3. سورة ال عمران {ج4}
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (113-115)
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
غريبُ الكَلِمات:
آنَاءَ اللَّيْلِ: ساعاته، وآناء جمْعٌ، مُفْرده: إِنْيٌ وإِنًى وأَنا، وأصْله: ساعة من الزَّمان
.
فَلَنْ يُكْفَرُوهُ: أي: فلن يُحرَموه، ولن يَضيعَ ولن يَنقُص ثوابُه ألبتَّةَ، وأصْل الكُفر: السَّتر والتَّغطية
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِر تعالى أنَّ أهلَ الكتاب ليسوا جميعُهم سواءً؛ فكما أنَّ فيهم طائفةً مذمومة، فهناك طائفةٌ هداهم اللهُ فأسْلَموا، فهم مُستمسِكون بالحقِّ، يَقرؤون كتابَ الله في صلواتهم التي يؤدُّونها في ساعاتِ الليل، ويؤمنون بالله تعالى، وباليوم الآخر وما يتعلَّق به، كما يأمرون غيرهم بالمعروف ويَنْهونهم عن المُنْكر، ويُبادِرون إلى فِعْل الخيرات، وهؤلاء الذين يَفعلون هذا الفعلَ هم من الصَّالحين، وما يقومون به من عملٍ من أعمال الخير، فلن يَذهب سُدًى، والله سبحانه عالِم بأهل التَّقوى ومُطَّلِع عليهم، وسيَجزيهم على تقواهم.
تفسير الآيات:
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن تعالى الفِرْقةَ الفاسقةَ من أهل الكتاب، وبيَّن أفعالَهم وعقوباتِهم، بيَّن هاهنا الأُمَّةَ المستقيمة، وبيَّن أفعالَها وثوابَها
، فقال:
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ
أي: ليس جميعُ أهلِ الكتاب على حدٍّ سواء، فلا يَستوي مَن تقدَّم ذمُّهم من أهلِ الكتاب، وهؤلاء الذين أَسْلَموا منهم، فإنَّ منهم جماعةً ثابتة على الحقِّ، مُتمسِّكة به، مستقيمةً على هَدْي القرآن والسُّنَّة .
يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
أي: يَقرؤون كتابَ الله تعالى في صلاتِهم في ساعات اللَّيل .
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى من صِفات تلك الأُمَّة، تَهجُّدها وقيامها، ذكَر ما أَثمَر لهم هذا التَّهجُّدُ وهو الإيمان ، فقال:
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
أي: يُؤمنون بالله تعالى، وبكلِّ ما يتعلَّق باليوم الآخِر من بعدِ الموت: كالبعث، والحشر، والجزاء على أعمالِهم، ودخولِ الجنَّة أو النَّار وغير ذلك، ولا يَكْتفون بتطهيرِ قلوبِهم وصلاح أنفسهم، بل يَسْعون أيضًا في إصلاحِ الآخَرين، فيأمرونهم بكلِّ ما أمَر به الشَّرع من مُعتقَدات وأعمال، ويَنْهَوْنهم عن كلِّ ما نهى عنه الشَّرعُ مِن مُعتقَداتٍ وأعمال، ويَبتدِرون فِعْلَ الخيرات، ويَنتهِزون الفرصَ إليها؛ خَشيةَ الفَواتِ بحلول وقتِ الممات .
وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
أي: إنَّ هؤلاءِ الذين قاموا بهذه الأعمالِ الجليلةِ ممَّن أَسلَم من أهل الكتاب هم في الحقيقةِ من عِداد الصَّالحين .
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قراءتان:
1- وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بياءِ الغَيبة، على أنَّ المرادَ الطَّائفةُ المؤمنةُ من أهل الكتابِ التي تقدَّم ذِكْرُها .
2- وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ بتاءِ الخطابِ على أنَّ الخطابِ لأُمَّة محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ
أي: إنَّ كلَّ ما يَعمَله مَن أَسلَم مِن أهل الكتاب، مِن خير (قليلًا كان أو كثيرًا) فلن يُجحَد ويَذهَب سُدًى بلا ثوابٍ ولا مُجازاة، بل سيُشكَرون على ما فَعلوا، ويُجزَون عليه أوفرَ الجزاء .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يَخْفى عليه كلُّ مَن قصَد تقواه وأراد رِضاه، بامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه، وسيَجزي الله المتَّقين
.
الفوائد التربوية:
1- بيانُ عدْلِ الله تعالى، وأنَّه يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلَمَّا ذمَّ أهلَ الكتاب في الآيات السَّابقة، فقد يتوجَّه الفَهْمُ إلى أنَّ جميعَ أهل الكتاب على هذا الوصفِ مِن أنهم يَكْفُرون بآياتِ الله، ويَقتُلون الأنبياءَ بغير حقٍّ، ويَعْصون الله ويَعتَدون على حقِّه وحقِّ عباده؛ فقال تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً أي: منهم مَن ليس كذلك
، فينبغي العدلُ والإنصافُ حتى مع المخالِفين.
2- قول الله تعالى وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يدلُّ على أهميَّة الأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ وذلك لأنَّه بعد تكميلِ المؤمنين أنفسَهم بالإيمانِ ولَوازِمه، يَسْعَون في تكميلِ غيرِهم من النَّاقِصين، وذلك بأمرهم بكلِّ خيرٍ، ونهيهم عن كلِّ شرٍّ، فهذا هو الغاية القُصوى في الكمال .
3- قول الله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيه الحثُّ على التَّقوى، فالأعمالُ ثوابُها تَبَعٌ لِمَا يقوم بقلْب صاحبها من الإيمان والتَّقوى، ولا يفوز عند الله تعالى إلا أهل التَّقوى
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قول الله عزَّ وجلَّ: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، جاء ذِكْرُ الإيمان بالله واليوم الآخِر بعد ذِكْر تِلاوة الآيات؛ لأنَّه لا يُمكِن الإيمان بالشَّيء إلا بعد العِلم به، فهم إذا تَلَوا آياتِ الله، علِموا باليوم الآخر، ثم آمنوا به
.
2- في قول الله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ خصَّ ذِكْر الإيمان بالله تعالى؛ لأنَّه يَستلزِمُ الإيمان بجميعِ أنبيائه ورُسله .
- وخصَّ الإيمان باليومِ الآخِر؛ لأنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ باليوم الآخِر يَستلزِمُ الحذرُ من المعاصي، فيحثُّ المؤمنَ به على فِعلِ ما يُقرِّبه إلى الله، ويُثاب عليه في ذلك اليوم، وترْكِ كُلِّ ما يُعاقَب عليه في ذلك اليوم .
3- قول الله تعالى: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يدلُّ على أنَّه مَن فعَل خيرًا أُثيبَ عليه أجرُه كاملًا بلا نَقْص؛ لأنَّ المرادَ بالنَّفي هنا تمامُ الإثبات .
4- قول الله تعالى: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ لَمَّا أخْبَر تعالى عن عدمِ الحِرمان والجزاء، أقام ما يَجري مجرَى الدَّليل عليه، وهو أنَّ عدمَ إيصال الثَّواب والجزاء إمَّا أنْ يكون للسَّهوِ والنِّسيان، وذلك مُحالٌ في حقِّه؛ لأنَّه عليمٌ بكلِّ المعلومات، وإمَّا أنْ يكون للعجزِ والبخل والحاجة، وذلك مُحالٌ؛ لأنَّه إلهُ جميع المُحدَثات؛ فاسمُ الله تعالى يدلُّ على عدم العجز والبُخْل والحاجة، وقوله: عَلَيمٌ يدلُّ على عدم الجهل، وإذا انتَفتْ هذه الصِّفات امتَنَع المنعُ من الجزاء .
5- قول الله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ خَصَّ اللهُ تعالى المتَّقِين بالذِّكر مع أنَّه تعالى عالم بكلِّ النَّاس؛ بِشْارةً للمُتَّقين بجزيل الثَّواب، ودَلالةً على أنَّه لا يفوز عنده إلا أهل التَّقوى
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: لَيْسُوا سَوَاءً: استئنافٌ قُصِد به إنصافُ طائفةٍ من أهل الكتاب، بعد الحُكم على مُعظمهم بصِيغة تَعُمُّهم؛ تأكيدًا لِمَا أفاده قوله: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، فالضميرُ في قوله: لَيْسُوا لأهل الكتاب المُتحدَّث عنهم آنفًا، وهم اليهود، وهذه الجملةُ تتنزَّل من التي بعدها مَنزِلة التَّمهيد
.
2- قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ: استئنافٌ مُبيِّنٌ لكيفيَّة عدمِ تَساويهم، ومُزيلٌ لِمَا فيه من الإبهامِ في قوله: لَيْسُوا سَوَاءً، ووضَع أَهْلِ الْكِتَابِ مَوضعَ الضَّميرِ العائدِ إليهم حيث لم يَقُل (منهم أُمَّةٌ قائمة)، فأَظهَر في مَوضِع الإضمار، وقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لتحقيقِ ما به الاشتراكُ بين الفريقين، والإيذانِ بأنَّ تلك الأُمَّةَ ممَّن أوتي نصيبًا وافرًا من الكتاب لا مِن أرذالهم؛ اهتمامًا بتِلك الأُمَّة ، وليكون هذا الثَّناءُ شاملًا لصالحي اليهود، وصالحي النَّصارى، فلا يختصُّ بصالحي اليهود .
- وجاءَ باسم الفاعلِ قَائِمَةٌ؛ ليدلَّ على أنَّ الاستقامةَ وصْفٌ ثابتٌ لتِلك الأُمَّة لا يتغيَّر .
3- قوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ:
- التَّصريحُ بتِلاوتِهم آياتِ الله في الصَّلاة مع أنَّها مُشتمِلةٌ عليها قطعًا؛ لزيادة تحقيقِ المُخالفةِ، وتوضيحِ عدمِ المُساواةِ بينهم وبين الذين وُصِفوا آنفًا بالكفرِ بها، وهو السِّرُّ في تقديم هذا النَّعْتِ على نعت الإيمانِ .
- وتخصيصُ السُّجودِ في قوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ بالذِّكرِ من بين سائرِ أركانِ الصَّلاةِ؛ لكونِه أدلَّ على كمالِ الخضوعِ .
- وجملةُ وَهُمْ يَسْجُدُونَ حالٌ، أي: يتهجَّدون في الليل بتِلاوة كتابِهم- أي: القرآن بعد أنْ صاروا مُسلمين- فقُيِّدتْ تلاوتُهم الكتابَ بحالةِ سجودهم، وهذا الأسلوب أبلغُ وأَبْينُ مِن أنْ يُقال: يتهجَّدون؛ لأنَّه يدلُّ على صورة فِعْلهم ..
- والتَّعبير بالجُملةِ الاسميَّة؛ للدَّلالةِ على الاستمرار، وتكريرُ الإسنادِ بتَكرُّر الضَّمير وهو (هم) لتقوية الحُكْمِ وتأكيدِه .
- وصِيغةُ المضارع (يَتْلُونَ- يَسْجُدُونَ)؛ للدَّلالة على التَّجدُّد .
4- قال تعالى: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ لم يَقُل: (إِلَى الْخَيْرَاتِ) مع أنَّ الفعل (سَارَعَ) يَتعدَّى بـ(إلى)؛ إيذانًا بأنَّهم يُسارعون في أعمالِ الخيرِ وهم داخلونَ فيها، لا أنَّهم خارجونَ عنها، أو مُنتهون إليها ، فتكون الخيراتُ من شِدَّة انغماسهم فيها وملابستِهم لها، كأنَّها قد شَمِلتْهم وأحاطتْ بهم، كما يُحيط الظرفُ بالمظروف.
5- قوله: وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ: الإشارةُ بـأُولِئَكَ وما فيه من معنى البُعْد؛ للإيذان بعُلُوِّ دَرجتِهم، وسُموِّ طبقتِهم في الفضلِ، وإيثارُه على الضَّميرِ؛ حيث لم يَقُل: (وهم من الصَّالحين)؛ للإشعارِ بعِلَّة الحُكم والمدح، أي: أولئك المنعوتون بتلك الصِّفاتِ الفاضِلة بسببِ اتِّصافِهم بها .
6- قوله: وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ: على قراءة تَفْعَلُوا.. تُكْفَرُوهُ- بالتَّاء- يكون فيه التِفاتٌ من الغَيبة إلى الخِطاب .
- قوله: مِنْ خَيْرٍ نكرةٌ في سياق الشَّرط يُفيد العُمُوم؛ ففيه ثُبُوت الثَّواب على عملِ الخير قليلًا كان أم كثيرًا .
7- قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَه؛ فإنَّ عِلمَه تعالى بأحوالهم يَستدعي تَوْفيةَ أُجورِهم لا محالة .
==========
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (116-117)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
غريبُ الكَلِمات:
صِرٌّ: أي: بَرْدٌ شديد، وأصْل الصِّرِّ: الشَّدُّ؛ وأطلِقَ على البردِ الشَّديد؛ لِمَا في البُرودةِ من التَّعقُّد. أو الصرُّ: هو صَوتُ الرِّيحِ الشَّديدة، أو: صوتُ لهبِ النَّارِ التي كانتْ في تِلك الرِّيح، وأصلُه مِن الصَّرير الذي هوَ الصَّوتُ، من قولهم: صرَّ الشَّيءُ، ومنه: الرِّيح الصَّرصر
.
حَرْثَ: أي: زَرْع، والحَرْث: إلقاءُ البَذْر في الأرض وتهيُّؤها للزَّرع، ويُسمَّى المحروث حَرْثًا، وأصْل الحَرْث: الجَمْع والكَسْب
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِر تعالى أنَّ الكُفَّارَ لا يُفيدهم ما معهم من أموالٍ وأولادٍ من عذابِ الله تعالى، بل هم أصحابُ النَّار المُلازِمون لها أبدًا، وأنَّ ما يُنفِقه هؤلاء الكُفَّار في الدُّنيا من أموال ولا يَستفيدون منه شيئًا، وأنَّ مَثَلهم كمَن زرَعَ زرعًا يَرجو منفعتَه، لكن أصابتْه رِيحٌ عاصِفٌ شديدةُ البرودة، فأهلكتْ ذلك الزَّرعَ، فلم يَستفِدْ سوى المشقَّةِ التي بذلها والتحسُّر على ما فات، ولم يَظلِمِ اللهُ هؤلاء الكُفَّارَ بإحباطه لأعمالهم، لكن هم مَن ظلَم نَفْسَه بكُفْرهم وحِرْصِهم على إطفاءِ نورِ الله.
تفسير الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَف الله تعالى مَن آمَن مِن الكفَّارِ بما تقدَّم من الصِّفات الحسنة أَتْبَعه تعالى بوعيدِ الكفَّار، فذكَر شيئًا من أحوالِ المؤمنين بعدَ ذِكْر شيءٍ من أحوال الكافرين؛ ليتَّضِح الفَرقُ بينهما
.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أي: إنَّه لا يَرُدُّ بأسَ الله عن الكفَّار شيءٌ؛ فلا تدفعُ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم التي حسبوها نافعةً لهم في الشَّدائد والمكاره شيئًا من عذابِ الله تعالى في الدُّنيا والآخرة، ولا تكون سببًا في رَحْمتهم .
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
أي: سيَظَلُّون مُلازِمين لنار جَهنَّمَ ما كِثين فيها بلا نهايةٍ .
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ أموالَ الكفَّار لا تُغْني عنهم شيئًا، ثم إنَّهم ربَّما أَنفَقوا أموالهم في وجوه الخيرات، فيَخطُر ببالِ الإنسان أنهم يَنتفِعون بذلك، فأَزال اللهُ تعالى بهذه الآية تلك الشُّبْهةَ، وبيَّن أنَّهم لا يَنتفِعون بتلك الإنفاقات، وإنْ كانوا قد قصَدوا بها وجهَ الله ، فقال:
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
أي: إنَّ ما يُنفِقه الكفَّارُ من صَدَقاتٍ، وما يُنفِقونه من أموالٍ للصدِّ عن سبيل الله تعالى، نفقاتٌ باطِلة، وثوابها الذي يَرْجونه مُضمَحِلٌّ عند الله عزَّ وجلَّ، وشَبَّه الله تعالى ذلك بهُبوب ريحٍ عاصفٍ شديدةِ البرودةِ، قويَّة الصَّوت، قد سُلِّطتْ على زرع أُناسٍ استَحقُّوا أنْ يُعذِّبَهم الله تعالى بها، فدمَّرت زرعَهم وأصبح يابسًا، بعد أن أَمَّلوا حصادَه، ورَجوا الاستفادةَ من خيراتِه .
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
أي: إنَّ ما فعَله الله تعالى بهؤلاء الكفَّار، من إحباطِ ثواب أعمالِهم، وإبطالِ أُجوِرها إنَّما وضَعَه في مَوضِعه، وفعَل بهم ما هم أهلُه، وهم الذين نقَصُوا أنفسَهم في الحقيقةِ، ووضَعوها في غيرِ موضِعها الذي يَليق بها
.
الفَوائِدُ التربويَّة:
1- معرفةُ تمام قُدْرة الله وسُلْطته على العباد؛ حيث إنَّ الكفار العُتاةَ لا يستطيعون أنْ يدفعوا شيئًا بأموالهم وأولادهم ممَّا قضاه الله عزَّ وجلَّ، يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
.
2- الحَذَرُ من الاغترارِ بالنِّعم، فالمغرورُ إنَّما يَصُدُّه عن اتِّباع الحقِّ أو النَّظر في دليلِه الاستغناءُ بما هو فيه من النِّعم، وأعظمُها الأموالُ والأولاد، فالذي يرَى نَفْسه مُستغنيًا بمِثْل ذلك قلَّما يُوجِّه نظرَه إلى طلبِ الحقِّ أو يُصْغي إلى الدَّاعي إليه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... .
3- الحذرُ من الكفر؛ فإنَّ الكافرَ لن ينتفعَ بما عمِل في الآخرة، فلا خيرَ إلَّا أن يكون موصولًا بالإيمان، ونابعًا من الإيمان؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ .
4- نَفْسُ الإنسانِ عنده أمانةٌ يَلحَقها ظُلمُه وغشمُه، ويلحقها برُّه وإحسانُه؛ فيجب أن يرعى هذه الأمانةَ حقَّها؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قول الله عزَّ وجلَّ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ خَصَّ اللهُ تعالى الأموالَ والأولاد بالذِّكر؛ لأنَّهما من أشد الأشياء نفعًا للإنسان، فالغَناء في مُتعارَف النَّاس يكون بالمال والولد، فالمالُ يدفعُ به المرءُ عن نَفْسِه في فِداءٍ أو نحوه، والولدُ يَنصُر أباه ويُدافِع عنه، فإذا لم يُغنِ عنه ولدُه لصُلْبه ومالُه الذي هو نافِذُ الأمر فيه؛ فغير ذلك أبعدُ مِن أن يُغني عنه مِن الله شيئًا
.
2- قول الله تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فيه إثباتُ القياس؛ ووجْه ذلك: أنَّ المَثَل إلحاقٌ للأصل بالفرع، وإلحاقٌ للمُشبَّه بالمُشبَّه به، وهذا هو أصلُ القياس- إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حُكْمٍ لِعَلَّةٍ جامعة- فكلُّ مِثالٍ ضربَه الله في القرآن ففيه دليلٌ على القياس؛ إذ إنَّه إلحاق المُشبَّه بالمُشبَّه به
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ: استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقالِ إلى ذِكْر وعيدِ المشركين بمناسبةِ ذِكر وعْدِ الذين آمَنوا مِن أهل الكتاب
.
- وإنَّما عطَف الأولادَ هنا؛ لأنَّ الغَنَاء في مُتعارَف النَّاس يكون بالمال والولد .
- وكرَّر حرْفَ النَّفي مع المعطوف في قوله: وَلَا أَوْلَادُهُمْ؛ لتأكيدِ عدم غَناءِ أولادِهم عنهم؛ لدفع توهُّم ما هو مُتعارَف من أنَّ الأولاد لا يَقعُدون عن الذَّبِّ عن آبائهم .
- وتنكيرُ قوله: شَيْئًا؛ للتَّقليل ، وهي نَكِرة في سياق النَّفي، والنَّكرة في سياق النَّفي تُفيد العمومَ، فالمعنى: أيُّ شيء كان سواءً كان هذا الشَّيء شديدًا أو ضعيفًا .
- وفيه تحقيقُ مضمون الجملة بـ: التَّأكيدِ بـ(إِنَّ)، ومَوقِع اسم الإشارة، وضمير الفصل (هُمْ)، ووصْف (خَالِدُونَ)، وجُملة (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ الْنَّارِ) عطْف على جملة (لَنْ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمِ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)، وجيء بالجملةِ معطوفةً، على خلافِ الغالبِ في أمثالها أنْ يكون بدون عطفٍ؛ لقصْدِ أن تكون الجملةُ مُنصبًّا عليها التَّأكيدُ بحرف (إِنَّ) ، ووقوعها جملةً اسميَّة؛ للدَّلالةِ على الدَّوام والثُّبوت .
2- قوله: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ استئنافٌ بيانيٌّ، وفي الآية: تشبيهٌ تَمثيليٌّ، حيث شبَّه سبحانه ما أَنفَقوه في عدمِ جدواه، وقِلَّة غَنائه بالحَرْث الذي عصفَتْ به الرِّيحُ الصِّرُّ، والتَّقدير: مَثَل ما يُنفِقون في هذه الحياةِ الدنيا كمَثَل حَرْثِ قومٍ ظلَموا أنفسَهم فأصابتْه ريحٌ فيها صِرٌّ؛ جاء النَّظم هكذا؛ لفائدةِ جليلة، وهي تقديمُ ما هو أهمُّ؛ لأنَّ الرَّيحَ التي هي مِثْل العذاب ذِكْرها في سياقِ الوعيدِ والتَّهديدِ أهمُّ مِن ذِكْر الحَرْث، فقُدِّمت عِنايةً بذِكْرها .
- وفي قوله: فِيهَا صِرٌّ ما يُعرَف بالتَّتْميم؛ إذ أَفادَتِ المبالغةَ، كما أفادتِ التَّجسيدَ والتَّشخيص، كما تقول: بَرْدٌ بارِد، وليلةٌ ليلاء، ويوم أيوم، ثم قُيِّد الصِّرَّ بالظَّرفيَّة (فيها)؛ لأنَّ الرَّيح مُطلَقة ثم قيَّدها بالظَّرفيَّة، وكلُّ مُقيَّد ظَرْف لمُطلَقه؛ لأنَّ المُطلَق بعض المُقيَّد، فحصل التَّجسيد والتَّشخيص .
وأيضًا كأنَّ جِنْسَ الصِّرِّ مَظروفٌ في الرِّيح، وهي تَحمِله إلى الحَرْث، فيُفيد شِدَّةَ بَرْد هذه الرِّيح .
3- قوله: وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فيه تقديمُ المفعول أَنْفُسَهُمْ على الفِعل وفاعِلِه يَظْلِمُونَ، وفائدة التَّقديم: الحصرُ، فالمعنى: أنَّهم ما ظلَموا اللهَ عزَّ وجلَّ، والله- أيضًا- ما ظلَمهم، ولكنَّهم ظلموا أنفسَهم دون غيرِها، ودون أن يَظلِمَهم أحدٌ .
==============
سورة آل عمران
الآيات (118-120)
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
غريب الكلمات:
بطانة: أي: دخلاء، وبطانة الرجل: أهل سره، الذين يبطنون أمره، ممن يسكن إليهم، ويثق بمودتهم
.
من دونكم: أي: من غير المسلمين، وأصل الدون: المداناة والمقاربة .
لا يألونكم خبالا: لا يقصرون في فساد دينكم؛ يقال: ألوت في الشيء آلو: إذا قصرت فيه ، وخبالا: أي: فسادا أو شرا، وأصل: الخبل: فساد الأعضاء، والجنون .
ودوا ما عنتم: أي: ودوا عنتكم، والمعانتة: معاندة فيها خوف وهلاك، وأصل العنت: المشقة .
خلوا: أي: انفردوا؛ يقال: خلا إليه: انتهى إليه في خلوة، والخلاء من الشيء: الفراغ منه .
تمسسكم حسنة: أي: تنلكم وتصبكم نعمة، وأصل المس: جس الشيء باليد، والحسنة: النعمة
.
المعنى الإجمالي:
ينهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ أشخاص مقربين من غير المؤمنين، يطلعونهم على أسرارهم، أو يولونهم أعمالا، فإن هؤلاء الكفرة والمنافقين لا يؤمن جانبهم، لا تسنح لهم فرصة للإضرار بالمؤمنين إلا استغلوها، بل يسعون في الإضرار بهم بكل طاقتهم، فهم يتمنون حصول كل ما فيه مشقة على المؤمنين، ومن شدة ما يحملونه من أحقاد تجاهم لم يستطيعوا كتمانها، فظهرت كراهيتهم للمؤمنين على فلتات ألسنتهم، وما بقي حبيس صدورهم من البغضاء أعظم وأكبر مما ظهر، قد وضح الله الآيات للمؤمنين، وسيفيدهم ذلك التوضيح إن عقلوه وفهموه.
ثم يبين الله بعضا مما يوجب الحذر من الكفار والمنافقين، وبغضهم، فهم من شدة ما في صدورهم على المؤمنين من الحقد، لا يبادلونهم المشاعر، فالمؤمنون يحبونهم ويودونهم، وهؤلاء الكفار يبغضونهم، كما أن المؤمنين آمنوا بجميع الكتب المنزلة من عند الله بينما هم لا يؤمنون بما أنزله الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حرفوا ما أنزل إليهم؛ فالأولى بمن هذا صنيعه أن يعادى ويبغض، بل إنهم إذا قابلوا المؤمنين أظهروا الإيمان بألسنتهم وعند انفرادهم بعضهم إلى بعض عضوا أطراف أصابعهم من شدة الغيظ على المؤمنين. ثم أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: موتوا بغيظكم إن الله مطلع على ما تكنه الصدرور لا يخفى عليه شيء.
هؤلاء المذكورون من المنافقين والكفار إن حصل للمؤمنين ما يسر ساءهم ذلك وأحزنهم، وإن أصاب المؤمنين سوء فرحوا بذلك، ثم أرشد الله المؤمنين لما يعينهم على تحمل ذلك وهو الصبر والتقوى؛ فإنهم إن فعلوا ذلك فإنه لن يلحقهم من ضرر هؤلاء وكيدهم شيء، والله محيط بجميع ما يفعله هؤلاء المنافقون والكفار، وسيجازيهم عليه.
تفسير الآيات:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118)
مناسبة الآية لما قبلها:
لما شرح الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين
، فقال:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا
أي: يا أيها المؤمنون، لا تجعلوا من خاصة أصدقائكم والمقربين منكم أناسا من غير المؤمنين، كفارا أو منافقين؛ فيطلعوا على أسراركم، أو يتولوا لكم أعمالا، أو تجعلوا لهم مناصب ونفوذا؛ فإن الكافر لا يؤمن جانبه، وما تنطوي عليه نفسه من الغش والخداع، وإذاعة أسرار المؤمنين إلى الأعداء، ولا يترك مجالا يمكن أن يفسد أحوالكم فيه إلا وسعى إليه بكل طاقته، ولا يقصر في إلحاق أنواع الضرر بكم .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى )) .
ودوا ما عنتم
أي: يحبون ويتمنون بكل قلوبهم وقوع الضيق، وحصول المشقة عليكم في دينكم وأموالكم وأبدانكم، وكل ما يسوؤكم .
قد بدت البغضاء من أفواههم
أي: ظهرت على فلتات ألسنتهم البغضاء لكم، فلم يستطيعوا كتمانها .
وما تخفي صدورهم أكبر
أي: إن ما انطوت عليه صدورهم من الكراهية للإسلام وأهله أشد وأعظم مما بان على ألسنتهم .
قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون
أي: قد أظهرنا لكم بوضوح- أيها المؤمنون- آيات الله تعالى، ومنها العلامات والبراهين التي تظهر لكم أمر هؤلاء الذين حذرناكم من اتخاذهم بطانة، تفسد عليكم مصالحكم الدينية والدنيوية، فتتمكنوا من خلالها من التفرقة بين الصديق والعدو إن كنتم تعقلون عن الله آياته؛ فإن ذلك لا يخفى على لبيب عاقل .
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119)
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم
أي: ها أنتم- أيها المؤمنون- تحبون هؤلاء الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة، فتودونهم وتريدون لهم الخير، وهم لا يحبونكم، بل يبغضونكم ويريدون لكم السوء والضرر؛ فكيف تحبونهم ؟!
وتؤمنون بالكتاب كله
أي: إنكم تؤمنون بجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى، وتعلمون أن هؤلاء القوم لا يؤمنون بما أنزل إليكم، وقد حرفوا وبدلوا ما أنزل إليهم، فالأولى بكم إذن أن تعادوهم وتبغضوهم .
وإذا لقوكم قالوا آمنا
أي: إن هؤلاء الذين نهاكم الله أن تتخذوهم بطانة إذا لقوكم أعلنوا لكم بألسنتهم إيمانهم نفاقا منهم .
وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ
أي: إذا صاروا في خلاء مع أضرابهم من حيث لا ترونهم، عضوا أطراف أصابعهم من شدة الحنق والغيظ على ما يرون من ائتلافكم، واجتماع كلمتكم على الحق .
قل موتوا بغيظكم
أي: قل- يا محمد- لهؤلاء: لتهلكوا بغيظكم الذي بكم على المؤمنين؛ ذلك أن الله تعالى متم نعمته على عباده، وسترون من عز الإسلام وذل الكفر ما يسوؤكم، وتموتون بغيظكم فلا تضرون بذلك إلا أنفسكم .
إن الله عليم بذات الصدور
أي: إن الله سبحانه لا يخفى عليه ما تنطوي عليه صدور هؤلاء من الغل والبغضاء لعباده المؤمنين، ويعلم أيضا ما تحويه صدور جميع خلقه، فيحفظ عليهم ذلك؛ ليجازي كلا منهم بما يكنه قلبه من خير أو شر .
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط (120)
مناسبة الآية لما قبلها:
لما ذكر الله تعالى شدة عداوة أهل الكتاب للمؤمنين، ذكر هاهنا أحوالا دالة على ذلك، تكشف عما في صدورهم ، فقال:
إن تمسسكم حسنة تسؤهم
أي: إن تنالوا- أيها المؤمنون- سرورا بظهوركم على عدوكم، أو بكثرة أنصاركم، أو ظفرتم بالنصر على أعدائكم، أو بحصول العافية لكم، وغير ذلك من أنواع الخير، يغمهم ذلك ويحزنهم .
وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها
أي وإن تنالوا- أيها المؤمنون- ما يسوؤكم كانتصار عدوكم عليكم، أو حدوث اختلاف بينكم، أو وقوع جدب في أرضكم، وغير ذلك من أنواع الضر، فإنهم يسرون بذلك .
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا
مناسبة الآية لما قبلها:
لما بين تعالى شدة عداوة الكفار والمنافقين، وشرح ما هم عليه من الصفات الخبيثة، وجه عباده إلى ما يعينهم على تحمل ذلك، ودفع ضرره عنهم ، فقال:
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا
أي: إن تصبروا- أيها المؤمنون- على كل ما وجب عليكم الصبر عليه، ومن ذلك: أقداره سبحانه، وتمتثلوا ما أمركم الله تعالى به، وتجتنبوا ما نهاكم عنه؛ فإن استعمال هذا الصبر ولزوم هذه التقوى يدفع عنكم بإذنه كل كيد للأعداء، وكل ضرر أرادوا إلحاقه بكم، فتسلموا من أذاهم .
وقال تعالى عن إنجائه يوسف من كيد إخوته وغيرهم: قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف: 90] .
إن الله بما يعملون محيط
أي: إن الله تعالى بما يقوم به هؤلاء الكفار من كيد وضر بأهل طاعته، محيط بجميعه، لا يغيب عنه شيء من ذلك، فهو سبحانه يحصيه عليهم ويجازيهم به
.
الفوائد التربوية:
1- أن تجنب البطانة السيئة من مقتضيات الإيمان؛ لأن الخطاب وجه إلى المؤمنين، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم
.
2- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية، فيه دلالة على أنه ليس كل أحد يجعل بطانة، فإذا ابتلي المرء بمخالطة العدو فينبغي أن تكون مخالطته له في الظاهر، ولا يطلعه على شيء من باطنه، ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه .
3- في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، بيان عناية الله تعالى بعباده المؤمنين؛ حيث حذرهم من أمور قد تخفى عليهم كاتخاذ البطانات السيئة .
4- في قوله تعالى: ودوا ما عنتم أن أعداءنا يودون لنا ما يشق علينا؛ في الدنيا أو الدين، فيودون ما يدمر جيوشنا، ويودون ما يدمر اقتصادنا، ويودون ما يدمر معارفنا، ويودون ما يدمر ديننا، وهذا الأخير هو الأهم لديهم .
5- إعمال الفكر والاستدلال، واستعمال العقل في تأمل الآيات، هو سبيل العلم والفطنة، يبين ذلك قول الله تعالى: قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
6- كلما كان الإنسان أقوى عقلا كان أفهم لآيات الله؛ فقد قال تعالى: قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
7- التحذير ممن يبدي أنه ناصح لك وقلبه كاره لك؛ لأن المقصود من هذا قوله: ها أنتم أولاء تحبونهم... التحذير من هؤلاء، فلا تغتر بمن ظاهر حاله النصح، بل قس الأمور بالأفعال؛ لأن الأفعال هي التي تبين حقيقة الأمر، فكم من إنسان يقول لك قولا وهو على خلاف ما يقول لك، فالعبرة بالأفعال لا بالأقوال .
8- أنه ينبغي للمسلم أن يكون قويا صارما أمام أعدائه؛ لقوله: قل موتوا بغيظكم .
9- في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم...، التحذير من تولية اليهود والنصارى لأمور المسلمين القيادية؛ كأن يجعلوهم مدراء أو وزراء أو ما أشبه ذلك؛ لأنهم لا يألوننا خبالا ويسرون بما يسوؤنا، ويساؤون بما يسرنا، فكيف نتخذهم بطانة نوليهم أمورنا القيادية من: إدارة أو رئاسة أو غيرها؟ .
10- أن أعداءنا لا يألون جهدا في الكيد لنا، وعلاج هذا بالصبر والتقوى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا، بالصبر على كل ما يجب الصبر عليه من أوامر فنقوم بها، أو نواه فنتركها، أو سياسات فنتبعها، فمن صبر واتقى كان في حفظ الله عن الآفات والمخافات، فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين .
11- أن الصبر والتقوى يدفعان الأعداء؛ لقوله سبحانه: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم وما فعلوه علنا إن صبرنا واتقينا لا يضرنا من باب أولى؛ لأن الكيد الذي يكون بالمكر والخديعة إذا كان لا يضرنا مع الصبر والتقوى، فما كان ظاهرا بينا فهو من باب أولى
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- توجيه الخطاب إلى المؤمنين- كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا- له ثلاث فوائد: الأولى: الإغراء على الامتثال كأنه يقول: إن كنت مؤمنا فافعل كذا وكذا، إن كنت مؤمنا فلا تفعل كذا وكذا، إن كنت مؤمنا فصدق بالخبر، ففيه توجيه للمؤمنين وإغراء بالامتثال.
الثانية: أن امتثاله من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يخاطب الشخص بوصف ثم يوجه إليه حكم متعلق بهذا الوصف إلا كان ذلك دليلا على أن امتثال هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يصح أن توجه لكافر كلمة تتعلق بالمؤمن.
الثالثة: أن الإخلال به نقص في الإيمان
.
2- في قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم، نهي عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، ومحبة مشقتهم، وظهور بغضهم، والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما .
3- في قول الله تعالى: من دونكم؛ إشارة إلى أنهم يهضمون أنفسهم، وينزلونها عن علي درجتها بموادتهم .
4- قول الله تعالى: قد بدت البغضاء من أفواههم فيه ذكر الأفواه دون الألسنة؛ إشعارا بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم، كما يقال: كلمة تملأ الفم إذا تشدق به، وقيل: المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين .
5- قال الله تعالى: قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ولم يقل: (إن كنتم تعلمون أو تفقهون)؛ لأن العقل أعم من العلم والفقه، وهذه الآيات آيات فراسة وتوسم؛ لذا قال: إن كنتم تعقلون .
6- في قوله تعالى: إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها أن العدو إذا أصابت عدوه حسنة ساءته، وإذا أصابته سيئة فرح بها، وقد جعل الفقهاء رحمهم الله هذا ضابطا في العداوة، حينما تكلموا في باب الشهادات على أن العدو لا تقبل شهادته على عدوه، قالوا في ضابط العدو: هو من سرته مساءتك وساءه مسرتك، مأخوذ من هذه الآية .
7- قول الله تعالى: إن الله بما يعملون محيط، لم يقل: (إن الله محيط بما يعملون)؛ لأنه ليس المقصود هاهنا بيان كونه تعالى عالما، وإنما بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون:
- في تصدير الخطاب بالنداء في قوله: يا أيها الذين آمنوا دلالة على أهمية ما يأتي بعده والتنبه له، وتوجيهه إلى المؤمنين أفاد الإغراء بالامتثال، وأن امتثاله من مقتضيات الإيمان، وأن الإخلال به نقص في الإيمان
.
- وقوله: لا يألونكم، وودوا ما عنتم، وكذلك قد بدت البغضاء: جمل مستأنفة على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة هنا للتنبيه، وهو أبلغ وأحسن من تقدير هذه الجمل صفة للبطانة ؛ فهي مبينة لحالهم، داعية إلى الاجتناب عنهم، ومؤكدة للنهي أيضا، وموجبة لزيادة الاجتناب عن المنهي عنه .
- قوله: إن كنتم تعقلون فيه حذف الجواب؛ لدلالة المذكور عليه، والتقدير: إن كنتم من أهل العقل، أو إن كنتم تعقلون ما بين لكم من الآيات .
2- قوله: قل موتوا بغيظكم: فيه خروج الأمر عن معناه الحقيقي إلى معنى التوبيخ والتقريع، كقوله: اعملوا ما شئتم [فصلت: 40] ، وليس هو بأمر جازم؛ لأنه لو كان أمرا لماتوا من فورهم، وليس بدعاء؛ لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة؛ فإن دعوته لا ترد، وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير، وليس بخبر؛ لأنه لو كان خبرا، لوقع على حكم ما أخبر به، فلم يؤمن أحد بعد .
3- قوله: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم: استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خلق الفريقين؛ فالمؤمنون يحبون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكل إناء بما فيه يرشح .
- وفيه تعجب من مجموع الحالين؛ فالعجب من محبة المؤمنين إياهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلا والقصد التعجب من مضمون تلك الجملة .
4- قوله تعالى: وتؤمنون بالكتاب كله:
- قوله: بالكتاب: فيه تعريف (الكتاب) للجنس؛ تعظيما وتكريما، وأكد بصيغة المفرد (كله) مراعاة للفظه .
- قول الله تعالى: وتؤمنون بالكتاب كله في الآية إضمار، والتقدير: وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به، وحسن الحذف؛ لأن الضدين يعلمان معا، فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر .
5- قوله: إن الله عليم بذات الصدور: تذييل لقوله: عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، وما بينها كالاعتراض، أي: إن الله مطلع عليهم، وهو مطلعك على دخائلهم .
6- قوله: إن تمسسكم حسنة تسؤهم: ذكر المس مع الحسنة، والإصابة مع السيئة؛ للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة، ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة ، لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه، أو فيه، فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين .
- وحسنة- سيئة نكرتان في سياق الشرط بـ (إن) يفيدان عموم البدل، ولم تعرفا لإيهام التعيين بالعهد، ولإيهام العموم الشمولي .
======================
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (121-129)
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
غريبُ الكَلِمات:
غَدَوْتَ: أي ذهبتَ أوَّلَ النَّهار؛ يُقال: غدا يَغْدو، والغَدْوة والغَداة تكون من أوَّلِ النَّهار
.
تُبَوِّئُ: تتَّخِذ لهم، وتُوطِّن، وأصْل البَواء: مساواةُ الأجزاءِ في المكانِ، وتَساوي الشَّيئين .
مَقَاعِدَ: أي: مُعسكرًا، ومَصافَّ للقِتال، وأصْل المَقعَد: مكان القُعُود .
تَفْشَلَا: أي: تجبُنَا وتَضعُفَا .
أَذِلَّةٌ: قليلون مَقهورون، وأصل الذُّلِّ: الخضوعُ، والاستكانةُ، واللِّين، والذُّلُّ: ضدُّ العز، وخِلافُ الصُّعوبة .
مِنْ فَوْرِهِمْ: أي: مِن وجْهِهم أو مِن ساعتِهم، أو مِن غضَبهم، ، يُقال: فار فائرُه، إذا غضِب، وأصْل الفَوْر: ابتداءُ الأمْر، يُؤخَذ فيه ويُوصَل بآخَرَ؛ يُقال: فَعلَه مِن فَوْره، أي: في بَدْءِ أمْره، قبل أن يَسكُن .
مُسَوِّمِينَ: أي: مُعلِّمين لأنفسِهم أو لخيولِهم بعَلامةِ الحَرب، مأخوذٌ من السَّومة والسَّيماء: وهي العلامة التي تُعلِّم الفارسَ نفْسَه .
لِيَقْطَعَ طَرَفًا: أي: ليُقتُل فِرْقةً منهم، أو يُهلِك جماعةً منهم، وأصْل القطع: الفَصْل، وإبانةُ شيءٍ من شيء، وطرَف الشَّيء: جانِبُه، وأصْله: حدُّ الشيءِ وحَرْفه .
يَكْبِتَهُمْ: يَصرَعهم لوجوهِهم ويُهلِكهم، والكَبْت: الإهلاكُ، والردُّ بعُنفٍ وتذليل .
فَيَنْقَلِبُوا: فيَنهزِموا مُنقطِعي الآمال، والانقلابُ: الانصرافُ، ورجوعُ القَهْقَرى، وقلبُ الشيءِ: تصريفُه وصرْفُه عن وجْهٍ إلى وجه
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يُذكِّر الله نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بخروجه من بيته للقاءِ الكفَّار يوم أحدٍ، حين كان يُرتِّب المؤمنين للقتال، كلٌّ في مَقعَده اللائق به، مُخبِرًا عزَّ وجلَّ أنَّه سبحانه سميعٌ عليم.
ويذكِّره أيضًا حين همَّت طائفتانِ من المؤمنين وهما بنو سلمة وبنو الحارث بالفشلِ، فثبَّتهما الله تعالى، مُنبِّهًا سبحانه أنه عليه وحْدَه فليتوكَّل المؤمنون.
ويَمتنُّ الله على عِبادِه بنَصْرِه لهم يومَ بدرٍ وهم ضعفاءُ، فينبغى أنْ يتَّقوه؛ لعلهم يَشكُرونه تعالى مُقابِل ما امتنَّ به عليهم، ثم يُذكِّر الله نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حين قال عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه مُبشَّرًا لهم، أَلن يَكفِيَكم إمدادُ الله لكم بثلاثة آلاف من الملائكة يُنزِلهم سبحانه وتعالى من السَّماء؛ ليُشارِكوكم القتالَ يوم بدرٍ، بلى، هو كافٍ لكم، ولكم أيضًا أنْ يُمِدَّكم الله بخمسةِ آلافٍ من الملائكة الذين عليهم علامةُ الشُّجعان في حالِ صَبْركم وتقواكم، ومجيءِ المشركين من الجِهة التي جاؤوكم منها مُسرِعين إليكم.
ويُخبِرهم سبحانه أنَّ إعلامَ الله لهم بأنَّه سيُمِدُّهم بالملائكة هو بُشرى لهم؛ ولتَسكُنَ قلوبهم به، وما النَّصر إلَّا من عند الله العزيز الحكيم، يَنصُرهم سبحانه من أجْل أن يُهلِك بعضَ الكفَّار أو يُخزي بعضَهم، ويُذِلَّهم فيعودوا إلى بلادِهم خائبين لم ينالوا خيرًا، أو أنَّه سبحانه يَهديهم للإسلام، أو يُعذِّبهم بسبب ظُلْمهم، فأمرُهم كلُّه راجعٌ إلى الله سبحانه، ليس للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من الأمر شيء.
ثم يُقرِّر تعالى أنَّ له وحْده كلَّ ما في السَّموات والأرض، يتجاوزُ عن عقوبةِ مَن يشاء مِن عباده، ويُعاقِب مَن يُشاءُ، والله هو الغفورُ الرَّحيم.
تفسير الآيات:
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ سلاحَ الصبر والتقوى يأمنُ بإذنِه المؤمنون من غوائلِ المتربِّصين، ويحصُل به النصرُ على الكافرين، ذكَر هنا مثالًا يَمنعُ تحقُّقَ ذلك الأمْر، إذا تخلَّفتْ بعضُ أسباب النصر تلك
، كما أنَّ ذِكر هذه الغزوةِ يُظهر شيئًا من كيدِ الأعداءِ الذين حذَّر الله تعالى عِبادَه من اتِّخاذهم بطانةً .
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
أي: واذكُر- يا محمَّدُ- حين خرجتَ مِن بيتك مُغادِرًا المدينةَ، للقاءِ المشركين في غزوة أُحُد، وأخذتَ تُنزِل المؤمنين في مَواضِع القتالِ التي يَثبُت فيها الجيشُ، ولا يَنتقِل عنها؛ لأنَّها لائقةٌ بتحرُّكاته، كل في الموضِع الذي يَصلُح له مَيمنةً أو مَيسرةً وغير ذلك .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ سميعٌ لِمَا تتشاورُ فيه أنت ومَن معك حول مَوضِع لقاءِ العَدوِّ، عليمٌ بأصلحِ تلك الآراء لكم، وبما تُخفيه صدورُ المُشيرين من المؤمنين والمنافقين من نيَّات، كما أنَّه سبحانه يسمعُ ويعلمُ غيرَ ذلك من أمورِكم وأمورِ سائر خَلْقه، فيُحصي على عبادِه ما يقولون ويعملون، وبحسَب ذلك يُجازون .
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا
أي حدَّث بنو سَلِمةَ وبنو حارثة أنفسَهم بالفِرار والانصرافِ عن القتال مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ أُحُد؛ خوفًا وضَعْفًا من لِقاء العدوِّ، لا شكًّا منهم في الإسلام ولا نفاقًا .
وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
أي: عصَمهم اللهُ ممَّا همُّوا به، فثبَّتهم برعايته الخاصَّة، وأيَّدهم ووفَّقهم ليَمضوا مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لقتالِ الأعداء .
عن جابرِ بن عبدِ الله رضِي اللهُ عنهما قال: ((فينا نَزَلَتْ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا، قال: نحن طائفتان: بنو حارِثةَ وبنو سَلِمَةَ، وما نُحِبُّ- وقال سُفيانُ مرةً: وما يَسُرُّني- أنَّها لم تَنزِلْ؛ لقولِ اللهِ: وَاللهُ وَلِيُّهُمَا)) .
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
أي: على اللهِ تعالى وحْده اعتَمِدوا بصِدقٍ- أيُّها المؤمنون- في كلِّ شؤونكم؛ جلبًا للخيرات، أو دفعًا للكريهات .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ سلاح الصَّبر والتَّقوى يأمَن بإذنه المؤمنون من غوائل المُتربِّصين ويحصُل به النَّصر على الكافرين، ذكَر هنا مثالًا تحقَّقت فيه للمؤمنين أسبابُ النَّصر هذه، فنصرهم الله تعالى بفضلِه .
كما أنَّه لَمَّا ذكَر حالَهم في غزوة أُحُد وما جرَى عليهم من المصيبة، أَدخَل فيها تذكيرَهم بنَصْره، ونِعمتِه عليهم يوم بَدْر؛ ليكونوا شاكرين لربِّهم، وليُخفِّف هذا هذا .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
أي: قد أَظهَركم اللهُ على عدوِّكم فغلَبتموهم في الغزوة التي دارتْ في محلَّة بَدْر، والحال أنَّكم يومئذٍ ضعفاءُ، فقليلٌ عَددُكم وعُددُكم، وكنتم في غير مَنَعَةٍ من النَّاس، وهم كانوا أكثرَ منكم عَددًا وعُددًا، فإنْ تَصبِروا لأمْر الله وتتَّقوه سبحانه يَنصرْكم كما نصرَكم في ذلك اليوم .
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
أي: لأنَّ الله تعالى جعَل لكم الغَلَبة يومَ بدر، فاتَّقوه بامتِثال أوامِره، واجتنابِ نواهيه؛ لتكونوا بذلك من الشَّاكرين له على ما منَّ به عليكم من النَّصرِ على الأعداء، وجَعْلِكم مِن بعد الهوانِ أعزَّاء .
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
أي: اذكُر- يا محمَّدُ- حين قلتَ للمؤمنين من أصحابك مُبشِّرًا لهم: أَلَا يكون كافيًا إمدادُ الله تعالى لكم بثلاثة آلاف من الملائكة، يُنزِلهم الربُّ سبحانه من السماء، ليُقاتِلوا معكم المشركين يوم بَدْر ؟
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
أي: هذا الإمدادُ يَسُدُّ حاجتَكم، ولكن إنِ استعملتُم الصَّبر في كلِّ ما وجب فيه الصَّبر، ولَزِمتُم التَّقوى بامتِثال أوامرِ الله تعالى واجتناب نواهيه، وخرج المشركون عليكم مباشرةً من حيث خرَجوا مُسرِعين إليكم، في حدَّةٍ وحرارةٍ لقتالكم .
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: مُسَوِّمِينَ قِراءتان:
1- (مُسَوِّمِينَ) -بكَسرِ الواو على أنَّها اسمُ فاعل- أي: سوَّم الملائكةُ أنفسَهم، أو سوَّموا خُيولَهم .
2- (مُسَوَّمِينَ) -بفَتحِ الواو على أنَّها اسمُ مفعول- أي: إنَّ الملائكةَ قد سُوِّموا .
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
أي: إنَّ ربَّكم الذي له بكم عِناية خاصَّة، يُزوِّدكم بأكثر ممَّا وعدكم من قَبْل بزيادة ألفين من الملائكة، يأتونكم وعليهم أو على خيولهم علامة الشُّجعان الأبطال، دَلالة على أنَّهم لا يَكترِثون بأنْ يَعرِفهم عدوُّهم من شدَّة شجاعتهم .
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ
أي: وما أَخبَركم اللهُ سبحانه بنبأِ إمدادِكم بالملائكةِ إلَّا لإدخالِ السُّرور عليكم .
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ
أي: جعَل اللهُ تعالى هذا المددَ لكم؛ لحصولِ الطُّمأنينة أيضًا في قلوبِكم، فتَسكُن ولا يُصيبها الهَلَعُ والانزعاجُ من تفوُّق عدوِّكم عليكم في العَدد والعُدد .
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
أي: لا يتحقَّق لكم الظَّفَرُ بعدوِّكم إلَّا بعَونِ الله وحده، لا من قِبَل المددِ الذي يأتيكم من الملائكة، فعلى الله فتوكَّلوا، وبه فاستَعينوا، لا على ما أُوتِيتم من أسباب؛ فإنَّه الذي ذَلَّ له كلُّ الخلائق فهم تحتَ تدبيره وقَهْره، وهو الغالبُ على أمْره، وهو الذي يَضَع الأشياء مَواضِعها فيتصرَّف في عبادِه بحِكمتِه، ومن ذلك أنَّه يَنصُر أولياءَه كما في بَدْر، أو يُقدِّر هزيمتَهم، كما وقَع في أحدٍ .
قال تعالى بعدَ أمْرِه المؤمنين بالقتال: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4] .
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أي: مِن أسبابِ نَصْر الله تعالى لعباده إهلاكُ بعض الكفَّار كاستئصالِ صناديدِهم، وأسْر بعضِهم، وقتْل آخرين، كما وقَع يومَ بَدْر، أو الاستيلاءِ على أراضيهم وأموالِهم، وغير ذلك .
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ
أو يُخْزي بعضَهم، ويُصيبهم بالغمِّ والحَزَن بسببِ رُجوعهم مُحمَّلين بالخيبةِ والفشل الذَّريع؛ إذ لم ينالوا ما أمَّلوا من الانتصارِ عليكم- أيُّها المؤمنون .
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
سببُ النُّزول:
عن أنسِ بن مالكٍ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُسِرَتْ رَباعيَتُه يومَ أُحُدٍ، وشُجَّ في رأسِه، فجَعل يَسلُتُ الدمَ عنه ويقول: ((كيف يُفلِحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم وشجُّوا رَبَاعِيَتَه وهو يَدعوهم إلى اللهِ؟!. فأنزل اللهُ تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ)) .
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
أي: إنَّ شأنَ أولئك الكفَّار راجعٌ إلى اللهِ تعالى لا إليكَ- يا محمَّدُ-؛ فاترُك أمرَهم للهِ عزَّ وجلَّ، وامضِ أنتَ لشأنِكَ في تبليغِ رِسالةِ ربِّك، فإمَّا أنْ يُوفِّقهم الله تعالى للدُّخول في دِينه، فيُسلِموا محضَ فضلٍ منه جلَّ وعلا، أو يُعذِّبهم في الدُّنيا أو الآخِرة عدْلًا منه سبحانه؛ بسببِ وضْعهم أنفسَهم في غيرِ ما خُلِقُوا لأجله، باعتناقِهم الكفرَ وارتكابِهم المعاصي .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنَّ جميعَ المخلوقات مُلْكٌ لله تعالى وحده، يحكُم فيهم بما شاءَ ويتصرَّف فيهم بما أَحبَّ سبحانه .
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
أي: ما دامَ أنَّ له مُلْك كلِّ شيءٍ سبحانه، فعباده دائرون بين مَغفرتِه وتعذيبه، فيَتجاوَز عن عقوبةِ مَن يشاء بحِكمته فضلًا منه سبحانه، ويُعاقِب مَن يشاء بحِكمته عدْلًا منه سبحانه .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أي: هو الذي يَستُر ذُنوبَ عباده، ويتجاوَز عن المؤاخذة بها، وهو الرَّحيم الذي رحْمته غلبتْ غضبه، ومِن رحمته سَعةُ إحسانِه إلى عباده
.
الفوائد التربوية:
1- التَّوفيقُ والعِصمةُ من الله تعالى، ولولا توفيقُه سبحانه وتسديدُه لَمَا تَخلَّص أحدٌ عن ظُلماتِ المعاصي، يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
.
2- أنَّه يَنبغي للقائد أنْ يُبوِّئ أمكنةَ المُقاتِلين، ويُعرِّف كلَّ واحد منهم مكانَه وعملَه؛ حتى لا يَحصُل ازدواجٌ يَضُرُّ بالجيش، كلُّ واحد يُرتِّبه على حسَب ما يَليق به ويقول: اجلِس مكانَك، وهذا عملُك واستمرَّ عليه؛ لأنَّ في النَّظام- ولا سيَّما- في مِثْل هذه المواقف فائدةً كبيرة .
3- وجُوب التَّوكُّل على الله وأنَّه مِن مُقتضى الإيمان؛ لقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، وأنَّه ينبغي للإنسان أنْ يتوكَّل على الله- ولا سيما- في هذه المواطِن التي يَشتدُّ فيها الأمرُ على المسلم، بل على المؤمن ألَّا يَنظُر إلى الأمورِ نظرًا ماديًّا؛ لأنَّ وراء الأمور الماديَّة ما هو أَعظَم منها، وهي قُدْرة الله سبحانه وتعالى التي تَقضي على كلِّ هذه الأمور .
4- يَنبغي أنْ يَدفَع الإنسانُ ما يعْرِضُ له من مكروهٍ وآفةٍ بالتَّوكُّل على الله تعالى، وأنْ يَصرِف الجَزْع عن نَفْسه بذلك التَّوكُّل، يُبيِّن ذلك قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .
5- أنَّه إذا قوِي الإيمانُ قوِي التَّوكُّل على الله؛ لقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بِناءً على قاعدة معروفة، وهي: أنَّ ما عُلِّق على وصْفٍ يقوى بقوَّته، ويَضْعُف بضَعفه .
6- في قوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أنَّ الإنسان بغير نَصْر الله لا يستطيعُ أن يَنتصِر؛ لأنَّه إذا كان جندُ الله الذين هم أعظمُ جندٍ كان على وجْهِ الأرض، وهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومن معه لم يَنتصِروا بأنفسهم وإنَّما انتصروا بنصر الله؛ فمَن سواهم مِن باب أَوْلى، ويتفرَّع على هذه الفائدة: أنَّنا لا نُعلِّق النَّصر إلَّا بالله سبحانه وتعالى، لا نُعلِّق النَّصرَ بقوَّتنا .
7- أنَّه كلَّما كان الإنسان أذلَّ لله كان أقربَ إلى نصْر الله، وكلَّما كان الإنسان مُستغنيًا عن الله كان أبعدَ عن النَّصر؛ لقوله: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، والإنسان إذا رأى مِن نَفْسه العِزَّة وعلا وشمخ فإنَّه يُخذَل، قال الله تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7] .
8- أنَّ النَّصرَ لا يكون بكثرة العَدَد ولا بقوَّة العُدَد، بل هو من عند الله سبحانه وتعالى، لكن كثرة العَدَد وقوة العُدَد ممَّا أمَرَنا الله به وجعله سببًا للنَّصر ، فمهما عظُمتِ الأسباب إذا لم يؤيِّد اللهُ الإنسانَ بنصر، فإنَّه لن يَنتصِر؛ لقوله بعد ذِكْر هذا الإمداد وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .
9- أنَّ مَنْ مَنَّ الله عليه بنعمةٍ كان ذلك مُوجِبًا لتقوى الله، فالنَّصر سببٌ للتَّقوى والذُّلِّ لله والخضوعِ له والانطراحِ بين يديه، كما فعَل النَّبيُّ عليه السَّلام حين فتَح مكة دخل مُطأطِئ الرَّأس يتْلو كتابَ الله عزَّ وجلَّ، خِلافًا لِمَا يفعله بعضُ النَّاس إذا انتصر جعَل هذا النَّصر سببًا للأَشَر والبَطَر والملاهي والأغاني، وغير ذلك من المعاصي، بل قد يكون بعد النَّصر أكثرَ منه فُسُوقًا ممَّا قبل الحرب، وهذا خلافُ ما أمر الله به؛ لأنَّه قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ فأمر بالتَّقوى بعد النَّصر لئلا يَشمَخَ الإنسان بأَنْفه، ويتطاوَل على ربِّه بانتصاره، فيعود إلى ما كان عليه من الفَرَح والبَطَر والأَشَر .
10- أنَّ تقوى الله تعالى من الشُّكر لله؛ لقوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وهذا أمْرٌ لا شكَّ فيه أنَّ التَّقوى من الشُّكر، بل هي الشُّكر حقيقةً؛ لأنَّ التَّقوى اتِّخاذ وقاية من عذاب الله بفِعْل أوامره واجتناب نواهيه، والشُّكر هو القيام بطاعة المُنعِم بالقلب واللِّسان والجوارح .
11- أفاد قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ ما كان عليه النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في معاملة أصحابه من إدخال الأمَل في قلوبهم عند اشتدادِ الأزمات، وهذا أدْعى للنَّشاط وطرْح الهمِّ والغمِّ، أمَّا بعض النَّاس فيكون على العكس تَجِده يُدخِلُ على النَّاس التَّشاؤمَ والمروِّعاتِ والمُخيفاتِ، وهذا لا شكَّ أنَّه خلافُ السِّياسة الشَّرعيَّة، بل وخلافُ العقل .
12- أنَّ الصَّبرَ والتَّقوى سببانِ للنَّصر؛ لقوله: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا أي: تَصبِروا على الأوامر وتتَّقوا المحارم .
13- إظهارُ عجْز العبوديَّة، وألَّا يخوضَ العبدُ في أسرار الله تعالى في مُلْكه ومَلكُوته؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
.
الفوائِدُ العلميَّةُ واللَّطائف:
1- حُسْنُ تدبيرِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحرب؛ لقوله: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
.
2- في قول الله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ جاءتْ لفظةُ القعود، وهي أدلُّ على الثُّبوت، ففيها إشارةٌ إلى أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَقدَّم إلى كلِّ أحد بالثَّبات في مركزه، وأَوعَز إليه في أنْ لا يفعل شيئًا إلَّا بأمْره .
4- قولُ الله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ: طَائِفَتَانِ إشارة لطيفةٍ إلى الكِناية عمَّن يَقَع منه ما لا يُناسِب والسَّتْر عليه، إذ لم يُعيِّن الطائفتين بأنفسهما، ولا صرَّح بمَن هما منه من القبائل؛ سَترًا عليهما .
5- أنَّ الدِّعايةَ ولو كانتْ باطلةً ربما تؤثِّر حتى على المؤمن؛ قال: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ .
6- أنَّ الله سبحانه وتعالى يَلطُف بالمؤمن حتى يُثبِّته على الحقِّ؛ لقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا .
7- قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، فيه تنبيهٌ على الوصفِ الذي يَقتضي التَّوكُّلَ، وهو الإيمان .
8- قول الله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ قدَّم لهم الوعدَ بنُزول الملائكة؛ لتَقْوَى قلوبُهم؛ ويَعزِموا على الثَّبات، ويَثِقوا بنصر الله .
10- أنَّ مَوطِن الملائكة هو السماء، هذا هو الأصلُ؛ لقوله مُنْزَلِينَ؛ لأنَّ النُّزول إنَّما يكون مِن أعلى إلى أسْفَل، فإذا كان هؤلاءِ الملائكةُ مُنزَلين دلَّ على أنَّ مكانهم في السَّماء، هذا هو الأصلُ، لكن ينزلون إلى الأرضِ كثيرًا حسَب أمْر الله تعالى .
11- في قول الله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ؛ صرَّح أنَّ البُشرى إليهم مع ظهورِ ذلك؛ قيل: للدَّلالةِ على تَكرِمةِ الله تعالى إيَّاهم بأنْ بشَّرهم بُشرى لأجْلهم .
10- إثباتُ الحِكمة لله عزَّ وجلَّ في أفعاله وتشريعاته؛ وذلك لأنَّ اللام للتَّعليل، والتَّعليلُ هو الحكمة، قال تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا .
11- في قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، أنَّ الله سبحانه وتعالى يُسلِّط المؤمنين على الكفَّار؛ ليَقطَع طرفًا من الذين كفروا، وليس كلَّ الذين كفَروا؛ لأنَّ مِن حِكمة الله أنْ يبقى الإيمانُ والكفر متصارعَينِ دائمًا؛ حتى يَتبيَّن المؤمنُ الخالصُ من غيره .
12- في قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَملِك شيئًا من الأمر الكونيِّ، وفي هذه الجملةِ ردٌّ على الذين يتعلَّقون بالرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام في الدُّعاء، والاستعانةِ به، والاستغاثةِ به حتى بعدَ موته .
10- في قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ، دلالةٌ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُكلَّف، يأمُره الله سبحانه وتعالى وينهاه؛ وعليه فيكونُ في هذا إبطال لدَعْوى مَن يقولون: إنَّ الإنسان إذا وصَلَ إلى حالة مُعيَّنة من العبوديَّة سقطتْ عنه التَّكاليف؛ فيُقال لهم: إذا كان النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو أشرفُ الخَلْق- لا يَصِل إلى هذه المرتبةِ؛ فما بالك بمن دونه ؟!
11- أنَّ الله سبحانه قد يُعذِّب الكافرين عذابًا ليس للمسلمين فيه يدٌ، بل هو مِن عند الله وحْده؛ لقوله: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ .
12- أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب إلَّا بذنب؛ لقوله: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، والظالم مُستحِقٌّ لأنْ يُنكِّل اللهُ به؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُحِب الظلم
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ: فيه تخصيصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالخِطاب خاصَّة، مع عمومِ الخطابِ فيما قبله وما بعدَه له وللمؤمنين؛ لاختصاصِ مضمونِ الكلامِ هنا به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
.
- قوله: مِنْ أَهْلِكَ: فيه إطلاقُ العامِّ المرادِ به الخاصُّ؛ إذ المرادُ بـأَهْلِكَ: بيتُ عائشة رضي الله عنها- على قول الجمهور .
- قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: الجملةُ اعتراضٌ؛ للإيذانِ بأنَّه قد صدَر عنهم هناك من الأقوالِ والأفعالِ ما لا يَنبغي صدورُه عنهم .
2- قوله: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ:
- جملةُ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا اعتراضٌ، ويجوزُ أنْ تكونَ حالًا من فاعل همَّتْ أو من ضميرِه في تَفْشَلَا، وهي مفيدةٌ لاستبعادِ فشلِهما أو همِّهما بهِ مع كونِهِما في ولاية الله تعالى .
- وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ؛ للتَّبرُّك والتَّعليل؛ فإنَّ الأُلوهيَّة من مُوجِبات التَّوكُّلِ عليه تعالى، واللامُ في الْمُؤْمِنُونَ للجِنْس؛ فيدخلُ فيه الطائفتان دخولًا أوليًّا، وفيه إشعارٌ بأنَّ وصْفَ الإيمان من دَواعي التَّوكُّلِ وموجباتِه .
- وقُدِّم المجرورُ- وهو لفظُ الجلالة اللهِ- للاعتناءِ بمن يُتوكَّل عليه .
3- قوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جملةٌ مُستأنَفةٌ؛ سِيقتْ لإيجاب الصبرِ والتَّقوى بتذكير ما ترتَّب عليهما من النَّصر إثرَ تذكيرِ ما ترتَب على عدمهما من الضَّرر .
- قوله: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فيه تعريضٌ بأنَّ انهزام يوم أُحُد لا يَفِلُّ حِدَّة المسلمين؛ لأنَّهم صاروا أعزَّةً، والحرب سِجالٌ ، و(الأذِلَّة) جمع قِلَّة، وإنما ذُكِر جمعُ القِلَّة؛ ليَدلُّ على أنَّهم مع ذُلِّهم كانوا قليلين ..
4- قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: فيه الاقتصارُ على الأمر بالتَّقوى مع كونه مشفوعًا بالصَّبر فيما سبقَ وما لحِق؛ للإشعارِ بأصالتِه، وكونِ الصَّبرِ من مباديه اللازمةِ له؛ ولذلك قُدِّم عليه في الذِّكر، وفي ترتيبِ الأمرِ بالتَّقوى على الإخبار بالنَّصر إيذانٌ بأنَّ نصرَهم المذكورَ كان بسبب تقواهم؛ أي: إذا كان الأمرُ كذلك، فاتَّقوا الله كما اتَّقيتم يومئذ .
5- قوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ، ثم قال بعده: إِذْ تَقُولُ: فيه تلوينٌ للخِطاب بتَخصيصِه رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لتشريفِه والإيذانِ بأنَّ وقوعَ النَّصرِ كان ببِشارتِه عليه السَّلام .
- وإِذْ ظرفٌ لـنَصَرَكُمْ قُدِّم عليه الأمر بالتَّقوى؛ لإظهارِ كمالِ العِنايةِ به، والمرادُ به الوقتُ الممتدُّ الذي وقع فيه ما ذكَر بعده .
- وصيغةُ المضارعِ تَقُولُ؛ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ لاستحضارِ صورتِها أي: نصَركم وقتَ قولِك .
6- قوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ:
- الاستفهامُ في قوله: أَلَنْ تقريريٌّ؛ لإثباتِ أنَّ ذلك العددَ كافٍ .
- وجيءَ في النَّفيُ بحرف (لَنْ) الذي يُفيد تأكيدَ النَّفي؛ للإشعارِ بأنَّهم كانوا يوم بدر لقِلَّتهم، وضَعْفهم، مع كثرةِ عَدوِّهم، وشَوْكته، كالآيسين من كفايةِ هذا المدد من الملائكة، فأَوقَع الاستفهامَ التَّقريريَّ على ذلك ليكون تَلْقِينًا لمَن يُخالِج نَفْسه اليأسُ من كفاية ذلك العدد من الملائكة، بأنْ يُصرِّح بما في نفْسه، والمقصود من ذلك لازمُه، وهذا إثباتُ أنَّ ذلك العدد كافٍ .
- وقوله: يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ في إسنادِ الإمدادِ إلى لفظة رَبُّكُمْ دون غيرِه من أسماءِ اللهِ: إشعارٌ بحُسْنِ النَّظر لهم، واللُّطف بهم .
- قوله: مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ: فيه وصْف الملائكة بـمُنْزَلِينَ؛ للدَّلالة على أنهم يَنزِلون إلى الأرض في مَوقِع القتال؛ عِنايةً بالمسلمين .
7- قوله: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ...:
- بَلَى إبطالٌ للنَّفي، وإثباتٌ لكون ذلك العدد كافيًا .
- قوله: مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا: لفظ فَوْرِهِمْ فيه تأكيدٌ لسرعةِ إتيانِهم وإمدادِهم بزيادةِ تعيينِه وتقريبِه، مع تحقُّق الإمدادِ لا محالةَ، سواءٌ أَسرعوا أو أبطؤوا؛ لتحقيقِ سُرعةِ الإمدادِ لا لتحقيقِ أصلِه، أو لبيانِ تحقُّقِه على أيِّ حالٍ فُرِضَ، على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ؛ ليُعلم تحقُّقُه على سائرِها بالطَّريق الأوْلى؛ فإنَّ هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعةٍ من مظانِّ عدمِ لُحوقِ المددِ عادةً فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذانًا بأنَّه حيثُ تحقَّقَ مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى .
- وإضافةُ الفَورِ إلى ضميرِ الآتين في قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ؛ لإفادةِ شدَّة اختصاصِ الفَوْر بهم، أي: شدَّة اتِّصافِهم به حتى صارَ يُعرَف بأنَّه فَوْرهم .
- والإشارةُ بقوله: هَذَا إلى الفور؛ تنزيلًا له منزلةً المُشاهَد القريب .
8- قوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
- فيه إظهارُ اسمِ الجلالةِ (الله) في مَقامِ الإضمار؛ للتَّنويهِ بهذه العِناية مِنَ اللهِ بهم .
- وقد وردتْ في سورةِ الأنفال آيةٌ أُخرى مشابهةٌ لهذه الآيةِ التي في آل عمران، وهي قولُه تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 10] ، لكن جاءَ التعبيرانِ فيهما بعضُ الاختلاف؛ ففي هذه الآية قال بُشْرَى لَكُمْ، بينما في آيةِ الأنفالِ لم يذكُر الجارَّ والمجرور لَكُمْ، وفي هذه الآية قال: قُلُوبُكُمْ بِهِ فأخَّر الجارَّ والمجرور بِهِ، بينما قدَّمه في الأنفال فقال: بِهِ قُلُوبُكُمْ، وفي هذه الآية قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وقال في سورةِ الأنفال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ومن الحِكَم في هذا التغايُرِ ما يأتي :
1- أمَّا التَّصريح بالجارِّ والمجرورِ في قوله: بُشْرَى لَكُمْ فقدْ جاءَ على الأصل، بينما في آية الأنفال لم يظهرِ الجارَّ والمجرورُ لأنَّه قد تقدَّم (لَكُمْ) في قولِه تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال: 7] ، وقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال: 9] ؛ فأغْنَى عن إعادتِها بلفظها ومعناها، فالتصريحُ بها هنا يُعلَم منه أنَّ جَعْل البشرى لهم، بينما لم يتقدَّم في سورة آل عمران ما يقومُ مقامَ الأُولى؛ لهذا جاءَ بها على الأصلِ.
ولأنَّه لَمَّا تقدَّم في آية آل عمران قوله تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ والإخبارُ عن عدوِّهم، فاختلَط ذكرُ الطائفتينِ، وضَمَّهما كلامٌ واحدٌ، فجُرِّدت البشارةُ لِمَن هُدي منهما، وأنَّها لأولياءِ الله المؤمنين، فجيء بضمير خِطابهم لَكُمْ متَّصلًا بلام الجرِّ المقتضيةِ الاستحقاقَ، فقيل: بُشْرَى لَكُمْ، أمَّا آيةُ الأنفال فلم يتقدَّمْ فيها ذِكرٌ لغيرِ المؤمنين؛ فلم يُحتَجْ إلى ذِكْر ضميرِ الخِطاب لَكُمْ.
2- وأمَّا تأخيرُ بِهِ بعدَ قوله: قُلُوبُكُمْ هنا في آل عمران، وتقديمُها في آية الأنفال؛ فلأنَّه لَمَّا أخَّر الجارَّ والمجرورَ في الكلامِ الأوَّل، وهو قوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ..، وعطَف الكلامَ الثاني عليه، وقد وقَع فيه جارٌّ ومجرور وجَب تأخيرُهما في اختيار الكلام؛ ليكونَ الثاني كالأوَّل في تقديمِ ما الكلامُ أحوجُ إليه، وتأخيرُ ما قد يُستغنَى عنه، وأمَّا تقديم (به) في آيةِ الأنفال؛ فلأنَّ الأصلَ في كلِّ خبرٍ يُصدَّر بفِعل أنْ يكون الفاعلُ بَعدَه، ثمَّ المفعولُ والجارُّ المجرور، وقد يُقدَّم المفعولُ على الفاعلِ إذا كان اللبسُ واقعًا فيه، وأُريد إزالتُه عنه، ومثله الجارُّ والمجرور، وفي هذا الموضِع لم يعرِضْ في اللَّفظ ما يُوجِب إجراءَ الكلامِ على الأصْل كما كان في سورة آل عمران؛ فإنَّ المعتمدَ بتحقيقه عند المخاطبَين إنَّما هو الإمدادُ بالملائكةِ، وهو الذي أخْبَر الله تعالى عنه أنَّه لم يجعلْه إلَّا بشرى، فوَجَب أنْ يُقدَّم الإمداد، وهو الضَّميرُ بعد الباءِ في قوله تعالى: بِهِ على الفاعِل قُلُوبُكُمْ، فقال تعالى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ.
وقد يُقال: قَدَّم قُلُوبُكُمْ هُنا وأَخَّر بِهِ؛ ازدواجًا بَين المخاطبَين، فقال: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبكُمْ بِهِ، وقدَّم بِهِ في الأنْفال؛ ازدواجًا بَين الغائبِين، فقال: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبكُمْ.
3- أمَّا قوله في آية آل عمران: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وقال في سورة الأنفال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ فذلك لأنَّ آيةَ الأنفال تقدَّم فيها أوعادٌ جليلةٌ كقولِه تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال: 7] ، ثمَّ قال: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال: 7] ، ثمَّ قال: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 8] ؛ فهذه أوعادٌ عليَّةٌ لم يتقدَّم إفصاحٌ بمِثلها في آية آل عمران فناسَبَها تأكيدُ الوصفين العظيمَينِ من قُدرته سبحانه على كلِّ شيءٍ وحِكمته في أفعالِه، فقال: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ولَمَّا لم يقعْ في آيةِ آل عمران إفصاحٌ بما في آية الأنفال وردتِ الصفتانِ تابعتَينِ دون تأكيدٍ، وجاء كلٌّ على ما يُناسِب.
وقد يُقال: إنَّه قال في الأنفال: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فجاءَ وصفُ اللهِ تعالى بالعِزَّة والحِكمة بلفظِ خبرٍ ثانٍ مستأنَف، وذلك على الأصلِ الواجبِ في توفيةِ كلِّ معنًى حقَّه من البيان؛ لأنَّ القصدَ في الآية إعلامُ المخاطَبين أنَّ النَّصرَ ليس من قِبَل الملائكة، ولا مِن جِهة العدَدِ والعُدَّة وفضْل القوَّة، ولكنَّه من القادِر الذي لا يُغلُب ولا يُمنَع عمَّا يُريد فِعلَه، والحكيمِ الذي يَضعُ النصرَ موضعَه، ففَصَل ذلك في خَبرينِ. وحذف إِنَّ اللهَ هاهنا في سورة آل عمران؛ لأنَّ الذي في الأنفال قِصَّةُ بدر؛ وهي سابقةٌ على ما في هذه السُّورة؛ فإنَّها في قصَّة أُحُد، فأخْبَر هناك في الأنفال أنَّ الله عزيز حكيم، فاستقرَّ الخبرُ. وجعَله في هذه السُّورةِ صِفةً؛ لأنَّ الخبَر قد سَبَق.
9- قوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ: تذييلٌ، أي: كلُّ نَصْر هو من الله لا من الملائكة، وذَكَر وصفَي الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هنا؛ لأنَّهما أَوْلى بالذِّكر في هذا المقام؛ لأنَّ العزيزَ يَنصُر مَن يُريد نصره، والحكيم يعلم مَن يَستحِقُّ نصرَه وكيف يُعطاه .
10- قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفًا: تنكيرٌ (طرفًا) للتفخيم .
- وفيه تشبيه مَن قُتِل منهم وتَفرَّق بالشَّيء المقتَطَع الذي تَفرَّقت أجزاؤه، وانخرم نظامُه .
11- قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ: اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل، والمعطوفِ المتعلِّقِ بالآجل؛ لتحقيق أنْ لا تأثير للمنصورين إثرَ بيانِ أن لا تأثيرَ للنَّاصرين، وفي تخصيص النَّفيِ برسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تلوين الخطاب؛ للدَّلالة على الانتفاءِ من غيره بالطَّريق الأولى، وإنما خُصَّ الاعتراضُ بموقعه؛ لأنَّ ما قبله من القطع والكبْتِ من مظانِّ أن يكونَ فيه لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولسائر مُباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة .
12- قوله: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ: تعليلٌ لقوله تعالى: أَوْ يُعَذّبَهُمْ، مُبيِّنٌ لكون ذلك من جِهَتهم وجزاءٌ لظُلْمهم .
13- قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به عزَّ وجلَّ إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه؛ تقريرًا لما سبق وتكملةً له، وتقديمُ الجارِّ (ولله) للقَصْر وانفراد الله بذلك، وكلمةُ (مَا) من صيغ العُمُوم شاملةٌ للعقلاء أيضًا تغليبًا، أي: له مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ خَلْقًا ومُلكًا لا مدخَلَ فيه لأحد أصلًا؛ فله الأمرُ كلُّه .
14- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ قولِه تعالى: يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء مع زيادة فيه، وفي تخصيصِ التَّذييلِ به دون قرينةٍ اعتناءٌ بشأن المغفرةِ والرَّحمة .
=========
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (130-132)
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ
المَعنَى الإجماليُّ :
يَنهى اللهُ عبادَه المؤمنين عن أخْذ الرِّبا أضعافًا مُضاعَفة، كما كانوا يَفعلونه في الجاهليَّة، ويأمُرهم بتقواه سبحانه؛ رجاءَ أن يكونَ جزاؤهم الفلاح، ويأمُرُهم أيضًا سبحانه بأنْ يَجعلوا بينهم وبَين النَّار التي هُيِّئت للذين كفروا ما يَقيهم منها، وأنْ يُطيعوا اللهَ ورسولَه، بامتثالِ الأمْر واجتناب النَّهي؛ لعلَّهم إذا فَعلوا ذلك أن يُرحَموا في الدُّنيا والآخِرة.
تفسير الآيات :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
وجْهُ الاتِّصالِ بين هذه الآياتِ وما قَبْلَها: أنَّ ما قَبْلَها في بيانِ أنَّ الله نصَرَ المؤمنين وهم أذلَّةٌ، وأنَّهم إنما نُصِروا بتقوى اللهِ وامتثالِ الأمْرِ والنهي; ولذلك خُذِلوا في أُحُدٍ عند المخالفةِ والطَّمعِ في الغنيمةِ، فحثَّهم اللهُ تعالى في هذه الآيةِ على بَذْلِ المالِ في سبيلِ اللهِ كالدِّفاعِ عن المِلَّةِ والأُمَّة، والتنفيرِ عن الطَّمع فيه، وشرُّه أكْلُ الرِّبا أضعافًا مُضاعفةً؛ لذا ذُكِر في أوَّلِ الكلامِ في هذه الغزوةِ شيءٌ يتعلَّقُ بالمالِ وإنفاقِه وفي آخِرِها شيءٌ يَتعلَّقُ بذلك
.
وأيضًا فإنَّه لَمَّا تقدَّم وعْدُ الله تعالى للمؤمنين، بأنَّهم إنْ صبَروا واتَّقوا، نَصَرهم على أعدائِهم، فكأنَّ النُّفوسَ اشتاقتْ إلى معرفةِ خِصال التَّقوى التي يَحصُل بها النَّصرُ والفلاحُ والسَّعادة، فذكَر اللهُ في هذه الآياتِ أهمَّ خِصال التَّقوى، التي إذا قام العبدُ بها، فقيامُه بغيرها من باب أَوْلى وأَحْرى، فنهاهم أولًا عن أكْل الرِّبا أضعافًا مُضاعَفة، ثم توالتْ بعد ذلك الأوامرُ الأخرى التي مَن امتَثَلها، فإنَّه يُحقِّق التَّقوى .
وأيضًا ناسَب اعتراضَ هذه الجملةِ هنا أنَّه تعالى وعَدَ المؤمنين بالنَّصرِ والإمدادِ مَقرونًا بالصَّبرِ والتقوى، فبدأَ بالأهمِّ منها، وهو: ما كانوا يَتعاطَوْنه من أكْلِ الأموالِ بالباطلِ، وأمَر بالتَّقوى، ثمَّ بالطاعة .
وأيضًا لَمَّا نَهَى اللهُ تعالَى المؤمنين عن اتِّخاذِ بِطانةٍ من غيرِهم، واستطرَدَ لذِكْر قِصَّة أُحُد، وكان الكفَّارُ أكثرُ معاملاتِهم بالرِّبا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملةُ مُؤدِّيةٌ إلى مُخالطةِ الكفَّار؛ نُهوا عن هذه المعاملةِ التي هي الرِّبا قطعًا؛ لِمُخالطةِ الكفَّارِ ومَودَّتِهم، واتِّخاذ أخلَّاء منهم، لا سيَّما والمؤمنون في أوَّل حالِ الإسلامِ ذوو إعسارٍ، والكفَّار من اليهودِ وغيرهم ذوو يسارٍ، وكان أيضًا أكْلُ الحرامِ له مَدخلٌ عظيمٌ في عدم قَبول الأعمالِ الصَّالحة والأدعية، فناسَب ذِكْرَ هذه الآية هنا .
وأيضًا لَمَّا قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وبيَّن أنَّ ما فيهما من الموجودات مِلكٌ له، ولا يجوزُ أنْ يُتصرَّفَ في شيءٍ منها إلَّا بإذنه على الوجهِ الذي شَرَعه، وآكِلُ الرِّبا مُتصرِّفٌ في مالِه بغير الوجهِ الذي أَمَر؛ نبَّه تعالى على ذلِك، ونهى عمَّا كانوا في الإسلامِ مُستمرِّين عليه من حُكم الجاهليَّة ، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
أي: يا أيُّها المؤمنون، لا تتعاملوا بالرِّبا بعدَ إسلامِكم كما كُنْتم تتعاطَوْنه في جاهليَّتكم؛ فإنَّهم كانوا إذا حلَّ الدَّينُ على المُعسِرِ ولم يتمكَّن مِن سداده في وقتِه، قالوا له: إمَّا أن تَقضِيَ، وإمَّا أنْ تُرْبيَ، أي: إما أنْ تَقضيَنا ما عليك من الدَّين، أو نَزيدك في المدَّة، وتَزيدنا على القَدْر المطلوب، فربَّما تَضاعَف القليلُ بهذه الطَّريقة حتى يُصبِح كثيرًا جدًّا .
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
أي: امتَثِلوا- أيُّها المؤمنون- ما أمَركم الله تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، ومن ذلك أكْل الرِّبا؛ كي تَظفَروا بما تَطلُبون، وتَنجوا في الدُّنيا والآخرة ممَّا منه تَحْذرون .
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
أي: امتثِلوا أوامرَ الله تعالى، واجتَنِبوا نواهيَه، ومنها: ترْك أكلِ الرِّبا؛ فإنَّه وقايةٌ لكم من النَّار، التي هُيِّئَت مُسْبقًا لكلِّ مَن كفَر بالله العظيم .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
أي: اعمَلوا- أيُّها المؤمنون- بما أمَركم اللهُ تعالى به ورسولُه، وانتَهُوا عمَّا نَهاكم الله ورسولُه
عنه من أكلِ الرِّبا وغيرِه من المُحرَّمات؛ لتُرحَموا في الدُّنيا والآخِرة
.
الفوائد التربوية :
1- في توجيهِ الخِطابِ للمؤمنين في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا دَلالةٌ على أنَّ اجتناب الرِّبا من مقتضيات الإيمان، وأنَّ كلَّ مؤمنٍ صادقِ الإيمان، فلا بدَّ أنْ يَتجنَّب أكْلَ الرِّبا
.
2- تقْوى الله هي الحامِلةُ على مُخالَفة ما تعوَّده المرءُ ممَّا نهى الشَّرعُ عنه، وهي سببٌ لرجاء الفلاح والفوز؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
3- تعليقُ رجاء المؤمنِ لرحمة الله تعالى بتوفُّره على طاعتِه وطاعةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ كما في قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قوله تعالى: لَا تَأكُلُوا الرِّبَا، يُقاسُ على الأكلِ بقيَّةُ الإتلافات بالشُّرب واللِّباس، وبِناءِ المساكن وما أَشْبَهها، لكنْ قيل: إنَّه عبَّر بالأكْل؛ لأنَّه أخصُّ وجوه الانتفاع
.
2- في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، قوله: (أَضْعَافًا) هو جَمْع ضِعْف، وهو جمعُ قِلَّة، ولَمَّا كان جَمْعَ قِلَّة والمقصودُ الكثرة، أَتْبعه بما يدلُّ على ذلك، وهو الوصف بقوله: مُضَاعَفَةً .
3- قول الله تعالى: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، قوله: (أَضْعَافًا مُضاعَفَةً)، ليس هذا الحالُ – أي هذا القيد بالوصْف مُضَاعَفَةً- هو مَصبَّ النَّهيِ عن أكْلِ الرِّبا؛ حتى يَتوهَّم مُتوهِّم أنَّه إنْ كان دون الضِّعفِ لم يكن حرامًا، فالحال واردةٌ لحكاية الواقع؛ فلا تُفيد مفهومًا؛ لأنَّ شرطَ استفادة المفهوم من القيود ألَّا يكون القيدُ الملفوظُ به جرى لحكاية الواقع، فلا يَقتصِر التحريمُ بهذه الآية على الرِّبا البالغ أضعافًا كثيرة .
4- في قول الله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ قوله: أُعِدَّتْ إخبارٌ عن الماضي، فلا بدَّ أن يكون قد دخَل ذلك الشيءُ في الوجود، فالنَّار مخلوقةٌ الآن .
5- أنَّ أهلَ النَّار هم الكافرون؛ لقوله سبحانه: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، أمَّا الفُسَّاق الذين يُعذَّبون بالنَّار على قدْرِ أعمالهم، ثم يُخرَجون منها؛ فإنَّ النَّار لم تُعَدَّ لهم .
6- جوازُ اقترانِ اسم الرَّسول باسمِ الله في الأمْر الذي يكون مُشتركًا بينهما؛ لقوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، أمَّا الأمرُ الذي لا يكون مُشتركًا بينهما، وهو الأمر الكونيُّ القَدَريُّ، فهذا لا يُذكَر فيه الرَّسولُ مع الله إلَّا بحرفٍ يدلُّ على التَّرتيب ((ما شاء اللهُ، ثمَّ شِئت ))، وبهذا نَعرِف الفرقَ بين إسنادِ الشَّيء الشَّرعيِّ إلى اللهِ ورسولِه، وبين إسناد الكونيِّ إلى اللهِ ورسولِه
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً:
- في نِدائهم باسمِ الإيمان في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إشعارٌ بأنَّ مِن مُقتضَى الإيمان وتصديقِه تَرْكَ الرِّبا
.
- وفي تصديرِ الخِطاب في شأنِه بالنِّداء تعظيمٌ لشأنِ الرِّبا وبيانُ خَطرِه .
- وسمَّى أخْذَ الرِّبَا أكلًا في قوله: لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا؛ لأنَّه يؤولُ إليه؛ فهذا مِن بابِ تسميةِ الشِّيء بما يؤول إليه .
- وتَضمَّن النَّهيُ عن الرِّبا التَّوبيخَ بما كانوا عليه في الجاهليَّة من تضعيفِه؛ إذ كان الرَّجُل منهم إذا بلَغ الدَّين مَحلَّه يقول: إما أنْ تَقْضي حقِّي أو تُربي وأزيدَ في الأَجلِ، فاستَغرَق بالشَّيء الطَّفيف مال المديون ؛ فأكْل الرِّبا مَنهيٌّ عنه قليلًا وكثيرًا، لكنَّها نزلتْ على سببٍ، وهو فِعْلهم ذلك؛ ولأنَّه مقامُ تشنيعٍ عليهم وهو بالكثيرِ أَليقُ .
2- قوله: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ: فيه تنفيرٌ من النَّار وما يُوقِع فيها، بأنَّها معدودةٌ للكافرين، وتحذيرٌ المسلمين من مشاركتِهم؛ إذ المسلمون لا يَرْضَون بمشاركةِ الكافرين؛ لأنَّ الإسلامَ الحقَّ يُوجِب كراهيةَ ما ينشأ عن الكُفْر، وذاك تعريضٌ واضح في الوعيد على أخْذ الرِّبا، ومقابل هذا التَّنفير التَّرغيب الآتي في قوله: ... وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] .
- وبِناءُ فِعل أُعِدَّتْ للمَفعولِ؛ لزيادةِ التَّرهيبِ والمُبالَغةِ في الإنذار .
===============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (133-136)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
غريبُ الكَلِمات :
السَّرَّاءِ: السُّرور والفرَح، ولذَّة في القلبِ عند حصولِ نفْعٍ أو توقُّعه، أو عند رؤيةِ أمْر يُعجِب
.
الضَّرَّاءِ: سُوء الحالِ، والفقر والقَحْط، وهو مُقابَل بالسَّرَّاء، والضرُّ: خِلافُ النَّفْع .
الْكَاظِمِينَ الغَيْظَ: أي: الحابِسين، أو الممسكِين عن إمضائِه مع قُدرتِهم على مَن أغضبهم؛ يُقال: كظَمْتُ القِرْبةَ، إذا سَددتَ رأسَها
.
المَعنَى الإجماليُّ :
يأمُر الله سبحانه عبادَه المؤمنين بالمُبادَرةِ والمسابقةِ للحُصولِ على مغفرةِ الله سبحانه وتعالى، ومن أجْل دخولِ الجنَّة التي يَبلُغ عرضُها مِثلَ عَرْض السَّموات والأرض لعِظَمها، أُعِدَّت هذه الجنَّة للمُتَّقين، الذين يَبذُلون أموالَهم صدقةً، سواء في حال رَخائِهم وسُرورهم، أو في حال الضِّيق والضُّرِّ، والذين يَملِكون أنفسَهم حين يَغضَبون، ويَكتُمون الغيظَ الذي في قُلوبِهم، ويَعْفُونَ عن النَّاس حين يَتلقَّوْن الإساءة، وهذه الصِّفات من الإحسان، واللهُ يحبُّ المُتَّصِفين بها.
ومن صِفاتهم أيضًا: أنَّهم إذا ارتَكَبوا فاحشةً من الفواحش، أو وقَعوا في معصيةٍ من المعاصي، ذَكَروا اللهَ، فطَلبوا منه مغفرةً لذُنوبهم؛ فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ أَحدٌ إلَّا اللهُ سبحانه وتعالى، ولم يَستمِرُّوا مُصِرِّين على ذلك الذَّنب، وهم يعلمون أنَّهم عَصَوُا اللهَ، وأنَّهم بذلك مُعرَّضون للعقاب لو أصرُّوا، ويعلمون أيضًا أنَّ التَّوبةَ واجبةٌ إلى الله، وأنَّه يَقبَل توبةَ عبادِه. هؤلاء المذكورة أوصافُهم لهم مَغفرةٌ من الله، وسيَدْخلون جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، ستكون منازلهم أبدًا، ونِعْم أجْرُ العاملين.
تفسير الآيات :
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: ليُسابِقْ بعضُكم بعضًا بالمُبادَرة إلى فِعل الخيرات؛ للحصولِ على مغفرةِ الله تعالى، التي تَعني سَتْرَ الذُّنوب والتَّجاوزَ عنها
.
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَواتُ وَالْأَرْضُ
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى عِبادَه بالبِدارِ والمسابقةِ إلى مَغفرةِ الله، التي بها زوالُ المكروه، أمَرَهم عَقِبَ ذلك بالبِدارِ والمسابقة إلى ما يُحقِّق لهم حُصولَ المطلوب؛ فإنَّ الإنسان لا تَتِمُّ سعادتُه إلَّا بهذين الأمرين: زوال ما يَكْره، وحُصول ما يَأمُل ؛ لذا قال:
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَواتُ وَالْأَرْضُ
أي: وليُسابِقْ بعضُكم بعضًا بالمبادرةِ إلى ما يُحقِّق- بإذن الله تعالى- دُخولَكم الجنَّةَ، التي يَبلُغ عَرضُها مِثْلَ عَرْض السَّمواتِ والأرض .
قال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21] .
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
أي: إنَّ الجَنَّة قد هُيِّئَت مُسبقًا للذين اتَّقوا الله تعالى بامتثالِ أوامره، واجتناب نواهيه؛ فهُم أهلُها وساكِنُوها .
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن تعالى أنَّ أهل الجنَّة هم المتَّقون، أَعقَب ذلك بذِكْر قيام هؤلاء المتَّقِين بأعمالٍ جليلة أهَّلتْهم لنَيل هذا الفضل العظيم .
كما أنَّ الله تعالى بعدَ أنْ نهى عبادَه عن أكْلِ الرِّبا، ابتدأ في صِفات المتَّقِين بضدِّ ذلك، وهو الإنفاقُ في سبيل الله عزَّ وجلَّ ، كما جمَع بينهما في آياتٍ أخرى كقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276] ، فقال تعالى:
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
أي: إنَّ من صِفات المتَّقِين، أنَّهم يَتصدَّقون باستمرارٍ، وفي جميع الأحوال، سواء كانوا في حال سُرورٍ- بتوفُّر المال ورَغَد العيش؛ فلا يُلْهيهم ذلك عن مساعدة الآخرين- أو أصابَهم الضرُّ وضيقُ العيش؛ لقِلَّة ذاتِ اليد، فلا يَصرِفهم ذلك أيضًا عن مواصلةِ العطاء .
فأصبحَ الإنفاقُ سَجِيَّةً دائمةً لهم، لا يَشغَلهم عنه أيُّ حالٍ أصابهم، ولا يَنشأ ذلك إلَّا عن نَفْس طاهرة .
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
أي: إنَّ مِن صِفات المتَّقين المُتأصِّلة فيهم، والمستمرَّة معهم: أنَّهم يَمتلِكون السَّيطرةَ التَّامَّةَ على غضبِهم مهما بلغت شِدَّتُه، حتى لو كاد أنْ يخرج منهم من شدَّةِ امتلاءِ نُفُوسهم وغليانِ قلوبِهم به؛ فإنَّهم يَملِكون أيضًا كتْمَه وحبْسَه .
وهذا يدلُّ على عزيمةٍ راسخةٍ في النَّفْس، وقهْرِ قوَّة إرادتِهم للغضبِ وشهوةِ الانتقام، وهذا من أكبرِ قُوى الأخلاقِ الفاضلة .
عن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ليس الشَّديدُ بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديدُ الذي يَملِك نَفْسَه عند الغضبِ )) .
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
أي: ومِن صِفاتهم أيضًا صَفْحُهم وتَجاوُزهم عن مؤاخذة مَن أساء إليهم- ما لم يتعلَّق بحقٍّ من حقوقِ الله تعالى- مع قُدْرتهم على الانتقامِ منه، فلا تَبقَى بذلك في نُفوسِهم مَوْجِدةٌ على أحد .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
أي: إنَّ جميعَ ما سبَق ذِكْرُه من صفاتٍ للمتَّقين، فهو داخلٌ في عُمُوم الإحسان، الذي هو سببٌ لنيل محبَّة الله تعالى لِمَن تَحلَّى بها، وصارتْ له طبْعًا وسَجِيَّة .
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى بعضَ صِفات المتَّقين المتعلِّقة بمعاملة الخَلْق، أَعقَب ذلك بذِكر قِيامهم بحقِّ الخالق سبحانه .
وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا وصَف الجنَّة بأنَّها مُعَدَّة للمتَّقين، بيَّن أنَّ المتَّقِين قِسمان: أحدهما: الذين أَقبَلوا على الطَّاعات والعبادات، وهم الذين وصَفَهم الله بالإنفاقِ في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وكَظْمِ الغيظ، والعفوِ عن النَّاس- فذكَر المتَّقين حالَ كمالِهم. وثانيهما: الذين أَذنَبوا ثم تابوا، فذكَرهم حالَ تَدارُكِهم نَقائصَهم، فالمُذنِب إذا تاب صار حالُه كحال مَن لم يُذنِب قطُّ في استحقاقِ المنزلةِ والكرامةِ عند الله .
وأيضًا فإنَّه تعالى لَمَّا ندَب في الآية الأولى إلى الإحسانِ إلى الغيرِ، ندَبَ في هذه الآيةِ إلى الإحسانِ إلى النَّفْس؛ فإنَّ المذنِب العاصي إذا تاب كانتْ تلك التَّوبةُ إحسانًا منه إلى نَفْسه ؛ فقال تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
أي: إنَّ من صِفات المتَّقِين أنَّهم إذا ارتكبوا فَعْلةً قبيحةً قد تَجاوَزت الحدَّ في الفساد، أو فعلوا بأنفسِهم غيرَ الذي كان ينبغي لهم أنْ يفعلوا بها، من رُكوبِهم عُمومَ معصيةِ الله سبحانه، كبيرةً كانتْ أو صغيرة .
ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
أي: إنَّهم إنْ وقعوا في ذَنبٍ، ذكَروا رحمتَه سبحانه ونِعَمَه عليهم، وما أَعدَّ للطائعين من ثواب، وذكروا عَظمتَه، وبطْشَه وعقابَه، وغير ذلك، فأَوجَب لهم هذا الحياءَ من الله تعالى والخوفَ منه، ففرُّوا إليه في الحال نادِمين، وطالبين منه السَّترَ وعدمَ المؤاخذة على ذُنوبهم .
عن عليٍّ رضِي اللهُ عنه قال: ((كنتُ إذا سمعتُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شيئًا، نَفَعني الله بما شاءَ أن يَنْفَعني منه، وحدَّثَني أبو بكرٍ- وصدَقَ أبو بكرٍ- قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما مَن مُسلمٍ يُذنِب ذنبًا، ثم يَتوضَّأ فيُصلِّي رَكعتينِ، ثمَّ يَستغفرُ اللهَ تعالى لذلكَ الذَّنبِ، إلَّا وغُفِر له، وقرأ هاتين الآيتين: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110] ، وَالذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهَم [آل عمران: 135] الآية)) .
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
أي: لا يَغفر ذُنُوبَ العبادِ أحدٌ غيرُ الله تعالى .
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: إنَّهم يُقلِعون عن الذَّنبِ ولا يُقيمون عليه- وإنْ تَكرَّر منهم مرَّةً بعد مرَّة- وهم يَعلَمون أنَّ ما ارْتكبوه معصيةٌ، وأنَّهم مُعرَّضون للعُقوبة إنْ أصرُّوا عليها، ويعلمون وجوبَ التَّوبة منها إلى الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه يَقبَلُ التَّوبةَ مِن عبادِه .
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أَتَمَّ اللهُ تعالى وصْفَ السَّابقين وهم المتَّقون، واللَّاحِقين وهم التَّائبون- أَخبَر بجزائهم ؛ فقال:
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
أي: إنَّ أولئك المتَّقين الَّذين ذكَر الله تعالى بعضَ أوصافِهم، لهم أجرٌ كريمٌ مُقابِلَ ما قدَّموه من أعمالِ صالحةٍ، وهو أوَّلًا مغفرةُ الله تعالى لهم بسَتْر ذنوبهم، والتَّجاوز عن المُعاقَبة بها، فيَنجُون بذلك ممَّا كانوا يَحذَرون .
وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أي: ويُثابَون ثانيًا بدخولِ الجنَّات التي تَجري من تحتِ أشجارِها وقصورِها الأنهارُ المتنوِّعة، فيَمكُثون فيها بلا نهايةٍ، وبذلك يَفوزُون بما كانوا يأمُلون .
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
أي: ونِعَم جزاءُ العاملين لله تعالى مغفرتُهُ، والخُلودُ في دار كرامتِه
.
الفوائد التربويَّة :
1- الحثُّ على المسارَعة في أسبابِ المغفرةِ وأسبابِ دخول الجنَّة، بأداء الواجبات، والتَّوبةِ عن جميعِ المَحظورات؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ
.
2- أنَّ التَّخليةَ قبل التَّحلية؛ لأنَّه قال: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ، فبالمغفرة الزحزحةُ عن النَّار التي أَوجَبتْها الذُّنوبُ، ثم يكون دخول الجنَّة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ .
3- مُلازَمة السَّخاء وإنفاق المال- الذي هو عزيزٌ على النَّفْس- في العُسْر واليُسْر، والأحوال كلِّها، مِن أشرف الطَّاعات المُوجِبة للجنَّة؛ يُبيِّن ذلك قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ .
4- في قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ الثَّناءُ على مَن أَنفَق في السَّرَّاء والضَّرَّاء؛ وذلك لأنَّ الإنفاقَ في السَّراء ليس بغريب؛ فكلُّ إنسانٍ يَهُون عليه أن يُنفِق إذا كان في سرَّاء، لكن الإنفاقَ في الضَّرَّاء هو الذي يَدلُّ على أنَّ الإنسان يُنفِق طلبًا للأجْر، لا زُهْدًا في المال .
5- كَظْمُ الغيظِ وإخفاؤه- بالصَّبر عن إمضائِه مع القُدرة، فلا يَظهَر له أثرٌ- من الأخلاقِ الفاضلة، ومِن أعظمِ العبادة؛ قال تعالى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ .
6- الحثُّ على العفوِ عن النَّاس فيما أساؤوا؛ وذلك في قوله تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ، لكنَّه مُقيَّدٌ بما إذا كان أَصلَحَ .
7- الحثُّ على الإحسانِ إلى الغير، بإيصال النَّفع إليه، أو بدَفْع الضَّرر عنه؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ؛ فإنَّ كلَّ إنسانٍ يعلم أنَّ الله يُحِب الإحسانَ، سوف يُحسِن، ويتقدَّم إلى الإحسان ويَحرِص عليه؛ لأنَّ محبَّة الله للعبد هي غايةُ ما يُريد .
8- الحثُّ على الاستغفارِ والإتيانِ بالتَّوبةِ على الوجه الصَّحيحِ، بالنَّدمِ على فِعْل ما مضَى من الذَّنب، مع العَزْمِ على تَرْك مِثْله في المستقبل؛ فالله تعالى موصوفٌ بسَعة الرَّحمة، وقُرْبِ المغفرة، فلا مَفْزَعَ للمُذنِبين إلَّا فضلُه وكرمُه، والذُّنوب وإنْ جلَّتْ فإنَّ عفوَه أجلُّ، وكرمَه أَعظمُ؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا .
9- سرعةُ انتباه هؤلاء المذكورين في الآيات عندَ فِعْل الذُّنوب؛ لقوله: إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ، فيُبادِرون بالتَّوبة، والمبادرة بالتَّوبة من صفات المتَّقِين، وهي واجِبة؛ لأنَّ التَّوبة إذا نزَل الأجلُ لا تُقبَل، والإنسانُ لا يَدري متى يَنزِل أجلُه؛ وعلى هذا فيجب أنْ يتوبَ الإنسانُ من ذُنوبه فورًا ودونَ تأخير .
10- أنَّه لا أحدَ يَستطيعُ أنْ يَغفِر الذُّنوبَ إلَّا الله؛ لقوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ، ويَتفرَّع عليها ألَّا يُعتمَدَ على أحدٍ في مغفرة الذُّنوب أو طلَبِ المغفرة، وإنَّما يكونُ الاتِّجاهُ إلى الله عزَّ وجلَّ .
11- أنَّ الرَّجل إذا أَذنَب فاستَغفَر، ثم أَذنَب فاستغفر، ثم أَذنب فاستغفر، فإنَّه يُغفَر له وإنْ تَكرَّر الذَّنبُ منه؛ لأنَّ الله قال: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، ولم يَقُل: (ولم يُعيدوا ما فَعلوا)
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- قول الله تعالى: وَسَارِعُوا استدلَّ به كثيرٌ من الأُصُوليِّين على أنَّ ظاهرَ الأمر يُوجِب الفَورَ، ويَمنَع من التَّراخي
.
2- في قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ، إنَّما فصَل بينهما؛ لأنَّ الغُفران معناه إزالةُ العِقاب، والجنَّة معناها إيصالُ الثَّواب؛ فجمَع بينهما للإشعارِ بأنَّه لا بدَّ للمُكلَّف من تحصيلِ الأمرين .
3- هذه الآياتُ الكريمات: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ... الآيات، من أَدِلَّة أهل السُّنة والجماعة، على أنَّ الأعمالَ تَدخُل في الإيمان، خِلافًا للمُرجئة، ووجْه الدَّلالة إنَّما يَتِمُّ بذِكْر الآيةِ التي في سورة الحديد، التي هي نظيرُ هذه الآيات، وهي قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد: 21] ، فلم يَذكُر فيها إلَّا لفْظَ الإيمان به وبرُسله، وهنا قال: أُعِدَّت للمُتَّقين، ثم وصَف المتَّقِين بهذه الأعمال الماليَّة والبَدنيَّة؛ فدلَّ على أنَّ هؤلاء المتَّقِين الموصوفين بهذه الصِّفات هم أولئك المؤمِنون .
4- في قول الله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، دليلٌ على أنَّ الجنَّة مخلوقةٌ الآن .
5- بدأَ وصفُ المتَّقِين بالإنفاقِ لوجهين: (أحدهما): مُقابلتُه بالرِّبا الذي نُهي عنه في الآية السَّابقة; فإنَّ الرِّبا هو استغلالُ الغَنيِّ حاجةَ المـُعوِز، وأكْلُ مالِه بلا مُقابِل، والصَّدقة إعانةٌ له، وإطعامُه ما لا يَستحِقُّه؛ فهي ضدُّ الرِّبا، ولم يَرِد في القرآن ذِكرُ الرِّبا إلَّا وقُبِّح ومُدِحتْ معه الزَّكاةُ والصَّدقة. (ثانيهما): أنَّ الإنفاقَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء أدلُّ على التَّقوى، وأشقُّ على النُّفوس، وأنفعُ للبشرِ من سائر الصِّفات والأعمال .
6- في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، قوله: فَاحِشَةً، أي: من السَّيِّئات الكِبار، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، أي: بأيِّ نوعٍ كان من الذُّنوب؛ لتَصير الفاحشةُ موعودًا بغُفرانها بالخُصوص وبالعُموم .
7- في قوله تعالى: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، قيل وجْه كونِ الإنسان ظالِمًا لنَفْسه، أنَّ نَفْسك عندك أمانةٌ، فإذا فرَّطتَ في هذه الأمانةِ، بأنْ أَقحَمتَ نَفْسَك فيما حرَّم اللهُ عليك، أو تأخَّرتَ عمَّا أَوجَب اللهُ عليك، فقدْ ظَلمتَ نَفْسَك .
8- أنَّ المتَّقِي لا يكونُ معصومًا من فِعْل الفاحشة، أو ظُلْم النَّفْس؛ لأنَّ الله لم يَقُل: (وهم لا يفعلون الفواحشَ أو لا يظلمون أنفسَهم)، بل قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ففِعْلُ الفاحشة لا يَخدِش التَّقوى إذا استَغفَر الإنسانُ وتاب .
9- التَّعبير عن (المغفرة والجنَّاتِ) بالأجْر فيه إشعارٌ بأنَّهما يُستحقَّان بمقابلة العملِ، وإنْ كان بطريق التفضُّل؛ لمزيدِ التَّرغيبِ في الطَّاعات، والزَّجرِ عن المعاصي
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ:
- وَسَارِعُوا... فيه الوَصْلُ- أي: العطفُ بالواو- بين هذه الجُملةِ، وجُملةِ الأمر بالطَّاعة: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ؛ لكون الأمرِ بالمُسارَعة إلى المغفرة والجنَّة يؤولُ إلى الأمر بالأعمال الصَّالحة، ومَن قرأ (سَارِعُوا) بغير واو، فتتنزَّل جملة (سَارِعُوا) مَنزِلةَ البيان، أو بدلَ الاشتمال، لجملة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ؛ لأنَّ طاعةَ الله والرَّسول مُسارَعةٌ إلى المغفرة والجنَّة؛ فلذلك فُصِلتْ ولم تُعطَف، وعلى هذا يجوزُ الفصلُ والوصلُ في بعض الجُمُل باعتبارين
.
- وجِيء بصيغة المُفاعَلة مُجرَّدةً عن معنى حُصولِ الفِعلِ من جانبينِ في قوله تعالى: وَسَارِعُوا؛ لقصد المًبالَغة في طلبِ الإسراعِ، والعربُ تأتي بما يدلُّ في الوضع على تَكرُّر الفعل، وهم يُريدون التَّأكيدَ والمُبالَغةَ دون التَّكريرِ .
- وتنكيرُ مَغْفِرَةٍ، وإضافتُها إلى مِنْ رَبِّكُمْ في قوله: مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛ لقَصْدِ الدَّلالةِ على التَّكثيرِ والتَّعظيم .
- وقوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ ذِكْر الجنَّة عَقِب ذِكْر النَّار- الموصوفة بأنَّها أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ- يُثير في نُفوس السَّامعين أنْ يتعرَّفوا مَن الذين أُعِدَّت لهم .
2- قوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ: فيه التَّعبيرُ بالعامِّ الذي يُراد به الخاصُّ؛ إذ المعنى: والعَافِين عمَّن ظلَّمهم أو أساء إليهم .
6- قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: الألف واللامُ في الْمُحْسِنِينَ إمَّا للجِنْس، وهم داخِلون فيه (وصْف التَّقوى) دخولًا أَوَّليًّا، فيتناول كلَّ مُحسِن، ويدخل تحتَه هؤلاء المذكورون في الآية، وإمَّا للعهد؛ عبَّر عنهم (أي: الْمُتَّقِينَ) بالمُحسِنِينَ؛ إيذانًا بأنَّ النُّعوتَ المعدودةَ هي من باب الإحسانِ، الذي هو الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ .
- وجملةُ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ؛ تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها ، وهي أيضًا اعتراضٌ بين قوله: ... أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ، وبين قوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً...، وهذا الاعتراضُ مشيرٌ إلى ما بينهما من التَّفاوت؛ فإنَّ درجةَ الأوَّلين من التَّقوى أعْلَى مِن درجةِ هؤلاء، وحظَّهم أَوْفى من حظِّهم، أو على نَفْس المتَّقِين، فيكونُ التفاوتُ أكثرَ وأظهرَ .
3- قوله: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ: فيه مِن حُسْن البلاغة: ترتيبٌ بديعٌ؛ حيث رُتِّبتْ هذه الأركانُ في الآية بحسَب شِدَّة تَعلُّقها بالمقصود؛ لأنَّ ذِكْر الله يحصُلُ بعد الذَّنب، فيبعثُ على التَّوبة؛ ولذلك رُتِّبَ الاستغفارُ عليه بالفاء، وأمَّا العِلْمُ بأنَّه ذَنبٌ، فهو حاصلٌ من قبلِ حُصولِ المعصية، ولولا حُصولُه لَمَا كانت الفَعْلةُ معصيةً؛ فلذلك جِيءَ به بعدَ الذِّكر ونَفي الإصرار .
- قوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ جُمْلة مُعترِضة بين جملة فَاسْتَغْفَرُوا وجملة وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا: وفيها ارتفاقٌ بالنَّفس، وداعيةٌ إلى رَجاءِ اللهِ وسَعَةِ عَفْوِه، ودلالةٌ على اختصاصِه بغُفْران الذَّنب ، ولتقريرِ الاستغفارِ والحثِّ عليه والإشعارِ بالوعد بالقَبول .
- والاستفهامُ إنكاريٌّ مُستَعمَلٌ في معنى النَّفي، بقرينةِ الاستثناء منه، والمقصودُ تسديدُ مُبادَرتهم إلى استغفارِ الله عَقِب الذَّنب، والتَّعريضُ بالمشرِكين الذين اتَّخذوا أصنامَهم شفعاءَ لهم عند الله، وبالنَّصارى في زعْمهم أنَّ عيسى رفَع الخطايا عن بني آدم ببَلَيَّة صَلْبِه .
4- قوله: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ...: جِيءَ باسم الإشارة أُولَئِكَ؛ لإفادةِ أنَّ المشارَ إليهم صاروا جَديرينَ بالحُكْم الواردِ بعدَ اسمِ الإشارة؛ لأجْل تلك الأوصاف التي استَوجَبوا الإشارةَ لأجْلها ، إضافةً إلى ما فيه مِن معنى البُعْد؛ إشارةً إلى عُلُوِّ مَرتَبتِهم، وسُمُوِّ درجتِهم.
5- قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ، ذَكَرُوا اللَّهَ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ: كلُّ هذا تَكرارٌ للفظِ الجلالة الله ، وفيه من تربيةِ المهابةِ والجلالِ وغيرِه ما لا يَخْفى.
6- قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ: تذييلٌ؛ لإنشاءِ مدْحِ الجزاء، مُختَصٌّ بالتَّائبين، وهو مِن عطفِ الإنشاءِ على الإخبار، وهو كثيرٌ في فصيح الكلام، وسُمِّي الجزاء أجرًا؛ لأنَّه كان عن وعدٍ للعاملٍ بما عمِل .
- والتَّعريفُ في الْعَامِلِينَ للعَهدِ، أي: ونِعْم أجرُ العاملين هذا الجزاءُ، وهذا تفضيلٌ له وللعمل المُجازَى عليه .
==========
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (137-141)
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
غريبُ الكَلِمات :
خَلَتْ: مَضَتْ وذَهبَتْ، مِن خلا الزَّمان: إذا مضى وذهَب
.
سُنَنٌ: أي: سِيرٌ وأمثالٌ، وطرائِقُ ومناهجُ، جمْع سُنَّةٍ، وهي الطَّريقةُ المسلوكة، والمنهاجُ المتَّبع. وقيل: معْنى سُنَنٌ أُمم، جمْع سُنَّة، وهي الأُمَّة، وأصلُ (سنن): جريانُ الشَّيءِ واطِّرادُه في سُهولةٍ .
عَاقِبَةُ: العاقبةُ تختصُّ بالثوابِ إذا أُطلقت، وقد تُستعملُ في العقوبةِ أو ما يؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّمُ إذا أُضيفت، وأصل عقب: تأخيرُ شيءٍ وإتيانُه بعدَ غيره .
وَلَا تَهِنُوا: أي: لا تَضعُفوا، وأصل الوَهْن: الضَّعْفُ من حيثُ الخَلْقُ، أو الخُلق .
قَرْحٌ: الجِراحُ، أو الأثَر من الجِراحةِ من خارج، وأصل القَرْح: ألَمٌ بجراح، أو ما أَشبهها .
نُدَاوِلُهَا: أي: نَجعلُها للمؤمنين مرَّةً، وللكافرين مرَّةً، والدُّولة: اسمُ الشَّيءِ الذي يُتداولُ بعينه، والأصلُ: تحوُّل شيءٍ من مكانٍ إلى مكان .
وَلِيُمَحِّصَ: أي: ليُطهِّر، ويَختبر، ويُنقِّي، والتمحيصُ: الابتلاءُ والاختبارُ، وأصلُ المحْص: تُخليصُ الشَّيءِ، وتنقيتُه ممَّا فيه من عَيب .
وَيَمْحَقَ: يُهلك، ويَنقص، وأصل المَحْق: النُّقصانُ، أو نقصانُ الشيءِ قليلًا قليلًا
.
المَعنَى الإجماليُّ :
يُخاطب اللهُ المسلمين مسلِّيًا لهم بعدَ الذي أصابهم في أُحُدٍ من هزيمة، مبيِّنًا سبحانه أنَّه قد مضَتْ مِن قبلهم سُننٌ إلهيَّة على الخَلق؛ فسِيروا- أيُّها المسلمون- في الأرض؛ لتنظروا من الآثارِ التي تُبيِّن كيف كانت نهاية الكافرين.
ثم يُخبر تعالى أنَّ هذا القرآنَ الكريم بيانٌ للناس كافَّةً؛ يوضِّح لهم الحقَّ من الباطل، وهو مرشِدٌ للمتَّقين إلى الطَّريق القويم، وزاجرٌ لهم عن سُبُلِ الضَّلالة والفساد.
ثم أمَر الله المسلمين ألَّا يَضعُفوا ولا يَحزنوا بسبب تلك الهزيمة؛ فإنَّهم هم الأعلون دائمًا، ما داموا مُتمسِّكين بإيمانهم، فإنْ يكُن قد نالهم جراحٌ وقتْل يوم أُحد، فقد أصاب أعداءَهم من الجراح والقَتْل نحوٌ من ذلك في أُحدٍ وبَدرٍ؛ فقد تساوَوْا، فلا ينبغي أنْ يستمرُّوا على حُزنهم، وهذه سُنَّة الله؛ أنْ يَجعل الأيَّامَ دُوَلًا بين الناس جميًعا؛ مؤمنِهم وكافرهم، فتارةً نصر، وتارةً هزيمة. ومن الحِكَم التي أرادها اللهُ تعالى من ذلك التداوُلِ بين الناس: ظهورُ صادِقي الإيمان من غيرهم، واتِّخاذُ اللهِ من المؤمنين شُهداءَ يُقتَلون في سبيلِه، والله سبحانه لا يحبُّ الظالمين، وحتى يُنقِّي اللهُ المؤمنين من ذُنوبهم بما يُصيبهم من قتْلٍ وجراح، ويُهلِك الكافرين.
تفسير الآيات :
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
بعدَما سبَق الحديثُ عن غزوة أُحُد، وما أصابَ المسلمين فيها، خاطبَهم الله تعالى بهذه الآية؛ تَعزيةً وتسليةً لهم
.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
أي: قد مضَى على مَن كان قبلكم من الأُمم طرائقُ إلهيَّةٌ جاريةٌ باعتيادٍ على الخَلق، ومِن ذلك: أنْ يكون النصرُ والهزيمة سِجالًا ومداولةً بين المؤمنين والكافرين، ومِن تِلك السُّنن: إمهالُ الكفَّارِ واستدراجُهم حتى يَحين موعدُ إهلاكِهم، وإنجاءُ المؤمنين مِن بعد ابتلائِهم؛ فتلك أمثلةٌ صالحةٌ للعِظةِ والاعتبار .
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
أي: سِيروا على أقدامِكم وبقُلوبِكم، ناظرين ومُتفكِّرين فيما بقِي للأُممِ الكافرةِ السَّابقة من آثارٍ أرضيَّة، تقِف شاهدةً على جريان سُنَّة اللهِ تعالى في الكافرين بعد إمهالِهم واستدراجِهم، حيث كانت نهايتُهم بإهلاكِهم وتَدميرِهم بأنواعِ العقوبات؛ جرَّاءَ تكذيبهم بآيات الله تعالى ورسلِه عليهم السَّلام .
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ
أي: إنَّ هذا القُرآنَ العظيم- ومن ذلك: الآيات التي تَقدَّم ذِكرُها- يُبيِّن لعمومِ الناس الأمورَ بوضوحٍ تامٍّ، فيُعرَف به الحقُّ من الباطل، وتنكشفُ به الحقائق، فيتميَّز مِن خلاله أهلُ السَّعادة من أهل الشَّقاوة .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
أي: إنَّ القرآن يُرشِد أهلَ التَّقوى- الذين دأَبوا على امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه- إلى طريق الحقِّ والرَّشاد، ويَزجُرهم عن سلوك طُرُقِ الغَيِّ والفساد .
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، وقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، كالمقدِّمة لقوله: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا؛ كأنَّه قال: إذا بحثتُم عن أحوالِ القرونِ الماضية، علمتُم أنَّ أهلَ الباطلِ وإنِ اتَّفقت لهم الصولةُ، فإنَّ مآلَ أمْرِهم إلى الضَّعفِ والفتور، وصارتْ دولةُ أهل الحقِّ عاليةً؛ وصولةُ أهل الباطل مُندرِسةً؛ فلا ينبغي أنْ تصيرَ صولةُ الكفَّار عليكم يومَ أُحُد سببًا لضعْف قلوبِكم، ولجُبنكم وعجزِكم، بل يجبُ أنْ تَقْوَى قلوبُكم؛ فإنَّ الاستعلاءَ سيحصُل لكم، والقوَّةُ والدولةُ راجعةٌ إليكم ؛ فقال تعالى:
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
أي: لا تَضعُفوا ولا تَتثبَّطوا- أيُّها المؤمنون- عن جِهاد عدوِّكم، ولا يُصيبنَّكم الحزنُ؛ بسببِ الهزيمةِ التي تَعرَّضتم لها من قِبَل عدوِّكم يومَ أحد، وما نالَكم فيه من قتْلٍ وجراح؛ فأنتُم الأعلى دائمًا في جميعِ الأحوالِ حتى لو كنتُم مغلوبينَ، ما دُمتُم باقين على إيمانكم؛ فإنَّ هذا الوهنَ والحزنَ غيرُ لائقٍ بالمؤمنين .
قال تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 35] .
وقال سبحانه: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104] .
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
أي: إنْ كنتُم قد أصابتْكم جراحٌ، وقُتِلَ منكم جماعةٌ في غزوة أُحُد، فقد أصابَ أعداءَكم قَريبٌ من ذلك، مِن قتْلٍ وجراحٍ في أُحُد أو بَدْر، فتساويتُم أنتُم وإيَّاهم في ذلك؛ فلا تبتئِسوا .
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَجعل الأيَّام دُوَلًا بين الناس؛ مؤمنِهم وكافرِهم، فيُصرِّفُها كيف يشاء؛ فمرَّةً يُديل المؤمنينَ على الأعداءِ، فتكونُ لهم الغَلَبةُ، ومرةً يُديل الأعداءَ على المؤمنين، فتكونُ الغلبةُ لهم؛ ففي بدرٍ كان النصرُ للمُؤمنين، وفي أُحُدٍ كان النصرُ للمُشرِكين .
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا سلَّى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين عن الهزيمةِ التي وقَعتْ لهم يوم أُحُد، وأنَّ الأيَّامَ دُولٌ بين الناس، شرَع سبحانه في بيان الحِكَم العظيمةِ المترتِّبةِ على ذلك ، فقال:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
أي: إنَّ اللهَ تعالى يُصرِّف الأيَّام بين الناس نصرًا وهزيمة؛ ليظهرَ بذلك صادقُ الإيمانِ من غيرِه كما عَلِمه الله تعالى بسَابِق عِلْمه في الأزلِ؛ فإنَّ المؤمنين لو كانوا دائمًا مَنصورِينَ، فإنَّ الجميعَ سيُظهرون لهم الموالاةَ، ولن يَتميَّز أعداؤُهم من أوليائِهم حقيقةً .
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
أي: ومِن أسبابِ إدالةِ اللهِ تعالى الأيَّامَ بين الناس بتمكينِه للكفَّار أحيانًا على بعض المؤمنين: إكرامُ عِبادِه المؤمنين بالشَّهادةِ بالقتْلِ في سبيلِه، كما وقَع يوم أُحُد، ولولا ذلك لَمَا نالوا تلك الحُظوةَ الرَّفيعة، وذلك المقامَ السَّامي .
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يحبُّ الكافِرين والمنافِقين، الذين وَضَعوا- بالكفر- أنفسَهم في غيرِ ما خُلِقتْ لأجْله، فبَخَسوها حقَّها؛ ولذا أَقعدَ المنافقين يومَ أُحُدٍ عن القتال مع المؤمنين؛ لأنَّه يُبغضُهم، كما أنَّ الله تعالى إذا أدالَ الكافِرين على المؤمنين أحيانًا لا لأنَّه يُحبُّهم، بل لِمَا سبَق ذِكرُه من أسباب، وإذا أدالَ المؤمنين عليهم فلأجْل محبَّتِه سبحانه لهم .
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
أي: ومِن حِكَم الإدالةِ على المؤمنين تَنقيتُهم من الذُّنوب، سواءٌ بما حصَل لهم مِن قتْل، أو بما أصابَهم من جِراح، ومِن ذلك أنَّهم إنِ انتصروا دائمًا، حصَلَ لنفوسِهم طغيانٌ وضَعْفُ إيمان، يُوجِب لهم العقوبةَ والهوان .
وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
أي: يُهلِكُهم ويُفنيهم؛ فإنَّهم إنِ انتَصروا طَغَوْا وبغَوْا وبطَروا؛ فيكون ذلك سببًا في استئصالِهم بعقوبةٍ تُدمِّرهم
.
الفوائد التربويَّة :
1- الحثُّ على الاعتبارِ بأحوال الأُمم الماضية، وتأمُّلِ عاقبة المكذِّبين للرُّسل، وتعرُّفِ ما حلَّ بهم، فذلك هو الذي يُوصل إلى معرفةِ تِلك السُّنن والاعتبارِ بها؛ قال تعالى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
.
2- إثباتُ القياس؛ لأنَّ المقصود بقوله: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ النَّظرُ والاعتبار، وأنْ يُقاسَ ما حضَرَ على ما مضَى وسلَف .
3- أنَّ القرآنَ الكريمَ صالحٌ لهدايةِ المؤمِن والكافِر؛ لقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، فهو يَشمَل المؤمنَ والكافر .
4- تسليةُ هذه الأمَّة من وجهٍ، وتحذيرُها من وجهٍ آخَرَ؛ تسليتُها بأنَّ الله سبحانه وتعالى قد عاقَبَ مَن قَبلَها، فعقوبتُه لها في غزوة أُحُد من سُنن الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ ما حصَلَ في أُحُدٍ عقوبةٌ؛ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ. وفيها أيضًا تحذيرٌ من جِهةٍ أخرى مِن عقوبةٍ أشدَّ؛ لأنَّ الأُممَ السابقة أُهلكوا ودُمِّروا عن آخِرهم .
5- أنَّ القرآنَ الكريم لا يَنتفعُ به إلَّا المتقون؛ لقوله: وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، ففيه فضيلةُ التَّقوى، وأنَّها سببٌ للاهتداءِ والاتعاظ .
6- أنَّ مَن لم يتَّعظ بالقرآن، فليتَّهمْ نفْسَه؛ لقوله تعالى: وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
7- في قوله تعالى: وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، دلالةٌ على أنَّ الإنسانَ كلَّما ازداد تقوى، ازداد هدًى وموعظةً؛ لأنَّ الحُكمَ المعلَّق بوصف يَقوَى بقوَّته، ويَضعُف بضَعْفِه، فإذا كان الهُدَى والموعظة معلَّقًا بالتقوى، فإنَّه لا بدَّ أن يزدادَ ويَقوَى بالتقوى، ويضعُف ويَنقُص بعدم التقوى .
8- أنَّ صِحَّة الإيمان تُوجِب قوَّةَ القلب والثقةَ بالله تعالى، وقِلَّةَ المبالاةِ بأعدائه؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
9- في قوله تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا: أنَّه يَنبغي للإنسانِ أن يكون قويَّ العزيمة، ولا يَضعُف ولا يَجبُن، وكم من إنسانٍ ضعُف وجبُن ففاتَه خيرٌ كثير! ولو أقدم لحصَل على خيرٍ كثير؛ لأنَّ المستقبَل لا تُدرى ما النتيجة فيه .
10- في قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: أنَّه كلَّما ازداد إيمانُ الأمَّة ازدادتْ عُلوًّا؛ لأنَّه رتَّب العلوَّ على الإيمان، والمرتَّبُ على شيءٍ يَزيد بزِيادته، ويَنقُص بنَقْصِه .
11- في هذه الآياتِ تسليةٌ من الله للمؤمنين عمَّا حصَل لهم من الهزيمةِ في أُحُد، فبيَّن لهم سبحانه الحِكَمَ العظيمة المترتِّبة على ما أصابَهم في تِلك الهزيمة؛ ومنها:
- أنَّ هذه الدارَ يُعطِي اللهُ منها المؤمنَ والكافر، والبَرَّ والفاجر، فيداولُ اللهُ الأيَّامَ بين الناس؛ يومًا لهذه الطائفة، ويومًا للطائفة الأخرى؛ لأنَّ هذه الدارَ الدنيا منقضيةٌ فانية، وهذا بخِلاف الدَّار الآخرة؛ فإنَّها خالصةٌ للذين آمنوا، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
- ومنها: أنَّ اللهَ تعالى يَبتلي عِبادَه بالهزيمةِ والابتلاء؛ ليَتبيَّن المؤمنُ من المنافق؛ لأنَّه لو استمرَّ النصرُ للمؤمنين في جميع الوقائع، لدخَلَ في الإسلامِ مَن لا يُريده، فإذا حصَل في بعضِ الوقائعِ بعضُ أنواع الابتلاء، تبيَّن المؤمنُ حقيقةً، الذي يَرغبُ في الإسلامِ في الضرَّاء والسَّرَّاء، واليُسر والعُسر، ممَّن ليس كذلك؛ قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا.
- ومنها: اتِّخاذُ الشُّهداء؛ قال تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ؛ لأنَّ الشهادةَ عند الله من أرفعِ المنازل، ولا سَبيلَ لنَيلِها إلَّا بما يَحصُل من وجودِ أسبابها، فهذا من رحمتِه بعباده المؤمنين، أنْ قيَّض لهم من الأسبابِ ما تَكرهه النفوسُ؛ ليُنيلَهم ما يُحبُّون من المنازلِ العالية، والنعيم المقيم.
- ومنها: تمحيصُ المؤمنين من ذُنوبِهم وعُيوبِهم؛ قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، ويُمحِّص اللهُ أيضًا المؤمنين من غيرِهم من المنافقين، فيَتخلَّصوا منهم، ويَعرِفوا المؤمنَ من المنافق .
- ومنها: أنَّ الله سبحانه يُقدِّر ذلك؛ ليمحقَ الكافرين كما قال تعالى: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أي: ليكون سببًا لمحْقِهم واستئصالِهم بالعقوبة؛ فإنَّهم إذا انتصروا بَغَوا وازدادوا طُغيانًا إلى طُغيانهم، يَستحقُّون به المعاجلةَ بالعقوبةِ؛ رحمةً بعبادِه المؤمنين .
12- قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...: يَتبيَّن منه أنَّ الله سبحانه وتعالى قد يمتحنُ العبدَ ليعلمَ إيمانَه من عدمِه؛ يمتحنُه بأنواعٍ من الامتحانات: تارةً بالمصائِب، وتارةً بالمعايب، فهنا ابتلاءٌ بالمصائِب، وإذا يَسَّر اللهُ للإنسانِ أسبابَ المعصية، فهذا ابتلاءٌ بتيسير المعايب .
13- وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جملةٌ معترِضة مسوقةً لبيانِ أنَّ الشهداءَ يكونون ممَّن خَلَصوا لله وأخْلصوا في إيمانهم وأعمالهم؛ فلم يَظلِموا أنفسِهم بمخالفةِ الأمْرِ أو النهي، ولا بالخروجِ عن سُنن اللهِ في الخَلْق، وأنَّه تعالى لا يَصطفي للشهادةِ الظالمين ما داموا على ظُلمهم، وفي ذلك بِشارةٌ للمتَّقين، وإنذارٌ للمقصِّرين؛ فالناسُ قَبل الابتلاءِ بالمِحن والفتنِ يَكونون سواءً؛ فإذا ابتُلوا تَبيَّن المخلِصُ والصادقُ، والظالمُ والمنافِق .
14- الظَّالم لا تدومُ له سُلطةٌ، ولا تثبُتُ له دولة، فإذا أصابَ غِرَّةً من أهل الحقِّ والعدل، فكانتْ له دولةٌ في حربٍ أو حُكم، فإنَّما تكونُ دولتُه سريعةَ الزوال، قريبةَ الانحلال والاضمحلال
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قوله: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، أنَّ المصارعةَ بين الحقِّ والباطلِ قد وقعتْ في الأُمم الماضية، وكان أهلُ الحقِّ يَغلِبون أهلَ الباطل، ويُنصَرون عليهم بالصَّبر والتقوى
.
2- قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا، فيه أنَّ السَّير في الأرض لغيرِ غرَضٍ مشروعٍ مذمومٌ؛ لأنَّ السَّيرَ في الأرضِ من غيرِ غَرضٍ مشروعٍ فيه إتعابٌ للنَّفس، وتعريضُها للهلاك، وإضاعةُ المال، وإضاعةُ الوقت .
3- أنَّ القرآنَ بيانٌ للناسِ في كلِّ شيء، فهو عامٌّ من حيثُ التَّبيينُ، وعامٌّ من حيثُ المبيَّنُ له؛ يُؤخَذ العمومُ للمُبيَّن له من قوله: لِلنَّاسِ، والتبيينُ مِن كونِه حَذَف المتعلِّقَ، وحذف المتعلِّق يدلُّ على العمومِ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ لكلِّ شيءٍ، ويُؤيِّده قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] .
4- أنَّ هذه الأمَّةَ هي العُليا، بشَرْط أنْ تؤمن؛ لقوله: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
5- في قوله: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ التلميحُ بالتوبيخِ إذا حصَل الوهنُ أو الحزن لا سيَّما إذا قلنا: إنَّ الواوَ هنا واو الحال؛ يعني: كيف يَليقُ بكم أن تَهِنوا وتحزنوا وأنتم الأعلون؟! لأنَّ الأعلى لا يَليق به أن يهِن أو يَحزَن .
6- بيانُ رأفةِ الله سبحانه وتعالى برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه بهذه التسليةِ العظيمة؛ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ .
7- إنْ قِيل: ما وجهُ الجمعِ بينَ الإفرادِ في قولِه: قَرْحٌ مِثْلُهُ، وبينَ التثنيةِ في قولِه: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا[آل عمران: 165] ، فالجواب، والله تعالى أعلم: أنَّ المرادَ بالتثنيةِ قتلُ سبعينَ، وأسرُ سبعين يومَ بدرٍ في مقابلةِ سبعينَ يومَ أُحُد، كما عليه جمهورُ العلماءِ. والمرادُ بإفرادِ المثلِ: تشبيهُ القرحِ بالقرحِ في مُطلقِ النِّكاية والألمِ .
8- أنَّ الله سبحانه وتعالى جعَل هذه الدنيا دولًا تتقلَّب؛ لئلَّا يركنَ الإنسان إليها؛ لأنَّ الدنيا لو كانتْ دائمًا راحةً ونعمة، لركَن الإنسانُ إليها، ونسي الآخرة، ولو كانت دائمًا محنةً ونقمةً، لكانتْ عذابًا مستمرًّا، ولكن الله جَعَلها دولًا يُدال فيها الناسُ بعضُهم على بعض، وتتداول الأحداثُ على الإنسانِ ما بَين خيرٍ وشرٍّ؛ قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ .
9- أنَّ عِلمَ الله سبحانه وتعالى بالأشياءِ على قِسمين: عِلمٍ بأنَّها ستوجد، وهذا أزليٌّ، وعِلمٍ بأنَّها وُجِدت، وهذا يكونُ عند الوجودِ؛ ولهذا قال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا .
10- أنَّ اللهَ تعالى قد يُقدِّر المكروهَ للنَّفْس؛ لحِكَمٍ بالغةٍ كثيرة؛ لقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ .
11- فضيلةُ الشَّهادة، تُؤخذُ من قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ، فكأنَّه سبحانه اصطَفى هؤلاء الشُّهداءَ، واتَّخذَهم لنفسِه .
12- قول الله تعالى: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ: يُستفادُ من هذا أنَّ النعمةَ قد تكون سببًا للنِّقمة؛ فإنَّ انتصارَ الكفَّار يُوجِب فرَحَهم وبطرَهم، حتى إذا بطَروا مُحِقوا
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ: جِيء بـقَدْ، الدالَّة على تأكيدِ الخبر؛ تنزيلًا لهم منزلةَ مَن يُنكر ذلك؛ لِمَا ظهَر عليهم من انكسارِ الخواطرِ من جرَّاءِ الهزيمةِ الحاصلةِ لهم من المشركين، مع أنَّهم يُقاتلون لنصرِ دِين الله
.
2- قوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ: تخصيصُ البيانِ للنَّاسِ مع شُمولِه للمتَّقين أيضًا؛ لأنَّ المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهُدى والعظةِ، والاقتصارُ على الهُدى والموعِظة في جانبِ المتَّقين مع ترتُّبهما على البيانِ؛ لأنَّهما المقصِدُ الأصليُّ، ويجوز أن يكونَ تعريفُ الناسِ للجِنس، أي: هذا بيانٌ للنَّاس كافةً، وهُدًى وموعظةٌ للمتَّقين منهم خاصَّة؛ لأنَّه لا يَحصُل إلَّا لهم .
3- قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ فيه التعبيرُ عمَّا أصاب المسلمين بصِيغة المضارع في يَمْسَسْكُمْ؛ لقُربِه من زمَنِ الحال، والتعبيرُ عمَّا أصاب المشركين بصيغةِ الماضي؛ لبُعدِه؛ لأنَّه حصَل يومَ بدر .
4- قول الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
- التعبيرُ بأداة البُعد تِلْكَ فيه تنبيهٌ على تَعظيمِ الأيَّام .
- وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللهُ فيه التفاتٌ مِن نُدَاوِلُهَا إلى الغَيبة بإسنادِه إلى اسمِ الذاتِ المستجمِعِ للصِّفات الله؛ للتعظيم، ولتربية المهابةِ، والإشعارِ بأنَّ صدورَ كلِّ واحدٍ ممَّا ذُكِر بصدد التعليلِ من أفعالِه تعالى باعتبارِ منشأٍ معيَّنٍ من صفاته تعالى، مغايرٌ لمنشأِ الآخَر .
5- قوله: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله، ونفيُ المحبَّةِ في إيقاعِه على الظَّالِمين تَعريضٌ بمحبَّته تعالى لمقابِليهم من المؤمنين .
6- قوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ:
- تَكريرُ اللامِ في وَلِيُمَحِّصَ؛ للتَّذكيرِ بالتعليلِ السَّابق (ولِيَعلمَ)؛ لوقوعِ الفصلِ بينهما بالاعتراضِ بجملة وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موقِع الإضمار؛ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بشأن التَّمحيصِ، وهذه الأمورُ عِللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين، وقُدِّمت في الذِّكر؛ لأنَّها المحتاجةُ إلى البيان، ولعلَّ تأخيرَ العِلَّةِ الأَخيرةِ عن الاعترِاض؛ لئلَّا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظَّالمين .
- ولفظة الْكَافِرِينَ في قوله تعالى: وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ عامٌّ، أُريد به الخصوصُ؛ فالمرادُ بالكافرين هنا طائفةٌ مخصوصة، وهم الذين حارَبوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه تعالى لم يَمْحَقْ كلَّ كافر، بل كثيرٌ منهم باقٍ على كُفرِه .
- وقابَل في قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ تمحيصَ المؤمنِ بمحْقِ الكافِر؛ لأنَّ التمحيصَ إهلاكُ الذُّنوب، والمحقَ إهلاكُ النُّفوس، وهي مقابلةٌ لطيفةٌ في المعنى .
==============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (142-145)
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
غريبُ الكَلِمات :
انْقَلَبْتُمْ: انصرفتُم، والانقلابُ: الانصرافُ؛ يُقال لِمَن كان على شيءٍ ثم رجَع عنه: قد انقلَبَ على عقِبِه، ومنه قيل للكافرِ بعد إسلامه: مُرتدٌّ، وأصلُ (قلب): صَرْفُ الشَّيء عن وجهٍ إلى وجهٍ، أو ردُّه من جِهةٍ إلى جِهة، كقَلَب الثوب
.
أَعْقَابِكُمْ: جمْعُ عقِب، وهو: مُؤخَّر الرِّجْل، ويُقال: رجَع على عَقِبه: إذا انثنى راجعًا، وأصلُ العقب: يدلُّ على تأخيرِ شيءٍ وإتيانِه بعد غيرِه
.
المَعنَى الإجماليُّ :
يُنكر اللهُ تعالى على المؤمنين أن يَظنُّوا أنَّهم سيَدخلون الجَنَّة بمجرَّدِ إيمانهم، بل لا بدَّ أن يُبتلَوا؛ حتى يَعلمَ الله المجاهدين حقًّا في سبيلِه، ويعلمَ الصابرين.
ثم يُذكِّرهم تعالى أنَّهم كانوا يَتمنَّون مواجهةَ أعدائهم، ويَطمعون في بلوغِ مرتبةِ الشهادةِ بالموتِ في سبيلِ الله، وهاهم رأَوا بأعينهم يومَ أُحُد ما كانوا تمنَّوه، فلمَ لمْ يَثبُتوا ويَصبِروا حتى ينالوا ما كانوا يَطمعون إليه.
ثم يُخبرهم اللهُ تعالى أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غيرُ مخلَّد في الدُّنيا، فإنَّما هو رسولٌ كباقي رُسل الله الذين من قبلِه؛ قد انقضتْ آجالهم في الدُّنيا بالموت أو القتْل؛ فهل إذا انقضَى أجلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يكون هذا مبرِّرًا ليرتدُّوا عن دِينهم؟! ومَن يَرتدِدْ عن دِينه فلن يضرَّ اللهَ برِدَّته عن الدِّين شيئًا، وسيُثيب الله الشَّاكرين.
ثم يُبيِّن الله أنَّه ما كان لنَفْسٍ أن تموتَ إلَّا بإذن الله، وذلك إذا جاء أجلُها الذي كتَبه الله لها، ثم أَخبر تعالى أنه يُؤتي الناسَ من ثواب الدُّنيا والآخرة ما عَلَقتْ به إرادتُهم؛ فمَن يُردْ ثوابَ الدنيا بعملِه، يُؤتِه منها، ومَن يُرِدْ به ثوابَ الآخِرة، يُؤتِه منها، وسيُثيب الله تعالى الشَّاكرين.
تفسير الآيات :
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أرشدَ الله تعالى المؤمنين في الآياتِ السَّابقة إلى أنَّه لا يَنبغي لهم أن يَضعُفوا أو يَحزنوا، وبَيَّن لهم حِكمةَ ما أصابهم يومَ أُحد، وأنَّه منطبِقٌ على سُنَّته في مداولة الأيَّام بين الناس، وفي تمحيصِ أهل الحقِّ بالشَّدائد، وفي ذلك من الهِداية والإرشادِ والتَّسلية ما يُربِّي المؤمنَ على الصِّفات التي يَنالُ بها الغَلبةَ والسِّيادةَ بالحقِّ، وهذه مِن سعادةِ الدُّنيا- بيَّن لهم في هذه الآيةِ أنَّ سعادةَ الآخِرة لا تُنالُ أيضًا إلَّا بالجهادِ والصَّبر
، فقال:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
أي: لا تظنُّوا- يا معشرَ المؤمنين- أنْ تنالوا شَرَفَ دخولِ الجنَّة قبلَ أن تُبتَلَوْا، ويرَى اللهُ تعالى- واقعًا ظاهرًا- المجاهدين منكم في سبيلِه، ويرَى كذلك الصَّابرين على الجهادِ وعلى ما يَنالهم من مَصائبَ وآلامٍ، كما وقَع يوم أُحُد .
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ
أي: قدْ كنتُم- يا مَعشرَ المؤمنين- قبلَ مجيء غزوةِ أُحُدٍ تَتحرَّقون شوقًا لمناجزةِ الأعداء، وتَطمَعون في الموتِ؛ لنَيلِ الشَّهادة في سَبيلِ الله تعالى كما وقَع لإخوانِكم يومَ بدر .
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
أي: ها قدْ حصَل لكم ما تمنَّيتموه من لِقاءِ الأعداءِ، وشاهدتُم بأمِّ أعينِكم يومَ أُحُد الموتَ وأسبابَه وشِدَّته، ومَن يموتُ مِن الناس، أبصرتُم ذلك عِيانًا، فلِمَ لمْ تَثبُتوا وتَصبروا؛ حتى تنالوا ما أردتموه من قبلُ ؟!
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أي: إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غيرُ مخلَّدٍ في الدُّنيا، بل له أُسوةٌ في إخوانِه المرسَلين في انقضاءِ أجلِه الدُّنيوي بالموتِ أو القتْل، كما وقَعَ لهم من قبلُ .
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
أي: هلْ يَعني انقضاءُ أجَل نبيِّكم محمَّد صلَّى الله عليه وسلِّم بالموت أو القَتْل، أنْ يكونَ مبرِّرًا لكم لترتدُّوا عن دِينكم، فترجعوا من بعد نبيِّكم كفَّارًا ؟!
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
أي: إنَّ كلَّ مَن يَرتدُّ عن دِين الله تعالى، فإنَّما يضرُّ نفسَه في الحقيقةِ، ولن يُصيبَ اللهَ سبحانه شيءٌ من ضررِ ذلك؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عنه وعن إيمانه، فلن يُوهِن ارتدادُه سُلطانَه، ولن يَنقصَ ذلك شيئًا من مُلكِه، ولن يَنال اللهَ سبحانه وتعالى بأيِّ سوء .
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
أي: إنَّ اللهَ تعالى سيُثيب مَن قاموا بشُكر نِعَمه بقلوبِهم وألْسِنتِهم وجوارحِهم، كالذين ثَبتوا على إيمانِهم، واتَّبعوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حياتِه وبعد مماتِه .
عن عائشةَ رضي الله عنها: ((أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه أقبلَ على فَرَسٍ مِن مَسْكنِه بالسُّنُحِ ، حتى نزلَ فدخلَ المسجدَ، فلم يُكلِّمِ الناسَ حتى دخلَ على عائشةَ، فتَيَمَّمَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مغشيٌّ بثوبِ حِبَرَةٍ ، فكشفَ عن وجهِه، ثم أكبَّ عليه فقبَّلَه وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمِّي! واللهِ لا يَجمَعُ اللهُ عليك مَوْتَتَيْنِ، أمَّا الموتةُ التي كُتِبَتْ عليك فقد مِتَّها. قال الزهريُّ: حدَّثَني أبو سَلَمَةَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ: أنَّ أبا بكرٍ خرجَ وعمرُ بنُ الخَطَّابِ يُكلِّمُ الناسَ، فقال: اجلسْ يا عُمرُ، فأبَى عمرُ أن يَجلِسَ، فأقبلَ الناسُ إليه وتَركوا عمرَ، فقال أبو بكرٍ: أمَّا بعدُ، فمَن كان منكم يَعبُدُ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ محمدًا قد ماتَ، ومَن كان منكم يَعبُدُ اللهَ، فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموتُ؛ قال اللهُ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... إلى قوله: الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144- 145] . وقال: واللهِ لكأَنَّ الناسَ لم يَعلَموا أنَّ اللهَ أنزلَ هذه الآيةَ حتَّى تلاها أبو بكرٍ، فتلقَّاها منه الناسُ كلُّهم، فما أسمعُ بَشرًا مِن الناسِ إلَّا يَتلوها، فأَخبرني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: أنَّ عمرَ قال: واللهِ ما هو إلَّا أنْ سمعتُ أبا بكرٍ تلاها فعَقِرْتُ ، حتى ما تُقِلُّني رجلايَ، وحتى أَهْوَيتُ إلى الأرضِ حينَ سمعتُه تلاها، علمت أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد مات )) .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا
أي: لا يَنبغي أن تموتَ نفْسُ أيِّ أحدٍ مِن خَلْق الله تعالى، سواء كان محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو غيره، إلَّا إذا أذِن الله جلَّ جلاله، وذلك حين يَبلُغ الوقتَ المحدَّد الذي كتَبه اللهُ تعالى لموته، فيَستوفي بذلك المدَّةَ المضروبةَ لحياته الدنيا؛ فأمَّا قبلَ ذلك فلنْ يموتَ أحدٌ لا بكيدِ كائدٍ، ولا بحِيلة محتالٍ، ولو اجتمعتْ حوله جميعُ أسبابِ الموت، فالجُبن لا يَزيد في العُمر، والشجاعةُ والإقدامُ لا تَنقص منه، وفي هذا تقويةٌ للنفوسِ على الجِهاد في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ .
قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] .
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا
أي: إنَّ مَن قصَد بأعمالِه وسَعيهِ طلبَ الدنيا فحسبُ، فسيُؤتيه اللهُ تعالى مُبتغاه منها، إنْ شاء، وليس له في الآخِرة من ثوابٍ على تلك الأعمالِ .
قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18] .
وقال سبحانه: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] .
وقال عز وجل: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة: 200] .
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا
أي: وأمَّا مَن قصَد بأعمالِه وسَعيهِ طلبَ ثوابها الأُخروي، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُعطيه- بإذنه- ما ابْتغَى .
ولا يَمنع هذا مِن نَيلِ نَصيبِه الدُّنيويِّ الذي قَسَمه اللهُ تعالى له .
كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 134] .
وقال أيضًا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201] .
وقال سبحانه: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] .
وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] .
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
أي: إنَّ الله تعالى سيُثيب كلَّ شاكرٍ فضلًا منه سبحانه
.
قال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] .
الفوائد التربويَّة :
1- حبُّ الله وحبُّ الآخرة لا يتمُّ بالدَّعْوَى؛ فليس كلُّ مَن أقرَّ بدِين الله كان صادقًا، ولكن الفَصل فيه: تسليطُ المكروهات والمحبوبات؛ فإنْ بقِي الحبُّ عند تسليطِ أسباب البلاء ظهَر أنَّ ذلك الحبَّ كان حقيقيًّا؛ يُبيِّن ذلك قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، فالصَّبرُ والثباتُ عند جلائلِ المصائبِ أعظمُ دليلٍ على الوثوقِ باللهِ ووعدِه، الذي هو صريحُ الإيمان
.
2- بيانُ أنَّ التمنِّي رأسُ مال المفاليس؛ فالتمنِّي دون فِعلِ السببِ خُسرانٌ، وذلك رأسُ مالِ المفلسِ الذي لنْ يُحصِّل له شيئًا، والجنة لا تُدرك بالتمنِّي؛ لقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ .
3- في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ دليلٌ على أنَّ الجَنَّةَ أعلى المطالِب، وأفضلُ ما به يتنافسُ المتنافسون، وكلَّما عظُم المطلوب، عظُمت وسيلتُه والعملُ الموصل إليه؛ فلا يُوصلُ إلى الراحةِ إلَّا بترْك الراحة، ولا يُدركُ النَّعيم إلَّا بتركِ النَّعيم، ولكنْ مكارهُ الدنيا التي تُصيب العبدَ في سبيل الله عند توطينِ النَّفسِ لها، وتمرينِها عليها، ومعرفةِ ما تؤول إليه، تنقلبُ عند أربابِ البصائرِ مِنحًا يُسَرُّون بها، ولا يُبالون بها، وذلك فضلُ الله يُؤتِيه مَن يشاء .
4- أنَّ الجهاد سببٌ لدخول الجنة؛ لقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ، ولا فَرْقَ بين الجِهادِ بالسِّلاح والجِهادِ بالعِلم؛ فكلاهما جهادٌ، بل قد تَحتاج الأمَّةُ الإسلاميَّة إلى جهادِ العلم أكثرَ ممَّا تحتاج إلى جهادِ السِّلاح، وقد يكونُ بالعكس، وقد يتساويان. ولكن لا بدَّ من وجودِهما في الأمَّة الإسلاميَّة .
5- أنَّ الصَّبرَ سببٌ لدخول الجنَّة؛ لقوله: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، وأنَّ الجزاءَ يكون على قدْر العمل، فإذا كان ثوابُ الجهادِ الجَنَّةَ، وثوابُ الصبر الجنةَ، دلَّ على عِظَم مرتبتهما في دِين الله عزَّ وجلَّ .
6- يجبُ على المرءِ ألَّا يطلُبَ أمرًا حتى يُفكِّر في عواقبِه، ويَسبُرَ مقدارَ تحمُّله لمصائبه، وأنَّه لا يَنبغي للإنسان أن يتمنَّى المكروه؛ لأنَّه إذا تمنَّاه ووقَع، ربَّما ينكِص، قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
7- قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ: أفاد أنَّه لا بأسَ أن يُوبِّخ الإنسانُ مَن تحدَّى واتَّخذ لنفسِه مكانًا عاليًا إذا وجَده قد تخاذَلَ في هذا المكان .
8- قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ: هذه الآية تُنبِّه كلَّ مؤمنٍ إلى الحذرِ من الغرورِ بحديثِ النَّفس والتمنِّي والتشهِّي، وتَهديه إلى امتحانِ نفْسِه بالعملِ الشاق، وعدمِ الثِّقةِ بما دون الجِهادِ والصَّبر على المكارهِ في سَبيل الحقِّ؛ حتى يأمنَ الدعوَى الخادعةَ، بَلْهَ الدعوى الباطِلة، وإنَّما الخادعة أنْ تدَّعي ما تتوهَّم أنَّك صادقٌ فيه مع الغفلةِ أو الجهلِ بعجزك عنه، والباطلةُ لا تَخفى عليك، وإنَّما تظنُّ أنَّها تَخفى على سواك .
9- قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ..: فيه عدمُ الاعتمادِ في اتِّباعِ الحقِّ ولزومِه والثباتِ عليه على وُجودِ المعلِّم، بحيث يُترَك الحقُّ بعد ذَهاب المعلِّمِ أو موته .
10- المؤثِّر في جلْبِ الثواب والعقاب: هو القصدُ لا ظواهرُ الأعمال؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ... وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الآية، في هذه الآيةِ أعظمُ دليلٍ على فَضيلةِ الصِّدِّيقِ الأكبر أبي بكر، وأصحابِه الذين قاتَلوا المرتدِّين بعدَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّهم هم ساداتُ الشَّاكرين
.
2- الاستدلالُ بذِكر النَّظائرِ؛ ليقتنعَ الإنسانُ بما سمِع؛ لقوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ .
3- إثباتُ أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتمُ الرُّسل؛ لقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ و(أل) هنا للعموم، ولم يقُل: (قد خلتْ من قبله رسل)، بل قال: الرُّسُل، وإذا كان الرسلُ كلُّهم قد خَلَوْا من قبله، لزِمَ مِن ذلك أنْ يكونَ هو آخِرَهم .
4- الردُّ على مَن توهَّم أو زعَمَ أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم حيٌّ في قبره؛ لقوله: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ .
5- قال تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ولم يَذكُرْ جزاءَهم؛ ليدلَّ ذلك على كثرتِه وعَظمتِه، وليعلمَ أنَّ الجزاءَ على قدْرِ الشُّكر؛ قِلَّةً وكثرةً وحسنًا .
6- جوازُ الإطلاقِ في الكلامِ إذا جاء مفسَّرًا في موضِع آخَر؛ لقوله: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ؛ فإنَّ هذه الآيةَ مجملَةٌ لم يُبيِّن الله تعالى كيف يكون هذا الجزاء، ولكنَّه قد بُيِّن في نصوص أخرى، كقوله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] ، والشَّريعة يُفسِّر بعضُها بعضًا، ويُقيِّد بعضُها بعضًا، ويُخصِّص بعضُها بعضًا، وهذا يَجعل النَّفْسَ تتطلَّع إلى بيانِ هذا المجمَل، فتَحرِص وتَبحث، وتَقرِن بين الأدلَّة، فيكون المسلمُ ملمًّا بجميع النصوص .
7- إثباتُ أنَّ كلَّ شيء- حتى الموت- مخلوقٌ لله في قوله: إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ، وما كان صادرًا عن إِذنٍ فهو مخلوقٌ، ويدلُّ لهذا قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك: 2] .
8- أنَّه لا يُمكن أن يَتقدَّم الإنسانُ أو يتأخَّر عن الأجَل الذي قدَّره اللهُ له؛ لقوله: كِتَابًا مُؤَجَّلًا، ويُؤيِّد هذا آياتٌ؛ منها قوله تعالى: فَلَا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] ، ومنها: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون: 11] .
9- أنَّ الناسَ لهم مشاربُ، ولكلِّ واحدٍ مسلكٌ؛ لقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ .
10- أنَّ الإخبارَ عن الشَّيء، أو عن وقوعِ الشَّيء لا يدلُّ على حِلِّه؛ فقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا لا يدلُّ على حِلِّ إرادةِ الإنسانِ الدُّنيا بعمله، إنَّما هو خبرٌ عن أمْرٍ وقَع، والحِلُّ والحُرمة يُؤخذانِ من دليلٍ آخَر من الشرع .
11- الردُّ على الجَبريَّة؛ لقوله: وَمَنْ يُرِدْ حيث أثبتَ للإنسان إرادةً، والجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسانَ ليس له إرادةٌ، وإنَّه يفعل بدون اختيارٍ ولا إرادة، ولكنْ كلُّ النُّصوصِ السَّمعيَّة والعقليَّة تردُّ على قولهم .
12- إيثارُ إرادةِ الآخِرة على الدُّنيا؛ لقوله: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ؛ فإنَّ هذا يدلُّ على أنَّ مَن أراد الآخرة، فإنَّه من الشاكرين الذين يَجزيهم اللهُ عزَّ وجلَّ .
13- إثباتُ الجزاءِ على العمل، وهو دائرٌ بين أمرين، بين عدْلٍ وفَضْل، ويمتنع الأمرُ الثالث، وهو الظُّلمُ بالنِّسبة للهِ عزَّ وجلَّ، ولكنْ لكمال عدْله سبحانه وتعالى قال: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ: الهمزةُ فيه للإنكارِ، والاستفهامُ المقدَّر بعدَ أَمْ مُستعمَلٌ في التَّغليطِ والنهيِ؛ ولذلك جاء بـأَمْ؛ للدَّلالةِ على التغليط، أي: لا تَحْسَبوا أنْ تَدخُلوا الجَنَّةَ دون أنْ تُجاهِدوا وتَصبِروا على عواقِب الجهاد
2- قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ: فيه تَكرارُ الفِعل (يعلم)؛ إمَّا لاختلافِ المتعلَّق، وإمَّا للتَّنبيهِ على فَضْل الصَّابرِ .
3- قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ: أي: تتمنَّوْن الحربَ ومناجزةَ الأعداء يوم أُحد؛ فإنَّها من مبادِئ الموتِ، أو تتمنَّون الموتَ بالشَّهادة في سبيل الله، وهو خبرٌ فيه توبيخٌ لهم على تمنِّيهم الحربَ، وعلى ما تَسبَّبوا له مِن خروجِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإلحاحِهم عليه، ثمَّ انهزامِهم عنه وقِلَّة ثباتِهم عندَه، كأنَّه قيل: إنْ كُنتُمْ صادقينَ في تمنِّيكم ذلك فقدْ رأيتُموه معاينينَ له حِين قُتِلَ بين أيديكم مَنْ قُتل مِن إخوانِكم وأقاربِكم، وشارفتُم أن تُقتلوا، فلِمَ فعلتُم ما فعلتُم. وليس التوبيخُ على تمنِّي الشَّهادةِ بناءً على تضمُّنها لغلَبةِ الكفَّارِ؛ لأنَّ مَطلبَ مَن يتمنَّاها نيلُ كرامةِ الشُّهداءِ من غير أنْ يخطُرَ بباله شئ غيرُ ذلك فلا يستحِقُّ العتابَ من تلك الجِهة .
4- قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ: فيه قصرٌ، والقصرُ قلبيٌّ؛ فإنَّهم لَمَّا انْقَلبوا على أعقابِهم، فكأنَّهم اعتَقدوا أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام رسولٌ لا كسائرِ الرُّسلِ في أنَّه يخلو كما خَلَوا، ويجب التمسُّكُ بدِينه بعده، كما يجب التمسُّكُ بدِينهم بعدَهم، فردَّ عليهم بأنَّه ليس إلَّا رَسولًا كسائرِ الرُّسلِ، فسَيخْلُو كما خلَوْا، ويجبُ التمسُّكُ بدِينه كما يجبُ التمسُّكُ بدِينهم .
5- قول الله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ: فيه ذِكر الرُّسُل بالتَّعريفِ الدالِّ على العُموم، ويُؤخذُ منه التَّفخيمُ للرُّسل، والتنويهُ بهم على مُقتضَى حالِهم مِن اللهِ تعالى .
6- قوله: أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ: همزةُ الاستفهام في أَفَإِنْ للإنكار، والفاءُ للسببيَّة، وهذا يؤكِّدُ ما اقتضتْه جملةُ القصر، من التعريضِ بالإنكارِ عليهم في اعتقادِهم خلافَ مضمونِ جُملة القصر؛ فقد حصَل الإنكارُ عليهم مرَّتين: إحداهما بالتعريضِ المستفادِ من جُملة القصر، والأُخرى بالتَّصريحِ الواقِع في هذه الجُملة .
- وقوله: مَاتَ أَوْ قُتِلَ فيه: تَكرار؛ وقد سوَّغه كونُ العُرفِ في الموتِ خِلافَ العُرْف في القَتْل، وإنْ كان كلاهما واحدًا من حيثُ مفارقةُ الرُّوحِ الجسدَ .
7- قوله: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا: خبرٌ، الغرضُ منه تأكيدُ الوعيد؛ لأنَّ كلَّ عاقلٍ يعلمُ أنَّ الله تعالى لا يَضرُّه كفرُ الكافرين، بل المرادُ أنَّه لا يضرُّ إلَّا نفسَه .
- وقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا، أي: شيئًا من الضَّرر، لا قليلًا ولا كثيرًا؛ أفادَ ذلك التَّنكيرُ في شَيْئًا حيثُ وقَع في سِياقِ النَّفي .
8- قوله: وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ: فيه مناسبةٌ حسنةٌ بإتْباعِ الوعيدِ بالوَعْد .
- وفيه: إظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موقِعِ الإضمار؛ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بشأن جزائِهم .
9- قوله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا: خبرٌ فيه تحريضٌ وتشجيعٌ على القتال .
- وفي قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ... جِيءَ الحُكمُ بصِيغة الجُحود (ما كان)؛ للمبالغةِ في انتفاءِ أنْ يكونَ موتٌ قَبْل الأجَلِ .
- وقوله: مُؤجَّلًا: يُؤكِّد معنى إلَّا بِإِذْنِ اللهِ؛ لأنَّ قوله: بِإِذْنِ اللهِ يُفيد أنَّ له وقتًا قد يكون قريبًا، وقد يكون بعيدًا .
10- قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ:
- قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا: خبرٌ فيه تعريضٌ بالذين شَغلتْهم الغنائمُ يومَ أُحُدٍ .
- وقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ فيه تَكرار ، وهو يُفيدُ التأكيدَ على المعنى. ==============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (146-148)
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ
غريبُ الكَلِمات :
وَكَأَيِّنْ: لفظةٌ مركَّبةٌ من كافِ التَّشبيهِ و(أيٍّ)، حدَث فيها بَعدَ هذا التركيبِ معنى التَّكثيرِ
.
رِبِّيُّونَ: أي: جماعاتٌ كثيرة، والواحدُ منها رِبِّيٌّ، ويُقال: الأُلوف، وأصلُه من الرِّبَّة، وهي: الجماعةُ، كأنَّ الرِّبِّيَّ نُسِب إليها .
وما اسْتَكَانُوا: أي: ما خشَعوا وما ذَلُّوا، وما خَضعوا للعدوِّ، ومنه أُخذ المستكين، وأصلُ الاستكانة: إظهارُ الضَّعْف .
وَإِسْرَافَنَا: وإفراطَنا، والسَّرَف: تجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعلُه الإنسانُ، وأصلُه: تعدِّي الحدِّ، والإغفالُ للشَّيءِ أيضًا
.
مشكل الإعراب:
قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ:
كلمة كَأَيِّنْ مركَّبةٌ من كافِ التَّشبيه و(أيٍّ)، وحدَث فيها بعدَ التركيبِ معنى التكثيرِ المفهوم من (كَمْ) الخبريَّة
، وأمَّا موقعُها الإعرابيُّ: فهو الرَّفْعُ بالابتداءِ، والخبرُ جملة قَاتَلَ، والتقديرُ: كثيرٌ من الأنبياءِ قاتَلَ. وعلى هذا يكون مَعَهُ رِبِّيُّونَ جملةً في محلِّ نصْب على الحالِ مِنَ الضمير في قَاتَلَ، ويجوزُ أن يكونَ مَعَهُ وحْدَه هو الحال، ورِبِّيُّونَ فاعلًا بهذا الظرف الذي وقع حالًا، ولا يحتاج هنا إلى واو الحال؛ لأنَّ الضميرَ الذي في (معه) هو الرَّابط. أو يكون قَاتَلَ: جملةً في محلِّ جرٍّ، صفة لـنَبِيٍّ، ومَعَهُ رِبِّيُّونَ هو الخبر، وفيه الوجهان المتقدِّمان في جعْله حالًا، يعني: أن يكون مَعَهُ خبرًا مُقدَّمًا ورِبِّيُّونَ مبتدأً مؤخَّرًا، والجملة خبر كَأَيِّنْ، أو يكون مَعَهُ وحْده هو الخبرُ، ورِبِّيُّونَ فاعلٌ به. وقيل غير ذلك
.
المَعنَى الإجماليُّ :
يُخبر اللهُ تعالى أنَّه: كمْ مِن نبيٍّ من الأنبياءِ قاتَل وشارَكه في ذلك من أتْباعه الكثيرُ، فأصابهم ما أصابَهم في سبيلِ الله، لكنَّ ذلك لم يكُن حاملًا لهم على مفارقةِ دِينهم، أو ترْك الجِهادِ في سَبيل الله؛ فما ضعُفتْ أبدانُهم ولا قلوبُهم ولا هِمَمُهم، ولا لانَتْ عزائمُهم، ولم يَذلُّوا لعدوِّهم، واللهُ تعالى يحبُّ الصَّابرين؛ كهؤلاءِ ومَن على شاكِلتِهم.
ولم يكُن لهم مِن قولٍ يقولونه بعدَ ما حصَل لهم إلَّا أنَّهم طلَبوا المغفرةَ مِن الله لذُنوبِهم، ولتجاوُزِهم ما حدَّه الله تعالى في جميعِ أُمورِهم، وأنْ يُثبِّتَ الله أقدامَهم، وينصرَهم على أعدائِه وأعدائِهم من الكافرين، فأعطاهم اللهُ ثوابَ الدُّنيا مِن نصْرٍ وغنيمةٍ وغيرها، وحُسنَ ثوابِ الآخِرة من رِضَا الله، والخلودِ في جنَّته، واللهُ تعالى يُحبُّ المحسنين.
تفسير الآيات :
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان من المؤمنين ما كان يومَ أُحُد، وعتَبَ عليهم اللهُ ما وقَع منهم، أخبرَهم أنَّ طريقةَ أتْباعِ الأنبياء المتقدِّمين: الصَّبرُ على الجِهاد، وترْكُ الفرار؛ فكيف يليقُ بكم هذا الفرارُ والانهزام
؟!
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: قَاتَلَ قِراءتان:
1- قِراءة قُتِلَ على البِناء للمَفعول .
2- قِراءة قَاتَلَ على البِناءِ للفاعِل .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
أي: كَثيرون هم الأنبياءُ الذين قاتَلَ جموعٌ كثيرةٌ من أتْباعهم، وقُتِلَ كثيرٌ منهم، فلم يحملْ ذلك بقيَّتهم على التزعزع عن دينهم، أو على أن يتركوا جهاد عدوهم .
فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: إنَّ أبدانَهم لم تضعُفْ، وهمَّتهم لم تتَّثبط، ولم يَجبُنوا عن جِهادِ العدوِّ؛ بسببِ ما نالهم من جِراحٍ، وغيرِ ذلك مِن أذًى في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ .
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
أي: إنَّ قلوبهم لم تضعُف، وعَزائمَهم لم تَلِنْ، وقُواهم لم تَخِرْ؛ بسببِ ما أصابهم، ولم يَذلُّوا لعدوِّهم .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
أي: إنَّ الله تعالى يحبُّ هؤلاءِ وأمثالَهم من الصَّابرين على طاعتِه وجِهادِ أعدائه، ويُحبُّ مَن صبَر عن معصيتِه، وعلى أقدارِه سبحانه .
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا ذَكَر ما كان عليه الرِّبِّيُّون من الجَلَد والصبر، وعدمِ الوهنِ والاستكانةِ للعدوِّ، وذلك كلُّه من الأفعالِ النفسانيَّة التي يَظهر أثرُها في الجوارح، ذكَر ما كانوا عليه من الإنابةِ والاستغفارِ، والالْتجاءِ إلى الله تعالى بالدُّعاء ، فقال:
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
أي: ولم يكُن لدَى الربِّيِّين من قولٍ يَنطِقون به، سوى طلبِ المغفرةِ من الله تعالى بسَتْر ذنوبِهم، وسَتْر إفراطِهم في جميعِ شؤونهم، بتجاوُزهم ما حَدَّه اللهُ تعالى فيها، وطلبِهم التجاوزَ عن المؤاخذةِ بذلك .
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
أي: ومِن جملةِ دُعائهم: طلبُهم مِن اللهِ تعالى الثباتَ في وجوهِ الأعداءِ لِقتالهم .
وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
أي: ومِن جملةِ ما سألوه ربَّهم سبحانه: أنْ يمنحَهم الفوزَ على الكفَّار .
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا أتمَّ الثناءَ على فِعل الرِّبِّيِّين في الصَّبر، وطريقتِهم في الدُّعاء، ذكَر ما سبَّبه لهم ذلك من الجَزاء في الدُّنيا والآخِرة ، فقال:
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ
أي: إنَّ الله تعالى قد منَحهم بفضله جزاءً في الدنيا، كالنَّصرِ على الأعداءِ، والظَّفر بالغنائمِ، وغيرِ ذلك، وضمَّ لهم مع أجْر الدنيا جزاءَ الآخرة الحَسَن، من الفوز برِضوانِ الله تعالى، والخلودِ في دار السَّعادة الأبديَّة .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
أي: إنَّ الله تعالى جازاهم بالإحسان الدُّنيويِّ والأخرويِّ؛ لإحسانِهم العملَ؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ كلَّ محسِنٍ في عِبادتِه سبحانه، وفي تعامُلِه مع مخلوقاتِه
.
الفوائِدُ التربويَّةُ :
1- التأسِّي بمَن مضَى من صالحِي الأُمم السَّابقة؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ..
.
2- أنَّ مِن طُرُقِ التَّشجيعِ على الشَّيءِ والإغراءِ به، أنْ يُذكَر للإنسانِ سَلفٌ يَقتدي به، ويَتشجَّع للحاقِ به؛ لقوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا .
3- الإشارةُ إلى انحطاطِ مرتبةِ الذين يَذِلُّون لأعداءِ الله؛ يُؤخَذ من قوله: وَمَا اسْتَكَانُوا؛ وذلك أنَّ الإنسانَ المؤمِن يجبُ أن يكونَ أشمَّ؛ كالطَّودِ العظيمِ بالنِّسبةِ لأعداء الله، حتى إنَّه يجوزُ للإنسانِ الخُيلاءُ، وجرُّ الثوبِ في مقابلةِ الأعداءِ .
4- مَن صبَر على تحمُّل الشَّدائد في طريق الله، ولم يُظهرِ الجزعَ والعجزَ والهلعَ، فإنَّ الله يحبُّه؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ .
5- مَن عَوَّلَ في تحصيلِ مَهمَّاته على نفْسه ذَلَّ، ومَن اعتَصَم بالله بالدعاء، والتضرُّع بطلبِ الإمدادِ والإعانةِ منه تعالى، فازَ بالمطلوب؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .
6- تقديمُ التوبةِ والاستغفارِ في الدُّعاء عند النوائب والمِحَن؛ سواءٌ كان في الجهاد، أو غيرِه، فما نزَل من بلاءِ الدُّنيا إنَّما هو بذنوبِ من البَشر؛ يُبيِّن ذلك قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .
7- أنَّ الإنسانَ مُفتقرٌ إلى مغفرةِ الله؛ لقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، ولو كان غنيًّا عنها ما سألها، ولكنَّه مفتقرٌ إليها غايةَ الافتقار .
8- في قولهم: وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، أنَّ الإنسانَ لا يَخلو من الإسرافِ على نفْسه: إمَّا في غُلو، وإمَّا في تقصيرٍ؛ وجه ذلك: أنَّ سؤالهم اللهَ أنْ يغفرَ لهم الإسرافَ يدلُّ على وجودِ هذا الشَّيء، وإذا تأمَّل الإنسانُ نفْسَه، وجَد أنَّه لن يَخلوَ من الإسرافِ .
9- أنَّ الإنسانَ مُفتقرٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في تثبيتِ القدَم؛ لقوله: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وهذا يتأكَّدُ في ثلاثةِ مواطنَ: عند مواجهةِ الأعداء، وعندَ الشُّبهاتِ، وعندَ الشَّهوات
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- أنَّ هؤلاءِ الرِّبِّيِّين الذين قاتلوا مع النبيِّ كمُلت منهم الأفعال والأقوال؛ من الأفعال قولُه تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا، ومن الأقوال: أنَّهم لَجَؤوا إلى الله عزَّ وجلَّ بسؤال المغفرةِ؛ مغفرةِ الذنوبِ والإسرافِ في الأمْر؛ لأنَّهم يَعلمون أنَّ ما أصابَهم إنَّما هو بسببِ الذُّنوب
.
2- أنَّه يَنبغي على الإنسانِ أنْ يَدعوَ الله تعالى بهذا الدُّعاء، لا سيَّما عندَ ملاقاة الكفَّار؛ حتى ينتصرَ عليهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .
3- في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، إنَّما قدَّموا قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا؛ لأنَّه تعالى لَمَّا ضمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تَحصُل النصرةُ وظهَرتْ أماراتُ استيلاءِ العدوِّ، دلَّ ذلك ظاهرًا على صدورِ ذنبٍ وتقصيرٍ من المؤمنين؛ فلهذا المعنى يجبُ عليهم تقديمُ التوبةِ والاستغفارِ على طلبِ النُّصرة .
وقيل: قدَّموا طلبَهم الاستغفارَ على طلبِ تثبيتِ الأقدام والنُّصرة؛ ليكونَ طلبُهم ذلك إلى الله عن زكاةٍ وطهارةٍ، فيكون طلبُهم التثبيتَ بتقديمِ الاستغفارِ حريًّا بالإجابة .
4- في قول الله تعالى حكايةً عن المؤمنين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، بدؤوا بالتوبةِ عن كلِّ المعاصي، وهو المرادُ بقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، فدخَل فيه كلُّ الذنوب، سواء كانتْ من الصَّغائر أو من الكبائر، ثم إنَّهم خَصُّوا الذنوبَ العظيمةَ الكبيرة منها بالذِّكرِ بعد ذلك؛ لعِظَمها وعِظَم عِقابها، وهو المرادُ من قوله: وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا؛ لأنَّ الإسرافَ في كلِّ شيء هو الإفراطُ فيه .
5- الإشارةُ إلى خِفَّة شأنِ الدُّنيا بالنِّسبة للآخِرة؛ لقولِ الله تعالى: ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ، فكأنَّ الدنيا ليستْ بشيءٍ حتى يكونَ فيها حُسْن؛ ففيه إشارةٌ إلى أنَّ العاقلَ يَنبغي له أن يَعتني بثوابِ الآخِرة الذي هو حسنٌ .
6- في قول الله تعالى: فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ، قدَّم ثوابَ الدنيا؛ ليكونَ ذلك إعلامًا بتعجيلِ إجابةِ دَعوتِهم لحصولِ خيرَيِ الدُّنيا والآخِرة؛ ولأنَّ ذلك في الزَّمانِ مُتقدِّمٌ على ثوابِ الآخِرة
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا: خبرٌ عن السَّابقين، فيه تعريضٌ بالمخاطَبين، بما أصابَهم من الوهنِ والانكسارِ عندَ الإرجافِ بقتْل رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبضَعْفِهم عند ذلك عن مجاهدةِ المشركين، واستكانتِهم لهم
.
- قوله: فَمَا وَهَنُوا، وَمَا ضَعُفُوا، وَمَا اسْتَكَانُوا: فيه جمْع بين الوهن والضَّعف، وهما مُتقاربان تقاربًا قريبًا من التَّرادُف؛ للتأكيدِ، وأمَّا الاستكانةُ؛ فهي الخضوعُ والمذلَّة للعدوِّ. ومِن اللَّطائف: ترتيبُ هذه الثلاثةِ في الذِّكر على حسَب ترتيبِها في الحُصولِ؛ فإنَّه إذا خارتِ العزيمةُ، فَشِلت الأعضاءُ، وجاء الاستسلامُ، فتبعتْه المذلَّةُ والخضوعُ للعدوِّ .
- وفي الآية: تعريضٌ بتَشبيهِ حالِ أصحابِ أُحُدٍ بحالِ أصحابِ الأنبياءِ السَّالفين؛ لأنَّ محلَّ المَثل ليس هو خُصوصَ الانهزامِ في الحرْب، بل ذلك هو المُمثَّل، وأمَّا التَّشبيه؛ فهو بصبرِ الأَتْباعِ عند حلولِ المصائِب، أو موتِ المتبوع .
2- قوله: وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ: تذييلٌ مقرِّر لِمَا قبلَه، وإظهارُ الاسمِ الجليل (الله) في موضِعِ الإضمار؛ للثَّناءِ على الصَّابرين بحُسنِ الصَّبرِ، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم .
- وفيه: توكيدُ الخبرِ باسميَّة الجملة .
3- قوله: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا: فيه تقديمُ خبر (كان) على اسمِها؛ لأنَّه خبرٌ عن مبتدأ محصورٌ؛ إذ المقصودُ حصْرُ أقوالِهم حينئذٍ في مقالة: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا، فالقصرُ حقيقيٌّ؛ لأنَّه قصرٌ لقولهم الصادِر منهم، حين حصولِ ما أصابهم في سبيل الله .
4- قوله: وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ: فيه تخصيصُ ثوابِ الآخِرة بالحُسن؛ للدَّلالة على فضلِه وتقدُّمه، وأنَّه هو المعتدُّ به عنده ؛ وذلك لأنَّ ثوابَ الآخِرة كلَّه في غايةِ الحُسن، فما خصَّه اللهُ بأنَّه حَسنٌ من هذا الجِنس، فانظر كيف يكونُ حُسنُه؟! ولم يَصِفْ ثوابَ الدنيا بذلك؛ لقلَّتِها وامتزاجِها بالمضارِّ، وكونِها منقطعةً زائلة .
5- قوله: واللهِ يُحِبُّ المحْسِنينَ: أي: يحبُّ كلَّ محسن، وهو تذييلٌ، وموقِعُ التذييلِ يدلُّ على أنَّ المتحدَّث عنهم هم مِن الذين أحْسنوا؛ فاللامُ للجِنس المفيدِ معنى الاستغراق .
===============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (149-155)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
غريبُ الكَلِمات :
الرُّعْبَ: أي: الجَزَعَ والهَلَع والخوف، وقيل: الرُّعب هو الخوفُ الذي يملأُ الصَّدرَ والقلبَ، وقيل: إنَّه أشدُّ الخوفِ، وأصلُ الرُّعب: يدلُّ على الخوفِ، والملءِ، والقَطع
.
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصْلُ السُّلطان: القوَّة والقَهر، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا .
وَمَأْوَاهُمُ: مرجعُهم الذي يَعُودون إليه، والمَأْوى: مَكَانُ كلِّ شَيْءٍ ومرجعُه الَّذي يعودُ إليه ليلًا أو نهارًا؛ يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه يَأوي أُوِيًّا وإِوَاءً، وأصْله: التَّجمُّع .
مَثْوَى: أي: مَنزِل، وأصْلُ الثَّوَاء: الإقامةُ مع الاستقرارِ؛ يُقال: ثَوَى يَثْوي ثَوَاءً .
تَحُسُّونَهُمْ: أي: تَستأصِلونهم قتلًا، أو تقتلونهم، وأصْل حَسَس: غلبةُ الشَّيء بقتْل أو غيره، وحِكايةُ صوت عند توجُّعٍ وشَبَهِه .
فَشِلْتُمْ: أي جَبُنتُم، والفَشل: ضَعْفٌ مع جُبن .
إِذْ تُصْعِدُونَ: أي: تُبعِدون في الهزيمةِ، والصُّعود: الذَّهابُ في المكانِ العالي, وأصْل الصُّعود: ارتفاعٌ ومشقَّة .
وَلَا تَلْوُونَ: تُمعِنون في الهزيمةِ، ولا يقِفُ أحدٌ لآخَر، واللَّيُّ: فَتْل الحبلِ، وأصْله: إمالة للشَّيء .
فِي أُخْرَاكُمْ: أي: في آخِرِكم، أو مِن خَلْفِكم، وأصل (أخر): خِلافُ التَّقدُّمِ .
يَغْشَى: يُغطِّي ويَستُر، من غَشِي الشَّيءَ، أي: غطَّاه وسَتَره .
لَبَرَزَ: لظَهَر من الصَّفِّ للمُبارَزة للقتال، والبَرازُ المٌتَّسَعُ من الأرض، أو الفضاءُ، وأصْله: ظهورُ الشَّيء وبُدوُّه .
مَضَاجِعِهِمْ: جمْعُ مَضْجَع، وهو موضِعُ الضُّجوع، وأصلُ (ضجع): اللُّصوقُ بالأرضِ على جَنْبٍ .
وَلِيُمَحِّصَ: أي: ليُطهِّر، ويَختبِر، ويُنقِّي، والتَّمحيص: الابتلاءُ والاختبار، وأصْل المَحْصِ: تَخليصُ الشَّيءِ وتنقيتُه ممَّا فيه من عَيبٍ .
اسْتَزَلَّهُمُ: طلَبَ زَلَلَهم، والزِّلَّة: الخطأُ، وأصل الزَّلل: استرسالُ الرِّجْلِ من غيرِ قصْدٍ
.
المَعنَى الإجماليُّ :
يُحذِّرُ الله تعالى عبادَه المؤمنين من طاعةِ الكفَّار؛ وذلك أنَّ طاعتَهم تؤدِّي بهم إلى الرِّدَّة عن دِينهم إلى الكُفْر، فيَهلِكوا في الدُّنيا والآخِرة؛ فالله سبحانه هو مَن يتولَّى عبادَه، ويَنصُرهم وهو خيرُ مَن نَصرَ.
ثم يُخبِر تعالى أنَّه سيُدخِل الرُّعبَ في قلوب الكفَّار؛ بسبب إشراكِهم بالله بلا حُجَّة ولا دليل، وسيكون مصيرُهم في الآخرة النَّارَ، وبئس المقامُ للظالِمين.
ثم يُذكِّر اللهُ سبحانه عِبادَه المؤمنين بإنجازه لِمَا وعدَهم به من النَّصر يوم أُحُد، بنصرِهم على عدوِّهم في بدايةِ المعركة؛ حيث أَعمَلوا فيهم القتلَ، حتى حان من المسلمين الضَّعفُ والجُبنُ عن القِتال، وحدَث الخلافُ بين رُماتهم، وعَصَوْا أمْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حينها حلَّت بالمسلمين الهزيمةُ بعدَ أنْ كانوا رَأوا ما يُفرِحهم من هزيمةِ العدوِّ؛ فبعضٌ من المؤمنين ابتَغَوا الدُّنيا، فذَهبوا لجَمْعِ الغنائم، وتركوا أماكنَهم التي أُمِروا بمُلازَمتها، وبعضٌ منهم كانوا يَرغَبون في أجْرِ الآخِرة، فلزِموا أماكنَهم، فصرَف اللهُ بعدَها وجوهَ المؤمنين عن الكفَّار، فكانتْ للكفَّار الغَلَبةُ، وهذا ابتلاءٌ من الله لعباده؛ ليتميَّزَ الطائعُ من العاصي، ولقد تَجاوُز اللهُ عنهم، فلم يَستأصِلوهم، ولكن هُزِموا وقُتِل بعضُهم، واللهُ ذو فضلٍ على المؤمنين.
ثم يُذكِّرهم سبحانه بلحظاتِ فِرارِهم، حيث كانوا جادِّين في الفِرار؛ لا أحدَ منهم يَلتفِت إلى غيرِه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْعوهم إلى الثَّبات والتَّوقُّف عن الفِرار، وقدْ خلَّفوه عليه الصَّلاة والسلام وراءَ ظُهُورهم، فلم يَستجيبوا، فجازاهم اللهُ بغمٍّ، وهو ما انتشرَ مِن خبرِ مَقتَلِ نبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، الذي كان أعظمَ مِن بقيَّة الغُمومِ التي حلَّتْ بهم من فواتِ النَّصر والغنيمة، وإصابتِهم بالقتْلِ والجراح، فخفَّفتْ شِدَّةُ ذلك الغمِّ ما سبَقَه من غُموم.
ثمَّ أَنزَل اللهُ على المؤمنين من بعد الغُمُوم التي أصابتْهم الأمانَ والطُّمأنينةَ في القلب؛ وذلك بأنْ غَشَّى المؤمنين من الخارجين مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ النُّعَاسَ، وأمَّا المنافقون فمِن شِدَّة قلَقِهم واضطرابِهم على حياتِهم، فلم يُغشِّهم النُّعاسَ. يَظُنُّ هؤلاء المنافقون بالله ظنًّا كاذبًا بأنَّه عزَّ وجلَّ لا ينصُر عبادَه، وظنُّهم هذا كظنِّ أهلِ الجهلِ بالله، يقولون: إنَّهم لم يَجِدوا بُدًّا من الخروج، فالقرارُ ليس بأيديهم، فأمَر الله نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقول لهم: إنَّ جميعَ الأمورِ لله تعالى وَحْده، ثم أعاد سبحانه الحديثَ عن صِفةِ هؤلاء المنافقين، فأخْبَر أنَّهم يُسِرُّون في أنفسِهم ما لا يُظهِرونه لنبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك قولهم فيما بَينهم: إنَّه لو كان لهم نَصيبٌ من الاختيارِ في شأنِ الخروجِ للقِتال، لَمَا اختاروا الخروجَ من المدينة، ولَمَا حصَل ما حصَل في صُفوفِهم من المَقْتَلة.
فأمَر اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَهم بأنَّهم لو كانوا في بُيُوتهم، لخرَج الذين كتَب اللهُ عليهم القتلَ إلى الأماكنِ التي فيها مَصارِعُهم، وقد كان تقديرُ خروجِهم من اللهِ؛ ليَميزَ اللهُ تعالى ما في قُلوبِهم من خَبيثٍ وطيِّب، واللهُ عليمٌ بما تَحويه صدورُ العبادِ.
ثم أَخبَر تعالى أنَّ فِرار المُنهزِمين يوم المعركة إنَّما كان نتيجةُ إيقاع الشَّيطان لهم في تلك الزَّلَّة، وما كان تَسلُّطُه عليهم إلَّا بسببِ بعضِ ذُنوبهم، مُخبِرًا سبحانه أنَّه عفَا عنهم، والله غفورٌ حليمٌ.
تفسير الآيات :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بطاعتِه المُوجِبةِ للنَّصر والأجْر، وختَم بمحبَّته للمُحسِنين، حذَّر من طاعةِ الكافرين المقتضيةِ للخِذلان؛ رَغبةً في موالاتِهم ومُناصَرتهم
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
أي: احْذَروا- يا عبادَ الله المؤمنين- من طاعةِ الكفَّار فيما يأمرونكم به، وفيما يَنْهونكم عنه، فإنَّ طاعتَهم تَحمِلُكم على الارتدادِ عن الإيمانِ إلى الكفرِ، الذي عاقبتُه الهلاكُ في الدُّنيا والآخرة .
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان التَّقديرُ في الآية السَّابقة: فلا تُطيعوهم؛ إنَّهم ليسوا صالحين للولايةِ مُطلَقًا ما دُمْتم مؤمنين، عطَفَ عليه قوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ مخبرًا بأنَّه ناصِرُهم، وأنَّ نَصْره لا يُساويه نصرُ أحدٍ سواه ، فقال:
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
أي: فلا تُطيعوهم خوفًا منهم، أو طلبًا لنُصْرتهم، واستَغْنُوا عن موالاتهم؛ فهم لن يَنصُروكم، بل عليكم أنْ تُطيعوا اللهَ الَّذي يتولَّاكم بتوفيقِه وتأييده ونَصْره؛ فهو خيرُ مَن يَجلِب لكم النَّصرَ .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أبان أنَّه مَوْلى المؤمنين، وأنَّه خيرُ النَّاصرين، وأنَّ مَن نصَره، سبَّب له جميعَ أسبابَ النَّصر، وأزال عنه كلَّ أسباب الخِذلان، فمنَع غيره- كائنًا من كان- من إذلاله فذكَر هاهنا مِثالًا على وَلايتِه ونُصْرتِه للمؤمنين، وقرَّر ذلك بقوله مُحقِّقًا للوعدِ :
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
أي: إنَّ الله تعالى بشَّرَ ووعَد عبادَه المؤمنين بأمْرٍ محتومٍ وقوعُه، وقريبٍ حُصولُه، وهو إدخالُ الخوفِ والفزعِ الشَّديد في قلوب الكفَّار .
عن جابر بن عبد الله رضِي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((أُعطيتُ خمسًا، لم يُعطَهنَّ أحدٌ منَ الأنبياءِ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شهرٍ.. )) .
بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
أي: إنَّ سببَ قذْفِ الرُّعب في قلوب الكفَّار، هو وقوعُهم في الشِّرك، الذي لا حُجَّةَ ولا دَليلَ على صحَّتِه .
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
أي: إنَّ النَّار ستكون المصيرَ الأخرويَّ لأولئك المشركين .
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
أي: ساءتِ النَّارُ مَقامًا لكلِّ ظالم .
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا وعَد اللهُ تعالى المؤمنين في الآية المُتقدِّمة إلقاءَ الرُّعبِ في قلوب الذين كفروا، أكَّدَ ذلك بأنْ ذَكَّرهم ما أَنجَزهم من الوعدِ بالنَّصرِ في واقعةِ أُحُد؛ فإنَّه لَمَّا وعدَهم بالنُّصرةِ بشرْط أنْ يتَّقُوا ويَصبِروا؛ فحينَ أَتَوْا بذلك الشَّرطِ لا جَرَمَ وفَّى اللهُ تعالى بالمشروطِ وأعطاهم النُّصرةَ، فلمَّا تَركوا الشَّرطَ لا جرَمَ فاتَهم المشروطُ ، فقال:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَنجَز لكم ما وعَدَكم به يومَ أُحدٍ أيُّها المؤمنون، وهو نصْركم على عَدوِّكم، وكان ذلك في بدايةِ المعركة حين طفِقتُم تَستأصِلونهم بقتْلهم قتلًا ذريعًا، وذلك قد وقَع عن أَمرِ اللهِ تعالى شرعًا وقدَرًا .
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
أي: لَمَّا استولَى عليكم الضَّعفُ والخَوَرُ، وجَبُنتم عن القِتال، ووقَع الخلافُ بين رُماتكم؛ هل يَلزَمون ثُغُورَهم- كما عهِد إليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أم يتحرَّكون لجمْعِ الغنائم، وعصَى بعضُكم في النِّهاية أمْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِن بعدِ أنْ أَظهَر الله تعالى لكم ما تُحِبُّونه من انهزام الكفَّار، وتوليتهم الأدبار، فلمَّا وقع ذلك كلُّه، حلَّت بكم الهزيمةُ .
عن البَرَاءِ بن عازبٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((لَقِينا المشركين يومئذٍ، وأجلَسَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جيشًا مِن الرُّماةِ، وأمَّرَ عليهم عبدَ الله، وقال: لا تَبرَحوا ، إنْ رأيتمونا ظهَرْنا عليهم فلا تَبرَحوا، وإنْ رأيتموهم ظهَروا علينا فلا تُعينونا، فلمَّا لَقِيناهم هرَبوا حتى رأيتُ النِّساءَ يَشتَدِدْنَ في الجبلِ، رفعْنَ عن سُوقِهنَّ، قد بدَتْ خَلاخلُهنَّ، فأخذوا يقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ، فقال عبدُ اللهِ: عهِد إليَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا تَبرَحوا! فأَبَوا، فلمَّا أبَوْا صُرِفت وجوهُهم، فأُصِيبَ سبعون قتيلًا، وأَشَرَفَ أبو سفيان، فقال: أفي القومِ محمدٌ؟ فقال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافَةَ؟ قال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القوم ابنُ الخطابِ؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا، فلو كانوا أحياءَ لأجابوا، فلم يَملِكْ عمرُ نفسَه، فقال: كذبتَ يا عدوَّ اللهِ، أبقى اللهُ عليك ما يُخْزِيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ أعلى وأجلُّ، قال أبو سفيانَ: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم! قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يومٌ بيومِ بدرٍ، والحربُ سِجَالٌ، وتجدون مُثْلَةً، لم آمرْ بها ولم تَسؤْني )) .
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
أي: إنَّ بعضًا منكم- أيُّها المؤمنون- قد ابتَغَوا الدُّنيا، وهم الرُّماةُ الذين تَرَكوا أماكنَهم وأخَذوا في جمْعِ الغنائمِ والحُطامِ الفاني يَومَ أُحُد، والبعضَ الآخَرَ كانوا يَرغبونَ في أجْرِ الآخرةِ الباقي، وهم الرُّماةُ الذين لزِموا مَقاعدَهم التي أَقعَدَهم فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
أي: بعدَ أنِ انصرفَ بعضُ الرُّماة من المؤمنين من أماكنهم، مُنصرِفين بذلك عن طاعةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وانصرَفتْ قلوبُهم للدُّنيا، ردَّ الله وجوهَكم عن الكفَّار، فصارتِ الدَّائرة عليكم؛ امتحانًا مِن الله تعالى لكم، ليَتميَّز الطَّائعُ من العاصي، والصَّابرُ على البلاء من الجازِع .
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد تَجاوَز عن عقوبة استئصالِكم جميعًا أيُّها الرُّماة، لمعصيتكم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واستبدَل بها عقوبةً أخفَّ وطأة عليكم، وهي إلحاقُ الهزيمة بكم، وقَتْل بعضكم .
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ اللهَ تعالى صاحِبُ الفضلِ على جميعِ المؤمنين؛ لأجْلِ ما معهم من إيمانٍ، ومن ذلك: العَفوُ عمَّا يَقَعُ منهم من عِصيان .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ
أي: اذكُروا- أيُّها المؤمنون- حين كنتُم تَجدُّون في الفِرارِ والإبعادِ في الأرض، ولا أحدَ منكم يَلتفِتُ إلى غيره أو يَنظُر إليه؛ إذ لم يكُن لديكم مِن همٍّ سِوى النَّجاةِ من الأعداء .
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
أي: إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد خلَّفتموه وراءَ ظُهورِكم ممَّا يلي جِهةَ العدوِّ، وهو يدعوكم- أيُّها المؤمنون- إلى التَّوقُّفِ عن الفِرار والثَّبات، فلم تَلتفِتوا إليه .
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ
أي: بسببِ ما قُمْتم به من الفِرار وعدمِ الاستجابةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يوم أُحُد، جازاكم اللهُ تعالى بغمِّ نبأِ مَقتَل النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو أعظمُ من بقيَّةِ الغُموم التي نالتْكم، كفواتِ النَّصرِ والغنائم، وإصابتِكم بالقَتْل والجراح .
لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
أي: إنَّ الله تعالى قد أَصابَكم بغمِّ سماعِكم إشاعةَ مَقتَل محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو أشدُّ من الغُمُوم الأخرى؛ لئلَّا يُصيبَكم الحَزنُ على ما ذهَب عنكم من النَّصر والغنائم، ولا على ما نالَكم من جراحٍ، وما أصابَ إخوانَكم مِن قتْل، فيُنسيكم سماعُ مقتلِ النَّبيِّ ذلك كلَّه، أو يُخفِّف من وطْأَتِه عليكم .
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
أي: واللهُ تعالى هو وحْدَه العالمُ ببواطنِ ما تَعمَلونه من خيرٍ أو شرٍّ- أيُّها المؤمنون- ومِن ذلك: ما قُمتُم به في غزوةٍ أُحُد، كما أنَّ ما ترتَّبَ عليها من ابتلاءاتٍ ومِحَنٍ وأسرار، إنَّما هو صادرٌ عن كمال عِلْمه ببواطنِ الأمور .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا وعَد بنصرِ المؤمنين على الكافرين، وهذا النَّصرُ لا بدَّ وأنْ يكون مسبوقًا بإزالةِ الخوف عن المؤمنين- بيَّن في هذه الآية أنَّه تعالى أزالَ الخوفَ عنهم؛ ليصيرَ ذلك كالدَّلالةِ على أنَّه تعالى يُنجِز وعْدَه بنصْرِ المؤمنين .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
أي: إنَّ اللهَ تعالى قدْ أَنزَل عليكم- أيُّها المؤمنون- بعدَ كلِّ تلك الغُمومِ التي أصابتْكم يومَ أُحُد، أنزل عليكم ما به حُلولُ الأمان، وحصولُ الاطمئنانِ في قلوبكم .
نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ
أي: إنَّ الأمانَ الذي نزَل بقلوبهم مصدره النُّعاس الذي غشي أهلَ الإيمان من بين مَن خرج مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأُحد .
عن أنسِ بن مالكٍ، أنَّ أبا طلحةَ رضِي الله عنهما قال: ((رَفعتُ رأسي يومَ أُحدٍ فجعلتُ أَنظُر، وما منهُم يَومئذٍ أحدٌ إلَّا يَميدُ تحتَ حَجفتِهِ منَ النُّعاسِ، فذلِكَ قَولُهُ تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا)) .
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
أي: إنَّ ثمَّة جماعةً أخرى مِن بين مَن خرجَ لأُحد، لم يَغْشَهم النعاسُ مِن شِدَّة قلقِهم واضطرابِهم على حياتِهم، وهم المنافِقون الذين لا همَّ لديهم غيرُ أنفسِهم التي يَحذرون من قتْلِها .
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
أي: يظنُّ أفرادُ هذه المجموعةِ ظنونًا كاذبةً، كما هو دَيدنُ أهلِ الجهلِ بالله تعالى، وذلك حين رأوا هجمةَ المشركين على المسلمين، وإعمالَ القتْل فيهم؛ إذ ظنُّوا أنَّ دِينَ الله تعالى مُضمحِلٌّ وأتباعَه مَهزومون .
قال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح: 12] .
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ
أي: قال هؤلاء الحريصونَ على سلامةِ أنفسِهم مُستنكِرين بأنَّهم لم يكونوا يَملِكون شيئًا من قرارِ خُروجِهم للقِتال .
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ
أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاء المنافقين: إنَّ جميعَ الأمور، مُبتدَأها ومنتهاها لله تعالى وحده لا شريكَ له، فهو الذي يُصرِّفها كيف شاء، ويُدبِّرها كيفما أراد، فجميعُ الأمورِ بقضائِه وقدَره، ومِن ذلك خُروجُكم للقتال، وما يقَعُ فيه من نصْرٍ أو هزيمة، كما أنَّ العاقبةَ في النهاية لدِين اللهِ تعالى وأوليائِه، وإنْ وقَع عليهم ما وقَع .
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ
أي: يُضمِر أولئك المنافقون في نفوسِهم ما لا يُظهرونه لك- يا محمَّدُ .
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا
أي: إنَّ الذي كانوا يُخفونه عنك- يا محمَّدُ- هو قولهم فيما بينهم مُتحسِّرين ونادِمين: لو كان لنا في شَأنِ الخروجِ لهذا القِتال نَصيبٌ من الرأي والاختيارِ في ذلك، لَمَا اتَّخذنا قرارًا بالخروجِ مِن المدينة مُطلقًا، ولَمَا وقعتْ في صُفوفنا مَقتلةٌ .
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ
أي: قل- يا محمَّدُ- لأولئك المنافقين- ردًّا على قولِهم الذي أسرُّوه وأَطْلَعَك اللهُ تعالى عليه-: إنَّما وقَع ما وقَع بقدَر الله تعالى وحْدَه، وهو حُكمٌ ماضٍ لا بدَّ أن ينفُذ، فحتى لو كنتُم في بيوتِكم التي ليستْ بمظنَّةٍ لوقوعِ القتْل فيها، فسيخرُج منها مَن كتَب اللهُ تعالى عليه ذلك ويأتي الموضعَ الذي يَلقَى فيه مصرعَه .
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد قدَّر عليكم الخروجَ والقتل؛ ليختبرَ قلوبَكم .
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
أي: ليَميزَ الله تعالى ما في قلوبِكم من خَبيثٍ وطيِّب، ويُظهرَ أمْرِ المؤمِن والمنافِقِ للنَّاس في أقوالهم وأفعالهم .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو عِلمٍ بكلِّ ما تُكنُّه صُدورُ عِبادِه، لا يَخفى عليه شيءٌ من ذلك، ومُجازٍ كلًّا منهم بحسبَه. لكنَّ حِكمتَه اقتضتْ أنْ يُقدِّر من الأسبابِ ما تَتبيَّن به مُخبَّآتُ الصُّدور .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
أي: إنَّ الذين ولَّوا منكم المشركين أَدْبارَهم، وانْهَزموا عنهم يومَ تلاقى جمْعُ المسلمين والمشركين بأُحُد، إنَّما أَوْقَعَهم الشيطانُ في تلك الزَّلَّة، وما تَسلَّط عليهم إلَّا بسببِ بعضِ ذُنوبهم .
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد تجاوزَ عن معاقبةِ أولئك الذين تَولَّوا، فلم يُؤاخِذْهم على فِرارهم .
عن عثمانَ بن مَوهَبٍ، قال: ((جاء رجلٌ حجَّ البيتَ، فرأى قومًا جلوسًا، فقال: مَن هؤلاء القعودُ؟ قالوا: هؤلاء قريشٌ, قال: مَن الشَّيخُ ؟ قالوا: ابنُ عمرَ، فأتاه فقال:... أَتَعْلمُ أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ فرَّ يومَ أُحُدٍ؟ قال: نعَمْ... أمَّا فِرارُهُ يومَ أُحُدٍ فأَشهدُ أنَّ اللهَ عفا عنه وغفَر له... )) .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو الذي يَستُر ذُنوبَ عِبادِه، ويتجاوزُ عن المؤاخذةِ بها، وهو الذي يُمهِلُ عِبادَه؛ ليتوبوا، فلا يُعاجِلهم بالعقوبةِ
.
الفوائد التربوية :
1- في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فضيلةُ الإيمان، حيثُ يُوجَّه الخطابُ إلى الناس بوصْفِ الإيمان في مقامِ الإرشادِ والتنبيه؛ لأنَّ الإيمانَ مُقتضٍ للامتثال
.
2- تحذيرُ المؤمنين من الانقيادِ للعدوِّ والتذلُّلِ له وإظهارِ الحاجة إليه، وأنْ يُخامرَهم خاطرُ الدُّخول في صُلح المشركين وأمانهم؛ فإذا مالوا إليهم اسْتدرَجوهم رويدًا رويدًا، بإظهارِ عدمِ كراهية دِينهم المخالِف لهم، حتى يردُّوهم عن دِينهم؛ قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ .
3- التحذيرُ من الشِّرك؛ فهو جالبٌ لهم الشرَّ في الدُّنيا والآخِرة، فالمشركون في الدنيا مَرعُوبون، وفي الآخرة مُعذَّبون؛ وذلك بسبب إشراكهم؛ قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ .
4- أنَّ وعْد الله تعالى المؤمنين النصرَ على عَدوِّهم مشروطٌ تحقُّقُه بـما إذا لم يَعصُوا بتنازعهم وفشَلِهم؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ .
5- أنَّ النِّزاعَ والمعصيةَ سببانِ لفوات النَّصر؛ لأنَّ المسلمين في أوَّل الأمر انْتَصروا وقَتَلوا المشركين، لكن لَمَّا حدَث هذا المانعُ، امتنع أو انتفَى النصرُ؛ قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ... .
6- الحثُّ على اجتماعِ الكلمة؛ وجهُه: أنَّ النزاعَ سببٌ للخِذلان، فيكون الاتِّفاق سببًا للنَّصر، وهو كذلك؛ فاجتماعُ الناسِ على كَلمةٍ واحدةٍ لا شكَّ أنَّه سببٌ للنصر؛ ولهذا يَنبغي لطلبةِ العِلمِ وللعلماء ألَّا يُظهروا خِلافَهم ونزاعَهم أمامَ العامَّة؛ قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ .... .
7- أنه ينبغي للقائدِ أنْ يكونَ ذا شجاعةٍ في قيادتِه، بحيثُ يثبُت ويدعو إلى الثَّبات؛ لقولِه تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ؛ لأنَّه لو لم يثبُت وهرَب معهم، لم يكُن صالحًا للقيادة .
8- التربيةُ العظيمةُ للعِباد، وهي ألَّا يَحزنوا على ما فاتهم، فإذا فاتك ما تظنُّه خيرًا لنفسك، فقل: قَدَّرَ الله وما شاء فَعَل، وكذلك إذا أصابَك ما تَكرَهُ، فقل: قدَّر اللهُ وما شاء فَعَل، واعلمْ أنَّ الحزن لا يَردُّ الغائب أبدًا، وإنَّما يَزيد الإنسان بلاءً، والله عزَّ وجلَّ يحبُّ من عِباده ألَّا يحزنوا؛ لأنَّه دفَعَ الغمَّ بالغمِّ من أجْل ألَّا يحزنوا؛ وذلك لأنَّ الحُزن يُحدِث للإنسان انقباضًا ربَّما يَمنعُه عن كثيرٍ من المصالح؛ قال تعالى: لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ .
9- أنَّ الإنسانَ الذي لا يكونُ له همٌّ إلَّا نفسُه في هذه المواطن قد يُبتلى-والعياذ بالله- بهذه البلوى العظيمة، وهي أنْ يظنَّ باللهِ غير الحقِّ؛ كما قال تعالى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ .
10- الحَذرُ لا يَدفعُ القدَر، والتدبيرُ لا يُقاوِم التقديرَ؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، فالذين قدَّر الله تعالى عليهم القتْلَ لا بدَّ وأن يُقتلوا على جميعِ التقديرات .
11- الذَّنبُ يجرُّ إلى الذنب؛ يبيِّن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، فقد أزلَّهم الشيطان بشُؤمِ بعضِ ما سبَق لهم مِن الذُّنوب، وأوقعَهم في الهزيمةِ
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّة لله؛ لقوله: سَنُلْقِي
.
2- مِن كمالِ الله عزَّ وجلَّ تجدُّدُ أفعالِه التي تكون تابعةً لإرادتِه وحِكمتِه؛ لأنَّ إلقاءَ الرُّعب في قلوبِ هؤلاءِ حادثٌ؛ سَنُلْقِي، أي: في المستقبَل .
3- إثباتُ الأسبابِ؛ لقوله: بِمَا أَشْرَكُوا؛ لأنَّ الباءَ للسببيَّةِ وهو الحقُّ .
4- في قول الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، دلالةٌ على أنَّ الرُّعبَ إذا كان يُلقَى في قلوبِ الذين كفروا؛ لإشراكِهم، فإنَّ الأمْنَ يُلقَى في قلوبِ الذين آمَنوا؛ لتوحيدِهم .
5- أنَّه لا دليلَ لأحدٍ يحتجُّ به على اعتناقِ الشِّرك؛ لقوله تعالى: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا .
6- شِدَّةُ عزيمةِ الصحابةِ رضي الله عنهم في طَلبِ العدوِّ؛ لأنَّه قال: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، والحسُّ: القتل، أو أشدُّه، كأنَّه يُسمعُ له صوتٌ عند القتْل، وهكذا يَنبغي للمسلمين أنْ يأتوا أعداءَهم الحربيِّين على شِدَّة وغِلظة، كما قال الله تعالى: وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء: 104] ، يعني: لا تَضعُفوا في طلبِهم .
7- المعصيةُ بعدَ النِّعمة أشدُّ من المعصيةِ قبل النِّعمة؛ لقوله: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، وإلَّا لكان يقول: وَعَصَيْتُمْ فقط، لكن كون المعصيةِ تقعُ بعدَ أنْ أراهم اللهُ ما يُحبُّون؛ هذه أعظمُ ممَّا إذا لم يكُن الله قد أراهم ما يحبُّون .
8- في قول الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ...، جاءتِ المخاطبةُ بجمْع ضميرِ المؤمنين في هذه الآيات، وإنْ كان لم يصُدرْ ما يُعاتبُ عليه مِن جميعِهم؛ وذلك على طريقةِ العربِ في نِسبةِ ما يَقع من بعضِهم للجميعِ على سبيلِ التجوُّز، وفي ذلك إبقاءٌ على مَن فعَل وسَتْرٌ؛ إذ لم يُعيَّن، وزجرٌ لِمَن لم يَفعلْ أن يفعلَ .
9- أنَّ العِبرةَ والمدارَ على القلوبِ التي في الصُّدور؛ لقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ، وقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ وكأنَّ هذا- والله أعلم- فيه إشارةٌ إلى أنَّ سببَ الجُبن والنِّزاع والمعصية سوءُ النيَّةِ من بعضِ مَنْ كان فيهم، ويُمكن أن نجعلَ قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا جملةٌ استئنافيَّة تعليليَّة لِمَا حَصَل، ولا شكَّ أنَّ المدارَ كلَّه على ما في القلبِ، وأنَّه متى كان القلبُ صالحًا، صلَح العملُ، ومتى كان فاسدًا، فسَد العملُ .
10- أنَّه قد يكونُ في خيرِ القرون مَن يُعاب عليه الفِعل؛ لقوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، ولكنَّ الصحابة رضي الله عنهم بخاصَّة، لهم مِن الفضائل والسَّوابق والصُّحبة ما يُكفِّر ما حصَل منهم مِن الآفات وغيرِها .
11- في قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وقوله: لِكَيْلَا، وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ إثباتُ الحِكمة في أفعال الله؛ فإنَّ اللام هنا للتعليل، فيكون في هذا ردٌّ على الجهميَّةِ ونحوهم ممَّن يُنكرون حِكمةَ الله عزَّ وجلَّ، ويقولون: إنَّ اللهَ يفعل لا لحِكمةٍ ولكن لمجرَّد مشيئة، ونحن نُؤمِنُ بأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يَفعل شيئًا ولا يَشرَع شيئًا إلَّا لحِكمة، لكن من الحِكمِ ما هو معلومٌ للبشر، وما هو مجهولٌ لا تَبلغُه العقولُ .
12- في تَعقيبِ الملامِ من الله تعالى للذين انهزموا في المعركةِ بقوله: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ تسكينٌ لخواطرِهم؛ فما حصَلَ من المؤمنين- من التنازُع، والفشل، والمعصية، وإرادة الدنيا- كلُّه مَحاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، وفي ذلك تلطُّفٌ معهم على عادةِ القرآن في تقريعِ المؤمنين، وأعظمُ مِن ذلك تقديمُ العفوِ على الملامِ في ملامِ الرَّسولِ عليه السَّلام في قوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ، فتِلك رُتبةٌ أشرفُ من رُتبةِ تعقيبِ الملام بذِكر العفو .
وفي تعقيبِ الملامِ أيضًا دلالةٌ على صِدقِ إيمانهم؛ إذ عجَّلَ لهم الإعلامَ بالعفو؛ لكيلَا تطيرَ نفوسُهم رهبةً وخوفًا من غضَبِ الله تعالى .
13- خصَّ سبحانه العملَ في قوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وإنْ كان تعالى خبيرًا بجميعِ الأحوال مِن الأعمالِ والأقوالِ والنيَّات؛ تنبيهًا على أعمالهم من توليةِ الأدبار، والمبالغةِ في الفِرار، وهي أعمالٌ تُخشَى عاقبتُها وعِقابُها .
14- أفاد قولُ الله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وجوبَ الحذرِ مِن مخالفةِ الله عزَّ وجلَّ؛ ووجهُه: أنَّه إذا كان خبيرًا بعَمَلِنا، فإنَّ ذلك يُوجِب لنا ألَّا نخالِفَه؛ لأنَّنا إنْ خالفْناه عَلِمَ، وإذا عَلِمَ فسوف يُحاسبنا .
15- الردُّ على الجبريَّة مِن قوله: تَعْمَلُونَ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه أَضاف العملَ إليهم، والجبريَّةُ يقولون: إنَّ الإنسانَ لا يَعمل، لا يَفعلُ شيئًا باختيارِه .
16- الردُّ على غُلاة القدريَّة من قوله: خَبِيرٌ؛ لأنَّ غلاة القدرية يُنكِرون عِلمَ الله بفِعل العبدِ، ويقولون: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يعلمُ أفعالَ العبد، لكن إذا فعَلَها علِمَ بها، تعالى الله عمَّا يقولون .
17- أنَّه لا يَظنُّ أحدٌ بالله ظنًّا غير الحقِّ إلَّا وهو جاهلٌ؛ لقوله تعالى: ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ، فكلُّ مَن ظنَّ بالله غيرِ الحقِّ، فإنَّه بلا شكٍّ جاهلٌ، لم يَقدُرِ اللهَ حقَّ قدْره .
18- الردُّ على الجبريَّة، وذلك من قوله: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا، ومن قوله: تَوَلَّوْا مِنْكُمْ .
19- إثباتُ أنَّ للشيطان تأثيرًا على العبدِ، حتى في عَملِه الصَّالح، وحتى في الجِهاد؛ لقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا...: استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقالِ مِن التوبيخِ واللَّومِ والعِتابِ إلى التحذيرِ؛ ليُتوسَّلَ منه إلى معاودةِ التَّسليةِ على ما حَصَل من الهزيمة
.
- وتصديرُ الخِطابِ بالنِّداء والتنبيهِ يَا أَيُّهَا؛ لإظهارِ الاعتناءِ بما في حَيِّزه، ووصْفُهم بالإيمان؛ لتذكيرِ حالِهم وتثبيتِهم عليها بإظهارِ مُباينتِها لحالِ أعدائِهم، كما أنَّ وصْفَ المنافقين بالكُفر في قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا لذلك؛ قَصْدًا إلى مزيدِ التنفيرِ عنهم، والتَّحذيرِ عن طاعتِهم .
2- قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا:
- في قوله: سَنُلْقِي التفاتٌ- على قِراءة مَن قرأ (وسَيجزي) بالياء- ، حيث التفتَ من الغَيبة إلى التكلُّمِ؛ للاهتمامِ بما يُلقيه تعالى في قلوبِهم.
3- وقوله: بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا: مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا أي: ما لَا سُلطانَ له، ففيه التَّعبيرُ عن نفْي تنزيلِ السُّلطان، والمرادُ نفيُ وجودِه، فلمْ يَعْنِ أنَّ هناك حُجَّةً إلَّا أنَّها لم تَنزِلْ عليهم؛ لأنَّ الشِّركَ لا يستقيمُ أنْ يقومَ عليه حُجَّةٌ، وإنَّما المرادُ نفيُ الحُجةِ ونزولِها جميعًا؛ لأنَّه لو كان لنزَل، أي: لأَوْحى الله به إلى الناس؛ لأنَّ الله لم يَكتمِ الناسَ الإرشادَ إلى ما يجبُ عليهم من اعتِقادِ على ألْسِنة الرُّسُل، فالتنزيلُ إمَّا بمعنى الوحي، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم .
- وقوله: مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وصفٌ كاشف؛ لأنَّ الإشراكَ لا يُمكن أنْ يكونَ قد نزَلَ بسلطانٍ، ولا يوجدُ ما يُسمِّيه أحدٌ شريكًا إلَّا وهو ممَّا لم يُنزل به الله سُلطانًا، بل ولا حُجَّة به في الواقِع ولا بُرهان ، وذلك يُفيد التوكيدَ.
4- قوله: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ: فيه وضْعُ الظاهرِ الظَّالِمِينَ موضِعَ المُضمَر- حيث لم يقل: (مثواهم)-؛ للتغليظِ، والإشعارِ بأنَّهم في إشراكِهم ظالِمُون واضِعُون للشيءِ في غيرِ موضعِه ، وللتَّعميمِ وتعليق الحُكم بالوصف .
- والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ؛ للدَّلالة عليه، أي: بِئسَ مثوى الظالِمين النارُ، وفي جَعْلها مثواهم بعدَ جَعْلِها مأواهم نوعُ رَمزٍ إلى خلودِهم فيها؛ فإنَّ المثْوى مكانُ الإقامةِ المنبئةِ عن المُكثْ، وأمَّا المأوى، فهو المكانُ الذي يَأوي إليه الإنسانُ .
5- قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ عدَلَ عن ذِكرِ الغنيمةِ باسمِها إلى الموصول مَا؛ تنبيهًا على أنَّهم عَجِلوا في طلبِ المالِ المحبوبِ .
6- قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ: فيه تفصيلٌ للإجمالِ الذي في قولِه: وتَنَازَعْتُمْ، وتبيينٌ لـوَعَصَيْتُمْ، وتخصيصٌ له بأنَّ العاصين بعضُ المخاطَبين المتنازِعين؛ إذِ الَّذين أرادوا الآخِرةَ ليسوا بعاصين؛ ولذلك أُخِّرتْ هذه الجملةُ إلى بعدِ الفِعلين، وكان مُقتضى الظاهرِ أنْ يُعقِّب بها قوله: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ، وفي هذا الموضعِ للجملةِ ما أغْنى عن ذِكر ثلاثِ جُمَل، وهذا مِن أبدعِ وجوهِ الإعجاز، والقرينةُ واضحةٌ .
7- قوله: وَمَنْ يُرِدْ، ومِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ... فيه حُسْنُ تقسيمٍ .
8- قوله: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: تذييلٌ؛ لتأكيدِ ما اقتضاه قولُه: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ .
- وتنكيرُ فَضْلٍ؛ للتفخيم .
- والإظهارُ عَلَى المُؤْمِنِينَ في موقعِ الإضمارِ (عليهم)؛ للتَّشريفِ، والإشعارِ بعلَّة الحُكم، وتعليق الحُكم بالوصف .
9- قوله: وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ: فيه إيجازٌ بالحَذْف؛ إذ المعنى: ولا يَلوي أحدٌ على أحدٍ، فأوجزَ بالحذف، والمرادُ: على أحدٍ منكم .
10- قوله: غَمًّا بِغَمٍّ فيه تنكيرُ (غَمّ)؛ للتكثيرِ .
11- قوله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا فيه التصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه بقوله مِنْ بَعْدِ، مع دَلالة ثُمَّ عليه وعلى تَراخِيه عنه؛ لزِيادةِ البيانِ، والتذكيرِ بعِظَم النِّعمةِ .
- وقوله: عَلَيْكُمْ يدلُّ على تجلُّل النُّعاسِ واستعلائِه وغلبتِه عليهم .
- وقوله: أَمَنَةً نُعَاسًا: في إبدال نُعَاسًا من أَمَنَةً إيجازٌ كثيرٌ، يدلُّ على أنَّ الأمنَ والهدوءَ استوليَا عليهم بمجرَّدِ مُخالطةِ النُّعاس، وإنَّما ينعَسُ مَن أمِن وزايلَه الخوف، والخائِف لا يَنامُ، بل يرَى أعداءَه في كلِّ مكان .
- وتقديمُ الظَّرفينِ مِنْ بَعْدِ على المفعولِ الصَّريح أَمَنَةً؛ للاعتناءِ بشأنِ المقدَّمِ، والتشويقِ إلى المؤخَّر .
- وتَخصيصُ الخوفِ من بين فُنونِ الغمِّ بالإزالة؛ لأنَّه المهمُّ عندَهم حينئذٍ؛ لأنَّ المشركين لَمَّا انصرَفوا كانوا يَتوعَّدون المسلمين بالرُّجوع، فلم يأمنوا رجْعَتَهم إليهم، وكانوا تحتَ الأسلحةِ متأهِّبين للقِتال، فأنزلَ اللهُ تعالى عليهم الأَمنةَ فأَخذَهم النُّعاسُ .
12- قوله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ: استئنافٌ بيانيٌّ نشأ عن قوله: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وفيه تعريضٌ بأنَّهم لم يُزيلوا بعضَ أوصاف الجاهليَّة، ولم يُخلصوا الدِّينَ لله .
- وقوله: غَيْرَ الحَقِّ: تأكيدٌ لـيَظُنُّونَ، مثل قولك: هذا القولُ غيرُ ما تقول، وهذا القولُ لا قولك .
13- قوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ: هَلْ للاستفهامِ الإنكاريِّ بمعنى النَّفي، بقرينةِ زيادة مِن قبل النَّكرة، وهي مِن خَصائصِ النَّفي، وهو تبرئةٌ لأنفسِهم من أنْ يكونوا سببًا في مقابلةِ العدوِّ، حتى نَشأَ عنه ما نَشأ، وتَعريضٌ بأنَّ الخروجَ للقتالِ يومَ أُحُدٍ خَطأٌ وغُرور .
14- قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ: فيه تأكيدُ الخبر بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة.
- وكُلَّهُ- على قِراءة النَّصب- تأكيدٌ لاسم (إنَّ) ، فلمَّا أُكِّد في كلامِهم بزيادة (مِن) في قوله: مِنْ شَيْءٍ، جاءَ الكلام مؤكَّدًا بـ(إنَّ)، وبُولغ في توكيدِ العمومِ بقولِه: كُلَّهُ لِلَّهِ، فكان الجوابُ أبلغَ .
15- قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: خبرٌ فيه وعدٌ ووعيد، وتنبيهٌ على أنَّه غنيٌّ عن الابتلاء؛ وإنما فعَل ذلك لتَمرينِ المؤمنين، وإظهارِ حالِ المنافقين .
16- قوله: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ: فيه مِن البلاغة: المخالفةُ في جواب لَوْ؛ فقد جاء مرَّةً بغيرِ لام مَا قُتِلْنَا، وجاء مرة مقترنًا بها لَبرَزَ، وفي هذا سرٌّ عجيبٌ، والقاعدةُ المعروفةُ هي أنَّ جوابَ (لو) إذا كان منفيًّا بـ(ما)، فالأكثرُ عدمُ اللام، وفي الإيجابِ بالعكس؛ لأنَّ الإيجابَ أحوجُ إلى التَّثبيتِ والترسيخِ .
17- أفاد قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أنَّه يَنبغي التأكيدُ من أجْل زيادةِ طُمأنينةِ المخاطَب؛ لأنَّه أكَّد هذه الجملةَ الخبريَّةَ التي تُفيد العفوَ عنهم؛ أكَّدها بقَسَم، ولام، وقدْ؛ من أجْل أنْ تَزدادَ طُمأنينتُهم في هذا العفو .
18- قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ: الجملةُ تعليلٌ لِمَا قَبْلَها على سبيلِ التَّحقيق، وفي إظهارِ لفظ الجَلالةِ (الله) في موضِع الإضمارِ تربيةٌ للمهابةِ، وتأكيدٌ للتَّعليل .
=================
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (156-158)
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
غريبُ الكَلِمات:
غُزًّى: جمْع غازٍ، والغزوُ: الخروجُ إلى مُحاربةِ العَدوِّ، وأصلُ الغزوِ: طلبُ شيءٍ
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يَنهى اللهُ عِبادَه المؤمنين عن أنْ يُشابهوا الَّذين كفَروا في قولِهم النَّاشئِ عن الاعتراضِ على قَضاءِ اللهِ وأقدارِه، حين قالوا عن إخوانِهم من الكَفَرة الَّذين ماتوا أو قُتِلوا- وهم بَعيدونَ عن أوطانِهم لغرَض التِّجارة أو القِتال- قالوا: لو كانوا مُقيمينَ معنا في أوطاننا، لَمَا أصابَهم ما أصابهم؛ ليجعلَ اللهُ هذا الاعتقادَ والقولَ منهم حسرةً وندامةً في قلوبهم، واللهُ وحده مَن بيدِه إحياءُ الخَلْق وإماتتُهم، وكلُّ ذلك بمشيئته، لا تموتُ نفسٌ إلَّا حين تستوفي أجَلَها، وهو سبحانه بما يعمَلُ خَلقُه بصيرٌ.
ثمَّ يُخاطِب عبادَه سبحانه بأنَّ مَن يُقتَل في سبيل الله أو يموت، فما سينالُه من مغفرةِ الله ورحمتِه هو خيرٌ من البقاءِ في هذه الدُّنيا، وأفضل ممَّا يجمعه أهلُها منها، ثمَّ يُذكِّرهم أنَّهم إنْ ماتوا أو قُتلوا فإنَّ المصيرَ والمرجِع إليه جلَّ وعلا.
تفسير الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله- سبحانه- وتعالى للمؤمنين أنَّ هزيمةَ مَن تولَّى منهم يوم أُحُدٍ كانت بوَسواسٍ من الشيطان استزلَّهم فزَلُّوا، أراد أنْ يُحذِّرهم من مثلِ تلك الوسوسةِ الَّتي أفسدَ الشَّيطانُ بها قلوبَ الكافرين
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا
أي: يا أيُّها المؤمنون، لا تَصيروا مثلَ الكفَّار الَّذين قالوا قولًا منكَرًا ناشئًا عن اعتقادٍ فاسدٍ بالاعتراضِ على قضاءِ الله عزَّ وجلَّ وقدَرِه، وهو قولُهم عن إخوانهم من أهلِ الكفرِ الَّذين خرَجوا من بلادهم سَفرًا لأجل التِّجارة وطلب المعيشة، أو خرَجوا غُزاةً للقتال، فماتوا في سَفَرهم، أو قُتلوا في غزوهم: لو أقاموا معنا في بِلادِنا ولم يَخْرُجوا كما فَعَلْنا نحن لَمَا ماتوا في سفَرِهم، ولَمَا قُتِلوا في غَزوِهم .
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَجعلُ هذا القولَ وهذا الاعتقادَ ندامةً في قلوبهم وهمًّا، فتزداد مصيبتُهم بذلك .
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
أي: واللهُ تعالى هو وحْدَه الَّذي يملِكُ الإحياءَ والإماتة، فلن يموتَ أحدٌ أو يُقتَل إلَّا بمشيئتِه سبحانه، وذلك بعدَ استكمالِ أجَلِه الَّذي قدَّره الله عزَّ وجلَّ له .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: تَعْمَلُونَ قراءتان:
1- يَعْمَلُونَ على أنَّها خِطابٌ للكافرين .
2- تَعْمَلُونَ على أنَّها خِطابٌ للمؤمنين .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ يرى كلَّ ما يَعمَلُه العبادُ، مؤمنُهم وكافرُهم، من خيرٍ أو شرٍّ، قليلٍ أو كثيرٍ، وهو حافظٌ له، وسيُجازيهم عليه .
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى المؤمنين عن أنْ يكونوا كالَّذين كفروا وقالوا ما قالوا في شأنِ مَن مات في سفَرٍ أو غزوٍ- بيَّن لهم ثمرةَ فواتِ أنفسِهم في الجهادِ بالموتِ أو القتْل؛ ليكونَ ذلك موجِبًا لتسليمِ الأمرِ للخالِق، وعدمِ التَّخاذُل عن الغزوِ ، فقال:
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
أي: إنَّكم إذا قُتِلتم في سبيلِ الله تعالى أو أصابَكم الموتُ في سبيله أيضًا، فهذا أمرٌ حسَنٌ يَنبغي أنْ تطمَعوا فيه، وتتنافسوا عليه؛ لأنَّه موصلٌ إلى نيلِ مغفرةِ الله تعالى لذُنوبكم، وشمولِ رحمتِه عليكم، وذلك أفضلُ لكم من البقاءِ في هذه الدَّارِ وجمْعِ حُطامِها الفاني، كما يفعلُ أهلُ الدُّنيا .
قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] .
وقال سبحانه: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32] .
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رغَّب اللهُ تعالى المجاهدِينَ في الآيةِ الأُولى بمغفرتِه ورحمتِه، زادَ في إعلاءِ الدَّرجاتِ، فرغَّبهم هاهنا بالحشرِ إليه ، فقال:
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ
أي: إنْ أصابَكم الموتُ أو القتْلُ- أيُّها المؤمنون- فإنَّ مَصيرَكم في النهاية هو العودةُ إلى الله عزَّ وجلَّ، فيُجازيكم بما صنعتُم، فآثِروا ما يُقرِّبكم من اللهِ تعالى، وكونوا مُطمئنِّين ومستبشرين للقائِه سبحانه
.
الفَوائِد التربويَّة :
1- عِلمُ الله لا يَتغيَّرُ، وحُكمُه لا ينقلِبُ، وقضاؤُه لا يتبدَّلُ، فلا تأثيرَ لشيءٍ آخرَ في الحياةِ والموت: مَن قُدِّر له البقاءُ لم يُقتَل في الجهاد، ومَن قُدِّر له الموتُ لم يَبقَ وإنْ لم يجاهد؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ
.
2- إثباتُ عمومِ عِلمِ الله عزَّ وجلَّ بكلِّ ما نعمل؛ لقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أو بِمَا يَعْمَلُونَ، ويَترتَّبُ على هذه الفائدةِ فائدةٌ مسلكيَّةٌ ينتفعُ بها الإنسانُ في سلوكِه وعملِه، وهي أنَّه إذا آمَن بأنَّ اللهَ بَصيرٌ بما يعمل لزِم من ذلك أنْ يستقيمَ على أمْرِه .
3- إنَّ مصيرَ العالَمين كلِّهم إلى اللهِ تعالى؛ فالموافاةُ على الشَّهادةِ أمثلُ بالمرء؛ ليُحرِزَ ثوابها ويجِدَه وقتَ الحشر، ذلك خيرٌ له من أنْ يموتَ مِن غيرِ ما فائدةٍ؛ يبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ، فالنهايةُ واحدةٌ: موتٌ أو قتْلٌ في الموعدِ المحتوم، والأَجَلِ المقسوم، ورجعةٌ إلى الله وحشرٌ في يومِ الجَمْعِ والحشر، ومغفرةٌ من الله ورحمةٌ، أو غضبٌ من الله وعذاب؛ فأحْمَقُ الحمقَى مَن يختار لنفسِه المصيرَ البائس، وهو ميِّتٌ على كلِّ حال
!
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قول الله تعالى: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى ذكَرَ الغزوَ بعدَ الضَّربِ في الأرض وهو داخلٌ فيه؛ قيل: لأنَّ الضَّربَ في الأرض يُراد به الإبعادُ في السَّفر، لا ما يَقرُب منه، وفي الغزو لا فَرقَ بين بعيدِه وقريبِه، فبينهما عمومٌ وخصوص؛ فتغايرَا، فصحَّ إفرادُه
. وقِيل: قدَّم الضَّربَ في الأرض على الغزو؛ لكَثرتِه .
2- في قولِ الله تعالى: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا قدَّم الموتَ على القتْل؛ قيل: لِمُناسبةِ ما قَبلَه من قوله: إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى ، أو باعتبارِ أنَّ الموتَ حتْفَ الأنفِ هو الغالبُ، وليس القتْل .
3- الرَّدُّ على القدريَّة؛ لقوله: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني: أنَّ اللهَ قدَّر أنْ يقولوا هذا القولَ ليجعلَه حَسرةً في قلوبهم .
4- قول الله تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ علَّق ما قال الكافرون بالبصرِ لا بالسَّمعِ، وإنْ كان الصادرُ منهم قولًا مسموعًا لا فِعلًا مرئيًّا، لَمَّا كان ذلك القولُ من الكافِرِ قصدًا منهم إلى عَملٍ يُحاولونه، فخَصَّ البصرَ بذلك .
5- في قوله تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الرَّدُّ على الجبريَّة، حيث أضافَ العملَ إليهم، والجبريَّةُ لا يُضيفون العملَ إلى الإنسان .
6- قول الله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ قدَّم القتلَ على الموت؛ لأنَّه محلُّ تحريضٍ على الجهاد، فقدَّم الأهمَّ والأشرفَ .
7- الجَمْع بين المغفرة والرَّحمة ليكملَ للإنسانِ سعادتُه؛ إذ بالمغفرةِ زوالُ المكروه، وبالرَّحمةِ حصولُ المطلوب: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ .
8- جوازُ إيقاع التَّفضيلِ بين شيئينِ بينهما بُعدٌ تامٌّ، كما قال تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ .
9- قول الله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ قدَّم الموتَ هنا على القتْل؛ قيل: لأنَّها آيةُ وعْظٍ بالآخِرة والحشرِ، وتزهيدٍ في الدُّنيا والحياة، والموتُ فيها مُطلَق لم يقيَّدْ بشيءٍ فقُدِّم لعمومِه، أو لأنَّه أغلبُ في النَّاس من القتْل .
10- في قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ زيادةُ تسليةٍ للمؤمنين؛ لأنَّ المؤمنَ إذا عَلِم أنَّ مرجعَه إلى الله فإنَّه سوف يَطمئنُّ ويستبشرُ وينشرحُ صدرُه بذلك
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
- في الآية: حِكايةُ الحالِ الماضيةِ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ في الذِّهن، وتجسيدِ المعنى المراد، والتَّشخيصِ لِمَا يُراد عَرْضُه؛ فـ: إِذَا ظرفٌ للمستقبل، وقد جاء متعلقًا بـقَالُوا، وهي فِعل ماضٍ، وكان ظاهرُ الكلام يَقضي باستعمال (إذ) المفيدةِ للمُضيِّ، ولكنَّه عدَل عنها إلى إِذَا؛ لحكايةِ الحالِ الماضية، وفائدتُها استمرارُ الزَّمان المنتظِم للحالِ الَّذي يَدورُ عليه الحديثُ إلى وقتِ التَّكلُّم
.
- وقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: خبرٌ متضمِّنٌ للتَّحذيرِ لهم مِن أن يُضمروا العَوْدَ إلى ما نُهوا عنه .
- وفيه: إظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موقعِ الإضمارِ؛ لتربيةِ المهابةِ، وإلقاءِ الرَّوْعةِ، والمبالغةِ في التَّهديد، والتَّشديدِ في الوعيد .
- وفيه: تعليقُ قولهم بالبَصرِ لا بالسَّمعِ- مع أنَّ المتبادرَ أنَّ تعليقَه بالسَّمعِ أليقُ؛ لأنَّ الصادرَ منهم كان قولًا مسموعًا لا فِعلًا مرئيًّا- ونُكتةُ ذلك: أنَّه لَمَّا كان ذلك القولُ من الكافر قصدًا منهم إلى عمل يحاولونه، فخصَّ البصر بذلك، كقولِك لِمَن يقول شيئًا وهو يَقصِد فِعلًا يحاوله: أنا أرى ما تَفعلُه .
2- قوله: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ: فيه تأكيدُ الخبرِ باسميَّةِ الجملة، واللام .
- ووردتْ لَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ نكرتين، إشارةً إلى أنَّ أيسرَ جزءٍ من المغفرة والرَّحمة خيرٌ من الدُّنيا، وأنَّه كافٍ في فوزِ المؤمن .
3- قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ: فيه توكيدُ الخبر باسميَّةِ الجملة، واللام في لَإِلَى، وبتقديمِ ما حقُّه التَّأخير لَإِلَى .
- وعبَّر بقوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ولم يقُلْ: (تحشرون إلى الله)؛ لأنَّ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ يُفيد الحَصرَ، فمعناه: إلى اللهِ يُحشَر العالَمون لا إلى غيرِه، وهذا يدلُّ على أنَّه لا حَاكمَ في ذلك اليومِ ولا ضارَّ ولا نافعَ إلَّا هو سبحانه وتعالى .
- وقوله: تُحْشَرُونَ بُني لِمَا لم يُسمَّ فاعلُه، مع أنَّ فاعلَ ذلك الحَشرِ هو اللهُ تعالى، وإنَّما لم يقَعِ التَّصريحُ به؛ لأنَّه تعالى هو العظيمُ الكبير، وترك التَّصريح في مِثل هذا الموضعِ أدلُّ على العظَمةِ .
================
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (159-161)
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
غريبُ الكَلِمات:
فَظًّا: كَريهَ الخُلُق، وجافِي الفِعل، من الفظِّ، وهو ماءُ الكَرِش، وأصل الفظاظة: الجَفوة، والكراهةُ والتَّكرُّه
.
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ: أي: لتَفرَّقوا عنك، ولم يَسكُنوا إليك، والفضُّ: كسْرُ الشَّيءِ، والتَّفريقُ بين بعضِه وبعضِه، وأصلُه: التَّفريقُ والتَّجزئة .
عَزَمْتَ: أي: عَقَدْتَ قلبَك على إمضاءِ الأمورِ، وصَحَّحتَ رأيَك فيها، وأصلُ العزم: القطعُ .
يَخْذُلْكُمْ: أي: يَترُكْ نُصرتَكم ومعونتَكم، وأصل (خذل): ترْكُ الشَّيءِ والقعودُ عنه، ومنه الخِذلانُ، وهو تركُ المَعُونة .
يَغُلَّ: أي: يَخون في الغنائم، أو يُنسَب إلى الخيانة- على قراءة (يُغَلَّ)-، والغُلول في الغنائم، إخفاءُ الشَّيء وعدمُ ردِّه إلى القَسم؛ كأنَّ صاحبَه قد غلَّه بين ثِيابِه، وأصل الغُلول: تخلُّل شيءٍ، وثباتُ شيء، كالشَّيء يُغرَزُ
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِرُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بسبب رحمةِ الله تعالى ليَّن اللهُ له قلبَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أصحابه، ولو كان سيِّئَ الخُلُق ذا قلبٍ قاسٍ لتَركوه ونفَروا منه، وأمَره تعالى بأنْ يَعفوَ عن أخطائِهم وتقصيرِهم، وأنْ يَستغفرَ لهم اللهَ، وأنْ يَستشيرَهم في الأمورِ الَّتي تحتاجُ إلى مشورةٍ، فإذا ترجَّح له أمرٌ بعد الاستشارةِ فليَمضِ فيه متوكِّلًا على الله، والله سبحانه يحبُّ مَن يتوكَّل عليه.
ثمَّ يخبِرُهم تعالى أنَّه حِين يُقدِّرُ للمؤمنين النَّصرَ فلنْ يَستطيعَ أحدٌ أنْ يَهزمَهم، وإنْ تخلَّى اللهُ عنهم فلا يُمكن لأحدٍ أنْ يَنصُرَهم أبدًا، وعلى اللهِ وحْدهَ فليكُنِ اعتمادُ كلِّ مؤمن.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّه ليس من صِفاتِ الأنبياءِ الغُلولُ، أي: كتمانُ الغنيمةِ، ولا الخيانةُ عمومًا، ولا يَنبغي أن يُتَّهموا بذلِك، أو يَخُونَهم أحدٌ، وأنَّ مَن قام بالخيانةِ في غنائمِ المسلمين فإنَّه يُجيءُ معه يومَ القيامة بذلك الشَّيءِ الَّذي أخَذَه خِيانةً، ثمَّ تُجزَى كلُّ نفسٍ بما عمِلَتْ، لا يُظلَمُ أحدٌ شيئًا.
تفسير الآيات:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وَعَظَ اللهُ تعالى الصَّحابةَ رضي الله تعالى عنهم، أَتْبَعَه تحبيبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما فعل بهم من الرِّفق واللِّين، مع وجودِ سببِ الغضبِ الموجِبِ للعُنف والسَّطوة من اعتراضٍ على ما أشار به، ثمَّ مخالفتِهم لأمْره في حِفظِ المركزِ والصَّبرِ والتقوى، ثمَّ خِذلانِهم له وتقديمِ أنفسِهم على نفسِه الشَّريفةِ، ثمَّ عدم العطفِ عليه وهو يَدْعوهم إليه ويأمُرُ بإقبالِهم عليه، ثمَّ اتِّهامِ مَن اتَّهمه، إلى غيرِ ذلك من الأمورِ الَّتي تُوجِبُ لرؤساءِ الجيوشِ وقادةِ الجنودِ اتِّهامَ أَتْباعِهم، وسوءَ الظَّنِّ بهم، الموجِبَ للغضبِ والإيقاعِ ببعضِهم؛ ليكونَ ذلك زاجرًا لهم عن العَودِ إلى مثلِه
، فقال تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
أي: بسببِ رحمةِ اللهِ تعالى لكَ ولأصحابِكَ- يا محمَّدُ- أَلَانَ قَلبَك لهم، فكنتَ سهلًا ورقيقًا في تعاملِك معهم .
قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
أي: لو كنتَ- يا محمَّدُ- جافيًا سيِّئَ الخُلُق، قاسيَ القلبِ مع أَتْباعِك، لنفَروا منك وفارَقوك .
عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، قال: لقِيتُ عبدَ اللهِ بن عمرِو بنِ العَاصِ رضِيَ اللهُ عنهمَا: قلتُ: أخبِرنِي عن صفةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في التَّورَاةِ، قالَ: ((أَجَلْ، واللهِ إنَّهُ لموصوفٌ في التَّورَاةِ ببعضِ صِفَتِهِ في القرآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وحِرْزًا للأُمِّيِّينَ ، أنتَ عَبْدِي ورَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتوكِّلَ، ليسَ بِفَظٍّ ولا غَليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يَدْفَعُ بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولكنْ يَعفُو ويغْفِرُ، ولنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حتَّى يُقِيمَ به المِلَّةَ العَوجاءَ، بأنْ يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ويفْتَحُ بها أعيُنًا عُمْيًا، وآذَانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلْفًا )) .
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
أي: تَجاوَزْ عن أصحابِك- يا محمَّدُ- فيما أخطَؤوا أو قَصَّروا فيه من حقِّك، واطلبِ المغفرةَ لهم من اللهِ تعالى فيما أَخطؤوا أو قَصَّروا فيه من حقِّ الله عزَّ وجلَّ، واطلبْ رأيَهم فيما حزَبَك من الأمور العامَّةِ والمشتبِهة؛ وذلك تطييبًا لقلوبهم؛ ليكونوا لك أطوعَ، وفيما يُقدِمون عليه أنشَطَ، وليقتدوا بكَ في ذلك مِن بعدِك .
وقد أثنى اللهُ تعالى على المؤمنين بذلك فقال: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم...الآيات [الشورى: 36- 43] .
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
أي: إذا صحَّ عزْمُك على أمرٍ من الأمورِ بعدَ استطلاعِ آراءِ أصحابِك فيه، فامْضِ فيه معتمِدًا على حولِ الله تعالى وقوَّتِه، واثقًا به فحسبُ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يحبُّ اللَّاجئين إليه، والمعتمِدين في جميعِ أمورِهم عليه .
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ
أي: إذا قدَّر الله تعالى بأنْ يَكونَ النصرُ حليفَكم- أيُّها المؤمنون- فإنَّه لن يَغلِبَكم أحدٌ مُطلَقًا مهما بلغ قوَّةً وكثرة .
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
أي: إذا ترَكَكم اللهُ تعالى وخلَّى بينَكم وبين عَدوِّكم، ووكَلَكم إلى أنفسِكم، فلا يُمكن لأيِّ أحدٍ مطلقًا أن يَنصُرَكم من بعدِ خِذلانِ اللهِ تعالى لكم .
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
أي: وعلى اللهِ تعالى وحْدَه، لا على أيِّ أحدٍ غيرِه، فاعتمِدوا- أيُّها المؤمنونَ- في جلْبِ الخيرِ ودَفْعِ الضُّرِّ، ومِن ذلك النَّصرُ على الأعداءِ، ودفعُ شرِّهم .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
مناسبةُ هذه الآيةِ لِمَا قَبْلَها من عدَّة وجوه:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حثَّ على الجهادِ أتْبَعَه بذِكرِ أحكامِ الجهاد، ومِن جملتها: المنعُ من الغُلولِ .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ النَّصرَ والخِذلانَ بيده وحْدَه، وذلك يستلزمُ التَّحريضَ على طلَبِ مَرْضاتِه؛ ليكونَ لطيفًا بمَن يُرضُونه، ولَمَّا كان الغُلولُ مِن أعظمِ مُوجباتِ الخِذلانِ، أو أعْظَمَها، والنَّزاهةُ عنه مِن أعظمِ مُوجباتِ النَّصرِ- كان أنسبَ الأشياءِ لتعقيبِ هذه الآيةِ .
وكذلك لَمَّا أمَرَهم اللهُ تعالى بالتوكُّل في الآيةِ السَّابقة، حثَّهم على ألَّا يأتوا بما يَقدَحُ في التوكُّل؛ كالغُلولِ وما يُدانِيه .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: يَغُلَّ قِراءتان:
1- يَغُلَّ أي: ما كان لنبيٍّ أنْ يخُونَ في غنيمةٍ أو غيرها .
2- يُغَلَّ، قِيل معناها: ما كان لنبيٍّ أن يُغِلَّه أحدٌ، أي: يَخُونَه، وقيل: ما كان لنبيٍّ أنْ يُتَّهم بالغُلولِ فيُخوَّن .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
أي: وليس الغُلولُ- وهو كِتمانُ الغنيمة، وغيرُها من أوجهِ الخِيانة- من صِفاتِ الأنبياء؛ فذلك محالٌ وممتنعٌ على مَن اختارهم الله تعالى لمقام النُّبوَّة، ولا يَنبغي شرعًا لأحدٍ أن يخُونَهم، أو يُنسُبَ إليهم هذه الصِّفةَ الشَّنيعةَ .
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: ومَن يخُنْ مِن غنائمِ المسلمين شيئًا فإنَّه يَجيءُ معه يومَ القيامةِ بنَفْسِ الشَّيءِ الَّذي أخَذه على سَبيلِ الخِيانةِ .
عن أبي حُميدٍ السَّاعديِّ رضِي اللهُ عنه قال: ((اسْتَعْمَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رجلًا من الأزدِ على صدقاتِ بني سُلَيمٍ، يُدعى ابنَ الأُتْبِيَّةِ، فلمَّا جاءَ حاسبَه، قال: هذا مالُكم، وهذا هديَّةٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فهلَّا جلَستَ في بيتِ أبيك وأمِّك حتَّى تَأتيَك هديَّتُك إنْ كنتَ صادقًا؟! ثمَّ خطبنا فحمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، فإنِّي أستعملُ الرجلَ منكم على العَملِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيأتي فيقول: هذا مالُكم وهذا هديَّةٌ أُهدِيتْ لي، أفَلا جلَسَ في بيت أبيه وأمِّه حتَّى تأتيَه هديَّتُه إنْ كان صادقًا؟! واللهِ لا يَأخذُ أحدٌ منكم منها شيئًا بغير حقِّه، إلَّا لقيَ اللهَ تعالى يَحملُه يومَ القيامةِ، فلَأعرفنَّ أحدًا منكم لقيَ اللهَ يَحمِل بعيرًا له رُغاءٌ ، أو بقرةٌ لها خُوارٌ ، أو شاةٌ تَيْعِرُ ، ثمَّ رفع يدَيه حتَّى رُئيَ بياضُ إِبْطَيه، ثمَّ قال: اللهمَّ هل بلَّغْتُ؟، بصُرَ عيني وسمِع أُذني، وفي حديثِ ابنِ نُميرٍ: تَعلمنَّ واللهِ، والَّذي نفْسي بيدِه! لا يأخذُ أحدُكم منها شيئًا. وزاد في حديثِ سفيانَ قال: بصُر عيني وسمِع أُذناي، وسلوا زيدَ بنَ ثابتٍ؛ فإنَّه كان حاضرًا معي. وفي روايةٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استعمل رجلًا على الصَّدقةِ، فجاء بسوادٍ كثيرٍ، فجعَل يقول: هذا لكم، وهذا أُهدِيَ إليَّ، فذكر نحوه، قال عُروةُ: فقلتُ لأبي حُميدٍ السَّاعديِّ: أسمعتَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فقال: مِن فيه إلى أُذُني )) .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((غزا نبيٌّ من الأنبياءِ فقال لقومهِ: لا يَتْبَعْنِي رجلٌ ملَكَ بُضعَ امرأةٍ، وهو يُريدُ أن يَبنيَ بها، ولَمَّا يَبْنِ، ولا آخَرُ قد بنَى بُنيانًا، ولَمَّا يرفَعْ سقفَها، ولا آخرُ قد اشترَى غنَمًا أو خَلِفاتٍ ، وهو منتظرٌ ولادَها، قال: فغزَا، فأَدْنَى للقريةِ حينَ صلاةِ العصرِ، أو قريبًا من ذلكَ، فقال للشَّمسِ: أنتِ مأمورةٌ وأنا مأمورٌ، اللهمَّ احبِسْها عليَّ شيئًا، فحُبِستْ عليهِ حتَّى فتَحَ اللهُ عليهِ، قال: فجمَعُوا ما غنِموا، فأقبلتِ النَّارُ لتأكلَه، فأبتْ أنْ تَطْعَمَهُ، فقال: فيكُم غُلولٌ، فليُبايِعْنِي من كلِّ قبيلةٍ رجلٌ، فبايَعوهُ، فلصِقَتْ يدُ رجلٍ بيدهِ، فقال: فيكُم الغُلولُ، فلتُبايِعْنِي قبيلتُكَ، فبايَعَتْهُ، قال: فلصِقَتْ بيدِ رَجُلينِ أو ثلاثةٍ، فقال: فيكُم الغُلولُ، أنتُم غلَلْتُم، قال: فأَخْرجوا له مِثلَ رأسِ بقرةٍ من ذَهبٍ، قال: فوضَعُوهُ في المالِ وهو بالصَّعيدِ ، فأقبلتِ النَّارُ فأكلَتْهُ، فلم تحِلَّ الغنائمُ لأحدٍ مِن قبلِنا؛ ذلكَ بأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى رأى ضَعْفَنا وعَجزَنا، فطَيَّبها لنا )) .
وعن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه قال: ((لَمَّا كان يومُ خيبرَ أقبَل نفَرٌ مِن صحابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: فلانٌ شهيدٌ. فلانٌ شهيد، حتَّى مرُّوا على رجلٍ فقالوا: فلانٌ شهيدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كلَّا، إنِّي رأيتُه في النَّارِ، في بُردَةٍ غلَّها، أو عَباءةٍ، ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا ابنَ الخطَّابِ، اذهَبْ فنَادِ في النَّاسِ: إنَّه لا يدخُلُ الجنَّةَ إلَّا المؤمنونَ، قال: فخرَجتُ فنادَيتُ: أَلَا إنَّه لا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا المؤمِنونَ )) .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه قال: ((خرَجْنا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ خَيبرَ، فلم نَغنَمْ ذهبًا ولا فِضَّةً، إلَّا الأموالَ والثِّيابَ والمَتاعَ، فأهدَى رجلٌ من بني الضَّبيبِ، يُقالُ له: رِفاعَةُ بنُ زيدٍ، لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غلامًا، يُقالُ له: مِدعَمٌ، فوَجَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى وادي القُرَى، حتَّى إذا كان بوادي القُرَى، بينما مِدعَمٌ يَحُطُّ رَحلًا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا سهمٌ عائِرٌ فقَتَلَه، فقال النَّاسُ: هَنيئًا له الجنَّةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كلَّا، والَّذي نفْسي بيدِه، إنَّ الشَّملةَ الَّتي أخَذها يومَ خَيبرَ من المغانمِ، لم تُصِبْها المَقاسِمُ، لَتَشتَعِلُ عليه نارًا، فلمَّا سَمِعَ ذلك النَّاسُ جاء رجلٌ بشِراكٍ ، أو شِراكَينِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: شِراكٌ من نارٍ، أو: شِراكانِ من نارٍ )) .
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عُقوبةَ الغالِّ، وأنَّه يأتي يومَ القيامةِ بما غَلَّه، ولَمَّا أرادَ أنْ يذكُرَ توفيتَه وجزاءَه، وكان الاقتصارُ على الغالِّ يُوهم-بالمفهومِ- أنَّ غيرَه من أنواعِ العاملين قد لا يُوفَّوْن- ناسَب أن يأتيَ بلفظٍ عامٍّ جامعٍ له ولغيرِه ، فقال:
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
أي: إنَّ كلَّ نفسٍ تُعطَى يومَ القيامةِ جزاءَ ما عمِلَتْ كاملًا غيرَ منقوص، فلا يُنقَصُ من حَسناتِهم، ولا يُزادُ في سيِّئاتهم
.
الفَوائِدُ التربويَّة:
1- الحثُّ على حُسنِ الخُلق واللِّين؛ فثمرة اللِّين هي المحبَّة والاجتماع، وخلافُه من الجَفوةِ والخشونةِ مُؤدٍّ إلى التَّفرُّق؛ قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
.
2- فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الأخلاقُ الحسنة من الرَّئيس في الدِّين، تجذِبُ النَّاسَ إلى دِين الله، وتُرغِّبُهم فيه، مع ما لصاحبِه من المدحِ والثَّواب الخاصِّ، والأخلاقُ السَّيِّئةُ من الرَّئيسِ في الدِّين تُنفِّر النَّاسَ عن الدِّين، وتُبغِّضُهم إليه، مع ما لصاحبِها من الذَّمِّ والعِقابِ الخاصِّ؛ فهذا الرَّسولُ المعصومُ يقولُ اللهُ له ما يقولُ؛ فكيف بغيره ؟!
3- لولا أنَّ اللهَ ألْقى في قلبِ عبدِه داعيةَ الخيرِ والرَّحمةِ واللُّطفِ لم يَفعَلِ العبد شيئًا من ذلك، فلا رحمةَ إلَّا للهِ سبحانه؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ .
4- يجبُ أنْ يكونَ الاعتمادُ على إعانةِ اللهِ وتَسديدِه وعِصمتِه، وألَّا يكونَ للعبدِ اعتمادٌ على شيءٍ إلَّا على الله تعالى في جَميعِ الأمورِ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ .
5- ليس التوكُّلُ إهمالَ التَّدبيرِ بالكلِّيَّة، بل بمراعاةِ الأسبابِ الظَّاهرةِ- كالمشاورة- مع تفويضِ الأمرِ إلى الله تعالى، فلا يُعوِّل بقلبِه عليها، بل يُعوِّلُ على عصمةِ الله تعالى؛ كما في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ .
6- فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الآيةُ صريحةٌ في وجوبِ إمضاءِ العزيمةِ المستكمِلةِ لشُروطِها- وأهمُّها في الأمورِ العامَّةِ حربيَّةً كانتْ أو سياسيَّةً أو إداريَّةً: المشاورةُ- وذلك أنَّ نقضَ العزيمةِ ضعفٌ في النَّفسِ، وزلزالٌ في الأخلاقِ، لا يُوثَقُ بمنِ اعتاده في قولٍ ولا عمَلٍ، فإذا كان ناقضُ العزيمةِ رئيسَ حكومةٍ أو قائدَ جيشٍ، كان ظهورُ نقضِ العزيمةِ منه ناقضًا للثِّقةِ بحكومتِه وبجيشِه، ولا سيَّما إذا كان بعد الشُّروعِ في العملِ .
7- في قوله: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أنَّ العزمَ على الفِعلِ وإنْ كان يكونُ بعد الفكرِ وإحكامِ الرَّأيِ والمشاورةِ، وأخْذِ الأُهْبةِ، فذلك كلُّه لا يَكفي للنَّجاحِ إلَّا بمعونةِ اللهِ وتوفيقِه; لأنَّ الموانعَ الخارجيَّةَ له والعوائقَ دونه لا يُحيطُ بها إلَّا الله- تعالى-، فلا بدَّ للمؤمنِ من الاتِّكالِ عليه، والاعتمادِ على حَولِه وقوَّته، مع فعلِ الأسبابِ .
8- أنَّه يَنبغي على الإنسانِ إذا عزَم على الأمرِ ألَّا يتردَّدَ؛ لأنَّ التَّردُّدَ يُحيِّر الإنسانَ ويوقِعُه في القلقِ
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- أنَّ التَّفريطَ في حقِّ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام ذنبٌ عظيمٌ؛ لأنَّ الله لَمَّا أمر نبيَّه بالعفوِ عن حقِّه الخاصِّ قال: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وهو كذلك؛ فإنَّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام ليس كغيره؛ لأنَّ له حقَّ الإسلام وحقَّ الرِّسالة، ولأنَّه أعظمُ النَّاس حقوقًا علينا؛ فالاعتداءُ في حقِّه أشدُّ من غيره، بل يُكسِبُ الإثمَ
.
2- في قولِ الله سبحانه: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أنَّ المشاورةَ من العباداتِ المتقرَّبِ بها إلى الله .
3- للشُّورى المأمورِ بها في قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ حِكَمٌ وفوائدُ تترتَّبُ عليها، مِن هذه الحِكَمِ:
- ألَّا يَستبدَّ الرَّئيسُ أو وليُّ الأمرِ برأيه.
- كما أنَّ فيها تعويدَ أفراد الأمَّةِ على النَّظرِ في شؤونهم؛ حتَّى يتمرَّنوا ويُمارِسوا هذا الأمْرَ.
- التَّواضُع ممَّن شاور، فلا شكَّ أنَّه إذا شاوَرَ فهو متواضِعٌ.
- تنشيطُ الأمَّة، حيثُ ترى أنَّه يُرجَعُ إليها في الرَّأي، فتنشطُ وتَعملُ ما فيه الخيرُ العامُّ، بخِلافِ ما إذا استبدَّ وليُّ الأمر في رأيه، فإنَّه وإنْ كان صوابًا ربَّما تشمئزُّ النُّفوس منه.
- أنَّه إذا اجتمعتِ الآراءُ مع حُسنِ النِّيَّةِ، فإنَّ الغالبَ أنَّ اللهَ يُوفِّقُهم للصَّوابِ.
- أنَّ الإنسانَ ربَّما يرَى في هذا الأمرِ مصلحةً ويفُوته ما يَترتَّبُ عليه من مفسدةٍ، لا سيَّما إذا كان له هوًى؛ فإنَّ الهوى كما قيل: يُعمِي ويُصِمُّ، أحيانًا يكونُ للإنسان هوًى فيرى المصلحةَ ولا يَرى المفسدةَ في الشَّيء، فإذا حصَل التَّشاورُ تبيَّنتِ المصالحُ من المفاسدِ.
- أنَّ الأمَّةَ إذا اجتمعَتْ على رأيها لم يكُنْ للنَّاسِ اعتراضٌ، ومعلومٌ أنَّ الَّذي يُشاوَر هم أهلُ الأمانةِ، وأهلُ الحَلِّ والعَقدِ والمعرفة .
4- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعتريه ما يَعتري البشرَ من التَّردُّدِ في الأمور، ووجهُ الدَّلالةِ: أولًا في قوله: وَشَاوِرْهُمْ، وثانيًا في قوله: فَإِذَا عَزَمْتَ؛ فإنَّ العزيمةَ قد يسبِقُها تردُّدٌ كما هو الواقع .
5- في قولِ الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، أنَّ التَّوكُّلَ من مقتضياتِ الإيمانِ؛ لأنَّه علَّق الحُكمَ على وصفٍ، وهو الإيمانُ، فدلَّ ذلك على أنَّه كلَّما قوِيَ الإيمانُ قوِيَ التَّوكُّلُ على اللهِ، وكلَّما ضعُف الإيمانُ ضعُف التَّوكُّلُ على اللهِ .
6- الخيانةُ مع كلِّ أحدٍ مُحرَّمةٌ، وتخصيصُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بهذه الحُرمةِ في قوله تعالى في قِراءة: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) يُستفادُ منه فوائدُ؛ منها: أنَّ المجنيَّ عليه كلَّما كان أشرَفَ وأعظَمَ درجةً كانت الخيانةُ في حقِّه أفحشَ، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أفضلُ البشرِ، فكانتِ الخيانةُ في حقِّه أفحشَ، ومنها: أنَّ الوحيَ كان يأتيه حالًا فحالًا، فمَن خانه فربَّما نزَل الوحيُ فيه، فيحصُلُ له مع عذابِ الآخرةِ فضيحةُ الدُّنيا، ومنها: أنَّ المسلِمين كانوا في غايةِ الفقرِ في ذلك الوقتِ، فكانتْ تلك الخيانةُ هناك أفحشَ .
بَلاغَةُ الآياتِ:
1- قوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ: الفاء للتَّفريعِ على ما اشتمَلَ عليه الكلامُ السَّابقُ الَّذي حُكِي فيه مخالفةُ طوائفَ لأمْر الرَّسولِ من مؤمنين ومُنافِقين، وما حُكِي مِن عفوِ اللهِ عنهم فيما صنَعوا .
- وتقديمُ المجرورِ فَبِمَا رَحْمَةٍ مفيدٌ للحصرِ الإضافيِّ، أي: برحمةٍ مِن الله، لا بغَيرِ ذلك من أحوالهم، وهذا القصرُ يُفيدُ التَّعريضَ بأنَّ أحوالَهم كانتْ مستوجِبةً الغِلَظَ عليهم، ولكنَّ اللهَ تعالى ألَان خُلُقَ رسولِه، رحمةً بهم؛ لحكمةٍ علِمها اللهُ في سياسةِ هذه الأمَّةِ .
- وزِيدَتْ مَا بعدَ باء الجرِّ؛ لتأكيدِ الجملةِ بما فيه من القَصرِ، فتعيَّن بزيادتها كونُ التَّقديمِ للحصرِ، لا لمجرَّدِ الاهتمامِ .
- وقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أُسْنِدت الرَّحمةُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه المتفضِّلُ بها، ولأنَّ إسنادَها إليه يُفيدُ عظَمتَها، وأنَّها رحمةٌ عظيمةٌ .
- ودلَّ فِعلُ المُضيِّ في قوله: لِنْتَ على أنَّ ذلك وصفٌ تَقرَّر وعُرِف مِن خُلقِه، وأنَّ فِطرتَه على ذلك برَحمةٍ مِن اللهِ؛ إذ خلَقه كذلك .
2- قوله: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ: فيه تمثيلٌ؛ حيث شُبِّهت هيئةُ النُّفورِ منه وكراهيةُ الدُّخولِ في دِينه بالانفضاضِ مِن حولِه، أي: الفِرار عنه مُتفرِّقين، وهو يُؤذِنُ بأنَّهم حولَه متَّبِعون له .
3- قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ (الفاء) فيه تدُلُّ على التَّعقيبِ المباشِر؛ فهذا يدُلُّ على أنَّه تعالى أوجَب على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَعفوَ عنهم في الحال .
4- قوله: إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ: الجملةُ تعليلٌ للتَّوكُّلِ عليه تعالى ، وهو مِن حُسنِ التَّعليل، كما فيها تأكيدُ الخبرِ بـ(إنَّ)، واسميَّةِ الجملة .
- وفيه: وضعُ الاسمِ الظَّاهرِ إِنَّ اللهَ موضِعَ الضَّمير (إنَّه)؛ لتربيةِ المَهابةِ .
5- في قوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160):
- جَعَل الجوابَ بقوله: فَلَا غَالِبَ لَكُمْ دون أن يقول: (لا تُغلبوا)؛ للتَّنصيصِ على التَّعميمِ في الجواب؛ لأنَّ عمومَ ترتُّبِ الجزاءِ على الشَّرطِ أغلبيٌّ، وقد يكون جزئيًّا، أي: لا تُغلَبوا مِن بعضِ المغالبين، فأُريد بإفادةِ التَّعميمِ دفعُ التَّوهُّمِ .
- قوله: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُم مِنْ بَعْدِهِ: خبرٌ فيه ترغيبٌ في الطَّاعةِ، وفيما يَستحقُّون به النَّصرَ مِن الله تعالى والتَّأييدَ، وتحذيرٌ من المعصية، وممَّا يستوجِبون به العقوبةَ بالخِذلانِ .
- قوله: فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مِنْ بَعْدِهِ: الاستفهامُ إنكاريٌّ، مفيدٌ لانتفاءِ النَّاصرِ ذاتًا وصِفةً بطريق المبالَغةِ .
- وفيه تلطُّفٌ بالمؤمنين حتَّى لا يُصرِّحَ لهم بأنَّه لا ناصرَ لهم، بل أبرَز ذلك في صورةِ الاستفهامِ الَّذي يقتضي السُّؤالَ عن النَّاصرِ، وإن كان المعنى على نفْيِ الناصرِ، لكن فرقٌ بين الصَّريحِ والمُتضمَّنِ، فلم يُجرِ المؤمنين في ذلك مجرى الكفَّارِ، الَّذي نصَّ عليه بالصَّريحِ أنَّه لا ناصرَ لهم؛ كقولِه: أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] .
- قوله: وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعلِ؛ لإفادةِ قصرِه عليه تعالى، والفاءُ لترتيبِه، أو ترتيبِ الأمرِ به .
- والمرادُ بالمؤمنين إمَّا الجنسُ، والمُخاطَبون داخِلونَ فيه دُخولًا أوَّليًّا، وإمَّا هم خاصَّةً بطريق الالتفاتِ، وعلى كِلا الوجهين فيه تَشريفٌ لهم بعنوانِ الإيمانِ اشتراكًا أو استقلالًا، وتعليلٌ لتحتُّمِ التَّوكُّلِ عليه تعالى؛ فإنَّ وصفَ الإيمانِ ممَّا يوجِبه قطعًا .
6- قوله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ: فيه المبالغةُ في النَّهيِ حيث عبَّر بـوَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وهي صيغةُ جُحودٍ تُفيد مبالَغةَ النَّفي؛ لأنَّ الغُلولَ أَولى بأن يُبالَغَ فيه .
7- قوله: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: فيه تعميمُ الحُكمِ؛ ليكونَ كالبرهانِ على المقصودِ، وللمبالغةِ فيه؛ فإنَّه إذا كان كلُّ كاسبٍ مَجزيًّا بعملِه، فالغَالُّ مع عِظَمِ جُرمِه بذلك أَولى .
- وجِيءَ بأداةِ التَّراخي ثُمَّ؛ للدَّلالةِ على طولِ مُهلةِ التَّفضيحِ، فزادَ ذلك في تَعظيمِ يومِ القيامة، وتعظيمِ الجزاءِ فيه .
- وبُني الفِعلُ تُوَفَّى لِمَا لم يُسمَّ فاعلُه؛ إظهارًا لعظَمتِه تعالى، على طريقِ كلامِ القادِرين .
==================
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (162-168)
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريبُ الكَلِمات:
فَبَاؤُوا: رجَعُوا، وانْصَرَفوا بذلك، واستوجَبوه، ولا يُقال (باء) إِلَّا بِشَرٍّ، ويُقال: باء بكذا إذا أقرَّ به
.
وَمَأْوَاهُ: مرجعُه الذي يعودُ إليه، والمأوى: مَكَان كلِّ شَيْءٍ ومرجعُه الَّذي يعودُ إليه ليلًا أو نهارًا؛ يُقال: أَوى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، يَأْوي أُوِيًّا وإِوَاءً، وأصله: التَّجمُّع .
مَنَّ: أي: أنْعَم وصنَع الصُّنع الجَميل، والمنَّة: النِّعمة الثَّقيلة، وأصل مَنَّ: اصطناعُ الخيرِ .
يُزَكِّيهِمْ: يُطهِّرُهم من الكُفرِ والمَعاصِي والرَّذائل، وأصل الزَّكاة: النَّماءُ والزِّيادةُ، والطَّهارةُ .
أَنَّى: هي كلمةٌ للبَحثِ عن الحالِ والمكان، بمعنى: كيفَ وأينَ؛ لتضمُّنها مَعناهما، وهي هنا بمعنى: كيف .
تَعَالَوْا: أي: هلُمُّوا، و(تَعالَ)، أصلُه أنْ يُدعَى الإنسانُ إلى مَكانٍ مرتفعٍ، ثمَّ جُعل للدُّعاءِ إلى كلِّ مكان، وأصله مِن العلوِّ، وهو ارتفاعُ المنزلةِ، فكأنَّه دعا إلى ما فيه رِفعةٌ .
فَادْرَؤُوا: أي: فادْفَعوا، والدَّرْءُ: الميلُ إلى أحدِ الجانبينِ
.
المَعنَى الإجماليُّ:
لا يَستوي مَن كان مبتغاه رِضا اللهِ تعالى، ويَسعى لذلك، ومَن هو واقعٌ في معاصي الله، راجعٌ بسَخَطِه وغَضَبِه، ومَصيرُه جهنَّمُ، وبئس المصيرُ، وكِلا الفريقين مراتبُ متفاوتةٌ، فمَنِ ابتغَوْا رضوانَ الله درجاتٌ مختلفةٌ في العُلوِّ، ومَن باؤوا بسَخَطِ الله درَكاتٌ متفاوتةٌ في السُّفولِ، واللهُ مطَّلعٌ على كلِّ ما يعملُه عبادُه، وسيُجازيهم عليه.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه أنعَمَ على أهل الإيمانِ بإرسال محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم من جنسِهم البَشريِّ، يَقرأ عليهم القُرآنَ، ويُطهِّرُهم من الشِّركِ والمعاصي والأخلاقِ الرَّذيلةِ، ويُعلِّمُهم معانيَ القرآنِ، والسُّنَّة النَّبويَّة، وقد كانوا من قَبلِ أن يَأتيَهم في ضلالٍ واضحٍ.
ثمَّ يقولُ اللهُ تعالى للمُؤمنين: أحِينَ أَصابَتْكم المصيبةُ يومَ أُحُدٍ بقَتْلِ سبعين منكم، وأنتُم قد أوقعتُم بعَدوِّكم ضِعفَيْها بقتلِ سبعينَ منهم، وأَسْرِ سبعينَ، أعندَ ذلك تَتساءَلون: مِن أين أصابَنا ما أصابَنا، وكيف وقَعَتْ علينا هذه المصيبةُ، فأمَر اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لهم: إنَّ ما حَلَّ بكم سببُه من أنفسِكم، حين حصَل مِن بعضِكم التَّنازُعُ فيما بينهم، وعصَوْا أمرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قادرٌ.
ثمَّ يُخبِرُ اللهُ تعالى المؤمنين أنَّ ما أصابَهم يومَ أُحُدٍ يوم الْتَقى جَمْعُ المسلمين بجَمْعِ المشركين، إنما هو بقَضاءِ الله وقدَرِه، وليَمِيزَ سبحانه المؤمنين، ويمِيزَ أيضًا المنافقين الَّذين هم في صُفوفِ المسلمين، وقد اتَّضَح أمرُهم حين دُعوا للقتالِ في سبيلِ الله، أو من أجْلِ الدَّفع عن البلاد ومَن فيها، فما كان منهم إلَّا أنِ اعتذروا بعُذرٍ قبيحٍ؛ حيث قالوا: إنَّهم لو يعلَمون أنَّه ستكونُ مواجهةٌ بين المسلِمين والمشركين كانوا سيخرُجون مع المسلِمين، لكنَّهم لا يرَوْن أنَّ هذا سيحصُلُ، فأخبر تعالى أنَّ المنافقين كانوا في تلك الحالِ أقرَبَ إلى الكفرِ منهم إلى الإيمانِ، يُضمِرون في أنفسِهم بخلافِ ما يُظهِرونه، واللهُ سبحانه مطَّلِعٌ على كلِّ ما يُخفونه.
هؤلاءِ المنافقون الَّذين تخلَّفوا عن الجِهادِ مع المسلمين قالوا: لو أنَّ قرابتَنا الَّذين قُتِلوا في المعركةِ أَخَذوا بمشورتِنا بترْكِ الخروج للقتال لم يُقتَلوا، فأمَر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لهم: فادْفَعوا الموتَ عن أنفسِكم إنْ كنتُم صادقين في أنَّهم لو أطاعوكم ما كانوا قُتِلوا.
تفسير الآيات:
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَتْبَعَه بتفصيلِ هذه الجملة، وبيَّن جزاءَ المُطيعين ما هو، وجزاءَ المُسيئين ما هو
.
وأيضًا لَمَّا أخبَر اللهُ تعالى أنَّه لا يقعُ يومَ القيامة ظُلمٌ أصلًا، تسبَّبَ عنه الإنكارُ على مَن حدَّثَتْه نفسُه بالأمانيِّ الكاذبة، فظنَّ غيرَ ذلك من استواءِ حالِ المُحسِنِ وغيرِه، أو فعَل فعلًا وقال قولًا يؤدِّي إلى ذلك؛ كالمُنافِقين وكالمُقبِلين على الغنيمةِ ، فقال تعالى:
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
أي: هل مَن ترَك الغُلولَ وانتهى عن غيرِه مِن المعاصي، وعَمِل بطاعةِ الله تعالى، قاصدًا بذلك نَيْلَ رضا الله سبحانه، هل هو كالَّذي رجَع متحمِّلًا غضَبَ اللهِ عزَّ وجلَّ عليه بوقوعِه في العِصيانِ، أو بترْكِ طاعةِ الرَّحمن، فاستحقَّ بذلك الإقامةَ في جَهنَّمَ، وما أسوأَه مِن مصيرٍ يُرجَع إليه !
قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173-174] .
وقال سبحانه: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة: 80] .
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
أي: إنَّ للمتَّبعين رِضوانَ اللهِ تعالى مراتبَ متفاوتةً في العلوِّ، كما أنَّ لِمَن باؤوا بسَخَطِ اللهِ سبحانه دَركاتٍ متفاوتةً في السُّفولِ .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
أي: واللهُ تعالى مطَّلعٌ على كلِّ ما يعمَلُه عبادُه من طاعةٍ أو معصيةٍ، لا يَخفَى عليه شيءٌ من ذلك، وهو حافِظٌ لأعمالهم، وسيُجازي كلًّا منهم بحسَبِها .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا فصَّل اللهُ تعالى أحوالَ النَّاسِ بدأ بالمؤمنين بذِكْرِ ما امتَنَّ اللهُ تعالى عليهم به ، فقال:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد أنعَمَ على عِبادِهِ المؤمنين بأنْ أرسَلَ إليهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من جِنسِهم البشريِّ، فيَألَفونَه ويَفهمون خِطابَه، ويَتمكَّنون من مجالستِه والتَّحدُّثِ إليه .
قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء: 94-95] .
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
أي: يقرَأُ عليهم القُرآنَ، ويأمُرُهم بكُلِّ خيرٍ، ويَنهاهم عن كلِّ شرٍّ حتَّى تطهُرَ نفوسُهم من دَنَسِ الشِّركِ والمعاصي، ورذائلِ الأخلاقِ .
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
أي: ويُعلِّمهم معانيَ القرآنِ الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة .
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
أي: إنَّ المؤمنين كانوا قَبل بِعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم مُنغمِسينَ في جاهليَّةٍ جَهلاءَ، وحيرةٍ عَمياءَ، وانحرافٍ واضحٍ عن طريق الهُدى .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
أي: أحِينَ حلَّت بكم مُصيبةُ غزوةِ أُحُدٍ بقتلِ سبعينَ رجلًا منكم، مع أنَّكم نِلتُم قبلها في بَدْرٍ ضِعْفَيْ ما نالوا منكم عددًا، بقَتلِ سبعينَ، وأَسْرِ سَبعينَ آخَرين، أحينَها تقولون: مِن أين جرَى علينا هذا الأمرُ، وكيفَ حلَّتْ بنا هذه الكارثةُ ؟!
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمؤمنين: هذه المصيبةُ الَّتي وقعتْ عليكم في أُحُدٍ إنَّما كان سببُها هو أنتم أنفسُكم، وذلك حينَ تنازَع بعضُكم فيما بينهم، وعصَوْا أمرَ رسولِهم عليه الصَّلاة والسَّلام .
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قادرٌ على جميعِ الأشياء، ومِن ذلك: إيقاعُ العقوبةِ بكم أيُّها المؤمنون، كما حدَث في غزوةِ أُحُدٍ، ومِن ذلك أيضًا: قدرتُه على نصرِكم، فلا تظنُّوا بالله تعالى غيرَ الحقِّ، وإنَّما قدَّر ما قدَّر عليكم في أُحُدٍ مِن الهزيمةِ والإصابةِ بالقَتْل والجِراحِ لحِكمتِه سبحانه .
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كانتْ نسبةُ المصيبةِ إليهم في قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ربَّما أوهَمَتْ أنَّ بعضَ الأفعالِ خارجٌ عن مُرادِه تعالى - قال تعالى:
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ
أي: إنَّ الَّذي وقَع عليكم- أيُّها المؤمنون- من القَتْلِ والجِراحِ والهزيمةِ يومَ الْتَقيتُم أنتم والمشرِكون بأُحُدٍ، إنَّما وقَع بقَضاءِ الله تعالى وقدَرِه .
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ ما أصابَكم يومَ أُحُدٍ كان لأجلِ تَمييزِ المؤمنين الَّذين صبَروا وثبَتوا مِن غيرهم .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ
أي: إنَّ ما أصابكم يومَ أُحُدٍ- أيُّها المؤمنون- كان أيضًا لأجْلِ تمييزِ المُنافِقين المندَسِّين بين المسلِمين، الَّذين لَمَّا دُعوا للقِتالِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ يومَ أُحُدٍ، أو لأَجْلِ دفْعِ العدوِّ عن البلادِ والعبادِ، امتنَعوا عن المشاركةِ مُتعلِّلين بعُذرٍ قبيحٍ، وقائلين بكَذِبٍ صريح: لو نعلَمُ أنَّكم تُقاتِلون لَسِرْنا معكم، ولكن لا نَرَى أنَّه سيكونُ بينكم وبينَ المشركين قتالٌ .
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ
أي: إنَّ أولئك المنافِقين كانوا في تِلك الحالِ الَّتي امتنَعوا فيها عن مشاركةِ المسلِمين في قِتالِ المشركين، كانوا أقرَبَ إلى الكفرِ من الإيمانِ .
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
أي: مِن صِفاتِهم أنَّهم يقولون خلافَ ما يُضمِرون في أنفسِهم ، ومن ذلك قولُهم: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران: 167] ؛ فإنَّهم قد علِموا وقوعَ القتالِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
أي: واللهُ تعالى أعلمُ مِن غيرِه بما يكتُمُه هؤلاء المنافِقون، وهو مطَّلعٌ عليه ومُظهِرُه للمؤمنين، وسيُجازيهم به .
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
أي: إنَّ أولئك المنافقين الَّذين قعَدوا عن الجِهادِ مع المسلِمين، قالوا: لو سمِع مَن قُتِل مِن قَراباتِنا بأُحُدٍ مشورتَنا بتَركِ الخروج للقتال- لَمَا قُتلوا هنالك؛ اعتراضًا منهم على قضاءِ اللهِ تعالى وقدَرِه، وطعنًا منهم في طاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي أمَر بالخروجِ، فحصَل فيه من القتلِ ما حصَل .
قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للقائلين بتلك المقالةِ مِن المُنافِقين: امنَعوا وقوعَ الموتِ عليكم بالقعودِ عن القتالِ، إنْ كنتم صادقين في قولِكم بأنَّ المرءَ يَسلَمُ مِن القتلِ بالقُعود عنه
.
الفوائد التربوية:
1- لا يَستوي مَن كان قَصْدُه رِضوانَ ربِّه، والعملَ على ما يُرضيه، ومَن ليس كذلك، ممَّن هو مُكِبٌّ على المعاصي، مُسخِطٌ لربِّه؛ هذان لا يَستويانِ في حُكمِ اللهِ، وحِكمة الله، وفي فِطَرِ عبادِ الله: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ؛ ولهذا قال هنا: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
.
2- اللُّجوءُ إلى الله تعالى بطلبِ التَّثبيتِ منه على الإيمان؛ لأنَّه إذا كان هو المانَّ به، فهو الَّذي يملِكُ ثُبوتَه وزوالَه؛ فارجِعْ إليه، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
3- الخِذلانُ والانهزامُ إنَّما يَحصُلُ بشُؤمِ المعصية؛ كما في قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ .
4- مِن المستحسَنِ أن يُذَكَّر الإنسانُ بما يُهوِّنُ المصيبةَ عليه؛ لقوله: أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ .
5- أنَّه يَنبغي لِمَن أجابَ غيرَه أن يُجيبَه بما يمنَعُ احتجاجَه؛ لقوله: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي: أنتم السَّبب .
6- تَسليةُ المؤمنِ بقضاءِ الله وقدرِه؛ لقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ؛ لأنَّ المؤمِنَ إذا علِم أنَّه مِن عندِ الله رضِيَ وسلَّم .
7- أنَّ اللهَ تعالى قد يُقدِّرُ على عبدِه المؤمنِ ما يَكرَهُه لحِكَمٍ عظيمة؛ لقوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ .
8- أنَّه يَنبغي للإنسانِ أن يَحترسَ في الحُكمِ، وألَّا يُطلِقَه؛ لقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ، فربَّما يُغيِّرُ اللهُ تعالى حالَ قومٍ، فيكون الإيمانُ إليهم أقربَ، فيَنبغي التقييدُ عند الحُكْم على شخصٍ
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قول الله عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، لم يُعيِّنِ اللهُ تعالى السَّببَ ما هو؛ قيل لُطفًا بالمؤمنين في خطابِه تعالى لهم
.
2- أنَّ الإنسانَ تتغيَّرُ أحوالُه، فيكون في حالٍ أقرَبَ إلى الإيمانِ من الكفرِ، وفي حالٍ أخرى بالعكس؛ لقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ، واستدَلَّ بعضُ العُلماءِ بهذه الآيةِ على زِيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه .
3- التَّنديدُ بهؤلاء الَّذين جمَعوا بين قُبحِ الفعل وقُبحِ القول، يُؤخَذُ مِن قوله: قَالُوا، وَقَعَدُوا قُبْحُ الفِعلِ من كونهم قعَدوا، وقُبحُ القولِ مِن قولِهم: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا .
4- أنَّه لا يُمكِنُ درءُ الموتِ؛ لأنَّ ما وقَع التَّحدِّي به فإنَّه لا يمكِنُ وقوعُه؛ إذ لو أمكَن وقوعُه لم يكُنْ للتَّحدِّي به فائدة؛ قال تعالى: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ:
- قوله: أَفَمَنِ اتَّبَعَ: همزةُ الاستفهامِ للإنكارِ؛ فالاستفهامُ إنكاريٌّ معناه النَّفي، أي: ليسَ مَن اتَّبَع رِضا الله فامتثَل أوامرَه واجتنبَ مناهيَه، كمَن عصاه فباءَ بسَخَطِه
.
- وقوله: مِنَ اللَّهِ: فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ؛ لإدخال الرَّوْعةِ، وتربيةِ المهابةِ .
- وقوله: كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ: فيه تمثيلٌ لحالِ صاحبِ المعاصي بالَّذي خرَج يَطلُبُ ما يَنفَعُه فرجَع بما يضُرُّه، أو رجَع بالخَيبةِ .
2- قوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: اعتراضٌ تذييليٌّ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ للدَّلالةِ عليه، أي: وبئس المصيرُ جهنَّمُ .
3- قوله: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ: فيها تَشبيهٌ بليغٌ؛ حيث جعَلَهم الدَّرجاتِ نفسَها؛ للمبالَغةِ في إظهارِ التَّفاوُتِ لِمَا بينهم في الثَّوابِ والعقاب ، وتقدير الكلام: لهم درجاتٌ عند الله، إلَّا أنَّه حسُنَ هذا الحَذفُ؛ لأنَّ اختلافَ أعمالِهم قد صَيَّرهم بمنزلةِ الأشياءِ المختلفةِ في ذواتها .
4- قوله: بِمَا يَعْمَلُونَ: خُصَّ العملُ دون القولِ؛ لأنَّ العملَ يَشملُ عملَ القَلْبِ واللِّسانِ والجوارحِ، والتُّروكَ .
5- قوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: فيه تأكيدٌ باللام الَّتي هي جوابٌ لقسَمٍ محذوفٍ، و(قَدْ) الَّتي تُفيد التَّحقيقَ، والكلامُ مُستأنَفٌ مسُوقٌ لتأكيد نزاهةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيانِ خَطأِ الَّذين نَسَبوا إليه الغُلولَ .
6- قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:
- قوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ: استفهامٌ يُرادُ به الإنكارُ؛ لإفادة التَّقريرِ والتَّقريع .
- قوله: قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا: الاستفهامُ للتَّقريعِ والتقريرِ، وتذكيرُ اسمِ الإشارةِ (هذا) في أَنَّى هَذَا مع كونِه إشارةً إلى المصيبة، ليس لكونِها عِبارةً عن القتلِ ونحوِه، بل لأنَّ إشارتَهم ليستْ إلَّا إلى ما شاهَدوه في المعركةِ من حيثُ هو هو، مِن غيرِ أنْ يَخطُرَ ببالِهم تسميتُه باسمٍ ما، فَضلًا عن تسميتِه باسمِ المصيبةِ، وإنَّما هي عند الحِكايةِ .
- قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ: إجابةٌ فيها إنكارٌ وتقريعٌ، وتبكيتٌ لهم .
- قوله: إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: الجُملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها، داخلٌ تحت الأمرِ .
- وفيها: توكيدُ الخبرِ بـإنَّ واسميَّةِ الجملةِ، وتقديم ما حقُّه التَّأخيرُ عَلَى كُلِّ .
7- قوله: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا: فيه: تَكرار فِعل (يَعْلَم) ، وهو يُفيدُ التَّأكيدَ.
- ولفظة المُؤْمِنِينَ في قوله: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ فيها دَلالةٌ على كونهم مُستقرِّين على إيمانِهم، متثبِّتين فيه؛ فالاسمُ المُؤْمِنِينَ يدُلُّ على تأكيدِ المعنى، وأمَّا لفظ نَافَقُوا في قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا فيدُلُّ على كونِهم إنَّما شرَعوا في الأعمالِ اللَّائقةِ بالنِّفاقِ في ذلك الوقتِ .
8- قوله: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ: ذِكرُ الأفواهِ مع القلوبِ تصويرٌ لنِفاقهم، وأنَّ إيمانَهم موجودٌ في أفواهِهم، مَعدومٌ في قلوبِهم .
- وإضافةُ القولِ إلى الأفواهِ تأكيدٌ وتصويرٌ .
9- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ: عبَّر بصيغةِ التَّفضيلِ أَعْلَمُ؛ لأنَّ بعضَ ما يكتُمونه مِن أحكامِ النِّفاقِ وذمِّ المؤمنين وتَخطئةِ آرائِهم والشَّماتةِ بهم وغيرِ ذلك، يعلَمُه المؤمنون على وجْهِ الإجمالِ .
10- قوله: قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: أمرٌ غرَضُه الاستهزاءُ بهم، أي: إنْ كنتُم رِجالًا دفَّاعين لأسبابِ الموت، فادرَؤوا جميعَ أسبابِه حتَّى لا تموتوا .
- وفيه مِن البيانِ: ما يُعرَفُ بـ(الاحتِجاج النَّظَريّ) .
=============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (169-171)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
غريبُ الكَلِمات:
يَسْتَبْشِرُونَ: يفرَحون، أو يَنالون البُشرى، والاستبشارُ: السُّرورُ بالبِشارة، وأصلُ الاستبشارِ: ظُهورُ الشَّيءِ مع حُسْنٍ وجمالٍ
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يَنهى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الظَّنِّ بأنَّ مَن قُتِل مِن أصحابِه يوم أُحُدٍ، وهم كُثُرٌ، أنَّهم ميِّتون لا يَشعُرون، بل هم أحياءٌ حياةً خاصَّةً عند الله عزَّ وجلَّ، قَريبون منه، يَتنعَّمون في دارِ كرامتِه مِن رِزقِه الواسعِ، مَسرورين بما أعطاهم اللهُ تعالى ممَّا تفضَّلَ به عليهم من النَّعيمِ العظيمِ، فَرِحين بإخوانِهم الَّذين ما زالوا أحياءً يُقاتِلون في سبيل الله بأنَّهم إذا استُشهِدوا سيَلحَقون بهم دون أن يُصيبَهم خوفٌ ولا حُزْنٌ، فَرِحين أيضًا بما أكرَمهم اللهُ تعالى به من النَّعيمِ، والفضلِ العَميمِ، واللهُ لا يُضِيعُ أجرَ المؤمنين.
تفسير الآيات:
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169).
سببُ النُّزول:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لَمَّا أُصيبَ إخوانُكم بِأُحُدٍ، جَعَل اللهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضرٍ، ترِدُ أنهارَ الجنَّة، وتأكُلُ مِن ثمارِها، وتَأوي إلى قَناديلَ مِن ذهبٍ معلَّقٍة في ظلِّ العرشِ، فلمَّا وجَدوا طِيبَ مأكلِهم ومَشرَبِهم وَمَقيلِهم
، قالوا: مَن يُبلِّغُ إخوانَنا عنَّا أنَّا في الجنَّةِ نُرزَقُ؛ لئلَّا يَزهَدوا في الجِهَاد، ولا يَنكُلوا في الحربِ؟ فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا أُبلِّغُهم عنكم، فأَنزَلَ اللهُ تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) .
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: قُتِلُوَا قِراءتان:
1- قُتِّلُوا -بالتَّشديد- وتعني التَّكثيرَ، أي: قُتِل كثيرٌ منهم .
2- قُتِلُوا-بالتَّخفيف- وتحتملُ التَّقليلَ والتَّكثيرَ، أي: تَعني قُتِل قليلٌ منهم، أو قُتِل كثيرون .
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
أي: لا تظُنَّنَّ- يا محمَّدُ- أنَّ الشُّهداءَ الَّذين قُتِلوا في جِهادِ أعداء الدِّين- كأصحابِك الَّذين قُتِلوا في أُحُدٍ- أمواتًا لا يَشعرون بشيءٍ، ولا يتمتَّعون ويتنعَّمون .
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
أي: هُمْ على خِلافِ ذلك؛ فهم أحياءٌ حياةً خاصَّةً عند الله عزَّ وجلَّ في دارِ كرامتِه، وبالقُربِ منه سبحانه، مُتنعِّمين في رِزقِ الله تعالى الواسِعِ .
عن مَسروقِ بنِ الأجدَعِ قال: ((سَأَلْنا عبدَ اللهِ (هو ابنُ مسعودٍ) عن هذه الآيةِ: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قال: أمَا إنَّا سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جَوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ من الجنَّةِ حيث شاءَتْ، ثمَّ تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَع إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتَهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشتهي ونحن نَسرَحُ من الجنَّةِ حيثُ شِئْنا؟ ففعَل ذلك بهم ثلاثَ مراتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يُسأَلوا، قالوا: يا ربِّ، نُريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا حتَّى نُقتَلَ في سَبيلِك مرةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكوا )) .
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
أي: إنَّ هؤلاءِ الشُّهداءَ الَّذين قُتِلوا في سَبيلِ الله تعالى، وهم أحياءٌ عنده، مَسرورون بما منَحهم اللهُ تعالى إيَّاه، مِن النَّعيمِ المبهِجِ، والمُتعةِ العظيمةِ، جُودًا وكرَمًا منه سبحانه .
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
أي: إنَّ هؤلاء الشُّهداءَ مَسرورون أيضًا بإخوانِهم الَّذين ما زالوا أحياءً في عالَم الدُّنيا يُجاهِدون في سبيلِ الله تعالى؛ فإنَّهم إذا استُشهِدوا لحِقوا بهم، دون أن يُصيبَهم خوفٌ من أيِّ أمرٍ مستقبلٍ، أو حُزنٍ على أيِّ أمرٍ قد مضى، بل هم آمِنون دائمًا، وفَرِحونَ أبدًا .
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
أي: إنَّ الشُّهداءَ يَفرَحون بما حَبَاهم اللهُ تعالى مِن النَّعيمِ العَظيم، وبما أَسبَغَ عليهم مِن جزيلِ ثوابِه الكريمِ، وزِيادةِ إحسانِه العميمِ .
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَأَنَّ قِراءتان:
1- إنَّ بكسرِ الهمزةِ، فتكون الجملةُ مُستأنَفةً .
2- أنَّ بفتحِ الهمزة على أنَّ جملة: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ معطوفةٌ على جملةِ: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وهذا يَعني أنَّ الشُّهداءَ يستبشرون أيضًا بأنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجرَ المؤمنينَ .
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد حَفِظ لأولئك الشُّهداءِ ما قدَّموه مِن الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ، وأعطاهم على ذلك أُجورَهم مِن فَضلِه سبحانه، وهكذا كلُّ مؤمنٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يترُكُه، بل يُثيبُه على ما قدَّم
.
الفوائد التربوية:
1- دُخولُ الجنَّةِ فَضلٌ مِن الله تعالى على أهلِها، لا بَعملِ أحدٍ، نستفيدُ ذلك من قوله تعالى: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، ولو شاءَ تعالى لَحاسَبَهم على سبيل العَدلِ، ولو فعَلَ ذلك لم يكُنْ لهم شيءٌ؛ لأنَّ أعمالَهم مِن نِعَمِه تعالى عليهم
.
2- في قوله تعالى: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، الحثُّ على فرَحِ الإنسانِ بصَلاحِ أحوالِ إخوانِه في اللهِ
.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قوله تعالى وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... الآيات، إثباتُ نعيمِ البرزخ
.
2- أنَّه يصحُّ نفيُ الشَّيءِ باعتبارٍ، لا نفيًا مطلقًا؛ لقوله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا؛ فإنَّ نفيَ كونِهم أمواتًا هنا يُرادُ به الموتُ الَّذي حصَل فيه العدَمُ بلا فائدةٍ، وبدون ثوابٍ .
3- أنَّ هؤلاءِ الشُّهداءَ لهم شعورٌ؛ لقوله: فَرِحِينَ؛ لأنَّ الفرَحَ مِن الشُّعورِ النَّفسيِّ .
4- إسنادُ النِّعمةِ إلى مُسْدِيها، وهو اللهُ جلَّ جلالُه؛ فهم لا يرَوْن لأنفسِهم فضلًا، بل يرَوْن المِنَّةَ والفضلَ لله عليهم؛ ولهذا قال: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ .
5- عِظَمُ النِّعمةِ الَّتي يُعطَوْنَها، ووجهُه أنَّ اللهَ أضافها إليه، وإضافةُ العطاءِ إلى اللهِ يدُلُّ على عظَمتِه. قال تعالى: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ .
6- إثباتُ عدلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك بعدمِ إضاعتِه أجرَ المؤمنين، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
.
بلاغة الآيات:
1- قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
- خُولِف الإعرابُ بين المتعاطفَينِ في الظاهرِ؛ حيث أَمْوَاتًا ورفَع أَحْيَاءٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الموتَ أمرٌ طارئٌ يعقُبُه الهمودُ والاندثارُ، وعدمُ تجدُّدِ الذِّكرِ، أمَّا الرَّفعُ وجعْلُه جملةً اسميَّةً، فإنَّه أبلغُ في الدَّلالةِ على الدَّيمومةِ وطُروء الذِّكر وتجدُّدِه كلَّ يوم
.
- قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ: في التَّعرُّضِ لعنوان الرُّبوبيَّةِ المنبِئةِ عن التَّربيةِ والتَّبليغِ إلى الكمال مع الإضافةِ إلى ضميرِهم: مزيدُ تَكرمةٍ لهم .
- قول الله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ قَدَّم صِفةَ الظَّرفِ رَبِّهِمْ على صِفةِ الجملة يُرْزَقُونَ؛ لأنَّ المعنى في الوصف بالزُّلفى عند اللهِ والقُربِ منه أشرفُ من الوصفِ بالرِّزقِ .
- قوله: يُرْزَقُونَ: فيه تأكيدٌ لكونِهم أحياءً، ووصفٌ لحالهم الَّتي هم عليها من التَّنعُّمِ برزقِ الله .
2- قول الله تعالى: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ...: التعبيرُ بصِيغةِ المضارعِ؛ لإفادةِ التجدُّد للدَّلالة على تَجدُّد الاستبشارِ حينًا بعد حِينٍ .
3- قوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ: كُرِّر الفِعلُ يَسْتَبْشِرُونَ؛ للتَّأكيدِ، ولبيانِ أنَّ الاستبشارَ المذكورَ ليس بمجرَّدِ عدمِ الخوفِ والحزنِ، بل به وبما يُقارِنُه من نعمةٍ عظيمةٍ لا يُقادَرُ قَدْرُها وهي ثوابُ أعمالِهم .
وقيل: ليس هناك تَكرارٌ؛ لأنَّ الاستبشارَ هو الفرحُ التَّامُّ، فلعلَّ المرادَ حُصولُ الفرَحِ بما حصَل في الحالِ، وحُصولُ الاستبشار بما عرَفوا أنَّ النِّعمةَ العظيمةَ تحصُلُ لهم في الآخرةِ .
- قول الله تعالى: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ بالتَّنكيرِ دَلالةً على بعضٍ غيرِ مُعيَّنٍ، وإشارةً إلى إبهام المرادِ؛ تعظيمًا لأمرِه، وتنبيهًا على صعوبةِ إدراكِه، كما جاء: ((فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَرٍ )) .
4- قوله: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ: فيه تأكيدٌ ، والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الخوفِ والحَزَنِ، لا بيان انتفاءِ دوامِهما، كما يُوهِمه كونُ الخَبرِ في الجملةِ الثَّانيةِ مُضارعًا؛ فإنَّ النَّفيَ وإن دخَل على نفس المضارعِ يُفيدُ الدَّوامَ والاستمرارَ بحسَب المقامِ .
=====
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (172-176)
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِرُ تعالى أنَّ الَّذين امتَثلوا أمْرَ الله وأمرَ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعد غزوةِ أُحُدٍ مباشرةً بأنْ بادَروا بالاستعدادِ للقِتال مرةً أخرى، على ما بهم مِن آلامٍ جسديَّةٍ نتيجةَ الجِراح، وآلامٍ نَفسيَّةٍ بسببِ ما وقَع فيهم من قتْلٍ وهزيمة، للذين أحسنوا مِن هؤلاء عند الله أجرٌ عظيم. هؤلاء لم يَثْنِهم تَخويفُ بعضِ النَّاس لهم بأنَّ كفَّارَ قُرَيشٍ استعدُّوا للكَرَّة عليهم، وأنَّهم لا يَستطيعون مواجهتَهم، فما زادهم ذلك التخويفُ إلَّا إيمانًا ويقينًا، وقالوا: حسبُنا اللهُ ونِعمُ الوكيلُ، فرجَعوا من مَنطقةِ (حَمْراء الأسد)، وكانوا خرَجوا إليها لمدافَعةِ المشركين، رجَعوا بنعمةٍ مِن الله وفضلٍ، لم ينَلْهم أيُّ أذًى مِن أعدائِهم، واتَّبَعوا ما يُرضِي اللهَ تعالى باستجابتِهم لله ولرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللهُ ذو الفَضلِ العظيمِ.
ثمَّ يُخبِرُهم تعالى أنَّ ذلك المخوِّفَ لكم هو الشَّيطانُ، يُريد أنْ يزرَعَ في قلوبكم الخوفَ من أوليائِه، الَّذين هم المشركونَ، ثمَّ نهاهم سبحانه عن الخَوفِ من المشركين، وأمَرهم بالخوفِ مِن اللهِ وحْده إنْ كانوا مُؤمِنينَ.
ثمَّ يَنهَى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُصيبَه الحزنُ بسبب الَّذين يُبادرون سريعًا في الكُفرِ لشدَّةِ رَغبتِهم فيه؛ فهؤلاءِ بكُفرِهم لن يضُرُّوا اللهَ شيئًا، وإنَّما يُريدُ اللهُ بمسارعتِهم في الكُفرِ ألَّا يجعَلَ لهم أيَّ حظٍّ من نعيمِ الآخِرة، ولهم العذابُ العظيم.
تفسير الآيات:
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذمَّ المنافقين برُجوعِهم من غيرِ أنْ يُصيبَهم قرحٌ، ومدَحَ أحوالَ الشُّهداءِ ترغيبًا في الشَّهادة، وأحوالَ مَن كان على مِثل حالِهم ترغيبًا في النَّسج على منوالهم، وختَم بتعليق السَّعادةِ بوصف الإيمان، أخَذ يَذكُرُ ما أثمَر لهم إيمانُهم من المبادَرةِ إلى الإجابةِ إلى ما يَهديهم إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إشارةً إلى أنَّه لم يَحمِلْ على التَّخلُّفِ عن أمْرِه مِن غيرِ عُذرٍ إلَّا صريحُ النِّفاقِ
.
سببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((لَمَّا انصَرَفَ المشرِكون عن أُحُدٍ وبلَغوا الرَّوحاءَ ، قالوا: لا محمَّدًا قتلتموه، ولا الكواعبَ أردَفْتُم، وبِئسَ ما صنعتُم، ارجِعوا، فبلَغ ذلك رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فندَب النَّاسَ فانتدبوا حتَّى بلَغوا حمراءَ الأسدِ وبئرَ أبي عِنَبَةَ، فأنزَل اللهُ تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: 172...)) .]
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
أي: الَّذين أَجابوا أمْرَ اللهِ تعالى ورَسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام بالنُّهوضِ مجدَّدًا لردِّ هجومِ مُتوقَّعٍ من المشركين عقبَ غزوةِ أُحُدٍ مباشرةً، على الرَّغم ممَّا ألمَّ بهم من جِراحٍ وآلامٍ جَسديَّةٍ، وأُخرى نَفسيَّةٍ بسببِ القتْلِ والهزيمةِ الَّتي لحِقَتْهم في أُحُدٍ .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها أنَّها قالتْ لِعُروَةَ عن قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ: ((يا ابنَ أُختي، كانَ أبَواكَ منهُم: الزُّبَيْرُ وأبو بكرٍ، لَمَّا أصاب رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما أصابَ يومَ أُحُدٍ، وانصَرَفَ عنه المشرِكونَ، خافَ أن يَرْجِعوا، قال: (مَن يَذهَبُ في إثْرِهِم )، فانتدَبَ مِنهُم سَبْعونَ رَجلًا، قال: كان فيهم أبو بكرٍ والزُّبَيرُ )) .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي: إنَّ الَّذين أَحسَنوا منهم في أعمالِهم وامتثَلوا ما أمَر اللهُ تعالى به، واجتنَبوا ما نهى عنه، لهم ثوابٌ جَزيلٌ، وأجرٌ واسع من اللهِ تبارَك وتعالَى .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
أي: خوَّفهم وحَذَّرهم بعضُ النَّاسِ من أنَّ كفَّارَ قُرَيشٍ قد أعدُّوا العُدَّةَ للكَرَّةِ عليهم، وأنَّه لا قِبَلَ لهم الآن بقتالِهم .
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
أي: لم يَجبُنوا ولم يَتزَعْزَعوا، بل منَحهم ذلك التَّخويفُ زيادةً في الطُّمأنينةِ، وقوَّةً في الإيمانِ واليقين، مُعلِنين بأنَّهم وكَلوا أمرَهم إلى اللهِ تعالى وحْدَه ليكفيَهم شرَّ أعدائِهم؛ فهو سبحانه نِعْمَ مَن يُوثَق به في تفويضِ الأمورِ .
عن ابنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، قالها إبراهيمُ عليه السَّلام حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وقالها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ قالوا: إنَّ النَّاسَ قد جمَعوا لكم فاخشَوْهم، فزادَهم إيمانًا، وقالوا: حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ )) .
وعن ابنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما أيضًا قال: ((كان آخرَ قولِ إبراهيمَ حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حسْبي اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ )) .
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((كيف أنعَمُ وقد الْتقمَ صاحبُ القرنِ القرنَ، وحنَى جبهتَه، وأصْغَى سمعَه، ينتظرُ أن يُؤمرَ أن ينفُخَ فينفُخَ، قال المسلمون: فكيف نقولُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: قولوا: حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ ربِّنا، وربَّما قال سفيانُ: على اللهِ توكَّلْنا )) .
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّهم توكَّلوا عليه كفاهم سُبحانه ما أهَمَّهم، وردَّ عنهم بأسَ مَن أرادَ كيدَهم .
سببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((... وقد كانَ أبو سُفيانَ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَوعدُك مَوسِمُ بَدْرٍ حيث قتلتُم أصحابَنا، فأمَّا الجبانُ فرجَع، وأمَّا الشُّجاعُ فأخَذ أُهْبةَ القِتالِ والتِّجارةِ فلم يَجِدوا به أحدًا، وتسوَّقوا ، فأنزَل اللهُ تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران: 174])) .
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
أي: انصرَفَ الصَّحابةُ الَّذين استجابوا للهِ تعالى ورسولِه تأهُّبًا لردعِ المشركين، انصرَفوا مِن مَنطقةِ حمراءِ الأسدِ دون أن يَلقَوْا بها عَدوًّا، راجعين بأَجْرِ الجهادِ في سبيله، وبالأرباحِ الَّتي نالوها من الاتِّجارِ هناك .
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
أي: لم ينَلْهم أيُّ أذًى أو مَكروهٍ مِن عدوِّهم .
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
أي: رجَعوا أيضًا برِضَا اللهِ تعالى عنهم؛ فقدْ أرْضَوُا اللهَ تعالى باستجابتِهم لِمَا أمَرهم به، وانقيادِهم لرسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام لردعِ الأعداء .
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
أي: إنَّ اللهَ تعالى صاحبُ الفضلِ الكبيرِ والإحسانِ العميمِ على عِبادِه، في الدُّنيا والآخِرَة، ومِن ذلك تَفضُّلُه على هؤلاءِ الصَّحابةِ الكرامِ بالعودةِ مِن غَزوِهم هذا سالِمين مِن العدوِّ، راجِعين برِضا اللهِ تعالى عنهم، وبما نالوه من الأُجورِ الأُخرويَّة، والمكاسِبِ الدُّنيويَّة .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا جزَى اللهُ تعالى الَّذين استجابوا بالسَّلامةِ والغَنيمة، ورغَّبهم فيما لديه لتولِّيهم إيَّاه، أَتْبَعَ ذلك بما يَزيدُهم بصيرةً من أنَّ المخوِّفَ لهم مَن كَيدُه ضعيفٌ، وأمْرُه هيِّنٌ خفيفٌ واهٍ سَخيفٌ، وهو الشَّيطان، وساق ذلك مَساقَ التَّعليل لِمَا قبْلَه، مِن حيازتِهم للفضلِ، وبُعدِهم عن السُّوءِ بأنَّ وليَّهم اللهُ، وعدوَّهم الشَّيطانُ، فقال التفاتًا إليهم بزيادةٍ في تنشيطِهم أو تشجيعِهم وتثبيتِهم :
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
أي: إنَّما المخوِّفُ لكم في الحقيقةِ هو الشَّيطانُ، وقد أرادَ أنْ يُوقِعَ في قلوبِكم الخوفَ مِن أَنصارِه حِزبِ المشركين لترهَبوهم .
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: فلا تَخافوا مِن المشركين أولياءِ الشَّيطان، وخافوا مِن اللهِ تعالى وحْدَه إنْ كُنتم مؤمنين حقًّا؛ فهو الَّذي يَنصُر أولياءَه، ويملأ قلوبَهم أمنًا، ويَكفيهم شرَّ أعدائِهم .
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا مدَح اللهُ تعالى سبحانه وتعالى المسارِعين في طاعتِه وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وختَم ذلك بالنَّهيِ عن الخوفِ من أولياءِ الشَّيطانِ، أعْقَبه بذَمِّ المسارِعين في الكُفرِ، والنَّهيِ عن الحُزنِ مِن أجلِهم ، فقال:
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
أي: لا يُصيبك الحزنُ- يا محمَّدُ- مِن هؤلاءِ الَّذين يُبادِرون بأقوالِهم وأَفعالِهم مُتعجِّلين الوقوعَ في الكفرِ، أو التَّوغُّلَ فيه .
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
أي: إنَّ هؤلاءِ لن يُلحِقوا باللهِ بمسارعتِهم في الكفرِ، أيَّ نوعٍ من أنواعِ الأذى، صغيرًا كان أو كبيرًا .
يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ
أي: يُريدُ اللهُ تعالى بمسارعتِهم في الكُفرِ أنْ يَخذُلَهم، فلا يكونَ لهم أيُّ نصيبٍ مِن نعيم الآخرةِ، قليلًا كان أو كثيرًا .
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
أي: إنَّهم مع حِرمانِهم من نعيمِ الآخرة، لهم عقوبةٌ كبيرةٌ عند الله تعالى
.
الفوائد التربوية:
1- لا تتمُّ استجابةُ العبد لله إلَّا باستجابته للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بتلقِّي الرِّسالة منه، والنَّصيحة له؛ نَستفيدُ ذلك من قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
.
2- المصائِبُ محكٌّ لمعرفةِ الرِّجال، فلولا فَضلُ الصَّحابة ومَيزتُهم عن الخَلْق ما خرَجوا بعد أنْ أصابَهم القَرحُ؛ قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ .
3- على المؤمنِ كلَّما ألَمَّت به المصائبُ أن يلجأَ إلى ربِّه، ويَزدادَ إيمانًا به؛ لقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فالَّذي يكفي المؤمنين شرَّ النَّاس هو اللهُ تعالى؛ فالواجبُ على المؤمنين المبالَغةُ في التَّوكُّلِ عليه، وربطُ أمورِهم به تعالى .
4- الإيمانُ يَزيدُ بالطَّاعاتِ، وينقُصُ بالمعصيةِ؛ كما في قوله تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- أنَّ الحسْبَ هو اللهُ وحده، ولا أحَدَ معه؛ لقوله تعالى: حَسْبُنَا اللَّهُ، ولم يقولوا: حسبُنا اللهُ ورسولُه، بل قالوا: حسبُنا اللهُ وحده؛ فالله وحده هو الحسْبُ، كما أنَّه وحده المتوكَّلُ عليه
.
2- إثباتُ اسم الْوَكِيلُ للهِ تعالى؛ لأنَّ تقديرَ الآية: ونِعْمَ الوكيلُ هو، وقد ذكَر اللهُ تعالى في آيةٍ أخرى أنَّه على كلِّ شيء وكيلٌ؛ فـ: (الوكيلُ) مِن أسماء الله تعالى، ومعناه المتكفِّلُ بشؤونِ عباده، وليس معناه القائمَ بالأمرِ نيابةً عنهم .
3- إثباتُ الرِّضا لله؛ لقوله: رِضْوَانَ اللَّهِ، والرِّضا: صفةٌ من صفاتِ الله الفِعليَّةِ .
4- في قولِه تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أنَّ الإنسانَ إذا عَمِل العملَ وسعَى فيه ولم يُكمِلْه، كُتِب له أجرٌ كاملٌ .
5- مفهومُ قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أنَّ الكافرَ قد يكونُ له حظٌّ في الدُّنيا، وكُفرُه لا يمنَعُه مِن الحظِّ في الدُّنيا
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ: (مِن) في قوله: مِنْهُمْ للبَيانِ وليست للتَّبعيض، والمقصودُ مِن ذِكرِ الوصفينِ المدحُ والتَّعليل لا التقييد؛ لأنَّ المستجيبينَ كلَّهم مُحسِنون مُتَّقون
، وعبَّر بـ(مِن) الَّتي تصلُحُ للبيانِ والبعضِ؛ ليدومَ رغَبُهم ورهَبُهم .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ:
- جِيء في قولِه تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ بإعادةِ الموصولِ (الَّذين) دون أن تُعطَفَ الصِّلةُ على الصِّلةِ الأولى في قولِه تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؛ اهتمامًا بشأنِ الصِّلة الثَّانية حتَّى لا تكونَ كجُزءِ صِلةٍ .
- وفي قولِه: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ التعبيرُ بلفظِ العمومِ معَ إرادةِ الخُصوصِ حيثُ عبَّر بـالنَّاس والمرادُ بعضُ الناسِ وليس كلَّهم، وهذا أسلوبٌ لُغَويٌّ لا يخرُجُ عن قواعدِ اللُّغة العربيَّة، والمرادُ بعضٌ من النَّاس .
3- قوله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ: فيه لفٌّ ونَشرٌ مرتَّبٌ، مع طَيِّ ذِكرِ الملفوفِ والمنشورِ، وهما (السَّلامة بالأجسامِ) الَّتي تعودُ إلى قوله: بِنِعْمَةٍ، و(الرِّبح بالتِّجارة) الَّذي يعودُ إلى قولِه: وَفَضْلٍ .
- في قوله: فَانْقَلَبُوا إيجازٌ؛ فإنَّه يدُلُّ على أنَّهم خرَجوا للقاءِ العدوِّ، وأنَّهم لم يلقَوْا كيدًا، فلم يلبثوا أنِ انقلَبوا إلى أهليهم، ومِثلُ هذا الحذفِ الَّذي يدُلُّ عليه المذكورُ بمجرَّدِ ذِكرِه كثيرٌ في القرآنِ .
- قوله: مِنَ اللَّهِ: وقَع صفةً لـنِعْمَةٍ؛ تأكيدًا لفخامتِها الذَّاتيَّةِ الَّتي يُفيدها التَّنكيرُ بالفَخامةِ الإضافيَّةِ، أي: نِعمة كائِنة مِن الله تعالى .
4- قوله: وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ خبرٌ فيه تحسيرٌ للمتخلِّفِ وتخطئةُ رأيِه حيثُ حَرَمَ نفْسَه ما فازوا به .
- وكرَّر الاسمَ العظيمَ (الله)؛ لبيانِ عِظَمِ الأمرِ .
5- قوله: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ: فيه تضمينُ الفِعل يُسَارِعُونَ معنى الفِعل (يَقعون)؛ حيث عُدِّي بـ(في)؛ إشارةً إلى استقرارِهم في الكفرِ، ودوامِ ملابَستهم له في مبدأِ المسارَعةِ ومُنتهاها، وأنَّهم يَعجَلون إلى إظهارِه وتأييدِه، والعملِ به عند سُنوحِ الفُرص، ويَحرِصون على إلقائِه في نفوسِ النَّاس، فعبَّر عن هذا المعنى بقوله: يُسَارِعُونَ، ولو عُدِّي بـ(إلى) لفُهِم منه أنَّهم لم يَكفُروا عند المسارَعة ، وأمَّا إيثارُ كلمة (إلى) في قولِه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] ؛ فلأنَّ المغفرةَ والجنَّةَ مُنتهَى المسارعةِ .
6- قوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّه شيئًا: تعليلٌ للنَّهي، وتكميلٌ للتَّسلية، بتحقيق نفْيِ ضررِهم أبدًا، أي: لن يضُرُّوا بذلك أولياءَ اللهِ ألبتَّةَ، وتعليقُ نفيِ الضَّررِ به تعالى؛ لتشريفِهم، والإيذانِ بأنَّ مضارَّتَهم بمنزلةِ مضارَّتِه سبحانه، وفيه مزيدُ مبالَغةٍ في التَّسليةِ .
- وفيه: تعريضٌ ظاهرٌ باقتصارِ الضَّررِ عليهم، كأنَّه قيل: وإنَّما يضُرُّون أنفسَهم .
- وتَنكيرُ قوله: شيئًا مع تنوينِه- الَّذي يَزيد النَّكرةَ شياعًا وتنكيرًا، وقلَّةً وحقارةً-؛ لتأكيدِ ما هم عليه من القلَّةِ والحقارةِ، وضآلةِ الشَّأنِ .
- وموقع (إنَّ) في مِثل هذا المقامِ لإفادةِ التَّعليلِ؛ فإنها تُغني غَناءَ فاء التَّسبُّب .
7- قوله: يريدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ: استئنافٌ مبيِّن لسرِّ ابتلائِهم بما هم فيه مِن الانهماكِ في الكفرِ .
- وعبَّر بصِيغة الاستقبالِ يُرِيدُ؛ للدَّلالةِ على دَوامِ الإرادةِ واستمرارِها .
=============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (177-180)
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ
غريب الكلمات:
نُمْلِي: أَيْ: نُطيلُ لهم المدَّة، وأَمْلَى مأخوذٌ مِن أملَلَ، وأصل الإملاء: الزَّمنُ الطويل، وامتدادٌ في شيءٍ؛ زمانٍ أو غيرِه
.
يَجْتَبِي: يختارُ، وأصلُ الاجتباءِ: جمْعُ الشَّيءِ والتجمُّع؛ يُقال: جبيتُ الماءَ في الحوضِ: جمعتُه .
سَيُطَوَّقُونَ: أَيْ: يَلزمُ أعناقَهم إثمُه، أو يُستلزمون وبالَ ما بَخِلوا، وأصلُ الطوق: ما يُجعل في العُنقِ، وكلُّ ما استدارَ بشيءٍ فهو طوقٌ
.
مشكل الإعراب:
1- قوله: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ:
وَلَا يَحْسَبَنَّ: (يَحسَب) فِعلٌ مضارعٌ يتعدَّى لمفعولَينِ، مبنيٌّ على الفتْح لاتِّصالِه بنونِ التوكيدِ الثَّقيلةِ، وهو في مَحلِّ جزمٍ بـ(لا) الناهية. وقدْ قُرِئ بياءِ الغَيبة، وبتاءِ الخِطاب؛ فعَلَى قِراءة الياء يكون الَّذِينَ: في محلِّ رفْعِ فاعِل (يحسبن). وأَنَّمَا نُمْلِي: (ما) في أَنَّمَا موصولةً بمعنى الذي، وهي في محلِّ نصب، اسم (أنَّ)، ويجوز أنْ تكون (ما) مصدريَّة، والمصدرُ المؤوَّل (ما نملي)- أي: (إملاءنا)- هو اسم أنَّ. و(أنَّ) ومَا اتصلتْ به في محلِّ نصب، سادٌّ مَسدَّ مَفعولَيْ (يحسب)، أو سادٌّ مسدَّ أحدهما، والمفعول الآخَر محذوف، تقديرُه: نافعًا. وعلى قِراءة (وَلَا تَحَسَبَنَّ) بالتاء؛ فالفاعلُ ضميرٌ مستترٌ وجوبًا تقديرُه (أنت)، عائدٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والَّذِينَ: مفعولٌ أوَّل لـ(تحسبن)، وأَنَّمَا نُمْلِي: في مَحلِّ نصْبِ مفعولٍ ثانٍ، على تَقديرِ حذْفِ مضافٍ، أي: (ولا تحسبن شأنَ الذين كَفروا...)، وفي الآية توجيهاتٌ أخرى
.
2- قوله: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ:
وَلَا يَحْسَبَنَّ: قُرِئ بياءِ الغَيبة، وبتاءِ الخِطاب؛ فعَلى قِراءة الياء يكون الَّذِينَ: في مَحلِّ رفْعِ فاعِل (يحسبن)، ويَبْخَلُونَ صِلة له. ويكون خَيْرًا: مفعولًا ثانيًا، والمفعول الأوَّل محذوفًا تقديرُه: البُخلَ؛ لدلالةِ ما قبله عليه يَبْخَلُونَ، والتقدير: ولا يَحسبنَّ الذين يَبخلون بما آتاهم اللهُ مِن فَضلِه البُخْلَ خيرًا لهم. وقوله: هُوَ ضميرُ فصلٍ، لا محلَّ له مِن الإعراب. وأمَّا على قِراءة (تَحسبَنَّ) بالتاء؛ فالفاعلُ هو المخاطَب، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والَّذِينَ: مفعولٌ أوَّلُ على تَقديرِ حذْفِ مضافٍ، وإقامةِ الَّذين مقامَه؛ ليصدقَ الخبرُ على المبتدأ، وخَيْرًا: مَفعولٌ ثانٍ، والتقدير: ولا تَحسبنَّ- يا محمَّدُ- بُخْلَ الذين يَبخلون خَيْرًا لهم. وفي الآيةِ تخريجاتٌ أخرى
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِر تعالى عن الَّذين استبْدَلوا الكُفرَ بالإيمانِ أنَّهم لن يَضرُّوا بذلك اللهَ شيئًا، ولهم عذابٌ أليمٌ.
ثمَّ يَنهى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويَنهى الكفَّارَ عن الظَّنِّ أَنَّ عدمِ مُعاجَلة الله لأهل الكفرِ بالعقوبةِ وترْكهم يتمتَّعون في الدُّنيا-هو كرامة لهُم وخيْر، بلْ إِنَّ ذلك مِنْ أجْلِ أَنْ يَتحمَّلوا مَزيدًا من الإثمِ ولهُم عذابٌ مُهين.
ثمَّ يُخاطِب اللهُ المسلمين مُخبِرًا إيَّاهم أنَّه ليس من حِكمتِه أن يُبقِيَهم على الحالِ التي هم عليها مِن اختلاطِ المؤمنين بالمنافقين دون أنْ يَتمايزَا، بلْ لا بدَّ من الابتلاءات التي تُمحِّص وتُميِّز كُلًّا منهما عن الآخر.
كما أنَّه ليس من حِكمتِه أَنْ يُطلِعَ أحدًا منهم على ضَمائرِ قلوبِ العِباد؛ كيْ يُظهِرَ له المؤمنَ من المنافقِ، وإنَّما يُهيِّئُ اللهُ تعالى مِن المِحَن والابتلاءات ما مِن خِلالِه يتمايَز العِباد، ولكِنَّ اللهَ يختارُ بعضًا مِن رُسُله عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ لِيُطلعَهم على بعض الغَيْبيَّات بحِكمتِه وإذْنه، ثمَّ أمرَهم أن يُحقِّقوا الإيمانَ بِه تعالى وبجميع رُسُله، ووعدَهم بأنَّهم إِنْ قاموا بذلك واتَّقَوْا فلهُم أجْرٌ عظيم.
ثُمَّ يُخاطِب اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَنْ لا يظنَّ أَنَّ الذين يَبخلون بأموالهم التي رزَقَهم اللهُ تعالى إيَّاها؛ فضْلًا مِنه- أَنَّ بُخلَهم خَيْرٌ لهم من العَطاء، كما أَنَّ الخِطابَ مُوجَّهٌ أيْضًا لهؤلاء الذين يَبخلون بالأموال: أَنْ لا يَظنُّوا أَنَّ بُخْلَهم خيْرٌ لهم من العطاء، بل هو شَرٌّ لهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى توعَّدَ الباخِلين: أَنَّه سَيجعل المال الذي بخِلوا بإخراجِ حقِّ الله تعالى فيه طَوْقًا يُحيطُ بأعناقِهم ويُعذَّبون به يومَ القيامة، وللهِ تعالى ميراثُ السَّموات والأرض؛ فتُردُّ إليه كلُّ أملاك الخَلْق بعد فنائِهم، واللهُ مُطَّلِعٌ على جميعِ أعمال الخَلْق.
تفسير الآيات:
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
أَيْ: إِنَّ هؤلاءِ الذين استبدَلوا الإيمانَ بالكفرِ لا يُصيبون اللهَ تعالى بأيِّ ضرَرٍ كان، وإنَّما يَضرُّون في الحقيقةِ أنفُسَهم؛ فبذلك يَستحِقُّون عُقوبةَ اللهِ تعالى المؤلِمةَ
.
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ قِراءتان:
1- تَحْسَبَنَّ على معنى أنَّ الخِطاب للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
2- يَحْسَبَنَّ على أنَّها نهيٌ للذين كفروا .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
أَيْ: لا تظنَّ- يا مُحمَّدُ- ولا يظنَّ الكفَّارُ كذلك، أنَّ إطالتَنا لهم في أعمارهم، وترْكَهم يَتمتَّعون في دُنياهم، وعدَمَ مُعاجَلَتِهم بالعقوبة- أَنَّه خيْرٌ وكرامةٌ مِن الله تعالى لهم ودليلٌ على مَحبَّتِه لهم ورِضاهُ عنهم كما يبدو في الظَّاهر .
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا
أَيْ: حقيقةُ الأمْرِ أنَّ ذلك شرٌّ عليهم، وإنَّما منحَهم الله تعالى إطالةَ العُمْرِ وسَعَةَ الرِّزْق وحُصولَ النَّصْر وغيْرَ ذلك؛ مِن أَجْل أن يكتسبوا المزيدَ مِن الآثام؛ فتَكثُرَ سيِّئاتُهم .
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
أَيْ: إِنَّ لهؤلاء الكفَّار المستكبِرين عُقوبَةً تُذِلُّهم وتُهينُهم .
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى عُقوبةَ المنافقين الأُخْرَويَّةَ، أَتْبعَها بوعيدِه للمنافقين بالعقوبةِ الدُّنيويَّةِ التي هي الفضيحةُ والخِزْي بالتمييزِ بينهما؛ لِيُظهرَ المؤمِنَ من المنافِق .
وأَيْضًا لَمَّا أَخبرَ اللهُ تعالى عن الأحوالِ التي وقعتْ يومَ أُحُدٍ من القتْل والهزيمة، والتي أَظهرتِ المؤمِنَ مِن المنافِق؛ لأنَّ المنافقين خافوا ورجَعوا وشَمَتوا بكثرة القتْلى، ثمَّ ثبَّطوا وزهَّدوا المؤمنين عن العَوْد إلى الجِهاد- أعقبَ سبحانه وتعالى ذلك ببيانِ أنَّه لا يجوزُ في حِكمتِه أَنْ يَذَرَكم على ما أنتُم عليه من اختلاطِ المنافقين بكم وإظْهارِهم أنَّهم من أهْل الإيمان؛ فكان إلقاءُ هذه الحوادثِ والوقائع؛ حتَّى يَحصُلَ هذا الامتياز ؛ فقال تعالى:
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
أَيْ: إنَّه من الممْتَنِع على حِكْمة اللهَ عزَّ وجلَّ أن يدَعَ عبادَه المؤمنين على ذات الحال التي هُم عليها من اختلاطِهم بالمنافِقين تحتَ مُسمَّى (الإسلام) الذي يَجمعهم، من دونِ أَنْ يُعرف هذا مِن هذا، بلْ لا بُدَّ أَنْ يَجعلَ كلَّ واحدٍ منهما مُتميِّزًا عن الآخر، مُنفصِلًا عنه بِلا لَبْسٍ بينهما؛ ولذا يَعقِد الله تعالى أَسبابًا مِن المِحَن يُظهِر فيها ولِيَّه، ويُفضَحُ فيها عدُوُّه، كما فعل بهم يوم أُحُدٍ .
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال: 36-37] .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
أَيْ: مِن الممتَنِع على حِكمَة الله تعالى أيضًا أَنْ يُطلِعَكم على ضَمائرِ قلوبِ عِبادِه؛ كَيْ يُظهرَ لكم المؤمِنَ من المنافِق، ولكِنَّه يَعقِد الأسبابَ التي تَكشِف لكم هذا الأمْرَ، وتَظهرُ بها طَوايا النَّاس .
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ
أَيْ: لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يختارُ بعضَ رُسُله عليهم الصَّلاة والسَّلام؛ لِيُطلِعَهم على بعض الغيبِيَّات بحِكمتِه وإِذْنِه سُبحانَه، ومِن ذلك: إطْلاعُهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على عددٍ من المنافِقين .
قال سُبحانَه: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالم الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 25-27] .
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أَيْ: حَقِّقُوا إيمانَكم باللهِ تعالى وجميعِ رُسُله عليهم السَّلامُ بالتَّصديق التَّامِّ، والانقيادِ والاستسلامِ؛ فهذا هو المطلوبُ منكم .
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أَيْ: إنَّكم إذا حقَّقْتم المطلوبَ منكم بالإيمانِ بالله تعالى ورُسُلِه، وامتثَلتُم ما أمرَكم الله تعالى ورسولُه به، واجتنَبتُم ما نهاكم اللهُ تعالى ورسولُه عنه، إِنْ قُمْتُم بذلك؛ فقد استحقَقْتُم نَيْلَ ثَوابٍ مِن الله تعالى كبيرٍ .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بالغتِ الآياتُ الماضيةُ في التحريضِ على بَذْل الأرواحِ في الجِهادِ في الآيات السَّابقة، أَردفتْه بالتحريضِ على بَذْلِ الأموالِ في الجِهادِ وغيرِه، وبيَّن اللهُ تعالى الوعيدَ الشديد لِمَن يَبخلُ ، فقال:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ قراءتان:
1- قراءة تَحْسَبَنَّ على الخِطاب للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أَيْ: لا تحسَب- يا مُحمَّدُ .
2- قراءة يَحْسَبَنَّ بإضافةِ الفِعل إلى ما بَعدَه، أَيْ: لا يَحسبنَّ الذين يبخلون .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ
أَيْ: لا تظنَّنَّ- يا مُحمَّدُ- ولا يظنَّنَّ هؤلاء الذين يشِحُّون بأموالهم التي رزَقهم الله تعالى؛ كرَمًا منه عن أداء حقِّه فيها، أَنَّ بُخلَهم هذا خيْرٌ لهم من العطاء الذي يُنقص المال كما يبدو في الظاهر .
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
أَيْ: ليس الأمرُ كما يَظنُّون؛ فامتناعُهم عن أداءِ حَقِّ الله تعالى فيما رزَقَهم من أموالٍ بُخْلًا منهم، هو في حقيقةِ الأمْرِ شرٌّ من هذا النقْصِ الذي يَبدو لهم، ومضرَّةٌ عليهم في دِينهم ودُنياهم .
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَيْ: سيَجعل اللهُ تعالى المالَ الذي بَخِل به مَن منَعَ حقَّ اللهِ تعالى فيه، سيجعلُه طَوْقًا يُحيطُ بعُنُقِ صاحبه، ويُعذَّب به يوم القيامة .
عَن أبي هُرَيرَةَ رَضِي الله عنه: أَنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مَن آتاه الله مالًا فَلم يُؤدِّ زَكاتَه، مُثِّلَ له مالُه شُجاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ )) ثمَّ تلا هذه الآية: وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... إلى آخِرِ الآية .
وقال الله عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34-35] .
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَيْ: إِنَّ كلَّ أملاكِ الخَلْقِ مرَدُّها بعدَ فنائِهم إلى اللهِ تعالى وحْدَه؛ فهو المالكُ ذو المَلَكوت، والحيُّ الباقي الَّذي لا يموتُ؛ فأنفِقوا في حياتِكم مِمَّا جعلَكم اللهُ عزَّ وجلَّ مُستَخلَفين فيه، وقدِّموا فيها من أموالِكم ما يَنفعُكُم يومَ تأتون إلى الله سُبحانَه، وليس معكم شيءٌ مِمَّا كنتُم تملكون؛ فلا مَعنى للبُخْل بشيءٍ زائلٍ عنكم، ومُنتقِلٍ إلى غيرْكِم .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: تَعْمَلُونَ قِراءتان:
1- يَعْمَلُونَ على الغَيْبة؛ جرْيًا على يَبْخَلُونَ وسَيُطَوَّقُونَ .
2- تَعْمَلُونَ على الالْتفاتِ للمُخاطَب؛ فيكون ذلك خِطابًا للباخِلين .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
أَيْ: إِنَّ الله عزَّ وجلَّ مُطَّلِعٌ على خفايا أعمال الخلْق ومُطَّلِعٌ على نيَّاتهم وضمائرهم، وسيجازيهم على أعمالهم ونيَّاتهم بحسْبها، ومن ذلك: هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله تعالى من فَضْلِه؛ فإنَّ الله سبحانَه مُطَّلِعٌ على ما يُخفونَ ويَكنِزون، ويعلمُ إنْ كانوا قد أدَّوا حقَّ الله تعالى فيه أمْ لا، وإِنْ خَفِيَ ذلك على غيرِه
.
الفوائد التربوية:
1- نِعَمُ الدُّنيا ليستْ دليلًا على رِضا الله تعالى؛ فتِلك النِّعَم قد تكون نِقَمًا وآفاتٍ في الحقيقةِ؛ قال الله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ فهذا البقاءُ وهذا الإمهالُ صار وسيلةً إلى الخِزْيِ في الدُّنيا والعقابِ الدائمِ يومَ القيامة؛ فلم يكُنْ نعمةً حقيقة
.
2- في قوله: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا أَنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يَعتبِر في عُمْره؛ هل أمضاه في طاعةِ الله تعالى، أو أمضاهُ في معصيتِه .
3- التمايُزُ لا يكون إلَّا بالشَّدائد؛ أمَّا الرَّخاء واليُسْر، وتكليف ما لا مشقَّةَ فيه، فيَقدِر عليه المنافِقون ويَشتركون فيه مع المُخلِصين الصادقين؛ قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ .
4- البُخل بشيءٍ من الخيراتِ والمنافعِ مذمومٌ؛ لقوله تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :
1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ بيانُ شِدَّة رغبةِ الكفَّار في الكُفر؛ لأنَّهم اشتَرُوا الكفرَ اشتراءً، والمشترِي طالِبٌ للسِّلعة؛ فهم يأخذون الكفرَ عن رغبةٍ
.
2- في قوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، إشارةٌ إلى أنَّ الإنسان قد يَغترُّ بظاهر الحالِ، ويقول: إنَّ الله لم يُنعمْ عليَّ نعمةً إلَّا لأنَّني أهلٌ لها، كما قال قارون: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] .
3- في قوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ بيانُ مِنَّةِ الله على عبادِه؛ حيثُ جعَل إثابتَهم على العملِ بمنزلةِ الأَجْر المتقرَّر لهم: كالذي استأجَرَ أُجراءَ، وأعطاهم أجْرَهم فَرضًا، إلَّا أنَّه تعالى هو الذي فرَضَ ذلك على نفْسِه .
4- الإشارةُ إلى اسم اللهِ (الآخِر)، فإنَّ اللهَ هو الأوَّل والآخِر، وذلك مِن قوله: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، فإذا ثبَتَ إرْثُه لهما لزِم مِنْه أنْ يكون هو الآخِر عزَّ وجلَّ
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
- قوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا: تكريرٌ لجملة: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا قُصِد به- مع التأكيد- إفادةُ هذا الخبرِ استقلالًا؛ للاهتمامِ به بعدَ أنْ ذُكِرَ على وجهِ التعليل؛ لتسليةِ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم
.
- وفيه: تعريضٌ ظاهرٌ باقتصارِ الضَّررِ عليهم، كأنَّه قيل: وإنَّما يَضُرُّون أنفسَهم .
- وقوله: وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ: جملةٌ مُبتدَأةٌ مُبيِّنة لكمالِ فظاعةِ عذابهم بذِكر غايةِ إيلامِه بعدَ ذِكْر نهايةِ عِظَمِه .
- والتعبيرُ بصِيغة (فَعِيل) في قوله: أَلِيمٌ؛ للمُبالَغة في وصْف العَذاب ، مع ما في التنكيرِ من التَّهويل.
- وفي الآية: الفَصلُ-أي: عدَم العطف- بين جملةِ: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وسابقتِها: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا...؛ لوقوعِ هذه بيانًا للسابِقة، بينما وصَل-أي: عطَفَ- بين جملة: وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وسابقتِها؛ لوقوعِ هذه ابتدائيَّة مبيِّنة لفظاعةِ عذابِ الكفَّار .
2- قوله الله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ:
- قوله: أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ: استئنافٌ واقِعٌ مَوقِعَ التَعْليل؛ للنهْي عن حُسبان الإملاءِ خيرًا، أَيْ: ليس هو بخير؛ لأنَّهم يَزدادون في تلك المدَّة إثْمًا ، ومُبيِّنٌ كذلك لحِكمة الإملاءِ .
- وفيه حَصْرٌ، أَيْ: ما نُملي لهم إلَّا لِيزدادوا إِثْمًا، أَيْ: فيكونَ أخْذُهم به أشدَّ؛ فهو قصْرُ قلْبٍ .
- وقوله خَيْرٌ وإنْ كانَ بصِيغة المُبالغةِ والتَّفضيلِ إلَّا أنَّه لنفْي الخيريَّة لا لنفْي كونِه خيرًا مِن شيءٍ آخَرَ؛ لأنَّ بناءَ المبالغةِ لا يَجوز ذِكْرُه إلَّا عندَ ذِكْر الرَّاجح والمرجوح، فلمَّا لم يَذكُرِ اللهُ هاهنا إلَّا أحدَ الأمرين، دلَّ على أنَّه لنفْي الخيريَّة لا لنفْي كونِه خيرًا مِن شيءٍ آخَرَ .
3- قوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ:
- قولُ الله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ اللَّام في لِيَذَرَ إمَّا متعلِّقةٌ بالخبرِ المقدَّر لـكَانَ، وانتصابُ الفِعل بعدَها بـ(أن) المقدَّرة، أي ما كان الله مُريدًا أو متصدِّيًا لأنْ يَذَرَ المؤمنين...إلخ؛ فِفي توجيهِ النَّفيِ إلى إرادةِ الفِعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليستْ في توجيهِ النَّفي إلى المفعولِ نفْسِه، فاللام مُقَوِّيَةٌ لطَلَبِ ذلكَ المَحذُوفِ لِمَا بَعدَها. وإمَّا: مَزيدةٌ ناصِبةٌ للفِعل بنفْسِها ؛ فجاءتْ لتأكيدِ النَّفي .
- وفيه إظهارُ المُؤْمِنِينَ في موضِعِ الإضمارِ، حيث قال لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ، أي: الثابتين في وصْفِ الإيمان، ولم يقُل: (ليذركم)؛ لإظهارِ شرَفِ الوصْفِ بالإيمانِ تعظيمًا لأهلِه .
- وقوله: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فيه مبالغةٌ في النَّفي؛ حيثُ وقعت (حتَّى) بعدَ (مَا كَانَ)، وهو استعمالٌ خاصٌّ يُسمَّى: (نفْي الجحود)، وتُفيد (حتَّى) فيه تنهِيةَ الاستحالة؛ لأنَّ الجُحودَ أخصُّ من النفْي، فيكونُ حصولُه كالمستحيل؛ فإذا غيَّاه المتكلِّم بغايَةٍ، كانت تلك الغايةُ غايةً للاستحالة المستفادةِ من الجحود، وليست غايةً للنفي؛ حتَّى يكون مفهومها أنَّه بعدَ حصولِ الغاية يثْبُت ما كان منفيًّا .
- قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ تمهيدٌ لبيانِ الميْزِ الموعود، على طريقِ تجريدِ الخِطابِ للمُخلِصين؛ تَشريفًا لهم .
- قوله: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ... وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي... فيه إظهارُ الاسمِ الجليل (الله) في الموضِعَينِ؛ لتربية المَهابَة .
4- قوله سبحانه: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ:
- قوله: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ فيه إيرادُ ما بخِلوا به بعنوانِ إيتاءِ الله تعالى إيَّاهم مِن فضلِه؛ للمُبالغةِ في بيانِ سُوءِ صَنيعِهم؛ فإنَّ ذلك حقُّه أنْ يكونَ من مُوجِباتِ بَذْلِه في سبيلِه كما في قوله تعالى: وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ .
- قوله: بَلْ هُوَ شَرٌّ فيه تأكيدٌ لنفْيِ كونه خيرًا، وإفادةُ نفْيِ توهُّمِ الواسطةِ بين الخيرِ والشرِّ .
- قوله: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تذْييلٌ لموعظةِ الباخِلين وغيرِهم، بأنَّ المالَ مالُ الله، وما مِن بخيلٍ إلَّا سيذهب ويترُك مالَه، والمتصرِّفُ في ذلك كلِّه هو الله؛ إذْ هو يرِث السَّمواتِ والأرضَ؛ فالآيةُ موعظةٌ، ووعيدٌ ووعْد؛ لأنَّ المقصودَ لازمٌ .
- قوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيه إظهارُ الاسمِ الجليل (الله) في مَوضعِ الإضمار ؛ لتربيةِ المَهابة.
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنة؛ حيثُ ختَم بهذه الصِّفة، ومعناها التهديدُ والوعيدُ على قَبيحِ مُرتكَبِهم من البُخل .
- وفيه: التفاتٌ ؛ حيثُ التفتَ من الغَيْبة إلى خِطابِ الباخِلين ، وهو أزجرُ في التهديدِ.
========
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (181-184)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
غريب الكلمات:
بِقُرْبَانٍ: القُربان: ما يُتقرَّبُ به إلى الله عزَّ وجلَّ مِن ذبْح أو غيرِه، وأصل القُرب: خلافُ البعد
.
وَالزُّبُرِ: الكتُب، جمْع زَبور، وهو: كلُّ كتابٍ ذي حِكمةٍ، مأخوذٌ من الزَّبْر وهو الكتابةُ والقِراءة، وقيل: مِن زبَرَه، إذا دفَعه
.
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبر تعالى أنَّه قد سمِع قولَ اليهودِ الذين تجرَّؤوا على اللهِ وقالوا: إنَّه فقيرٌ- تعالى اللهُ عن ذلك- وهم أغنياءُ، ثُمَّ أخبرَ سبحانَه أنَّه سيَكتُب ما قالوا، وسيَكتُب أيضًا رِضاهم واستحلالَهم لِمَا قام به أسلافُهم من قتْلِ الأنبياء بدون أيِّ عُذْرٍ يُبيح لهم ذلك، وأخبر أنَّه سيقولُ لهم تعالى: ذُوقوا العذابَ المحرِقَ الذي استحقَقتُموه بما اقترَفتم، واللهُ تعالى لا يَظلمُ أحدًا من العبادِ شيئًا.
هؤلاءِ اليهود الَّذين ادَّعوْا كَذِبًا: أنَّ اللهَ تعالى أوْصَى إليهم بوصيةٍ، وهي ألَّا يُؤمنوا لأيِّ رسولٍ حتَّى يأتيَهم بشَيءٍ يتقرَّب به إلى الله، ولا بُدَّ أنْ تأكلَه النار، فأمَرَ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يردَّ على زَعْمهم هذا: بأنَّه قد جاءَ أسلافَهم من اليهودِ المتقدِّمين رُسُلٌ مِن الله، معهم الكثيرُ من المعجِزاتِ وبالذي طَلَبوه من القُربانِ الذي تأكلُه النَّار، فلِمَ قاموا بقتْلهم إنْ كانوا صادِقين في أنَّ اللهَ عهِدَ إليهم بالإيمانِ بِمَن جاءَ بذلك؟!
ثمَّ سلَّى الله نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بألَّا يتأثَّر حُزْنًا ووهنًا إنْ كذَّبَه هؤلاء اليهودُ؛ فإنَّه قد كُذِّب رسُلٌ جاؤوا مِن قبلِه عليهم السَّلام جميعًا، أتَوا معهم بالمعجزات الباهِرة، وبالكتُب المنزَّلة من الله عزَّ وجلَّ .
تفسير الآيات:
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى المكلَّفين في الآياتِ السَّابقة ببْذلِ النفْسِ وبذْلِ المالِ في سبيلِ الله، شرَعَ بعدَ ذلك في حِكايةِ شُبُهاتِ القومِ في الطَّعْن في نُبُوَّة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومنها: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَر بإنفاق الأموالِ في سبيلِه قالوا: إنَّه لو طُلب الإنفاقُ في تحصيلِ مَطلوبِه لكان فقيرًا عاجِزًا
، فردَّ اللهُ تعالى عليهم في هذِه الآيةِ.
سببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما قال: ((قال أبو بكرٍ رضِي اللهُ عنه لفِنْحَاص- وكان مِن علماءِ اليهودِ وأحبارِهم-: اتقِّ اللهَ وأسْلِم, فواللهِ إنَّك لَتعلمُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن عندِ الله, جاءَكم بالحقِّ من عندِه, تَجدونَه مكتوبًا عندَكم في التوراة والإنجيل, فقال فِنْحَاصُ: يا أبا بكر, واللهِ ما بنا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن فَقْرٍ, وإنَّه إلينا لَيفتَقِر, وما نتضرَّع إليه كما يَتضرَّع إلينا, وإنَّا عنه لَأغنياءُ, ولو كان عنَّا غنيًّا لَمَا استقرَضَنا أموالَنا كما يزعُم صاحِبُكم؛ يَنهاكم عن الرِّبا ويُعطِيناه, ولو كان عنَّا غنيًّا ما أعطانا الرِّبا, فغضِب أبو بكْرٍ فضَربَ وجهَ فِنحَاص, فأخبر فِنْحاصُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي بكْر: ما حملَك على ما صنعتَ؟ فأخبرَه, فجَحَد ذلك فِنْحَاص، وقال: ما قلتُ ذلك, فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181] الآية)) .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
أَيْ: قد سمِع اللهُ جلَّ جلالُه قولَ اليهودِ الذين قالوا في الله عزَّ وجلَّ مقالةً شنيعةً؛ بإضافةِ النقْصِ إليه سبحانَه فقالوا: إنَّ الله فقيرٌ إلينا؛ لأنَّه طلَب منَّا أنْ نُقرِضَه مِن أموالِنا! ثُمَّ جعَلوا أنفسَهم أكملَ مِن الله تعالى؛ فقالوا: ونحن أغنياءُ عنه !
سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
أَيْ: سيَكتُب الله عزَّ وجلَّ ما قالوه في شأنه مِن الإفْك والفِريَة عليه ورِضاهم واستحلالهِم لِمَا قام به أسلافُهم مِن أفعالٍ فظيعةٍ بقتْلهم أنبياءَه سُبحانَه دون حُجَّةٍ أو عُذْرٍ يُسوِّغ لهم فِعْلَ ذلك؛ فسيكتُب اللهُ تعالى ذلك ويَحفظُه عليهم؛ ليُجازيَهم به .
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
أَيْ: يقولُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ إهانةً وإذلالًا لأصحابِ تِلك المقالةِ الشَّنيعةِ في حقِّه سبحانَه: ذوقوا عذابَ النَّار المحرِقة .
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
أَيْ: يُقال لهم: إنَّما استحقَقْتُم هذا العذابَ المخزِي؛ بسببِ ما اكتسبتموه في حياتِكم من آثامٍ؛ ولأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حكَمٌ عدْلٌ مع كلِّ أحَدٍ، لا يُجازي كلَّ نفسٍ إلَّا بما كسَبتْ، دون أن يَنقُصَ من حسناتها شيئًا أو يَزيد على سيِّئاتها شيئًا .
فما قدَّمتْ أيديهم أوجَبَ لهم حُصولَ العذاب، وعدْلُ اللهِ أوجَبَ كوْنَ هذا العذابِ في مِقدارِه المشاهَد من الشِّدَّة؛ حتَّى لا يظنُّوا أنَّ في شدَّته إفراطًا عليهم في التَّعذيب .
ثمَّ ذكر شُبْهةً أخرى لهم، فقال:
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
أَيْ: هؤلاءِ اليهود الَّذين ادَّعَوْا كَذِبًا وافتراءً على اللهِ تعالى بأنَّه أَوْصاهم بوصيَّةٍ مُؤكَّدَةٍ في كُتُبهم وعلى ألْسِنة رُسُله تَقضي بألَّا يَنقادوا مؤمِنينَ ومُذعنين لكلِّ مَن يقولُ: إنَّه مُرسَلٌ مِن عند الله تعالى حتَّى يُثبِتَ صِدْقَ رِسالتِه بأمرٍ واحدٍ، وهو: أنْ يَجيءَ بشيءٍ ممَّا يُتقرَّب به إلى اللهِ تعالى من الصَّدقات، فإنْ أكلَتْه النارُ كان ذلك دَلالةً على قَبولِ اللهِ تعالى منه ذلك وصِحَّة رسالتِه من ربِّه .
فجَمعوا بين الكذبِ على اللهِ بنِسبةِ الوصيَّة إليه، وحَصْرِ آيةِ صِدْق الرُّسُل بما قالوه، مع أنَّها مُعجِزةٌ لا تَطَّرِد لسائرِ الأنبياءِ كما زَعَمَه اليهودُ؛ فإنَّ مُعجِزاتِ الرُّسل عليهم السَّلام إنَّما تجيءُ على ما يُناسِب تصديقَ الأمَّة .
قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
أَيْ: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء اليهود؛ ردًّا على ما زَعموه مِن افتراءٍ: قد أتَى أسلافَكم- يا مَعشَرَ اليهود- رُسُلٌ مِن اللهِ تعالى مِن قَبْل بَعْثتِي، كانوا مُزوَّدين بالحُجَج، ومُدَعَّمين بالمعجِزات التي تُثبِت صِدْقَ رسالتِهم، وأتَوهم أيضًا بالذي ادَّعيتم من تقديمِهم قرابينَ تَأكُلُها النار، فوقعَتْ على أيديهم هذه المعجِزةُ التي تمسَّكتم بها .
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أَيْ: ما دام أنَّه سبَق وأنْ جاءَتكم الرُّسُلُ بالذي زَعَمتُم أنَّه حُجَّةٌ لتصديقِهم، فلِمَ قام آباؤكم إذنْ بقتْلِهم إنْ كنتُم مُحقِّين في دَعْواكم الإيمانَ برسولٍ يأتي بقُربان تأكلُه النار؟! فتبيَّن بهذا كَذِبُهم، وعِنادُهم وتناقضُهم، وظهَر أنَّه ليس امتناعُهم مِن اتِّباع مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لعدمِ ظُهورِ هذه المعجِزة .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ المنِيرِ (184)
أَيْ: إنْ كَذَّبَك- يا مُحمَّدُ- هؤلاء اليهودُ، فلا يُوهِنك ولا يَحزُنك ذلك، ولك أُسْوَة بمَن قبلَك؛ فأنتَ لستَ بأوَّلِ مَن يُكذَّب، بل كُذِّب عددٌ من الرُّسُل عليهم السَّلام مع أنَّهم أتَوا أقوامَهم بالحُجَج القاطِعة والمعجِزات الباهِرة السَّاطعة، وبالكُتُب المنزَّلة مِن الله تعالى، المشتمِلةِ على المَواعِظ والزَواجِر، المضيئةِ لطريق الحقِّ بذكْرِ الأحكامِ العادِلة والأخبارِ الصَّادِقة
.
الفوائد التربوية:
1- تَذكُّر أنَّ الله تعالى يَكتُب على العبادِ أعمالَهم على وجهٍ لا يَزولُ ولا يُنسى ولا يتغيَّر؛ ليَقرؤوا ذلك في صحائفِ أعمالِهم يومَ القيامة ولِيُجازوا عليه، كما في قوله تعالى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
.
2- الرِّضا بعِصيان العاصِين وتصويبُ أعمالِهم يُعدُّ مُشاركةً لهم في ذلك، قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وإنَّما قتَلَهم أسلافُهم، والمتأخِّرون راضون بأفعالِ أولئك المتقدِّمين ومُصوِّبون لهم في كلِّ ما فَعلُوه .
3- الحذرُ من المعاصي؛ لقوله تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ فذلك العقابُ حاصِلٌ بسببِ المعاصي، مِن الافتراءِ وقَتْل الأنبياء، وغير ذلك .
4- في قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسليةُ الرسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام، ويتفرَّع عليها أنْ يَتسلَّى الإنسان في كلِّ ما أصاب غيرَه ؛ فالرُّسُل أُوذوا بالتكذيب، والإنسانُ يَكادُ يتَقطَّع إذا أَخبرَ بشيءٍ صِدْقٍ ثمَّ قيل له: كذَبتَ، فكيف وهُم مِن عند الله عزَّ وجلَّ مُؤيَّدون بآياتِه
؟!
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- في قول الله سبحانه: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا: إثباتُ صِفةِ الكتابةِ للهِ عزَّ وجلَّ، كما يليقُ بعظيمِ شأنِه
.
2- قوله: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ: بِغَيْرِ حَقٍّ هذا قيْدٌ كاشِفٌ وليس احترازِيًّا؛ فقتْلهم للأنبياءِ لا يمكن أنْ يكونَ بحقٍّ أبدًا، وإنَّما جِيءَ به مبالَغةً في التشنيعِ عليهم؛ فإنَّهم يَقتُلونهم بغيرِ سببٍ حقٍّ يَدْعو لذلك .
3- في قول الله تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ عبَّرَ عَن مُباشَرة العذاب بـذُوقُوا؛ لأنَّ الذَّوْقَ مِن أبْلغِ أنواع المباشَرة، وحاسَّتُها مُتميِّزة جدًّا .
4- في قوله: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ أنَّ هؤلاء سوف يَذوقون العذابَ بالألم البدَنِيِّ والألم النفْسِيِّ؛ ففي الحَرِيقِ: ألَمٌ بَدنِيٌّ، وفي قوله: ذُوقُوا: ألَمٌ نفسِيٌّ؛ لأنَّ هذا توبيخٌ وإهانة .
5- أنَّه يَنبغي عند المُخاصمةِ إفحامُ الخَصْم بما يدَّعيه؛ ليكونَ ذلك أبلغَ في دحْضِ حُجَّته، وهذا يُؤخذُ من قوله سبحانه: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ؛ لأنَّه إذا خُوصِم بما يقوله لم يبْقَ له حُجَّة .
6- في قول الله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أنَّ تسلِيَةَ الإنسانِ بمَن قارَبه في الزمانِ أشدُّ تسليةً وأقوى تثبيتًا
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ: جاءَ التعبير أوَّلًا بقوله: لَقَدْ سَمِعَ بصيغة الماضي، ثمَّ قال: سَنَكْتُبُ، ولَمْ يَقُل: (كُتب أو كَتَبْنا)؛ لأنَّ السَّماعَ أوَّلًا مُؤكَّد بالقَسَم، ثمَّ قال: سَنَكْتُبُ على جِهة الوعيد، والسِّين فيه للتأكيد، بمعنى: لَن يفوتَنا أبدًا إثباتُه وتدوينه، كما لنْ يَفوتَنا قتْلُهم الأنبياء؛ لِكونِه في غايةِ العِظَم والهوْل، وجَعَل قتْلهم الأنبياءِ قرينةً له؛ إيذانًا بأنَّهما في العِظَم أَخوانِ، وبأنَّ هذا ليس بأوَّل ما ركِبوه من العظائمِ، وأنَّهم أُصَلاءُ في الكُفْر ولهم فيه سوابقُ، وأنَّ مَن قتَل الأنبياءَ لَمْ يُستَبعدْ منه الاجتراءُ على مِثلِ هذا القول
.
2- قوله: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ الأمْرُ هنا للتوبيخِ والإهانةِ والإذلال، وإلَّا فإنَّهم سيَذوقون عذابَ الحريقِ، قيل لهم ذلك أم لمْ يُقل؛ فهو حقٌّ .
3- قوله: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُم فيه إشارةٌ للعذاب المشاهَد يومئذٍ، وفيه تهويلٌ للعذاب، والباء للسببيَّة؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا العذابَ لعِظَم هوله ممَّا يُتساءَل عن سببِه .
- وفيه نِسبةُ ما قدَّموه مِن المعاصي القوليَّة والفعليَّة والاعتقاديَّة إلى الأيدي على سبيلِ التغليب؛ لأنَّ الأيدي تُزاوِل أكثرَ الأعمال؛ فكأنَّ كلَّ عمل واقعٌ بها ، ولِيفيد أنَّ ما عُذِّبوا عليه هو مِن عَملِهم حقيقةً لا مجازًا؛ فإنَّ نسبةَ الفِعلِ إلى يدِ الفاعلِ تُفيدُ مِن إلصاقِه به ما لا تُفيده نِسبتُه إلى ضميرِه .
- وفيه جوازُ إطلاقِ البَعضِ على الكلِّ إذا وُجدت قرينةٌ تدلُّ عليه؛ لِقوله: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ؛ فاليدُّ بعضٌ من الإنسان، لكن (القرينة) تدلُّ على أنَّ المرادَ الكلُّ، يعني: (بِمَا قدَّمتُم) .
4- قوله: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الجملةُ اعتراضٌ تذييلِيٌّ، مُقرِّر لمضمونِ ما قَبْلَها، والتعبيرُ عن ذلك بنَفْي الظُّلم؛ لِبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالى عَن ذلك بتصويرِه بصورةِ ما يَستحيلُ صُدورُه عنه سبحانه من الظُّلْم، كما يُعِّبر عن ترْك الإثابةِ على الأعمالِ بإضاعتِها ، وحتَّى يَطمئنَّ الإنسانُ أنَّه لنْ يُجازَى إلَّا بعملِه: إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .
- والتعبيرُ بصيغةِ المبالَغة ظَلَّام؛ لِتأكيدِ هذا المعنى بإبرازِ ما ذُكِر من التعذيب بغيرِ ذنبٍ في صُورة المبالَغةِ في الظُّلم. وقيلَ: هي لرِعايةِ جَمعيَّةِ العبيدِ من قولِهم: فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلَّام لعبيدِه على أنَّها للمبالغة كمًّا لا كَيفًا؛ فجاء لفْظ (ظلَّام) بصيغةِ المبالَغةِ المقتضِيةِ للتكثير؛ لأنَّه لَمَّا قُوبِل بالعبيد- وهم كثيرون- ناسَبَ أنْ يُقابِل الكثيرَ بالكثير؛ ولأنَّه إذا نُفِي الظُّلْمُ الكثيرُ يُنفَى القليل؛ لأنَّ الذي يَظلمُ إنَّما يَظْلمُ لانتفاعِه بالظُّلم، فإذا ترَك كثيرَه مع زيادةِ نفْعِه فيمَن يجوزُ عليه النفْعُ والضرُّ-كان لقليلِه مع قلَّةِ نفْعِه أَتْرَكَ .
5- قوله: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تعليلٌ لجواب الشرط، أَيْ: فتَسلَّ؛ فقد كُذِّب رسلٌ من قبلك .
- وتنكير رُسُل؛ لكثرتِهم وشَياعِهم .
==============
سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (185-186)
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبر تَعالى أنَّ كلَّ نفْسٍ لا بُدَّ أنْ يكونَ مصيرُها الموت، وأنَّه لا يُجزَى أحدٌ كامِلَ جزائِه على ما عمِلَ مِن خيرٍ أو شرٍّ إلَّا يومَ القيامة؛ فمَن جُنِّب النَّارَ، وأُدخِلَ الجنَّةَ فقد أفلَحَ، وما الحياةُ الدنيا إلَّا متعةٌ زائلةٌ تَغرُّ صاحبَها وتَخدعُه.
ثمَّ يُخبر اللهُ المؤمنين أنَّهم سيُبتَلَوْن في أموالهم، وفي أنفسِهم، وأنَّهم سيَسمعون كثيرًا ما يُؤذيهم مِن أعدائِهم مِن أهلِ الكتابِ والمشركين، فإنْ يَصبروا على ما يُصيبهم مِن ذلك ويتَّقوا، فإنَّ ذلك من الأمورِ التي يُعزَم عليها، وتَحتاج إلى هِمَّةٍ عاليةٍ لِتحقيقِها.
تفسير الآيات:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أولئك المفترِين عليه من اليهود المكذِّبين برسولِه، الذين وصَف صِفتَهم، وأخْبَر عَن جراءتِهم على ربِّهم، ذَكر أنَّ مصيرَهم ومصيرَ غيرِهم إليه؛ لأنَّه قد حتَّم الموتَ على جميعِهم، وفي هذا تَسليَةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
.
وأيضًا فيها تسليةُ المؤمنين على ما أصابَهم يومَ أُحُد، وتفنيدُ مَزاعِم المنافقين: أنَّ الناسَ لو استشاروهم في القِتال، لَأَشاروا بما فيه سَلامتُهم؛ فلا يَهلِكوا ، قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
أَيْ: إنَّ كلَّ نفْسٍ لا بُدَّ أنْ يُدركَها الموتُ، فتَنتقلَ بذلك مِن عالَم الفناءِ إلى عالمِ البَقاء .
قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 34-35] .
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَيْ: لا يُؤدَّى إليكم كامِلُ الجزاءِ على أعمالِكم- خيرِها وشرِّها- إلَّا في يومِ القيامة .
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
أَيْ: فمَن نُحِّي عن النارِ وجُنِّبها وأُدخِلَ الجنَّة، فقد نجَا وظَفِرَ بعظيمِ كرامةِ الله تعالى .
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
أَيْ: ليستْ هذه الحياةُ الدُّنيا بما فيها مِن لذَّاتٍ وشهواتٍ إلَّا مُجرَّد مُتْعَةٍ زائلةٍ تخدع صاحبَها؛ فلا يَنبغي لعاقلٍ أنْ يَركنَ إليها .
قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص: 60] .
عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((إنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ في الجنةِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، اقرؤوا إنْ شِئْتُم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ)) .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا سلَّى الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، زادَ في تسليَتِه بهذه الآية؛ فبيَّنَ أنَّ الكفَّار بعدَ أنْ آذَوُا الرَّسولَ والمسلمين يومَ أُحُد، فسيُؤذونهم أيضًا في المستقبَل بكلِّ طريقٍ يُمكِنهم: مِن الإيذاءِ بالنَّفس والإيذاءِ بالمالِ، والغرضُ مِن هذا الإعلامِ أَنْ يُوَطِّنوا أنفُسَهم على الصَّبْر وترْك الجزَع ؛ لذا قال تعالى:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
أَيْ: لَتُختَبرُنَّ في أموالِكم بوقوعِ المصائِب فيها: كتَلفِها، أو حُصولِ النقْص مِنْها، ولَتُمتحَنُنَّ أيضًا في أنفُسِكم: كأمرِكم بالجهادِ في سبيلِ الله، وما يَحصُل فيه مِن خوْفٍ وجِراحٍ وأسْرٍ وقتْلٍ، أو بإصابتِكم بمرَضٍ في أبدانِكم، أو موْتِ أحدِ أبنائِكم .
قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة: 155] .
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
أَيْ: إنَّ أعداءَكم مِن المشركين وأهْل الكتاب لا بدَّ أنْ يؤذوكم كثيرًا بألْسنتِهم، ومن ذلك تَكَرُّرُ طعْنِهم في دِينِكم، والنُّطْق بمعتقداتِهم الباطِلة .
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
أَيْ: إذا تسلَّحتُم- أيُّها المؤمنون- بسِلاح الصَّبرِ على ما يُصيبكم مِن بلاءٍ في أموالِكم وأنفسِكم، وعلى ما تَسمعونه مِن أذًى في دِينِكم مِن المشركين وأهْل الكِتاب، واستعملتُم التَّقوى بفِعْلِ أوامرِ اللهِ تعالى واجتنابِ نواهِيه- فإِنَّ ذلك الصَّبرَ والتقوى مِن الأمورِ التي تَحتاج إلى هِمَّة عالية، ويَنبغي التصميمُ عليها .
قال تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 120] .
عنْ أسامةَ بن زيْدٍ رضِي اللهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ركِبَ على حِمارٍ، على قَطِيفةٍ فَدَكِيَّةٍ ، وأَرْدَفَ أسامةَ بنَ زيدٍ وراءَه، يعودُ سعدَ بنَ عبادةَ في بني الحارثِ ابنِ الخَزْرَجِ، قبْلَ وقعةِ بَدْر، قال: حتَّى مرَّ بمجلسٍ فيه عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ ابنُ سَلولَ، وذلك قبلَ أن يُسْلِمَ عبدُ اللهِ بنُ أُبيٍّ، فإذا في المجلسِ أخلاطٌ مِن المسلمين والمشركين عَبَدةِ الأوثانِ، واليهودِ والمسلمين، وفي المجلسِ عبدُ اللهِ بنُ رَواحَةَ، فلَمَّا غَشِيَتِ المجلسَ عَجاجَةُ الدَّابَّةِ ، خمَّرَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ أَنفَه برِدائِه، ثمَّ قال: لا تُغَبِّروا علينا، فسَلَّم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم ثمَّ وقَفَ، فنزَلَ فدَعاهم إلى اللهِ، وقرَأَ عليهم القرآنَ، فقال عبدُ اللهِ بنِ أبيٍّ ابنُ سَلولَ: أيُّها المرءُ، إنَّه لا أحسنَ ممَّا تقولُ، إنْ كان حقًّا، فلا تُؤْذِنا به في مجالسِنَا، ارجِعْ إلى رَحْلِك، فمَن جاءَكَ فاقصُصْ عليه. فقال عبدُ اللهِ ابنُ رَواحةَ: بلى يا رسولَ اللهِ، فاغْشنَا به في مجالسِنَا؛ فإنَّا نُحِبُّ ذلك. فاستَبَّ المسلمون والمشرِكون واليهودُ حتَّى كادوا يَتَثاورون ، فَلَمْ يَزَلِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخفِّضُهم حتَّى سَكَنوا، ثمَّ ركِبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دابَّتَه، فسارَ حتَّى دخَلَ على سَعْدِ بنِ عُبادةَ، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا سعدُ، ألَمْ تَسْمَعْ ما قال أبو حُبَابٍ- يُريدُ عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ- قال: كذا وكذا؟! قال سعدُ بنُ عُبادةَ: يا رسولَ اللهِ، اعفُ عنه، واصفَحْ عنه، فوالذي أنزَلَ عليك الكتابَ، لقد جاءَ اللهُ بالحقِّ الذي أنزَلَ عليك، ولقدِ اصطَلَحَ أهلُ هذه البُحَيْرَةِ على أنْ يُتَوِّجُوه فيُعَصِّبُوه بالعِصابةِ ، فلمَّا أبَى اللهُ ذلك بالحقِّ الذي أعْطاك اللهُ شرِقَ بذلك؛ فَذلِك فَعَلَ به ما رأيتَ، فعَفَا عنه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه يَعْفُون عن المشركينِ وأهلِ الكتابِ كما أمرَهم اللهُ، ويَصْبِرون على الأذى، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا الآيةُ، وقال اللهُ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إلى آخِرِ الآيةِ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَأْوَّلُ العفْوَ ما أمَرَه اللهُ به، حتَّى أَذِنَ اللهُ فيهم، فلمَّا غزَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بدْرًا، فقَتَلَ اللهُ به صَناديدَ كفَّارِ قُرَيشٍ، قال ابنُ أبيٍّ ابنُ سَلولَ وَمن مَعَه مِن المشركين وعَبدةِ الأوثانِ: هذا أمرٌ قد تُوجِّهَ، فبَايَعوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الإسلامِ فأَسْلَمُوا ))
.
الفوائد التربوية:
1- قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ المقصودُ من هذه الآيةِ: تأكيدُ تسليَةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام، والمبالغةُ في إزالةِ الحزْن مِن قلْبِه، وذلك من وَجهينِ: أحدهما: أنَّ عاقِبةَ الكلِّ الموتُ، وهذه الغمومُ والأحزانُ تَذهبُ وتزولُ ولا يَبقى شيءٌ منها، والحزنُ متى كان كذلك لمْ يَلتفتِ العاقلُ إليه. والثاني: أنَّ بعدَ هذه الدارِ دارًا يَتميَّز فيها المحسِنُ عن المسيءِ، ويَتوفَّر على عملِ كلِّ واحدٍ ما يليقُ به من الجزاء، وكلُّ واحدٍ من هذينِ الوجهين في غايةِ القوَّةِ في إزالةِ الحُزْنِ والغَمِّ عن قلوبِ العُقلاء
.
2- في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ حثُّ الإنسانِ على المبادرةِ للعملِ الصَّالح؛ لأنَّه إذا كان ميِّتًا ولا مَحالَةَ وهو لا يَدري متى يموت، فعليه أنْ يُبادرَ، ولا سِيَّما في قضاءِ الواجباتِ والتخلِّي عن المظالم والسيِّئات .
3- قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ فيه التزْهيدُ في الدُّنيا بفنائِها وعدمِ بَقائِها، وأنَّها متاعُ الغُرور، تَفتِنُ بزُخْرُفِها، وتَخدَع بغُرورِها، وتَغرُّ بمَحاسِنها، ثمَّ هي مُنتقِلةٌ، ومُنتقَلٌ عنها إلى دارِ القرارِ، التي تُوفَّى فيها النُّفوسُ ما عمِلَت في هذه الدَّارِ، مِن خيرٍ وشرٍّ .
4- فسادُ الدُّنيا مِن وجوه: أوَّلُها: أنَّه لو حصَل للإنسانِ جَميعُ مُراداتِه، لَكان غمُّه وهمُّه أزيدَ مِن سُرورِه؛ لِأجْل قِصَرِ وقْتِه، وقلَّة الوثوقِ به، وعدَمِ عِلْمِه بأنَّه: هَلْ يَنتَفِعُ به أمْ لا؟ وثانيها: أنَّ الإنسانَ كُلَّما كان وِجدانُه بمُرادات الدنيا أكثرَ، كان حرصُه في طلَبِها أكثَرَ، وكُلَّما كان الحرْصُ أكثرَ، كان تألُّم القلْبِ بسببِ ذلك الحرْصِ أشدَّ؛ فإنَّ الإنسانَ يَتوهَّم أنَّه إذا فازَ بمَقصودِه سَكنَتْ نفسُه، وليس كذلك، بلْ يَزدادُ طلَبُه وحِرْصُه ورغبَتُه. وثالثها: أَنَّ الإنسانَ بِقدْرِ ما يجدُ من الدُّنيا يَبقى محرومًا عَن الآخِرةِ التي هي أعظمُ السَّعاداتِ والخيرات، ومتَى عَرَفْتَ هذه الوجوهَ الثلاثةَ عَلِمْتَ أنَّ الدنيا متاعُ الغُرور، كما قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ .
5- في قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أنَّه يَنبغي للإنسان أنْ يَتفطَّن لِمَا فيه مِن خير وشرٍّ؛ لِيعلمَ أنَّه ابتلاءٌ مِن الله؛ ففي الخيرِ يُبتلى؛ لِيشكر، وفي ضِدِّه يُبتلى؛ لِيصبر .
6- قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا في إخْبارِه لعباده المؤمنين بذلك عدَّةُ فوائد: منها: أنَّ حِكمتَه تعالى تقتضِي حصولَ ذلك؛ لِيتميَّزَ المؤمِنُ الصادِق مِن غيره، ومنها: أنَّه تعالى يُقدِّر عليهم هذه الأمور؛ لِما يُريده بهم من الخير؛ لِيُعليَ دَرجاتِهم، ويُكفِّرَ مِن سيِّئاتهم، ولِيزدادَ بذلك إيمانُهم، ويُتِمَّ به إيقانَهم؛ فإنَّه إذا أخبرَهم بذلك، ووقَع كما أخبر، قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، ومنها: أنَّه أَخبرَهم بذلك؛ لِتتوطَّنَ نفوسُهم على وقوعِ ذلك، والصَّبرِ عليه إذا وقَعَ؛ لأنَّهم قد استعدُّوا لوقوعِه؛ فيهونُ عليهم حِمْلُه، وتخِفُّ عليهم مُؤنتُه، ويَلجؤون إلى الصَّبرِ والتقوى .
7- التنبيهُ على فضيلةِ العزْمِ في الأمورِ؛ لِقوله: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ، وكلَّما كان الإنسانُ عازِمًا في أمورِه، كان ذلك أَنجحَ له وأحسَنَ
.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ يدلُّ على أنَّ المقتولَ يُسمَّى بالميِّت
.
2- في قوله سبحانه: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيَّن تعالى أنَّ تمامَ الأجْرِ والثواب لا يصِلُ إلى المكلَّف إلَّا يومَ القيامة؛ لأنَّ كلَّ مَنفَعةٍ تصلُ إلى المكلَّف في الدُّنيا فهي مُكدَّرةٌ بالغُمومِ والهُمومِ وبخوفِ الانقطاعِ والزَّوال، والأجرُ التامُّ والثواب الكامِل إنَّما يصلُ إلى المكلَّفِ يومَ القيامة؛ فهناك يَحصُلُ السُّرورُ بلا غمٍّ، والأمْنُ بلا خوْفٍ، واللذَّةُ بلا ألَمٍ، والسَّعادة بلا خَوفِ الانقطاعِ، وكذا القولُ في جانبِ العِقاب؛ فإنَّه لا يَحصُل في الدُّنيا ألَمٌ خالِصٌ عن شَوائبِ اللذَّة، بل يمتزجُ به راحاتٌ وتخفيفات، وإنَّما الألمُ التامُّ الخالِصُ الباقي هو الذي يكون يومَ القيامةِ، نعوذُ بالله مِنْه .
3- في قوله تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إشارةٌ لطيفةٌ إلى نعيمِ البَرْزَخِ وعذابِه، وأنَّ العامِلين يُجزَون فيه بعضَ الجزاء ممَّا عمِلوه، ويُقدَّم لهم أنموذجٌ ممَّا أسلَفوه، يُفهم هذا مِن قوله: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ: تَوفِية الأعمالِ التامَّة، إنَّما يكونُ يومَ القيامَة، وأمَّا ما دون ذلك فيكونُ في البَرْزَخ، بل قد يكونُ قبل ذلك في الدُّنيا، كقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ .
4- إنَّما جمَعَ بين زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ؛ مع أنَّ في الثاني غُنْيةً عن الأوَّل؛ قيل: ليُعلِّق الفوزَ- وهو نيلُ الحظِّ مِن الخيرِ والنجاةُ من الشرِّ- على التنحيةِ من النارِ ودُخولِ الجنة . وقيل: للدَّلالةِ على أنَّ دُخولَ الجنَّةِ يَشتملُ على نِعمتَينِ عظيمتينِ: النَّجاةِ مِن النار، ونعيمِ الجنَّة .
5- قال تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ... أَذًى ولم يقُلْ ضررًا؛ لأنَّ هذا الذي يَسمُعه المؤمنون يُؤذيهم، ولكن لا يَضرُّهم .
6- الصَّبرُ عبارةٌ عن احتمالِ المكروه، والتقوى عبارةٌ عن الاحترازِ عمَّا لا ينبغي، وفِعلِ ما يَنبغي فِعلُه؛ فقَدَّم ذِكرَ الصَّبر ثمَّ ذَكَر عَقِبَه التقوى في قولِ الله تبارَك وتعالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا؛ قيل: لأنَّ الإنسانَ إنَّما يُقدِمُ على الصَّبر؛ لأنَّه يُريدُ الاتِّقاءَ عمَّا لا يَنبغي. وفيه وجهٌ آخر: وهو أنَّ مُقابَلةَ الإساءةِ بالإساءةِ تُفضِي إلى ازديادِ الإساءة، فأَمرَ بالصَّبْر؛ تقليلًا لمضارِّ الدُّنيا، وأمَر بالتقوى؛ تقليلًا لمضارِّ الآخِرة، فكانتِ الآيةُ على هذا التأويلِ جامعةً لآداب الدُّنيا والآخِرة
.
بلاغة الآيات:
1- قوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ خبرٌ فيه وعْدٌ للمُصدِّق، ووعيد للمُكذِّب
.
- وقوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ فيه: تشبيهٌ بَليغٌ؛ فقد شبَّه الدنيا بالمتاعِ الذي يُدلِّس به بائعُه على طالِبه؛ حتَّى يَنخدعَ ويَشتريَه، وخرَجَ هذا التَّشبيهُ مَخرجَ الإنكارِ على مَن جَعَل دَيْدَنَه الاغترارَ بالدُّنيا، وهي في الواقعِ لا نَفْعَ فيها ولا طائِل تحتَها .
- وفيه: تأكيدُ الخبرِ باسميَّة الجُملة، والقصْر بـ(مَا) و(إلَّا) .
2- قوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَذًى كَثِيرًا أكَّد الفِعلين (لتبلونَّ- ولتسمعنَّ) بلامِ القَسم، وبنونِ التوكيدِ الشَّديدة؛ لِإفادةِ تحقيقِ الابتلاءِ؛ إذْ نونُ التوكيدِ الشديدةُ أقْوَى في الدَّلالةِ على التوكيدِ مِن الخفيفةِ .
- وفيه: تقديمُ الأموالِ؛ لِكثرة وقوعِ الهلَكةِ فيها .
- وقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ فيه التصريحُ بالقَبْليَّة؛ لِتأكيدِ الإشعارِ، وتقويَةِ المدار؛ فَإِنَّ قِدَمَ نُزولِ كتابِهم ممَّا يُؤيِّد تمسُّكَهم به .
3- قوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِك اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الصَّبر والتَّقوى، وما فيه مِن معنى البُعد؛ لِلإيذانِ بعُلُوِّ درجتِهما وبُعدِ مَنزِلَتِهما .
وتوحيدُ حَرْفِ الخِطاب؛ إمَّا باعتبارِ كلِّ واحدٍ من المخاطَبين، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالخِطاب مُجرَّدُ التنبيهِ مِن غيرِ مُلاحَظةِ خُصُوصِيَّةِ أحوالِ المخاطَبين .