سريع المحاسَبة للخَلْق يوم القيامة دون أنْ يظلِمَ أحَدًا شيئًا، ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، كما أنَّه سبحانه سريعُ المجازاة لعباده .
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203).
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ.
أي: أمَر اللهُ تعالى عبادَه- مِن حُجَّاج بيته وغيرِهم- بتكبيرِه في أيَّام منًى، وهي أيَّامُ التَّشريق الَّتي تشمَل ثلاثةَ أيَّام بعد يوم النَّحر، ويتعلَّقُ بذلك التكبيرُ عند ذَبْح الهدي والأضاحيِّ، والتكبير المطلَق في سائر الأحوال، والتكبير المقيَّد بعد الصلوات الخمسِ المفروضة، والتكبير عند رَمْيِ الجِمار .
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى.
أي: إنَّه لاحرَج على الحاجِّ، سواءٌ خرَج من منًى قبل غروب شمس اليوم الثَّاني مِن أيَّام التَّشريق، أو بقِي فيها إلى اليومِ الثَّالث لرَمْيِ الجمَرات، فله أنْ يختارَ ما شاء، ما دام أنَّه ممتثلٌ ما أمَر اللهُ تعالى به، ومجتنبٌ ما نهى عنه، وخاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالحجِّ من مأموراتٍ ومحظورات ، كما أنَّ كُلًّا من المتعجِّلين والمتأخِّرين إذا اتَّقَوُا اللهَ تعالى في حجِّهم فلم يرفُثوا أو يفسُقوا، خرَجوا من حَجِّهم بلا إثمٍ، طاهرينَ من الذُّنوب كيوم ولَدَتْهم أمَّهاتهم .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ تفرُّق النَّاس مِن الحجِّ إلى سائر البلدان بعد اجتماعهم في مشاعرِ الحج، ذكَّرهم باجتماعِهم عنده يومَ القيامة، فأمَرهم بما ينفَعُهم في ذلك اليوم فقال :
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: امتثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ، واجتنبوا نواهيَه في الحجِّ وغيرِه، واعْلَموا أنَّكم تُجمَعون إلى الله تعالى يومَ القيامة، فتُجازَوْن بأعمالِكم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ
.
الفوائد التربويَّة:
1- وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ: يعني أتموهما للهِ لا لغيره، لا تُراعوا في ذلك جَاهًا، ولا رُتبةً، ولا ثناءً مِن النَّاس
.
2- تيسير اللهِ على العباد؛ لقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، والدِّينُ كلُّه مِن أوَّلِه إلى آخرِه مبنيٌّ على اليُسر .
3- أنَّ العِلمَ بشدَّةِ عقوبةِ الله من أهمِّ العلوم؛ ولهذا أمَر الله سبحانه وتعالى به بخصوصِه؛ لأنَّه يُورِث الخوفَ مِن الله، والهرَبَ مِن معصيَتِه، فقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .
4- تذكير الإنسان بحالِه قبل كماله؛ ليعرِفَ بذلك قدرَ نعمةِ الله عليه؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ .
5- بيَّن الله تعالى أولًا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر فقال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ثم بيَّن أنَّ الأَوْلى أن يترك ذِكر غيره، وأنْ يقتصرَ على ذِكره سبحانه، ثم بيَّن بعد ذلك كيفيةَ الدُّعاء، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ... وما أحسنَ هذا الترتيبَ! فإنَّه لا بدَّ من تقديم العبادة لكسْر النفس وإزالة ظُلماتها، ثم بعد العبادة لا بدَّ من الاشتغال بذِكر الله تعالى؛ لتنويرِ القلب، وتجلي نور جلاله، ثم بعد ذلك الذِّكر يشتغل الرجل بالدعاء؛ فإنَّ الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقًا بالذكر .
6- قرنُ المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- لَمَّا كان لفظ القرآن في بيان الرُّخصة، جاء بالأسهل فالأسهل، فقال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
.
2- سَعةُ فضلِ الله عزَّ وجلَّ، وتيسيرُه في أحكامه، بوقوع الفِدْية على التَّخيير، وجَعْلِ الأكثرِ من صيام الفِدْيَة بعد رجوعه؛ لقوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ، كما جعَل الإنسانَ مخيَّرًا بين أنْ يبقى ثلاثةَ أيَّام، أو يتعجَّل في يومين .
3- البُعْد حالَ الإحرام عن كلِّ ما يشوِّش الفِكر، ويشغَلُ النَّفس؛ لقوله تعالى: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ .
4- أنَّه ينبغي للإنسان في حالِ بيعِه وشرائه أنْ يكونَ مترقِّبًا لفضلِ الله، لا معتمِدًا على قوَّتِه وكَسْبِه؛ لقوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ .
5- ظهور منَّةِ الله على عباده بما أباح لهم من المكاسبِ، وأنَّ ذلك مِن مقتضى ربوبيَّتِه سبحانه وتعالى؛ حيث قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ .
6- أنَّ الذِّكر المشروعَ ما وافَق الشَّرع؛ لقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ .
7- قرنُ الحُكم بالعلَّة؛ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقَرْنُ الحُكم بالعلَّةِ في مِثل هذا يُفيد الإقدامَ والنَّشاطَ على استغفارِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
8- في الأمر بالذِّكر عند انقضاء النُّسك في قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، إشارةٌ إلى أنَّ سائرِ العبادات تَنقضي ويُفرَغ منها، وذِكر الله عزَّ وجلَّ باقٍ لا يَنقضي ولا يُفرَغ منه، بل هو مستمرٌّّ للمؤمنين في الدنيا والآخرة .
9- أنَّ الأجدادَ داخِلون في مسمَّى الآباء؛ لأنَّ العربَ كانوا يفتخِرون بأمجادِ آبائهم، وأجدادهم، وقبائلهم، كما قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ .
10- في قوله تعالى: وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ إثباتُ صِفة السُّرعة لله عزَّ وجلَّ .
11- أنَّ الأعمالَ الَّتي يُخيَّر فيها العبدُ إنَّما ينتفي الإثمُ عنها إذا فعَلها على سبيل التَّقوى لله عزَّ وجلَّ دون التهاونِ بأوامره؛ لقوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى؛ فمَن فعَل ما يُخيَّر فيه على سبيل التَّقوى لله عزَّ وجلَّ والأخذ بتيسيره، فهذا لا إثمَ عليه، وأمَّا مَن فعَلها على سبيل التهاونِ، وعدمِ المبالاة، فإن عليه الإثمَ بتَرْك التَّقوى، وتهاونِه بأوامرِ الله تعالى
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: فمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
في قوله تعالى: فمَنْ لمْ يَجِدْ؛ حُذف المفعول؛ لأجْل العموم؛ ليشمل مَن لم يجِد الهدي أو ثمنه؛ فاستُفيد زيادة المعنى، مع اختصار اللفظ
.
قوله: عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ: فيه فذلكة الحِساب ، أي: جِماعُه؛ فقوله: عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فَذْلَكةٌ لقوله: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ... وسَبْعَةٍ، وفائدتها: أنَّ الواو قد تجيء بمعنى (أو) التي للتَّخيير، فيحتمل المعنى فِصيام ثلاثة أيام أو سَبعة؛ ففُذْلِكت نفيًا لتوهُّم التخيير، وأيضًا ففائدة الفَذْلكة في كلِّ حساب أن يُعلم العدد جملةً كما عُلِم تفصيلًا؛ ليُحاط به من جِهتين، فيتأكَّد العِلم؛ فإن أكثر العرب لم يُحسنوا الحساب، وفي أمثال العرب: عِلمان خيرٌ من عِلم، وليُعْلَم أنَّ المراد بالسبعة هو العددُ دون الكثرة؛ فإنَّه يطلق لهما. وكذلك كامِلَةٌ تأكيدٌ آخَر؛ فهي صِفة مؤكِّدة تُفيد المبالغة في محافظة العدد، أو مبيِّنة كمال العشرة؛ فإنَّه أوَّل عدد كامل؛ إذ به تنتهي الآحادُ وتتمُّ مراتبها، وفيه زيادة توصية بصيامها، وألَّا يُتهاون بها ولا ينقص من عددها .
وقوله: فَصِيَامُ... خبرٌ معناه الأمر بالصيام، وإنَّما عدَل عن لفظ الأمْر إلى لفظ الخبَر؛ لأنَّ التكليف بالشيء إذا كان متأكِّدًا جدًّا، فالظاهر دخولُ المكلَّف به في الوجود؛ فلهذا السبب عبَّر بالإخبار عن الشيءِ بالوقوع الذي استقرَّ؛ لتأكُّد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه .
وفي قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ التفات، وحمْلٌ على معنى (مَن)، أمَّا الالتفات؛ فإنَّ قوله: فَمَن تَمَتَّعَ فَمَن لَّمْ يَجِدْ اسمٌ غائب؛ ولذلك استتر في الفِعلين ضميرُ الغائب، فلو جاء على هذا النَّظم لكان الكلام (إذا رجَع)، وأما الحمل على المعنى فإنَّه أتى بضمير الجمع رَجَعْتُمْ، ولو راعى اللَّفْظ لأفرد فقال (رجع) .
2- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ إظهارُ الاسمِ الجليلِ الله في موضِع الإضمار، وتكريره؛ لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة، ولئلَّا يُفهِم الإضمارُ تقييدَ شديدِ عِقابه بخشية ممَّا مضى فقال: وَاعْلَمُوا تنبيهًا على أن الباعث على المخافة إنَّما هو العلم أَنَّ اللهَ أي: الذي لا يُدانِي عظمتَه شيءٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ هذا مع مناسبة هذا الخِتام لِمَا بعده من النهي عن الرَّفث وغيره .
3- قوله: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فِي الْحَجِّ فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بشأنه، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم؛ فإنَّ زيارةَ البيت المعظَّم والتقرُّبَ بها إلى الله عزَّ وجلَّ من موجبات تَركِ الأمورِ المذكورة، وإيثارُ النَّفي على النَّهي للمُبالغة في النَّهي، حتى جُعلت كأنَّها قد نهي الحاج عنها فانتهى، فانتفت أجناسها، وللدَلالة على أنَّ ذلك حقيقٌ بألَّا يكون؛ فإنَّ ما كان مُنْكرًا مستقبَحًا في نفسه، فهو في الحجِّ أقبحُ .
4- قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ عبَّر بـثُم لتفاوت ما بين الإفاضتين (من عرفاتٍ، ومن المزدلفة)، وأنَّ إحداهما صوابٌ (التي من عَرَفات)، والثانية خَطأ (التي من مزدلِفة). ووقوع العطف بحَرْف المهلة ثُم، الذي يستدعي التراخي مضافًا إلى التغاير، وليس بين الإضافة المطلَقة والمقيَّدة تراخٍ؛ لأنَّ التراخي كما يكون باعتبار الزَّمان، قد يكون باعتبار علوِّ المرتبة وبُعدها في العلوِّ بالنسبة إلى غيرها ويعرف بـ(التراخي الرتبي) . وهذا بناءً على القول بأنَّ المقصود بالناسِ في الآية هم العرب، وأنَّ الإفاضةَ المقصودةَ هنا هي الإفاضةُ من عَرفات.
======
سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (204 - 207)
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
غريب الكلمات:
أَلَدُّ الخِصَامِ: أي: شديد الخُصومة، أو أشَدُّهم خصومةً؛ أصل اللَّدد: الشِدَّة؛ والْأَلَدُّ: الخَصيم الشَّديد التَّأبِّي، والخِصام: جمْع خَصم، أو مصدَر خاصَم
.
الحَرْثَ: الزَّرع، والبساتين والمزارع، وأصْلُه: إلقاء البَذر في الأرض وتهيئتها للزَّرع، والكَسبُ والجَمْعُ .
النَّسْلَ: الوَلد والنَّجْل، وهو في الأصل: الانفصالُ عن الشَّيءِ .
المِهَادُ: الفِراش، والقَرار، وأصل مَهَد: من توطئة الشيء وتسهيله .
يَشْرِي: يَبِيع
.
المعنى الإجمالي:
يُخبِرُ تعالى أنَّ صِنفًا من النَّاس هم من المنافقين، يستحسنُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ فصاحتَهم، ويُعجِبه منطقُهم، لكنَّ حديثهم متعلِّق بالدنيا فقط، ولا يتطرَّق لأمور الآخِرة، أو يُعجِبه ظاهرُ حديثهم عن أمور الدِّين، لكنَّه حديثٌ لا ينفع أولئك المنافقين إلَّا في الدُّنيا فقط، ولا يكتفي الواحدُ منهم بحُسن كلامه، بل يُؤكِّده بأنَّ اللهَ يعلَمُ بأن ما في قلبه موافقٌ لِما تكلَّم به، وهو كاذبٌ في ذلك، شديدُ الخصومةِ والمجادلةِ بالباطل، فاجرٌ في خِصامِه، ناطقٌ بالزُّورِ في قوله، فإذا خرَج مِن عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ سار في الأرضِ مفسِدًا فيها بالكفر، والظُّلم، والمعاصي؛ كإخافةِ السَّبيل، وقَطْع الطُّرق، ويُتلِف الزروعَ والثمارَ ونسلَ الحيوانات، واللهُ سبحانه لا يحبُّ كلَّ ما كان فسادًا.
وإذا خُوِّف هذا المنافقُ وأُمِر بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، ومنها تَرْكُ سعيه بالفساد، وإتلاف الزَّرع والحيوانات- استكبَر، وأخذَتْه الحميَّةُ بسبب وقوعه في الإثم، وحملَتْه الأَنَفةُ على ارتكابِ المزيدِ من السيِّئات، فكفى هذا المنافقَ عقوبةً نارُ جهنَّمَ، ولبئس الفراشُ والوِطاءُ جهنَّمُ.
وهناك صِنفٌ من النَّاس يبيعون أنفسَهم، ويبذُلون أرواحَهم من أجلِ أنْ ينالوا رضا الله عزَّ وجلَّ، والله ذو رأفةٍ بعبادِه، وخاصَّة مَن باعوا أنفسَهم له جلَّ وعلا، ومِن رأفته بهم توفيقُه لهم ورضاه عنهم.
تفسير الآيات:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204).
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: إنَّ بعضَ النَّاس، مِن المنافقين، مَن تستحسنُ يا محمَّد، مَنطقَه وظاهرَ قوله، فتُعجِبك فصاحتُه، لكنه يتحدَّث في شؤون الدُّنيا بعيدًا عمَّا يتعلَّقُ بأمور الآخرة، أو يُعجِبُك ظاهرُ حديثِه عن أمور الدِّين؛ كنُصرةِ الإسلام والمسلمين، وحبِّ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسلام، وغير ذلك، لكنه حديثٌ ينفَعُه في الدنيا فحسب، أما في الآخرة فلا ينتفع به البتَّةَ
.
وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ.
أي: ويُقرنُ حُسنَ كلامِه ويؤكِّد ظاهرَ حديثِه بأنْ يُخبِرَ أنَّ الله تعالى يعلَمُ بأنَّ ما في قلبه موافقٌ لِما نطَق به، وهو كاذبٌ في ذلك؛ فهو في الحقيقةِ يُبارِزُ اللهَ عزَّ وجلَّ بما ينطوي عليه قلبُه من الكفرِ .
كما قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون: 1 - 4] .
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ.
أي: يُشْهِد اللهَ تعالى على أنَّه محقٌّ في قولِه ذلك؛ لشِدَّة خصومتِه، وتجدُه- لاعتمادِه على فصاحتِه- مُجادِلًا بالباطل، وناطقًا بالزُّور مِن القول، كاذبًا في حديثِه، وفاجرًا في خِصامِه؛ فالمُنافِق أسوأُ المخاصِمينَ، وأعوجُهم، وأشدُّهم عداوةً .
عن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أبغضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الألدُّ الخَصِمُ )) .
وعن عبدِ الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أربعُ خلالٍ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا: مَن إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا عاهَد غدَرَ، وإذا خاصَمَ فجَر، ومَن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ منَ النِّفاقِ حتَّى يدَعَها )) .
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205).
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا.
أي: كما أنَّ مقالَه مُعْوجٌّ، واعتقاده فاسدٌ، فأفعاله كذلك سيِّئةٌ وقبيحة، فإذا خرَج وانصرف عنك هذا الذي يُعجِبُك قولُه، سار في الأرض مجتهدًا في إفسادِها بالكفر، والظُّلم، وعمَل المعاصي؛ كقَطْع الطَّريق، وإخافة السَّبيل، وغير ذلك .
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.
أي: هِمَّتُه في إتلاف الحَرْث، وهو: محلُّ نَماء الزُّروع والثِّمار، وإتلاف النسل، وهو: نتاجُ الحيوانات؛ فهذانِ لا قِوام للنَّاس إلا بهما، وبإتلافِهما يختلُّ نظامُ الحياة، كما أنَّه إذا سعى في الأرض فسادًا بالكفرِ والظُّلم والمعاصي، منَع اللهُ تعالى القطرَ من السَّماءِ عقوبةً؛ فتَتْلَف الزُّروع، وتموت الحيوانات .
كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96] .
وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.
أي: إنَّ الله تعالى لا يحبُّ تلك الأفعالَ، ولا مَن قام بها، وإنْ قال بلسانه قولًا يُعجِب النَّاسَ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206).
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.
أي: إذا أُمِر هذا المنافقُ بتقوى الله عزَّ وجلَّ؛ بامتثالِ ما أمَر به، واجتنابِ ما نهى عنه، ومِن ذلك: تَرْكُ الإفساد في الأرض بالكفر والظُّلم والمعاصي، وإهلاكِ الزُّروع والحيوانات، إذا أُمر بذلك، استكبَر، وأخذَتْه حميَّةٌ بسبب وقوعِه في الآثام، وحملَتْه هذه الأَنَفةُ على ارتكاب المزيدِ من السَّيِّئاتِ .
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ.
أي: كفاه عقوبةً مِن غيِّه وضلالِه، صَلْيُه نارَ جهنَّمَ، ولبئس الفِراشُ والوِطاءُ جهنَّمُ، الَّتي وطَّأها لنفسِه بنِفاقِه وفُجوره .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207).
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ.
أي: إنَّ هناك صِنفًا من النَّاس يبيعون أنفسَهم، ويبذلونها ثمنًا لنيلِ مرضاةِ الله عزَّ وجلَّ .
وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ.
أي: واللهُ ذو رحمةٍ عظيمة بعباده، ولعبوديَّتِهم له يرأَفُ بهم، وخاصةً مَن يبيعون أنفسَهم له سبحانه، ومِن رأفته بهولاء أنْ يوفِّقَهم لذلك، ويرضى عنهم
.
الفوائد التربويَّة:
1- الإشارة إلى ذمِّ الجدل والخِصام؛ لقوله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ؛ لأنَّ الخُصوماتِ في الغالب لا يكونُ فيها بركةٌ
.
2- التَّحذير من ردِّ النَّاصحين؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَل هذا مِن أوصاف هؤلاء المنافِقين؛ فقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فمَن ردَّ آمرًا بتقوى الله، ففيه شَبَه مِن المنافقين، والواجب على المرء إذا قيل له: (اتَّقِ اللهَ) أنْ يقولَ: (سمِعْنا وأطَعْنا) تعظيمًا لتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ .
3- الإشارة إلى إخلاص النِّيَّة؛ لقوله تعالى: ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ .
4- الموفَّقون هم الَّذين باعوا أنفسَهم وأرخصوها وبذَلوها طلبًا لمرضاةِ الله، ورجاءً لثوابه، كما قال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
.
الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:
1- أنَّ الأَنَفةَ قد تحمِلُ صاحبَها على الإثمِ؛ لقوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
.
2- في قوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ... إثبات عِلم الله عزَّ وجلَّ بما في الصُّدور؛ لأنَّ ما في القلبِ لا يعلَمُه إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ .
3- في قوله تعالى:وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ إثبات محبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ للصَّلاح، فإنَّ نفيَه محبَّةَ الفسادِ دليلٌ على ثبوت أصلِ المحبة .
4- في قوله تعالى: مَرْضَاتِ اللهِ إثبات الرِّضا لله؛ ورضَا اللهِ صفةٌ حقيقيَّةٌ لله عزَّ وجلَّ متعلِّقة بمشيئتِه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ التعبير بالفعل المبني للمفعول (قِيلَ) فيه بلاغة تامَّةٌ في حذفِ الفاعل؛ ليشمَلَ كلَّ مَن يقول له ذلك؛ فيكون ردُّه لكراهةِ الحقِّ لا للقائل به
.
2- قوله: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فيه نوعٌ من البديع يُسمَّى التَّتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة ترفع عنه اللَّبس، وتقربه للفَهم، كقوله تعالى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] ؛ وذلك أنَّ العِزَّة محمودةٌ ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، فلمَّا قال: بالإثمِ، اتَّضح المعنى وتمَّ، وتبيَّن أنها العزةُ المذمومة المؤثَّم صاحبُها .
3- قوله: وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ تذييل، أي: رؤوفٌ بالعباد الصالحين الذين منهم مَن يشري نفْسَه؛ ابتغاءَ مرضاة الله، ومناسبة هذا التَّذييل للجملة: أنَّ المخبَر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله، وجَعَلوا أنفسهم عَبيدَه .
- وعدَل عن الإضمار بِهم إلى الإظهارِ بِالعِبَادِ؛ ليكونَ هذا التذييلُ بمنزلةِ المَثَل مستقلًّا بنفسه، وهو من لوازم التذييل، وليدلَّ على أن سبب الرأفة بهم أنَّهم جعَلوا أنفسهم عبادًا له .
4- وفي هذه الآية، والتي قَبلها من عِلم البديع: حُسن التَّقسيم .