حمل المصحف بكل صيغه

حمل المصحف

Translate

الأربعاء، 17 يناير 2024

3. سورة آل عمران {ج2.}




سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: ( 38- 41)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
غريبُ الكَلِماتِ:

حَصُورًا: أي: لا يَأتِي النساء؛ لعفَّتِه واجتهادِه في إزالةِ الشَّهوةِ، كأنَّه محصورٌ عنهنَّ، أي: محبوسٌ عنهنَّ، وأصلُ الحَصْر: الجَمْعُ والحبْسُ والمنعُ
.
عَاقِرٌ: عقيمٌ، وهي الَّتي لا تَلِد، وأصل العقر: الجرح .
رَمْزًا: وحيًا وإيماءً، أو إشارةً، أو تحريك الشَّفتينِ باللَّفظ من غيرِ إبانةٍ بصوتٍ، وقد يكونُ إشارةً بالعينِ والحاجبَينِ .
بِالْعَشِيِّ: آخِر النَّهار، أو مِن زوالِ الشَّمسِ إلى الصَّباح، وقيل: إلى أنْ تَغيبَ الشَّمس .
وَالْإِبْكَارِ: أوَّل النَّهار، أو مِن مَطلعِ الفجرِ إلى وقتِ الضُّحى

.
المَعنَى الإجماليُّ :

حينما رأى زكريَّا عليه السَّلام ما امتنَّ الله به على مريمَ من كرامات, طَمِع في فضْل الله, وتاقتْ نفسُه للولد, فدعا ربه قائلًا: ربِّ، أعطِني مِن عِندك، وهَبْ لي من فَضْلك، ذرِّيَّةً صالحةً طيِّبة؛ إنَّك سميعٌ لدُعائي, مجيبٌ له.
فاستجاب الله له دُعاءَه, فجاءتْه الملائكةُ تبشِّره بمولودٍ يُولد له اسمُه يَحيى, وله صفاتٌ عظيمةٌ, وخصالٌ جليلة؛ فهو مصدِّقٌ بعيسى عليه السَّلام, وسيِّدٌ على قومه، يسُودُهم بما أنعم الله به عليه من خِصالٍ حميدةٍ, وخُلقٍ فاضل, وعِلمٍ ودِين, وهو منقطعٌ للعبادة بكلِّيَّته، مبالغٌ في منْعِ نفْسِه عن التمتُّع بما أحلَّ الله، ممَّا تشتهيه النفوسُ عادةً، حتى الزَّواجِ بالنِّساء, ونبيٌّ من الصَّالحين.
وهنا يتعجَّب زكريَّا عليه السَّلام من قُدرةِ اللهِ الكاملة, فيتساءَلُ عن كيفيَّةِ حُصولِ هذا مع كِبَر سنِّه، وكون امرأتِه عاقرًا لا تلِدُ؟! فيأتيه الجوابُ: إنَّ الله يفعلُ ما يشاء.
ويَطلُب زكريَّا عليه السَّلام من الله آيةً وعلامةً دالَّةً على وجودِ هذا الولد، تحصُل له بها الطُّمأنينةُ, فيُخبره الله تبارَك وتعالَى أنَّ علامة ذلك انحباسُ لِسانِه عن كلام النَّاس، لا عن مَرضٍ ولا آفةٍ، ويتعامَلُ معهم عن طريقِ الإشارة والرَّمز, مدَّةَ ثلاثةِ أيَّام بلياليها, ويأمره أنْ يُكثِرَ من ذِكر ربِّه, وتعظيمِه وتنزيهِه في آخِرِ النَّهارِ وأوَّله.
تفسير الآيات:

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رأى زكريَّا عليه السَّلام ما منَّ الله سبحانه به على مريمَ، وما أكرمَها به من رِزقه الهَنِيء الَّذي أتاها بغيرِ سعيٍ منها ولا كسبٍ، طمعتْ نفسُه بالولدِ مع كونه شيخًا كبيرًا قد وهَن عَظمُه، واشتعلَ رأسه شيبًا، وكانتِ امرأتُه مع ذلك كبيرةً وعاقرًا
؛ قال تعالى:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ
أي: في ذلك المكانِ الَّذي وجَدَ فيه زكريَّا ذلك الرِّزقَ عند مريم، سأل ربَّه وناداه نداءً خفيًّا .
قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
أي: قال: يا ربِّ، أَعطِني من عندك ولدًا صالحًا مبارَكًا .
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
أي: ذو سَمعٍ لدعاءِ مَن دعاك، ومجيبٌ له .
قال الله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 2- 6] .
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ
أي: فاستجاب اللهُ دُعاءَه، وأرسل إليه جماعةً من الملائكة , تُبشِّره بذلك، فنادتْه حالَ قيامِه مُصلِّيًا في مكان عبادتِه .
أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
أي: إنَّ الله يبشِّرُك يا زكريَّا بمولودٍ مِن صُلبك اسمُه يحيى .
مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ
أي: مُصدِّقًا بعيسى عليه السَّلام .
كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ... [النساء: 171] ، وقال: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: 45] .
وَسَيِّدًا
أي: يسُودُ قومَه، ويَفُوقهم بخِصالِه الجَميلةِ، وعِلمه ودِينه .
وَحَصُورًا
أي: ممتنِعًا من قُربِ النِّساء ، وعن كلِّ ما تَشتهيه النفوسُ عادةً ممَّا أحلَّ الله؛ لانقطاعِه لعبادةِ الله .
وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
أي: نبيًّا كائنًا من جملة الصَّالحين، وهذه بِشارةٌ ثانيةٌ بنبوَّةِ يحيى عليه السَّلام، وهي أعْلى مِن البِشارةِ الأُولى بولادتِه .
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لمَّا سمِع زكريَّا عليه السَّلام البِشارةَ بوجود الولد، أخَذ يتعجَّبُ من كمال قدرةِ الله .
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ
أي: قال زكريَّا: يا ربِّ، كيف يكون لي غلامٌ؟ .
وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ
أي: وقد كبِرْتُ وبلغتُ سنًّا مَن بلغها لم يولد له .
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ
أي: وامرأتي لا تلِدُ .
قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
أي: مِثْلَ ذلك الفعلِ، وهو إيجادُ الولدِ مِن الشَّيخ الكبير والمرأة العاقر يفعل اللَّه ما يشاء مِن الأفعال العجيبة .
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً
أي: قال زكريَّا: يا ربِّ، اجعَلْ لي علامة تدلُّ على وجود الولَد منِّي .
قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا
أي: قال: العلامةُ الَّتي تدلُّك، أنَّك ينحبِسُ لسانُك، فلا تستطيع النُّطقَ أو مخاطَبةَ النَّاس إلَّا إشارة ، مدَّةَ ثلاثة أيَّامٍ بلياليها، مع كونك سويًّا صحيحًا .
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا
أي: وأكثِرْ من ذِكر ربِّك؛ فإنك لا تُمنَعُ ذِكرَه .
وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
أي: وعظِّم ربَّك بعبادته، منزِّهًا له عمَّا لا يليق به آخرَ النَّهار وأوَّله

.
الفوائد التربوية :

1- يُؤخذ من قوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أنَّ الخَلْقَ كلَّهم- بما في ذلك الأنبياء- مفتقِرون إلى الله، لا يَستغنُون عن دُعائِه
.
2- على الإنسانِ ألَّا يسألَ مُطلَقَ الذُّرِّيَّة؛ لأنَّ الذُّرِّيَّة قد يكون منها نكدٌ وفتنة، بل عليه أنْ يسألَ اللهَ الذُّرِّيَّة الطَّيِّبة؛ وذلك يُؤخَذ من قوله: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً .
3- يُستفادُ من قوله تعالى: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أنَّه يَنبغي للإنسان أنْ يفعلَ مِن الأسبابِ ما يجعل ذُرِّيَّته طيِّبةً، ومن ذلك الدُّعاء .
4- يَنبغي للإنسان إذا انقطَعَ عن النَّاس أنْ يَشغَلَ وقتَه بذِكر الله عزَّ وجلَّ؛ كما في قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إثباتٌ للقياس؛ لأنَّه لَمَّا رأى أنَّ الله يَرزُقَ هذه المرأةَ بدون سببٍ معلوم، علِم أنَّ الَّذي يسُوقُ لها الرِّزق- وهي امرأةٌ منقطعةٌ عن التَّكسُّب في محرابها- قادرٌ أنْ يرزُقَه
.
2- في قوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ... بيان أنَّ الحكمةَ ضالَّةُ المؤمن، وأهل النُّفوس الزَّكيَّة يَعتبرون بما يرَوْن ويسمَعون .
3- في قوله مِنْ لَدُنْكَ: أُضيفتِ العِنديَّة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ قيل: ليكون أبلغَ وأعظمَ؛ لأنَّ هديَّةَ الكريم أكرمُ .
4- التَّوسُّل إلى الله تعالى بأسمائِه المناسِبةِ للحاجةِ؛ وذلك مِن قوله تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ .
5- يُؤخذُ من قوله: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ جوازُ تكليمِ المصلِّي, إلَّا أنَّ المكلَّمَ في صَلاتِه لا يُخاطِب الآخَرَ، وإنَّما يُجيبه إشارةً .
6- مشروعيَّةُ تبشيرِ الإنسان بما يسُرُّه؛ وذلك مأخوذٌ من قوله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى .
7- قوله: وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ عاقرٌ: خبَر لامرأتي، وإنَّما جاء بصِيغة المذكَّر، وحقُّه التأنيثُ؛ لأنَّ (عاقر) مشتقٌّ من العقر، وهو مَن لا يُولَد له؛ رجلًا كان أو امرأةً. وقيل: جاء ذلك على النَّسَب، أي: وامرأتي ذات عَقرٍ، وهي بمعنى مفعول، أي: معقورة؛ ولذلك لم تلحقْ تاء التأنيث .
8- بيانُ أنَّ الممكِناتِ داخلةٌ تحت قدرةِ الله تعالى، وإن عزَّ وقوعُها في العادة .
10- لا حرَجَ أنْ يطلُبَ الإنسانُ ما تطمئنُّ به نفْسُه؛ فزكريَّا عليه الصلاة والسَّلام لم يَشُكَّ في خبَرِ الله، لكن أراد أنْ يَتقدَّم إليه الفرحُ والاستبشار بقوَّة البراهين، وكلَّما ازدادتُ البراهين ازدادت قوَّة اليقين كما في قوله: رَبِّ اجْعَلَ لِي آيَةً.
11- يجبُ على الإنسانِ أنْ يبحثَ عمَّا يَزيدُ به الإيمان؛ لأنَّه مطلوبٌ منه أنْ يقوِّيَ إيمانه بكلِّ وسيلة, وذلك من قوله: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً .
12- جوازُ وصفِ الإنسانِ بما يكرهُ إذا كان المرادُ مجرَّدَ البيان لا القدحِ والعيبِ، كما في قوله: وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ .
13- في قوله أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، بيانُ أنَّ الله كما يمنعُ نفوذَ الأسباب مع وجودِها، فإنَّه يُوجِدها بدون أسبابها؛ ليدلَّ ذلك أنَّ الأسبابَ كلَّها مندرجةٌ في قضائِه وقدَره .
13- في قوله: إِلَّا رَمْزًا دليلٌ على أنَّ الإشارةَ تقومُ مقامَ العبارة .
14- قوله تعالى: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ الآية فيها دليلٌ على جوازِ إطلاق السَّيِّدِ على مَن ساد من النَّاس، وقد جاء في الصَّحيحينِ وغيرهما من حديثِ أبي بكرةَ، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال في الحسَنِ بن علي رضِي اللهُ عنهما: ((إنَّ ابْنِي هذا سيِّدٌ )) ؛ الحديث

.
بلاغة الآيات :

1- قوله تعالى: دَعَا رَبَّهُ، وقَالَ رَبِّ: فيه تكرارُ لاسمِ الربِّ الجليل
، وهو مِن الإظهارِ في موضِع الإضمارِ، وفائدتُه: بيانُ شدَّة تعلُّقه بالله تعالى، ولمناسبةِ ما في الربوبيَّةِ من معاني الإحسانِ لمِثل حالتِه.
2- قوله عزَّ وجلَّ: فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ: عبَّر بالفاء التي للتعقيب في فَنَادَتْهُ؛ للدلالةِ على السُّرعة في استجابة دَعوتِه .
- وعبَّر بالجمع المَلَائِكَةُ، وإنْ كان المنادِي له واحدًا (جبريل)؛ تعظيمًا له، ولأنَّه عظيمٌ في الملائكة، فأسند النِّداء إلى الكلِّ مع كونِه صادرًا عنه خاصَّةً، وهو من بلاغةِ التعبير، وهذا على القولِ بأنَّ المرادَ بالملائكةِ جبريل ؛ فيكون مِن قَبيلِ العامِّ المرادِ به الخُصوص.
3- قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ: في تَكرار اسمِ الله تعالى ، وإظهاره في موضِع الإضمارِ؛ لتربيةِ المهابة.
- وتقييدُ الفِعل يُبَشِّرُكِ بالجارِّ والمجرور (مِنَ اللهِ)؛ للدَّلالة على خُصوصيَّة هذه البُشرى، وأنَّها لا تكونُ إلَّا بقُدرةِ الواحد الأحد .
4- قوله عزَّ وجلَّ: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ...: فيه إطنابٌ، وإعادةٌ للكلام؛ وذلك أنَّه ربَّما أعاد السؤالَ ليُعيد ذلك الجواب، فحينئذٍ يلتذُّ بسَماعِ تلك الإجابة مرةً أخرى .
- قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ: استفهامٌ غرضُه الاستبعادُ من حيثُ العادة، أو الاستعظامُ، أو التعجُّبُ قُصِد منه تعرُّفُ إمكان الولد؛ لأنَّه لَمَّا سأل الولدَ فقد تهيَّأ لحصول ذلك، أو يكون استفهامًا حقيقيًّا عن كيفية حُدوثِه .
- في قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ: عبَّر بهذا التعبير بَلَغَنِيَ الكِبَرُ، ولم يقل: (قدْ كبِرت)؛ لإظهارِ تمكُّن الكِبرِ منه كأنَّه يَتطلَّبه، حتى بلغه .
- وقوله سبحانه: وَامْرَأتِي عَاقِرٌ: فيه تأكيدٌ لحالِ الاستبعاد، حيثُ ذكَر زكريَّا عليه السَّلام كِبَرَ نفْسِه مع كونِ زوجتِه عاقرًا .
- وقدَّم زكريَّا عليه السَّلام في هذه السُّورةِ حالَ نفْسِه، وأخَّر حالَ امرأتِه، وفي سورة مريمَ عكَس فقال: وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] ، فقدَّم هنا ذِكر الكِبَر على ذِكرِ المرأة، وعكَس في "مريم"؛ لأن الذَّكَر مقدَّمٌ على الأُنثى، فقدَّم كِبَره هنا، ومناسبة ذلك: أنَّ صدْر الآيات في مريم مطابقٌ لهذا التركيب؛ لأنَّه قدَّم وهَنَ عظْمه، واشتعالَ شَيْبه، وخِيفةَ مواليه مِن ورائهِ، وقال: وَكانَتِ امْرَأتِي عَاقِرًا، فلمَّا أعاد ذِكرَهما في استفهامٍ آخَر ذكَر الكِبَر؛ ليوافقَ عتيًّا رُؤوسَ الآي، وهو بابٌ مقصودٌ في الفصاحةِ يترجَّح إذا لم يُخِلَّ بالمعنى، والعطفُ هنا بالواو، فليسَ التقديمُ والتأخيرُ مُشعِرًا بتقدُّم زمانٍ، وإنَّما هذا من بابِ تقديمِ المناسِب في فَصاحة الكلام، فاستدعتْ مقاطعُ آياتِ سورة مريم وفواصلُها- ... زَكَرِيَّا خَفِيًّا حَيًّا نَبِيًّا- ما يَجري على حُكمها ويُناسبها؛ فاقتضتْ مناسبةُ آي هذه السورة وُرودَ قِصَّة زكريَّا عليه السَّلام على ما تقدَّم .
5- في قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ: عبَّر عن المولودِ والطِّفل بالغلام- والغلامُ هو الشابُّ الفتيُّ السِّنِّ من الناس، وهو الذي طرَّ شاربُه-؛ على سبيلِ التفاؤل بما يؤولُ إليه .
6- قوله عزَّ وجلَّ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا: أي: في أيَّام الحُبسة، وهو مؤكِّدٌ لِمَا قبله، مُبيِّن للغرضِ منه، وتقييدُ الأمرِ بالكثرةِ يدلُّ على أنَّه لا يُفيد التَّكْرار .


================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (42- 44)
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
غريبُ الكَلِماتِ:

اقْنُتِي: دَاومِي على الطَّاعةِ، والقُنُوتُ: دوامُ الطَّاعة ولزُومُها مع الخُضوع؛ وأصل (قنت): يدلُّ على طاعةٍ وخيرٍ في دِين، ثم سُمِّي كلُّ استقامةٍ في طريقِ الدِّينِ قنوتًا

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يَقصُّ الله تبارَك وتعالَى على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما كان من شأنِ مريم عليها السَّلام؛ إذ نادتْها الملائكةُ فقالت لها: يا مريمُ, إنَّ الله اجتباكِ واختاركِ وطهَّركِ في الخُلق والدِّين, وفضَّلكِ على نِساء العالَمين، يا مريم، إنَّ هذا الاصطفاءَ والتَّطهيرَ نعمةٌ كبيرةٌ من الله تستحقُّ منكِ الشُّكر, فلتكنْ عبادتُكِ خالصةً لله وحده, وداوِمِي عليها, وصلِّي مع المصلِّين العابدين الخاشعين.
ثمَّ قال الله تبارَك وتعالَى لرسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ كلَّ ما تقدَّم ذِكرُه من أَنباءٍ وقَصصٍ هي أخبارٌ خَفيَّة غَيبيَّة، لم تكُن تعلمها أنتَ ولا قومُك, ونحن قَصَصْناها عليك؛ لتكونَ شاهدًا وبرهانًا على صِدْق ما جئتَ به، ولم تكن- يا محمَّدُ- حاضرًا حين اجتمع زكريَّا وقومه واقتَرعوا في شأنِ مريم؛ لينظروا أيُّهم يكفُلُها ويُضمُّها إليه, واختصَموا في أمرها, وإنَّما جاءَك خبرُ هذا بالوحي, وإلَّا لَمَا علمت به، ولا وصَلك نبؤُه.
تفسير الآيات:

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
أي: واذكُرْ إذ قالتِ الملائكة: يا مريمُ
.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ
أي: إنَّ اللهَ اختارَكِ وطهَّركِ في خُلُقِكِ ودِينكِ .
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
أي: اختارَكِ على نِساءِ العالَمين وفضَّلكِ عليهنَّ .
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان في هذا الاصطفاءِ والتَّطهير لمريمَ من النِّعمة العظيمة، والمِنحةِ الجَسيمةِ، ما يُوجِب لها القيامَ بشُكرها، قالت لها الملائكةُ :
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
أي: قالت الملائكةُ أيضًا: يا مريمُ، أخلِصي الطَّاعة لربِّكِ وحده، وداومِي على عبادتِه .
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
أي: وصَلِّي، وكوني مع الخاشعين العابدين المصلِّين .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ
أي: هذه الأخبارُ الَّتي تَقدَّم ذِكرُها عن امرأةِ عِمْران وابنتِها مريم وزكريَّا وابنه يحيى عليهما السَّلام من أخبارِ القوم الخفيَّة، الَّتي غابتْ عنكَ وعن قومِك فلم تَطَّلعوا عليها، نقصُّها عليك ونخبرُك بها؛ دليلًا على نُبوَّتِك، وتحقيقًا لصِدْقِك .
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
أي: وما كنتَ- يا محمَّدُ- عند زكريَّا وقومِه حين اقترَعوا في شأنِ مريمَ بإلقاء أقلامِهم ؛ ليَنظروا أيُّهم يَكفُلُها ويَضمُّها إليه .
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
أي: وما كُنتَ عندَهم حالَ اختصامِهم أيُّهم أحقُّ بها، فلولا أنَّ الله أَوحى إليك ذلك لَمَا كان لك علمٌ به

.
الفوائد التربوية :

1- كلَّما مَنَّ اللهُ سبحانه وتعالى على إنسانٍ بشيءٍ مِن نِعَمه كان مُطالَبًا بالعبادة أكثرَ؛ شُكرًا على ما أنعم اللهُ عليه به
؛ كما قال تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي... بعدَ إخبارِها بالاصطفاءِ والتَّطهير.
2- يُؤخذُ من قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ... أنَّ مَن اعتقد أنَّه مكرَّمٌ اجتهدَ في المحافظةِ على كرامتِه، وتَباعَد أشدَّ التَّباعُدِ عن كلِّ ما ينقص منها

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في أمر الله نبيَّه أنْ يَذكرَ قصَّة مريم لهذه الأمَّة تعظيمٌ لشأنها
.
2- في قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ، ذَكَرَ اللهُ الاصطفاء مرَّتين؛ فالأوَّل يَرجِع إلى الصِّفات الحميدة، والأفعال السَّديدة؛ فهو اصطفاء ذاتيٌّ، وهو جعَلها منزَّهة زكيَّة، والثَّاني: يرجع إلى تفضيلها على سائر نساءِ العالَمين، سواءٌ على عالَمِي زمانها، أو مطلقًا، وإن شارَكها أفرادٌ من النِّساء في ذلك؛ فلذلك لم يُعدِّ الأوَّلَ إلى متعلِّق، وعدَّى الثَّاني .
3- الإشارةُ إلى الطُّهر في قوله: وَطَهَّرَكِ إشارةٌ ذات مغزًى؛ وذلك لِما لابَس مولدُ عيسى- عليه السَّلام- من شُبهاتٍ لم يَتورَّعِ اليهودُ أنْ يُلصقوها بمريم الطَّاهرة .
4- الرُّبوبيَّة في قوله: لِرَّبِكِ ربوبيَّة خاصَّة، تختصُّ بمن خصَّها اللهُ به، وتُفيد تربيةً واعتناءً واختصاصًا أكثرَ من الرُّبوبيَّة العامَّة .
5- قيل لَمَّا قدَّم الإخلاص الَّذي هو روحُ العبادة في قوله: اقْنُتِي لِرَبِّكِ, أتبَعَه السُّجود الَّذي هو أشرفُها .
6- في النَّصِّ على السُّجودِ والرُّكوع رغمَ دُخولِهما تحت القنوت: بيانٌ لفضيلتِهما, ولدلالتهما على غاية الخضوعِ لله تعالى، كما قال تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] .
7- في قوله: واسْجُدِي وَارْكَعِي، دليلٌ على جوازِ ترْكِ التَّرتيبِ؛ للمصلحةِ، أو لمراعاةِ شيء آخِر؛ حيث قدَّم السُّجود على الرُّكوع؛ قيل لأنَّه أبلغُ في القنوت .
وقيل: لأنَّ المقامَ هنا مقامُ شُكر، والسُّجود أدخلُ في الشُّكر, ولأنَّ السُّجود مختصٌّ بنوعٍ من الرُّتبة والفضيلة، وهي كونُ العبد فيه أقرَبَ ما يكون من ربِّه .
8- في قوله: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ، ولم يقل: مع الرَّاكعات؛ قيل إشارةً إلى أنَّ الكمالَ في الرِّجال، وكثرة العمل في الرِّجال أظهرُ منها في النِّساء, وأنَّ العُبَّاد من الرِّجالِ أكثرُ من العُبَّاد من النِّساء، أو لأنَّ قوله: الرَّاكِعينَ أعمُّ إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب .
9- في قوله: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إيماءٌ إلى خلوِّ كتبِهم عن بعض ذلك, وإلَّا لقال: وما كنتَ تتْلو كُتُبَهم

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله تعالى: يا مَرْيَمُ: تكريرُ التذكير؛ للإشعارِ بمزيدِ الاعتناءِ بما يُحكَى من أحكامِ الاصطفاءِ، والتنبيهِ على استقلالها وانفرادِها عن الأحكامِ السَّابقة؛ فإنَّها من أحكامِ التربيةِ الجُسمانيَّة اللائقةِ بحال صِغَر مريمَ، وهذا من بابِ التربيةِ الرُّوحانيَّة بالتكاليف الشرعيةِ المتعلِّقة بحال كِبَرها
.
- وتكريرُ النداءِ؛ للإيذان بأنَّ المقصودَ بكلِّ نداء ما يرِدُ بعدَه؛ فالنِّداءُ الأوَّل تذكيرٌ بالنِّعمة، وكان ذِكره بمنزلةِ التَّمهيد للنِّداء الثاني، الذي هو للتكليف؛ ترغيبًا في العملِ بموجبِه .
- وفي تَكرارِ أوصافِ مريمَ في قوله: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ... بيانُ أنَّه كلَّما كُرِّرتْ أوصافُ الكمال، ظهَر من كمالِ الموصوفِ ما لم يكُنْ معلومًا من قبلُ .
- وإعادةُ النِّداء في قولِ الملائكة: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي.. لقصدِ الإعجاب بحالها؛ لأنَّ النِّداءَ الأوَّل كفَى في تحصيلِ المقصودِ من إقبالها لسماعِ كلامِ الملائكة، فكان النِّداءُ الثَّاني لمجرَّد التَّنبيهِ الَّذي يُنتقل منه إلى لازمِه، وهو التَّنويهُ بهذه الحالةِ، والإعجاب بها .
2- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وطَهَّرَكَ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ: فيه التأكيدُ بـ(إنَّ). وكَرَّر الاصطفاءَ رفعًا من شأنِها؛ للتوكيدِ، أو ليُبيِّن مَن اصطفاها عليهنَّ، أو كرَّر الاصطفاءَ؛ لأنَّ كِلا الاصطفائَينِ يَختلِفُ معناهما .
3- قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ: فيه نفيُ المعلومِ بغير شُبهة (المشاهدة)، وترْكُ نفْيِ الموهوم (الاستماع)؛ وفائدة ذلك: التقريرُ والتحقيقُ لكونِ تلك الأنباءِ وحيًا على طريقة التهكُّم بالمنكِرين للوحي؛ لأنَّه كان معلومًا عندَهم علمًا يقينيًّا أنَّه ليس من أهل السَّماع والقراءة، وكانوا مُنكِرين للوحي، فلم يَبقَ إلَّا المشاهدة، وهي وإنْ كانتْ في غايةِ الاستبعادِ إلَّا أنَّها نُفِيت تهكُّمًا بهم .

====================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات ( 45- 51 )
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
غريبُ الكَلِماتِ:

يَمْسَسْنِي: المسُّ: الجِماع
.
وَجِيهًا: صاحبُ جاهٍ ومنزلةٍ .
الْمَهْدِ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وهو ما يُهيَّأ للصَّبي، وأصلُه: التَّوطئةُ للشَّيء وتسهيلُه .
كَهْلًا: الكهل: الَّذي انتَهى شبابُه، ومَن وَخَطَه- أي: خالَطَه- الشَّيبُ .
الْأَكْمَهَ: الَّذي يُولد أعْمَى، أو هو الَّذي يُولَد مطموسَ العين، أو الأعمى مطلَقًا

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر الله نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمجيء الملائكةِ إلى مريم تَحمِل لها البُشرى بغلامٍ يوجِده الله بكلمةٍ منه, اسمُه المسيحُ عيسى ابنُ مريم، نسبةً إلى أمِّه؛ لأنَّه لا أبَ له, والَّذي سيكون من صِفاته أنَّه ذو وجاهةٍ عالية، ومنزلةٍ رفيعة عند الله في الدُّنيا والآخِرة, ومن المقرَّبين إليه، وأنَّ مِن معجزاته تَكليمَ النَّاس في حال طُفولتِه؛ تَبرئةً لأمِّه، ودَعوةً إلى عِبادةِ الله وحْده لا شريكَ له, ويُكلِّمهم في حال كُهولتِه تَكليمَ المرسلين بما يوحيه اللهُ إليه, وأنَّه من الصَّالحين.
ثمَّ يذكُرُ اللهُ تعالى جوابَ مريم: يا ربِّ، كيف يكون منِّي ولد وأنا لم يمسَسْني بشر؟! فأَخْبَرها سبحانه أنَّ هذا الفِعلَ المستغرَب والخارِقَ للعادة هو مِن فِعل مَن بيده الأمرُ؛ فهو يَخلُق ما يشاءُ, كيفما يُريد, وإذا أراد شيئًا، فإنَّما يقولُ له: كن, فيكون الأمرُ كما أراد سبحانه.
ثمَّ يَذكرُ اللهُ تعالى ما امتنَّ به على عبدِه ورسولِه عيسى عليه السَّلام مِن المِنَن العظيمة؛ مِن تعليمِ الكتابِ والحِكمة، والتَّوراة والإنجيل, وأنَّه سيُرسله إلى بني إسرائيل ليقول لهم: إنِّي قد جِئتُكم بآيةٍ من ربِّكم، وهي أنِّي أُصوِّرُ من الطِّين على شكل الطَّير، ثمَّ أنفخُ فيه، فيكون طيرًا تدِبُّ فيه الرُّوح, بإذن الله سبحانه وتعالى، وأنِّي أَشفي مَن وُلِد أعمى, وَمن به برَصٌ, وأُحيي الموتى بإذن الله, وأُخبركم بما تأكلون من طعامٍ وما تدَّخرونه في بيوتكم, دون أنْ أراها أو يُطلِعني عليها أحدٌ, وفي هذا كلِّه آيةٌ لكم تدلُّكم على صِدق ما جئتُكم به، إنْ كنتم مؤمنين, وأنِّي قد أتيتُكم مقرِّرًا ومثبِتًا لِمَا أُنزل قبلي من التَّوراة, ولأُحِلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّم عليكم, وجئتُكم بآيةٍ تدلُّ على صِدق ما أقولُه لكم؛ فاتَّقوا اللهَ وأطيعوني فيما دعوتُكم إليه, إنَّ اللهَ ربِّي وربُّكم؛ لذا توجَّهوا إليه بالعبادةِ وحْدَه؛ فهذا هو الطَّريقُ المستقيم الَّذي يُوصلكم إلى الله ورِضوانِه.
تفسير الآيات:

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
أي: واذكُرْ
إذ قالتِ الملائكةُ: يا مريمُ، إنَّ الله يُبشِّرُك بولد يكونُ وجودُه بكلمةٍ صادرةٍ من الله، وهي قوله: (كُنْ) فيكون .
قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ [آل عمران: 59] .
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
أي: يَشتهرُ بأنَّ اسمَه المسيحُ عيسى ابنُ مريم، نِسبةً لأمِّه؛ لأنَّه لا أبَ له، فنفَى الله بذلك عنه ما أضافَ إليه النَّصارى، مِن إضافتِهم بنوَّتَه إليه عزَّ وجلَّ .
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: حالَ كونه ذا وجاهةٍ ومنزلةٍ عالية ومكانةٍ عند الله: في الدُّنيا؛ لكونِه أحدَ المرسَلين مِن أُولي العزم الَّذين نَشَر الله ذِكرَهم، وفي الآخرة لِمَا له من الشَّفاعة عند الله، والدَّرجات العُليا في الجنة .
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
أي: من المقرَّبين إلى الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخِرة .
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا
أي: ويُكلِّمُ النَّاس طفلًا في الفِراش؛ آيةً من الله، وتبرئةً لأمِّه، ويكلِّمهم أيضًا بالغًا كبيرًا حال كهولتِه، تكليمَ المرسَلين، بعد أنْ يوحيَ اللهُ إليه .
كما قال الله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 29-33] .
وَمِنَ الصَّالِحِينَ
أي: وهو مِنَ الصَّالحين في قولِه وعمَلِه .
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
أي: قالت مريمُ: يا ربِّ، كيف يوجَدُ هذا الولد منِّي ولم يُجامِعْني بَشرٌ لا بنِكاحٍ ولا بزنًا .
قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
أي: قال: مِثْلَ ذلك الخَلْقِ- وهو إيجادُ الولد بدون مسيسٍ- يَخلُقُ الله ما يشاء، ويصنَعُ ما يُريد، فلا يُعجِزه شيءٌ .
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
أي: إذا أراد إيجادَ شيء، فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فيوجَدُ كما شاء عَقِيبَ الأمر، فلا يتأخَّرُ شيئًا .
كما قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
أي: ويُعلِّمُ الله عزَّ وجلَّ عيسى عليه السَّلام الكتابةَ ، ويُعلِّمُه السُّنَّة الَّتي يُوحيها إليه في غير كِتابٍ من الشَّرائع ونحوها، ويُعلِّمه التَّوراةَ الَّتي أنزلها على موسى عليه السَّلام، والإنجيل الَّذي يُنزِّله عليه .
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أي: ويَجعلُه رسولًا يُرسلُه إلى بَنِي إسرائيلَ .
قائلًا لهم:
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ:
أي : أنِّي قد جئتُكم بعلامةٍ من ربِّكم، تحقِّقُ قولي، وتصدِّقُ خبَري في كوني مُرسَلًا مِن الله إليكم .
ثم بَيَّن هذه الآيةَ الَّتي جاءَ بها قائلًا:
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
أ- في قوله تعالى: أنِّي أَخْلُقُ قراءتان:
1- إنِّي بالكَسرِ، وذلك مِن أوجه، منها: على إضمارِ القولِ، أي: فقلت: إنِّي أَخلُق. ومنها: أنَّه على الاستئناف. أو على التفسير، فَسَّر بهذه الجملةِ قولَه: بِآيَةٍ كأنَّ قائِلًا قال: وما الآيةُ؟ فقال هذا الكلامَ .
2- أنِّي بالفتحِ على أَنَّهَا بدلٌ من قَوْله قَدْ جِئتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فالمعنى: بأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ. أو أنها خَبرُ مبتدأٍ مُضمَرٍ، تقديرُه: هي أنِّي أَخلُق. وقيل غير ذلك .
ب- وفي قوله تعالى: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ثلاثُ قراءات:
1- ... كَهَيْئَةِ الطَّائرِ... فَيَكُونُ طَائرًا، أي: إنَّه كان يَخلُق واحدًا ثمَّ واحدًا .
2- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَيَكُونُ طَائرًا أي: تُقدِّر هيئةً كهيئةِ الطَّير، فتكونُ الهيئةُ طائرًا، أي: كلُّ هَيئةٍ تُقدِّرها تكونُ واحدًا مِن الطَّير .
3- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَيَكُونُ طَيْرًا، أي: إنَّ الله تعالى أذِن له أن يَخلُقَ طيرًا كثيرةً، ولم يكُن يَخلُقُ واحدًا فقط .
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
أي: أُصوِّرُ لكم من الطِّين شيئًا مقدَّرًا على شكلِ الطَّير، فأنفُخُ فيه فيكون طيرًا له رُوح، يَطيرُ بعِلم الله وتمكينِه لي .
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ
أي: وأَشفي مَن يُولد أعْمَى ، ومَن به داءُ البرصِ الَّذي يُصيب الجِلدَ، وأُحيي الموتى بإذنِ الله .
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ
أي: وأُخبِرُكم بما تَأكلونَه وما تدَّخِرونه في بُيوتِكم فلا تأكلونه، دون أنْ أُعاينَ ذلك، أو يَأتِيَني أحدٌ بخبَرِه .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ في إبراءِ الأَكْمَهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى وغيرِ ذلك ممَّا سبق ذِكره، لآيةً تدلُّ على صِدقي، وتَهديكم، وتَنفعُكم، إنْ كنتم مؤمنين، وإلَّا فليستْ هاديةً ولا نافعةً لكم .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
أي: وجئتُكم مُقررًا ومخبرًا بصِدْق ما قبلي من التَّوراةِ الَّتي أُنزِلَت على موسى عليه السَّلام .
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
أي: وجئتُكم أيضًا لأحلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّم عليكم .
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: وجئتُكم بحجَّةٍ ودلالةٍ على صِدقي فيما أقولُ لكم .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
أي: فاتَّقوا الله بفِعلِ ما أمَر به، واجتنابِ ما نهى عنه، وأطِيعوني فيما دعوتُكم إليه .
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَهم بتقوى الله ذَكَر ما هو كالسَّببِ في ذلك ، فقال:
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
أي: إنَّ الله ربِّي وربُّكم، وخالقُنا، ومالكُنا ورازقُنا؛ لذا فاعبُدوه وحده؛ فاستدلَّ بتوحيدِ الرُّبوبيَّة على توحيدِ الألوهيَّة؛ لأنَّه يستلزمُه .
كما قال تعالى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] .
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
أي: ما سبَق ذِكرُه- من تقوى الله، وطاعة رسولِه، وتحقيق العبادة له- طريقٌ مستقيمٌ لا اعوجاجَ فيه، مُوصلٌ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه
الفوائد التربوية :

1- يُؤخذُ من قوله تعالى: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أنَّ علامةَ الصَّادق أنْ يكونَ خبرُه من جِنسِ خبر الصَّادقين، يُخبِر بالصِّدق، ويأمُرُ بالعدلِ، من غير تخالُفٍ ولا تناقُضٍ
.
2- في قوله: وَمِنَ الصَّالِحِينَ بيانُ أنَّه لا رتبةَ أعظمُ من كون المرء صالحًا؛ لكونه في جميعِ الأفعال والتُّروك مواظِبًا على النَّهج الأصلح، والطَّريق الأكمل، ومعلوم أنَّ ذلك يتناولُ جميع المقاماتِ في الدُّنيا والدِّين، في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح .
3- الإيمانُ يَحمِلُ صاحبَه على قَبول الآياتِ الَّتي جاءت بها الرُّسلُ ؛ كما في قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
4- في قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ دليلٌ على أنَّ مِن لوازم تقوى الله: طاعةَ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- مِن حِكمةِ اللهِ أنْ تَدرَّج بأخبارِ العبادِ من الغريبِ إلى ما هو أغربُ منه؛ فذكَر وجودَ يَحيى بن زكريَّا بين أبوين أحدُهما كبيرٌ، والآخَر عاقرٌ، ثمَّ ذكَر أغربَ من ذلك وأعجبَ، وهو وجودُ عيسى عليه السَّلام من أمٍّ بلا أبٍ
.
2- (مِن) في قوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ليستْ للتَّبعيض، بل لابتداءِ الغاية؛ وذلك لعدمِ وجودِ واسطةِ الأبِ في حقِّ عيسى عليه السَّلام, فصارَ تأثيرُ كلمة الله تعالى في تكوينِه وتخليقِه أكملَ وأظهرَ، فكان كونُه كلمةَ الله مبدأً لظهوره ولحدوثه أكملَ .
3- في قوله تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عبَّر عن العَلَم واللَّقَب والوَصف بالاسم؛ لأنَّ لثلاثتِها أثرًا في تمييزِ المسمَّى .
4- قدَّم اللَّقبَ في قوله تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ على الاسمِ؛ لأنَّ المسيحَ لقَبٌ يُفيدُ كونَه شريفًا رفيعَ الدَّرجة؛ كالصِّدِّيقِ والفاروق؛ فذكَره الله أولًا ليُفيدَ علوَّ درجتِه، ثمَّ ذكَره باسمه الخاصِّ .
5- الضَّمير في قوله: اسْمُهُ عائدٌ إلى الكلمةِ، وهي مُؤنَّثة، ومع ذلك فقد ذكَّر الضَّمير؛ لأنَّ المسمَّى بها مُذكَّر .
6- جاء قوله: ابْنُ مَرْيَمَ مع كون الخِطاب لها؛ قيل: إعلامًا لها بأنَّه يُنسَب إليها; لأنَّه مُحدَثٌ بغير الأب، فكان ذلك سببًا لزيادة فضلِه، وعلوِّ درجتِه ودرجتها، وتشريفِها، وتبرئتِها ممَّا رماها به اليهود .
7- لَمَّا كان قوله: فِي الدُّنْيَا قد لا يُلازم الوجاهةَ بعد الموت، قال: وَالْآخِرَةِ, ولَمَّا كانتِ الوجاهةُ ثَمَّ مختلفةً، ذكَر أعلاها عاطفًا بالواو، إشارةً إلى تمكُّنِه في الصِّفات فقال: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: عند الله، كما في قوله تعالى: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران: 45] .
8- خَصَّ تكليمَه بحالَيِ المهدِ والكهولة، مع أنَّه يتكلَّمُ فيما بين ذلك؛ لأنَّ لهما مزيدَ اختصاصٍ بتشريف الله إيَّاه، فأمَّا تكليمُه النَّاس في المهد، فلأنَّه خارقُ عادةٍ؛ إرهاصًا لنبوءتِه، وأمَّا تكليمُهم كهلًا، فمرادٌ به دعوتُه النَّاسَ إلى الشَّريعةِ .
9- في قوله: كَهْلًا ردٌّ على النَّصارى الَّذين يدَّعون أنَّ عيسى إلهٌ؛ إذ لو كان إلهًا لَمَا كان متقلِّبًا في الأحوال من الصِّبا إلى الكهولة، فالتَّغيُّر على الإله تعالى محالٌ .
10- الاستفهام في قولها: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ للإنكار والتَّعجُّب؛ ولذلك أُجيب جوابين، أحدهما: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فهو لرفعِ إنكارها، والثَّاني: إِذَا قَضَى أَمْرًا إلخ؛ لرفعِ تعجُّبها .
11- عبَّر عن تكوينِ الله لعيسى بفعل يَخْلُقُ؛ لأنَّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادةِ لإيجاد مِثله، فكان للفعل يَخْلُقُ هنا موقعٌ متعيِّن؛ فهو يدلُّ على الإبداع .
12- تضمَّن قوله: يَخْلُقُ في قوله: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ الرَّدَّ على شُبَه النَّصارى الَّذين يقولون: إنَّ عيسى هو الله، وإنَّه ثالثُ ثلاثةٍ؛ لأنَّ في قوله يَخْلُقُ التَّصريحَ بأنَّه مخلوق، فكان هذا قطعًا لدابر قولهم فيه .
13- المرادُ بالآية في قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ الجنس لا الفرد؛ لأنَّه تعالى عدَّد هاهنا أنواعًا من الآيات، وهي: إحياءُ الموتى، وإبراءُ الأَكْمَهِ والأبرص، والإخبارُ عن المغيَّبات .
14- أنَّ ما فُعِل بأمْر الله، فهو حلالٌ مُباحٌ، وإنْ كان نظيرُه بدون أمرٍ حرامًا؛ كما في قوله: أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثمَّ قال: بِإِذْنِ اللَّهِ .
15- الإذن في قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ إذنٌ كونيٌّ وشرعيٌّ؛ لأنَّ كونه يُصوِّر مضاهيًا لخَلْق الله يحتاج إلى إذنٍ شرعيٍّ؛ لحرمة التَّصويرِ, وكذلك يحتاج إلى إذنٍ كونيٍّ؛ لأنَّ خَلْق هذا الطيرِ حتَّى يطير يكونُ بإذن اللهِ الكونيِّ، فيطير بإذن الله إذنًا كونيًّا .
16- ذكَر عيسى عليه السَّلام قَيدَ الإذنِ مِن الله في قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ؛ لإزالة الشُّبهة، وتحقيقًا للتَّوحيد، وللتَّنبيه على أنَّه إنَّما يعمل التَّصوير، أمَّا خَلْق الحياة فهو من الله, ولرفْعِ توهُّم استقلالِه بالفعل في كلِّ آيةٍ أتى بها عند مَن اعتقد فيه الإلهيَّة .
17- في قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ، وقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، وقوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ بيان أنَّ الأمورَ المهمَّة- خاصَّةً الخارجةَ عن المألوف المعتاد- ينبغي تكرارُها، من أجْل أنْ يَتبيَّن للمخاطَب أهميَّتُها عند المتكلِّم، وأنَّه ذو عنايةٍ بها، ومن أجْل أنْ ترسخَ في الذِّهن، وتؤثِّرَ في القلوب .
18- في ذِكر هذه المعجزات تعريضٌ بالنَّصارى، الَّذين جعَلوا منها دليلًا على ألوهيَّة عيسى؛ لعدمِ دُخولِها تحت مقدرةِ البشر, وهذا دليلٌ سُفسطائي، أشار اللهُ إلى كشفِه بقوله: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ مرَّتين .
19- جوازُ النَّسخ في الشَّرائع؛ لقوله: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ، ففيه دلالةٌ على أنَّ عيسى عليه السَّلام نسَخَ بعضَ شريعة التَّوراة، وأنَّ أكثرَ أحكام التَّوراة لم يَنسَخْها الإنجيلُ .
20- في التَّعقيب بقوله: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ.. بعد قوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ تنبيهٌ على أنَّ النَّسخَ لا ينافي التَّصديقَ؛ لأنَّ النَّسخ إعلامٌ بتغيُّر الحُكم .
21- في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ جوازُ نِسبة الحُكم إلى مَن بلَّغه؛ إذ إنَّ الأصلَ في التَّحليل والتَّحريم أنَّه من عندِ الله عزَّ وجلَّ، لكن لا بأسَ بإضافتِه إلى مَن أبانه وأظهَره .
22- نُصَّ على الطَّاعة في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مع أنَّها من التَّقوى؛ وذلك لأنَّ المرادَ هو تقوى خاصَّةٌ فيما جاء به عيسى عليه السلام، كما أنَّ التَّقوى سبيلٌ إلى الاستجابةِ والطَّاعةِ والقَبولِ والانقياد .
23- يُؤخذُ من قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أنَّ الطَّاعة أمرٌ مشترَك بين الرُّسل وبين اللهِ عزَّ وجلَّ، وأمَّا التَّقوى فهي خاصَّةٌ بالله .
24- التَّقوى واجبةٌ في كلِّ شريعة, ولكن المتقَى به قد يختلف باختلاف الشَّرائع .
25- قوله تعالى: إن الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه ردٌّ على النَّصارى الَّذين يؤلِّهون عيسى عليه السَّلام .
26- قوله تعالى: رَبِّي وَرَبُّكُمْ بدأ بنفسِه؛ ليكون أوَّلَ مُذعِنٍ ومنقادٍ لهذا الرَّبِّ عزَّ وجلَّ .
27- مَن أقرَّ بربوبيَّةِ الله، لزِمَه أنْ يُقِرَّ بعبوديَّته؛ ولهذا قال: فَاعْبُدُوهُ، فأتى بالفاء الدَّالَّة على السَّببيَّة، أي: فبسببِ اختصاصِه بالرُّبوبيَّة يجبُ أنْ تخصُّوه بالعبادةِ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا: فيه تعظيمٌ لقدْر عيسى عليه السَّلام، وبيانٌ لفَضلِه على يَحيى عليهما السَّلام؛ إذ لَمَّا وصفَه بهذا الوصفِ الشريف المَسِيح ذكَر اسْمَه فقال: عِيسَى، وفي تَفخيمِ هذا الذِّكر بجَعْلِه نفْسَ الكَلمة وبإبهامِه أولًا ثمَّ تفسيرِه، والتعبيرِ بصِيغة المبالغةِ وَجِيهًا للمبالغةِ في وجاهته؛ إذ أصلُ معناه: الوجهُ، وهو الملاحَظُ المحترَمُ بعلوٍّ ظاهر فيه، ولَمَّا كان قوله: فِي الدُّنيَا قد لا يلازمُ الوجاهةَ بعدَ الموت قال: والآخِرَةِ، ولَمَّا كانتِ الوجاهةُ في الآخِرةِ مختلفةً ذكَر أعلاها عاطفًا بالواو إشارةً إلى تمكُّنِه في الصِّفات، فقال: وَمِنَ المُقَرَّبِينَ، أي: عند الله- في كلِّ ذلك تعظيمٌ لقدْر عيسى عليه السَّلام وبيانٌ لفَضلِه، ولم يَجعلْ ليحيى عليه السلام في البشارةِ به مِثلَ هذا الذِّكر
.
2- قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا: فيه إيثارُ التعبير بصيغة المضارع؛ لدلالته على التجدُّد وقتًا فوقتًا. وفيه تطمينٌ لخاطرها بما يخالف العادة، حيث بَشَّر اللهُ مريمَ بأنَّ هذا يَتكلَّم طِفلًا، ويَعيش ويتكلَّم في حال كُهولته. أو بمعنى يُكلِّم الناس كلامَ الأنبياء من غير تفاوتٍ بين الحالتين: حالة الطفولة وحالة الكُهولة؛ فيكون غايةً في الإعجاز .
3- قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ:
- النِّداءُ للتحسُّر (رَبِّ) وليس للخِطاب؛ لأنَّ الذي كَلَّمها هو الـمَلَكُ، وهي قد توجَّهتْ إلى الله .
- والاستفهامُ للإنكارِ والتعجُّب، أو للاستبعادِ العادي، أو استفهامٌ عن أنَّه يكون بتزوُّج أو غيره ؛ ولذلك أُجيب بجوابينِ؛ أحدهما: كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ؛ لرَفْع إنكارها، والثاني: إِذَا قَضَى أَمْرًا... لرفْع تعجُّبها .
- وقال هنا: وَلَد كما في قول مريم: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ولم يقُل: (غلام) كما في قِصَّة زكريا وقوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ لاستبعادِ مريمَ لمطلق الحَبَل، لا بقَيدِ كونِه ذَكرًا، كما في قِصَّة زكريا عليه السلام؛ لذا قالت وَلَدٌ، وقالت: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؛ لفَهمها ذلك من نِسبته إليها فقط، والولدُ يُطلق على الذَّكر والأنثى، بخلافِ زكريَّا عليه السلام الذي بُشِّر بيحيى عليه السلام .
4- قوله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ... جوابُ استفهامها، ولم تُعطفْ هذه الجملةُ على التي قبلها؛ لأنَّها جاءتْ على طريقة المحاورات. وتقديمُ اسمِ الجلالة على الفِعل؛ لإفادةِ تقوِّي الحُكم وتحقيقِ الخبَر .
- وصرَّح هاهنا بقوله: يَخْلُقُ ولم يقل: (يَفْعَلُ) كما في قِصَّة زكريا؛ لأنَّ أمْر زكريَّا داخلٌ في الإمكانِ العاديِّ الذي يُتعارَف وإنْ قلَّ، وفي قِصَّة مريم قال: يَخْلُقُ؛ لأنَّه لا يُتعارَف وجودُ ولدٍ من غيرِ والدٍ، فهو إيجادٌ واختراعٌ من غيرِ سببٍ عاديٍّ؛ فلذلك جاءَ بلفظ: يَخْلُقُ الدالِّ على هذا المعنى ، فالخَلْقُ المنبِئُ عن الإحداثِ للمُكوَّن أنسبُ بهذا المقام؛ لئلَّا يبقى لمبطِل شُبهةٌ. وأكَّد ذلك بقوله: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أي: من غير تأخُّر، ولا حاجةٍ إلى سبَب .
5- قوله تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ: فيه كنايةٌ حسَنة، حيث كنى بالمسِّ عن الوطء، كما كنَّى عنه: بالحَرْث، واللِّباس، والمباشَرة .
6- قوله تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا: فيه التعبيرُ عن الجَمْع بالمفرد؛ وسرُّ ذلك- والله أعلم- بيانُ سهولةِ قَضاءِ كلِّ الأمورِ وتكوينها عليه سبحانه، كأنَّ الأمورَ كلَّها عنده كأمرٍ واحد، كما قال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] .
7- قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ: فيه التفاتٌ- على قِراءة (نُعلِّمه) بنون العظمة- والالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفْسَه؛ إيذانًا بالفخامةِ والتَّعظيم .
8- قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ: فيه إيجازٌ بالحذف؛ والتقدير: (وأبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل قائلًا: إني قد جئتكم بآية) فقوله: ومصدِّقًا معطوف عليه، والتقدير: (وأبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل قائلًا: إني قد جئتكم بآية، وإني بُعثت مصدقًا لما بين يدي من التوراة)؛ وإنما حسُن حذفُ هذه الألفاظ؛ لدلالةِ الكلام عليها .
- وتخصيصُ بني إسرائيل في قوله: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ؛ لخصوصِ بَعثتِه إليهم، أو للردِّ على مَن زعَم أنَّه مبعوثٌ إلى غيرِهم .
9- قوله تعالى: وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ: فيه تكرارُ قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ؛ دفعًا لتوهُّم الألوهيَّة؛ فإنَّ الإِحياء ليس من جِنس الأفعال البشريَّة .
10- في قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: تكرارُ ذِكر الآياتِ وإعادتها؛ للتأكيد؛ لأنَّ إخراجَ الإنسان عن المألوفِ المعتادِ من قديم الزَّمان عسِرٌ، فأعاد ذِكر المعجزات؛ ليصيرَ كلامُه ناجعًا في قلوبهم، ومؤثِّرًا في طباعهم .
11- قوله تعالى: أَخْلُقُ فَأَنْفُخُ وَأُبْرِئُ وَأُحيي وَأُنَبِّئُكُمْ: أتى بهذه الخوارقِ بلفظِ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِب منه، وقَيَّد قوله: أَنِي أَخْلُقُ بقوله: بِإذْنِ اللهِ؛ لأنَّه خارقٌ عظيم، فأتَى به دفعًا لتوهُّم الإلهيَّة، ولم يأتِ به فيما عُطِف عليه في قوله: وَأُبْرِئُ، ثم قيَّد الخارق الثالث أيضًا بقوله: بِإِذْنِ اللهِ؛ لأنَّه خارقٌ عظيم أيضًا، وعطَف عليه قوله: وَأُنَبِّئُكُمْ من غير تقييدٍ له، مُنبِّهًا على عِظَم ما قبله، ودفعًا لوهمِ مَن يَتوهَّم فيه الإلهيَّة. أو يكون قد حذَفَ القيدَ من المعطوفين؛ اكتفاءً به في الأوَّل. والتقديرُ المقدَّمُ أحسنُ .
12- قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ: أمرٌ مرادُه التخويفُ لهم؛ لأنَّ طاعة الرسول مِن لوازمِ تقوى الله تعالى، فبيَّن أنَّه إذا لزِمَكم أنْ تتَّقوا الله، لزِمَكم أن تُطيعوني فيما آمرُكم به عن ربِّي .
13- في قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: تأكيدٌ لقوله الأوَّل: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وعطف بالواو؛ لأنَّه أُريد أن يكونَ من جملة الأخبار المتقدِّمة، ويحصُل التأكيدُ بمجرَّد تقدُّم مضمونه، فتكون لهذه الجملةِ اعتباران يَجعلانِها بمنزلة جُملتين، وليُبنى عليه التفريعُ بقوله: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ .
14- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ: فيه تَكرار (رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، وهو أبلغُ في الْتزام العبوديَّة من قوله: (ربَّنا)، وأدلُّ على التبرِّي من الربوبيَّة. ومقصودُه إظهارُ الخضوعِ والاعتراف بالعبوديَّة؛ لكيلا يتقوَّلوا عليه الباطل، فيقولوا: إنَّه إلهٌ، وابنُ إله؛ لأنَّ إقرارَه لله بالعبوديَّة يَمنعُ ما تدَّعيه جُهَّالُ النَّصارى عليه .


=====================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (52- 58)
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
غريبُ الكَلِماتِ:

أَحَسَّ: عَلِم ووجَد، أو رأى وسمِع، والإحساس: العِلم بإحدى الحواسِّ؛ وعبَّر بذلك لأنَّه قد ظهَر منهم الكفرُ ظهورًا بان للحِسِّ، فضلًا عن الفَهم
.
الْحَوَارِيُّونَ: جمْع حوارِيٍّ، وهمْ أصفياءُ عِيسى عليه السَّلام وشِيعتُه وناصِرُوه، وخُلاصةُ أصحابِه، وشاعَ استعماله في الَّذين خَلَصوا وَأَخْلصُوا فِي التَّصْدِيق بالأنبياءِ ونُصرتِهم؛ قيل: سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم كانوا يُحوِّرون الثِّياب، أي: يُبيِّضونها، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوبَ، أي: أَخْلَصْتُ بياضَه بالغَسْل، ومنه يُقال للدَّقيق الأبيضِ النَّقيِّ: حواري. وقيل: اشتقاقُه مِن حارَ يحورُ إذا رجَع، فكأنَّهم الرَّاجعونَ إلى الله، وقيل: هو مُشتَقٌّ مِن نقاء القَلْبِ وخُلوصِه وصِدْقه .
وَمَكَرُوا: المكر: صرْفُ الغيرِ عمَّا يَقصِده بحيلةٍ، وأصل المكر: الاحتيالُ والخِداع .
مُشكِلُ الإعرابِ:
قوله: مَنْ أنْصارِي إِلَى اللهِ:
إِلى اللهِ: الجارُّ والمجرورُ في مَوضِعِ الحالِ، وتَتعلَّق إِلَى بمحذوفٍ، والتقدير: مَن أنصاري مُضافِينَ إلى اللهِ، أو إلى أَنصارِ الله. وقيل: إنَّ إِلَى بمعنى اللام، أي: مَنْ أنصاري للهِ، كقوله: يَهْدِي إِلَى الحَقٍّ [يونس: 35] أي: للحقِّ. وقيل: إنَّ إلِى بمَعْنى (مَعَ)، أي: مَن أنصاري مع اللهِ، وقيل غير ذلك

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ الله تبارَك وتعالَى أنَّ عيسى عليه السَّلام لَمَّا وجَدَ من بني إسرائيل إعراضًا عن دعوتِه, وعلِم بكُفرهم بنبوَّته، استنصرَ أصحابَه قائلًا: مَن يُعاونني ويَنهضُ معي بالدَّعوة إلى الله ونُصرةِ دِينه، فأجابه صفوةُ أصحابه بأنَّهم أنصارُ دِين الله تبارَك وتعالَى, وأعْلنوا إيمانهم, وأَشهَدوا عيسى عليه السَّلام على إسلامِهم، ودعَوْا ربَّهم متوسِّلين بإيمانهم بما أنزل، واتِّباعهم لعيسى عليه السَّلام، أنْ يَكتُبَهم مع مَن شهِد له بالوحدانية, ولرُسلِه بالصِّدق, واتَّبَعوا أوامرَه, واجتنَبوا نواهيَه.
ثمَّ يُخبر تبارَك وتعالَى عن مَكرِ مَن كَفَر بعيسى عليه السَّلام مِن بني إسرائيل وتَمالُئِهم على قَتْله, ومَكْرِه بهم مُقابلةً لمكرهم؛ حيث ألْقى شَبَهَ عيسى عليه السَّلام على رجلٍ آخرَ، فقتلوه ظانِّين أنَّه هو, فكان مكرُ الله أقوى من مَكرِهم وأشدَّ، ثمَّ يذكر قوله لعيسى، أنَّه متوفِّيه وفاةَ نوم, ورافعُه إليه برُوحه وبدنِه, ومُخرِجه من بين الَّذين كفروا، ومُنجِّيه منهم, وأنَّه سيجعل الَّذين اتَّبعوه فوقَ الَّذين كفروا بالحُجَّة والبرهان، وبالعزَّة والغَلَبةِ إلى يومِ القيامة, وأنَّ إليه المصيرَ والمرجعَ فيَقضي بينهم؛ فالَّذين كفروا يُعذِّبهم عذابًا أليمًا في الدُّنيا والآخرة, أمَّا عذابُ الدُّنيا فما أَقدَرَه عليهم من قتْلٍ وسَبْيٍ وذِلَّة, وضِيقٍ وضنكٍ وغيره! وأمَّا عذابُ الآخرة فبِنَارِ جهنَّم, وليس لهم مَن يَنصرُهم, أو يمنع عنهم العذابَ الأليم.
وأمَّا أهلُ الإيمانِ والعملِ الصالح فأولئك يُوفِّيهم أجْرَهم دون نقْصٍ: في الدُّنيا بالنَّصرِ والتَّمكين, وفي الآخِرَة بالجنَّة والرِّضوان من الله تبارك تعالى, واللهُ لا يحبُّ الظَّالمين؛ فكيف يظلِمُ خَلْقَه؟!
ثمَّ يقول اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذه الأنباء والقصصَ الَّتي أخبر الله بها عن عيسى عليه السَّلام وأمِّه مريم نتلوها عليك- يا محمَّدُ- وهي من العلامات والبراهين الدَّالَّة على صِدقِك ونبوَّتك، ومن القُرْآن المُحكَم المتقَن.
تفسير الآيات:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
أي: فلمَّا وجَد عيسى عليه السَّلام من بني إسرائيل- الَّذين أُرسِل إليهم- التَّكذيبَ به، ورأى الإعراضَ عنه والجَحْد لنبوَّته، والصَّدَّ عن دعوتِه، قال: مَن أعواني في الدَّعوة إلى اللهِ ونُصرةِ دِينه، ومَن يُضيفُ نُصرتَه ويَضمُّها إلى نُصرةِ الله لي
؟
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
أي: قال الأنصارُ مِن أصحابِ عيسى عليه السَّلام: نحن أنصارُ دِين الله .
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
أي: آمنَّا بالله، واشهَدْ- يا عيسى- بأنَّنا مسلِمون .
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ
أي: قال الحواريُّون أيضًا: يا ربَّنا، آمنَّا بالإنجيل الَّذي أَنزلتَ على عيسى عليه السَّلام .
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
أي: واتَّبعنا رسولَك عيسى عليه السَّلام .
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
أي: أَثبِتْ أسماءَنا مع أسماء الَّذين شهِدوا لك بالوَحْدانيَّة، ولرُسلِك بالصِّدق، ولدِينك بأنَّه الحقُّ، واتَّبَعوا أمرَك ونهيَك- ومنهم أمَّةُ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فاجعَلْنا في عِدادِهم ومعهم؛ لنفوزَ بمِثْلِ ما فازوا به .
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
أي: ومكَر الَّذين كفَروا من بني إسرائيل بعيسى عليه السَّلام، فحاوَلوا قَتْلَه مُتحيِّلين على ذلك، ومَكَر اللهُ بهم؛ فألْقى شَبَهَ عيسى عليه السَّلام على رَجُلٍ آخرَ، فأَخَذوه وقتَلوه، ظنًّا منهم أنَّه عيسى عليه السَّلام .
وبَيَّن اللهُ تعالى مكرَهم في قوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] ، وبَيَّن مكرَه بهم في قوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 157] ، وقوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 157-158] الآيةَ .
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
أي: أقواهم في المكرِ بمن يستحقُّ المكرَ، وأعلمُ بالأسبابِ الَّتي تُحيطُ بأعدائِه، وأشدُّ بطشًا، وأنفَذُ إرادةً .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
أي: واذكُرْ إذ قال اللهُ لعيسى عليه السَّلام: يا عيسى، إنِّي مُتوفِّيك وفاةَ نومٍ .
كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام: 60] ، وقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42] .
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
أي: ورافعُك برُوحِك وبَدَنِك إلى السَّماء .
كما قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 157-159] .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((والَّذي نَفْسِي بِيَدِه، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنزلَ فيكم ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى الله عليه وسَلَّم حَكَمًا مُقْسِطًا، فيَكْسِرُ الصَّليبَ، ويَقْتُلُ الخِنزيرَ، ويَضَعُ الجِزْيَةَ، ويَفِيضُ المالُ حتَّى لا يَقْبَلَه أحدٌ )) .
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أي: مخلِّصُك ممَّن كفرَ بك، ومُخرِجك من بينهم، برفعي إيَّاك إلى السَّماء .
كما قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة: 110] .
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أي: وجاعلٌ أتباعَك يا عيسى فوق الَّذين كفروا، بالحُجَّةِ والبُرهان، وبالعزَّة والغَلَبة .
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
أي: ثمَّ يومَ القيامة إليَّ مصيرُكم- أيُّها المختلِفون في عيسى عليه السَّلام جميعًا- فأَقضِي بينكم فيما كُنتُم تَختلفونَ فيه مِن أمْرِه عليه السَّلام .
ثمَّ بيَّن الله تعالى حُكمَه فيهم وما يَفعلُه بهم فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: فأمَّا الَّذين كفروا، فإنِّي أُعذِّبهم عذابًا شديدًا قويًّا في الدُّنيا؛ بالقتلِ والسَّبيِ والذِّلَّة والمسكنةِ، وأخْذِ الأموال، وما يَحصُل لقلوبهم من الضِّيقِ والضَّنك، والقلَقِ والحسرة، وغير ذلك، وفي الآخرةِ بنارِ جهنَّم .
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
أي: وليس لهم أحدٌ يَدفَعُ عنهم العذابَ، ولا يمنَعُ عنهم أليمَ العِقاب، لا من الأهلِ، أو الشُّفعاء، أو الأصدقاء، أو غيرِهم .
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
أي: وأمَّا الَّذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحات، فيُتمُّ لهم جزاءَهم من الثَّواب دون نَقصٍ أو بَخْسٍ في الدُّنيا والآخرة، في الدُّنيا بالنَّصر والظَّفَر، والإعزاز، والحياة الطَّيِّبة، وحُسن الذِّكر، وغير ذلك، وفي الآخِرة بالجنَّةِ والنَّعيمِ المقيم .
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
أي: واللهُ لا يحبُّ مَن ظلَم غيرَه حقًّا له، أو وضَع شيئًا في غير موضعِه، بل يُبغِضهم ويُحِلُّ عليهم غضَبَه وعقابه، فنَفَى اللهُ بذلك عن نفْسِه أنْ يَظلِمَ أحَدًا مِن خلقِه؛ لأنَّه إذا كان لا يحبُّ الظَّالِمين، فكيف يظلِمُ خَلْقَه ؟!
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
أي: هذه الأنباءُ الَّتي أخبَر اللهُ بها عن عيسى عليه السَّلام وأمِّه مريمَ، وما قصَّه اللهُ من قَصص نقرؤُها عليك- يا محمَّدُ- على لسان جِبريل عليه السَّلام، هذه الأنباءُ والأخبارُ من العلاماتِ والحُجَج الدَّالَّة على صِدقِك ونبوَّتِك، وهي أيضًا من القُرْآن ذي الحِكمةِ؛ فهو مُحكَم مُتقَنٌ وحاكمٌ

.
الفوائد التربوية :

1 الإعلامُ بأنَّ الآياتِ الكونيَّة وإنْ كثُرت وعظُمت ليست مُفضِيَةً إلى الإيمان حتمًا، وإنَّما يكونُ الإيمان باستعداد المدعُوِّ إليه، وحُسن بيان الدَّاعي بعد توفيقِ الله تعالى وهدايتِه؛ كما في قوله سبحانه: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ
.
2- طلبُ النَّصر لإظهارِ الدَّعوة لله، موقفٌ من مواقفِ الرُّسل، وسُنَّةُ اللهِ في أنبيائه وأوليائه؛ كما في قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ .
3- مِن قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ يُؤخذُ أنَّه ينبغي على الدَّاعيَة إذا اشتبه الأمرُ أنْ يَطلُبَ المخلِصين، وأنْ ينتدبَ الصَّفوةَ من القوم .
4- لا بدَّ لحصول النَّصرِ مِن تحصيلِ سببِه، كما هي سُنَّة الله ؛ كما في قول عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ.
5- النَّصر لا يستلزم القتالَ؛ فالعملُ بالدِّين والدَّعوة إليه نصرٌ له .
6- في قولِ الحواريِّين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ بيانُ أنَّهم انخلَعوا وانفصَلوا من التَّقاليد السَّابقة, وأخَذوا بالتَّعليم الجديد، وسيَبذُلون مُنتهَى الاستطاعةِ في تأييده؛ فالنَّصر للهِ لا يكونُ إلَّا بذلك .
7- يُؤخذُ من قوله تعالى: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أنَّ إشهادَ الإنسانِ على نفسِه بالإيمان أو بالإسلام أو ما أَشْبَه ذلك لا يُعَدُّ مِن الرِّياء، لا سيَّما في الاتِّباع؛ لأنَّ في ذلك فائدةً، وهي تقويةُ المتبوع .
8- في قوله تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ بيانُ أنَّه يجبُ أنْ يكونَ الإيمانُ شاملًا لكلِّ ما أنزَل الله .
9- على المرءِ أنْ يُعلِنَ اتِّباعه للرَّسولِ بين أئمَّة الكفر؛ كيلَا يداهنَ في دِين الله؛ فالمداهنة في دِين الله والتَّقيَّةُ نِفاق في الواقع ؛ كما في قوله: وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ.
10- في ذِكر الاتِّباع بعد الإيمان في قوله تعالى حِكايةً عن الحواريِّين: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] ، بيانُ أنَّ العِلم الصَّحيح يستلزم العملَ، والعِلم الَّذي لا أثرَ له في العمل يُشبِهُ أنْ يكونَ مجمَلًا وناقصًا لا يقينًا وإيمانًا، وكثيرًا ما يظنُّ الإنسانُ أنَّه عالمٌ بشيء، حتَّى إذا حاول العملَ به لم يُحسِنْه، فيتبيَّن له أنَّه كان مخطئًا في دعوى العِلم .
11- العِلم بالشَّيء يظلُّ مجمَلًا مبهَمًا في النَّفس حتَّى يعمل به صاحبُه، فيكون بالعمل تفصيليًّا, فذِكر الحواريِّين الاتِّباعَ بعد الإيمان يفيد أنَّ إيمانهم كان في مرتبةِ اليقين التَّفصيليِّ، الحاكم على النَّفس، المصرِّف لها في العمل، كما قال تعالى عن الحواريين أنهم قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] .
12- يُؤخذُ من قوله تعالى: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ الحرصُ على صُحبةِ الأخيار .
13- المكرُ في مقامِ المكرِ مَدْحٌ، وصفةُ كمال كما قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54] ، والمكرُ في غير موضعِه صفةُ نقص؛ لأنَّ المكرَ في غير موضعِه خيانةٌ، والخيانة صفةُ ذمٍّ .
14- يَنبغي أنْ يُذكِّر الإنسانُ النَّاسَ بأحوال الأنبياء السابقين؛ لِما في ذلك من محبَّتِهم، والثَّناءِ عليهم، ومعرفةِ أحوالهم، وإبقاءِ ذِكراهم، وغير ذلك مِن المصالحِ العظيمة؛ كما في قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى أي: واذكُرْ إذ قال الله

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، ولم يقل: مَن أنصاري في الله؛ ليكون النَّصرُ مَبنيًّا على الإخلاص؛ لأنَّ (إلى) للغايةِ، فيُريد أنْ يكونَ نصرًا موصلًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ
.
2- لَمَّا كان المقصودُ ثباتَ الأنصار معه إلى أنْ يتمَّ أمرُه، عبَّر عن ذلك بصلةٍ دلَّت على تضمينِ هذه الكلمةِ كلمةً توافقُ الصِّلة فقال: إِلَى أي: سائرينَ أو واصلين معي بنَصرِهم إلى اللَّهِ أي: الملِكِ الأعظمِ .
3- التَّوسُّلُ إلى الله تعالى بربوبيَّتِه؛ وذاك مِن قوله: رَبَّنَا آمَنَّا؛ لأنَّ الرُّبوبيَّة تدورُ على ثلاثةِ أشياء، وهي: الخَلْق، والمُلْك، والتَّدبير، وإجابة الدُّعاءِ داخل في هذه الثَّلاثة .
4- حُسن الاحتراز في قول الحواريِّين: بِمَا أَنْزَلْتَ، ولم يُطلقوا الإيمانَ مَثَلًا بالتَّوراة؛ لأنَّ التَّوراة الَّتي بأيدي اليهود محرَّفةٌ مبدَّلة
5- في قوله: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ قوله: بِمَا أَنْزَلْتَ عامٌّ، وهو دليلٌ على وجوب الإيمانِ بكلِّ ما أنزل اللهُ مِن كتاب، وأمَّا الاتِّباع فيكونُ للرَّسول الخاصِّ الَّذي أُرسِل إليك؛ لقوله: وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ وهو خاصٌّ .
6- أنَّه إذا كان هناك وَصفانِ، وكان أحدُ الوصفينِ أخصَّ من الآخرِ بالعمل أو بالحال الَّتي أنت فيها؛ فإنَّ الأَولى أنْ تأخذَ بالأخصِّ؛ لقوله: الرَّسُولَ؛ لأنَّ الرَّسول مرسَلٌ إلينا, ولم يقولوا: (واتَّبَعْنا النَّبيَّ) .
7- في قوله: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دليلٌ على أنَّ الإسلامَ دِينُ اللهِ على لسان كلِّ نبيٍّ، وإنِ اختلفوا في بعض صُوَرِه وأشكاله، وأحكامه وأعماله ؛ فهو دِينُ الله الَّذي ابتعَث به عيسى عليه السَّلام والأنبياءَ قبله، لا النَّصرانيَّة ولا اليهوديَّة .
8- في قوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ دليلٌ على عُلوِّ الله تعالى حقيقةً .
9- في قوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ دلالة على أنَّ عيسى عليه السَّلام في السَّماء حيٌّ .
10- ذَوو الهِمَم العالية يشتدُّ اهتمامُهم بما يكون عليه خلائفُهم بعدهم من الأحوال؛ لذا بشَّر اللهُ تعالى عيسى عليه السلام في ذلك بما يسُرُّه فقال: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ... .
11- في قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِشارةٌ بأنَّ المسلمين لا يَزالون فوق النَّصارى إِلى يوم القِيامة، ولكن هذا مقيَّدٌ باتِّباع شَرْع الله تعالى؛ فبَقدْرِ اتِّباعهم تكون الفوقيَّة؛ فإنَّ المسلمين هم أتْباعُ المُرسَلين في الحقيقة، وأتْباع جميعِ الأنبياء، لا أعداؤُهم، وأعداؤُهم هم عُبَّادُ الصَّليب .
12- في قوله: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ منَّةُ الله سبحانه وتعالى على عِبادِه؛ حيث جعَل هذا الجزاءَ كالأجور اللازمِ وفاؤُها .
13- أشار في قوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ بأداة البُعد؛ تنبيهًا على عُلوِّ منزلتِه، ورفيعِ قدْرِه .
14- في وصْفِ القُرْآن بالحَكيم دليلٌ على أنَّه لا يوجَدُ حُكمٌ دلَّ عليه القُرْآنُ إلَّا وهو في موضعِه اللَّائق به؛ إذ إنَّ الحكيمَ هو الَّذي يضعُ الشَّيءَ في مواضعِه .
15- فضيلةُ الرَّسول عليه الصلاة والسَّلام في قوله: نَتْلُوهُ عَلَيْكَ، فخصَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتِّلاوة عليه؛ لأنَّه أشرفُ مَن يتلقَّى القُرْآن، وأقومُ النَّاس عملًا به، فكأنَّه هو المخصوصُ بالتِّلاوة عليه نَتْلُوهُ عَلَيْكَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِلَى اللهِ؛ فيه إيجازٌ بالحذفِ، والتقدير: (مَن أنصاري حال التِجائي إلى الله)، أو (مَن أنصاري إلى أنْ أُبيِّن أمر الله) (سائرينَ أو واصلين معي بنَصرِهم إلى اللَّهِ) وقيل غير ذلك
.
2- في قوله تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ: نداءٌ غرضُه التضرُّع إلى الله عزَّ وجلَّ، والعرْضُ لحالهم عليه تعالى بَعدَ عرضِها على الرَّسول؛ مبالغةً في إظهار أمرِهم .
3- قوله تعالى: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ: فيه تأكيدُ الأمْر بعدَ إشهادِهم عيسى عليه السَّلام على إسلامِ أنفسِهم، حيث قالوا: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، فأَشْهَدوا اللهَ تعالى على ذلك أيضًا تأكيدًا للأمْر، وتقويةً له، وأيضًا طَلبوا من الله مِثلَ ثواب كلِّ مؤمِن شهِد لله بالتوحيدِ ولأنبيائه بالنُّبوَّة .
4- في قوله سبحانه: واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ: إظهارُ الجلالةِ (الله) في موقعِ الإضمار؛ لتربيةِ المهابة، ولأنَّ المقامَ لزيادةِ العظَمة, ولئلَّا يُفهَم الإضمارُ خصوصًا من جهةٍ ما، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله .
5- في قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ: (ثمَّ) للتراخي الرُّتبي؛ لأنَّ الجزاءَ الحاصلَ عند مرجِع الناس إلى الله يومِ القِيامة- مع ما يُقارنه من الحُكمِ بين الفريقينِ فيما اختلفوا فيه- أعظمُ درجةً، وأهمُّ من جَعْل متَّبعي عيسى فوقَ الذين كفروا في الدُّنيا. وعلى حمْل الخِطاب في هذه الآية للنبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين، لا لعيسى عليه السَّلام ومَن معه، فتكون (ثمَّ) للانتقال من غرَض إلى غرَض؛ زيادةً على التراخِي الرُّتبي، والتَّراخي الزَّمني .
- وفيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للقصرِ المفيدِ لتأكيدِ الوعدِ والوعيد .
- وعلى القولِ بأنَّ الضَّمير في مَرْجِعُكُمْ لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام وغيرِه من المتَّبعين له والكافرين به، يكونُ فيه تَغليبُ المخاطَب على الغائِبِ في ضِمنِ الالتفاتِ؛ فلو جاء النَّظمُ على السِّياق من غير التفات لكان: (ثم إليَّ مرجعهم فأحكُم بينهم فيما كانوا)، ولكنَّه التفتَ إلى الخِطاب؛ لأنَّه أبلغُ في البشارة، وأزجرُ في النَّذارة .
6- قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ... وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا...: فيه تفصيلٌ لِمَا أُجمِل في قوله: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ . ففيه تفسيرٌ للحُكم الواقعِ بين الفريقين، وتفصيلٌ لكيفيته. والبدايةُ ببيانِ حالِ الكفرة لأنَّ مساقَ الكلامِ لتهديدهم وزجرِهم عمَّا هُم عليهِ من الكُفر والعِناد .
7- قوله تعالى: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: تذييلٌ للتفصيل كلِّه؛ فهو تذييلٌ ثانٍ لجملة فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا بصريحِ معناها، أي: أعذِّبهم؛ لأنَّهم ظالمون، والله لا يحب الظالمين، وتذييل لجملة وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا...، بكناية معناها؛ لأنَّ انتفاءَ محبَّة الله الظالمين يستلزمُ أنَّه يحبُّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات؛ فلذلك يُعطيهم ثوابهم وافيًا .
8- في قوله: فَأُعَذِّبُهُمْ وقوله: فَيُوَفِّيهِمْ تنوُّعٌ في الأسلوب، وهو الانتقالُ من ضمير التَّكلُّم إلى ضميرِ الغَيْبة, وفي تغييرِ الأسلوب فائدتانِ: لفظيَّةٌ، وهي الالتفاتُ الَّذي يوجب الانتباهَ، ومعنويَّةٌ، وهي إظهارُ السُّلطة والعَظَمة والعزَّة في باب التَّعذيب، وإظهارُ الفضل والإحسان للعامِلين في باب المَثُوبة .
- وعلى قِراءة (فنُوفِّيهم) بالمتكلم وحْدَه المعظِّمِ نفْسَه، يكون ذلك اعتناءً بالمؤمنين، ورفعًا من شأنِهم؛ لَمَّا كانوا مُعظَّمين عنده .
9- في قوله تعالى: ذَلِكَ: الإشارة بـ(ذلك) إلى ما سلَف من نبأ عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما فيه من معنى البُعد؛ للدَّلالة على عِظم شأنِ المُشارِ إليهِ، ورِفعة قدْره، وبُعْد منزلتِه في الشَّرف، وعلى كونِه في ظهور الأمرِ ونباهةِ الشأن بمنزلةِ المشاهَد المعايَن .
10- قوله تعالى: نَتْلُوهُ: يحتمل أنْ يكونَ فيه التفاتٌ من غَيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهر، وهو قوله: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ويحتمل أن يكون وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جِيء بها اعتراضًا بين أبعاضِ هذه القِصَّة، فلا يكون فيه التفات .

===========


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (59- 63)
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ
غريبُ الكَلِماتِ:

الْمُمْتَرِين: أي الشَّاكِّين، والـمِرْية: التَّردُّد في الأمر، وهي أخصُّ من الشَّكِّ
.
نَبْتَهِلْ: أي: نتداعَ باللَّعْن، أو نلتعِن؛ يقال: عليه بهلةُ الله، وبهلتُه، أي: لعنتُه، وأصل (البَهْل): كونُ الشيءِ غيرَ مراعًى، والبَهْل والابتهال في الدُّعاء: الاسترسالُ فيه والتَّضرُّع .
الْقَصَصُ: الأخبارُ المتتبَّعة، والأثَرُ، وأصْل القصِّ: تتبُّعُ الأثَرِ أو الشَّيء .
مُشكِلُ الإعرابِ:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
كَمَثَلِ: الكافُ حرْف تَشبيه. و(مَثَلِ) مجرورة، وهي هنا بمعنى الحالِ والشأن، أي: إنَّ شأنَ عيسى وحالَه الغريبة كشأنِ آدَم، وقيل: إنَّ المَثَل بمعنى الصِّفة، وقول: صِفةُ عيسى كصِفةِ آدَم كلامٌ مُطَّرد. وقيل غير ذلك.
خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ: جملةٌ مفسرةٌ لوجهِ التَّشبيه بين المَثَلين، لا محلَّ لها من الإِعراب؛ فهي خبرٌ مستأنَفٌ على جِهةِ التَّفسير لحالِ آدَمَ عليه السَّلام، كقولِك: كمَثلِ زيد- تريد أنَّك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصَّة زيد، فتقول:- فعَل كذا وكذا. وقيل غير ذلك.
كُنْ فَيَكُونُ: فَيَكُونُ مرفوعٌ على الاستئنافِ، أي: فهو يكون، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَيَكُونُ على بابِه مِنْ كونِه مستقبلًا، والمعنى: فيكونُ كما يأمرُ الله، فيكونُ حكايةً للحالِ التي يكونُ عليها آدم، ويجوز أن يكون فَيَكُونُ بمعنى (فكان)؛ لأنَّ الخبرَ عن أمر آدمَ تناهَى عند قوله: كُنْ، وكلمة فَيَكُونُ خبرٌ لمبتدأ، واعلم أن ما قال له ربُّك: كُنْ، فهو كائنٌ، أو رفع فَيَكُونُ على الابتداء، ومعناه: كُنْ، فكان، فكأنَّه قال: فإذا هو كائنٌ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُقيم اللهُ تعالى الحُجَّةَ على النَّصارى الَّذي عبَدوا عيسى عليه السَّلام بدَعْوى أنَّه لا أبَ له، فيُشبِّهُ خَلْقَ عيسى عليه السَّلام حين خلَقه من غير أبٍ بخَلْق آدمَ حين خلَقه من ترابٍ بلا أبٍ ولا أمٍّ، ثمَّ قال له: كُنْ، فكان, فخَلْقُ عيسى بلا أبٍ ليس بأعجبَ مِن خَلْق آدمَ.
ثمَّ يقول اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا القولَ الَّذي أخبرتُك به، وقَصصتُه عليك، من أمرِ عيسى- هو الحقُّ مِن عند ربِّك, فلا تكُنْ من الشَّاكِّين، فمَن جادَلك وخاصمَك في عيسى بعدَ ما جاءَك من العِلم والبيان في شأنه، فقُلْ للَّذين يُحاجُّونك: هلمُّوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم، وزوجاتِنا وزوجاتِكم، وإيَّانا وإيَّاكم, ثمَّ نلتعِنْ فنَجعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكاذِبِينَ منَّا ومنكم.
ثمَّ قال الله تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا الَّذي قصَصْناه عليك- يا محمَّدُ- في شأنِ عيسى وخبرِه هو الحقُّ البيِّن, وكلُّ ما خالَفه وناقضه فباطلٌ, ولا معبود يستحقُّ العبادةَ بحقٍّ إلَّا اللهُ العزيزُ الحكيم.
فإن أعرَض هؤلاء وتولَّوا عن الحقِّ الَّذي ذكَرْناه إلى غيرِه, ومالوا إلى الباطِلِ, فهم المفسِدون، واللهُ عليمٌ بهم، وسيُجازيهم على ذلك.
تفسير الآيات:

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
أي: إنَّ شَبَهَ عيسى في خَلْق اللهِ له من غيرِ أبٍ كشَبَهِ آدمَ
.
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
أي: خلَق آدمَ من ترابٍ بلا أبٍ ولا أمٍّ، ثمَّ قال له: كُنْ، فكان، فليس خَلْقُ اللهِ عيسى بلا أبٍ بأعجَبَ مِن خَلْق آدمَ؛ فكيف يَستنكِرُ وجودَ عيسى من غيرِ أبٍ مَن يُقرُّ بوجود آدمَ من غير أبٍ ؟!
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
أي: هذا القولُ الَّذي أنبأتُك به مِن خبرِ عيسى هو الحقُّ مِن عند ربِّك .
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
أي: فلا تكُنْ من الشَّاكِّين في شيءٍ ممَّا أخبرك به ربُّك .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ
أي: فمَن جادَلك- يا محمَّدُ- في المسيحِ عيسى ابنِ مريم .
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
أي: مِن بعدِ ما جاءَك من العِلم الَّذي قد بيَّنْتُه لك أنَّ عيسى عليه السَّلام عبدُ اللهِ ورسولُه .
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ
أي: فقُلْ لهم: هلمُّوا وأقبِلوا، ولندعُ أبناءَنا وأبناءَكم، وزوجاتِنا وزوجاتِكم، وإيَّانا وإيَّاكم .
عن سعدِ بنِ أبي وقَّاص قال: ((لما نزلتْ هذه الآيةُ: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ [آل عمران: 61] دعا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عليًّا وفاطمةَ وحسنًا وحُسينًا، فقال: اللهمَّ هؤلاء أهلي )) .
ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
أي: ثمَّ نلتعِنْ فنَجعَلْ لَعْنَةَ اللهِ وعقوبتَه على الكاذِبينَ منَّا ومنكم .
عن حذيفةَ قال: ((جاء العاقبُ والسَّيدُ صاحبا نَجْران إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدُهما لصاحبِه: لا تفعلْ، فوالله لئنْ كان نبيًّا فلاعنَّا لا نُفْلح نحن، ولا عقِبُنا مِن بعدِنا. قالا: إنَّا نُعطيكَ ما سألْتَنا، وابعثْ معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعثْ معنا إلَّا أمينًا. فقال: لأبعثنَّ معكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ. فاستشرفَ له أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: قمْ يا أبا عبيدةَ بنَ الجرَّاح. فلمَّا قام قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم : هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ )) .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ
أي: إنَّ هذا الَّذي قصَصْناه عليك من أمرِ عيسى عليه السَّلام، وأنَّه عبدٌ لله ورسوله، هو القَصَصُ الحقُّ، والصِّدقُ، وما خالَفه فهو باطلٌ .
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ
أي: وما من معبود بحقٍّ إلَّا اللهُ؛ فهو الَّذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له .
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أي: وإنَّ اللهَ هو الَّذي لا يُغلَب؛ فهو الَّذي قهَر كلَّ شيءٍ وخضع له، ذو الحكمةِ فهو الحاكمُ، ولا حاكمَ غيره، والمُحكِم أي المُتقِنُ لِما حكَم به .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
أي: فإنْ أعرَضوا عن الإقرار بالتَّوحيد، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه، وعدَلوا عن الحقِّ إلى الباطل، فهُمُ المفسِدون، واللهُ عليمٌ بهم، ويُجازيهم على ذلك شرَّ الجزاء، ويُعاقبُهم أشدَّ العُقوبة

.
الفوائد التربوية :

كلُّ مَن تولَّى عن دِين الله فهو مُفسدٌ، ولو زعَم أنَّه مصلِحٌ؛ كما في قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- إقامةُ الحُجَّة بمِثل ما يَحتجُّ به الخَصم؛ لأنَّه أقام الحُجَّة على النَّصارى بمِثْل ما احتَجُّوا به؛ كما في قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
.
2- قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، إنْ قال قائلٌ: كيف شُبَّه عيسى بآدم وقدْ وُجِد هو مِن غيرِ أبٍ، ووُجِد آدَمُ من غير أبٍ وأمٍّ؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ التَّشبيهَ إنَّما هو في الحالةِ الخارجةِ عن المألوف؛ فقد شُبِّه به لأنَّه وُجِد وجودًا خارجًا عن العادة المستمرَّة، وهما في ذلك نظيران. الثاني: أنَّ المماثلةَ هي مشاركةٌ في بعض الأوصافِ؛ فعيسى عليه السَّلام مَثيلُ آدَمَ عليه السَّلام في إحْدى الطَّرفين؛ فلا يمنعُ اختصاصُ آدَم عليه السَّلام دونه بالطَّرَفِ الآخَرِ من تشبيهه به. الثالث: أنَّ الوجودَ من غير أب وأمٍّ أغربُ وأخرقُ للعادة من الوجودِ بغير أبٍ، فشُبِّه الغريبُ بالأغربِ؛ ليكونَ أقطعَ للخَصمِ، وأحسمَ لمادَّة شُبهتِه إذا نظَر فيما هو أغربُ ممَّا استغربَه ؛ ففي قولِه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ... ردٌّ على مَن يدَّعي أُلوهيَّة عيسى عليه السَّلام، فإذا كانوا يقولون: عيسى ابنُ الله- تعالى اللهُ عن ذلك-؛ لأنَّه وُلِد بلا أبٍ، فأَوْلى منه بذلك آدَمُ عليه السَّلام؛ لأنَّه خُلِق بلا أبٍ ولا أمٍّ؛ فإذا لم يكُن آدمُ إلهًا أو ابنَ إلهٍ، فعيسى ليسَ كذلك مِن باب أَوْلى .
3- في قوله: كَمَثَلِ آدَمَ إثباتُ القياسِ، وكلُّ مَثَل مضروبٍ في القُرْآن، فإنَّه دليلٌ على ثبوت القياس؛ لأنَّه إلحاقُ الـمُورَدِ بالمضروبِ .
4- قال تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، المقولِ له: كُنْ هو آدَمُ عليه السَّلام؛ وإنَّما قال: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بعدَ أنْ ذكَر أنَّه خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ- وإنْ كان الترتيبُ الزمنيُّ يَقتضي أن يقول له: كُنْ قبل أنْ يَخلقَه لا بعده-؛ لأنَّه خلقَه قالبًا مِن ترابٍ ثم قال له: كُنْ بَشَرًا. وقيل: الآية ليس فيها ترتيبٌ زمنيٌّ لهذه الأفعال، وإنَّما أخبرَنا اللهُ تعالى أولًا أنَّه خَلَقَ آدمَ مِن غيرِ ذَكَرٍ ولا أُنثى، ثم ابتدأَ خبرًا آخَرَ، أرادَ أنْ يُخبِرَنا به فقال: إنِّي مُخبرُكم أيضًا بعد خَبَري الأوَّل أنِّي قلتُ له: كُنْ فكان، فجاءَ بـثُمَّ لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبرِ الذي تأخَّر في الذِّكر؛ لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه: كُنْ .
4- في إضافةِ الرُّبوبيَّة إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قوله: مِنْ رَبِّكَ فضيلةٌ له؛ لأنَّ الرُّبوبيَّة هذه خاصَّةٌ، والرُّبوبيَّة الخاصَّةُ تُفيد معنًى أخصَّ من الرُّبوبيَّة العامَّة .
6- في قوله: فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نهيُه عن الامتراء- وجلَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يكون ممتريًا- من باب التَّهييج لزيادة الثَّباتِ والطُّمأنينة .
7- في قوله: فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قاعدةٌ شريفة، وهي أنَّ ما قامت الأدلَّةُ على أنَّه حقٌّ وجزَم به العبدُ من مسائلِ العقائد وغيرها، وجَب الجزمُ بأنَّ كلَّ ما عارَضه باطلٌ، وكلَّ شُبهة تُورَدُ عليه فاسدة، سواءٌ قدَر العبدُ على حلِّها أو لا؛ لأنَّ ما خالَف الحقَّ فهو باطلٌ .
8- جواز المخاطبة بالتَّعريض؛ لأنَّ قوله: فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، لا يعني أنَّ الرَّسول يمكن أنْ يكونَ منهم، بل هو تعريضٌ بهؤلاء، وأنَّهم ذَوو خُلُق سيِّئ .
9- في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61]، قوله: مِنْ بَعْدِ يدلُّ على أنَّ هناك مهلةً بين العِلم الَّذي جاءه وبين المُحاجَّة الَّتي وقَعَت، بخلاف لو قال: (فمن حاجك فيه بعدما جاءك)، فإنَّها تفيد البَعديَّة، لكن لا تدلُّ على التَّراخي والمباعدة، ومعلوم أنَّ الإنسانَ كلَّما تمعَّن في النَّظر فيما علِم، ازداد به عِلمًا ويقينًا .
10- في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61]، جواز طلَب المباهلة عند عنادِ الخَصْم؛ وذلك مقيَّد بأنْ تكونَ بعِلم يقينيٍّ، أمَّا إذا كان الإنسان شاكًّا فلا يجوزُ له .
11- في قوله سبحانه: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ [آل عمران: 61]، جمَعَ في الملاعنةِ الأبناءَ والنِّساء؛ لأنَّه لَمَّا ظهَرَتْ مُكابرتُهم في الحقِّ وحبِّ الدُّنيا، عُلِم أنَّ مَن هذه صفتُه يكونُ أهلُه ونساؤُه أحبَّ إليه من الحقِّ .
12- في قوله: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ جوازُ الدُّعاء باللَّعن على مَن خالَف الحقَّ، لكن بالوصفِ لا بالشَّخص؛ لأنَّ الكاذبين وصفٌ .
13- من شروط المباهَلة أنْ تكونَ في أمرٍ مهمٍّ، أمَّا الأمور الَّتي ليست مهمَّةً، فلا ينبغي للإنسان أنْ يُعرِّض نفسَه للخطَر، كما قال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الآية [آل عمران: 61] .
13- واجبُنا نحوَ أحكام الله الكونيَّة والشَّرعيَّة التَّسليم والرِّضا والقناعة، وألَّا نطلُبَ سواها؛ لأنَّنا نعلَمُ أنَّها مبنيَّةٌ على الحِكمة ؛ وذلك يؤخذُ من قوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
14- في قوله: إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إبطالٌ لإلهيَّة المسيح على حسَب اعتقادِ المخاطَبين من النَّصارى؛ فإنَّهم زعَموا أنَّ اليهودَ قتَلَتْه؛ وذلك ذِلَّةٌ وعجزٌ لا يَلتئمان مع الإلهيَّة، فكيف يكون إلهًا وهو غيرُ عزيزٍ، وهو محكومٌ عليه؟ وهو أيضًا إبطالٌ لإلهيَّتِه على اعتقادِنا؛ لأنَّه كان محتاجًا لإنقاذِه من أيدي الظَّالمين .
16- يُؤخذُ من قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أنَّ كلَّ عزيزٍ إذا اقتَرَن في عزَّتِه الحكمةُ والحُكم، كملَتْ عِزَّتُه

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ: مَن جَعَل مَثَلَ هنا مرادفًا لـ(مِثْل)، كالشَّبَهِ وَالشِّبْهِ، جعَل الجمْعَ بين أداتي تَشبيهٍ على طريقِ التَّأكيد للشبه، والتَّنبيه على عِظَم خطَرِه وقَدْره
.
2- قوله تعالى: ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:
- (ثُمّ) للتراخي الرُّتبي؛ فإنَّ تكوينَه بأمْر كن أرفعُ رتبةً مِن خلْقِه من تراب، وهو أسبقُ في الوجودِ والتكوين المشارِ إليه بـكُنْ: هو تكوينُه على الصِّفة المقصودة؛ ولذلك لم يقُل: (كوَّنه من تراب)، ولم يقل: (قال له كن من تراب، ثم أحياه)، بل قال: خَلَقَه ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ .
- وعبَّر بقوله: فَيَكُونُ مع كونِه أمرًا قد مضَى، ولم يقل: (فكان)؛ لأنَّ معنى فَيَكُونُ فكان، أي: فهو كائنٌ؛ فاسْتُغنى بدَلالةِ الكلام على المعنى وقيل: فَيَكُونُ، فعطف بالمستقبلِ على الماضي على ذلك المعنى . وقيل: عبَّر بالمضارِعِ عن الماضي لاستحضارِ صورة تكوُّنه، ولا يُحمل المضارعُ في مِثل هذا إلَّا على هذا المعنى، مِثل قوله: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [فاطر: 9] .
- والإشارةُ بصيغةِ الافتعالِ المُمْتَرِينَ إلى أنَّه لا يَشكُّ فيه بعدَ هذا إلَّا مَن أمعن الفِكرَ في شُبه يُثيرها، وأوهامٍ يُزاولها .
3- قوله سبحانه: ثُمَّ نَبْتَهِلْ: أتى بـثُمَّ هنا تنبيهًا لهم على خِطابهم في مباهلتِه، كأنَّه يقول لهم: لا تَعْجَلوا وتأنَّوْا؛ لعلَّه أنْ يَظهرَ لكم الحقُّ؛ فلذلك أتى بحرف التَّراخي، وللإشارة أيضًا إلى خَطرِ الأمْرِ، وأنَّه ممَّا يَنبغي الاهتمامُ به، والتَّروِّي له، وإمعانُ النَّظرِ فيه؛ لوخامةِ العاقبةِ، وسُوءِ المُنقلَبِ للكاذبِ .
3- قوله: إنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ: فيه التنبيهُ بـ(ها) والإشارة (ذا) في قوله هَذَا، والجمعُ بين حرفي التأكيد (إنَّ واللام)، والفَصْل في قوله: إنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحقُّ ؛ فأُكِّد الخبرُ بثلاثة مؤكِّدات؛ لأنَّ المقامَ يَقتضي هذا, فمِن بلاغة الكلام أن يكون مطابقًا للواقع، أو موافقًا لمقتضى الحال .
4- قوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ:
- قوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ: فيه تأكيدُ النَّفي؛ بـ(ما) و(إلَّا)، وذلك أقوى صِيَغ الحَصْر؛ للمبالغةِ في أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ الحقُّ سبحانه وتعالى .
- وصرَّح فيه بـ(مِن) الاستغراقيَّة؛ تأكيدًا للردِّ على النَّصارى في تثليثهم. ودخولها- (مِن)- بعد حرْف النَّفي؛ للتَّنصيصِ على قَصْد نفيِ الجِنس؛ لتدلَّ الجملةُ على التوحيد، ونفْي الشريكِ بالصَّراحة، ودَلالة المطابقة، وأنْ ليس المرادُ نفْيَ الوحدة عن غيرِ الله، فيُوهِم أنَّه قد يكونُ إلَاهانِ أو أكثر في شقٍّ آخَر، وإنْ كان هذا يؤول إلى نفْي الشريك، لكن بدلالة الالتزام .
- وفي قوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ: تَكرارُ اسم الله تعالى ، وإظهارُه في موضِع الإضمار-حيث لم يقُلْ: (وإنه)-؛ لتربيةِ المهابةِ، ولتأكيدِ معنى الألوهيَّة .
- وقوله تعالى: وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ: فيه- مع التأكيد بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة- إشارةٌ إلى الجواب عن شُبهات النَّصارى .
- والضميرُ في قولِه: لَهُوَ القَصَصُ ضميرُ فصلٍ، ودخلتْ عليه لامُ الابتداءِ؛ لزيادةِ التقويةِ التي أفادَها ضميرُ الفصل؛ لأنَّ اللام وحْدَها مفيدةٌ تقويةَ الخبرِ، وضميرَ الفصلِ يُفيد القصرَ، أي: هذا القَصصُ لا ما تَقصُّه كتُبُ النصارى وعقائدُهم .
5- في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا: في الكلامِ التفاتٌ؛ إذ فيه انتقالٌ من خِطابٍ إلى غَيبة- هذا على القولِ بأنَّ الفِعل (تَوَلَّوا) ماضيًا، وأمَّا على القول بأنَّه مضارعٌ أصله (تَتولَّوا) وأُدغمتْ إحْدى التاءين في الأخرى، فليس فيه التِفاتٌ .
6- في قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ: وضعُ الظَّاهر موضعَ المُضمَر؛ ليدلَّ على أنَّ التَّولِّيَ عن الحُجَج والإعراض عن التَّوحيد إفسادٌ للدِّين والاعتقاد، المؤدِّي إلى فساد النَّفس، بل وإلى فسادِ العالَم ، ومن فوائده أيضًا: انطباقُ الوصْفِ في هذا المظهَر على مَن يعودُ عليه، ومنها العموم؛ لأنَّه لو جاء الضَّميرُ هنا حسَب السِّياق، فإنَّ اللهَ عليمٌ بهم، لاختصَّ العِلم بهم وحدهم، لكن إذا قال: بِالْمُفْسِدِينَ صارَ عامًّا فيهم وفي غيرِهم .

============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (64- 68)
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
غريبُ الكَلِماتِ:

سَوَاءٍ: أي: عدْل، ونَصَفة، وسواءُ كلِّ شيءٍ: وَسَطُه، وأصله: الاستقامةٍ والاعتدال
.
حَنِيفًا: أي: مُستقيمًا، أو مائلًا إلى الدِّين المُستقيم، والحَنَفُ: مَيلٌ عن الضَّلال إلى الاستقامة، وأصْله: ميلٌ في إبهامَي القَدمين، كلُّ واحدةٍ على صاحبتِها، والأحنف: مَن في رِجْلِه مَيلٌ؛ قيل: سُمِّي بذلك على التَّفاؤل .
مُشكِلُ الإعرابِ:
قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤلاءِ حَاجَجْتُمْ...:
هَا: للتَّنبيهِ، وقيل: هي بَدلٌ من همزةِ الاستفهام. وأَنْتُمْ: في محلِّ رفْع مبتدأ. وهَؤلاءِ: في محلِّ رفْع خبَر، وعلى هذا فجملةُ حَاجَجْتُمْ في محلِّ نصْب حال بتقديرِ (قد)، والعاملُ في الحالِ اسمُ الإِشارةِ؛ لِمَا فيه مِن معنى الفِعْل، وهي حالٌ منه ليتَّحِدَ ذو الحالِ وعامِلُها. وقيل: إنَّ هَؤُلاءِ خبرٌ لكِن على تقديرِ حذْفٍ مضاف، تقديرُه: ها أنتم مِثلُ هؤلاءِ، وجملة حَاجَجْتُمْ في محلِّ نصْب حال أيضًا، لكن العامِل في الحالِ معنى التشبيه، ويلزَمُ منه الإِشارةُ إلى غائبين؛ لأنَّ المرادَ بهم أسلافُهم على هذا، وقد يُقال: إنه نَزَّل الغائِبُ مَنْزِلَةَ الحاضرِ. وقيل: إنَّ جملة حَاجَجْتُمْ مستأنفةٌ مبيِّنةٌ للجملةِ قبلها، أي: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقِتكم وقلةِ عقولكم أنَّكم جادلتم فيما لكم به عِلم بما نَطَقَ به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم؟! وقيل: هَؤُلاءِ في محلِّ نصْبٍ على الاختصاصِ بتقديرِ أعْني أو أخصُّ ، وقيل: إنَّه منادَى حُذِف منه حرْف النِّداء، والتقديرُ: يا هؤلاءِ ، وخبَرُ أَنْتُمْ حينئذٍ جملةُ حَاجَجْتُمْ. وقيل غيرُ ذلك في توجيهِ هذه الآية الكريمة

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يدعوَ أهلَ الكتابِ إلى كَلمةِ عدل، يستوي فيها الجميعُ، ويَجتمعون عليها، وهي كلمةُ التَّوحيد، وإفرادِ الله بالعبوديَّة، وعدمِ الإشراكِ معه غيرَه، وعدمِ اتِّخاذ أربابٍ يُعبَدون من دون الله، أو يُطاعون في تحليل ما حرَّم اللهُ، أو تحريم ما أحلَّ اللهُ؛ فإنْ أعرضوا فأَشْهِدوهم- أيُّها المؤمنون- أنَّكم مُسلِمون، مستمرُّون على هذا الدَّين الَّذي شرَعه الله وارتضاه لكم.
ثمَّ يُوجِّه اللهُ خِطابَه لأهل الكتاب من اليهود والنَّصارى، حيث يقول لهم: يا أهلَ الكتاب، من اليهود والنَّصارى، لِمَ تُخاصِمون في إبراهيم عليه السَّلام، ويدَّعي كلُّ فريق منكم أنَّه كان يَدينُ بدِينه، وفي حقيقةِ الأمْر أنَّ التَّوراة والإنجيل ما أُنزلت إلَّا بعد موته بزمن، أفلا تعقلون أنَّ ما تقولونه باطل؟!
فها أنتم خاصمتُم فيما تَعلمونه مِن أمْرِ دِينكم، وما جاء ذِكْره في كُتبكم؛ فلماذا الجدالُ والمُماراة فيما لم يَصلِكم عِلمُه من شأنِ إبراهيم الخليل ودِينه الَّذي كان عليه؟! واللهُ قد أحاطَ عِلمُه بكلِّ شيءٍ ممَّا خَفِيَ عنكم علمُه، أمَّا أنتم فلا تعلمون ما يَعلمُه الله.
ثم يُبيِّن الله لهم الحقيقةَ الواضحةَ من أمْر إبراهيم، حيثُ نفَى الله عنه أن يكونَ يهوديًّا أو نَصرانيًّا، بل أَثْبَتَ أنَّه كان حنيفًا مستقيمًا، مُتَّبِعًا لأمْر الله، مُخلِصًا له، كما أنَّه لم يكُن من المشركين، الذين يَعكُفون على عبادةِ الأصنام وغيرِها.
ثمَّ يذكُر اللهُ بعد ذلك الطائفةَ الَّتي هي أحقُّ النَّاس بإبراهيم ووَلايتِه ونُصرتِه، فبيَّن أنَّهم مَن اتَّبع دِينَه، وسلَك طريقَه، ومنهم محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والَّذين آمنوا به من أصحابه ومَنْ بعدَهم، فهؤلاءِ أحقُّ بولايتِه، واللهُ يتولَّى المؤمنين، ويُؤيِّدهم وينصُرهم على مَن عاداهم.
تفسير الآيات:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نَكَصَ أهلُ الكتاب عن المباهلة بعد أنْ أَوْرَدَ عليهم أنواع الحُجج فانقطعوا، فلم تبقَ لهم شُبهةٌ، وقَبِلوا الصَّغارَ والجزية، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حريصًا على هداية الخَلق- أمَره الله تعالى أن يقومَ بتكرير دَعوتهم، وإرشادِهم بطريقٍ أخفَّ ممَّا مضى، بأنْ يُؤْنِسَهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساةِ، فيدعو دُعاءً يشملُ المحاجِّين من النَّصارى وغيرِهم- ممَّن له كتابٌ من اليهود وغيرهم- إلى الكلمةِ الَّتي قامت البراهين على حقيَّتها، ونهضت الدَّلائل على صِدقها، على وجهٍ يتضمَّن نفْيَ ما قد يُتَخَيَّلُ من إرادة التفضُّل عليهم والاختصاصِ بأمرٍ دونهم؛ وذلك أنَّه بدأ بمباشرةِ ما دعاهم إليه، ورَضِيَ لهم ما رَضِيَ لنفْسه، وما اجتمعتْ عليه الكتُبُ، واتَّفقت عليه الرُّسلُ فقال تعالى
:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أي: قل- يا محمَّدُ- لأهل الكِتابِ من اليهود والنَّصارى: يا أهلَ الكتاب، هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا إلى كلمةِ عدْل نستوي- نحن وأنتم- فيها .
ثمَّ فسَّر هذه الكلمةَ بقوله:
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
أي: نوحِّد الله ونُفرِده بالعبادة .
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
أي: لا نُشرِك بالله شيئًا؛ لا نبيًّا، ولا مَلَكًا، ولا وَلِيًّا، ولا صنمًا، ولا وَثَنًا، ولا حيوانًا، ولا جمادًا، ولا غير ذلك .
فهذه دعوةُ الرُّسل- كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وقال أيضًا: وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: ولا يُنْزِلُ بعضُنا بعضًا منزلةَ الرُّبوبيَّة؛ فيُعبد، أو يُسجَد له، أو يُطاع في تحليل ما حرَّم الله، أو تحليل ما أحلَّ الله .
كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31] .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
أي: فإنْ أعْرَضوا عن إجابة ما دُعُوا إليه فقولوا- أيُّها المؤمنون- لهؤلاء المعرِضين: اشهدوا أنَّنا مُستمرُّون على الإسلام، منقادون لشريعتِه، مقرُّون بتوحيد الله، مُخلِصون في عبادتِه .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
أي: يا أهلَ الكتاب، من اليَهود والنَّصارى، لِمَ تجادلون وتخاصمون في إبراهيمَ خليلِ الرَّحمن، ويدَّعي كلُّ فريقٍ منكم أنَّه كان منهم ويَدِينُ دِينهم .
كما قال تعالى مُبَيِّنًا وجْهَ مُحاجَّتِهم في إبراهيم: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ، وكما قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا.
ثمَّ يُقِيمُ الحُجَّة الداحِضة لدعواهم، والدَّليل المبطِل لقولهم، فيقول:
وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ
أي: كيف تَدَّعُونَ- أيُّها اليهود- أنَّه كان يهوديًّا، وأيُّها النَّصارى- أنَّه كان نصرانيًّا، وما أُنْزِلَت التَّوراة ولا الإنجيل إلَّا بعد موته بزمن. واليهوديَّةُ ما حَدَثَتْ إلَّا بعد نزول التَّوراة، ولا حدَثت النصرانيَّة إلَّا بعد نزول الإنجيل؟! .
ولَمَّا كان الدَّليل عقليًّا، قال الله مُوَبِّخًا لهم :
أَفَلَا تَعْقِلُونَ
أي: أفلا تَعقِلون بُطْلانَ قولَكم؟! فلو عَقَلتم ما تقولون، لم تقولوا ذلك .
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
أي: ها أنتُم- يا هؤلاء- جادلتُم وخاصَمتُم فيما لكم به عِلمٌ من أمْر دِينكم ممَّا وجدتموه في كُتُبكم .
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
أي: فلِمَ تُجادلون وتُخاصِمون في الَّذي لا عِلمَ لكم به من أمْر إبراهيم وما كان عليه مِن الدِّين ؟!
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
أي: واللهُ يعلمُ ما غاب عنكم، ولم يَأتِكم عِلمُه عن طريقِ رُسله من أمْر إبراهيم عليه السَّلام وغيره من الأمور، وأنتُم لا تعلمونَ ما يَعلمُه اللهُ مِن هذا وغيرِه .
كما قال تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ.
ثم يُقرِّر الله تعالى ما كان عليه إبراهيمُ عليه السَّلام من الدِّين، فيقول:
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا
أي: لم يكُن إبراهيمُ عليه السَّلام يَهوديًّا على ملَّة اليهود، ولا نصرانيًّا على ملَّة النَّصارى .
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا
أي: ولكن كان إبراهيمُ عليه السَّلام مستقيمًا، مُتَّبِعًا لأمْر الله، مُخْلِصًا له، قد خشَع لله قلبُه، وانقادتْ له جوارحُه، والتزم بأحكامِه .
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
أي: لم يكُن إبراهيمُ عليه السَّلام من المشركين، الَّذين يَعبُدون غيرَ الله من الأصنام وغيرها .
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
أي: إنَّ أحقَّ النَّاسِ بإبراهيمَ وولايتِه ونُصرتِه وأقربَهم إليه، هم الَّذين اتَّبعوه على دِينِه وملَّته، وسلَكوا طريقَه .
وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أي: ومحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والَّذين آمنوا به من أصحابه ومَنْ بعدَهم .
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
أي: والله ناصرُ المؤمنين، ومُعِينُهم ومؤيِّدهم

.
الفوائد التربوية :

1- يُؤخَذ من قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أنَّه ينبغي للمسلم أن يَعتزَّ بدِينه، وأن يُعلنه ويُشْهِرَه، خِلافًا لضعفاء الشَّخصية، الَّذين يتستَّرون بدِينهم مخافةَ أن يُعَيِّرَهم النَّاسُ به
.
2- في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، عُلِّقَت الولايةُ بالإيمان، والحُكم المُعَلَّقُ بوصف يَزدادُ قوَّةً بقوَّة هذا الوصف فيه، وعليه فكلَّما كان الإنسانُ أقوى وأكمل إيمانًا، كانت ولايةُ الله له أتمَّ وأخصَّ وأكملَ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- إذا صدَّر اللهُ تعالى الشَّيء بـقُلْ الموَجَّه للرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّه يَقتضي زيادةَ العناية به؛ لأنَّه أُمِرَ بأنْ يُبلِّغَ هذا الشيءَ بخصوصِه
.
2- الكلمة تُطْلَقُ على الجملة المفيدة كما في قوله: إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، ثمَّ قال: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا... .
3- في قوله: سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، تنازلٌ مع الخَصْم لإلزامه بالحقِّ، فمعلومٌ أنَّ الحقَّ مع الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكن من أجل إلزام الخَصْم وإقامة الحجة عليه تنازل معه .
4- يُؤخَذ من قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أنَّه يجبُ العدلُ في المناظرة حتَّى مع العدوِّ الكافر، وإذا كان هذا واجبًا في مناظرةِ المسلمين مع الكفَّار، فهو في مناظرةِ المسلمين بعضِهم مع بعضٍ أوجبُ وأَوكَد .
5- في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ذَكَر ثلاثةَ أشياء: أولها: ألَّا نعبُد إلَّا الله. وثانيها: ألَّا نُشركَ به شيئًا. وثالثها: ألَّا يتَّخِذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون اللهِ، وإنَّما ذَكَر هذه الثلاثة؛ لأنَّ النَّصارى جمَعوا بين هذه الثلاثة .
6- في قوله: بَعْضُنَا بَعْضًا بيانُ أنَّ البعضيَّة تُنافي الإلهيَّة؛ إذ هي تماثُلٌ في البشريَّة، وما كان مِثلَك استحال أن يكون إلهًا .
7- في قوله: أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ دليلٌ على بُطلان القول بالاستحسانِ المجرَّد الَّذي لا يَستنِد إلى دليلٍ شرعيٍّ، وبُطلانِ القولِ بوجوب قَبُول قولِ الإمام دون إبانةِ مُستنَدٍ شرعي، كما ذهَب إليه الرَّوافض .
8- لَمَّا كان التَّوجُّهُ إلى غيرِ الله خِلافَ ما تدْعو إليه الفِطرة الأولى، عبَّر بصيغة الافتعال فقال: وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا .
9- في قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنَّ الحكم بين النَّاس والعبادة مُقتَرِنان؛ لأنَّ الله قَرَنَ بينهما، ولأنَّك لن تعبُدَ الله إلَّا بشريعتِه، إذنْ يلزم أنْ يكون المشرِّعُ هو المعبودَ، ولا ينبغي لأحد أن يُشَرِّعَ من دونه .
10- الإشهادُ في قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ للتَّسجيل عليهم؛ لئلَّا يُظهروا إعراضَ المسلمين عن الاسترسالِ في مُحاجَّتهم في صورةِ العجزِ والتَّسليم بأحقيَّة ما عليه أهلُ الكتاب .
11- إشهادُ الخَصم على الحال الَّتي يكون عليها خَصمُه؛ لِمَا في ذلك من الغضاضةِ عليه، وكسْر جَبروته، وعدمِ انقيادِه للحقِّ، كما في قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .
12- الحثُّ على تعلُّم عِلم التاريخ، وأنَّه طريق لردِّ كثير من الأقوال الباطلة والدَّعاوى الَّتي تخالف ما عُلِمَ من التاريخ، كما جاءت الإشارة في قوله: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيلُ إلَّا مِنْ بَعْدِهِ .
13- في قوله: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، بيانٌ للاحتجاج بالعقل؛ وإشادةٌ به وأنَّه لا ينبغي إهمالُ العقل في الاستدلال، وأنَّه لا يَحْمِلُ صاحبَه إلَّا على السَّداد والصَّواب، لكن لا ينبغي الاعتمادُ عليه بالكلِّيَّة وترْكُ النَّصِّ .
14- في قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ...: تنزُّلٌ مع الخصم، يعني: لو فرضْنا أنَّ المحاجَّة قُبِلَتْ منكم فيما لكم به علمٌ، فإنَّها لا تُقْبَلُ منكم فيما ليس لكم به علمٌ .
15- إقرارُ الإنسان على المحاجَّة بالعِلم، ولكن بشَرْط أنْ يكون قصْدُه حسنًا، بحيث يُريدُ من المجادلة ِالوصولَ إلى الحقِّ، فيُثبت الحقَّ، ويُبطِل الباطلَ .
16- في الآية دليلٌ على أنَّ الأولويات تختلف، أي: إنَّ النَّاس يتفاضلون بالأولويَّة والولاية؛ لقوله: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ، وأَوْلَى اسم تفضيل يدلُّ على المفضَّل والمفضَّل عليه، ولا شكَّ أنَّ الولاية درجات .
17- عطف النَّبِيُّ على الَّذين اتَّبعوا إبراهيم؛ للاهتمامِ به وتعظيمِه، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ متابعتَه إبراهيمَ عليه السَّلام ليستْ متابعةً عامَّة؛ فكونُ الإسلامِ من الحنيفيَّة يعني أنَّه موافقٌ لها في أصولها

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الأفعالُ الدَّاخلُ عليها أداةُ النَّفي (أَلَّا نَعْبُدَ - وَلَا نُشْرِكَ - وَلَا يَتَّخِذَ...) مُتقارِبةٌ في المعنى، يُؤكِّد بعضُها بعضًا؛ إذ اختصاصُ الله بالعبادة يتضمَّن نفْيَ الاشتراك، ونفْيَ اتخاذِ الأربابِ من دون الله، ولكن الموضِع مَوضِعُ تأكيدٍ وإسهابٍ ونشْرِ كلام
.
- وقوله: ألَّا نَعبُدَ إلَّا اللهَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: فيه تَكرار اسم الله تعالى ، وإظهاره في موضِع الإضمار؛ لتربية المهابة، ولتأكيد معنى الألوهيَّة.
2- قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ عبَّر عن العِلم بالشَّهادة؛ وذلك على سبيلِ المبالغة، إذ خرَج ذلك من حيِّز المعقول إلى حَيِّز المشهود، وهو المحضَر في الحسِّ .
3- قوله سبحانه: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ..، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ: فيه تكرارٌ ؛ حيث تكرَّر اسم الخليل إبراهيم عليه السَّلام ثلاثَ مرَّات في ثلاث آيات؛ للتشريفِ وللتنويهِ بشأنِه، ولإظهارِ علوِّ مقامِه.
4- قوله تعالى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ: استفهامٌ مقصودٌ منه التنبيهُ على الغَلَط .
5- قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا:
- فيه مناسبةٌ حسَنةٌ، حيثُ بدأ بالنَّفي قبلَ الإثبات؛ للإشارة إلى (التخلية قبل التحلية)، وهو ترتيبٌ موافِق للطبيعة؛ لأنَّك تُخْلِي الشيءَ ممَّا يَشِينُه أوَّلًا، ثمَّ تضيفُ ما يكون به الكمالُ ثانيًا .
- وبدأ بنَفْي اليهوديَّة قبل النصرانيَّة في قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا؛ لأنَّ شريعةَ اليهود أقدمُ من شريعة النَّصارى، وكرَّر لَا، لتأكيدِ النَّفي عن كلِّ واحدٍ من الدِّينَيْنِ .
- ووقعتْ لَكِنْ في قوله: وَلَكِنْ كَانَ حنيفًا مسلمًا في أحسنِ موقعِها؛ إذ هي واقعةٌ بين النَّقيضينِ بالنِّسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطل ، وأفادَ الاستدراكُ بعدَ نفْي الضِّدِّ حَصْرًا لحالِ إبراهيمَ فيما يوافق أصولَ الإسلام؛ ولذلك بَيَّن حنيفًا بقوله: مُسْلِمًا؛ لأنَّهم يَعرِفون معنى الحنيفيَّة ولا يُؤمنون بالإسلام؛ فأَعْلَمَهم أنَّ الإسلامَ هو الحنيفيَّة .
6- قوله تعالى: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا: فيه استدراكٌ بعد نفْي الضدِّ؛ حصرًا لحال إبراهيمَ فيما يُوافِق أصولَ الإسلام؛ ولذلك بيَّن حَنِيفًا بقوله: مُسْلِمًا؛ لأنَّهم يَعرِفون معنى الحنيفيَّة، ولا يُؤمنون بالإسلامِ، فأعْلمَهم أنَّ الإسلام هو الحنيفيَّة .
- وفيه: قصْرٌ إضافيٌّ بالنسبةِ لليهوديَّة والنصرانيَّة، حيث كان العربُ يَزعُمون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيم، لكنَّهم مشركون .
7- قوله تعالى: وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ: فيه تعريضٌ بأنَّهم مشركون بقولهم: عزيرٌ ابنُ اللهِ، والمَسِيحُ ابنُ اللهِ، وردٌّ لادِّعاء المشركين أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلام. وخصَّ بالنَّفْي مَن عُرفوا بالشِّرِك مع الصلاحِ لكلِّ مَن داخَلَه شِرْكٌ من غيرهم كمَن أشركَ بعُزيرٍ والمسيحِ عليهما الصَّلاة والسَّلام، فقال: وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ .
8- قوله: وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ: تذييلٌ، أي: هؤلاء هم أَوْلى الناس بإبراهيم، والله وليُّ إبراهيم، والذين اتَّبعوه، وهذا النبيُّ والذين آمنوا؛ لأنَّ التذييلَ يشمل المذيَّل قطعًا، ثم يشمل غيرَه تكميلًا، كالعامِّ على سببٍ خاصٍّ .
- وفي قوله: واللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ بعد قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا: تعريضٌ بأنَّ الذين لم يكُن إبراهيمُ منهم ليسوا بمؤمنين .

================


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (69-71)
ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
غريبُ الكَلِماتِ:

تَلْبِسُونَ: تَخلِطون، وأصل اللَّبس: المُخالَطةُ والمداخلة

.
المَعنَى الإجماليُّ :

يُحذِّر اللهُ تعالى عبادَه من مَكْر طائفةٍ خبيثةٍ من اليهود والنَّصارى، أُمنيتُها وغايتُها إضلالُ المسلمين وإخراجُهم من النورِ إلى الظُّلمات؛ حَسدًا من عند أنفسِهم، إلَّا أنَّ مَكْرَهم هذا لا يَحيقُ إلَّا بهم، وإضلالهم للمسلمين يَرتدُّ عليهم، فيكون جُهدُهم الَّذي يبذلونه في الإضلالِ سببًا في زيادةِ ضلالهم؛ فهُم بهذا السعيِ لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم وهم لا يَدْرُون.
ثم يقول الله تبارَك وتعالَى- مُنكِرًا على أهل الكتاب ما يفعلونه-: يا أهلَ الكتاب، ما الَّذي يَحمِلكم على الكُفْرِ بالقرآن، وأنتم تشهدون بصحَّته، وتُوقِنون بصدقه، وأنَّه منزَّلٌ من ربِّكم بالحقِّ؟! يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَخْلِطون الحقَّ بالباطل حتَّى يلتبسَ بعضُه ببعض، وتكتمونَ الحقَّ وتُخفونه، وأنتم تعلمونَ أنَّكم تَلبسونَ الحقَّ بالباطلِ وتكتمون الحقَّ؟!
تفسير الآيات:

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
يقول اللهُ تعالى محذِّرًا من مَكْرِ هذه الطَّائفة مِن أهل الكتابِ:
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
أي: تمنَّتْ جماعةٌ من أهل التَّوراة مِن اليهودِ، وأهلِ الإنجيل مِن النَّصارى- أنْ يُخرجوكم من الهُدى إلى الضَّلال، ومِن الإسلامِ إلى الكفرِ
.
كما في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109] .
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي: هم بذلك لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم؛ لأنَّهم ابتعدوا عن الإسلامِ، وانْشَغلوا بمحاولةِ إضلالِ المؤمنينَ عن طلبِ الهِداية .
وَمَا يَشْعُرُونَ
أي: وما يَدْرُون، ولا يَعلمون أنَّهم لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم، وأنَّهم لا يَصِلون إلى إضلالِ المؤمنين .
ثم قال تعالى مُنْكِرًا عليهم:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ختَم الكلامَ فيهم بنَفْي شُعورِهم، بَيَّنَ تعالى في مَعرِضِ التبكيتِ أنَّ نفيهم عنه إنَّما هو لأنَّهم معانِدون، لا يَعملون بعِلمهم، بل يعَملون بخِلافه، فقال مستأنِفًا بما يدلُّ على غايةِ التبكيتِ المُؤْذِنة بشديد الغضب :
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
أي: يا أهلَ الكتاب، ما الَّذي دعاكم إلى الكُفر بالقرآن ؟!
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
أي: وأنتُم تَشهدون بصحَّةِ القرآن، وتعلمون صِدقَه، وأنَّه حقٌّ من عند ربِّكم .
فهم يَعلمون نعْتَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي جاء في كتبهم وأنَّ ما جاء به حقٌّ، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة: 146] .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
أي: يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَخْلِطون الحقَّ بالباطلِ حتَّى يلتبسَ أحدُهما بالآخَر .
ثم ذكَر لازِمَ لَبْسِ الحقِّ بالباطِل، وهو كتمانُ الحقِّ ، فقال:
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
أي: وتُخْفون الحقَّ، ومن ذلك كتمانُهم صفةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الموجودةَ في كتُبهم، ونبوَّتَه .
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
أي: وأنتُم تعلمون أنَّكم تَلْبِسون الحقَّ بالباطل، وأنَّ الَّذي تكتُمونَه من الحقِّ حقٌّ

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: وَمَا يَشْعُرونَ أنَّ الإنسانَ في غَمْرَة الغَلَبَة، أو حبِّ الغَلَبَة، وسَكْرَة حبِّ الظُّهور يَنْسَى، ولا يشعر بضلاله وغوايته
.
2- في قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ دليلٌ على أنَّ المعتدِّي يُجازَى بمثل عُدوانه، ويُبتلَى بمثل ما ابْتُلِيَ غيره به .
3- في قوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ دليلٌ على أنَّ الإنسان قد يَعْمَى عن الباطل مع ممارستِه له .
4- في قوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أيضًا مبالغةٌ في ذمِّهم، حيث فقَدوا المنفعةَ بحواسِّهم .
5- يجب الحذرُ من أهلِ الباطل إذا لَبَسوا باطلَهم بالحقِّ، وألَّا نغترَّ بهم إذا زخرفوا القول .
6- في قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توبيخٌ لكل مَن لَبَسَ الحقَّ بالباطل، وكتَم الحقَّ وسلَك هذا المسلك؛ لأنَّ تخصيصَ التوبيخِ لأهل الكتاب ليس تَخصيصًا للشخصِ والعين، بل بالجِنس والنوعِ والوصفِ؛ فمَن كان على شاكلتِهم، فإنَّه يَستحقُّ هذا التوبيخ .
7- في قوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليلٌ على وجوبِ بيان الحقِّ على من عَلِمَه، أمَّا مَن لم يَعلم، فعُذره ظاهرٌ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ تعزيةُ المسلمين بما يُريده بهم هؤلاء من الإضلالِ. فكأنَّ الله قال: لا تخافوا منهم؛ فإنَّ الإضلالَ إنَّما يعود عليهم
.
2- لانهماكِ أهلِ الكتاب في إضلالِ المسلمين لم يَشعُروا بأنَّه كان صارفًا لهم عن معرفة الحقِّ والهدى; لأنَّ المنهمكَ في الشَّيء لا يكادُ يَفطن لعواقبِه وآثاره، يُؤخَذ ذلك من قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
3- قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ولم يقُل: (وأنتم تعلمون)؛ لأنَّ الشهادةَ أقوى لكونِها تَقتضي أنْ يكونَ العالِم كالمشاهِد للشيءِ بحسِّه، والمشاهدة بالحسِّ أقوى من المشاهدة بالذِّهن، أو مِن العِلم بالذِّهن .
4- السَّاعي في إخفاء الحقِّ لا سبيلَ له إلى ذلك إلَّا من أحد وجهين: إمَّا بإلقاء شُبهةٍ تدلُّ على الباطل، وإمَّا بإخفاءِ الدَّليل الَّذي يدلُّ على الحقِّ، فقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بالباطل إشارةٌ إلى المقام الأوَّل، وقوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إشارة إلى المقام الثَّاني .
5- خُتِمَت الآيةُ الأولى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ بقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، والثانية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ خُتِمَتْ بقوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؛ قيل لأنَّ المنكَرَ عليهم في الآية الأولى هو الكفرُ بآيات الله، وهي أخصُّ مِن الحقِّ؛ لأنَّ آياتِ الله بعضُ الحقِّ، والشهادة أخصُّ من العِلم، فناسَب الأخصُّ الأخصَّ، وذَكَرَ تَعْلَمُونَ مع الحقِّ؛ لأنَّ الحقَّ أعمُّ من الآيات وغيرها، والعِلم أعمُّ من الشهادة، فناسب الأعمُّ الأعمَّ .
6- تلبيسُ الحقِّ بالباطل هو سببُ مَنْشَأ ضلالِ مَنْ ضَلَّ من الأُمم قَبلنا، وهو منشأ البِدع كلِّها؛ فإنَّ البدعَ لو كانت باطلًا محضًا لَما قُبِلَتْ، ولَبادَرَ كلُّ أحد إلى ردِّها وإنكارها، ولو كانتْ حقًّا محضًا لم تكن بدعةً، وكانت مُوافِقةً للسُّنة، ولكنها تشتمل على الحقِّ والباطل، ويَلتبس فيها الحقُّ والباطل، كما قال اللهُ تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ...: استئنافٌ، و(مِن) هاهنا للتبعيض- على أحدِ الوجهين كما سبَق-، وإنَّما ذَكر بعضَهم ولم يعمَّهم؛ لأنَّ مِنهم مَن آمَن
.
2- قوله: يَا أَهْلَ الكِتَابِ: المقصودُ مِن إعادةِ نِدائهم بهذا، هو التوبيخُ، وتسجيلُ باطلهم عليهم .

=============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (72- 74)
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
غريبُ الكَلِماتِ:

وَجْهَ النَّهَارِ: أي: صدْرَ النَّهار، أو أوَّله؛ فالوجه أوَّل ما يُسْتَقْبَلُ من الشيء

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ:
أَنْ يُؤْتَى: أنْ والفِعل في تأويل مصدر (إيتاء)، متعلِّق بقوله: وَلَا تُؤْمِنُوا على حذْفِ حرفِ الجرِّ، والأصل: (ولا تؤمنوا بأنْ يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلَّا لِمَن تبِع دِينَكم)، فيكون في موضِع جَرٍّ أو نصْبٍ على الخلافِ في موضِع (أن) إذا حُذِف حرفُ الجرِّ، ويكون قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ جملةً اعتراضيَّة، أي: ولا تُظهروا إيمانَكم بأنْ يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتُم إلَّا لأهل دِينكم دونَ غيرهم. وقوله: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ: عطفٌ على أَنْ يُؤْتَى. والضَّميرُ في يُحَاجُّوكُمْ عائدٌ على أَحَدٌ؛ لأنَّه في معنى الجميعِ، أي: ولا تُؤمنوا لغيرِ أتْباعِكم؛ فإنَّ المسلمين يُحاجُّوكم عندَ ربِّكم بالحقِّ، ويُغالِبونَكم عندَ الله. وعلى هذا يكونُ قولُه: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ مُستثنًى من شيءٍ محذوف، تقديرُه: ولا تُؤمِنوا بأنْ يُؤتَى أحدٌ مِثلَ ما أوتيتُم لأحدٍ مِن الناسِ إلَّا لأشياعِكم دون غيرِهم.
أو يكون قوله: أَنْ يُؤْتَى منصوبًا بفِعلٍ مُقدَّر يدلُّ عليه وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كأنَّه قيل: قل إنَّ الهُدَى هُدَى الله، فلا تُنكروا أنْ يُؤتَى أحدٌ مِثلَ ما أوتيتُم، فـ(لا تُنكروا) ناصبٌ لـ(أن) وما في حَيِّزها، وجازَ حذفُ العامل (فلا تُنكِروا)؛ لوجودِ ما يدلُّ عليه.
أو يكون هُدَى اللهِ بدلًا مِن الهُدَى الذي هو اسمُ إنَّ، ويكونُ خبر إنَّ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ، والتقدير: قل: إنَّ هدى الله أنْ يُؤتَى أحدٌ، أي: إنَّ هدى الله إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتُم، وتكون أَوْ بمعنى (حتى)، والمعنى: حتَّى يُحاجُّوكم عند ربِّكم فيَغلبوكم ويَدْحَضوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون أَوْ يُحَاجُّوكُمْ معطوفًا على أَنْ يُؤْتَى وداخلًا في حيِّز (أن). وفي هذه الآيةِ أقوالٌ أخرى كثيرةٌ

.
المَعنَى الإجماليُّ :

يُخبر الله تعالى عن طائفةٍ خبيثةٍ أرادتِ المكيدةَ للمسلمين، بالتلبيسِ على الضُّعفاء أمرَ دِينهم، فتشاوروا بينهم أنْ يُظهروا الإيمانَ بما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّل النهار، فإذا جاء آخِرُ النهار كفَروا به؛ ليقول الضعفاءُ من النَّاس: لو كان هذا الدِّين حقًّا، ما ارتدَّ عنه مَنْ آمَن به من أهل الكتاب؛ يُريدون بذلك أنْ يَرجِعَ المسلمون عن دِينهم ويَتركوه.
كما أخْبَر الله تبارَك وتعالَى عنهم بأنَّهم تواصَوْا فيما بينهم بألَّا يؤمنوا إلَّا لِمَن كان على دِينِهم ومِلَّتهم، ثمَّ أَمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأن يردَّ عليهم بجملةٍ اعتراضيَّة، فقال له: قل لهم- يا محمَّدُ-: إنَّ الهُدَى والتوفيقَ مِن الله؛ فهو المتكفِّلُ بهدايةِ المؤمنين إلى الإيمانِ بما أَنزلَه على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثم عادَ السِّياقُ إلى كَلامِ اليَهودِ بَعضِهم لبعضٍ، ووصاياهم فيما بَينَهم؛ إذ قالوا: ولا تُصدِّقوا أنْ يُؤْتَى أحدٌ من البَشر مِثلَ الَّذي أُوتيتُم مِن الكتابِ والحكمةِ والفضائلِ والكراماتِ، أو أنَّ أحدًا يُجادِلُكم عند ربِّكم؛ فأنتُم أصحُّ دِينًا منهم، وأكرمُ عندَ الله، فقال اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قلْ لهم- يا محمَّد-: إنَّ التَّوفيقَ والهِدايةَ والإحسانَ يُعطيها اللهُ مَن أراد مِن عِبادِه؛ فهو واسعُ الفضلِ، كثيرُ الإحسان، عليمٌ بمَن هو أهلٌ للإحسانِ؛ فيَهَبه له، ومَن لا يَستحقُّه فيَحْرِمه منه، وهو يَختصُّ برحمتِه مَن يشاءُ مِن عِبادِه؛ فهو صاحبُ الفضلِ الواسعِ الكثيرِ.
تفسير الآيات:

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
أي: وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب من اليهود: أظهِروا الإيمانَ بما جاءَ به محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وادْخُلوا في دِينه أوَّل النهار
.
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
أي: إذا كان آخِرُ النهارِ اكفُروا بدِينهم .
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
أي: لعلَّهم يَرجعون عن دِينهم ويَتركونه؛ لأنَّه يُقال: لو كان هذا الدِّين صحيحًا ما خرَج منه مَنْ آمَن به مِن أهلِ الكِتاب .
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
أي: وقالتْ هذه الطَّائفة أيضًا: ولا تُصدِّقوا ولا تَطمئنُّوا إلَّا لمن تَبِعَ دِينَكم، فكان يهوديًّا .
فأمَر الله نبيَّه أنْ يردَّ عليهم بهذه الجملةِ الاعتراضيَّة:
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ
أي: قل- يا محمَّدُ-: إنَّ التوفيقَ توفيقُ الله، والبيانَ بيانُه؛ فهو الَّذي يَهدي المؤمنين إلى الإيمانِ بما نزَّله على نبيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنْ فعلتُم ما فعلتُم، فلن يَنفعَكم ذلك شيئًا .
ثم عادَ السِّياقُ إلى كلامِ اليهودِ بعضِهم لبعض :
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: أَنْ يُؤْتَى قِراءتان :
1- (ءانْ يُؤْتَى) بالمدِّ في (ءَان)، وهو استفهامٌ معناه الإِنكار؛ وذلك أنَّ أحبارَ اليهود قالوا لِذَوِيهم: أيُؤتَى أحَدٌ مثلَ مَا أوتيتُم؟ أي: لا يُؤتى أحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ .
2- (أَنْ يُؤْتَى) من غير مدٍّ في (أنْ)، وهي المصدريَّة، والمعنى: ولا تُؤمنوا إلَّا لِمَن تبِع دِينَكم ولا تُؤمنوا أنْ يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم .
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ
أي: ولا تُصدِّقوا أن يُؤْتَى أحدٌ من البشرِ مِثلَ الَّذي أوتيتُم يا بني إسرائيل مِن العلمِ والحِكمةِ والكتابِ والفضائلِ والكراماتِ .
أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
أي: ولا تُصدِّقوا أنَّ أحدًا يجادلكم عند ربِّكم؛ لأنَّكم أصحُّ منهم دِينًا، وأكرمُ على الله منهم .
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ-: إنَّ التوفيقَ للإيمانِ، والهدايةَ للإسلامِ، والإحسانِ بشتَّى أنواع الإحسانِ، يُعطيه اللهُ مَن أراد مِن عِبادِه ، وقد آتَى الله هذه الأمَّةَ ما يَربو بكثيرٍ على الفضائلِ الَّتي آتاها بني إسرائيل .
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
أي: واللهُ ذو سَعةٍ بفضلِه على مَن يشاءُ، ذو عِلمٍ بمَن يَستحقُّ الفضلَ، وهو له أهلٌ؛ فهو يُؤتي فضلَه عن عِلم وحِكمة سبحانه وتعالى .
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
أي: يَخُصُّ بالنُّبوَّةِ والإسلامِ والقرآنِ مَن يشاء ممَّن هو أهل لذلك ، وقد خَصَّ هذه الأمَّةَ ونبيَّها بما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ من الفضل .
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
أي: واللهُ صاحِبُ الإحسانِ الواسعِ الكثير، الَّذي يَتفضَّلُ به على مَن أحبَّ مِن خلْقه

.
الفوائد التربوية :


1- يُستفادُ من قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ: أنَّ المسلمَ يَرُدُّ كيدَ أهل الباطل بإعلانه أنَّ الهدى هُدى الله، وأنَّهم مهما حاولوا أنَّ يَصُدُّوه عن دِينه وقد أرادَ اللهُ هدايتَه؛ فإنَّ ذلك لا يَضُرُّه
.
2- يَنبغي للإنسان أن يُعلِّقَ الرجاء بالله؛ خوفًا وطمعًا؛ لقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ .
3- يَحصُل من مجموعِ قوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ...، والآية الَّتي تَليها: أنَّه لا نِهايةَ لمراتب إعزازِ الله وإكرامِه لعِبادِه، وأنَّ قصْرَ إنعامِه وإكرامِه على مراتبَ معيَّنة وعلى أشخاصٍ معيَّنين جَهلٌ بكمالِ اللهِ في القُدرة والحِكمة

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- الفائدةُ في إخبارِ الله تعالى عن تواطئهم على إظهارِ الإيمانِ أوَّلَ النَّهار والكفرِ آخرَه كما في قوله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ... من وجوهٍ:
الأولُ: أنَّ هذه الحيلةَ كانت مَخفيَّةً فيما بينهم، وما أَطْلعوا عليها أحدًا مِن الأجانب، فلمَّا أَخبر الرسولُ عنها كان ذلك إخبارًا عن الغيبِ، فيكون معجزًا.
الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا أطْلَع المؤمنين على تواطئِهم على هذه الحيلةِ لم يَحصُلْ لهذه الحيلةِ أثرٌ في قلوبِ المؤمنين، ولولا هذا الإعلانُ لكان ربَّما أثَّرت هذه الحيلةُ في قلبِ بعضِ مَن كان في إيمانِه ضعفٌ.
الثالث: أنَّ القومَ لَمَّا افتَضحوا في هذه الحيلةِ صارَ ذلك رادعًا لهم عن الإقدامِ على أمثالِها مِن الحيلِ والتَّلبيس
.
2- في قوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ تعدَّى الإيمانُ باللام؛ لبيان أنَّ التَّصديقَ مضمَّنٌ معنى الثِّقة والرُّكون، فيكون تصديقًا خاصًّا تضمَّن معنًى زائدًا، وفي هذا بيانُ أنَّ اليهود حصَروا الثِّقة بأنفسهم؛ لزَعمِهم أنَّ النبوَّة لا تكون إلَّا فيهم .
3- وفائِدةُ الاعتراضِ في أثناءِ كلامِهِم بقولِه: قل إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ المـُبادرةُ بما يُفِيدُ ضلالَهم؛ لأنَّ اللَّه حرَمهم التَّوفيقَ وأيضا فيه الإشارةُ إلى أنَّ كيدَهم غيرُ ضارٍّ لِمَن لَطَف اللهُ تعالى به بالدُّخولِ في الإسلام، أو زيادة التصلُّب فيه. ويُفيد أيضًا أنَّ الهُدى هداه؛ فهو الذي يتولَّى ظُهورَه يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ .
5- في قوله: قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ... الآية: زيادةُ تذكيرٍ لهم، وإبطالٌ لإحالتهم أنْ يكون محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولًا من الله، وتذكيرٌ لهم على طرْح الحسَد على نِعم الله تعالى .
5- في قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ تأكيدٌ لمعنى قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ؛ لأنَّ كونه واسعًا، يدلُّ على كمال القُدرة، وكونه عليمًا يدلُّ على كمال العِلم، فيَصِحُّ منه لمكان القُدرة أن يتفضَّل على مَن شاء بما شاء، ويَصِحُّ منه لمكان كمال العِلم ألَّا يكون شيءٌ من أفعاله إلَّا على وجه الحِكمة والصَّواب .
6- لا اعتراضَ على الله في كونِه يَختصُّ برحمته شخصًا ويمنع رحمته آخرَ؛ لأنَّ الأمرَ إليه وهو فضلٌ؛ إنْ شاء أعطاه، وإنْ شاء منَعَه، كما قال تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

[آل عمران: 75].
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهْ فيه اختصاصٌ لذِكر وجْه النَّهار؛ لأنَّه وقتُ اجتماعِهم بالمؤمنين يُراؤونهم، وآخِره؛ لأنَّه وقتُ خَلوتِهم بأمثالهم من الكفَّار
.
2- قوله تبارَك وتعالَى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهْ، وقوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: فيه لفٌّ ونشر معكوس؛ فقوله: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إبطالٌ لقولهم: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، أي: قلتُم ذلك حسدًا من أن يُؤتَى أحدٌ مِثل ما أوتيتُم، وقوله: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ ردٌّ لقولهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهْ على طريقة التهكُّم، أي: مرادكم التنصُّل من أنْ يُحاجُّوكم، فجمعتُم بين الإيمان بما آمَن به المسلمون، حتى إذا كان لهم الفوزُ يومَ القيامة لا يُحاجُّونكم عند الله بأنَّكم كافِرون، وإذا كان الفوزُ لكم، كنتم قد أخذتُم بالحزم؛ إذ لم تُبطلوا دِينَ اليهوديَّة .
3- قوله: قُلْ إنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ: كلامٌ معترض، أُمِر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يقولَه لهم؛ كنايةً عن استبعادِ حُصول اهتدائِهم، وأنَّ الله لم يَهدِهم؛ لأنَّ هُدى غيره- أي: محاولته هدى الناس- لا يَحصُل منه المطلوبُ إذا لم يُقدِّره الله، فالقصر حقيقي؛ لأنَّ ما لم يُقدِّره الله، فهو صورةُ الهدى، وليس بهُدى، وهو مقابل قولهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ، ووَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ؛ إذ أرادوا صورةَ الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا الجوابِ إظهارُ الاستغناءِ عن متابعتِهم. وفائدةُ الاعتراضِ في أثناء كلامِهم: المبادرةُ بما يُفيد ضلالَهم؛ لأنَّ الله حرَمَهم التوفيق .
4- قوله تعالى: أَحَدٌ: اسمٌ نكرةٌ غلَب استعمالها في سِياق النَّفي، أو الإنكار؛ فيُفيد العمومَ، وندَر وقوعُه في حيِّز الإيجاب .
5- قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
- قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ: تذييلٌ لِمَا قبله، مقرِّرٌ لمضمونه، وفيه تأكيدُ الكلامِ بـإنَّ؛ لتنزيلهم منزلةَ مَن يُنكر أنَّ الفضل بيد الله، ومن يَحْسَبُ أنَّ الفضل تَبَعٌ لشهواتهم .
- قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: فيه تأكيدٌ لتعظيمِ ما لَديه؛ دفعًا لتوهُّم مَن يَظنُّ أنَّ اختصاص البعض لضِيق الرحمة عن العموم. وكرَّر الاسم العظيم (الله)؛ تعظيمًا لِمَا ذُكِر من النِّعم، ومُشيرًا بذلك كلِّه إلى التمكُّنِ من الإعطاء، وغزارةِ فضلِه .
- قوله تعالى: وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كالتأكيدِ لِمَا تَقدَّم يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وبينهما فرقٌ؛ فإنَّ هذه الرَّحمةَ ربَّما بلغَتْ في الشَّرفِ وعلوِّ الرُّتبة إلى أنْ لا تكون من جِنس ما آتاهم، بل تكونُ أعْلى وأجلَّ مِن أن تُقاس إلى ما آتاهم.
- قوله تعالى: وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ: فيه تأكيدٌ للمَعنى السَّابق أيضًا؛ لأنَّ كونه واسعًا يدلُّ على كمال القُدرة، وكونه عليمًا على كمال العِلم، فيَصحُّ منه لمكان القُدرة أنْ يتفضَّل على أيِّ عبدٍ شاء بأيِّ تفضُّل شاء، ويَصحُّ منه- لمكان كمال العلم- أنْ لا يكون شيءٌ من أفعاله إلَّا على وجه الحِكمة والصَّواب .

=============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان (75- 76)
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
غريبُ الكَلِماتِ:

بِقِنْطَارٍ: القنطارُ؛ اختُلِف في حدِّه على أقوال، وجملةُ القول: أنَّه عددٌ كثير من المال
.
الْأُمِّيِّينَ: أي: العرَب، والأُميُّون جمْع أميٍّ، وهْم الَّذين لا يَكتُبون ولا يَقرؤون؛ نِسبةً إلى الأُمِّ؛ لأنَّ الكتابَ كان في الرِّجال دونَ النِّساء، فنُسب مَن لا يكتُب ولا يخطُّ من الرِّجال إلى أمِّه في جَهلِه بالكتابةِ دون أبيه، أو مَنْسُوبٌ إلى الأمَّة الأُميَّة، الَّتي هِي على أصْلِ وِلاداتِ أُمَّهاتها، لم تتعلَّم الكتابةَ ولا قِراءتَها، والأُميَّة: الغَفلةُ والجَهالة وقِلَّة المعرِفة، وأصْل (أمّ): الأصْل والمرجِع

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبر اللهُ تعالى عن معاملات أهل الكتاب الدُّنيويَّة، وأنَّ منهم الأمينَ، الَّذي لو أَمِنْتَه على المالِ الكثير أَدَّاهُ إليك دون نقْص، ومنهم الخائِن، الَّذي لو أَمِنْتَهُ على دينار لم يُؤَدِّه إليك إلَّا ما دُمتَ قائمًا عليه بالمطالبة والاقتضاء.
ثم يُبيِّن الله تبارَك وتعالَى السَّبب الَّذي دعاهم إلى الخيانةِ واستحلالِ أموال النَّاس، وهو أنَّهم يَزعُمون أنَّه ليس عليهم إثمٌ ولا حرَجٌ في عدم أداء أموال العربِ إليهم؛ فجَمعوا بين جريمتَينِ، وهما: أكْل الحرام، وادِّعاء حِلِّه، وهذا هو الكذبُ الَّذي قالوه على الله مع عِلمهم أنَّهم كاذبون في ذلك.
ثم أَبطَل اللهُ دعواهم تلك، وبيَّن لهم أنَّه ليس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون، ولكن مَن أَوْفى منكم بعهدِ الله الَّذي عاهَدَكم عليه من الإيمان بمحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتصديقِه فيما جاء به، واتَّقى الله؛ فاجتنبَ ما نهاه عنه، وأطاعه فيما أمره به- فإنَّ الله يحبُّ الَّذين يتَّقونه.
تفسير الآيتين:

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
تعلُّقُ هذه الآيةِ ومناسبتُها لِمَا قَبلَها من وجهين:
الأوَّل: أنَّه تعالى حَكَى عنهم في الآية المتقدِّمة أنَّهم ادَّعوْا أنَّهم أُوتوا من المناصِب الدِّينيَّة، ما لم يُؤْتَ أحدٌ غيرهم مثله، ثمَّ إنَّه تعالى بيَّن أنَّ الخيانة مُسْتقبَحَةٌ عند جميعِ أرباب الأديان، وهم مُصِرُّون عليها؛ فدلَّ هذا على كذبِهم.
والثاني: أنَّه تعالى لَمَّا حكَى عنهم في الآية المتقدِّمة قبائحَ أحوالهم فيما يتعلَّق بالأديان، وهو أنَّهم قالوا: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، حكَى في هذه الآيةِ بعضَ قبائحِ أحوالهم فيما يَتعلَّقُ بمعاملةِ النَّاس، وهو إصرارُهم على الخِيانةِ والظُّلم، وأخْذِ أموال النَّاس في القليل والكثير
.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
أي: ومِن أهل الكتاب الَّذي إنْ تَأْمَنْه- يا محمَّدُ- على المال الكثير يُؤَدِّه إليك، ويَرُدَّهُ دون نُقصانٍ أو تغيير، ولا يَخُنْكَ فيه، وما دونه يُؤدِّيه من باب أَولى .
ومن الأخبارِ الواردةِ في ذلك: ما رواه أبو هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، عن رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنَّه ((ذكَر رجُلًا من بني إسرائيل سألَ بعضَ بني إسرائيل أن يُسلِّفه ألْفَ دينار، فقال: ائْتِني بالشُّهداءِ أُشْهِدهم، فقال: كفَى بالله شهيدًا! قال: ائتِني بالكفيلِ، قال: كفَى بالله كفيلًا! قال: صَدَقْتَ، فدَفَعها إليه إلى أَجَلٍ مسمًّى، فخرج في البحر فقضى حاجتَه، ثمَّ الْتَمَس مركبًا يَركبُها يَقْدَمُ عليه للأجَلِ الَّذي أَجَّلَهُ، فلم يجِد مركبًا، فأخَذ خشبةً فنَقَرَها فأدْخل فيها ألفَ دِينار، وصحيفةً منه إلى صاحبِه، ثمَّ زَجَّجَ موضعها، ثمَّ أتى بها إلى البحر، فقال: اللهمَّ إنَّك تعلمُ أنِّي اسْتَسْلَفْتُ فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلت: كفَى بالله كفيلًا، فرَضِيَ بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفَى بالله شهيدًا، فرَضِيَ بك، وإنِّي جَهِدْتُ أنْ أجِد مركبًا أبعث إليه الَّذي له فلم أقدِر، وإني اسْتَوْدَعْتُكها، فرمَى بها في البحر حتَّى وَلَجَتْ فيه، ثمَّ انصرفَ وهو في ذلك يلتمسُ مركبًا يخرج إلى بلدِه، فخرج الرَّجُلُ الَّذي كان أسلفَه يَنظُر لعلَّ مركبًا يَجِيئُهُ بماله، فإذا بالخشبةِ الَّتي فيها المال، فأخَذَها لأهله حَطبًا، فلمَّا كَسَرَها وجدَ المال والصَّحيفة، ثمَّ قَدِم الَّذي كان تَسَلَّفَ منه، فأتاه بألفِ دِينار، وقال: واللهِ ما زِلتُ جاهدًا في طلبِ مركبٍ لآتيَك بمالك، فما وجدتُ مركبًا قبل الَّذي أَتَيْتُ فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إليَّ بشيء؟ قال: ألم أُخبِرْك أنِّي لم أجِدْ مركبًا قبل هذا؟ قال: فإنَّ اللهَ قد أدَّى عنك الَّذي بَعثتَ في الخَشبةِ! فانْصَرِفْ بألف دِينار راشدًا )) .
ثم ذكَر الله تعالى قِسمًا ثانيًا منهم، وهو الخائنُ الَّذي لا يُؤْتَمَنُ، فقال:
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
أي: ومِن أهلِ الكتاب الَّذي إنْ تَأْمَنْهُ على دِينار يَخُنْكَ فيه، فلا يُؤَدِّه إليك إلَّا ما دُمتَ عليه قائمًا؛ بالمطالبةِ، والاقتضاءِ، والملازمة، والإلحاح في استخلاصِ حقِّك وهو تاركٌ أداء ما فوقه من باب أولى .
ثم بَيَّن اللهُ عزَّ وجلَّ سببَ استحلالهم أموالَ المسلمين، وخيانتِهم بقوله:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
أي: ذلك الجُحودُ للحقِّ، واستحلالُ الخيانة؛ بسببِ أنَّهم قالوا: لا حرجَ علينا ولا إثمَ فيما أَخَذْنا من أموالِ العرب وأَكَلْنا منها؛ فإنَّ الله أحلَّها لنا لأنَّهم على غير الحقِّ .
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: ويقولون الكذبَ على الله بادِّعائهم أنَّه أَحَلَّ لهم خيانتَهم، وترْكَ قضائِهم، وليس ذلك عن جَهْلٍ، بل مع عِلمهم بأنَّهم يكذبون، فجَمعوا بيْن أكْل الحرام، والكذب على الله بادِّعاء حِلِّهِ .
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى
أي: ليس الأمْر كما يقولُ هؤلاء الكاذِبون على اللهِ مِن اليهود، من أنَّه ليس عليهم في أموال الأمِّيِّين حَرَجٌ ولا إثمٌ، ولكنَّ الَّذي أوْفَى بعهد الله منكم يا أهلَ الكتاب، الَّذي عاهدَكم عليه من الإيمانِ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وصدَّق بما جاء به من الله، وأدَّى الأمانة إلى مَن ائتمنَه عليها، إلى غير ذلك، واتَّقى ما نهاه اللهُ عنه من الكُفرِ به وسائرِ معاصيه الَّتي حرَّمها عليه، وأطاعه واتَّبَعَ شريعتَه .
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
أي: فإنَّ الله يحبُّ الَّذين يَتَّقونه، فيخافون عقابَه، ويَحذَرون عذابه، باجتنابِ ما نهاهم عنه وحرَّمه عليهم، وطاعتِه فيما أمرَهم به

.
الفوائد التربوية :

1- مَن أَوْفى بعهدِه الَّذي عاهد به الله أو النَّاس، واتَّقى الإخلافَ والغَدْر والاعتداء، فإنَّ الله يُحِبُّه فيعامله بأنْ يَجعلَه محلَّ عنايته ورحمته في الدُّنيا والآخرة، كما قال سبحانه: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
.
2- ورودُ الجواب في قوله: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى بهذه العبارة يُفيد قاعدةً عامَّة من قواعد الدِّين؛ وهي أنَّ الوفاءَ بالعهود واتِّقاءَ الإخلاف والابتعادَ عن سائرِ المعاصي والخطايا، هو الَّذي يُقرِّب العبدَ من ربِّه، ويجعله أهلًا لمحبَّته لا كونه مِن شعب كذا .
3- العهد في قوله: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ يَشمَل العهد الَّذي بين العبد وربِّه، وهو جميعُ ما أوْجَبَه اللهُ على العبدِ من حقِّه، ويَشمل العهدَ الَّذي بينه وبين العِباد .
4- في قوله: وَاتَّقَى: حَثٌّ على تقوى الله؛ لأنَّ كل إنسان يحبُّ أن يُحِبَّه الله؛ فإذا أردتَ ذلك فما عليك إلَّا أنَّ تقومَ بتقوى الله؛ لأنَّ محبَّة الله متعلِّقةٌ بالعامل، ومتعلِّقة بالعمل، ومتعلِّقة بالزمن، ومتعلِّقة بالمكان .
5- التَّقوى في قوله: وَاتَّقَى ترجِع في هذا الموضعِ إلى اتِّقاء المعاصي الَّتي بين العبد وربِّه، وبينه وبين الخَلق، فمَن كان كذلك، فإنَّه مِن المتَّقين الَّذين يحبُّهم الله تعالى

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- استنبطَ بعضُ أهلِ العِلم من قوله: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا جوازَ السجن؛ لأنَّ الَّذي يقومُ عليه غريمُه، فهو يَمنعُه مِن تَصرُّفاته في غيرِ القَضاء، ولا فَرْقَ بين المنع من التصرُّفات وبين السجن
.
2- جوازُ الاقتصارِ على المثال؛ ليُقاس عليه ما يُشْبِهُه؛ لأنَّ الله ذكَر الدِّينار والقِنطار على سبيل التمثيل .
3- في قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: دليلٌ على أنَّ مَن افترى على الله الكذبَ وهو يَعلم، أشدُّ إثمًا وعدوانًا ممَّن لا يعلم، وإنْ كان كلٌّ منهما على خطأ .
4- في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، إشارة إلى أنَّ الجهل المركَّب أقبحُ من الجهلِ البسيط؛ لأنَّ الَّذي يكذب وهو يعلم أقبحُ مِن الَّذي يَكذِب ولا يَعلم

.
بلاغة الآيتين:

1- قول الله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا:
- قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ جاء قبل قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ... إنصافًا لحقِّ هذا الفَريق، ونعيًا عليهم لظُلمهم. وتقديم المسنَد في الموضعين (ومِن أهل الكتاب- ومنهم)؛ للتعجُّب من مضمونِ صِلة المسنَد إليهما؛ ففي الأول: للتعجُّب من قوَّة الأمانة، مع إمكانِ الخيانةِ ووجودِ العُذرِ له في عادةِ أهل دِينه، وفي الثاني: للتعجُّب من أن يكونَ الخونُ خُلقًا لمتَّبعِ كتابٍ من كتُب الله، ثم يزيد التعجُّب عند قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا، فيكسب المسنَد إليهما زيادةَ عجَب حال
.
- عدَّى تَأْمَنْهُ بالباءِ مع أنَّ مثله يتعدَّى بـ(على)؛ لتضمينِه معنى تعامُلِه بقنطارٍ؛ ليشملَ الأمانةَ بالوديعة، والأمانةَ بالمعاملةِ على الاستيمانِ .
- قوله: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا: فيه مبالغةٌ في مطالبتِه بالتقاضي، والترافُع، وإقامةِ البيِّنة .
2- في قوله تعالى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: الاستفهامُ إنكاريٌّ ، وفيه طِباق معنوي؛ لأنَّ الشهادة إقرارٌ وإظهار، والكفر سَتْر ، وفيه: التفاتٌ مِنَ الغيبةِ إلى خِطاب اليهود .

===============


سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (77- 80)
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
غريبُ الكَلِماتِ:

خَلَاق: نصيبٌ، وحظٌّ من الخير، والخَلاقُ: ما اكتسَبَه الإنسانُ من الفضيلةِ بخُلُقه
.
يَلْوُونَ: أي: يَقلِبون ألْسنتَهم بالتحريف والزِّيادة، وأصل اللَّيِّ: فَتْلُ الحبل، وإمالةُ الشَّيء كذلك

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر اللهُ تبارَك وتعالَى عن عِقاب الَّذين يَستبدلون بعهدِه الَّذي عاهدهم عليه من اتِّباع أمْر الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والإيمان به، ويَأخذون بالأيمانِ الكاذبة عوضًا قليلًا خسيسًا من متاع الدُّنيا الزَّائل، فينكثون العهدَ مع الله، ويَحلفون كذبًا وزورًا؛ من أجْل ذلك- يُخبر تعالى أنَّهم لا نصيبَ لهم من الخير يوم القِيامة، ولا يُكلِّمهم، كما أنَّه لا ينظُر إليهم، ولا يمتنُّ عليهم بتطهيرهم من الذُّنوب والأدناس، بل يُجازيهم بعذابٍ أليم موجِع.
ثمَّ يُخبِر الله تبارَك وتعالَى عبادَه المؤمنين أنَّ هناك جماعةً من أهل الكتاب يَعطفون ألسنتَهم، ويُميلونها بالكتاب، فيُحرِّفون لفظَه، ويَعبثون بمعناه، والغايةُ من ذلك هي إضلالُ عبادِه المؤمنين، والتلبيسُ عليهم؛ ليظنُّوا أنَّ ما يقرؤونه من الكتاب، وهو ليس منه، ويقولون عنه: إنَّه ممَّا أنزلَه اللهُ على أنبيائه، وهو ليس كذلك، وإنَّما هو ممَّا ابتدعوه وأحْدثوه من عند أنفسِهم، فهم بهذا يتقوَّلون على الله الكذبَ عمدًا، ويُلحِقون بكتابِه ما ليس منه، وهم يَعلمون في قَرارةِ أنفسِهم أنَّهم كاذِبون مفترون.
ثم يُبيِّن اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ مِن الممتنِع، بل مِن أمحلِ المحال، أنْ يُعطي اللهُ بشرًا الكتاب، ويُعلِّمه الحِكمةَ، ويمتنَّ عليه بالنُّبوَّة، ثمَّ هو يدعو النَّاس إلى عبادة نفْسِه، فيقول لهم: اعبدوني من دون الله. بل إذا امتنَّ الله عليه بذلك، فإنَّه يأمرُهم ويقول لهم: كونوا علماءَ، عاملين بالعِلم، مخلِصين لله، عابِدين له، مُعلِّمين للنَّاس ومُربِّين؛ بسببِ تعليمِكم الكتابَ لغيركم، وبسببِ مداومتِكم على قراءتِه وحِفظِه. كما أنَّه يستحيلُ أنْ يأمرَكم باتخاذ الملائكة والنَّبيِّين أربابًا تعبُدونهم من دون الله؛ إذ كيف يأمرُكم بالكفر بالله بعد انقيادِكم له بالطاعة، واستسلامِكم له بالعبوديَّة؟!
تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
في تعلُّق هذه الآيةِ ومناسبتها لِمَا قبلها وجوهٌ:
الأول: أنَّه تعالى لَمَّا وصَف اليهودَ بالخيانة في أموال النَّاس- ومِن المعلوم أنَّ الخيانةَ في أموال النَّاس لا تَتمشَّى إلَّا بالأَيْمان الكاذبة- لا جَرَمَ ذكَر عقيبَ تلك الآيةِ هذه الآيةَ المشتملةَ على وعيدِ مَن يُقْدِمُ على الأيمانِ الكاذبة.
الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا حكَى عنهم أنَّهم يقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون- ولا شكَّ في أنَّ عهدَ الله على كل مُكَلَّفٍ أنْ لا يَكْذِبَ على الله، ولا يخونَ في دِينه- لا جَرَمَ ذكَرَ هذا الوعيد عقيبَ ذلك.
الثالث: أنَّه تعالى ذكَر في الآيةِ السابقةِ خيانتَهم في أموال النَّاس، ثمَّ ذكَر في هذه الآية خيانتَهم في عهْدِ الله، وخيانتَهم في تعظيمِ أسمائِه حين يَحلِفون بها كذبًا
.
الرابع: أنَّ في خيانةِ الأمانة إبطالًا للعهد وللحلِفِ الَّذي بَينهم وبين المسلمين وقُريش .
إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
سببُ النُّزول:
قال عبدُ اللهِ رضي اللهُ عنه: مَن حلَف على يمينٍ يستَحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجِرٌ، لقِي اللهَ وهو عليه غضبانُ. فأنزَل اللهُ تصديقَ ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا- فقرَأ إلى- عَذَابٌ أَلِيمٌ. ثمَّ إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَج إلينا فقال: ما يُحَدِّثُكم أبو عبدِ الرحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَق، لفِيَّ واللهِ أُنزِلَتْ، كانتْ بيني وبين رجلٍ خُصومةٌ في بئرٍ، فاختصمْنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((شاهِداك أو يمينُه)). قلتُ: إنَّه إذنْ يحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((مَن حلَف على يمينٍ يَستحِقُّ بها مالًا، هو فيها فاجِرٌ، لقِي اللهَ وهو عليه غضبانُ )). فأنزَل اللهُ تصديقَ ذلك، ثمَّ اقتَرأ هذه الآيةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا فقرَأ إلى عَذَابٌ أَلِيمٌ .
ووردَ أيضًا عن عبدِ اللهِ بن أَبي أَوْفَى رضِي اللهُ عنهما، أنَّ رجلًا أقامَ سِلْعةً، وهوَ في السُّوقِ، فحلَفَ باللهِ لقدْ أُعْطيَ بهَا ما لم يُعْطَ؛ ليوقِعَ فيها رجلًا من المسلمين، فنزلتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا .
ولا تعارُضَ بينهما؛ لاحتمالِ نُزولها في كلٍّ مِن القصَّتين إنْ تقارب الزمانُ، أو تكون نازلةً مرَّتيْن .
إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أي: إنَّ الَّذين يَستبدِلون بما عَهِدَ الله إليهم من الإيمانِ بمحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأداءِ الأمانة، ويَستبدلون بالحلفِ باللهِ كذبًا استحلالًا لِمَا حرَّم الله عليهم من أموال النَّاس، يَستبدلون بذلك ويأخذونَ به عِوَضًا قليلًا، وبدلًا يسيرًا خسيسًا من حُطام الدُّنيا، فينكُثون عهدَ الله، ويَحلِفون كذبًا من أجْل ذلك .
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
أي: الَّذين يَفعلون ذلك لا حظَّ لهم مِن الخيرِ يومَ القيامة، ولا نصيبَ لهم منه .
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ
أي: لا يُكلِّمهم اللهُ يومَ القِيامة تَكليمَ رضًا، أو كلامًا يَسُرُّهم، ولكنَّه يُكلِّمهم تكليمَ إهانةٍ وغضبٍ وسَخَطٍ .
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: ولا يَنظُر إليهم نظرَ رحمةٍ وعطفٍ ولا نَظرًا يَسُرُّهم .
وَلَا يُزَكِّيهِمْ
أي: ولا يُطَهِّرهم من ذُنوبهم وكُفرهم ممَّا تلوَّثوا به في الدُّنيا .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أي: ولهم عذابٌ مُؤلِمٌ موجِعٌ .
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
أي: وإنَّ من أهل الكتابِ جماعةً يَعطِفون ويُمِيلون ألسنتَهم بالكتاب؛ إمَّا بتحريفِ لفظِه، وإمَّا بتحريفِ معناه بتفسيرِه على غيرِ مرادِ الله .
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ
أي: يَلْوُون ألسنَتهم بالكتاب؛ لتظنُّوا أنَّ ما يُحَرِّفونه بكلامِهم من كتابِ الله المنزَّل .
وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
أي: وما ذلك الَّذي لَوَوْا به ألسنتَهم من كتابِ الله .
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: ويقولون عمَّا لَوَوْا به ألْسنتَهم من التحريفِ والكذبِ والباطلِ: هو ممَّا أنزلَه اللهُ على أنبيائِه .
وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: وما ذلك الَّذي لَوَوْا به ألسنتَهم فأحْدَثوه ممَّا أنزلَه اللهُ إلى أحدٍ من أنبيائه، ولكنَّه ممَّا أحْدَثوه من قِبَل أنفسِهم .
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: ويتعمَّدون قولَ الكذبِ على الله، والإلحاقَ بكتابِ الله ما ليس منه وهم يَعلمون مِن أنفسِهم أنَّهم قد كذَبوا وافترَوْا في ذلك .
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أي: ما يَنبغي لأحدٍ من النَّاس .
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
أي: يُنَزِّل اللهُ عليه كتابَه، ويُعلِّمه الحِكمةَ، ويُعطيه النُّبوَّة .
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: ثمَّ يدْعو إلى عِبادةِ نفْسه، ويقول للنَّاس: اعبدوني من دونِ الله .
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
أي: ولكن، إذا آتاه اللهُ ذلك، فإنَّه يقولُ للنَّاس: كونوا عُلماءَ حُكماءَ حُلماءَ، مخلِصين للربِّ، مُتعبِّدين له، مُعَلِّمين للنَّاس، تُربُّونهم بصِغار العِلم قبلَ كِباره .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: تُعَلِّمُونَ قراءتان:
1- (تُعَلِّمُونَ) من التعليمِ، وكلُّ مُعلِّمٍ عالمٌ بما يُعلِّم، وليس كلُّ عالمٍ بشيءٍ معلِّمًا، فهذا أبلغُ وأمدح .
2- (تَعْلَمُونَ) والمعنى: بعِلْمكم الكتابَ .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
أي: بسببِ تَعليمِكم الكتابَ لغيرِكم الْمُتَضَمِّن لعِلمِكم .
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
أي: بسببِ مُداومتِكم على قِراءتِه، وحِفظِ ألفاظِه .
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نفَى اللهُ تعالى أنْ يكون مَن آتاه الله النُّبوَّةَ مِن البشر داعيًا إلى نفْسه، وأثبت أنَّه يكون-ولا بدَّ- داعيًا إلى الله سبحانه وتعالى؛ أثبت أنَّ ذلك لا بدَّ أن يكون على وجهِ الإخلاص؛ لأنَّ بعضَ الشَّياطين يُحْكِمُ مكره بإبعاد التُّهمة عن نفسه بالدُّعاء إلى غيرِه على وجهِ الشِّرْك، لا سيَّما إنْ كان ذلك الغيرُ ربانيًّا كعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ، فقال تعالى:
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أي: وما كان له أيضًا أن يأمرَكم أن تتَّخذوا الملائكة ولا النَّبيِّين أربابًا تُعبَد من دون الله، فما يَنبغي له أنْ يأمرَكم بعبادةِ أحدٍ من الخَلقِ لا نبيٍّ مرسَل، ولا مَلَكٍ مقرَّبٍ .
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أي: فلا يُمكن أنْ يأمرَكم بالكفر بعد إذ أنتم مُنقادُون بالطاعةِ، مُتذلِّلون بالعبوديَّة لله، قد تقرَّر إسلامُكم وثَبَتَ

.
الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.... الآية [آل عمران: 77] أنَّ مَن بَلَغَ مِن رقَّة الدِّيانة إلى حدِّ أنْ يَشتريَ بعهد الله وأَيْمانه ثمنًا قليلًا، فقد بلَغ الغاية القُصوى في الجُرْأَة على الله؛ فكيف يُرْجَى له صلاح بعد ذلك
؟!
2- العمومُ في قوله: لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عمومٌ مشروطٌ بعدم التوبة، وذلك بإجماع الأمَّة؛ فإنَّه إنْ تاب عنها، سقَط الوعيدُ بالإجماع .
3- العُهودُ إذا نُكِثَتْ اختلَّ أمر الدِّين، وفسَدت مصالح الدُّنيا؛ لأجْل هذا كان الوعيدُ على نَكْث العهد- ولو كان لأجل المنفعة- أشدَّ ما نطق به الكتاب وأغلظَه، كما في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] .
4- منَ ألْزمِ النَّاس أو أراد منهم أن يتَّبعوا قولَه مهما كان، فإنَّه قد جعَلهم عِبادًا له؛ لأنَّ طاعة الشَّخص من العبادة، قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] .
5- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي للإنسان أن يكون مُعلِّمًا ربانيًّا؛ لقوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ، ومَن كان معلمًا لا ربانيًّا فعِلمه قاصر جدًّا؛ لأنَّ فائدة العِلم وثمرته هي العملُ والتأدُّب بآداب العِلم .
6- المعلِّمُ ليس هو الَّذي يملأ أذهانَ النَّاس عِلمًا فحسبُ، ولكن الَّذي يملأ أفكارَهم أو أذهانَهم علمًا، وأخلاقَهم تربيةً .
7- في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79] ، دلالةٌ على أنَّ العِلم والتعليم والدِّراسة توجب كونَ الإنسان ربانيًّا، فمَن اشتغل بالتعلُّم والتعليم لا لهذا المقصود، ضاعَ سعيُه، وخاب عملُه، وكان مَثَله مثلَ مَن غرس شجرةً حَسناءَ مونِقة بمنظرِها، ولا منفعةَ بثمرِها

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا...: هدَّد اللهُ الَّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، ومنهم العلماءُ الَّذين يكتمون ما أنزل الله مداهنةً أو مراعاةً، أو من أجْل مال
.
2- أضاف العهدَ إلى الله في قوله: بِعَهْدِ اللَّهِ؛ لأنَّه تعالى عَهِدَ إلى النَّاس في كتُبه المنزَّلةِ أنْ يلتزموا الصِّدقَ والوفاءَ بما يتعاهدون ويتعاقدون عليه، وأنْ يُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلها، وأنْ يَعبُدوه ولا يُشركوا به شيئًا ويتَّقوه في جميعِ الأمور، فعهدُ الله يشمل كلَّ ذلك .
3- يدخُل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا كلُّ مَنْ أخذ شيئًا من الدُّنيا في مقابلةِ ما ترَكه من حقِّ الله أو حقِّ عباده، ومَن حلَف على يمين يَقتطع بها مالًا معصومًا .
4- ويَدخُل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ أيضًا جميعُ ما أمر الله به، ويدخُل فيه ما نصَب عليه الأدلَّة، ويدخُل فيه المواثيقُ المأخوذةُ من جِهة الرَّسول، ويدخل فيه ما يُلزِم الرَّجُلُ نفْسَه؛ لأنَّ كلَّ ذلك من عهد الله الَّذي يَلْزَم الوفاء به .
5- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا: أنه لَمَّا كان الناكثُ للعهد لا ينكُث إلَّا لمنفعةٍ يجعلها بدلًا منه، عبَّر عن ذلك بالشِّراء، الَّذي هو معاوضة ومبادلة، وسَمَّى العوضَ ثمنًا قليلًا .
6- من قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا يُؤخذ أنَّ اليمينَ الغموس وعدمَ القيام بعهدِ الله من كَبائر الذُّنوب، وهو أمرٌ زائدٌ على كونه محرَّمًا؛ لأنَّ الكبيرة أعظمُ من مُطلقِ التَّحريم؛ لأنَّ فيها وعيدًا، وكلُّ ذنب رُتِّب عليه وعيدٌ فهو من كبائرِ الذُّنوب .
7- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا... أنَّ حُكم الحاكمِ لا يُحِلُّ المالَ في الباطِن بقضاء الظَّاهر إذا عَلِم المحكوم له بُطلانَه .
8- إذا كان مَن اشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا أو بيمينه لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فإنَّ مَنْ وفَّى بعهد الله، وحلَف على صِدق، فإنَّه لا يُحْرَمُ النصيب في الآخرة .
9- المراد بقوله تعالى: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النَّظر الخاصُّ، أمَّا النَّظر العام، فإنَّ الله تعالى لا يُحجَب عن بصره شيءٌ .
10- في مجيء الوعيد عقب الصِّلة، وهي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ.. الآية، إيذانٌ بأنَّ مَن شابههم في هذه الصِّفات، فهو لاحقٌ بهم .
11- لَمَّا نسَب الله فريقًا من أهل الكتاب إلى الكذِب عمومًا في قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، نبَّه إلى نوع خاصٍّ منه، هو أكذبُ الكذب، فقال: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ .
12- لَمَّا كان كلامُ الله سبحانه وتعالى لا يَلتبِس بغيره إلَّا على ضعيفِ العقل، ناقص الفِطرة، عبَّر بالحسبان؛ تنفيرًا عن السَّماع منهم، وتنبيهًا على بُعد ما يَسمَعُه الإنسان من غيره، فقال: لِتَحْسَبُوهُ .
13- لَمَّا كان الكذبُ قد يُطلَق على ما لم يتعمَّد، بل وقع خطأً، احترز عنه بقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي: إنَّه كذِب، لا يَشكُّون فيه .
14- الأنبياء أكملُ الخَلْق على الإطلاق، فأوامرُهم تكون مناسبةً لأحوالهم، فلا يأمرون إلَّا بمعالي الأمور، وهم أعظمُ النَّاس نهيًا عن الأمورِ القبيحةِ، كما في قوله: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَاب... .
15- مادة (درس) تستلزمُ التمكُّنَ من المفعول؛ فلذلك صار درْس الكتابَ بمعنى فَهْمه وإتقانه؛ ولذلك عطف في هذه الآية وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ على بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ .
16- خصَّ الملائكةَ والنبيِّين بالذِّكر؛ لأنَّ الَّذين وُصِفوا من أهل الكتابِ بعبادةِ غير الله لم يَحكِ عنهم إلَّا عبادةَ الملائكة، وعبادة المسيحِ وعُزَيْر

.
بلاغة الآيات:

1- في قوله تعالى: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ: يرجِع الضمير في: (لِتَحْسَبُوهُ) إلى ما دلَّ عليه يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَاب وهو المُحرَّف. وقوله: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيدٌ لقولهم: هُوَ مِنَ الكِتَابِ، وزيادةُ تشنيعٍ عليهم، وتسجيلٌ بالكذب، ودلالةٌ على أنَّهم لا يُعرضون ولا يُورِّون، وإنَّما يُصرِّحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله اللهُ تعالى على موسى كذلك؛ لفَرطِ جراءتِهم على اللَّه، وقساوةِ قلوبهم، ويَئسِهم من الآخرة
.
- قوله تعالى: مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ: فيه تَكرار ؛ حيث أظْهر لفظ (الكتاب) في موضِع الإضمار، فلم يقل: (وما هو منه)؛ للتأكيد، ولزِيادة التَّشنيع عليهم.
2- وقوله: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: ردٌّ عليهم في إخبارِهم بالكذب، وتأكيدٌ لقوله: وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ حيث نَفَى أولًا نفيًا أخصَّ؛ إذ التعليل كان لأخصَّ، ونَفَى هنا نفيًا أعمَّ؛ لأنَّ الدَّعوى منهم كانت الأعمَّ؛ لأنَّ كونَه من عند الله أعمُّ مِن أن يكون في التوراة أو غيرها ؛ وذلك لأنَّه ليس كلُّ ما لم يكُن في الكتابِ لم يكُن من عند الله؛ فإنَّ الحُكمَ الشرعيَّ قد ثبَت تارةً بالكتابِ وتارةً بالسُّنةِ، والكلُّ من عند اللهِ، وكذا ما يَرجِع إليهما مِن الإجماعِ والقِياس الصَّحيح .
3- في قوله تعالى: يَلْوُونَ، يَقُولُونَ: جِيء بالمضارعِ في هذه الأفعال (يلوون، ويقولون)؛ للدلالةِ على تجدُّد ذلك، وأنَّه دأبُهم .
4- قوله سبحانه: الكِتَابِ مِنَ الكِتَابِ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: فيه تكريرُ الكتاب في الآية مرَّتين، وتكريرُ اسم الجلالة أيضًا مرَّتين؛ لقصدِ الاهتمامِ بالاسمين، وذلك يَجرُّ إلى الاهتمامِ بالخبَر المتعلِّق بهما، والمتعلِّقين به .
5- قوله عزَّ وجلَّ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ: فيه إيجازٌ بالحذف، ومبالغةٌ في نفْي استحقاق أيِّ أحدٍ لذلك القول؛ إذ اللام فيه للاستحقاقِ، وأصل هذا التركيب في الكلام: (ما كان فلان فاعلًا كذا)، فلمَّا أُريدتِ المبالغةُ في النَّفي، عدَل عن نفْي الفِعل إلى نفْي المصدَر الدالِّ على الجِنس، وجعَل نفْي الجنس عن الشَّخْص بواسطة نفْي الاستحقاق .
6- في قوله: ثُمَّ يقُولَ لِلنَّاسِ: أتى بلفظ: ثُمَّ الَّتي هي للمُهلة تعظيمًا لهذا القول، وإذا انتفَى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أَوْلى وأحْرى، أي: إنَّ هذا الإيتاءَ العظيم لا يُجامع هذا القول، وإنْ كان بعد مهلةٍ مِن هذا الإنعام العظيم .
7- قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ:
- جِيء بخبرِ كان مضارعًا في قوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ؛ لإفادةِ الاستمرارِ التجدُّدي .
- وتَكريرُ بِمَا كُنْتُمْ؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ من استمرارِ التعليمِ واستمرارِ القراءةِ بالفضل، وتحصيلِ الربَّانية .
- وتقديمُ التعليمِ على الدِّراسة؛ لزيادة شرفِه عليها، أو لأنَّ الخطابَ الأولَ لرؤسائهم، والثاني لِمَن دُونهم.
8- قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
- قوله: وَلَا يَأْمُرَكُمْ: فيه زيادةُ حرف النَّفي وَلَا لتأكيدِ معنى النَّفي في قوله: مَا كانَ لِبَشَرٍ، وليستْ معمولة لـ(أنْ)؛ لاقتضاءِ ذلك أنْ يصير المعنى: لا يَنبغي لبشرٍ أُوتي الكتاب ألَّا يأمرَكم، وهو غيرُ صحيح قطعًا ، أو تكون لَا لتأسيسِ النَّفْي على معنى أنَّه ليس له أنْ يأمُرَ بعبادتِه، ولا يأمُرَ باتِّخاذ أكفائِه أربابًا، بل يَنهَى عنه .
- في قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا تعميمٌ بعد تخصيص، والمعنى: لا يأمُركم بعبادةِ نفْسِه، ولا بعبادةِ أحدٍ من الخَلق من الملائكة والنَّبيِّين وغيرهم .
- قوله عزَّ وجلَّ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: كلامٌ مستأنَف لخِطاب المؤمنين عن طريقِ التعجُّب من حالِ غيرِهم، والهمزة فيه للاستفهامِ الإنكاريِّ .


=====================================================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

3. سورة ال عمران {ج5}

3. سورة ال عمران {ج5}    سُورَةُ آل عِمْرانَ الآيات (187-188) ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ...