حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

3. سورة آل عمران {ج3.}




3. سورة آل عمران {ج3.}  
 سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (81- 82)
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
غريبُ الكَلِماتِ:

أَأَقْرَرْتُمْ: أأَثْبَتُّم واعترفتُم، وأصلُ الإقرار: إثباتُ الشَّيء، أو التمكُّن، وقرَّ في مكانه: إذا ثبَت ثبوتًا جامدًا
مشكل الإعراب:

قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ... لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ:
لَمَا آتَيْتُكُمْ: قُرِئت لَمَا بفتْحِ اللام وتَخفيفِ الميمِ، و(مَا) شرطيَّة، ودخَلتِ عليها لامُ التَّحقيقِ أو التَّوْطِئة كما تدخُل على (إن) الشرطية إذا كان في جَوابِها القَسمُ كقوله: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء: 86] ، فتقديرُ لَمَا آتَيْتُكُمْ: لَمَهمَا آتَيْتُكُمْ، أي: أيَّ كتابٍ آتَيْتُكُم لتُؤمنُنَّ به. وموضِعُ (ما) الإعرابيُّ النَّصبُ على المفعولِ به بالفِعلِ الذي بَعدَها، وهو آتَيْتُكُمْ، وهذا الفِعلُ مُستقبلٌ معنًى لكونِه في حَيِّز الشَّرْط، ومَحلُّه الجزمُ في جوابِ الشرط. وجوابُ الشَّرْط مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ جوابِ القَسمِ في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ عليه، كما سيأتي.
وقيل: إنَّ (مَا) موصولةٌ بمعنى الَّذي، وهي في مَحلِّ رفْع مُبتدأ. واللامُ هي لامُ الابتداء، وقعت جوابًا للقَسمِ المدلولِ عليه مِن معناه أَخَذَ مِيثَاقَ؛ لأنَّه يكون بالأيمانِ والعهود، وجملة آتَيْتُكُمْ صِلة (مَا)، والعائدُ محذوفٌ تقديره: آتيتكموه.
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ: جوابٌ لقوله: أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، وجوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ سَدَّ جَوابُ القَسمِ مَسَدَّه، والضميرُ في بِهِ عائدٌ على اسمِ الشَّرْط- على الوجه الأوَّل في (ما) أنَّها شرطيَّة.
وأمَّا على الوجهِ الآخَر أنَّ (ما) موصولةٌ؛ فقوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ: جوابُ قَسَمٍ مقدَّر، وهذا القسَمُ المقدَّر وجوابُه خبرٌ للمبتدأ لَمَا آتَيْتُكُمْ، والهاءُ في بِهِ تَعودُ على المبتدأ، ولا تعودُ على رَسُول؛ لئلَّا يلزمَ خُلوُّ الجملة الواقعة خبرًا من رابطٍ يربطها بالمبتدأ. وفيه أقوالٌ وتفصيلات أخرى.
- وقُرِئت (لِمَا) بكسرِ اللام والتَّخفيف، وعليه؛ فاللامُ للتعليل، وهي حرف جر، و(مَا) حينئذ: مَصدريَّة، والجارُّ والمجرور متعلِّق بـلَتُؤْمِنُنَّ، أو بـأَخَذَ. والتقدير: لأجْل إيتائي إيَّاكم بعضَ الكتاب والحِكمة، ثم لمجيءِ رسولٍ مصدِّقٍ لتؤمننَّ به. أو يكونُ التقديرُ: لأجْلِ إيتائي إيَّاكم كيتَ وكيتَ أخذتُ عليكم الميثاقَ. وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ، تقديره: لرِعايةِ ما آتيتُكم. أو تكون (ما) موصولةً بمعنى الذي، ويكونُ عائدُها محذوفًا. وثُمَّ جَاءَكُمْ: عطفٌ على الصِّلة، والرَّابط لها بالموصول: إمَّا محذوفٌ، تقديره: به، وإمَّا لقيامِ الظاهرِ مقامَ المُضمَر، وإمَّا ضميرُ الاستقرارِ الذي تَضمَّنه مَعَكُمْ، وقيل غير ذلك
المَعنَى الإجماليُّ:

يقولُ اللهُ تبارَك وتعالَى لنبِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: واذكُرْ- يا محمَّدُ- حينما عَهد الله إلى جميعِ الأنبياء، وأخَذ منهم الميثاقَ المؤكَّد، فقال لهم: بسببِ ما امتنَّ به عليهم من إعطائِهم الكتابَ والحِكمة، ثمَّ جاءَهم وجاء مَن يَتْبعهم من الأمم رسولٌ يُقِرُّ بما جاؤوا به ويُصدِّقه- وهو الرَّسول محمَّد صلَّى الله عيه وسلَّم- فيجب عليهم الإيمانُ به وتصديقُه، ونُصرته. ثمَّ قال لهم مؤكِّدًا عليهم ومقرِّرًا لهم: أأقررتُم بهذا الميثاقِ والتزمتُم به، وأخذتُم عهدي ومِيثاقي الشَّديدَ عليه؟ فقال الأنبياءُ جميعُهم: أَقرَرْنا وقَبِلنا. فقال لهم تبارَك وتعالَى: فاشْهدوا على أنفسِكم وعلى أَتْباعِكم من الأمم بذلك، وسأكونُ أنا من الشاهِدين عليكم وعلى أُممكم؛ فمَن أَعرَض وتولَّى بعد ذلك عمَّا عاهَد عليه، فأولئك هم الفاسِقون الخارِجون من دِين اللهِ، والمستكبِرون عن طاعتِه والتِزام أمْره.
تفسير الآيتين:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ.
أي: واذْكُر- يا محمَّدُ
- حينَ أخَذَ اللهُ ميثاقَ جميعِ النَّبيِّين وعَهْدَهم المؤكَّدَ .
لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
أ- في قوله تعالى لَمَا قِراءتان:
1- (لِمَا) والمعنى: وإذ أخَذ الله ميثاقَ النبيِّين لِلَّذي آتيتُكم، واللَّام متعلِّقة بـ (أخْذ الميثاق)، فالمعنى أخَذَ الميثاقَ لإيتائِه الكِتابَ والحِكمة .
2- (لَمَا) والمعنى: مهما آتيتُكم، على تأويلِ الجزاء، وجوابه: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
ب- في قوله تعالى: آتَيْتُكُمْ قراءتان:
1- (آتَيْناكُمْ) بلفظ الجمْع، على معنى التعظيمِ لله تبارَك وتعالَى .
2- (آتَيْتُكُمْ) على معنى إخبارِ المتكلِّم بفِعله عن نَفْسِه .
لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
أي: لَمَهْمَا أعطيتُكم- أيُّها النَّبيِّون- من كتابٍ وحِكمةٍ .
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
أي: ثمَّ جاءَكم- أيُّها النَّبيِّون- وجاء أُممَكم وأتْباعَكم رسولٌ يُصدِّق ما معكم من الكتُب ، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم .
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ
أي: فعليكم أن تؤمنوا به وتصدِّقوه وتنصروه على أعدائه وتُعِينوه على نشْر رسالته . ولا يَحْمِلَنَّكم ما آتيتكم من كتاب وحِكمة على أن تَتركوا متابعتَه، أو تستغنوا بما آتيتكم عمَّا جاء به .
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضِي اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ: ((لَو كَانَ أخِي موسى حيًّا، ما وَسِعَه إلَّا اتِّباعي)) .
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
أي: اعترفتُم والتزمتُم بذلك الميثاقِ، وأخذتُم عهدي الثَّقيل، ومِيثاقي الشَّديد المؤكَّد، ووصيَّتي بالإيمانِ بهذا الرَّسول ونُصرته، وقَبِلتُم ذلك ورضيتُموه ؟
قَالُوا أَقْرَرْنَا
أي: قالوا: اعتَرفنا وقَبِلنا، والتَزمنا بأنْ نؤمِنَ به ونَنصُره .
قَالَ فَاشْهَدُوا
أي: قال اللهُ تعالى للأنبياءِ: فاشَهْدوا على أنفسِكم، وعلى أَتْباعِكم من الأُممِ بذلك .
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
أي: مِن الشَّاهدين عليكم وعلى أُممكم، وكفَى بالله شهيدًا .
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ
أي: فمَن تولَّى وأَعْرضَ بعد ذلك عن هذا العهدِ والميثاق، بالإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واتِّباعِه ونُصْرتِه مِن أُممِ هؤلاءِ الأنبياء .
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
أي: فأولئك هم الخارِجونَ مِن دِين الله، والمُعرِضون عن طاعتِه

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في أخْذ اللهِ على النَّبيِّين الميثاقَ بالتكليفِ دليلٌ على أنَّهم مَرْبُوبُون، مُتعبَّدون لله عزَّ وجلَّ، كما أنَّ غيرهم كذلك
.
2- في قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ...: فضيلةُ نبيِّنا محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلوُّ مرتبتِه، وجلالةُ قدْره، وأنَّه أفضلُ الأنبياء؛ لكونِ اللهِ أَخَذ على جميعِ الأنبياء الميثاقَ والعهدَ أن يُؤمنوا به ويَنصُروه .
3- قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ... خبرٌ، مقصودٌ منه أمرُ الذين كانوا في زمان الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُؤمنوا به. فإذا دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الله تعالى أوجبَ على جميع الأنبياء أن يُؤمنوا بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، لو كانوا في الأحياء، وأنَّهم لو ترَكوا ذلك لصاروا من زُمرة الفاسقين، فلأنْ يكونَ الإيمان بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم واجبًا على أُممهم- لو كان ذلك- أَوْلى؛ فكان صَرْفُ هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيلِ المطلوب من هذا الوجْه .
4- يجوزُ، بل يُشْرَع في الأمور المهمَّة، أنْ يُقَرَّر مَن أُخِذ عليه العهد؛ حتَّى يُقِرَّ ويعترف زيادةً على العقد الأوَّل الَّذي جرَى بينه وبين معاهِده، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] .
5- في قوله تعالى: قَالَ فَاشْهَدُوا دليلٌ على جواز إشهادِ الإنسان على نفْسِه .
6- تقويةُ هذا العهدِ بهذه التقريرات والإشهادات المختومةِ بقوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، ممَّا يَزيد فَضيلةً لرسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنْ يُؤخذَ مِثلُ هذا العهد المؤكَّدِ بهذه المؤكِّدات من أجْل الإيمان به ونُصرته .
7- في قوله تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ دليلٌ على أنَّ مَن تولَّى قبل قيام الحُجَّة عليه، لم يُحْكَم عليه بالفِسق، ويتفرَّعُ على هذا فائدةٌ مهمَّةٌ، وهي: أنَّ الشرائع لا تَلْزَمُ قبل العِلم .
8- وجْه الحصرِ في قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ المبالغة؛ لأنَّ فِسقَهم في هذه الحالة أشدُّ فِسقًا، فجُعِل غيرُه من الفِسق كالعدمِ

.
بلاغة الآيتين:

1- في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ...:
- قوله تعالى: آتَيْتُكُمْ أو آتَيْنَاكُمْ فيه: التفاتان؛ أحدهما: الخروجُ من الغَيبة إلى التكلُّم في قوله: آتَيْنَا أو آتَيْتُ؛ لأنَّ قبله ذِكرُ الجلالة المعظَّمة في قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ. والثاني: الخروجُ من الغَيبة إلى الخِطاب في قولِه: آتَيْنَاكُمْ؛ لأنَّه قدْ تقدَّمه اسم ظاهرٌ، وهو النَّبيِّينَ؛ إذ لو جرَى على مقتضى تقدُّمِ الجلالة والنبيِّين لكان التركيب: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتاهم من كتاب... كذا). وقيل: مِثل هذا لا يُسمَّى التفاتًا، وإنَّما يُسمَّى حِكايةَ الحال، ونظيره قول: حلَف زيدٌ ليفعلن ولأفعلن؛ فالغَيبةُ مراعاةً لتقدُّم الاسم الظاهر، والتكلُّمُ حِكايةً لكلام الحالِف، والآية الكريمة من هذا
.
- في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ...: إيجازٌ بالحذف؛ إذ ذكَر النَّبِيِّينَ على سبيلِ المغايبة، ثم قال: آتَيْتُكُمْ، وهو مخاطبةُ إضمارٍ، والتقدير: وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين، فقال مخاطبًا لهم: لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ. وقيل: تقدير الآية: وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيِّين لتُبلغنَّ الناس ما آتيتُكم من كتابٍ وحِكمة، إلَّا أنه حذف (لتبلغن)؛ لدلالةِ الكلامِ عليه؛ لأنَّ لامَ القسمِ إنما تقَعُ على الفِعل؛ فلمَّا دلَّت هذه اللام على هذا الفِعل، حذفَه اختصارًا .
2- قوله تعالى: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ:
- فيه إدخالُ (مع) على المخاطبين؛ لأنَّهم المباشِرون للشَّهادة حقيقةً. وكونُ الله تعالى معهم من الشاهِدين فيه توكيدٌ عظيمٌ للمشهودِ عليه، وتحذيرٌ شديدٌ لِمَن يُخالف مقتضَى هذه الشَّهادة .
- وفيه فائدةٌ أخرى- مع التأكيدِ، وتقوية الإلزام- وهي: أنَّه تعالى وإنْ أَشهَد غيرَه، فليس مُحتاجًا إلى ذلك الإشهاد؛ لأنَّه تعالى لا يَخفى عليه خافيةٌ، لكن لضرب من المصلحة؛ لأنَّه سبحانه وتعالى يعلم السِّرَّ وأخفى، ثم إنَّه تعالى ضمَّ إليه تأكيدًا آخر، فقال: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ .


=====


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (83- 85)
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
المَعنَى الإجماليُّ:

في هذه الآياتِ يُنكِر اللهُ تعالى على مَن ابتغى دِينًا غير دِينه الَّذي أرسل به رسوله محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: أَيطلُبون دِينًا غيرَ دِين الله، وشريعةً غير شريعته، وله استسلمَ جميعُ مَن في السَّموات والأرض، وانقادوا له طائِعين وكارِهين، وهُم بعدَ مماتِهم راجعون إليه، فيُوفيهم أعمالَهم، ويَجزيهم على أفعالِهم؟!
ثمَّ يُوجِّه الله خِطابَه إلى رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ آمِرًا له أنْ يقولَ لهم إذا أرادوا دِينًا غير دِين الله: آمنَّا باللهِ، وما أَنزله علينا من كِتابٍ وسُنَّة، وبما أنزله على أنبيائِه إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ، وعلى أنبياء بُطُون بني إسرائيل المتشعِّبة من الأولاد الاثني عشرَ ليعقوب، وآمنَّا أيضًا بالتَّوراة والإنجيل والآيات الَّتي أيَّد الله بها موسى وعيسى عليهما السَّلام، وآمنَّا بما أُعْطِيَ جميعُ الأنبياءِ من ربِّهم؛ نؤمِن بهم جميعًا ولا نُفَرِّقُ بينهم في الإيمان، ونحنُ مُسلِمونَ لله، خاضِعون منقادون له في الظَّاهر والباطن.
ثم يُخبِر الله تبارَك وتعالَى أنَّ مَن يَبتغي غيرَ الإسلام دينًا؛ ليَدِينَ به، فلنْ يَقبلَه اللهُ منه، بل سيكونُ مَردودًا عليه، وستكونُ عاقبتُه في الآخِرة هي الخسرانَ.
تفسير الآيات:

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى في الآيةِ الأولى أنَّ الإيمانَ بمحمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام، شرعٌ شرَعه الله وأَوجبَه على جميع مَن مضى من الأنبياء والأُمم، لَزِمَ أنَّ كلَّ مَن كَرِهَ ذلك، فإنَّه يكون طالبًا دِينًا غير دِين الله
؛ فلهذا قال بعده:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
أي: أَيطلُبون دِينًا غيرَ دِين الله، وشريعةً غير شريعته ؟
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
أي: وله استسلمَ وانقادَ وخضَع وذلَّ مَن في السَّموات والأرض طائعين: كالملائكةِ والأنبياء والمؤمنين، ومُكَرَهين: كالكفَّار؛ فهم تحتَ قَهْرِ الله وسُلطانِه العظيم، مستسلِمون لقضائِه وقدَره .
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الرعد: 15] ، وقال أيضًا: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: 48-49] .
ثم يقولُ تعالى محذِّرًا لهم أن يَلقَى الإنسانُ ربَّه على غير ملَّة الإسلام :
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
أي: وإليه يَصيرون بعدَ مماتِهم، فيجازي كلًّا بعمله: المحسِنَ بإحسانِه، والمسِيءَ بإساءته .
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى في الآية المتقدِّمة أنَّه إنَّما أخَذَ الميثاقَ على الأنبياء في الإيمان بالرَّسول الَّذي يأتي مصدِّقًا لِمَا معهم، بَيَّن في هذه الآية أنَّ مِن صِفة محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كونَه مصدِّقًا لِمَا معهم ، فقال:
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ
أي: فإنِ ابتغَوْا غير دِين الله، فقل لهم- يا محمَّدُ-: آمنَّا بالله ، والخِطاب للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأمَّته، كما قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا إلى قوله: وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم [البقرة: 136] .
وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
أي: وآمنَّا بما أُنزِل علينا مِن وحْي اللهِ من القرآنِ ومن سُنَّة نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
فالسُّنَّة منزَّلة ، كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النِّساء: 113].
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
أي: وقلْ: وآمنَّا أيضًا بما أُنزل الله على إبراهيمَ، وعلى ابنيْه إسماعيلَ وإسحاقَ، وعلى ابن إسحاقَ يعقوبَ، وعلى أنبياءِ بُطون بني إسرائيل المتشعِّبة من الأولاد الاثني عَشرَ ليعقوب، وهو إسرائيلُ .
وقد بيَّن اللهُ تعالى في سورة الأعلى أنَّ المنزَّل على إبراهيم عليه السَّلام إنَّما هو صُحف، وأنَّ مِن جملة ما في تلك الصُّحف: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وذلك في قوله: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحِفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 16-19] .
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ
أي: وقل: آمنَّا أيضًا بالتَّوراة الَّتي أعطاها اللهُ موسى عليه السَّلام، والإنجيل الَّذي أعطاه الله عيسى عليه السَّلام، وما أيَّدهما الله به من الآيات، وبما أُعطِي جميع الأنبياء من ربِّهم .
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أي: لا نُفرِّق بين أحدٍ منهم وآخَرَ في الإيمان، فنؤمِن ببعضٍ ونكفُر ببعض، لكن نؤمِن بهم جميعًا، وهذا تعريضٌ باليهود والنَّصارى .
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
أي: ونحن للهِ مستسلِمون ظاهرًا وباطنًا، منقادُون بالطاعة، مُتذلِّلون بالعبوديَّة، لا نَدين بغير دِين الإسلام .
وقد جاءَ التصريحُ في القرآن بأنَّهم امتَثلوا الأمْر في قوله سبحانه: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] ، وجاء ذِكرُ جَزائِهم على ذلك في قولِه: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 152] .
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
أي: ومَن يَطلُبْ دينًا غير الإسلام ليَدِينَ به، فلن يُقبَلَ منه ذلك الدِّينُ، وهو مردودٌ عليه .
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
أي: خسِرَ ثوابَ الله ونعيمَه، وصار إلى عذابِه، وبخَس نفْسَه حظَّها من رحمة الله؛ لأنَّه يَعملُ عملًا لن يُقبَل منه

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ: بيانُ أنَّه ليس في الدِّينِ الإسلاميِّ عصبيَّة
.
2- فائدةُ الاختصاص في قوله تعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أنَّه لا يَنبغي أن نستسلم لأحدٍ استسلامًا يُخالفُ الاستسلامَ لله عزَّ وجلَّ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- مَن ابتغى غيرَ دِين الله، كمَنْ آَثَرَ النُّظُمَ والقوانينَ المخالفةَ لشرعِ الله تعالى، فإنَّه مستحقٌّ لهذا التوبيخِ العظيم،كما في قوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
.
2- عبَّر بالطَّلبِ في قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ- لأنَّ معنى تَبْغُونَ: تَطلُبونَ، وهو هنا بمعنى: تَدينون؛ لأنهم مُتلبِّسون بدِينٍ غيرِ دِين الله لا طالِبُوه-؛ إشعارًا بأنَّهم في كلِّ الوقتِ باحثون عن الدِّين ومُستخرِجوه ومُبتغوه .
3- تشريفُ هذا الدِّين الَّذي شرَعه الله؛ لأنَّ اللهَ أضافَه إلى نفْسه، فقال: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ .
4- في قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، إقامةُ الحُجَّة على أنَّه لا يَليق بالإنسان أن يَبغيَ دِينًا غير دِين الله، وهو مربوبٌ مملوكٌ لله تعالى .
5- قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا.. الآية جملة اعتراض واستئناف لتلقين النَّبيِّ عليه السَّلام والمسلمين كلامًا جامعًا لمعنى الإسلام؛ ليدوموا عليه، ويُعلن به للأمم، نشأ عن قوله: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ .
6- وجوب الإقرار بالإيمان باللِّسان، كما هو واجب بالقلب؛ لأنَّ قوله: قُلْ يعني: باللِّسان المعبِّر عمَّا في القلب .
7- في تقديم قوله: آمَنَّا بِاللَّهِ، وجعْل ما بعده معطوفًا عليه، دليلٌ على أنَّ الإيمان بالله هو أصل كلِّ شيء، ومقدَّم على كلِّ شيء .
8- لَمَّا جاء الجمْع في قوله: وَالنَّبِيُّونَ دون التخصيص، جاء بالإيتاء دون الإنزال، من أجْل أن يشمل الآيات الَّتي قد يكون أُعطيها بعض النبيِّين .
9- في قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ .. الآية [آل عمران: 74]، ترتيبٌ بديعٌ حسنٌ؛ حيث قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمانِ بالأنبياء؛ لأنَّه أصلُ الإيمان بالنبوةِ، وفي المرتبةِ الثانية ذكر الإيمانَ بما أنزل عليه؛ لأنَّ كتبَ سائرِ الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها، فلا سبيلَ إلى معرفةِ أحوالها إلا بما أنزل اللهُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فكان ما أنزل على محمدٍ كالأصلِ لما أنزل على سائرِ الأنبياء؛ فلهذا قدَّمه عليه، وفي المرتبةِ الثالثةِ ذكر بعضَ الأنبياءِ، وهم الأنبياءُ الذين يعترف أهلُ الكتابِ بوجودهم، ويختلفون في نبوَّتهم .
10- لَمَّا قال الله في آخر الآية المتقدمة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أتْبعه بأن بيَّن في هذه الآية أنَّ الدين ليس إلَّا الإسلام، وأنَّ كلَّ دين سوى الإسلام فإنَّه غير مقبول عند الله .
11- قال تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ولم يقل: (فلن يَقبل الله منه)؛ ليعُمَّ الرَّفض والرَّد من الله عزَّ وجلَّ، ومن الرَّسول، ومن المسلمين؛ ولهذا لا يجوز للمسلمين أنَّ يُقِرُّوا أحدًا على دِين خِلاف شريعة الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ: الاستفهام للتوبيخ والتَّحذير، واستنكارًا أن يفعلوا ذلك
.
- وفيه تقريرٌ أنَّهم يفعلونه، وموضِع الهمزة هو لفظةُ (يَبْغُونَ)؛ تقديره: (أَيبغون غير دين الله)، وقدَّم المفعولَ الذي هو (غَيرَ) على فِعله يَبْغُونَ؛ لأنَّه أهمُّ من حيثُ إنَّ الإنكارَ الذي هو معنى الهمزة متوجِّهٌ إلى المعبود الباطل، وأمَّا الفاء فلعطفِ جُملةٍ على جملة .
- قوله تعالى: يَبْغُونَ: فيه التفاتٌ من الخِطاب إلى الغَيبة ؛ إعراضًا عن مخاطبتِهم إلى مخاطبةِ المسلمين بالتعجُّبِ من أهلِ الكتاب .
- وكله تفريعٌ؛ ذَكَر أحوالَ خلَف أولئك الأُمم كيف اتَّبعوا غيرَ ما أُخذ عليهم العهد به؛ والاستفهام حينئذٍ للتعجُّب .
2- قوله تعالى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ: هذا خبرٌ فيه تعريضٌ باليهود والنَّصارى؛ لتفريقِهم بين الأنبياءِ، وحُذِف المعطوفُ وتقديره: لا نُفرِّق بين أحدٍ وآخَر .
3- قوله تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ: خبرٌ متضمِّن لمعنى التهديدِ العظيم، والوعيدِ الشديد- على اعتبار الجملة مستأنفة- ويجوز أنْ تكون الجملةُ معطوفةً على الجملةِ مِن قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ فتكون حالًا أيضًا، ويكون المعنى أنَّه نعَى عليهم ابتغاءَ غير دِين مَن أسلم له جميعُ مَن في السَّموات والأرض طائعين ومُكرَهين، ومَن مرجعُهم إليه .
4- قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ: فيه خطابُ المفردِ بلفظِ الجمْع؛ تعظيمًا له .
5- قوله تعالى: وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ: فيه إيجازٌ لمناسبةٍ بديعة، حيث جاءَ التعبيرُ هنا بغير إعادة (وما) كما في قوله في سورة البقرة: وَمَا أُوتِيَ النَّبيُّونَ [الآية: 136]؛ لأنَّ التي في البقرة لفظُ الخطابِ فيها عامٌّ، ومِن حُكمِ خطابِ العامِّ البَسطُ دون الإيجاز، بخِلافِ الخِطاب هنا؛ فإنَّه خاصٌّ؛ فلذلك اكتفَى فيه بالإيجازِ دون الإطناب .
6- قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: فيه مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيث عدَّى أُنْزِلَ في هذه الآية بحرفِ الاستعلاء (على)، وفي سورةِ البقرة عدَّى الفِعل بحرف الانتهاء (إلى)؛ وذلك لوجودِ المعنيين جميعًا؛ لأنَّ الوحيَ يَنزل من فوقُ، ويَنتهي إلى الرُّسُلِ، فجاءَ تارةً بأحدِ المعنيين، وأخرى بالآخَر؛ تفنُّنًا في الفصاحة .
وقيل: لأنَّ الأولى (في البقرة) خِطابٌ للمسلمين، والثانية (التي هنا في آل عمران) خِطابٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، و"إلى" يُنتهَى بها من كلِّ جهة، و"على" لا يُنتهى بها إلَّا من جهةٍ واحدة، وهي العلوُّ، والقرآن يأتي المسلمين من كلِّ جِهة يأتي مبلِّغُه إيَّاهم منها، وإنما أُتي النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من جِهة العلوِّ خاصَّةً، فناسَب قوله: عَلَيْنَا؛ ولهذا أكْثَر ما جاء في جِهة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بـ "على"، وأكثر ما جاء في جِهة الأمَّة بـ"إلى" .
- قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ: وحَّد الضَّميرَ في قُلْ وجمَع في آمَنَّا؛ لوجوه :
منها: أنَّه تعالى حين خاطبَه، إنَّما خاطبه بلفظِ الوحدان، وعلَّمه أنَّه حين يُخاطبُ القومَ يخاطبُهم بلفظِ الجمْع على وجهِ التعظيم والتفخيم.
ومنها: أنَّه خاطبه أولًا بخِطاب الوحدان؛ ليدلَّ هذا الكلامُ على أنَّه لا مُبلِّغَ لهذا التكليفِ من الله إلى الخَلق إلَّا هو، ثم قال: آمنَّا؛ تنبيهًا على أنَّه حين يقولُ هذا القولَ فإنَّ أصحابه يُوافقونه عليه.
ومنها: أنَّ الجمعَ في قوله: آمَنَّا بعدَ الإفراد في قُلْ؛ لكونِ الأمرِ عامًّا، والإفراد لتشريفِه عليه الصَّلاة والسلام، والإيذانِ بأنَّه أصلٌ في ذلك، أو الأمْر خاصٌّ بالإخبارِ عن نفْسه الزكيَّة خاصَّة.
والجمْع لإظهارِ جلالةِ قدْره ورِفعة محلِّه بأمره بأنْ يَتكلَّم عن نفْسه على دَيدنِ الملوك.
7- قوله تعالى: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى: فيه إيثارُ الإيتاءِ على الإنزالِ الخاصِّ بالكتابِ، وتخصيصُهما بالذِّكر مع دُخولِهما فيما سبَق؛ لأنَّ الكلامَ مع اليهود والنصارى .
8- قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ: فيه تقديمُ المُتعلِّق على المتعلَّق؛ لإفادة الحَصْر، أي: ونحن له لا لغيرِه مُسلِمون .
9- في قوله تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ: أتَى بالفاء الرابطة؛ إعلامًا بأنَّ ما بعدها مسبَّبٌ عمَّا قبلها، ومربوطٌ به فقال: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. وأشْعرَ ترتيبُ هذا على السَّبب بأنَّه يُرجى زوالُ السَّبب؛ لأنَّه ممَّا عرَض للعبد كما جرَى في الرِّدَّة في خِلافة الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه؛ فإنَّه رجَع إلى الإسلامِ أكثرُ المرتدِّين، وحسُنَ إسلامُهم .
- ومناسبةُ الإتيانِ بالفاء هنا، مع ورودِها بغير فاء في آية أخرى لَنْ تُقْبَلَ [آل عمران: 90] : أنَّ الفاء مُؤذنةٌ بأنَّ الكلام بُني على الشَّرط والجزاء. وأنَّ سببَ امتناع قَبول الفِدية هو الموتُ على الكُفر. وترْك الفاء مُؤذِنٌ بأنَّ الكلام مبتدأ وخبر، ولا دليلَ فيه على التسبيبِ .
10- قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: الجملة حاليةٌ مفيدةٌ لتأكيدِ الإنكار .
11- في قوله تعالى: الإسْلَامِ: كرَّر الإسلامَ في هذا السِّياق كثيرًا؛ لكونه في حيِّز الميثاقِ المأخوذِ بمتابعةِ الرَّسول المصدَّق؛ حَثًّا على تمامِ الانقيادِ له .

=============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (86- 89)
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر الله تبارَك وتعالَى أنَّه لا يَهدي قومًا ارتدُّوا على أعقابِهم، وكفَروا بعدَ إيمانِهم وشهِدوا أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حقٌّ، وجاءتهم البيِّناتُ القاطعاتُ والبراهين الشاهدةُ على صِدقِه؛ فكيف يَستحقُّ هؤلاء الهداية؟! فالله عزَّ وجلَّ لا يَهدي إلى الحقِّ الَّذين ظلموا أنفسَهم، بترْكهم الحقَّ بعدَ معرفتهم له، واتِّباعهم الباطلَ مع وضوح بُطلانه. ثمَّ أخبر الله تعالى عن عُقوبةِ هؤلاء الظَّالمين في الدُّنيا والآخرة، وهي الطَّرد والإبعاد من رحمتِه، وأنَّ خلْقَه جميعًا من الملائكةِ والنَّاس يَلعنونهم، وأنَّهم خالدون في هذه اللَّعنةِ والعقوبة، لا يُخَفَّف عنهم من العذاب شيئًا، ولا هم يُمْهَلون أو يُؤَخَّرون.
ثم استثنى اللهُ تعالى مَن تابَ ورجَع إلى الله، وعمِل الصالحات، فهو يَغفر ذَنبَه، ويستُر عيبَه، ويَتجاوز عن خطاياه، وذلك من لُطفه سبحانه وبرِّه، ورأفته ورحمته بخَلقه.
تفسير الآيات:

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا عظَّم اللهُ تعالى أمْر الإسلام والإيمان بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، أكَّد ذلك التعظيم بأنْ بيَّن وعيدَ مَن ترك الإسلام، فقال: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
؟!
سبب النُّزولِ:
عن ابن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما قال: كانَ رجلٌ منَ الأنصارِ أسلمَ ثمَّ ارتدَّ ولحِقَ بالشِّرْكِ ثمَّ تندَّمَ، فأرسلَ إلى قومِهِ: سلوا لي رسولَ اللَّهِ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، هل لي من توبةٍ؟ فجاءَ قومُهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد ندِمَ وإنَّهُ أمرنا أنَّ نسألَكَ: هل لَهُ من توبةٍ؟ فنزلَت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قولِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فأرسلَ إليهِ فأسلمَ .
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
أي: لا يَهدي اللهُ قومًا ارتدُّوا بعدَ أنْ آمنوا؛ فكيف يستحقُّون الهدايةَ وقد اختاروا الكُفر والضَّلال بعدَ أن عَرَفوا الحقَّ، ودخلوا في الإيمان ؟!
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
أي: وبعدَ أنْ أقرُّوا أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولُ الله إلى النَّاس حقًّا، صادقٌ فيما أخبر، عادلٌ فيما حَكم .
وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
أي: وجاءتْهم الحُجج من عند الله، وقامتْ عليهم الدلائلُ والبراهين الَّتي تُبيِّن صِدْقَ ما جاء به الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ لا يُوفِّق للحقِّ الَّذين ظلموا أنفسَهم فتركوا الحقَّ بعدما عرَفوه، واتَّبعوا الباطل مع عِلمهم ببُطلانِه .
ثم أخبَر عن عقوبةِ هؤلاءِ المعانِدين الظالمين الدُّنيويَّة والأخرويَّة، فقال:
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
أي: هؤلاء الَّذين كفَروا بعد إيمانِهم، وشهِدوا أنَّ الرَّسول حقٌّ وجاءَهم البيِّنات- ثوابهم ومكافأتُهم طَرْدُ الله لهم، وإبعادُهم من رحمتِه، ولعْنُ خلْقِه لهم من الملائكةِ والنَّاس جميعًا .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
خَالِدِينَ فِيهَا
أي: ماكثِينَ في عُقوبةِ الله ولعنتِه .
لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
أي: لا يُنْقَصون من العذابِ شيئًا، ولا تُهَوَّن عليهم العقوبة .
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
أي: ولا هم يُمْهَلون ولا يُؤخَّرون ولا يؤجَّلون .
ثم استثنى- جلَّ ثناؤه- الَّذين تابوا من هؤلاء الَّذين كفروا بعد إيمانهم، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
إلَّا الَّذين رجَعوا إلى الله، وراجَعوا الإيمانَ بالله ورسولِه من بعد كُفرِهم وارتدادِهم، وأصْلَحوا ما أَفْسَدوا، وعمِلوا الصَّالحات .
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أي: فإنَّ اللهَ يَستُر عليهم الذُّنوب، ويتجاوزُ عنها، ويترُكُ العقوبةَ عليها، ويتعطَّف عليهم بالرَّحمة، الَّتي تَقتضي الإحسانَ والإنعام

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا: استعظَم اللهُ كُفرَ القوم؛ لأنَّه حصل بعد خِصالٍ ثلاث؛ وهي: الإيمان، والشَّهادة بكون الرَّسول حقًّا، وبعدَ مجيءِ البيِّنات؛ فيكون الكفرُ بعدَ هذه الأشياء أقبحَ؛ لأنَّ مثلَ هذا الكفرِ يكون كالمعاندةِ والجحود
.
2- في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، إشارةٌ إلى أنَّ الجزاء من جِنس العمل، فإنَّ هؤلاء لَمَّا ارتكبوا ثلاثَ جرائم، أو ثلاثةَ أمورٍ في كُفرهم، كان عليهم لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاس، ثلاثٌ بثلاثٍ .
3- زلَّة العالم أقبحُ من زلَّة الجاهل؛ يُستفادُ ذلك من قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ .
4- في قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: دليلٌ على أنَّ التَّوبة تَجُبُّ ما قبلها ، أي: تقْطَعُ وتَمْحو ما كانَ قَبْلَها مِنَ الكُفرِ والمعاصي والذُّنوب.
5- في قوله تعالى: وَأَصْلَحُوا: دليلٌ على أنَّ التوبة وحدها لا تَكفي؛ إذ لا بدَّ معها من الإصلاح، وهذا واجبٌ في كلِّ مَن يتعدَّى جُرْمُه إلى غيره، أنْ يقومَ بإصلاحِ ما ترتَّب على هذا الجرم .
6- يَتبيَّن من قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا أنَّ التَّوبة الَّتي لا تأثيرَ لها على سلوكِ الإنسانِ وحالِه وأعمالِه، لا شأنَ لها ولا قيمةَ في نظرِ الدِّين؛ ولذلك جرى القرآنُ على عطفِ العملِ الصَّالح عليها عند ذِكرِها أو وصْفِها بالنَّصوح

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- يُستفاد مِن قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ: أنَّ مَن ضلَّ عن بصيرةٍ، فإنَّه يَبعُد أن يُهْدَى، ومَن فَسقَ عن بصيرةٍ فإنَّه يبعُد أنَّ يكونَ من العدول
.
2- لَمَّا كان المقيمُ في الشدَّة قد تَنقُص شدَّتُه إذا طالتْ، نفَى ذلك بقوله: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ .
3- أشارَ اللهُ تعالى إلى ما سبَقَ من الكُفر بقوله: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وهي إشارةُ البعيد؛ وذلك لانحطاطِ مَرتبتِه .
4- في الجمْعِ بين الغفور والرَّحيم زيادةُ معنى على ما يَتضمَّنه الاسمان، وهو أنَّ الله تعالى قد جمَع بين المغفرة الَّتي بها زوالُ المكروه، وآثار الذنب، والرَّحمة الَّتي بها حُصولُ المطلوبِ وهو النِّعمةُ والإحسان، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ: هذا استئنافٌ ابتدائيٌّ يُناسب ما سبَقه من التنويهِ بشَرف الإسلام، وكَيْفَ استفهامٌ إنكاريٌّ، معناه النَّفي، والمقصودُ استبعاد لأنْ يُرشدَهم الله للصَّواب ويوفِّقهم؛ فإنَّ الحائد عن الحقِّ بعدَما وضَح له، منهمكٌ في الضَّلال، بعيد عن الرَّشاد، وإنكارُ أنْ تحصُل لهم هدايةٌ خاصَّة، وهي إمَّا الهدايةُ الناشئةُ عن عِنايةِ الله بالعبدِ ولُطفه به، وإسنادُها إلى الله ظاهر، وإمَّا الهدايةُ الناشئة عن إعمالِ الأدلَّة والاستنتاجِ منها، وإسنادُها إلى الله؛ لأنَّه موجِدُ الأسباب ومُسبَّباتِها
.
- وفيه: تأكيدٌ للتعظيم السابق وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ، حيث بيَّن وعيدَ مَن ترَك الإسلام، وأكَّده هنا بقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ .
2- قوله تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: فيه تعميمٌ للحُكم بعد ذِكر بعض أفراده؛ فإنَّه قال في أوَّل الآية: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا... وقال في آخرها: وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ فقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ مختصٌّ بالمرتدِّين، ثم إنَّه تعالى عمَّم ذلك الحُكم في المرتدِّ، وفي الكافر الأصلي، فقال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ وسمَّى الكافر ظالِمًا؛ لأنَّ الشِّرك ظُلمٌ عظيم .
3- في قوله: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ... أتى باسم الإشارةِ أُولَئِكَ على وجهِ البُعد؛ إشارةً إلى انحطاطِ مرتبتهم .
4- قوله تعالى: فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ: فيه تعليلٌ لِمَا دلَّ عليه الاستثناءُ ، مع ما فيه من تأكيد الخبر بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة، والمبالغة في صِيغةِ فعول وفعيل غَفُورٌ رَحِيمٌ.

===================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (90-91)
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
المَعنَى الإجماليُّ:

يَتوعَّد اللهُ تبارَك وتعالَى الَّذين كفروا وارتدُّوا بعد إيمانهم، ثمَّ ازدادوا كُفرًا واستمرُّوا عليه إلى أنْ جاءَهم الموت، بأنَّه لن يَقبلَ لهم توبةً؛ فهُم الَّذين خرَجوا عن المنهج الحقِّ إلى طريق الغيِّ والضَّلال في أقوالهم وأفعالهم.
ثم يُخبر تعالى بأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وهم متلبِّسون بالكفرِ غيرَ تائبين منه، فإنَّه لن يَقبل من أحدٍ منهم شيئًا عمِله، ولو أَنفق تقرُّبًا إليه مِلءَ الأرض ذهبًا، أو افتدَى نفْسَه به، فإنَّه لن يقبلَ منه، بل أُولَئِكَ لَهُمْ عند الله في الآخرة عَذَابٌ موجِعٌ مؤلم، ولن يَجِدوا ناصرًا ينصرُهم ويُنقذهم من عذابِ الله.
تفسير الآيتين :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رغَّبَ في التوبة في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، رهَّب من التواني عنها
، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ....
سببُ النُّزول:
عَنِ ابنِ عباسٍ أنَّ قومًا أَسلَموا ثمَّ ارتدُّوا ثمَّ أَسلَموا ثمَّ ارتدُّوا، فأرْسلوا إلى قومِهم يَسألَونَ لهم، فذَكروا ذلك لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنزلَتْ هذه الآيةُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
أي: إنَّ الَّذين كفروا وارتدُّوا بعدَ إيمانهم .
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
أي: ثمَّ أقاموا على كُفرِهم واستمرُّوا عليه إلى الممات، وتمادَوْا في ضلالهم، وأخَّروا التوبةَ إلى حُضور الموت- فلن يَقبلَ اللهُ لهم توبةً .
كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] .
وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
وهؤلاء الَّذين كفروا بعدَ إيمانهم، ثمَّ ازدادوا كُفرًا، هم الَّذين ضلَّوا سبيل الحقَّ، وأخطؤوا الطَّريق القويم في الأقوال والأفعال .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ
أي: إنَّ الَّذين كفَروا وماتوا على الكُفر .
فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
أي: مَن مات على الكُفرِ، فلن يَقبَل اللهُ منه شيئًا مِن عَمِله، ولو كان أنفقَ مِلْءَ الأرض ذهبًا تقرُّبًا إلى الله، وكذلك لو افتَدَى نفْسَه من الله بمِلْءِ الأرض ذهبًا ما قَبِل الله منه .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعَانَ كان في الجاهلِيَّة يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطعِمُ المِسكينَ؛ فَهَلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قال: ((لا يَنْفَعُه؛ إنَّه لَمْ يَقُلْ يومًا: رَبِّ اغفِرْ لي خَطيئَتي يومَ الدِّين )) .
وعن أنسِ بن مالك رضِي اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((يقولُ الله تعالى لأَهونِ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ: لو أنَّ لك ما في الأرضِ من شيءٍ أكُنتَ تفتدي به؟ فيقولُ: نعمْ. فيقولُ: أردتُ منكَ أهونَ من هذا، وأنتَ في صُلبِ آدمَ: ألَّا تُشرِكَ بي شيئًا، فأَبَيْتَ إلَّا أنْ تُشرِكَ بي )) .
وصرحَّ في مواضعَ أُخَرَ بأنَّه لو زِيد بمثلِه لا يُقبَل منه أيضًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [المائدة: 36] ، وبيَّن في مواضع أُخَر، أنَّه لا يُقبل فداءٌ في ذلك اليوم منهم بتاتًا كقوله: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد: 15] .
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
هؤلاء الَّذين كفروا وماتوا وهم كُفَّار، لهم عند اللهِ في الآخِرة عذابٌ موجِعٌ مؤلِم .
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
وليس لهم أحدٌ ينصُرهم ويَستنقذُهم من عذابِ الله، أو يُجيرُهم من أليمِ عِقابِه

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا: دليلٌ على أنَّ ازدياد الكُفرِ عبارةٌ عمَّا يُنمِّيه ويقوِّيه من الأعمال الَّتي يقاوم بها الإيمان، فالكفرُ يَزداد قوَّةً واستقرارًا وتمكنًا بالعمل بمقتضاه، كما أنَّ الإيمانَ كذلك
.
2- يُؤخذ من قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أنَّ قَبولَ التوبة المستلزِم لمغفرة الذَّنب ليس من قَبيل العطاء الجُزاف، وإنَّما يكون بموافقةِ سُنن الله في الفِطرة الإنسانيَّة السليمة، فمقتضاها أنْ يُحدِث لها العِلمُ بقُبح الذنبِ وسوءِ عاقبتِه ألَمًا يَحمِلُها على ترْكه ومَحْو أثره، بعمل صالح يُحْدِثَ فيها أثرًا مضادًّا لذلك الأثر .
3- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ: دليلٌ على أنَّ السيِّئات يُنتِج بعضها بعضًا، وخصوصًا لِمَن أَقدم على الكُفر العظيم، وترَكَ الصَّراط المستقيم، وقد قامتْ عليه الحُجَّة، ووضَّح اللهُ له الآياتِ والبراهين .
4- دلَّ قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ... على أنَّ الأمر يسيرٌ على المؤمن؛ لأنَّه يَفتدي من عذاب الله بما هو أقلُّ مِن مِلْء الأرض ذهبًا، وهو الإيمانُ والعملُ الصالح، وأداءُ ما يجِب عليه من الحقوق الماليَّة .
5- مَن لم تَرتَقِ رُوحُه في الدُّنيا إلى درجةِ الإيمان الصَّحيح؛ فإنَّها لا تَرتقي في الآخرة من الهاويةِ إلى درجةٍ من الدَّرجات العُلا في الجنَّة، ولو افتدَى بمِلْءِ الأرضِ ذهبًا في الآخرة، على فرْض أنْ يملكَه، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- لَمَّا كان الكُفر-لفظاعتِه وقُبحه وشَناعته- جديرًا بالنَّفْرة عنه، والبُعد منه، نبَّه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعِه؛ فكيف بالتَّمادي عليه؟! فكيف بالازديادِ منه؟! وعبَّر عن ذلك بأداة التَّراخي فقال: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا
.
2- أنَّ المرتدَّ إذا بقي على رِدَّته، فإنَّه لا تُقبَل توبتُه عند الموت؛ لقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وهذا لا يكون إلَّا بالردَّة .
3- أنَّه كلَّما تمادَى الإنسان في الكفر ولم يتُبْ، فإنَّه يزداد؛ لأنَّ كلَّ وقت يمرُّ عليه يزداد وزرًا إلى وزره، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران: 90]

.
بلاغة الآيتين:

1- في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا: عبَّر عن ذلك بأداة التراخي (ثمَّ)؛ إشارةً إلى تمادِيهم على ذلك، وعدَم مبادرتِهم بالتوبةِ
.
2- قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ: فيه مناسبةٌ بديعة، حيث لم تَدخُل: الفاء في: لَنْ تُقْبَلَ هنا، ودخلت في قوله: فَلَنْ يُقْبَلَ... في الآية بعدَها؛ لأنَّ الفاء مؤذِنةٌ بالاستحقاقِ بالوصف السَّابق، وفي الآيةِ بعدها قال: وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، وهنا لم يُصرِّح بهذا القيد. ولَمَّا كانوا لا يتوبون إلَّا عند إشرافِهم على الهلاك، كنَّى عن عدمِ توبتِهم بعدمِ قَبولِها؛ تغليظًا في شأنهم، وإبرازًا لحالهم في صورة حالِ الآيسين من الرحمة، أو لأنَّ توبتَهم لا تكونُ إلَّا نفاقًا؛ لارتدادِهم وازديادِهم كفرًا؛ ولذلك لم تدخُلْ فيه الفاء .
3- قوله تعالى: وَلَوِ افْتَدَى بِهِ: في فائدةِ ذِكر الواوِ في قوله: وَلَوِ وجوه :
منها: أنَّها للعطف، والتقدير: لو تقرَّب إلى الله بمِلْءِ الأرض ذهبًا، لم ينفعْه ذلك مع كُفره، ولو افتدَى من العذاب بمِلْء الأرض ذهبًا لم يُقبل منه، وهذا أَوْكَدُ في التَّغليظ؛ لأنَّه تصريحٌ بنفي القَبول من جميع الوجوه.
ومنها: أنَّ الواو دخلتْ لبيان التفصيل بعدَ الإجمال الذي في قوله: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا؛ لاحتمالِه لوجوهٍ كثيرة، فنصَّ على نفْي القَبول بجهة الفِدية.
ومنها: أنَّها مبالغةٌ في إظهارِ غضَب الربِّ سبحانه عليهم؛ حيث حَكَم تعالى بأنَّه لا يُقبل منهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو كان واقعًا على سبيل الفداء؛ تنبيهًا على أنَّه لَمَّا لم يكن مقبولًا بهذا الطريق، فبأنْ لا يكونَ مقبولًا منه بسائرِ الطُّرق أَوْلى.
4- في قوله تعالى: مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا: فيه إيجازٌ بالحذف؛ إذ مِن المعلوم أنَّ الكافرَ لا يملك يومَ القيامة نقيرًا ولا قِطميرًا، وحتى لو مَلَكَهما فلا يَنفعانِ أَلْبَتَّةَ في الدار الآخِرة، فالتقدير: أنَّهم إذا ماتوا على الكُفر، فلو أنَّهم كانوا قدْ أنفقوا في الدُّنيا ملءَ الأرض ذهبًا، لن يَقبل اللهُ تعالى ذلك منهم؛ لأنَّ الطاعةَ مع الكفرِ لا تكون مقبولةً. أو يكون الكلامُ وقَع على سبيلِ الفرْض والتقدير؛ فالذهبُ كنايةٌ عن أعزِّ الأشياء، والتقدير: لو أنَّ الكافرَ يومَ القِيامة قدَرَ على أعزِّ الأشياء ثُمَّ قدَر على بذْله في غايةِ الكثرة، لعجَز أن يتوسَّل بذلك إلى تخليصِ نفْسِه من عذابِ الله .
5- قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: فيه مبالغةٌ في التحذير، وتأكيدٌ على عدمِ العفوِ عنهم، وإقناطٌ؛ لأنَّ مَن لا يُقبل منه الفداء، ربَّما يُعفَى عنه تكرمًا .
6- قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي وقوله: لَا يَهْدِي: فيه تكرار ؛ للتأكيد. أو يكون قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ مختصًّا بالمرتدِّين، ثمَّ إنَّه تعالى عمَّم ذلك الحُكمَ في المرتدِّ، وفي الكافر الأصليِّ، فقال: وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ، وعلى هذا؛ ففيه ذِكرُ حُكمٍ عامٍّ بعد حُكمٍ خاصٍّ؛ وهو مفيدٌ للتأكيد أيضًا.
7- قوله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ: فيه تأكيدٌ بضميرِ الفَصْل هُمْ .
8- قوله تعالى: عَذَابٌ أَلِيمٌ: فيه تنكيرُ عَذَابٌ؛ للتهويلِ. وفيه زيادةُ مبالغةٍ بوصْفِه بـأَلِيم مع العُدولِ من مُفعِل (مؤلم) إلى فَعيل أَلِيم .
9- قوله تعالى: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ: الإشارة بـأُولِئَكَ وما فيه مِن معنى البُعد؛ للتنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بما يرِدُ بعدَ اسمِ الإشارةِ من الحُكم عليهم .
10- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ: فيه توكيدٌ لفظيٌّ بالمرادف، وليُبنى عليه التفريعُ بقوله: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ...

.==============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآية (92)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
المَعنَى الإجماليُّ:

يَحثُّ الله تبارَك وتعالَى عبادَه المؤمنين على الإنفاق والبَذل، فيقول لهم: لن تُدركوا البرَّ- وهو الخيرُ الكثير من الله- ولن تَبلغوه، حتَّى تنفقوا وتتصدَّقوا من نفائس أموالكم الَّتي تحبُّها قلوبُكم، وتتعلَّق بها نفوسُكم، ومهما تُنفقوا من شيءٍ مِن أموالِكم، فإنَّ الله يَعْلمُه، فيَجزي صاحبَه عليه في الآخِرة الجزاءَ الأَوْفى.
تفسير الآية:

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه في الآيةِ السابقةِ أنَّ الَّذين كفروا لن يُقبل من أحدِهم أعظمُ ما يُنفقه لتخليصِ نفْسِه في الآخِرة ممَّا يَلحَقه من الشدائد، حضَّ المؤمنين على الإنفاق، وبيَّن أنَّ الأحبَّ منه أجدرُ بالقَبول؛ وأنَّه يَبلُغ بصاحبه إلى مرتبة البرِّ
، فقال:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
أي: لنْ تُدركوا الخيرَ الكثيرَ من اللهِ بتفضُّله عليكم، بإدخالِكم الجَنَّةَ، وصَرْفِ العذاب عنكم- الَّذي يُطلَب بطاعة الله وعبادته- حتَّى تُنفقوا وتتصدَّقوا من أموالِكم الَّتي تحبُّها قلوبُكم .
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
أي: ومهما تُنفقوا من شيءٍ من أموالِكم، فإنَّ الله ذُو عِلم به، ويُجازي صاحبَه عليه جزاءَه في الآخِرة، ويُثيبه على ما أَنفَقَ .
عن أنسِ بن مالكٍ رضِي اللهُ عنه، قال: كان أبو طلحةَ أَكثرَ أنصاريٍّ بالمدينة مالًا، وكان أحبَّ أموالِه إليه بَيْرَحاءُ- وكانتْ مستقبلةَ المسجِد، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدخُلها ويَشرَب من ماءٍ فيها طيِّب- قال أنس: فلمَّا نزلت: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ، قال أبو طلحة: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيرَحاءُ، وإنَّها صدقةٌ لله أرجو بِرَّها وذُخرَها عند الله تعالى؛ فضعْها يا رسول اللهِ حيث أراك الله تعالى، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((بَخٍ، ذاك مالٌ رابحٌ، ذاك مالٌ رابحٌ، وقد سمعتُ، وأنا أرَى أن تجعلَها في الأقربِينَ ))، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول اللهِ، فقَسمها أبو طلحة في أقاربِه وبَنِي عمِّه .
وعنِ ابنِ عُمَرَ رضِي اللهُ عنهما، قال: أصابَ عُمَرُ أرضًا بِخَيبرَ، فأَتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْتأمِرُه فيها، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إِنِّي أَصبْتُ أرضًا بخَيبرَ، لم أُصِبْ مالًا قَطُّ هو أَنْفَسُ عندي منه؛ فما تَأْمُرُني به؟ قالَ: ((إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَها، وَتَصَدَّقْتَ بها، قال: فَتَصَدَّقَ بها عُمَرُ؛ أَنَّهُ لا يُباعُ أَصْلُها، ولا يُبْتاعُ، ولا يُورَثُ، ولا يُوهَبُ، قال: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ في الفُقراءِ، وفي القُرْبَى، وفي الرِّقابِ، وفي سَبيلِ اللهِ، وابنِ السَّبيلِ، والضَّيْفِ... )) الحديث

.
الفوائد التربوية:

1- تحريضُ المؤمنين على نَيْل البِرِّ بتقديم محبَّة الله تعالى على محبَّة الأموال، فبالنُّزول عمَّا يحبُّون، وببذل الطَّيِّب من المال، سخيَّةً به نفوسُهم، تحصُل تزكيةُ النَّفْس من بقيَّة ما فيها من الشُّحِّ، والتَّحرُّر من استرقاقِ المال، ومن حبِّ الذَّات
.
2- الشيء الَّذي تتعلَّق به النَّفسُ كثيرًا هو الَّذي تَشُحُّ النفس في إنفاقه؛ لذا كان إنفاقُه علامةً على قوَّة الإيمان؛ لأنَّه لا يُدفع القويُّ إلَّا بما هو أقوى منه، كما قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ .
3- في الإنفاقُ من المال المحبوبِ صلاحٌ عظيمٌ للأمَّة؛ إذ تجود أغنياؤها على فُقرائِها بما تَطمَح إليه نفوسُهم من نفائسِ الأموال، فتشتدُّ بذلك أواصرُ الأُخوَّة، ويَهنأ عيشُ الجميع .
4- تحرِّي الإخلاصِ في النَّفقة؛ فالله لا يَخفَى عليه شيءٌ من مقاصد المنفِقين، ولا يَعْزُب عنه شيءٌ منه، حتَّى يُجازي صاحبَه عليه جزاءَه في الآخِرة، قال تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، إشارةٌ إلى أنَّ افتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرِّ- إيذانٌ بأنَّ شرائع الإسلام تدور على محور البِرِّ، وأنَّه معنًى عظيمٌ لا يَخْرِم حقيقتَه إلَّا ما يُفضي إلى نقْض أصلٍ من أصول الاستقامة
.
2- المقصودُ من قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أمران: أولهما: التحريضُ على الإنفاقِ، والتنويهُ بأنَّه من البرِّ، وثانيهما: التنويهُ بالبرِّ الَّذي الإنفاقُ خَصلةٌ من خِصاله .
3- في قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ إثباتُ الأسباب، حيث إنَّ الله أثبتَ للبرِّ سببًا، وهو الإنفاق ممَّا نحبُّ .
4- كلمة (من) في قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض؛ فمِن فضْل الله تعالى علينا أنِ اكتفى منَّا في نَيل البرِّ بأن نُنفق ممَّا نحبُّ، ولم يَشترطْ علينا أن ننفق جميعَ ما نحبُّ .
5- قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يُوهِم أنَّ إنفاقَ غير هذا المقيَّد غيرُ نافع، فأَتْبَعه بقوله: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ؛ ليُفيد تعميمَ أنواع الإنفاق، فلا يضيِّق عليكم، بل يُثِيبكم عليه .
6- يُؤخَذ من قوله: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: إثباتُ الجزاء، وأنَّ كلَّ إنسان سيُجازى بعمله؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ؛ لأنَّ المراد من إثبات العِلم إثباتُ ما يترتَّب عليه

.
بلاغة الآية:

1- قوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ: فيه- مع التأكيدِ بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة- كنايةٌ لطيفة، وتعريضٌ حسَنٌ؛ فهو خبَرٌ مرادٌ به الوعدُ والتبشيرُ بعِظَم الجزاء، والترغيبُ في إنفاق الجيِّد، والتحذيرُ عن إنفاق الرَّديء. والتقدير: وما تُنفقوا من شيءٍ فإنَّ الله به يُجازيكم، قلَّ أم كثُر؛ لأنَّه عليمٌ به لا يَخفَى عليه شيءٌ منه، فجَعَل كونه عالِمًا بذلك الإنفاقِ كنايةً عن إعطاء الثواب، والتعريضُ في مِثل هذا الموضع أبلغُ من التصريح
.
- وهو تعليلٌ لجوابِ الشَّرطِ واقعٌ موقِعَه، أي: فمُجازيكم بحَسَبه، جيدًا كان أو رديئًا؛ فإنَّه تعالى عليمٌ بكلِّ شيءٍ تُنفِقونه علمًا كاملًا بحيثُ لا يَخفَى عليه شيءٌ من ذاته وصِفاته .
- في قوله: بِهِ عَلِيمٌ قدَّم الجارَّ والمجرور على مُتعلِّقه؛ لفائدتين: الأولى لفظيَّة، وهي: مراعاةُ فواصلِ الآيات، والثانية معنويَّة، وهي: بيانُ الاعتناءِ بهذا المقدَّمِ حتَّى كأنَّ الله تعالى حصَرَ عِلمَه به .
2- قوله: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: تذييلٌ، قُصِد به تعميمُ أنواعِ الإنفاق، وتبيينُ أنَّ الله تعالى لا يَخفى عليه شيءٌ من مقاصِد المنفِقين، وقد يكونُ الشيءُ القليل نفيسًا بحسَب حال صاحبِه .

================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (93-94)
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
غريبُ الكَلِمات:

حِلًّا: أي: حلالًا، وحِلًّا في الأصْل مصدرٌ لحَلَّ يَحِلُّ، ويُطلق على الأشخاصِ مبالغةً؛ ولذلك يَستوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموع، والمذكَّرُ والمؤنَّث. وأصلُ الحَلِّ: فتْحُ الشَّيءِ، ومنه الحلالُ: ضدُّ الحرام، كأنَّه مِن حللتُ الشَّيءَ، إذا أبحتَه وأوسعتَه لأَمرٍ فيه

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر تعالى أنَّه في الزَّمنِ السَّابق لنُزول التَّوراة على موسى، كانتْ كلُّ أنواع الأطعمة حلالًا لبَني إسرائيل، إلَّا نوعًا واحدًا حرَّمه يعقوبُ على نَفْسه، ولم يُحرِّمه عليه اللهُ تبارَك وتعالَى، واقتَدَى به بنوه تقليدًا له، وهذا النَّوع هو لحومُ الإبل وألبانُها، وبعد نُزول التَّوراة حرَّم الله عليهم فيها ما شاء، وأَحلَّ لهم ما شاءَ وَفقَ حِكمتِه، فكان هذا نَسْخًا لِمَا سبَق مِن حِلِّه جميعَ الأطعمةِ ما عدا لحومَ الإبل وألبانها، ثم أمَر اللهُ نبيَّه أن يَطلُب مِن اليهود أنْ يأتوا بالتَّوراة ويقرؤوها، إنْ كانوا مُحِقِّين في دعواهم، وبعد أنْ أقام عليهم الله تعالى الحُجَّةَ، أَخبَرهم أنَّ مَن تَقوَّل على الله الكَذِبَ بعد ذلك، فأولئك هم الظَّالِمون.
تفسير الآيتين:

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوراة فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخبر اللهُ تعالى أنَّه لا يَنال المرءُ البرَّ إلا بالإنفاق ممَّا يحبُّ في قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ-فالمشروعُ في الإسلام هو الإنفاقُ في طاعةِ الله مما يُحِبُّه العبدُ ويَشتهيه؛ كما قال سبحانه: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة: 177] ، وقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان: 8] - ذكَر سبحانه عقبَ ذلك أنَّ يعقوبَ عليه السَّلام، قد حرَّم أحبَّ الأشياءِ إليه وترَكها لله تعالى- وكان هذا سائغًا في شَريعتهم- بجامعِ أنَّ كلًّا منهما فيه تركُ ما يحبُّه الإنسانُ وما يُؤثِرُه على سبيلِ التقرُّب به للهِ سبحانَه وتعالى
.
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة.
أي: إنَّ كلَّ أنواعِ الأطعمة كان أَكْلُها حلالًا لذُريَّة يعقوب عليه السَّلام، قبل نزولِ التَّوراة على موسى عليه السَّلام، عدا نوعًا واحدًا حرَّمه أبوهم يعقوبُ على نَفْسه، من غير أن يُحرِّمه اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، وهو لحومُ الإبل وألبانها، واتَّبعه اليهودُ على ذلك، فلمَّا نزلت التَّوراة بعدُ، حرَّم الله تعالى عليهم فيها ما شاء، وأحلَّ لهم فيها ما شاء وَفقِ حِكمته، فكان هذا نَسْخًا لِمَا سبَق مِن حِلِّه جميعَ الأطعمة لهم، سوى لحوم الإبل وألبانها .
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: ((حضَرتْ عِصابةٌ من اليهود رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسم، حدِّثنا عن خِلالٍ نسألُك عنها، لا يَعلمُهنَّ إلا نبيٌّ، فكان فيما سألوه: أيُّ الطَّعامِ حرَّم إسرائيلُ على نَفْسه قبل أن تُنزَّل التَّوراة؟ قال: فأَنشُدكم بالله الذي أَنزَل التَّوراةَ على موسى، هل تعلمون أنَّ إسرائيل (يعقوب عليه السَّلام) مَرِض مرضًا شديدًا فطال سَقَمُه، فنذَر لله نَذْرًا، لئن شفاه اللهُ مِن سَقَمه، ليُحرِّمنَّ أَحبَّ الشَّراب إليه، وأَحبَّ الطَّعام إليه، فكان أحبَّ الطَّعام إليه لُحمانُ الإبل، وأحبَّ الشراب إليه ألبانُها؟ فقالوا: اللهمَّ نَعَم! )) .
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّه قال أيضًا: ((أَقْبَلت يهودُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسم، أَخبِرنا عن الرَّعد ما هو؟ قال: مَلَكٌ من الملائكة مُوكَّلٌ بالسَّحاب، معه مَخاريقُ مِن نار يَسوق بها السَّحابَ حيث شاء الله، فقالوا: فما هذا الصَّوتُ الذي نَسمع؟ قال: زجْرُه بالسَّحاب إذا زجَره، حتى يَنتهيَ إلى حيثُ أُمِر، قالوا: صدقتَ، فأَخبِرنا عمَّا حرَّم إسرائيلُ على نَفْسه؟ قال: اشتكى عِرْق النَّسا، فلم يَجِد شيئًا يُلائمه إلَّا لحومَ الإبل وألبانها؛ فلذلك حرَّمها، قالوا: صَدقتَ )) .
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوراة فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ-: جِيئوا بالتَّوراة فاقرؤوها علينا بأنفسكم؛ حتى لا تتَّهِمونا بأنَّا حذَفْنا أو أَضفْنا شيئًا، فاقرؤوها، إنْ كنتم مُحِقِّين في دعواكم .
وهذا خبرٌ من الله عزَّ وجلَّ عن كَذِبهم؛ لأنَّهم لا يأتون أبدًا بما يَشهَد على صحَّة دَعواهم، فأَعلَم الله بكَذِبهم نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجعَل إعلامَه ذلك حُجَّةً عليهم؛ لأنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمِّيٌّ ومِن غير مِلَّتِهم، فكيف عَلِم بذلك لولا أنَّ الله تعالى هو الذي أَعلَمه إيَّاه بوحيٍ مِن عنده؟! فهذا مِن أعظم الحُجَج عليهم بأنَّه رسول الله تعالى إليهم صِدقًا، وأنَّ النَّسخ واقعٌ حقًّا .
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: فمَن تقوَّل على الله تعالى الكَذِبَ بادِّعاء أنَّ ما حرَّمه إسرائيلُ على نفْسِه كان مُحرَّمًا عليهم كذلك، فهؤلاءِ هم الكافِرونَ القائِلونَ على الله تعالى الباطلَ، والظالِمونَ أنفسَهم بالعُدُول عن الحقِّ بعدَما تَبيَّن

.
الفَوائِد التربويَّة:

الحضُّ على اتِّباع الحقِّ متى ظهَر؛ لأنَّه متى ظهَر الحقُّ فحاد الإنسانُ عنه صار أشدَّ ظلمًا؛ وأيُّ ظُلْمٍ أعظمُ مِن ظُلْم مَن يُدْعى إلى تحكيم كتاب الله تعالى فيَمتنِع من ذلك؛ عِنادًا وتَكبُّرًا؟! قال تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله سبحانه: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ؛ أَمْرٌ لهم بإحضارِ كتابهم الذي فيه شَريعتهم؛ ففيه إقامةُ الحُجَّة على الخَصْم بما يَعتقِد صحَّته، ويؤمن به، فهذا أعظمُ مَحاجَّة؛ لأنَّه تُتَبَيَّنُ به الحُجَّة على وجْهٍ لا مفرَّ له منه، إذ لم يبقَ لهم ما يستطيعون أن يَدَّعوه شُبْهةً لهم
.
2- قال: فَاتْلُوهَا ولم يَقُل: (نَتْلُوها)؛ دفعًا للتُّهمة بأنَّهم حَذَفوا شيئًا أو أضافوا شيئًا، فلْيتلُوها هم بأنفسهم؛ حتى يَتبيَّن لهم الحقُّ .
3- في قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوراة الردُّ على اليهودِ في إنكارِهم وجودَ النَّسخِ

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: هذه الشَّرطيَّة تُفيد كمالَ التَّحدِّي وتَمامَه؛ فقد خرَج الكلامُ على سبيل الاستهزاء بهم، إذ جُعِل هذا الوصفَ ممَّا يُمكِن أنْ يتَّصِفوا به، وهم قد عُلِم كَذِبُهم، كقولك: إنْ كنتَ شُجاعًا فالْقَني، ومعلومٌ عندك أنَّه ليس بشُجاع
.
2- قوله: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قوله: الكَذِبَ، فيه تأكيدٌ للافتراء؛ لأنَّ اسمَ الافتراءِ بمعنى الكَذِب والاختِلاق؛ فكان في إردافِه بقوله: الكَذِبَ تأكيدٌ للافتراء .
- والإشارة بقولِه: فَأُوْلَئِكَ وما فيه من مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعد مَنزلِتهم في الضَّلالِ والطُّغيان .

===========


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (95-97)
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
غريبُ الكَلِمات:

وُضِعَ: بُنِي
.
بِبَكَّةَ: يعَني: مَكَّة، فَأُبدلت ميمُها باءً، قالوا: والعربُ تُعاقِبُ بين الباء والميم في مواضع، فتقول: لازم ولازِب. أو أنه اسم لبَطْن مكَّة، أو مكان البَيت، وقيل: أصْل بكَك: الجمعُ بين التَّزاحم والمُغالَبة، والبَكُّ: دقُّ العُنق؛ سُمِّيت مكَّة: بكَّة؛ لأنَّ الناس يَبُكُّ- أي: يَدْفَع- بعضُهم بعضًا في الطَّوافِ بالازدِحام، ويُقال: لأنَّها تَبُكُّ (تَدُقُّ) أعناقَ الجبابرةِ إذا أَلْحَدوا فيها بظُلمٍ

.
مشكل الإعراب:

قوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا:
مَقَامُ: مرفوعٌ، على أنَّه بدلٌ من آيَاتٌ، أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، والتقديرُ: هي مقامُ إبراهيم. ووَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا معطوفٌ عليه، أي: وأَمْنُ مَن دخَلَه، وعلى هذين الوَجهينِ يكونُ فيه إبدالُ المفرد مَقَامُ من الجمع آيَاتٌ، والإخبارُ عن الجَمْعِ بالمفرد؛ وجازَ ذلك على القولِ بأنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنان، فعبَّر عن الجمْع آيَاتٌ بالمقامِ وبأمْنِ الدَّاخل، أو لأنَّ مَقَام وإنْ كانَ مفردًا لفظًا إلَّا أنَّه يَشتمِلُ على آياتٍ كثيرة. وقيل غير ذلك. أو يكون مَقَامُ مرفوعًا على أنَّه مبتدأ والخبر محذوف، أي: مِنها مقامُ إبراهيم، أو خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ، لكن التقدير: أحدُها مقامُ إبراهيم، وعلى هذينِ الوجهينِ فلا إشْكالَ في كونِ مَقَامُ مفردًا وآَيَاتٌ جمعًا
.
قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ:
مَنِ اسْتَطَاعَ: مَن موصولةٌ بمعنى الذي، وهي في مَوضِعِ جرٍّ، على أنَّها بدلٌ مِن النَّاس- بدَلُ بعضٍ مِن كُلٍّ ، أو بدلُ كلٍّ مِن كل-. وقيل: مَن في موضِع رفْعٍ مبتدأ، والتقديرُ: هم مَنِ استطاع، أو والواجبُ عليه مَن استطاع، واسْتَطَاعَ على هذين الوَجهينِ صِلةُ مَن لا محلَّ له من الإعرابِ، وجملة مَنِ اسْتَطَاعَ بدلٌ مِن الناس أيضًا في محلِّ جرٍّ. وقيل: مَنْ شَرْطٌ في موضِع رفْعٍ بالابتداءِ، واسْتَطَاعَ في موضِع جزمٍ بـمَنْ والجواب محذوفٌ، تقديرُه: فعليه الحجُّ، ودلَّ على ذلك قولُه: وَمَنْ كَفَرَ، وقيل غير ذلك

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يقولَ لليهود: إنَّ كلَّ ما أَخبَر الله تعالى به، وكلَّ ما شرَعه فهو صِدْق، فعليهم أنْ يتَّبِعوا مِلَّة إبراهيم الخليل عليه السَّلام؛ فقد كان مُوحِّدًا، يميل عن الشِّرك، ولم يكُن محسوبًا في عِدادِ المشركين.
ثم يُخبِر تعالى أنَّ أَوْلَ بيتٍ وُضِع لجميع النَّاس مِن أجْل عِبادة الله فيه، هو البيتُ الحرام، الواقعُ في مكَّة المُكرَّمة، وهو مَوضِعٌ مُبارَك، فيه برَكاتٌ كثيرةٌ من المنافع الدِّينيَّة والدُّنيويَّة: كالأجورِ المضاعَفة، والأرزاقِ الوفيرة، وهو مَنارٌ يَهتدي به جميعُ العالَمين.
في هذا البيتِ أدِلَّةٌ واضِحةٌ على توحيدِ الله سبحانه وحِكْمتِه وعظمتِه وقُدْرتِه، وغير ذلك من صِفاتِه الحُسنى، وعلاماتٌ على شرفِه، ومن تلك العلامات: المواضِعُ التي قام فيها الخليلُ إبراهيمُ عليه السَّلام لأداءِ مناسكِ الحَجِّ، ومنها أيضًا: أنَّ مَن دخَله كان آمنًا مِن كلِّ سوء، وقد فرَض اللهُ على مَن قَدَر من أهل التَّكليفِ قصْدَ البيت الحرام لأداءِ شعائر الحَجِّ، ومَن جحَد فريضةَ الحجِّ فإنَّ الله غنيٌّ عنه وعن حَجِّه، وعن سائرِ خَلْقه.
تفسير الآيات:

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95).
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأولئك اليهود: إنَّ كلَّ ما أَخبَر الله تعالى به وكلَّ ما شرَعه فهو صِدْق، ومِن ذلك: إخبارُه بأنَّه لم يُحرِّم على اليهود شيئًا من الأطعمةِ قبل نُزول التَّوراة، إلَّا ما حرَّمه يعقوبُ عليه السَّلام على نَفْسِه، فجاء ما في التَّوراة مُوافِقًا لِمَا أَخبَر الله سبحانه عنه؛ فهُم كَذَبوا، وصدَق اللهُ عزَّ وجلَّ، وممَّا بيَّنه الله تعالى في كتابه الصَّادق مِلَّةَ إبراهيمَ الخليل عليه السَّلام، فإنْ كُنتم صادقينَ في مَحبَّتِكم واعتزازِكم بالانتسابِ إليه، فاتَّبِعوه على توحيدِه اللهَ سبحانه ومَيلانِه عن الشِّرك، وما كان إبراهيمُ مِثْلَكم- مَعشَر اليهودِ- في عِدادِ المحسوبين من المشرِكين بالله جلَّ وعلا
.
قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرهم الله تعالى باتِّباع مِلَّةِ إبراهيمَ في التَّوحيد وتَرْكِ الشِّرك، أمَرهم باتِّباعه بتعظيمِ البيتِ الحرام بالحجِّ وغيره؛ فحجُّ البيتِ من أعظمِ شعائر مِلَّة إبراهيمَ ومِن خصوصيَّات دِينه، وأيضًا فإنَّ اليهود حين حُوِّلت القِبْلةُ إلى الكعبة طعَنوا في نُبوَّة رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالوا: بيتُ المقدِس أفضلُ وأحقُّ بالاستقبال؛ لأنَّه وُضِع قَبْل الكعبة، وهو أرضُ المحشر، وقِبْلةُ جميعِ الأنبياء، فأكْذَبهم الله في ذلك بقوله:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
أي: إنَّ أوَّل بيتٍ وُضِع لجميعِ النَّاس لعبادةِ الله تعالى، فيَطوفون به، ويُصَلُّون إليه، ويَعتكِفون عنده- البيتُ الحرام الواقع في مكَّة، والذي يَزدحِم النَّاس حولَه، وهو الكعبةُ التي بناها إبراهيمُ الخليلُ عليه السَّلام، الذي يَزعُم كلٌّ مِن طائفتي النَّصارى واليهود أنَّهم على مِلَّته، ومع ذلك لا يَحُجُّون إلى البيتِ الذي بناه، ونادى النَّاس إلى حَجِّه! وهو مَوضِع مُبارَكٌ؛ فيه بركاتٌ كثيرةٌ من المنافعِ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة: كالأجورِ المضاعفة، والأرزاقِ الوفيرة، وهو مَنارٌ يُهتدى به، وتَحصُل فيه أنواعُ الهدايات لجميعِ العالَمين، ومِن ذلك: أنَّه قِبْلةٌ يَستقبِلها المسلمون في صَلواتهم، ويَقصِدونه في حَجِّهم وعُمراتِهم .
عن أبي ذَرٍّ رضِي اللهُ عنه قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أوَّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامُ، قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: المسجدُ الأقصى، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصَّلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه )) .
وعن عليٍّ رضِي اللهُ عنه قال: (كانتِ البُيوتُ قَبلَهُ، ولكنَّهُ كان أوَّلَ بيتٍ وُضِعَ لعبادَةِ اللَّهِ) .
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97).
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.
أي: في هذا البيتِ أدِلَّةٌ واضحةٌ على توحيدِه سبحانه، ورحْمتِه وحِكمتِه وعظَمتِه وقُدْرتِه، وغير ذلك من صِفاته الحُسنى، وفيه علاماتٌ ظاهرةٌ على شرَفِ هذا البيت وعظيمِ فضْله، وأنَّه من بِناء إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، ومن تلك العلامات، المواضِع التي قام فيها الخليلُ عليه السَّلام لأداءِ مناسك الحجِّ: كعَرَفة، ومُزْدَلِفة ومِنًى، ومن مَقاماته: الحَجرُ الذي قام عليه لاستِكمالِ بِناء الكعبة لَمَّا ارْتفَع بُنيانُها .
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
أي: إنَّ مِن الآيات البيِّنات الدالَّةِ على شرفِ البيتِ الحرام وفضْلِه، وغير ذلك: أنَّ مَن يدخُل الحرمَ يكون بمعزلٍ عن أنْ ينالَه أحدٌ من الناس بسوءٍ على وجهِ العموم، وهذا امتنانٌ مِن الله تعالى بما تقرَّر في ماضي العصور، وبما هو متقرِّرٌ شرعًا .
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
وقال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3-4] .
عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يوم افْتَتَحَ مكةَ: ((لا هِجرةَ، ولكنْ جهادٌ ونيِّةٌ، وإذا استُنفِرتُم فانفِروا، فإنَّ هذا بلدٌ حَرَّمَه اللهُ يومَ خَلَق السمواتِ والأرضَ، وهو حرامٌ بحُرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ، وإنَّه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قَبْلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحُرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ، لا يعْضَدُ شَوْكُه، ولا يُنَفَّرُ صَيدُه، ولا يلْتَقَطُ لُقطته إلا مَن عرَّفها، ولا يُخْتَلى خَلَاها , قال العباسُ: يا رسولَ اللهِ، إلا الإذْخِرَ؛ فإنَّه لقَيْنِهِم وبُيُوتِهم، قال: قال: إلا الإذْخِرَ )) .
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
أي: إنَّ شعيرةَ حَجِّ بيتِ الله تعالى الحرام فرْضٌ واجبٌ لله عزَّ وجلَّ على مَن قَدَر مِن أهلِ التَّكليفِ على القصدِ إليه، وذلك بتَوفُّر القُدرةِ الماليَّة والبدنيَّة وغيرِهما ممَّا يُحقِّق الاستطاعةَ .
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
أي: إنَّ مَن جحَد فرض الحجِّ فأنكر وجوبه وكفر به، فإنَّ الله غنيٌّ عنه، وعن حَجِّه، وعن سائرِ خَلْقه

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- يجبُ على الإنسانِ أنْ يَتَّبعَ الحقِّ أينما كان، سواء كان مِن الرَّسول الذي أُرسِل إليه مُباشرةً، أو مِن الرُّسل السَّابقين؛ كما في قوله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
.
2- في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا، تعظيمُ بيتِ الله الحرامِ؛ فهو أوَّلُ البُيُوت التي وضَعها الله في الأرض لعِبادتِه، وإقامةِ ذِكْره، وفيه من أنواعِ البركات، والهِدايات، وتنوُّع المصالحِ والمنافعِ للعالَمين شيءٌ كثير، وفضْلٌ غزير، وفيه علاماتٌ بيِّنة تُذكِّر بمقاماتِ إبراهيمَ الخليل، وتَنقُّلاتِه في الحَجِّ، وليس هذا لمكانٍ آخَرَ في الأرض؛ فلذا يَنبغي تعظيمُه ومراعاةُ حُرمتِه .
3- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فيه وجوبُ المبادرةِ بالحجِّ على مَن استطاعَ إلى الحجِّ سبيلًا؛ فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ ممَّن يستطيعُ مئونةَ الحجِّ إذا كان مُكلَّفًا أن يبادرَ بذلك وألَّا يُؤخِّرَه؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا أوجبَ ذلك على الفور .
3- في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ الحَضُّ على فريضةِ الحَجِّ .
4- الافتقارُ إلى الله، فإذا كان الله غنيًّا عن العالَمين، لَزِم أنْ يكون العالَمون مُفتَقِرين إليه، وليس بهم غِنًى عن الله، وهو كذلك؛ فإنَّ الخَلْق مُفتَقِرون إلى الله تعالى غايةَ الافتقار؛ قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ

.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فيه أنَّ تَقدُّمَ المكان في العبادةِ له أثرٌ في تفضيلِه
.
2- قوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ؛ فيه أنَّ الآياتِ كما تكون شرعيَّةً، تكون كذلك حِسيَّةً كونيَّة، كما في هذه الآيات التي ذُكِرت للبيت العتيق .
3- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، تَضمَّن ثلاثةَ أمورٍ مُرتَّبة بحسَب الوقائع: أحدها: الموجِبُ لهذا الفرض وهو اللهُ سبحانه فبدأ بذِكْره، والثاني: مُؤدِّي الواجِبِ وهو المفترَض عليه وهم النَّاس، والثالث: النِّسْبة والحقُّ المتعلِّق به إيجابًا وبهم وجوبًا وأداء، وهو الحجُّ .
4- أنَّ اللهَ تعالى إذا ذكَر ما يُوجِبه ويُحرِّمه يَذكُره بلفظ الأمْر والنَّهي، وهو الأكثر، وبلفظ الإيجابِ والكتابةِ والتَّحريم، أمَّا في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ عبَّر عن وجوبِ الحجِّ بعِبارتين إحداهما: لام المِلْك في قوله وَلِلَّهِ، وثانيتهما: كلمة عَلَى، ليَدُلَّ على تأكيد فَرْض الحجِّ .
5- قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا نكَّر السبيلَ في سِياق الشَّرط إيذانًا بأنَّه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت، من قُوتٍ أو مالٍ، فعلَّق الوجوبَ بحصول ما يُسمَّى سبيلًا .
6- قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بيانُ رحمةِ الله تعالى، حيثُ لم يَفرِض على عبادِه ما كان شاقًّا عليهم ولا يَستطِيعونه .
7- وقوله: غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ: خبرٌ فيه رمزٌ إلى نزْعِه وَلايةَ الحرمِ من أيدي كفَّار مكَّة؛ لأنَّه لَمَّا فرَض الحجَّ وهم يَصُدُّون عنه، وأَعلَمنا أنَّه غنيٌّ عن النَّاس، فهو لا يُعجِزه مَن يَصُدُّ النَّاسَ عن مُرادِه تعالى

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: قُلْ صَدَقَ اللهُ:
- خبَرٌ فيه تعريضٌ بكَذِبهم، أي: ثبَت أنَّ اللهَ صادقٌ فيما أَنزل، وأنتم الكاذِبون
؛ لأنَّ صِدْق أحدِ الخبرين المتنافِيين يَستلزِم كَذِبَ الآخَر، فهو مُستعمَلٌ في معناه الأصليِّ والكِنائيِّ .
- ولم يَذكُر الخبرَ الذي حَكَم عليه بالصِّدق، فيكون ذلك عامًّا شاملًا، أي: صدَق اللهُ في كلِّ شيء .
2- قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا: الفاء في فاتَّبِعُوا للتَّفريع، وهي تفريعٌ على صِدق اللهِ؛ لأنَّ اتِّباع الصادِق فيما أمَر به مَنْجاةٌ من الخَطَر .
3- قوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: خبرٌ مُتضمِّن للتَّعريض بإشراك اليهودِ، والتَّصريحُ بأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلام ليس بَينَه وبَينَهم علاقةٌ دِينيَّةٌ قطْعًا، وهكذا أهلُ الشِّرْكِ في مَكَّةَ، والغرضُ: بيانُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على دِين إبراهيمَ عليه السَّلام في الأصولِ؛ لأنَّه لا يَدعو إلَّا إلى التَّوحيدِ والبراءةِ عن كلِّ معبودٍ سواه سبحانه وتعالى، والجُمْلةُ تذييلٌ لِما قبلَها .
4- قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ: كلامٌ واقع مَوقِعَ التَّعليل للأمر في قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا؛ لأنَّ هذا البيتَ المُنوَّهَ بشأنِه كان مَقامًا لإبراهيمَ، ففضائلُ هذا البيت تُحقِّق فَضيلةَ شرْع بانِيهِ في مُتعارَف النَّاس، وقد آذَنَ بكونِ الكلامِ تعليلًا مَوقِعُ (إِنَّ) في أوَّله؛ فإنَّ التأكيد بـ(إِنَّ) هنا لمجرَّدِ الاهتمام، وليس لردِّ إنكارِ مُنكَر، أو شكِّ شاكٍّ، ومِن خصائصِ (إِنَّ) إذا وردتْ في الكلام لمجرَّد الاهتمامِ: أن تُغني غَناءَ فاء التَّفريعِ، وتُفيد التَّعليلَ والرَّبطَ .
- قوله: لَلَّذِي بِبَكَّةَ: عدَل عن تعريفِ البيتِ باسمِه العَلَم بالغَلَبة (الكعبة)، إلى تعريفِه بالمَوصوليَّة بأنَّه (الذي ببكَّة)؛ دفعًا لتوهُّم غيرِه؛ لأنَّ هذه الصِّلةَ صارتْ أشهرَ في تعيُّنه عند السَّامعين؛ إذ ليس في مكَّةَ يومئذٍ بيتٌ للعبادِة غيرُه، بخلافِ اسمِ الكعبة: فقد أُطلِق اسمُ الكعبةِ على القُلِّيس الذي بناه مَلِكُ الحبشة في صنعاء لدِين النَّصرانيَّة، ولقَّبوه (الكعبة اليَمانِيَة) .
- وقوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ... استئنافُ ثَناءٍ على هذا البيتِ بما حُفَّ به من المناقِب والمزايا، وغيَّر الأسلوبَ للاهتمام .
5- قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا: ذكَر النَّاس، ثُمَّ أَبدَل عنه مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وفيه ضَرْبان من التَّأكيد؛ لأنَّ الإبدال تثنيةٌ للمُراد وتَكْرير، وذلك يَدلُّ على شِدَّة العِناية؛ ولأنَّه أَجمَلَ أولًا وفصَّل ثانيًا، وذلك يدلُّ على شِدَّة الاهتمام .
- قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ في تقديمِ المجرور الأوَّل وَلِلَّهِ: أنَّ الاسمَ المجرورَ من حيثُ كان اسمًا لله سبحانه، وجَب الاهتمامُ بتقديمِه؛ تعظيمًا لحُرْمةِ هذا الواجبِ الذي أوجبَه، وتخويفًا مِن تضييعه؛ إذ ليس ما أوجبه اللهُ سبحانه بمَنزلةِ ما يُوجِبه غيرُه .
6- قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ: جُملةٌ معطوفةٌ مقابلة لقوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وقيل: هي جملةٌ مستقلَّة، كالتَّذييلِ، بُيِّن بها عدمُ اكتراثِ الله بمَن كفَر به، وفي ذِكْرِ استغنائِه عنه مِن الإعلامِ بمَقْته وسَخَطه عليه وإعراضِه بوجْهِه عنه ما هو أعظمُ التَّهديد وأَبْلَغه .
- وجاءَ التَّعبير بقوله: عَنِ الْعَالَمِينَ ولم يَقُل: (عنه)؛ مُبالغةً في التَّعميم، وللدَّلالةِ على الاستِغناء عنه بالبُرهان، والإشعار بعِظَم السَّخَط؛ لأنَّ المستغني عن كلِّ العالَمِين أَوْلَى أنْ يكونَ مستغنيًا عن ذلِك الإنسانِ الواحدِ وعن طاعتِه؛ فكانَ ذلك أدلَّ على السَّخَط .

==============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (98-99)
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
غريبُ الكَلِمات:

تَبْغُونَهَا: تَطلُبونها
.
عِوَجًا: أي: زيغًا وتحريفًا، واعوجاجًا في الدِّين؛ فالعِوَج- بالكَسر- يُقال فيما كانَ في أَرضٍ أو دِينٍ أَو مَعاشٍ، والعَوَج- بالفتْح- يُقال فيما يَنْتَصِب كالحائطِ والعُود. ومنهم مَن خَصَّ المكسورَ بالمعاني، والمفتوحَ بالأعيانِ، وأصْل (عوج): الميل في الشَّيء

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَسألَ اليهودَ والنَّصارى مُوبِّخًا لهم: ما الذي يَحمِلهم على إنكارِ حُجَج الله التي أتت بها كُتُبُهم، والتي فيها إثبات نُبوَّته صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصِدْق ما جاء به، والله تعالى لا يَخْفى عليه شيءٌ من أعمالِهم.
ويأمُره أيضًا أنْ يقول لهم مُوبِّخًا لهم: لمَ يُضِلُّون المؤمنين عن سبيل الله؛ يُريدون بذلك الانحرافَ والميلَ بهذا السَّبيلِ عن استقامتِه، وهم يَعلمون الحقَّ، ويَعرِفون سوءَ ما يَقومون به، وليس الله بغافلٍ عمَّا يقومون به؟!
تفسير الآيتين:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98).
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأصحابِ التَّوراة والإنجيل مُوبِّخًا لهم: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، ما الذي يَحمِلكم على جحْد حُجَج الله تعالى التي جاءت بها كُتُبكم، التي تُثْبِت نبوَّتي وصِدْقَ ما جئتُ به من الله تعالى؛ فلمَ تَجْحَدون ذلك وأنتُم على عِلْم بالحقِّ، والله تعالى شهيدٌ على كُفْركم؟! فإنَّه سبحانه لا يَخفى عليه شيءٌ، وسيُجازيكم على كُفْركم بما تَستحِقُّون
.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99).
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتوبيخِ أهلِ الكتابِ على كُفْرهم القاصِر عليهم، أمَرَه أيضًا بتوبيخِهم على عُدوانهم على الغيرِ، بصدِّهم عن الإيمان ، فقال تعالى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأهل الكتاب مُوبِّخًا: يا معشرَ اليهود والنَّصارى لِمَ تُضِلُّون عِبادَ الله المؤمنين عن طريقِ الله الذي جئتُ به من عندِ الله والمُوصِل إلى الله، تُريدون انحرافَ هذا الطريق عن استقامتِه؛ ليَزيغَ بالمؤمنين مِن الهدى إلى الضَّلال، والحال أنَّكم تعلمون الحقَّ؛ مِصداقًا لِما تَجِدونه في كُتُبكم كصِفة محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعلَمون سوءَ ما تَصْنعون ؟!
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
أي: ليس الله عزَّ وجلَّ بغافلٍ-أيُّها اليهود والنَّصارى- عن ضلالِكم وإضلالكِم، بل يُحصي أعمالَكم، وعليها يُجازيكم

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا، الحثُّ على الاستقامة بلُزوم الشَّرع، وتَرْك العِوَج والزَّيغ عن شريعةِ اللهِ تعالى في الأوامرِ بالتَّفريط، والتَّهاون، أو بالغُلُوِّ والإفراط، وفي النَّواهي بانتهاكِها، والتَّهاون بها، وكلُّ إنسانٍ عاقلٍ فإنَّه يَسعى إلى الوصولِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه غايةُ المطالِب، ولا وصولَ إلى الله إلَّا بسلوك شَرْعه وسبيله الذي يُوصِل إليه
.
2- في قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...؛ الحَذرُ من التَّثبيطِ عن فِعْل الخير أو التَّرغيب في فِعْل الشَّرِّ؛ لأنَّ مَن صَدَّ عن سبيلِ الله من المسلمين يكونُ فيه شَبَهٌ من اليهود والنَّصارى؛ فهذا سبيلُهم

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله تعالى: قُلْ افتَتَح بفِعْل (قُلْ)؛ اهتمامًا بالمقُول
.
2- قوله الله تعالى: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ؛ يُستَفاد منه أنَّ اللهَ تعالى لا يُحاسِب العبدَ على ما حدَّث به نَفْسَه؛ فالوَساوس التي تكون في الصَّدر لا يُؤاخَذ عليها الإنسانُ إلَّا إذا ترتَّب عليها عملٌ، أو ركَن إليها واعتَقدها، وجعَلَها من أعمالِ القلب، فحينئذٍ يُحاسَب عليها، وكذلك إذا نطَق بها لسانُه، أو عمِل بمقتضاها بجوارحه، فحينئذٍ يُحاسَب عليها .
3- قوله تعالى: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ؛ إنَّما ذكَر مَنْ آمن مع أنهم يَصُدُّون مَنْ لم يؤمن-أيضًا- حتى لا يَدخُل في الإيمان؛ وذلك لأنَّ صدَّ مَن آمن أشدُّ عُدوانًا من صدِّ مَن لم يؤمن؛ فالبقاءُ على الكُفْر أهونُ من الرِّدة؛ لأنَّ هذا مَنْع، والأوَّل رَفْع، ورَفْع الخيرِ أشدُّ عقوبةً مِن مَنْعه .
4- ختَم اللهُ تعالى الآيةَ الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ، والآية الثانية بقوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ وذلك لأنَّهم كانوا يُظهِرون الكُفْرَ بنُبوَّة محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما كانوا يُظهِرون إلقاءَ الشُّبهِ في قلوب المسلمين، بل كانوا يَحتالون في ذلك بضُروب من المكايد والحيل الخفيَّة التي لا تَروُج إلا على الغافل، فلا جَرَم قال فيما أَظهَروه وَاللَّهُ شَهِيدٌ، وفيما أَضمَروه وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
5- قوله تعالى: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ؛ أحالَهم في هذا الكلامِ على ما في ضمائرِهم ممَّا لا يَعلَمه إلَّا اللهُ؛ لأنَّ ذلك هو المقصودُ مَن وخْزِ قلوبهم، وانثنائِهم باللائمةِ على أنفسهم .
6- قوله الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ يَتضمَّن نَفْي الغَفْلةِ عن الله، وكذلك ثبوتَ كمال المراقبة؛ لأنَّ مَن كان كامِل المراقبة، فإنَّه ليس عنده غَفْلة

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فيه تخصيصُ أهلِ الكتاب بالخِطاب؛ للدَّلالةِ على أنَّ كُفْرهم أَقْبح؛ لأنَّ معرفتَهم بالآيات أقوى، ولأنَّ كونهم أهلَ كتابٍ يُوجِب الإيمانَ بما يُصدِّق ما معهم، وهم- وإنْ زعَموا أنهم مؤمنون بالتَّوراة والإنجيل- فهم كافرون بهما
.
- وكرَّرها في الآيتين؛ لأنَّ المقصودَ التوبيخُ على أَلْطف الوجوه، وتكريرُ هذا الخطابِ اللَّطيف أقربُ إلى التلطُّف في صَرْفهم عن طريقتِهم في الضَّلال والإضلال، وأدلُّ على النُّصح لهم في الدِّين والإشفاق .
2- قوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ: استفهامٌ للتَّوبيخ والإنكار؛ لأنْ يكونَ لكُفْرهم بها سببٌ من الأسباب، وتحقيقٌ لِما يوجِبُ الاجتنابَ عنه بالكُليَّة .
3- قوله: وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ الجملة حالٌ مِن فاعِل تَكفُرون وهي مفيدةٌ لتشديد التَّوبيخِ، وتأكيدِ الإنكار .
- وإظهارُ لفْظ الجلالةِ (والله) في موقعِ الإضمار- حيث لم يَقُل: (وهو)-؛ لتربية المهابة، وتهويلِ الخَطْبِ .
- وصيغةُ المبالغةِ في شهيدٌ؛ للتَّشديدِ في الوعيد .
- قوله الله تعالى: مَا تَعْمَلُونَ؛ (ما) اسم موصول يُفيد العُموم، فتُفيد الآيةُ إثباتَ شهادة الله تعالى على كلِّ ما يَعمَل بنو آدم .
4- قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ: أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثْر توبيخِهم بالضَّلال، والتَّكريرُ للمُبالَغة في حَمْله عليه السَّلام على تقريعهم وتَوبيخِهم، وتَرْكُ عطفِه على الأمر السَّابقِ؛ حيث لم يَقُل: (وقل يا أهل..)؛ للإيذان باستقلالهم، كما أنَّ قطْعَ- أي: عدم عطف- قوله تعالى: لِمَ تَصُدُّونَ عن قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ فيه إشعارٌ بأنَّ كلَّ واحدٍ مِن كُفْرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها، مُستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتَّقريعِ، وتكريرُ الخطابِ بعُنوان أهليَّةِ الكتابِ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ؛ لتَّأكيد الاستقلالِ، وتشديدِ التَّشنيع، فإنَّ ذلك العُنوانَ كما يَستدعي الإيمانَ بما هو مُصدِّقٌ لِمَا معهم، يَستدِعي ترغيبَ النَّاسِ فيه، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ .
5- قوله: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: اعتراضٌ تذييليٌّ، فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديد، وتذكيرٌ لأنَّهم يعلمون أنَّ الله يعلم ما تُخفي الصُّدور، وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، إلا أنَّ هذا أغلظُ في التَّوبيخ؛ لِما فيه من إبطال اعتقاد غفْلته سبحانه؛ لأنَّ حالهم كانت بمَنزِلة حالِ مَن يَعتقِد ذلك .

==============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (100-101)
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
غريبُ الكَلِمات:

يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ: أي: يَمتنعْ بالله، وأصْل العِصمة: المنعُ- ومنه يُقال: عصَمَه الطَّعامُ، أي: منَعه من الجوعِ- والإمساكُ، والمُلازَمةُ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخاطِب اللهُ المؤمنين مُحذِّرًا إيَّاهم من طاعة طائفةٍ من أهل الكتاب حريصةٍ على ردِّهم إلى الكُفْر، فإنَّهم إنْ أطاعوهم وقَبِلوا منهم ما يَدْعونهم إليه، فإنَّهم سيُحقِّقون لهم مُرادَهم وسيَكْفُرون بالله، لكن كيف يَتركون هذا الدِّينَ ومعهم القرآن الكريم، الذي يُقرأ عليهم فيُثبِّتهم على هذا الدِّين، وفيهم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبيِّنه لهم، ثم أَخبَر تعالى أنَّ مَن يتمسَّك بدِين الله، فقد وُفِّق لطريقٍ واضحٍ غير مُعوجٍّ سيُوصِله إلى جنَّات الله ونعيمه.
تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا وبَّخ أهلَ الكتاب على كُفْرهم وصدِّهم عن سبيل الله- وهو الإسلام- وتَمَّ إيذانُه بالسَّخَط على أعدائِه وأَبلَغَ في إنذارهم عظيمَ انتقامِه إنْ داموا على إضلالهم، وذلك إثْرَ إقامة الحُجَج عليهم وإزالة شُبُهاتهم؛ ناسَب أنْ يُخاطِب المؤمنين مُحذِّرًا إيَّاهم من الاغترارِ بالمُضلِّين، ومُبيِّنًا لهم أنَّ مَن كان هذا شأنَهم في الكُفْر، لا ينبغي أن يُطاعوا، ولا أن يُسمَع لهم قولٌ، فإنَّهم دُعاة الفِتْنة وروَّاد الكُفْر
، قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100).
أي: يا أيُّها المؤمنون، إذا أَطعْتم تلك الفئةَ من أهلِ التَّوراة والإنجيل، الحريصةَ على ردِّكم إلى الكُفْر، التي تَسعى جاهدةً بكلِّ ما تَستطيع، وتبذُل محاولاتٍ مُضنِيةً في سبيل ذلك، فقَبِلتم منهم ما يأمرونكم به؛ فإنَّكم ستُحقِّقون لهم ما يَبْتغون بإخراجِكم من الإيمانِ الذي تَعتقِدون .
قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109] .
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ
أي: كيف تَرتدُّون عن إيمانكم- أيُّها المؤمنون- ومعكم ما يُثبِّتكم عليه، ويمنعكم من الارتداد عنه، وهو القرآنُ الذي تُقرأُ عليكم آياتُه، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي بين أَظْهُركم؛ إذ يُبلِّغه ويُبيِّنه لكم؛ فإنَّ الإيمانَ إذا تَغلَغل في شَغافِ القلب لا يَخرُج منه بإذن الله تعالى .
وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
أي: إنَّ مَن يتعلَّق بأسباب الله مُتمسِّكًا بدِينِه مُتوكِّلًا عليه، فقد وُفِّق لطريقٍ واضحٍ غير مُعوجٍّ، فيستقيمُ به حتى يُوصِلَه إلى رِضوان الله، وإلى النَّجاة من عذابِه والفوزِ بجنَّته سبحانه

.
الفَوائِدُ التربويَّة:

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الحذرُ من طاعةِ أهل الكتاب والتَّلقِّي عنهم، واقتباسِ مناهجِهم وأوضاعِهم؛ فهم يُحاوِلون غايةَ المحاولة أنْ يردُّوا المؤمنين عن إيمانهم إلى الكُفْر؛ وذلك لِمَا انطوتْ عليه نفوسُهم من غِلٍّ وغِشٍّ وحسَدٍ وبُغْض للمؤمنين، فالمؤمنون إنْ لانُوا وقَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك حالًا بعد حال إلى أنْ يعودوا كُفَّارًا
.
2- معرفةُ فضْلِ الصحابة بالمَنْقبة العظيمة، والمِنَّة الجليلة، وهي وجودُ هذا الرسول العظيمعليه الصَّلاة والسَّلام بينهم، ومشاهدةُ أنواره؛ فكان وجودُه عِصْمةً من ضلالهم، تلك المَزيَّة التي فاز بها الصَّحابةُ المخاطَبون بهذه الآية وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ .
3- قوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فيه أنَّ الاعتصامَ بالله تعبُّدًا واستعانةً، والامتناعَ بقوَّته ورحْمته عن كلِّ شَرٍّ، والاستعانةَ به على كلِّ خيرٍ هو العمدةُ في الهداية، والعُدَّةُ في مُباعدةِ الغَواية، والوسيلةُ إلى الرَّشاد، وطريق السَّداد، ومُوصِل لصاحبه إلى غاية المرغوب .
4- أنَّ التَّمسُّك بكتابِ الله تعالى وسُنَّة رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والإقبال عليهما أعظمُ مانعٍ يَمْنع من الكُفْر، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- النِّداء في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مُوجَّه للمؤمنين من بابِ الإغراء؛ لقَبُولِ ما يأتي تصديقًا به إنْ كان خبرًا، وامتثالًا له إنْ كان طلبًا (أمرًا ونهيًا)؛ لأنَّ وصْفَهم بالإيمان يَقتضي أنْ يقوموا بمقتضى هذا الخِطاب الموجَّه لهم
.
2- قولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ فيه تَفضُّلُ الله على المؤمنين بأنْ خاطَبهم بغير واسطة؛ فلم يأتِ بلفظ (قُلْ)؛ ليكون ذلك خِطابًا منه تعالى لهم وتأنيسًا لهم، بخلافِ خِطابه لأهلِ الكِتاب؛ إذ قال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ .
3- قول الله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ؛ أَطلَق الطواعيةَ لتَدلَّ على عمومِ البَدل، أي: إن يَصدُر منكم طواعيةٌ ما في أيِّ شيءٍ كان ممَّا يُحاوِلونه من إضلالِكم .
4- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ؛ أَبرَز نهيَه عن موافِقتهم وطواعيتِهم في صورةٍ شَرْطيَّة؛ لأنَّه لم تَقَع طاعتُهم لهم

.
بلاغة الآيتين:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صُدِّر هذا الحُكمُ بالنِّداء، وتصديرُ الحُكْم بالنِّداءِ يتضمَّن تنبيهَ المُخاطَب، والتَّنبيهُ لا يكون إلَّا لأمرٍ مُهمٍّ تَجِب العنايةُ به
.
2- قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ: استفهامُ إنكارٍ وتعجُّب؛ لكُفْرهم في حالِ اجتمَعت لهم الأسبابُ الدَّاعية إلى الإيمان الصَّارِفة عن الكُفْر .
3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ:
- فيه تلوينٌ للخطاب، وتوجيهٌ له إلى المؤمنين؛ تحذيرًا لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفِتْنتهم إثرَ توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ؛ ردْعًا لهم عن ذلك، وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم؛ للمُبالَغة في التَّحذير عن طاعتِهم، وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكُليَّة؛ فإنَّه في قوَّةِ أنْ يُقال: لا تُطيعوا فريقًا... إلخ .
- وقوله: بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: فيه تأكيدٌ لِما أَفادَه قوله: يَرُدُّوكُمْ، والقصدُ من التَّصريحِ به توضيحُ فواتِ نِعمةٍ عظيمةٍ كانوا فيها لو يَكفُرون .
4- قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ جاء جوابُ الشَّرط هُدِيَ بصيغة الماضي، وقَدْ المحقِّقة؛ إشارة إلى أنَّ مَن يلتجئ إلى الله تعالى ويَعتصِم بحبْله، فقدْ تَحقَّقت هِدايتُه وثَبَتت استقامتُه سابقًا وواقعًا، سابقًا في اللَّوح المحفوظ، وفي الكتابةِ حينما تُنفَخ فيه الرُّوح في بطن أُمِّه، وواقعًا؛ لأنَّه اعتَصَم بالله .
- وقوله تعالى: فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: فيه حذْف الفاعلِ؛ ليشملَ كلَّ الهُداة؛ وذلك لتعدُّد طُرُق الهِداية، فأعْلى الهُداة الله عزَّ وجلَّ، ثمَّ الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام، ثمَّ وَرَثةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهم العلماءُ .


==========


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (102-109)
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
غريبُ الكَلِمات:

فَأَلَّفَ: جمَع، وأَوْقَع الأُلْفة، والإلفُ: اجتماعٌ مع التِئام، وأصلُه: انضمامُ الشَّيءِ إلى الشَّيء
.
شَفَا حُفْرَة: أي: حَرْفِ حُفرة؛ فشفَا الشيءِ: حرْفُه، ومنه: أَشْفَى على كذا: إذا أشْرَف عليه

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر الله عبادَه المؤمنين بتقواه قَدْر الاستطاعةِ، وأنْ يُداوِموا على التَّمسُّك بهذا الدِّين إلى أنْ يأتيَهم الموتُ وهم على ذلك.
كما يأمُرُهم سبحانه بالاجتماعِ والأُلْفة على كلمةِ الحقِّ، وألَّا يفعلوا ما يَدْعوهم إلى الفُرْقة.
وأمَرهم أيضًا أن يَذْكروا ما أَنعَم به عليهم من الاجتماعِ على دِين الإسلام، حتى صاروا بهذه النِّعمة إخوانًا، وقد كانوا مِن قَبْلِ اعتناقهم له أعداءً مُتقاتِلين، وذكَّرهم الله سبحانه أيضًا أنَّهم كانوا على وَشْكِ أنْ يقعوا في النَّار فأَنقَذهم منها، كذلك يُوضِّح اللهُ لهم آياتِه؛ لأجْل أنْ تَحصُل لهم الدَّلالةُ على طريقِ الحقِّ والتَّوفيق لسُلوكه.
ثم يأمُر اللهُ عِبادَه المؤمنين أنْ يكون منهم جماعةٌ تقوم بالدَّعوة إلى دِين الله، ويأمرون الناسَ بما أمَرهم به الشَّرع، ويَنْهَوْنهم عن فِعْل ما نهاهم عنه الشَّرع، وأولئك هم المفلِحون.
ونهاهم أنْ يَتفرَّقوا في دِينهم كتَفرُّق الذين من قَبْلهم: كاليهود، والنَّصارى، الذين اختَلَفوا في دِينهم بعد أنْ جاءتهم البيِّناتُ التي تمنعهم مِن التفرُّق، وأولئك لهم عذابٌ من عند الله عظيم، وذلك في يوم تكونُ فيه وُجوه أهلِ السَّعادة بيضاءَ، بينما تَسْودُّ وجوه أهلِ الشَّقاوة. فأمَّا أصحابُ الوجوه المُسودَّة، فيُقال لهم توبيخًا: أَكفَرتم بعد إيمانكم؟! فذوقوا عذابَ الله بسبب كُفْركم، وأمَّا مَن ابيضَّت وجوههم، فهُم في رحمة الله، بما أَعدَّه الله في جنَّاته مِن أنواع النَّعيم، ماكِثين فيه أبدًا.
ثُمَّ خاطَب الله نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ تلك الآياتِ التي تقدَّمت نقرؤها عليك بالحقِّ، والله تعالى لا يَظلِم أحدًا مِن خلْقه مُطلَقًا، وله وحده جميعُ ما في السَّموات والأرض، وإليه تُرجَع جميع الأمور.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حذَّر الله تعالى المُخاطَبِين من الانخداع لوَساوس بعض أهل الكتاب، حرَّضهم على تَمامِ التَّقوى؛ لأنَّ في ذلك زيادةَ صلاحٍ لهم، ورُسوخًا لإيمانِهم
، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
أي: يا أيُّها المؤمنون ابذُلوا كلَّ جَهْدكم وطاقتكم؛ لتَمتَثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ وتَجتنِبوا نواهيَه، ولتُحقِّقوا تقوى الله تعالى الاتِّقاءَ الحقَّ الواجبَ الثابتَ بقَدْرِ ما تستطيعون .
كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أي: داوِموا في حياتِكم على التَّمسُّك بدِين الإسلام، وحافِظوا عليه حتى يأتيَكم الموتُ وأنتم على ذلك .
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى عبادَه المؤمنين بالتَّقوى، أمَرَهم بما يُعِينهم عليها وهو الاجتماعُ والاعتصامُ بدِين الله ، فقال تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
أي: تَمسَّكُوا بدِينه، وعهْدِه إليكم بالأُلفةِ والاجتماعِ على كلمةِ الحقِّ، ولا تَرتكِبوا ما يُفرِّق جمْعَكم عن هذا الدِّين والعَهْد .
قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
وقال جلَّ وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ يرضَى لكم ثلاثًا، ويَكرهُ لكُم ثلاثًا، فيَرضَى لكُم: أنْ تَعبدوهُ، ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأنْ تَعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفرَّقوا، ويَكرهُ لكم: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤالِ، وإِضاعةَ المالِ )) .
عن زيدِ بن أَرْقمَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ألَا وإنِّي تَارِكٌ فيكم ثَقَلَين: أحدُهما كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ، هو حبلُ اللهِ، مَن اتَّبعه كان على الهُدى، ومَن ترَكه كان على ضلالةٍ ..)) الحديث .
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
أي: اذكُروا بقلوبِكم وألْسنتِكم- أيُّها المؤمنون- ما أَنعَم الله تعالى به عليكم من الأُلْفةِ والاجتماعِ على دِين الإسلام، فقد كنتُم من قبلِ اعتناقِكم الإسلامَ أعداءً مُتفرِّقين، يُقاتِل بعضُكم بعضًا، في غيرِ طاعةِ الله تعالى، فجَمع الله عزَّ وجلَّ بالإسلامِ قلوبَكم، فجعَل بعضَكم لبعضٍ إخوانًا مُتحابِّين، بلا ضغائنَ ولا أحقادٍ بينكم .
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62-63] .
عن عبدِ الله بن زيد رضِي اللهُ عنه قال: ((لَمَّا أفاءَ اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ حُنينٍ، قَسَمَ في النَّاسِ في المؤلَّفةِ قلوبُهم، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئًا, فكأنَّهم وجَدوا إذ لم يُصِبْهم ما أصابَ النَّاسَ، فخطَبهم فقال: يا معشرَ الأنصارِ، ألمْ أجِدْكم ضُلاَّلًا فهداكم اللهُ بي، وكنتم مُتفرِّقين فألَّفَكم اللهُ بي، وكنتم عالةً فأغْناكم اللهُ بي؟! كلَّما قال شيئًا، قالوا: اللهُ ورسولُه أَمَنُّ ... )) الحديث .
وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((يا معشرَ الأنصارِ، ألمْ أَجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي، ومُتفرِّقينَ فجمَعكم اللهُ بي؟! )) .
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا
أي: كنتُم- أيُّها المؤمنون- قبلَ اجتماع قلوبِكم على الإسلام، على وَشْكِ الوقوع في النَّار، إذ لم يَبقَ بينكم وبينها إلَّا أنْ تموتوا على كُفْركم، فأَنقَذَكم اللهُ تعالى منها بهِدايتِكم إلى الإسلام .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
أي: بمِثْل هذا الوضوحِ الذي بيَّن الله تعالى به ما تَقدَّم من الآيات الدَّالَّات على الحقِّ القويم، يُبيِّن أيضًا بوضوحِ بقيَّة الآيات الأخرى؛ لأجْل أن تَحصُل لكم بها الدَّلالةُ على طريق الحقِّ وتُوفَّقوا لسُلوكه .
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
في الآياتِ المتقدِّمةِ عاب اللهُ تعالى أهلَ الكتاب على شَيئينِ أحدهما: أنَّه عابَهم على الكُفْر، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ، ثُمَّ بعد ذلك عابَهم على سَعْيهم في إلْقاء الغيرِ في الكُفْر، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فلمَّا انتَقَل منه إلى مخاطبة المؤمنين، أمَرَهم أوَّلًا بالتَّقوى والإيمان، فقال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، ثم أمَرهم بالسَّعي في إلْقاء الغيرِ في الإيمان والطَّاعة ، فقال:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
أي: لتوجدْ منكم- أيُّها المؤمنون- فِرْقةٌ مُتصدِّيةٌ للقيام بشأنِ الدَّعوة إلى دِين الله تعالى وبيانِ شرائعِه، وقائمةٌ بواجب أمْر النَّاس بامتِثال ما أمرهم به الشَّرع، ونَهْي النَّاس عن ارتكابِ ما نهاهم عنه الشَّرع؛ فإنَّ المتَّصِفين بهذه الصِّفات هم الفائزون في الدَّارينِ بما يَرْغَبون، والنَّاجون فيهما ممَّا يَرهَبون .
عن حُذيفةَ بن اليَمان رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((والذي نَفْسي بيدِه لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المُنكرِ، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ فتدعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ )) .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
مُناسبةُ قوله: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ... بعدَ قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ... أنَّ الأمَّةَ إذا تَركتِ الدَّعوةَ إلى الخيرِ والأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر فلا بدَّ أنْ تتفرَّق؛ لأنَّه لا يكونُ لهم في هذه الحالِ كلمةٌ جامعةٌ؛ إذ كلُّ واحدٍ يُريد أنْ يعملَ على هواه، فالنُّفوسُ لها نزعاتٌ متباينةٌ .
وأيضًا لَمَّا أمَر تعالى بالأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر، وذلك ممَّا لا يَتِمُّ إلَّا إذا كان الآمرُ بالمعروف قادرًا على تنفيذ هذا التَّكليف، ولا تَحصُل هذه القُدْرةُ إلَّا إذا حصلتِ الأُلْفةُ والمحبَّةُ بين أهل الحقِّ والدِّين، لا جَرَم حذَّرهم اللهُ تعالى من الفُرْقة والاختلاف؛ لكي لا يصيرَ ذلك سببًا لعَجْزهم عن القيامِ بهذا التَّكليف ، فقال:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
أي: لا تكونوا- يا معشرَ المؤمنين- مُتفرِّقين في دِينكم، كما تَفرَّق الذين مِن قبلكم كاليهودِ والنَّصارى الذين اختَلَفوا في دِينهم، فأصبحوا أحزابًا مختلفةً، وذلك مِن بعد ما جاءتْهم دلائلُ الحقِّ الواضحات، وعلِموا الحقَّ المبين، فوقَعوا في مُخالفته عامدين، وعلى اللهِ تعالى مُتجرِّئين .
وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
أي: لهؤلاء عذابٌ من عند الله عظيمٌ؛ فلا تكونوا مِثْلهم فيكونَ لكم من عِقابِ الله مِثْلُ الذي لهم .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى العذابَ العظيمَ الذي سيَقَع على مَن تفرَّقوا في دِينهم شيعًا بعد مجيءِ الحقِّ وظهورِه لهم، بيَّن هنا موعدَ مجيء ذلك العذاب ، فقال:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
أي: إنَّ أولئك لهم عذابٌ عظيمٌ في اليومِ الذي تكونُ فيه وجوهُ أهل السعادةِ بيضاءَ، وهم الذين اعتَصَموا بحبلِ الله جميعًا، وائتلَفوا بينهم، وتكونُ فيه وجوهُ أهلِ الشَّقاوة سوداءَ، وهم الذين تَفرَّقوا بعدَ ظهورِ البيِّنات لهم .
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
أي: إنَّ الَّذين اسودَّت وجوهُهم، يُقال لهم توبيخًا وتقريعًا: أكفرتُم بعد توحيدِ الله تعالى وعهْدِه الذي أخَذه عليكم بألَّا تُشرِكوا به شيئًا ؟!
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
أي: فذوقوا إذَنْ عذابَ الله تعالى؛ بسببِ كُفْركم هذا .
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
أي: أمَّا أولئك الذين قد ابيضَّتْ وجوهُهم فهُمْ يتقلَّبون في رحمةِ الله تعالى بما أعدَّ لهم في جنَّته من أنواعِ النعيم، ماكثين فيه أبدًا بغير نهاية .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
أي: تلك الآياتُ التي تقدَّمت، ومنها ما ذكره الله تعالى من ثوابِ المؤمنين وعذابِ الكافرين، نقرؤها عليك- يا محمَّدُ- بالصِّدق المُطابقِ للواقع؛ صِدقًا في أخبارها، وعدْلًا في أحكامها .
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ
أي: إنَّ الله تعالى لا يَظلمُ أحدًا مُطلقًا؛ لأنَّه غيرُ مريدٍ للظُّلم سبحانه، ومِن ذلك أنَّه لا ينقص أحدًا شيئًا من الحَسنات، ولا يَزيدُ على أحدٍ شيئًا من السَّيِّئات .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّه غيرُ مُريدٍ للظُّلم، بيَّن هنا أنَّه لا يَحتاجُ إلى ظُلْم أحدٍ مِن خلْقه ، فقال:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو وحْده المالكُ لِجميع مَا في السَّموات وما في الأرض، والخالقُ الرازقُ المدبِّر .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
أي: هو الذي يتصرَّفُ في شؤون عبيدِه، والحاكمُ عليهم في الدُّنيا والآخرة، ومن ذلك رجوعُ النَّاس إليه يومَ القيامة؛ ليُجازيَهم بأعمالهم؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أنَّ على العبادِ البقاءَ على الإسلام والتَّمسُّكَ به، والمحافظةَ عليه في حال الصِّحَّة والسَّلامة حتى يُوافيَهم الموتُ وهم عليه؛ فالمَدار على الخاتِمة
.
2- وجوبُ الاجتماعِ على شَرْع الله تعالى؛ فقد وضَعَ الله تعالى لنا بفضله ورحْمته قاعدةً نَرجِع إليها عند تَفرُّقِ الأهواءِ واختلافِ الآراء، وهي الاعتصامُ بحبله، بالتَّحاكمِ إلى شرْعِه؛ قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا .
3- تذكير العبادِ نعمةَ الله تعالى في الأمور الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، بقلوبِهم وألْسنتهم؛ ليَزدادوا شكرًا له ومحبَّة، وليَزيدَهم من فضْله وإحسانه، قال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ... ، والتَّذكير بنِعْمة الله تعالى طريقٌ من طُرُق مواعظ الرُّسل .
4- في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا... الحرصُ على الاجتماع والحَذَر من التَّفرُّق؛ فمِن أكبر نِعَم الله على الأُمَّة أنْ يؤلِّف بين قلوبِها بالاجتماعِ وعدم الفُرْقة؛ فاجتماعُ الأُمَّة الإسلاميَّة عِصمةٌ لها، وفي التَّفرُّقِ زوالُ الوَحْدة التي هي مَعقِدُ العزَّة والقوَّة .
5- الدَّعوةُ إلى سبيلِ الله تعالى وإرشادُ الخَلْقِ إلى دِينه وظيفةٌ ضروريَّة لإقامةِ منهجِ الله في الأرض، ولتغليبِ الحقِّ على الباطل، والمعروفِ على المُنكَر، والخيرِ على الشرِّ؛ فلا بدَّ من جماعةٍ تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكَر، وإنْ كان ذلك واجبًا على كلِّ فردٍ من الأُمَّة بحسَبه، وهؤلاء هم المفلحون الرَّابِحون إذا خسِر النَّاسُ؛ قال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ...

.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه، توجيه النِّداء إلى المؤمنين يُشير إلى أنَّ التَّقوى من مقتضيات الإيمان؛ لأنَّه إذا نُودي الإنسانُ بوصْف، فإنَّه يزدادُ وصْفُه هذا بحسب زِيادتِه فيما وُجِّه إليه
.
فالموت لا يُنهى عنه؛ لأنَّه غيرُ داخلٍ تحتَ قُدرة المكلَّف، فيتعيَّن حمْلُه على السببِ الذي يَقتضي حصولَ الموت على الإسلام، وهو تقديمُ الإسلامِ قبلَ ذلك، والثباتُ عليه، فيأتي الموت حينئذٍ والعبدُ على الإسلام، والقاعدةُ في مِثل هذا تقول: إذا كان مُتعلِّقُ الخطابِ مقدورًا حُمِلَ عليه، وإنْ كان غيرَ مقدورٍ عليه صُرِفَ الخطابُ إلى ثمرتِه أو سببِه، وهنا حُمِل على السَّبب .
2- قوله الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، في الآية دليلٌ على أنَّ الأمْرَ بالشَّيء يَستلزِمُ النَّهيَ عن ضدِّه .
3- قول الله تعالى: بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ولم يَقُل (بينكم)؛ لأنَّ الائتلافَ في القلوب، وهذا هو الذي عليه المدارُ؛ فكم مِن أُمَّةٍ ائتلفتْ بأجسامها وقلوبها مُتفرِّقةٌ! كما قال الله تعالى عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] .
4- في قول الله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الردُّ على أهلِ البِدع الذين حرَّفوا نُصوصَ الكتاب والسُّنَّة إلى معانٍ لا يدلُّ عليها ظاهرُها، فيكون القرآنُ ليس هدًى ولا بيانًا للنَّاس، وهو خلافُ ما تدلُّ عليه هذه الآيةُ .
5- في قول الله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إثبات العِللِ في أفعال الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ (لعلَّ) للتَّعليل .
6- قول الله تعالى: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ لا إلى أنفسِهم؛ ففيه ملاحظةُ الإخلاص؛ لأنَّ بعضَ النَّاس يدعو إلى نَفْسه لا إلى الخيرِ .
7- قول الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا، فيه أنَّ الاختلافَ المنهيَّ عنه هو ما كان ناشئًا عن التَّفرُّق لا كلُّ اختلافٍ .
8- في قول الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قُدِّم الافتراقُ على الاختلاف؛ للإيذانِ بأنَّ الاختلافَ عِلَّةُ التَّفرُّق، وهذا من المفادات الحاصلةِ من ترتيب الكلامِ وذِكْر الأشياء مع مُقارناتها .
9- قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ يُفيد أنَّ الإنسان لا يُؤاخَذ على تَرْك الحقِّ، أو اتِّباع الباطل إلَّا إذا بُيِّن له ذلك حتى يَتبيَّن، أو صار بحيث تَبيَّن له لو نظَر فيه، والجهلُ ليس بعُذْر بعدَ البيان .
10- قوله سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا فيه تمثيلُ حال التَّفرُّق في أبشعِ صُورِه المعروفةِ لديهم من مطالعة أحوالِ اليهود، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ تَرْك الأمْر بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر يُفضي إلى التَّفرُّق والاختلاف؛ إذ تَكثُر النَّزَعات والنَّزَغات، وتَنشقُّ الأُمَّة بذلك انشقاقًا شديدًا .
11- قوله الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فيه أنَّ المكلَّف إمَّا مؤمن وإمَّا كافر، وأنَّه ليس هاهنا مَنزِلةٌ بين المنزِلتين كما يذهب إليه المُعتزِلة، فإنَّ الله تعالى قسَّم أهلَ القيامة إلى قِسْمين: منهم مَن يَبيضُّ وجهُه وهم المؤمنون، ومنهم مَن يسودُّ وجهُه وهم الكافرون، ولم يذكر ثالثًا، فلو كان هاهنا قِسْمٌ ثالث لذكَره الله تعالى .
12- قوله الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ لم يَنصَّ تعالى على خُلُود أهل النَّار في هذه الآية، مع أنَّه نصَّ على خُلُود أهل الجنَّة؛ وذلك إشعارًا بأنَّ جانب الرَّحمة أغلب .
13- قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ لَمَّا ذكَر العذابَ لم يُضِفْه إلى نَفْسه، وذكَر الرحمة مُضافةً إلى نَفْسه، وذلك يُشعِر بأنَّ جانب الرحمة مُغلَّب .
14- قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ لَمَّا ذكَر العذابَ علَّله بفِعْلهم، ولَمَّا ذكَّر الثوابَ علَّله برحمتِه، وذلك يُشعِر بأنَّ جانبَ الرحمة مُغلَّب .
15- قول الله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؛ لو لم يَذكُر ذلك لكان الوعيدُ مختصًّا بمَن كفَر بعد إيمانِه، فلمَّا ذكَر هذا ثبَتَ الوعيدُ لِمَن كفَر بعد إيمانه، ولِمَن كان كافرًا أصليًّا .
16- قول الله تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ؛ (في) للظَّرفية، فرحمةُ الله هنا ليستِ الرَّحمة المذكورة في قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ لأنَّ هذه صِفة الله، أمَّا في قوله تعالى فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ فهي مخلوقُ الله، والمُراد بها: الجنَّة، فالرَّحمةُ تُطلَق على غير صِفة الله، بل على مخلوقاتِه، ويَمتنِع أنْ يكون المراد بها الصِّفة؛ لأنَّ الصِّفة لا تكون ظرفًا للبشر، وإذا امتنع أنْ تكون ظرفًا للبشر امتنع أنْ يُراد بالرحمة هنا الرَّحمة التي هي صفةٌ لله تعالى، بل هي الرَّحمةُ المخلوقة لله، وأُطلِق عليها اسمُ الرَّحمة؛ لأنها كانت برحمة الله يَرحَم الله بها مَن يشاء من عباده .
17- قول الله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ؛ فيه أنَّ مَن كان وكيلًا عن الغير، فله حُكْمُ ذلك الذي وكَّله؛ لأنَّ الله أضاف التِّلاوة إليه مع أنَّ التَّالي رسوله، فدلَّ هذا على أنَّ حُكْم ما نفَّذه الرَّسول بما أُرسِل به حُكْم ما قاله المُرسِل .
18- قول الله تعالى: آيَاتُ اللَّهِ؛ فيه أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى؛ لأنَّ الله تعالى أضافه إلى نَفْسه، وما أُضيفَ إلى الله ولم يكُن عينًا قائمةً بنَفْسها، فهو من صفاتِه .
19- قولُ الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يُفيد أنَّ مَن حاوَل أن يُشرِّع للخَلْق شيئًا سِوى ما شَرَعه الله، فقد جعَل نَفْسَه شريكًا مع الله، ووجْه ذلك: أنَّ الله حصَر مَرجِع الأمور إليه

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:
- فيه تكريرُ الخِطابِ بعُنوان الإيمانِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وهو تشريفٌ إثرَ تَشريفٍ
.
- وتصديرُ الآية بالنِّداءِ يُشعِر بالعِناية والاهتمام بالتَّقوى .
- وقوله: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: فيه النَّهيُ عن شيءٍ وإرادةُ النَّهيِ عن لازِمه؛ إذ النَّهيُ عن الموتِ على حالةٍ في الدِّين إلَّا على حالة الإسلام، مقصودٌ منه النَّهيُ عن مُفارَقة الدِّين بالإسلام مدَّةَ الحياة؛ لأنَّ ساعة الموت أمرٌ غير معلوم؛ فالنَّهيُ عن الموت على غير الإسلام، يَستلزِم النَّهيَ عن مُفارَقة الإسلام في سائرِ أحيان الحياة، ولو كان المرادُ به معناه الأصلي، لكان ترخيصًا في مُفارَقة الإسلام إلَّا عندَ حضورِ الموت، وهو معنى فاسدٌ .
- ومجيءُ جملة إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسميَّةً أبلغُ؛ لتَكرُّر الضَّمير، وللمُواجهة فيها بالخِطاب .
2- قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا: فيه تمثيلٌ لهيئة اجتماعِهم والتفافِهم على دِين الله ووصاياه وعهوده بهيئةِ استمساكِ جماعةٍ بحبل أُلقي إليهم من مُنقِذٍ لهم مِن غرَقٍ أو سقوطٍ، فشبَّه الوثوقَ بالله، والاعتمادَ على حمايتِه، بحالِ مَن يُمسِك بحبلٍ وثيقٍ، وقد تدلَّى من مكانٍ عالٍ، فهو آمنٌ مِن انقطاعِه وانبتاتِه .
- قوله: وَلَا تَفَرَّقُوا: تأكيدٌ لمضمون (اعتصموا جميعًا) ... وقد يكون قوله: وَلَا تَفَرَّقُوا أمرًا ثانيًا؛ للدَّلالة على طلبِ الاتحاد في الدِّين، وقد يُؤكَّد الشيءُ بنفْي ضِدِّه كما في قوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام: 140] .
3- قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:
- فيه تصويرٌ لحَالِهم التي كانوا عليها؛ ليَحصُل من استفظاعها انكشافُ فائدةِ الحالة التي أُمِروا بأنْ يكونوا عليها، وهي الاعتصامُ جميعًا بجامعةِ الإسلام الذي كان سببَ نَجاتهم من تلك الحالة، وفي ضِمنِ ذلك تذكيرٌ بنِعمة الله تعالى، الذي اختارَ لهم هذا الدِّين، وفي ذلك تحريضٌ على إجابةِ أمْره تعالى إيَّاهم بالاتِّفاق .
- وقوله: شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ:
- فيه تمثيلُ حياتِهم التي يُتوقَّع بعدَها الوقوعُ في النَّار بالقعودِ على حرْفها مُشفِين على الوقوع فيها؛ إذ لو ماتوا على ما كانوا عليه مِن الكُفْرِ، لوقعوا في النَّار .
- وفيه تنبيهٌ على تَحقير مُدَّة الحياة؛ فإنَّه ليس بين الحياةِ وبين الموتِ المُستلِزم للوقوعِ في الحُفْرة إلَّا ما بين طرف الشَّيء وبين ذلك الشيء .
- وقوله: كَذَلِكَ: إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده (يُبيِّن)، أي: مِثْل ذلك التَّبيينِ الواضحِ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذانِ بعُلُوِّ درجة المُشارِ إليهِ، وبُعدِ منزلتِه في الفضل، وكمالِ تميُّزِه به عمَّا عداه، وانتظامِه بسببه في سَلكِ الأمورِ المُشاهَدة، والكافُ لتأكيدِ ما أفادَه اسمُ الإشارةِ من الفخامة .
4- قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ:
- صيغة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ صِيغةُ وجوب، وهو لتأكيدِ ما كانوا يَفعلونه ووجوبِه؛ لأنَّ ذلك كان حاصلًا بينهم من قبلُ، كما يدلُّ عليه قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] ، وفيه زيادةُ الأمرِ بالدَّعوة إلى الخير، وقد كان الوجوب مُقرَّرًا من قَبلُ بآيات أُخرى، أو بأوامر نبويَّة؛ فالأمرُ لتأكيدِ الوجوب أيضًا؛ للدَّلالة على الدَّوام والثَّبات عليه .
- وفيه عطْف الخاصِّ على العامِّ- حيث عطَف الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكَر على الدَّعوةِ إلى الخيرِ، مع اندراجِهما فيها؛ لمزيدِ العِناية بهما، ولإظهارِ فضْلِهما على سائرِ الخيراتِ .
- وفيه: حذْفُ المفعولِ الصريحِ من الأفعال الثلاثة (يَدْعُون- ويأمرون- ويَنْهون)؛ للإيذانِ بظهوره، أي: يدْعون الناسَ ويأمُرونهم وينهَوُنهم، أو لقصْد إيجاد نفْسِ الفِعْل كما في قولك: فلانٌ يُعطِي ويَمنعُ، أيْ: يفعلون الدعاءَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر، أو لقَصْد التَّعميم، أي يَدْعون كلَّ أحد .
- قوله: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ: التَّعريف في (الخير- والمعروف- والمُنكَر)- تعريفُ الاستغراق، وهو يُفيد العمومَ في المعاملات بحسب ما يَنتهي إليه العِلْم والمقدِرة، فيُشْبِه الاستغراقَ العُرْفيَّ .
- وقوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: الإشارة بـأُولِئَكَ وما فيه مِن معنى البُعد؛ للإشعارِ بعلوِّ طبقتِهم، وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ، والإفرادُ في كاف الخطابِ؛ لأنَّ المخاطَب كلُّ مَن يَصلُح للخطاب، أو لأنَّ التعيينَ غيرُ مقصودٍ، أي: أولئك الموصوفون بتلك الصِّفاتِ الكاملة .
5- قوله: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ: فيه تأكيدٌ ومبالغةٌ في وعيد المُتفرِّقين، وتشديد في تهديدِ المُتشبِّهين بهم ؛ حيث جاءَ التَّعبيرُ بالجملةِ الاسميَّة التي تُفيد تأكيدَ الخبر، وتعريف المُسنَد إليه باسم الإشارة أُولِئَكَ لتَعيُّنه، وبُعد مَنزِلته في الشرِّ والفساد ، مع ما في تنكيرِ عَذَاب من التَّهويل، والتَّأكيد بوصْفِه بصيغةِ المبالغة فعيل عَظِيم.
6- قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
- في تعريفِ هذا اليومِ بحُصولِ بياضِ وجوهٍ وسوادِ وجوهٍ فيه: تهويلٌ لأمْره، وتشويقٌ لِمَا يرِدُ بعدَه من تفصيلِ أصحابِ الوجوهِ المبيضَّة، والوجوه المُسودَّة؛ ترهيبًا لفريق، وترغيبًا لفريق آخر .
- وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ: فيه تفصيلٌ لأحوالِ الفَريقينِ بعدَ الإشارةِ إليها إجمالًا، وتقديمُ بيانِ هؤلاء؛ لأنَّ المَقام مقامُ التَّحذيرِ عن التَّشبُّه بهم، مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتَّفصيلِ، والإفضاءِ إلى ختْم الكلامِ بحُسن حال المؤمنين، كما بُدِئ بذلك عند الإجمالِ .
- وقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ... يُسمِّي علماءُ البلاغةِ هذا النَّوعَ من السِّياق لفًّا ونَشرًا غير مُرتَّب؛ إذ جُعِل النَّشرُ في الآية على غيرِ ترتيبِ اللَّفِّ: فذكَر في اللَّفِّ الابيضاضَ قبل الاسوداد، وذكَر في النَّشرِ حُكْمَ مَن اسودَّت وجوهُهم قبل حُكْم مَن ابيضَّت وجوهُهم، فجعل مَطلَع الكلام ومَقطَعه حليةَ المؤمنين وثوابهم، وأَدمَج ذِكْر الآخرين في الأثناء، ونُكْتةُ ذلك: بيان أنَّ المقصودَ من الخَلْقِ الرحمةُ دون العذاب، والتنبيهُ على أنَّ إرادةِ الرَّحمة أكثرُ من إرادةِ الغضبِ .
- وقدَّم عندَ وصْف اليومِ ذِكْرَ البياض، الذي هو شعارُ أهل النَّعيم؛ تشريفًا لذلِك اليوم بأنَّه يومُ ظهورِ رحمةِ الله ونِعْمته، ولأنَّ رحمةَ الله سبَقتْ غضبَه، ولأنَّ في ذِكر سِمَة أهلِ النَّعيم عقِب وعيدِ بالعذاب، حسرةً عليهم؛ إذ يَعلم السامعُ أنَّ لهم عذابًا عظيمًا في يومٍ فيه نعيمٌ عظيمٌ، ثم قدَّم في التَّفصيلِ ذِكرَ سِمَة أهل العذاب؛ تَعجيلًا بمساءتِهم .
- وفيه: تلوينُ الخِطاب، وهو أحدُ أنواعِ الالتفات؛ لأنَّ قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ غَيبة، وأ َكَفَرْتُمْ مُواجَهة .
- قوله: فَذُوقُوا الْعَذَابَ: جاءَ على صِيغة الأمْرِ، والغرَضُ منه الإهانةُ لهم .
- قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ: فيه الجمعُ بين صِيغتي الماضي كُنْتُمْ والمستقبل تَكْفُرُونَ؛ للدَّلالة على استمرارِ كُفرِهم، أو على مُضيِّه في الدُّنيا .
7- قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ: فيه تفاوتٌ بديعٌ بين التَّقسيمين؛ حيث جمَع لِمَن اسودَّت وجوهُهم بين التَّعنيفِ بالقولِ والعذاب، وهنا جعَلَهم مُستقرِّين في الرَّحمة، فالرَّحمة ظرْفٌ لهم، وهي شاملتُهم، ولَمَّا أخْبَر تعالى أنَّهم مُستقِرُّون في رحمة الله، بيَّن أنَّ ذلك الاستقرارَ هو على سبيلِ الخُلُود لا زوالَ منه ولا انتقال، وأشار بلفظ (الرَّحمة) إلى سابق عِنايتِه بهم، وأنَّ العبدَ وإنْ كَثُرت طاعته لا يدخُل الجنَّة إلَّا برحمة الله تعالى، وذَكَر الخُلُودَ للمؤمن ولم يَذكُر ذلك للكافر؛ إشعارًا بأنَّ جانبَ الرَّحمة أغلبُ، وأضاف الرَّحمة هنا إليه، ولم يُضِف العذابَ إلى نفْسِه سبحانه، بل قال: فَذُوقُوا الْعَذَابَ، ولَمَّا ذكر العذابَ علَّله بفِعلهم، ولم يَنصَّ هنا على سببِ كونهم في الرَّحمة .
- وقوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ: استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤالٍ نشأ مِن السِّياق، كأنَّه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هُمْ فِيهَا خالدون، لا يَظعَنون عنها ولا يَموتون، وتقديمُ الظرفِ (فيها)؛ للمُحافظة على رؤوس الآي .
8- قوله: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ:
- قوله: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ إشارةٌ إلى الآيات المُشتمِلةِ على تنعيمِ الأبرارِ، وتعذيبِ الكفَّارِ، ومعنى البُعدِ في تِلْكَ؛ للإيذان بعُلُوِّ شأنِها، وسُموِّ مكانِها في الشَّرف .
- وقوله: نَتْلُوهَا: فيه التفاتٌ من الغَيبة إلى التَّكلُّم ، والتَّعبير بنون العظمةِ في نَتْلُوهَا- مع كون التِّلاوةِ على لِسانِ جبريلَ عليهِ السَّلام- ؛ لإبرازِ كمالِ العناية بالتِّلاوة .
- قوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ: تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه؛ فإنَّ تَنكيرَ الظُّلمِ، وتوجيهَ النفيِ إلى إرادتِه بصِيغةِ المضارعِ دونَ نفْسِه، حيث قال: وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا ولم يقل: (والله لا يظلم)، وتَعليقَ الحكمِ بآحادِ الجَمْع المعرَّف (للعالمين)، والالْتِفاتَ إلى الاسم الجليل (الله)، حيث لم يَقُل: (وما نُريد)؛ إشعارًا بعِلَّة الحُكم- كلُّ ذلك بيانٌ لكمالِ نزاهتِه عزَّ وجلَّ عن الظُّلمِ بما لا مزيدَ عليهِ، أي: ما يُريد فردًا من أفراد الظُّلم لفردٍ من أفراد العالَمين، في وقتٍ من الأوقاتِ، فضلًا عن أنْ يَظلِمَهم؛ فإنَّ المضارعَ كما يُفيد الاستمرارَ في الإثبات يُفيده في النَّفي بحسبِ المقامِ، كما أنَّ الجملةَ الاسميَّة تدلُّ بمعونةِ المقامِ على دوامِ الثُّبوتِ، وعند دخولِ حرفِ النَّفي تدلُّ على دوامِ الانتفاءِ لا على انتفاءِ الدَّوامِ .
- وفي سِياق هذه الجُملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التَّعريض بأنَّ الكفرَةَ هم الظالِمون؛ حيث ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالد، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] .
9- قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: عطْفٌ على التَّذييل؛ لأنَّه إذا كان له ما في السَّموات وما في الأرض، فهو يُريد صلاحَ حالهم، ولا حاجةَ له بإضرارهم إلَّا للجزاءِ على أفعالهم؛ فلا يريد ظُلمَهم .
- وفي قول الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ؛ تقديمُ الخبر؛ لإفادةِ الحَصْرِ والتَّخصيص، فالآية تُفيدُ انفرادَ مُلْك الله تعالى بذلك، أي: إنَّ الله وحده هو المالكُ لها، لا غيره .
- وأتى (بما) التي لغيرِ العاقل؛ لأنَّهم الأكثرُ فغُلِّبوا، ومِن وجهٍ آخَر أنَّه إذا أُريدت الصِّفة، فإنَّه يُعبِّر (بما) بدَلَ (مَن) ولو في العاقل، مِثْل قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ولم يَقُل: (مَن طاب)؛ لأنَّه لم يَقصِد عينَ الشَّخص العاقل، بل قصَد الوصفَ والجِنسَ والكمَّ، أي: انكحوا ما طابَ مِن جميلٍ وقبيحٍ وواحدٍ ومُتعدِّدٍ من النِّساء .
- وتكريرُ اسم الجلالة (الله) ثلاثَ مرَّات في الجُمَل الثلاث: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بدون إضمار؛ للقصدِ إلى أنْ تكون كلُّ جُملة مُستقِلَّةَ الدَّلالة بنَفْسها، غير مُتوقِّفة على غيرها، حتى تَصلُح لأنْ يُتَمثَّل بها، وتَستحضِرها النُّفوسُ، وتَحْفظها الأسماع .
- قول الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ؛ الأمور: جمع أمر، وهو مُحلَّى (بأل) فيُفيد العُمُوم، ففيه بيانُ سَعةِ الله تعالى، حيث كانت جميعُ الأمور الدَّقيقة والجليلة تُرجَع إليه .
- وفيه تقديمُ الجارِّ والمجرور وَإِلَى اللهِ على المُتعلِّق تُرجَعُ؛ لإفادةِ الحَصْر .

===================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (110-112)
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
غريبُ الكَلِمات:

يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ: يُقال: ولَّاهُ دُبُرَه: إذا انهزَم، والتَّولِّي: الإعراضُ بعدَ الإقبال، وأصْل الدُّبر: آخِرُ الشيءِ وخلْفُه، ضد القُبُل
.
الذِّلَّةُ: الصَّغَار، وأَصْل الذُّلِّ: الخُضُوع، والاستكانة، واللِّين، وهو ضِدُّ العز .
ثُقِفُوا: أُدرِكوا وأُخِذوا، أو وُجِدوا وظُفِر بهم، وأصلُ الثَّقَف: الحِذْقُ في إدراك الشَّيء وفِعله .
الْمَسْكَنَةُ: فَقْرُ النَّفْس، من السُّكون والاستكانة، وأصله: الخُضُوع والتَّذلُّل

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخاطِب اللهُ أُمَّةَ الإسلام بأنَّهم خيرُ أُمَّة أَخرَجها للنَّاس، وتلك الخيريَّة حازُوها؛ لكونِهم يأمرون بالمعروف ويَنْهون عن المُنكَر، ويُؤمِنون بالله عزَّ وجلَّ.
ولو أنَّ اليهود والنَّصارى آمنوا برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبما جاء به مِن عند ربِّه تعالى، لكان إيمانُهم خيرًا لهم، لكنَّ مَن آمن منهم قِلَّة، والأكثر استمرُّوا على ما هُمْ عليه، ثمَّ يُخبِر الله أُمَّةَ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أهلَ الكتاب مهما بلغتْ عداوتُهم لهم، لكنَّهم لن يَضرُّوهم إلَّا أذًى باللِّسان، وإنْ حصَل بينهم وبين المؤمنين قتالٌ يَلوذون بالفِرار ثم لا يُنصَرون، قد ألْزَمهم الله بالذِّلَّة والصَّغار في أيِّ مكان وُجِدوا فيه، فلا يَستقِرُّون ولا يَطمئنُّون إلَّا بذِمَّة مِن الله، أو بعَهْد من النَّاس، قد استحقُّوا غضَبَ الله، وظهرتْ عليهم الفاقةُ وذُلُّ الحاجة؛ والسببُ كُفْرهم بآيات الله، وقتْلهم الأنبياء ظُلمًا، وما حمَلهم على الكُفْرِ والقتلِ هو عِصيانُهم لله، واعتداؤُهم على حدودِ ما شرَعه.
تفسير الآيات:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كانتِ الآيةُ السَّابقة وهي قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أمرًا منه تعالى لهذه الأُمَّة، والأمرُ قد يَمتثِله المأمورُ ويقوم به، وقد لا يقوم به؛ أَخبَر في هذه الآية أنَّ هذه الأُمَّة المحمديَّة قد قامتْ بما أمَرها الله بالقيام به، وامتَثلتْ أمرَ ربِّها، واستحقَّتِ الفضلَ على سائر الأمم
، فقال تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
أي: أنتم- يا أُمَّة الإسلامِ- قد جُعِلتم خيرَ الأمم وأَكرمَها على الله تعالى؛ لأسبابٍ أَنعَم الله بها عليكم، فتميَّزتُم وفُقْتُم مَن سبَقكم، وأنتم أنفع النَّاس للنَّاس .
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
أي: حُزْتم خيريَّتَكم بأمركم النَّاسَ بكلِّ ما يأمر به الشَّرعُ، ونهيِكم لهم عن كلِّ ما ينهى عنه الشَّرعُ، ولأنَّكم تُقِرُّون بالله تعالى وجودًا ورُبوبيَّة وأُلوهيَّة وبما له من أسماء وصفات، وتُتْبِعون ذلك بالانقياد لِما أمَر واجتناب ما نهى سبحانه .
فجمَعوا بين تكميلِ الخَلْق، والسَّعيِ في منافعِهم بحسَب الإمكان، وبين تكميلِ النَّفْس بالإيمانِ بالله تعالى، والقيامِ بحقوق الإيمان .
عن مُعاويةَ بن حَيْدَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّهُ سمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في قولِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: ((إنَّكم تُتِمُّون سبعينَ أمَّةً، أنتم خيرُها وأَكرمُها علَى اللَّهِ )) .
وعن أَبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّه قال عن قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: ((خيرَ النَّاس للنَّاس، تأتون بهم في السَّلاسِلِ في أَعناقِهم، حتى يَدخُلوا في الإسلام )) .
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا مدَح الله تعالى هذه الأُمَّةَ على تلك الصِّفات التي نالوا بها الخيريَّة من الإيمان بالله تعالى والأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر، شرَع في تأنيبِ أهلِ الكتاب، الذين ذمَّهم في آيةٍ أخرى بقوله سبحانه: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 79] .
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
أي: ولو آمَن أهلُ التَّوراة والإنجيلِ من اليهود والنَّصارى بمحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وما جاءَهم به من عند اللهِ عزَّ وجلَّ، لاهتَدَوْا وكان ذلك خيرًا لهم عندَ الله تعالى في دُنياهم، وآخرتهم .
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
أي: ولكنْ لم يُؤمِنْ منهم إلَّا القليلُ، وأمَّا أكثرُهم فخارجون عن طاعةِ ربِّهم، وخارجون عن دِينِهم الذي فيه صفاتُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والأمرُ باتِّباعه .
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
هذا استئنافٌ نشأَ عن قولِه: وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ؛ لأنَّ الإخبارَ عن أكثرِهم بأنَّهم غير مؤمنين يُؤذِن بمُعاداتِهم للمؤمنين، وذلك مِن شأنه أنْ يُوقِع في نُفُوس المسلمين خَشيةً من بأسِهم ، فقال تعالى:
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى
أي: لن يَضُرَّكم- يا أُمَّة محمَّد- هؤلاء الفاسقون من اليهود والنَّصارى، في دِينِكم ولا في أبدانِكم، وإنَّما غايةُ ما تَلْقَون منهم أَذيَّةَ اللسان، كإسماعِكم كُفْرَهم، ودُعائِهم إيَّاكم إلى الضَّلالة، ولا يَضرُّونكم بذلك .
وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ
أي: قد ردَّ الله تعالى كيدَهم في نُحُورهم؛ فإنَّهم لو قاتَلوكم لَلَاذُوا بالفِرار، ثم تستمرُّ هزيمتُهم ويدومُ ذُلُّهم .
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّه لا ينالُ المؤمنين ضررٌ من أهل الكتاب، وأنَّهم لو قاتَلوا المؤمنين لولَّوُا الأدبارَ فِرارًا، فلمَّا أَخبَر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذُّلِّ أَتْبَعه الإخبارَ بأنَّه في كلِّ زمان وكلِّ مكان مُعاملةً منه لهم بضدِّ ما أرادوا، فعوَّضهم عن الحِرصِ على الرِّئاسة إلزامَهم الذِّلَّةَ، وعن الإخلادِ إلى المال ضرْبَ المسكنة عليهم ، فقال:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
أي: أُلزِم اليهودُ الذِّلَّةَ والصَّغار، فجُعِل ذلك أمرًا محتومًا عليهم، لا يُفارِقهم حيثما وُجِدوا وأينما كانوا، لكنَّهم يَأمَنون على أموالِهم وأنفسِهم وذَراريهم بعهدٍ مِن الله تعالى، وعهدٍ من النَّاس .
وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
أي: قد انصرَفوا مُستحقِّين غضبَ الله عليهم .
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ
أي: كما أُلزِموا قَدَرًا وشرعًا بالذُّلِّ في بَواطنِهم، عُوقِبوا كذلك ببُدوِّ أَثَرِ الحاجةِ وذُلِّ الفاقةِ على ظَواهِرهم .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
أي: وقعتْ عليهم هذه العقوباتُ المذكورة؛ بسببِ كُفْرهم الدَّائم بدلائل الحقِّ بغيًا وعِنادًا، وقتْلِهم المستمرِّ لأنبيائه عليهم السَّلام ظلمًا واعتداء .
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
أي: إنَّما حمَلهم على هذا الكُفرِ والقتلِ أنَّهم مُقيمون على معصيةِ الله عزَّ وجلَّ، ومُستمِرُّون في الاعتداء على حدود شَرْع الله تعالى، فهذا الذي أوصَلهم إلى التجرُّؤ على الكفرِ بالله سبحانه، وقتْلِ أنبيائه عليهم السَّلام

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فيه فضيلةُ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنَّهما أساسُ خيريةِ الأمَّة وأفضليتها على غيرِها، ومناطُ رِفعتها، وأنَّ خيريَّةَ الأُمَّةِ وفضْلها على غيرِها، تكون بالقيامِ بالأمر بالمعروف والنَّهيِ عن المُنكَر، المُتضمِّن لدعوة الخَلْقِ إلى الله وجهادِهم على ذلك، ولا توجد الأُمَّةُ وجودًا حقيقيًّا إلا بتوافُر هذه السِّمة، فكلَّما وُجِدتْ هذه الفريضةُ في الأُمَّة وُجِدَ الخيرُ فيها، وكلَّما ضَعُفت فيها ضَعُف الخيرُ
.
2- قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فيه الحَذَرُ من الكفر بآياتِ الله؛ والمعصية والاعتداء؛ لأنَّها سببٌ للعقوبات، فقد جعَل الله تعالى على اليهودِ الذِّلَّةَ والغضبَ والمسكنةَ لازِمًا لهم؛ بسبب هذه الأفعال

.
الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ذِكْر الحُكم مقرونًا بالوصف المناسِبِ له يدلُّ على كونِ ذلك الحُكم مُعلَّلًا بذلك الوصف، يَقْوَى بقوَّته ويَضعُف بضَعْفه، فهاهنا حكَمَ تعالى بثُبوت وصْف الخيريَّة لهذه الأُمَّة، ثم ذكَر عُقَيبه هذه الطاعات: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر، والإيمان؛ فوجَب كونُ تلك الخيريَّة مُعلَّلةً بهذه العبادات
.
2- قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ تفضيلُهم بالأمر بالمعروف فيه ضمانٌ من الله تعالى بأنَّ هذه الشَّعيرةَ لا تَنقطِعُ من المسلمين إنْ شاء اللهُ تعالى .
3- قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فيه دليلٌ على حُجِيَّة الإجماع وعِصْمة الأُمَّة من الخطأ؛ فإنَّ (الألف واللام) في لفْظ بالمعروف ولفظ المُنكَر يُفيدان الاستغراقَ، وهذا يَقتضي كونَهم آمِرين بكلِّ معروف، وناهين عن كلِّ مُنكَر، ومتى كانوا كذلك كان إجماعُهم حقًّا وصِدقًا لا مَحالة .
4- في قول الله تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قدَّم تعالى الأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ على الإيمانِ باللهِ لعِدَّة أسباب؛ منها:
- التنويهُ بفضيلةِ الأمْر بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر.
- ولَمَّا كان الكلامُ في خيريَّة هذه الأُمَّة على جميعِ الأمم مُؤمِنهم وكافِرهم قدَّم الوصفَ المُتَّفَق على حُسْنه عندَ المؤمنين والكافرين .
- ولأنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر سِياجُ الإيمان وحِفاظُه، فكان تقديمُه في الذِّكر مُوافِقًا لمعهودٍ عندَ الناس في جَعْل سياجِ كلِّ شيء مُقدَّمًا عليه .
- وأيضًا تعريضًا بأهل الكتاب الذين كانوا يَدَّعون الإيمان، ولا يَقدِرون على ادِّعاءِ القيام بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر .
- ولأنَّه هو الوصْفُ المؤثِّر في حصولِ هذه الخيريَّة لهذه الأُمَّة؛ إذ الإيمان قدَرٌ مُشترَك بين كلِّ الأمم المحِقَّة، والمؤثِّر في حصول هذه الزِّيادة هو كون هذه الأمَّة أقوى حالًا في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر من سائر الأمم، وأمَّا الإيمانُ بالله فهو شرطٌ لتأثيرِ هذا المؤثِّر في هذا الحُكم؛ لأنَّه ما لم يوجدِ الإيمان لم يَصِرْ شيءٌ من الطَّاعات مؤثِّرًا في صِفة الخيريَّة ، وللدَّلالة على أنَّهم أمَروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر إيمانًا بالله، وتصديقًا به، وإظهارًا لدِينه .
5- قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، فيه أنَّ العامِلين يَتفاضلون .
6- قول الله تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ: فيه جوازُ تَعدُّد العِلل لمعْلولٍ واحد

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ: استئنافٌ مُبيِّن لكونِهم خيرَ أُمَّة
، وتعليل لأمْرهم بالدَّعوة إلى الخيرِ .
- وعبَّر بصِيغة الاستقبال (تأمرون- وتَنْهون)؛ للدَّلالة على الاستمرارِ، والخِطابُ وإنْ كان خاصًّا بمَن شاهَد الوحيَ من المؤمنين، لكنَّ حُكمَه عامٌّ للكلِّ .
- والمراد بـأُمَّة: عمومُ الأُمم كلِّها- على ما هو المعروفُ في إضافة أفعل التَّفضيل إلى النَّكرةِ أنْ تكون للجِنس، فتُفيد الاستغراق .
- وفيه إيجازٌ؛ حيث اكتفَى بذِكر الإيمان بالله، ولم يذكُر الإيمانَ بالنُّبوَّة مع أنَّه لا بدَّ منه؛ لأنَّ الإيمانَ بالله يَستلزِم الإيمانَ بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الإيمانَ بالله لا يَحصُل إلا إذا حصَل الإيمان بكونه صادقًا، والإيمان بكونه صادقًا لا يَحصُل إلَّا إذا كان الذي أَظهَر المعجِزَ على وَفْق دعواه صادقًا، وكان الاقتصارُ على ذِكْر الإيمان بالله تنبيهًا على هذه الدَّقيقة .
2- قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فيه تعريضٌ بأهلِ الكتابِ من اليهودِ وغيرِهم أنَّهم مُتوقِّفونَ في اتِّباع الإسلام، مع إمكانِ تحصيلِهم على هذا الفضلِ .
3- قوله: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
- الألف والَّلام في المُؤْمِنُونَ وفي الفَاسِقُونَ يدلُّ على المبالَغةِ والكمالِ في الوصفينِ، وذلك ظاهرٌ؛ لأنَّ مَن آمَن بكتابه وبالقرآن فهو كاملٌ في إيمانه، ومَن كذَّب بكتابه إذ لم يتَّبِع ما تَضمَّنه من الإيمانِ برسول الله، وكذَّب بالقرآنِ فهو أيضًا كامِلٌ في فِسْقه مُتمرِّد في كُفْره .
- قول الله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لم يَقُل: (منهم مؤمنون)، فـ(أل) للعَهْد الذِّهنيِّ، فالمقصود الإيمان المعهود عندكم- أيُّها المسلمون- وهو الإيمانُ برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
4- قوله: وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ: فيه مُبالَغةٌ في عدمِ مكافحةِ الكُفَّارِ للمؤمنين إذا أرادوا قِتالَهم، وأنَّهم ليسوا ممَّن يَغلِب ويَقتُل وهو مُقبِلٌ على محاربِه غيرُ مُدبِرٍ عنه، وهذه الجملة جاءتْ كالمؤكِّدة للجملةِ قَبلها لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى؛ إذ تضمَّنت الإخبارَ أنَّهم لا تكونُ لهم غَلَبةٌ ولا قَهْر، ولا دولةٌ على المؤمنين؛ لأنَّ حصولَ ذلك إنَّما يكون سَببَه صِدْقُ القتال والثَّبات فيه، أو النَّصرُ المستمدُّ من الله، وكِلاهما ليس لهم .
- وأتى بلفظِ (الأدبار) لا بلفظِ الظُّهور؛ لِمَا في ذِكر الأدبارِ من الإهانة دون ما في الظُّهور، ولأنَّ ذلك أبلغُ في الانهزامِ والهَرَب .
5- قوله: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فيه من وجوهِ البلاغةِ ما يأتي:
- تَعقيبُ الكلامِ الذي تمَّ بجُملةٍ تُوضِّح اليَقينَ ، وهي قوله: ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ؛ تأكيدًا منه سبحانه للمؤمنين المجاهدين أنَّ النَّصرَ سيكونُ حليفَهم؛ ليفيدَ الدَّيمومةَ والاستمرار في الجهاد، وعدم الاستسلام للعدوِّ، ويُبشِّرهم بأنَّ عدوَّهم مخذول أبدًا، وأنَّ عليهم أنْ يُباشِروا قتالَه في كلِّ وقت .
- تَعليقُ الكلامِ إلى حِينٍ من الزَّمن ؛ حيث اختير لفظ "ثمَّ" دون حروفِ العَطف؛ لأنَّه يدلُّ على المهلةِ الملائمة لدَلالة الفِعْل المضارع على الاستقبال، إشارة إلى أنَّ هؤلاء اليهودَ قومٌ لا يُنصَرون ألبتَّةَ مهما واتتْهم الإمكاناتُ، ومهما أُغدِقت عليهم المساعدات ، أو تكون (ثم) هنا ليستْ للمُهْلة في الزَّمان، وإنَّما هي للتَّراخي في الإخبار، فالإخبارُ بتولِّيهم في القتال وخِذلانهم والظَّفَر بهم أَبْهجُ وأَسَرُّ للنَّفْس، ثُمَّ أَخبَر بعد ذلك بانتفاء النَّصرِ عنهم مُطلَقًا .
-و مجيء حرْف العَطفِ (ثمَّ)؛ لأنَّ الكلامَ لو عُطِف بالواوِ مثلًا لظَنَّ قِصارُ النَّظر أنَّهم إنَّما وُعِدوا بالنَّصر في تلك الحالة ليس غيرُ، فدفَع هذا الظنَّ بكلمة (ثمَّ) التي تَقطُع هذا الشكَّ باليقين ، مؤكِّدًا أنَّ النتيجة الحتميَّة هي النَّصر المؤزَّر للمؤمنين؛ فقطع على هؤلاء الظَّانِّين الطريقَ لالتِماس المعاذير للتَّخلُّف عن الجهاد .
6- قوله: وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: التَّنكيرُ في (بغضب)؛ للتَّفخيم والتهويل، و(مِن) في قوله: مِنَ اللَّهِ مُتعلِّقةٌ بمحذوف وقَع صفةً لغضب مُؤكَّدةٌ؛ لِما أفاده التَّنكيرُ من الفخامة والهول، أي كائن من الله عزَّ وجلَّ ، فتأكَّد التَّفخيم بالوصف في قوله تعالى (مِنَ اللَّهِ) .
7- قول الله تعالى: بِغَيْرِ حَقٍّ: ليس قيدًا، ولكنَّه للكشف والإيضاح لبيان الواقع، أي: إنَّ قتْلَ الأنبياء كلَّه بغير حقٍّ، والمقصود شِدَّة التَّوبيخ لهؤلاء، وأنَّهم يَقتُلون أشرفَ الخَلْق بغير حقٍّ، وللدَّلالة على أنَّه لم يكن حقًّا بحسب اعتقادهم أيضًا .
8- قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ مع قوله: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ: فيه نشْرٌ ولفٌّ؛ فكُفْرهم بالآيات سببُه العِصيان، وقتْلهم الأنبياء سببُه الاعتداءُ .

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...